وينسى هؤلاء - غفر الله لنا ولهم - أنهم إنما فرقوا الأمة بأن نصبوا شخصاً أو منهجاً - غير رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ومنهجه - ودعوا الأمة إلى اتباع طريقته. يقول ناصر السنة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي)، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. " [3]
وتجنباً من أن يكون اختلافنا لعنة، علينا جميعاً مراعاة الآداب التالية التي استخلصناها من خلال قراءة سريعة في فكر شيخ الإسلام الذين عاش في زمن كانت الأمة - كما هي اليوم - تعاني من داء التفرق وتئن جراء الطعنات التي وجهت إلى وحدتها بأيدي الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً... هذا من الداخل، أما من الخارج فقد كانت الأمة فريسة لهجمات شرسة تشن عليها من القوى الشرقية والغربية! فظهر ابن تيمية إماماً مجاهداً واجه هؤلاء بسنانه وأولئك بلسانه وهو يهتف خلال صولاته العديدة: "أنا من أي شيء أخاف؟ إن قتلت كنت من أفضل الشهداء وكان ذلك سعادة في حقي، يترضى بها علي إلى يوم القيامة ويلعن الساعي في ذلك إلى يوم القيامة، فإن جميع أمة محمد يعلمون أني أقتل على الحق الذي بعث الله به رسوله، وإن حبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله علي، وليس لي ما أخاف عليه: لا مدرسة ولا إقطاع ولا مال ولا رئاسة ولا شيء من الأشياء. " [4]
وتلك هي الآداب:(2/218)
أولاً: على الداعية أن يتجرد للحق ويحتسب ما يلاقيه في ذلك من الأذى ويصبر على مر الكلام، ولا ينبغي أن يدفعه جفاء الخصم إلى رد الحق الذي قد يكون معه، لأنه أولى الناس باتباع الحق والتزامه، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - وكان قد حبس في سجن لا يحبس في مثله النصارى والمشركون: "أنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه... وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.. وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر وإقامة كل خير... فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس روحاً وصبراً على مر الكلام وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقل الناس دع لولاة الأمور... فأنا أحق من سمع الحق والتزمه وقبله سواء كان حلواً أو مراً، وأنا أحق أن يتوب من ذنوبه التي صدرت منه بل وأحق بالعقوبة إذا كنت أضل المسلمين عن دينهم. " [5]
ولا خير فيمن لم يلزم نفسه بالتزام الحق حيث وجده وجعل الصواب حكراً على نفسه - أو فرقته - واعتبر كل انطلاقة من غير دائرته انطلاقة قاصرة أو مستحيلة أو عمياء!.(2/219)
ثانياً: على الداعية أن يكون على علم بآراء المخالف ومذاهبه حتى إذا أراد مناقشته ألزمه الحجة، وانظر إلى شيخ الإسلام وما يقوله عن أهل الضلال من الاتحادية وكانوا رؤوس الفتنة والفرقة في حينه، يقول - رحمه الله -:"ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم مع استشعارهم أنهم مفترقون، ولهذا لما بينت لطوائف من اتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم وسر مذهبهم صاروا يعظمون ذلك ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم وكما بذل آل فرعون لفرعون!. " [6]
ذلك لأن شيخ الإسلام كان أعلم منهم بمذاهبهم وكم أفحم - رحمه الله - رؤوس الفرق المبتدعة عندما كان يناظرهم في مجالسهم ومجالس أنصارهم من الأمراء والحكام.
ثالثاً: لا ينبغي لطلاب الحق من الدعاة والعلماء أن يجعلوا من مذهبهم أو ما يرونه هم أنه الحق ميزاناً يمتحنون به الناس أو يوالون ويعادون عليه الناس فإن هذا من العصبية الجاهلية التي حذرنا منها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بقوله: "دعوها فإنها منتنة" [7] بل ينبغي أن يكون ولاؤه للكتاب والسنة فحسب، يقول شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك، مثل: أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك... فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان... " [8](2/220)
ومن البدع المنكرة: التعصب لأسماء أو شعارات أو أحزاب أو زعامات أو التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله فيوالي الرجل طائفة ويعادي أخرى بالظن والهوى... ومعلوم أن هذا التفريق بين الأمة هو الذي أوجب - على حد تعبير شيخ الإسلام - تسلط الأعداء عليها! ولنستمع إلى شيخ الإسلام وهو يتحدث عن حقيقة ما كان يدعو إليه وفيه تعليم للدعاة جميعاً:
"إني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك، وأما ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف.. " [9]
ويقول: "والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي - - صلى الله عليه وسلم - -، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد - - صلى الله عليه وسلم - -. " [10]
وعلى الداعية أن يعتذر لمخالفه مهما أمكنه ذلك وأن لا يحكم عليه بالهلاك لمجرد مخالفته إياه، يقول شيخ الإسلام وهو يتحدث عن عقيدته السلفية: "فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه - رضي الله عنهم - ... ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته... " [11](2/221)
رابعاً: وبناءً على ما سبق فإن من البدع المنكرة أن يكفر الداعية من لم ينتسب إلى طريقته أو يتهمه بسوء القصد والنية أو يفتري عليه ما هو منه بريء لغرض تشويهه وتنفير الناس منه... يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - في معرض جوابه عن سؤال وجه إليه حول طائفة المرازقة اتباع الشيخ عثمان ابن مرزوق: "ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة - أي المرازقة - غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك فإن هذا عظيم لوجهين: الأول: أن تكون الطائفة الأخرى لا يكون فيها من البدع أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها، وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء، وإن قدر أنه لم يكفر، لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها [12] هو من الجهل والظلم وهؤلاء من الذين قال الله - تعالى - فيهم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء). الثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولاً أخطأ فيه... وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أن يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفاً للسنة [13] فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع.
والمقصود هنا: أنه ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ ولا إمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم بل في الصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" وليس للمنتسبين إلى ابن مرزوق أن يمنعوا من مناكحة المنتسبين إلى العوفي لاعتقادهم أنهم ليسوا أكفاء لهم بل أكرم الخلق عند الله اتقاهم من أي طائفة كان من هؤلاء وغيرهم... " [14](2/222)
ولا خير فيمن يرفض مخالفه وإن كان أروع منه فهماً للإسلام وعقيدته وأشد منه حماسة لقضية المسلمين وأخشعهم لله، لا لشيء إلا لأنه لم ينتم إلى ركبه!.
إن على المخالف إذا اشتبه عليه أمر ما أن يعذر مخالفه ولا يحكم عليه بالعقوبة، فإن المسلم إن أخطأ في العفو خير له من أن يخطأ في العقوبة كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود، وعليه أن يسأل الله الهداية كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم أنه - - صلى الله عليه وسلم - - كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بقوله: "الله رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. "
ويذكر أن أهل البحرين اختلفوا في مسألة رؤية الكفار لله يوم القيامة فافترقوا في ذلك حتى آل الأمر إلى قريب المقاتلة، فكتب إليهم شيخ الإسلام رسالة جاء فيها:
... وهنا آداب تجب مراعاتها:
منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره وإن كان يعتقد إحدى الطرفين فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية دون الساكت فهذه أولى.
ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله.وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به... " [15](2/223)
وختاماً نعلنها صرخة في آذان رؤوس الاختلاف التي ابتليت الأمة بهم أن: استمعوا إلى قول الله - تبارك و تعالى - يبين الحكم السبيل القويم: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)).
ودعكم من الذين لا يطيقون سماع صوت مخالف لهم في الرأي أو مشارك لهم في العمل الإسلامي... هؤلاء الذين لا يعرفون النقد إلا تجريحاً ولا يفهمون الرأي المخالف لهم إلا تفريقاً وخروجاً على الجماعة، واعلموا أن لا جماعة إلا بالاتباع ولا فرقة إلا بالابتداع، ولابد أن ينبلج فجر اليوم الذي يكتشف فيه المنصف تعفن أهل البدع تحت الأقنعة والأغطية التي يخفون أنفسهم خلفها... ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)).
----------------------------------------
[1] - سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، (ص 1، ص 28 29)
[2] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/514).
[3] - المصدر السابق 20/164
[4] - المصدر السابق 3/259
[5] - المصدر السابق 3/245، 246، 251، 271
[6] - المصدر السابق 3/138
[7] - متفق عليه
[8] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/227
[9] - المصدر السابق 3/229.
[10] - المصدر السابق 3/169.
[11] - المصدر السابق 3/179.
[12] - وهذه قاصمة أخرى فإن أهل البدع لا يزنون الناس بميزان واحد فشأنهم مع أتباعهم يختلف عما هو مع مخالفيهم، وهذا تطفيف في الكيل لا يرضاه الله ولا رسوله... (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون).
[13] - فما بالك إن كان موافقاً للسنة ومنهج السلف ولكنه يتعارض مع هوى في نفس الخصم، هل يحكم عليه بأنه ذو أفكار مريضة؟!.
[14] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام (7/684 685).
[15] - المصدر السابق 6/504
http://www.alsunnah.org المصدر:
ـــــــــــــــ(2/224)
الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار ( 1 ـ 2 )
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
أولاً: مقدمات:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً؛ إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى - عز وجل - : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.
ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد. قال ابن القيم - رحمه الله - : «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة»(1).(2/226)
والاختلاف موضوع الحديث هو: «نقيض الاتفاق». جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساوَ فقد اختلف. والخلاف: المضادة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف». وبعض الفقهاء فرق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة. أما «(الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم؛ ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف»(1).
فليس كل اختلاف افتراق، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه، وإن كان الغالب ذم أهل الفرقة والاختلاف.
أقسام الاختلاف:
الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة يتباين الحكم عليها. فمنها:
انقسام الاختلاف باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها. فمنه:(2/227)
1- اختلاف صوري، ومن قبيله اختلاف التفاوت؛ كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع، وهو أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل: أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. وقد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع:(2/228)
منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة. ومنها: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد. ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولاً. ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزاً، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا بما قرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته؛ فهذا ليس في الحقيقة باختلاف؛ فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها؛ إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع ـ وإن سميت خلافاً ـ إلا أنها ترجع إلى الوفاق(2).
تنبيه: الاختلاف الصوري: منه المذموم وهو ما وقع في باطل.
2 - اختلاف حقيقي: ومنه اختلاف التضاد، وهو قسمان: سائغ، وغير سائغ. ولعله تأتي الإشارة إليهما(3).
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه فمنه:
1 - اختلاف يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في الاختلاف الحقيقي، كالاختلاف في الأصول المجمع عليها.
2 - اختلاف لا يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في عامة الاختلاف الصوري، وقد يقع في الاختلاف الحقيقي كالاختلاف في كثير من الفروع باجتهاد سائغ.
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار أثره فمنه:
1 - اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.
2 - اختلاف نظري ذهني لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع.(2/229)
فالأول اختلاف مؤثر في العمل، ومنه السائغ الذي لا يضر، ومنه غير السائغ، والآخر من قبيل اختلاف السفسطائية: هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة؟ قال شيخ الإسلام: «وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته؛ فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً؛ فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل؛ فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كاسم صاحب موسى أنه الخضر؛ فهذا معلوم. وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب؛ فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة»(4) وقال: «وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً.. (5).
من أهم أقسام الاختلاف التي تحتاج إلى تحرير: انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:
وقد حرر ذلك ابن القيم - رحمه الله - في الصواعق؛ حيث قال: «الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله - سبحانه -عن التشبه بهم في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهم الذين تسوَدُّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله - تعالى - فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176]، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزب والتباين.(2/230)
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم؛ فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 253]، وقال - تعالى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
والاختلاف المذموم، كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين؛ بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف، ويردون باطلهم؛ فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، فأخبر - سبحانه -أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول في دعائه: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».(2/231)
فمن هداه الله - سبحانه -إلى الأخذ بالحق؛ حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختُلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلاً وأقومهم قيلاً، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا؛ فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى يقر بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب، فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته؛ فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسنة رسوله، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه؛ والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه. ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه؛ فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع(2/232)
لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق»(1).
وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم كالشاطبي - رحمه الله - يرجع في الحقيقة إلى وفاق، «فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافاً؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله؛ فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحرٍّ لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباعٌ للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب؛ إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره، وإن كان مصيباً أيضاً؛ فالإصابة ـ على قول المصوبة ـ إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار؛ فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحابّ والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً»(2).
فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم، وجدت الحمد منصبّاً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع، وطلبهم لمراده، واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم؛ ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.
ويتبع للتقسيم الذي سبق نوع آخر من الاختلاف:(2/233)
وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد الاتفاق على جواز الجميع؛ كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك؛ فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة»(3).
والأصل ذم الخلاف وتجنبه، ما دام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين؛ ففي السنة جاء النهي عن «الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء؛ كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» سداً لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم؛ كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن»(1).
وأدلة القرآن كثيرة ومنها:
قال الله - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 103 - 104].(2/234)
وقال - سبحانه -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وقال - عز وجل -: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 13 - 14].
وقال - سبحانه -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لصاحبه نصيب من الذم، قال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107 - 108].(2/235)
فالاختلاف ما دام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لا يسلم منه إلاّ من كان معه الصواب؛ فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يُعذر فيه المجتهد المخطئ، بل يثاب لإرادته الخير وقصده، ولهذا يسلم من آثار الاختلاف المذموم المجتهدون الذين استفرغوا وسعهم في معرفة الحق والعمل به.
الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:
الاختلاف سنة كونية، وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية. قال الله - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].
والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومع ذلك واجب على كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان؛ فالله - عز وجل - وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.
فالخلاف قد يكون قدراً كونياً فيه شر ولا يخلو من خير ـ فالله لا يخلق شراً محضاً ـ فلا يستسلم له العبد، بل يقاومه بالقدر، فإن لم يزله خفف من آثاره وخرج بأقل أضراره.
مسألة هل الاختلاف رحمة وخير، أم عذاب وشر؟
رُويت في ذلك أحاديث لا تثبت مثل حديث: «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم»(2)، وحديث: «اختلاف أمتي رحمة»(3).
ومع عدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر: «عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم؛ فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة».(2/236)
وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع ـ لا مطلق الاختلاف ـ من آثار الرحمة؛ فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
وهذه القاعدة ليس متفقاً عليها؛ فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: «ليس في اختلاف أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - سعة، وإنما الحق في واحد».
وقال المزني صاحب الشافعي: «ذم الله الاختلاف، وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة».
وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً.
قال: «النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد»(1).
عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف:
لكون الاختلاف مذموم من حيث الجملة؛ فقد راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء(2).(2/237)
ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف(3).
ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف(4).
ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاث أيام للخروج من الخلاف(5).
ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.
ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبد السلام؛ حيث يقول: «والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه؛ إذ كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً»(6)، ثم قال: «وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف؛ بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد؛ فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم؛ والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات».
فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً؛ بل هو من باب «دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك»، ويتأكد هذا، بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف إن خشي ترتب مفسدة أعظم على الخلاف.
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.
فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراً إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظرِ
ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لا تصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جرَّاء الفرقة، فتقدر حينها الأمور بقدرها؛ وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.
حكم الاختلاف في العمل الإسلامي؟
حكم الاختلاف على أنواع:(2/238)
«النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله - تعالى - ووحدانيته، وملائكته وكتبه، ورسالة محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، والبعث بعد الموت، ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي؛ فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم.
النوع الثالث: [الأمور](7) المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.
النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها؛ فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة، ويعذر المخالف فيها لخفاء الأدلة أو تعارضها.. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنه اجتهاد لم يصادف محلاً، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة»(1).
أما واقع العمل الإسلامي فإذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف صوري وهو مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم، وكثير منه يقع في مسائل اجتهادية أو فرعية المخالف فيها معذور، ومثل هذا الخلاف لا ينبغي أن يخرج بالناس إلى ساحة احتراب وتناحر، بل لأصحابه في صحابة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أسوة حسنة؛ فمع مخالفة بعضهم لبعض بقي إقرارهم بفضل ذوي الفضل وتوقيرهم، مع عمل كل برأيه وسعيه لنشره.(2/239)
والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من هذا القبيل إن لم يكن من قبيل اختلاف التنوع، ولا سيما مع كثير من الشعارات المرفوعة؛ فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تَسَعُ الجميع، بل تحتاجهم.
ولكن الواقع من الناحية العملية وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين.
وكما أن أهل العلم ذموا التعصب للمذهب وأنكروه؛ فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لا يتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق؛ فإن الذم قد لا يتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.
وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أو اجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.
ثانياً: أسباب الافتراق:
الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض، ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:
أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول.
قال ابن القيم - رحمه الله -: «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم.. »(2).(2/240)
ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جلي في كثير من أشكال الاختلاف الواقع؛ فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - في شأن أسرى بدر، تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه؛ فأبو بكر الرقيق الشفيق مال إلى المن أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.
فالطبيعة الخَلْقية والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير، فيجنح كل طرف إلى ما لا يجنح إليه الآخر.
وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره؛ والناس متفاوتون في ذلك، ولا يعني هذا أن الأكمل عقلاً هو الأرجح اختياراً، أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً؛ وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال، أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص، فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر ـ على أن في ثبوتها مقالاً(3) ـ مع المرأة في الميراث يوم قال: «أصابت امرأة، وأخطأ عمر».
وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب، واختلفوا لتبيان عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة؛ فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولا يحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.
ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:
الاختلاف في الأمور الجِبِلّية: إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.
ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:(2/241)
ومن قبيله ما يروى من أن علياً ذكَّر الزبير - رضي الله عنهما - يوم الجمل شيئاً عهده إليهما رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فذكره، فانصرف عن القتال. قلت: فيكون الناسي معذوراً بفتواه.
ومنه كذلك عندما همَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يأخذ عيينة بن حصن، فذكّره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمسك.
ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة.
فأصل حدوث الاختلاف المذموم والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين، ولهذا قال الشاطبي - رحمه الله -: «الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها؛ والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني»(1).
ولهذا «روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خلا يوماً، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنما نزل القرآن علينا، فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي؛ فإذا كان ذلك اختلفوا(2).
قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعدَّ ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر.
فإذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، وتصدَّر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.(2/242)
وقد عد أهل العلم أن من البلايا «أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)(3).
وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي. قال الإمام مالك - رحمه الله -: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبةٌ دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولَبَعْضُ مَنْ يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق(4).
وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين؛ فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمَّات، والله المستعان.
ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع(5):
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله، أو لم يثبت عنده أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة، ولعل في النماذج السابقة شيء من البيان، ويمكن أن نجملها فيما يلي:(2/243)
1 - قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالماً به، بل يكتفي المخالف أحياناً بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب(6). قال شيخ الإسلام: «وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لم تكن لأحد من الأمة»(7)، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: حكم أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً؛ فعن قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - شيء، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فأعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر»(8).(2/244)
ثانياً: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار؛ إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)، فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي - - صلى الله عليه وسلم - -؟ فقال أُبَيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم؛ فكنت أصغر القوم؛ فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال ذلك»(9)؛ فهذه سُنَّة قد خفيت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع سعة علمه وفقهه في دين الله - تعالى -، وليس في هذا مذمة لعمر رضي الله عنه؛ فإن الله - تعالى - يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]؛ فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا: «العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله».
والأمثلة كثيرة، منها خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد(1)، ومنها حكم عمر بمنع الحائض من النفرة قبل أن تطوف طواف الإفاضة ثم رجوعه لَمَّا بلغه الخبر(2)؛ فهذه أمثلة على خفاء بعض نصوص الشريعة على من شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل؛ فخفاء بعض الأصول على من بعدهم أوْلى وأحرى، ولا يجوز لمن أتى بعدهم «أن يدعي انحصار حديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -؛ فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها»(3).
ومن هذا القبيل أيضاً:
أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ(4).(2/245)
ومن أمثلة ذلك اللَّبْس الذي حصل أول الأمر في رِبا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.
2 - أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه مجهول أو سيئ الحفظ أو متهم، ولا يعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته؛ فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.
3 - اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لا يرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..) وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع. ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله! إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة؛ فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة(5)، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة.. لكنَّ عُذرَه في ذلك ظنُّه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له - رحمه الله - بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر(6) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس(7)، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما»(8).(2/246)
4 - اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره؛ كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح، ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا، واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.
5 - أن ينسى بعضهم حديثاً أو آية؛ كما ذهل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن قول الله - تعالى -: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] لمّا مات نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - -.(2/247)
6 - عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا العلمُ باللغة العربية. قال الشاطبي - رحمه الله -: «الله - عز وجل - أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه؛ بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله - تعالى -: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3].. وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وكان الذين بُعِثَ فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم... وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله - تعالى - إلاّ من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها»(9)، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله -: «ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس»(10)، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: «أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع»، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد(1) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي(2) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال: يا أبا عمرو! هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي منجز له وعدي(3)(2/248)
ولهذا قال الحسن البصري - رحمه الله -: «إنما أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله»(4)، ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لا تنم عن أصالة في اللسان العربي؛ فغيلان الدمشقي أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.
ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملان:
*الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذ، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» ففسره كثير من الحجازيين بالإكراه، وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة؛ باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.
* أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.
7 - معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ: إما لعدم تصوره لذلك الفرد، أو لعدم حضوره بباله، أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.
8 - عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربع حالات:
* أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله في العرف الشرعي.
* أن يكون له في عرف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله المخالف على الآخر.
* أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً، أو من المقيد مطلقاً.(2/249)
* أن ينفي دلالة اللفظ؛ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً؛ فمن نفى دلالة قول الله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على حِل أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط، ومن نفى دلالته على ما عدا محل السبب غلط.
9 - اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساو لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة(5)، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: لما حدَّث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»(6)، أنكرت ذلك وقالت: "إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: «إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً، وإن الله لهو {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]»(7)، فظنت عائشة - رضي الله عنها - أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه - - صلى الله عليه وسلم - -، بل يخالف مقتضى القرآن الكريم(8).(2/250)
ثانياً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله - تعالى -: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وبين قوله - تعالى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]؛ فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات؛ فالجمهور على جوازه، استناداً لآية المائدة، وقال بعض العلماء: لا يجوز نكاح الكتابيات استناداً لآية البقرة، وظناً منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة(9).
----------------------------------------
(1) الصواعق المرسلة، 2/ 519.
(1) الموسوعة الفقهية 2/ 291.
(2) الموسوعة الفقهية 2/292- 293.
(3) ينظر كذلك فقه الائتلاف لمحمود الخزندار، ص 34.
(4) الفتاوى، 13/ 345.
(5) الفتاوى، 13/367.
(1) الصواعق المرسلة لابن القيم 2/214- 218.
(2) الموسوعة الفقهية، 2/ 295.
(3) الصواعق، 2/ 219.
(1) إغاثة اللهفان، ص 369.
(2) نقل الإمام ابن تيمية تضعيفه عن الأئمة في منهاج السنة 4/238، وقال الحافظ العراقي في مختصر المنهاج: إسناده ضعيف من أجل حمزة؛ فقد اتهم بالكذب، ص55، وقد حكم الألباني بوضعه في غير موضع. انظر الضعيفة، 58.
(3) ذكر الألباني أنه موضوع لا سند له. انظر ضعيف الجامع 230، وبداية السول، ص 19، وقد ذكر الحافظ العراقي أثر: «اختلاف أصحابي لأمتي رحمة» وحكم بأنه مرسل ضعيف، مختصر المنهاج، ص 60.
(1) الموسوعة الفقهية 2/ 295 ـ 296 بتصرف يسير.
(2) الممتع شرح زاد المستقنع، لابن عثيمين، كتاب الطهارة 1/.
(3) البحر الرائق، لابن نجيم، 4/ 55.
(4) منح الجليل شرح مختصر خليل، لعليش، 2/ 222.
(5) المجموع، 4/ 212.
(6) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/ 253.(2/251)
(7) في أصل الموسوعة الفروع، وهذا محل نظر، وإن جرى على ألسنة المتكلمين، وقد بين ذلك المحققون من أهل العلم.
(1) الموسوعة الفقهية 2/293-294 بتصرف يسير واختصار.
(2) الصواعق، 2/ 519.
(3) ممن ضعفها الألباني في الإرواء 6/348، وألف فيها نزار عرعور رسالة بعنوان: «القول المعتبر» وبين ضعفها، وكذلك أفرد لها مقالاً يوسف العتيق في كتابه قصص لا تثبت ص27، على أن بعضهم صححها ومنهم مصطفى العدوي في كتابه جامع أحكام النساء3/ 301، ولعل الصواب أن القصة لا تتقوى بالشواهد التي ذكروها؛ فهي إما معضلة أو في أسانيدها ضعاف لا يحتمل جبر مروياتهم، وبخاصة الآثار التي ورد فيها قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
(1) الاعتصام، 2/ 172.
(2) الاعتصام 2/183 باختصار يسير.
(3) الاعتصام 2/172-173 باختصار يسير.
(4) جامع بيان العلم وفضله، ص 578.
(5) ملخص من الصواعق المرسلة 2/542-632 وزيدت عليه صور من مصادر أشير إليها في موضعها.
(6) انظر مجموع الفتاوى 20 / 233، وانظر الإنكار في مسائل الخلاف، ص 16، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي.
(7) مجموع الفتاوى، 20/ 233.
(8) سنن أبي داود كتاب الفرائض 3 / 121 رقم 2894، وسنن ابن ماجة أبواب الفرائض 2/ 163، سنن الترمذي، 4/ 420 رقم 2101، وقال الحافظ في تلخيص الحبير 3/82: «إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل».
(9) صحيح البخاري كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، وانظر الفتح 11/26 برقم 6245، وصحيح مسلم كتاب الآداب، باب الاستئذان، انظر شرح النووي 7/381 برقم 2154.
(1) ينظر صحيح البخاري كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، انظر الفتح 10 / 179 برقم 5729، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، انظر شرح النووي 7 / 460 - 462 برقم 2219.
(2) انظر صحيح البخاري كتاب الحيض، باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، انظر الفتح 1 / 428 برقم 330.(2/252)
(3) مجموع الفتاوى، 20/ 239.
(4) انظر الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه، ص 23.
(5) انظر الهداية شرح بداية المبتدي، 1/ 106.
(6) الحديث رواه الدارقطني بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال إذا قهقه أعاد الوضوء وأعاد الصلاة، ثم قال الدارقطني: "فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية الرياحي مرسلاً عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - -» ا. هـ، انظر سنن الدارقطني كتاب الطهارة ـ باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها 1/164-165، وانظر في تمام تخريجه نصب الراية للزيلعي مع الهداية 1/106- 114.
(7) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال له ـ ليلة الجن ـ: ما في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال تمرة طيبة وماء طهور، رواه الإمام أحمد في مسند ابن مسعود 1/663، وأبو داود في سننه 1/21، برقم 84، وانظر سنن ابن ماجة 1/135، رقم 384، وسنن الترمذي 1/147، رقم 88، قال الحافظ في الفتح 1/ 354: «وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه».
(8) مجموع الفتاوى 20 / 304- 305.
(9) الاعتصام 2/293 ـ 294 باختصار.
(10) صون المنطق، ص 15.
(1) أبو عثمان عمرو بن باب البصري 80 ـ 144، أصله من الموالي وولاؤه لبني تميم، وهو شيخ المعتزلة.
(2) أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري 70 ـ 157، شيخ قراء العربية، اشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم.
(3) سير أعلام النبلاء 6/ 408 ـ 409، وقد ذكرها غير واحد من أهل التراجم والأخبار. (4) الاعتصام، 2/ 299.
(5) للاستزادة في تفصيلها راجع الصواعق المحرقة، لابن القيم 2/577- 631.(2/253)
(6) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3 / 151 رقم 1286، صحيح مسلم كتاب الجنائز - باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 483 رقم 927.
(7) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3 / 151 - 152 رقم 1288، صحيح مسلم كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 485 - 486 رقم 928.
(8) فتح الباري 3 / 152 - 156 بتصرف يسير واختصار.
(9) انظر أسباب اختلاف الفقهاء، ص 18.
رمضان 1425هـ * أكتوبر/نوفمبر 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
------------------
ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف اتباع الشهوات أو الشبهات:(2/254)
فالأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة، فيقع الخلاف، وينشأ الافتراق؛ «فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداءً!..ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة..إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46].
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من الآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهما ما يلي:
(أولاً): البغي:(2/255)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1) وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين: «وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المُسْتَنَّة في محنة الصفات والقرآن محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على عليٍّ وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبِّهة على المنزِّهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]».
(ثانياً): الغرور بالنفس:
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً؛ فالصواب ما قاله هو، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً، واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا - - صلى الله عليه وسلم - - الذي قال الله - تعالى - له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً(2).
(ثالثاً): سوء الظن بالآخرين:(2/256)
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود؛ فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذّبه أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخَر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته(3)، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسان طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة؛ بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر(4)، «وأنت ترى هؤلاء الجُراح القُصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان! »(5).
(رابعاً): حب الظهور بالجدل والمماراة:
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أو الفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد(6) وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف: 58].
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ـ - رحمهما الله -: «الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأتباعهم؛ فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله ـ - تعالى -ـ: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا»(7).(2/257)
وقال ابن قتيبة - رحمه الله - يصف الحال في أيام السلف ـ عليهم الرحمة والرضوان ـ: «كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع؛ فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم.
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى؛ فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر؛ فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى.. »(8).
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس(9): قلت للحكم بن عتبة(10): ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات(11).
وقد روي عن أبي قلابة - وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ـ: لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون(12).
قال معن بن عيسى: «انصرف مالك بن أنس ـ - رضي الله عنه - ـ يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأي.
قال: فإن غلبتني!
قال: إن غلبتك اتبعني!
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك - رحمه الله -: يا عبد الله! بعث الله - عز وجل - محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين».
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعالَ حتى أخاصمك في الدين! فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني؛ فإن كنت أضللت دينك فالتمسه(1)!(2/258)
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولا سيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين؛ ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.
رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب:
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب إذا ران على القلب والعقل وطغى فإنه يحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.
يقول الماوردي - رحمه الله -: «ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة؛ فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه؛ فأمسك عنه المستدل تعجباً؛ ولأن شيخه كان محتشماً. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل عليَّ، وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله! وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مغرب»(2).
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه! ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة، ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.(2/259)
يقول العلَم الإمام ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: «ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين: كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما؛ فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة، أو أحمد، أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم»(3).
وقال مشيراً لآفة التعصب للحزب أو الجماعة: «وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله - تعالى - ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان»(4).
خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف:
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان العامل النصراني كمثال، فأقول:(2/260)
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين؛ فبلال - رضي الله عنه - حبشي، وصهيب - رضي الله عنه - رومي، وسلمان - رضي الله عنه - فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دوَّن السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي، وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صد الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ. وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء، ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم عملاً بمشورة القساوسة ووصيتهم للساسة، ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي(1):
1 - يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد على التملص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
2 - ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3 - ويقول أرنولد توينبي في كتابه «الإسلام والغرب والمستقبل»:
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.(2/261)
4 - وقد فرح (غابرائيل هانوتو) وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
5 - من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907م عقد مؤتمر أوروبي كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوروبيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضي على الحضارة الغربية الآفلة؛ فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوروبا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط؛ لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس؛ ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين».
وقد ترجم المنصِّرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية، نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية، وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين عرباً وتركاً.(2/262)
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت «كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل: البستاني، واليازجي، والشدياق، وأديب إسحاق، ونقاش، وشميّل، وتقلا، ومشاقة، وزيدان، ونمر، وصروف، وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستانتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رُموا بالماسونية؛ فإبراهيم اليازجي (1847 - 1906م)، وأبوه ناصيف اليازجي (1800 - 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك، وقد علَّم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت *** دهراً فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا *** فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما *** قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ والأيام مقبلة *** يلوح للمرء في أحداثها العجبُ(2/263)
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 - 1883م)، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور (سميث) المبشر الأمريكي، ثم الدكتور (فانديك) من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866م، وأعان الدكتور (فانديك) أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها؛ فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية..، ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان (فارس الشدياق 1801م - 1887م) الذي تسمى بعد إسلامه بـ (أحمد) وكان قد اتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوَّف كثيراً بين دول أوروبا والآستانة وتونس ومصر، ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م، فأعان في ترجمتها إلى العربية، وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية..، ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً (سليم تقلا) مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 - 1892م). تلقى علومه في مدرسة (عبية) التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور (فانديك) أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية).(2/264)
ومنهم (جرجي زيدان 1861 - 1914م) الذي كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي، وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية..، ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام»(1).
ولهذا لم يكن مستغرباً أن ينقلب الشاعر العراقي معروف الرصافي على دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913م بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
أصبحت أوسعهم لوماً وتثريباً ***لما امتطوا غارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً *** للشَّرِ موشِكةً أنْ تُخرِج القُوبَا(2)
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبُهم *** ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريزَ) ما زالت مطامِعُها *** ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها *** تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم *** جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيبا(2/265)
وما قاله تحقق، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى غدت الشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين، حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب؛ فيقول له فيما يقول: «أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين» ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: «قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
ليقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم؟ إننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق»(3).
وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث، ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فأتى أُكُلَه وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين، بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ «المراجع القديمة تثبت لنا أن «القدرية» أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي. قال ابن قتيبة - رحمه الله - عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني.. ونحو مما ذكره ابن قتيبة نُقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم»(4).(2/266)
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن بعض الناس.
*آثار الافتراق المذموم:
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه؛ فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها وخاصة أن الواقع يحكيها، ويلقي دروساً مفصلة فيها، ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر والأمة وعجزها. قال الله - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
قال ابن سعدي: «{وَلا تَنَازَعُوا} تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها؛ {فَتَفْشَلُوا} أي: تجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله»(1).
وفي الآية السابقة «عوامل النصر الحقيقية»: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي.. »(2).
وقد علم العقلاء أن الاجتماع سبب قوة ومنعة..
كونوا جميعاً يا بَنِيَّ إذا *** اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحادا
ثانياً: هلاك الأمة:
صح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»(3).(2/267)
قال في تحفة الأحوذي: «واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال؛ لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة»(4).
قال ابن القيم - رحمه الله -: «وقد أخبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم، وقال: أبو الدرداء، وأنس، وواثلة بن الأسقع: «خرج علينا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: يا أمة محمد! لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: أبهذا أُمرتم؟ أوَ ليس عن هذا نُهيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا». وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: «جلسنا مجلساً في عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - كأنه أشد اغتباطاً، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مغضباً يعرف في وجهه الغضب، حتى وقف عليهم، وقال: يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين؛ فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال أحمد ابن صالح: أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله»(5).
ثالثاً: العقوبات المعنوية:
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: «أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفعت»(6) الحديث.(2/268)
قال النووي: «وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة، وأنها سبب للعقوبة المعنوية»(7)، وقال ابن حجر: «قوله: (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة، مشتق من التلاحي بكسرها، وهو التنازع والمخاصمة... قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان»(8).
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه:
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفين فيه على أقوال عديدة، وكل طرف منهم شط فيما اختار؛ التبس الأمر عليه، وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
خامساً: براءة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - من المفترقين:
قال الله - عز وجل -: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، يقول القرطبي - رحمه الله -: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} هم أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، {شِيَعًا} فرقاً وأحزاباً، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض؛ فهم شيع {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}؛ فأوجب براءته منهم»(9).
سادساً: اسوداد وجوه طوائف من المفترقين يوم القيامة:
كما قال الله - تعالى -: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107].(2/269)
هذا والله نسأل أن يلم شعث الأمة، وأن يوحد صفها، وأن يجعل الدائرة لها، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
----------------------------------------
(*) المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
(1) (الفتاوى 14/482-483).
(2) أدب الخلاف للقرني ص 27 - 29 بتصرف.
(3) أدب الخلاف، للقرني، ص 35.
(4) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص 11 بتصرف.
(5) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص 22 بتصرف يسير.
(6) المسند 2/252 و 2/256 وحسنه الألباني في غير موضع، انظر صحيح الجامع 5633.
(7) الفتاوى، 16/ 476.
(8) الاختلاف في اللفظ، ص 10 ـ 11.
(9) هو عمرو بن قيس الملائي أحد الثقات العباد روى عن عطية العوفي وغيره، توفي 146هـ.
(10) هو أبو محمد الحكم بن عتبة الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، توفي 113هـ.
(11) السنََّّة، لعبد الله ابن الإمام أحمد 1/ 137.
(12) سنن الدارمي، 1/ 120.
(1) راجع في النقول الثلاثة السابقة الشريعة، للآجري، ص 56 ـ 57.
(2) أدب الدنيا والدين، ص 70.
(3) الفتاوى، 22/ 252.
(4) الفتاوى 11/92، وينظر فقه الائتلاف للخزندار.
(1) مستقاة من كتاب: قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله.
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين، ص 225 باختصار وتصرف.
(2) لعله أراد بالقائبة التي تقوب. والتقويب فلق الطير بيضه، فشبه الشر بتلك الحال للطائر، والقوبا: الفراخ، وأراد به طير الشر. والعرب تقول: تَخَلَّصَتْ قَائِبَةٌ من قُوَبٍ: أي بيضة من فرخ.
(3) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 بتصرف.
(4) الماتوريدية، للدكتور أحمد الحربي ص 41 ـ 42 باختصار.
(1) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن، سورة الأنفال: 46.
(2) الظلال، سورة الأنفال، الآية 46.
(3) البخاري 6/2658، ومسلم 2/975، وغيرهما.
(4) تحفة الأحوذي، 7/ 372.
(5) إعلام الموقعين، 1/ 260.
(6) صحيح البخاري، 1/ 27.
(7) شرح النووي على مسلم، 8/ 63.
(8) الفتح 1/113 باختصار، ومثلهما قال الشوكاني في نيل الأوطار، 4/ 370.
(9) تفسير القرطبي، 7/ 150.
شوال 1425هـ * نوفمبر/ديسمبر 2004م
ـــــــــــــــ(2/270)
أدب الاختلاف في الرأي .. مقدمة لابد منها
د.جمال نصار
من العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخًا مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن لأنه مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم "(يونس: 119).
ثم إن الاختلاف في الرأي بعيدًا عن الأصول إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائمًا مصدر إثراء، وخصوبة، فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، ومنهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، ومنهم من يسأل عن الخير، ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، ومنهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة، ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة.
وهذا الاختلاف في صفات البشر، واتجاهاتهم النفسية، يترتب عليه لا محالة اختلافهم في الحكم على الأشياء، والمواقف والأعمال، يظهر ذلك في مجال الفقه والسياسة، وفي مجالات السلوك اليومي للناس في الحياة.
والمتأمل في الاختلاف الواقع بين الصحابة والتابعين يجد أنه لم يتناول لُب الدين، فلم يكثر الاختلاف في وحدانية الله - تعالى -، وشهادة أن محمدًا رسول الله ، ولا في أن القرآن نزل من عند الله، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، ولا في طُرق أداء هذه التكاليف، وبعبارة عامة لم يكن خلاف في ركن من أركان الإسلام، ولا في أمر من الدين بالضرورة، كتحريم الخمر، والخنزير، وأكل الميتة، والقواعد العامة للميراث، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة.(2/272)
وكانت صدورهم تتسع لمن خالفهم في الرأي، بل قد يتعمد أحدهم أمام قرينه المخالف له في الرأي ألا يأتي أمرًا في مجلسه يشعره بذلك، كراهية منهم للخلاف، واحتراماً لشعور المخالفين، فلم يكن الاختلاف في الرأي أداة مقصودة لذاتها، وإنما الاجتهاد المعرَّض للثواب والخطأ، والذي يظهر فيه تمايز العقول، وتفاوتها في التفكير، ليظهر ثمرة ذلك في الطاقة العقلية التي يبذلها المجتهد، ولتتحقق على يده الحلول التي تعالج قضايا الناس في مختلف العصور.
ومن ذلك يتبين أن الخلاف بينهم لم يكن لمجرد الهوى والتشهي، وإنما كانت له أسبابه الجدية التي ينبني عليها العمل لا القول فقط، ساعين إلى إحقاق الحق ولو على لسان المخالف، ورحم الله الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وقال أيضًا "والله لوددت أن يظهر الله الحق ولو على لسان خصمي".
وعلى هذا يكون الاختلاف بالوصف الذي ذكرناه رياضة للأذهان وتلاقحاً للآراء، وفتحاً لمجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها، بالآداب الإسلامية التي نتحدث عنها فيما بعد.
وما أروع ما قاله الأستاذ البنا - رحمه الله - عند حديثه عن ركن الفهم في الأصل الثامن حيث يقول: "الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب".
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
ـــــــــــــــ(2/273)
أسباب الاختلاف بين الناس بصفة عامة
جمال نصار
الاختلاف قديم قدم الإنسان في هذه الأرض، ابتدأ معه حيث بدأ ينظر إلى الكون فيشده بعظمته، وتأخذه الحيرة في إدراك كنهه وحقيقته، وإذا كان العلماء يقولون إن الإنسان من يوم نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون، فلابد أن نقول إن الصور والأخيلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في بني الإنسان باختلاف ما وقعت عليه أنظارهم وما أثار إعجابهم، وكلما خطا الإنسان في سبيل المدنية والحضارة اتسعت فرجات الخلاف، حتى تولد من هذا الاختلاف، المذاهب الفلسفية وغير ذلك.
ولكننا إذا تأملنا في الاختلاف بين الناس الذي لا يراد الوصول به إلى الحقيقة نجد أن له أسباباً كثيرة منها:
1- فساد النية:
لما في بعض النفوس من البغي والحسد والعلو في الأرض والفساد، ولذلك يحب أحدهم أن يذم قول غيره أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه.
2-أتباع الهوى:
فقد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه، وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير.
3- جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه
أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما عند الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل، والجهل والظلم هما أصل كل شر.
4 - الرياسة وحب السلطان، والعصبيات القومية، أو الإقليمية، أو العنصرية
فإن الآراء حينئذ تكون منبعثة من الرغبات الخاصة التي لا تتفق مع الحق والعدل، وهذه أمور تفسد الآراء، وتبعد أصحابها عن الحق.
5- التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف(2/274)
ومنشأ هذا التعصب الثائر، إما قوة الإيمان بالفكرة، أو أعصاب ضعيفة تمنع من إدراك الحقيقة، أو غرور وخيلاء، وحيثما كان التعصب لزمته المجادلة والمكابرة، وقد يخفى على الإنسان موضع التعصب في نفسه، فيحسب أنه مخلص في طلب الحق.
6- تقليد السابقين ومحاكاتهم من غير نظر إلى الدليل والبرهان
فقد يتعصب البعض لآراء الأقدمين، ويذهب إلى عدم مخالفتها والحيد عنها، وطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلال والمشاحنة، والمجادلة غير المنتجة، لأن كل واحد يناقش وهو مغلول بقيود الأسلاف من حيث لا يشعر.
7- عدم تحقيق النقطة المحددة التي يدور حولها النزاع
فنجد أن كل واحد يتحدث عن نقطة ليس هي التي يتحدث عنها الآخر، فيستعر الخلاف بينهما، مثل العميان الذين أرادوا أن يصفوا الفيل، فأمسك كل واحد بجزء منه، فقال الذي أمسك الرِّجْل إن خِلْقة الفيل طويلة مستديرة، وقال الذي أمسك الظهر بأن خلقته شبيهة بالهضبة العالية، وقال الذي أمسك إذنه إنه منبسط دقيق يطويه وينشره.
8 - اختلاف المدارك
فبعض الناس قد آتاه الله عقلاً راجحًا، وبصيرة نافذة، وفكرًا ثاقبًا، يدرك الموضوع من كل نواحيه، والبعض عنده قصور نظر، فلا يستطيع إحاطة الموضوع بنظرة شاملة، وفيه قصور فكر، فلا يدأب في البحث عن الحقيقة إلى النهاية، فلابد في النهاية أن يختلفا.
9- اختلاف الأمزجة بين الناس
فهناك ذو المزاج العصبي الحاد الذي يرى الأمور بشكل قد تختلف عمّا يراها صاحب المزاج الهادئ، ولذلك قال الفيلسوف ويليام جيمس: "إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصادم بين الأمزجة البشرية".
10 عدم تفهم طرفي النزاع على المبررات الكاملة التي تدفع كل واحد لاتخاذ موقف ما
أو التمسك برأي ما، لأنه كثيرًا ما تدخل موازنات معينة وحسابات خفية، وضغوط عديدة تؤثر أحيانًا في صياغة الموقف.
هذه بعض أسباب الخلاف بين الناس بصفة عامة، أما الاختلاف بين أئمة المسلمين وعلمائهم فله أسباب خاصة نتعرف عليها فيما بعد.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر :
ـــــــــــــــ(2/275)
الألفة والاتحاد ونبذ الاختلاف
داود بن أحمد العلواني
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ألف بين قلوب عباده المؤمنين، وجعلهم أنصارًا وأعوانًا وإخوة في الدين، وحذرهم من الفرقة والاختلاف والعودة إلى النعرات الجاهلية النتنة التي نهى عنها رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن من أهم ما يدعو إليه الدين بعد التوحيد هو جمع الكلمة وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات وتوحيد الهدف والاعتصام بحبل الله المتين؛ لأنه بتوحيد الصفوف واجتماع الكلمة الضمان ببقاء تماسك الأمة بتوكلها على الله - تعالى - ونجاح رسالتها، ومن أجل هذا فقد اعتبر الشرع جميع المسلمين إخوة في الدين فقال الله - تعالى -: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات: 10]، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((المسلم أخو المسلم))، وقال أيضًا: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))[1]، وفي حديث آخر وصف رسول الله المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد المترابط الأجزاء فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[2]، إنه لمثل رائع عظيم.
وإلى جانب هذا فقد شرع لنا ديننا الإسلامي الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والاتحاد، ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف والفرقة، فأمرنا بالسلام وربط بينه وبين الإيمان وبين دخول الجنة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[3]، إنه السلام، أعظم تحية تقدير واحترام.(2/277)
ونهانا أيضًا - عليه الصلاة والسلام - عن الهجران؛ لأنه يسبّب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق، فقال: ((لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[4]. فلتحرص ـ أخي المسلم ـ على الخيرية ببدئك بالسلام؛ لتنال من الله المثوبة والأجر والإكرام.
ولما كان الاختلاف ـ يا عباد الله ـ مفسدًا لدين الله ودنيا الناس فقد اعتبره الإسلام انفصالاً عنه وكفرًا، فقال - تعالى -: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ " [الأنعام: 159]. إن الفُرقة شطط كبير وجرم عظيم يبدّد المجتمع ويمزّق المجتمع، عاقبته وخيمة: خيبة في الدنيا وخسارة في الآخرة، ومآله شر مآل، ويجر إلى أسوأ الأحوال.
وحذر الله المسلمين من الخلاف في الدين والتفرّق في فهمه شِيعًا متناحرة وأحزابًا متلاعنة كما فعل الأولون، فقال الله - تعالى -: " وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [آل عمران: 105]، وكما قال الله - تعالى -: " فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " [المؤمنون: 53].(2/278)
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الشقاق يضعف الأمم، ويوهن المجتمعات القويّة، ويميت الأمم الضعيفة، ولذلك جعل الله أوّل عظة للمسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر أن يوحّدوا صفوفهم ويلمّوا شملهم ويجمعوا أمرهم، وذلك عندما تطلّعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، فقال - تعالى -: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " [الأنفال: 1]، آمنا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - نبيًا ورسولاً.
ثم أفهمهم أن الاتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكيد واتجاه الهدف وتوحيد الكلمة، كما أن الفرقة والتنازع هي طريق الهزيمة والخسران، فقال الله- تبارك وتعالى -: " وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " [الأنفال: 46].
ولقد كان للمسلمين درس عظيم وعظة كبيرة على مر الأجيال في يوم أحد والضربة الموجعة التي أفقدت المسلمين من رجالهم سبعين بطلاً، وقلبت النصر إلى هزيمة على الرغم من الإيمان والتضحية النادرة في الدفاع عن الحق والاستبسال للموت أو حرز النصر، وما ذلك إلا لأن بعض من كان بالجبل من الرماة وهم عدد قليل ـ - رحمهم الله - تعالى -ـ كانوا على اجتهاد في رأيهم، فتنازعوا وانقسموا وخالفوا بعضهم اجتهادًا منه وظنًا أن المعركة انتهت، فنسوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما صور لنا ذلك القرآن الكريم: " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ " [آل عمران: 152].(2/279)
ولو اعتبر المسلمون بذلك وعقلوا أحوالهم في هذه المرحلة الراهنة العصيبة من تاريخهم لأدركوا أن سبب ما نزل بهم من نكبات ولحقهم من العار والتقهقر والتراجع وانحسار ديار الإسلام هو نتيجة التفرق والنزاع الحاصل بين أفراد الأمة الإسلامية بفعل الهجمات الصليبية والصهيونية التي مهدت الطريق بالخفاء لتقسيم المسلمين أحزابًا وشيعًا منحلة واهية ودويلات متدابرة ممزقة، مستغلين القاعدة المفسدة التي تقول: (فرق تسد)، قاتل الله الكفار أنى يؤفكون، وجمع الله كلمة المسلمين على الحق والهدى.
فيا عباد الله رحمكم الله، يجب عليكم تلافي ذلك، كما يجب عليكم تصحيح أوضاعكم ورأب الصدع وتوحيد الصفوف، وأن تنهضوا لترميم ما وهى من بنيانكم واسترداد ما سلب من مقدساتكم وما تحطم من كيانكم وما تردى من معنوياتكم وانقسام بينكم واختلاف في الاتجاهات وتباين في الأهداف وتشاحن، فانبذوا ذلك كله، ولا يتمّ كل ذلك ـ أيها المسلمون ـ إلا بالرجوع إلى مصدر عزّتكم كتاب الله وسنة رسول الله والالتفاف وتوحيد الكلمة ووحدة الصفوف والغايات والإخلاص الأكيد لدين الله - جل وعلا -.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا " [النساء: 115].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
----------------------------------------
[1] رواه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (3/98).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/92)، ومسلم في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2586).
[3] رواه مسلم في الإيمان، باب: أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان (54).(2/280)
[4] رواه البخاري في الأدب، باب: الهجرة (7/90)، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الهجر فوق ثلاث (2560).
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله: ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة))[1].
ففي هذا الحديث ـ أيها الناس ـ إخبار من الرسول بأن الافتراق واقع في هذه الأمة الإسلامية، كما بين لنا أن الناجي من هذه الفرق فرقة واحدة وهي الجماعة، وفي رواية أخرى لما سئل رسول الله عن هذه الفرقة الواحدة الناجية قال: ((من كانت على مثل ما أنا عليه وأصحابي)).
ومن أجل هذا فقد تنبه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين إلى ذلك حين وقع التفرّق والاختلاف في الأمة وحصل الانشقاق ونشأت الفرق التي ابتدعت في دين الله ما لم يأذن به الله بتعًا لأهوائهم وتعاظمًا عن نقصٍ في داخل نفوسهم ولتجميع الناس السذّج حولهم.(2/281)
فالجؤوا ـ عباد الله ـ إلى الكتاب والسنة، واعتصموا بهما، وادعوا الناس إلى التمسك بهما، واعرفوا طريق السلف الصالح وهم أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث، فهم لا ينتسبون إلا إلى المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب اتباعه وتصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، وهذا بخلاف كل أحد من الناس، فإنه يؤخذ من قوله ويترك، وهذا ما عليه أهل البدع والضلال الذين يلتفّون حول أفرادٍ من الناس ينتمون إليهم ويوالونهم ويعظمونهم ويقيمون حفلات المولد ويحدثون فيه ما لم يأذن به الله، هداهم الله إلى طريق الحقّ.(2/282)
فعليكم ـ عباد الله ـ بالتمسك بكتاب الله - تعالى -وسنة رسوله، وهو ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وهم السلف الصالح الذين عضّوا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنواجذ ومن كان على منهجهم على الطريق المستقيم كما قال الله - تبارك وتعالى -: " وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: 153]، وسبيل الله طريقه المستقيم وحبله المتين كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما قال الله - جل وعلا - عنه: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى " [النجم: 3- 5]، وقال بعض أهل العلم: يجب علينا الأخذ بالوحيين الكتاب والسنة أي: كل ما جاء عن الله - جل وعلا - وعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، الإيمان بالله وما جاء عن الله على مراد الله وكل ما جاء عن رسول الله واعتقاد بأن ذلك هو الحق، وليس للمسلم الخِيَرة في ذلك، كما قال الله - تبارك وتعالى -: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ " [الأحزاب: 36].
اللهم ارزقنا حلاوة الإيمان، ووفقنا للانقياد لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - والاعتصام بالكتاب والسنة، اللهم اجعلنا من الفرقة الناجية يا أرحم الراحمين...
----------------------------------------
[1] رواه أحمد (2/232)، وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة (4596)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2642)، وصححه الترمذي والحاكم (1/6)، ووافقه الذهبي، وله روايات وطرق متعددة.
http://www.alminbar.net المصدر:
ـــــــــــــــ(2/283)
فقه الاختلاف
الشيخ / مجدي قاسم
إن وقوع الخلاف بين البشر أمر طبعي، وذلك نظراً لاختلاف الألوان والألسنة والطباع والعقول والفهوم والمعارف والمدركات، ولذا كانت مشيئة الله أن يكون الخلاف والاختلاف بين البشر أمراً واقعاً، قال تعالي:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) [هود: 118، 119]؛ أي( لا يزالون مختلفين ) في مللهم ونحلهم وعقائدهم و طرقهم و طرائقهم، ( إلا من رحم ربك ) من أهل الملة الحنيفية: ملة الإسلام، ( ولذلك خلقهم ) ففريق في الجنة وفريق في السعير (1)، فأهل الرحمة مستثنين من الاختلاف (2).
فالله يمن علي عباده المؤمنين بهدايتهم إلي الحق المبين، كما قال تعالي: ( فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم ) [البقرة: 213]؛ أي هداهم لما جاءت به الرسل فأقاموا علي الأمر الأول قبل اختلاف الناس، واعتزلوا الاختلاف (3).
ولذا كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إذا قام يصلي يقول: ((اللهم رب جبريل و ميكائيل و إسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلي صراط مستقيم)) (4).
واليهود والنصاري وأهل الفسق والفجور والزندقة أمرًُُُُ ُ منهي عنه في الجملة بدلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، فمخالفتهم في هديهم أمر مشروع: إما إيجاباً، و إما استحباباً، بحسب المواضع (5).
ففي الشرع نهي صريح عن مشابهتهم والتشبه بهم، و ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (6)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة و معلومة (7).(2/284)
فالمسلم المخالف لأهل الشرك و البدع هو الممدوح المثاب، كما في قوله تعالي: ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) [البقرة: 253]، وكما قال تعالي: ( هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ) [الحج: 19]، إلي قوله تعالي: ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار )[الحج: 23]
فهذا من الخلاف الممدوح الذي يثاب عليه المسلم.
وسنقصر حديثنا علي الخلاف الواقع بين المسلمين بعضهم البعض، فنقول وبالله التوفيق:
لابد بادئ ذي بدء أن ننبه علي أنه لابد من الخروج من الخلاف ما أمكن ذلك، أو علي الأقل تضييق دائرته، ((فالخلاف شر)) (8)، وكما يقول النووي: (فإن العلماء متفقون علي الحث علي الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنه أو وقوع في خلاف آخر) (9)، وقد قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) (10)، فاختلاف الظاهر يؤدي إلي اختلاف الباطن.
والخلاف ينقسم إلي قسمين:
خلاف سائغ مقبول، وخلاف مذموم.
فالخلاف المذموم: هو الخلاف الذي يناقضه نص صحيح لا معارض له أو إجماع صريح لا منازعة في ثبوته، فهو خلاف في القطعيات ومواضع الإجماع. قال الشافعي: (كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو علي لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه) (11).(2/285)
فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ليس لأحد خروج عنها البتة، ولا أن يتركها بعد أن تستبين له تعصبا لقول أحد، أو لغير ذلك من الأسباب، و دون تعسف في التأويل أو تحجج بحجج واهية، قال الشافعي: (أجمع المسلمون علي أن من استبان له سنة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد)، و قال أبو حنيفة: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)، وقال أبو حنيفة و أيضاً قاله الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، وقال أحمد بن حنبل: (من رد حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو علي شفا هلكة) (12). وقال مالك: (ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلي الله عليه وسلم) (13). وقال ابن تيمية: (من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع) (14). وقال الشاطبي: (وقد زل بسبب الأعراض عن الدليل، والاعتماد علي الرجال، أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، وأتبعوا أهوائهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل) وقال أيضا: (إن تحكيم الرجال من غير التفات إلي كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره) (15).
ولا يجوز الاختلاف في الكتاب لقول النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: ((إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب والسنة)) (16). ولما رأي حذيفة بن اليمان أهل الشام و أهل العراق يختلفون في القرآن الاختلاف الذي نهي صلي الله عليه وسلم عنه، قال لعثمان بن عفان: (أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى) (17)(2/286)
ولا يجوز أيضاً الاختلاف في مسائل العقائد و الأصول التي كان عليها الصحابة والتابعين، مثل قضية أسماء الله و صفاته و أفعاله، فهذا خارج عن منهج الصحابة؛ لأنهم جميعا متفقون علي الإيمان بأسماء الله و صفاته من غير تمثيل ولا تشبيه و لا تأويل و لا تعطيل، فلم يرد عن واحد منهم خلاف ذلك (18).
ويدخل في الاختلاف المذموم كل اختلاف يحركه الحسد والهوى، وطلب الزعامة والوجاهة، والتنافس علي الدنيا ولا يكون أهله مخلصين في طلب الحق.
فهذا الاختلاف شر كله ومذموم أهله، وحرام فعله، وآثم سالكه، وعلي كل مسلم غيور حريص علي دينه، أن يحارب أصحاب هذا النوع ويناهضهم، ويكشفهم للناس (19)
أما الخلاف السائغ:
فهو الذي يجري في موارد الاجتهاد، وهي: كل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح، وتكون أيضا في المتشابه (20)، الذي يقبل تعدد الأفهام والتفسيرات ويكون ذلك في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات.
يقول الشاطبي: (فإن الله تعالي حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة للأنظار و مجالا للظنون، و قد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف) (21)
ويقول الشافعي: (وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا، فذهب المتأول أو القايس إلي معني يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل يُِِضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص) (22)
فلا نحجر علي رأي له من النص مستند مع احترامنا رأي كل مجتهد (23)، جاز آلة الاجتهاد (23) سواء كان مخطئا أم مصيبا، طالما كان دون تحمل حجج واهية أو تعسف في التأويل، فمن بذل وسعه في سبيل الوصول إلي الحق و لم يدخر جهدا في ذلك فقد أتي ما كلفه الله إياه، ولو أخطأ الطريق.(2/287)
وقد جاءت الشريعة وفيها مسائل فيها أدلة قطعية محكمة، ومسائل أخر ليس فيها ذلك، فمجيئها في الشريعة علي هذا الوجه دليل الإذن بالاجتهاد فيها، وأنها تتسع لأكثر من فهم و أكثر من تفسير، وإلا لجعل الله تعالي فيها من قواطع الأدلة ما يرفع التشابه ويغني عن النظر ويمنع الاختلاف (25)
ولقد أجمعت الأمة بكل مذاهبها علي مشروعية الاجتهاد، ومارسته بالفعل، وكان من ثمراته هذه الثروة الفقهية العريضة (26).
ولذا كان - ومازال - العلماء و الفقهاء منذ عهد الصحابة - وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا - إلي يومنا هذا يختلفون في كثير من مسائل الأحكام (27)، بل ما اختلفوا فيه فوق الحصر.
يقول ابن تيمية: وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط (28).
ولكن ليس كل خلاف يعتد به و ينظر فيه، كما قيل:
ليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
فلا يعتد بالخلاف إذا كان:
1 - خطأ مقطوع به في الشريعة يناقض نصاً صحيحاً أو إجماعا صريحاً (29)
كما سبق بيانه.
2 - إذا جاء ممن لا يعتد بخلافه، كأهل الفرق الضالة و المبتدعة.
3 - إذا كان اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فهذا في الحقيقة ليس بخلاف،
فكل واحد من المختلفين مصيب بلا تردد، ولكن الذم واقع علي من بغي علي الآخر فيه، و هذا الخلاف مثل:
أ -تنوع في العبادات والألفاظ؛ فمنه ما يكون كل من القولين هو في معني القول الآخر لكن العبارتان مختلفتان؛ كتفسير الصراط المستقيم بأنه كتاب الله أو الإسلام أو الحق أو النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وحاصلها يرجع إلي شيء واحد و هو المتابعة لله و للرسول (30).
ومنه ما يكون المعنيان متغايرين لكن لا يتنافيان (31).
ب - تنوع الواجبات فيجب علي قوم الجهاد و علي غيرهم الزكاة.
جـ - تنوع المستحبات باختلاف القدرة والفعل والانتفاع بالفعل المستحب، فالطريقتان مشروعتان، ولكن هؤلاء قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى (32).(2/288)
وأكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما هو عليه، ولكنه يخطئ في نفي ما عليه الآخر (33)، بل ربما وصل الأمر إلي الاقتتال بينهما. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
---------------------
نقلاً عن: " مجلة التوحيد " العدد: 7 / 1419 هـ.
(1) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2 / 465).
(2) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1 / 130).
(3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (1 / 250).
(4) رواه مسلم.
(5) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1 / 422).
(6) رواه أبو داود و أحمد و انظر " صحيح الجامع " (ح 6149).
(7) انظر ((انظر اقتضاء الصراط المستقيم)) فإنه نفيس في بابه.
(8) قد ورد هذا عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
(9) شرحه لمسلم (2 / 23).
(10) رواه مسلم.
(11) " الرسالة " (ص 560).
(12) راجع الآثار التي وردت عن الأئمة الأربعة في ذلك في كتاب ((صفة صلاة النبي)) للألباني، و ((بدعة التعصب)) لمحمد عيد عباسي.
(13) رواه ابن عبد البر في ((بيان العلم)) و انظر ((الموافقات)) للشاطبي و قد وردت أيضا عن ابن عباس و أحمد بن حنبل انظر هامش ((صفة الصلاة للألباني)).
(14) ((مجموع الفتاوي)) لابن تيمية (24 / 172)).
(15) ((الإعتصام)) (2 /347، 355) نقلاً عن ((بدعة التعصب)) (ص 170).
(16) رواه مسلم (ح 2666).
(17) رواه البخاري (ح 4987).
(18) انظر ((إعلام الموقعين)) (1/49)، و ((التقنين و الإلزام)) لبكر أبو زيد (ص 59)، و ((الصحوة الاسلامية)) للعثيمين إعداد أبي لوز (ص 148، 149).
(19) انظر ملحق كتاب ((بدعة التعصب)) (ص 9).
(20)) قال تعالي: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و آخر متشابهات) [آل عمران: 7]، والمتشابه: ما كان محتمل المعني وغير منضبط المدلول، والمحكم: البين المعني الواضح الدلالة المحدد المفهوم.
(21) الاعتصام (2/ 168).(2/289)
(22) الرسالة (ص 560).
(23) و الاجتهاد هو: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط. قاله الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (ص 250)، ويجب أن يكون صادراً من أهله وفي محله، فإن صدر عن غير أهله كان زيغاً سببه تحكيم الهوى واتباع المتشابه ومفارقة الجماعة. أنظر ((الموافقات)) (4/174) وما بعدها.
(24) لا مجرد أن يحفظ الفروع الفقهية فقط، وراجع ((بيان العلم)) لابن عبد البر (2/ 43- 49) باب (من يستحق أن يسمي فقيها أو عالما حقيقة لا مجازاً ومن يجوز له الفتيا عند العلماء)، وراجع أيضا ((إعلام الموقعين)) (1/ 44)، وقد اشترط أبو حامد الغزالي في كتابه ((المستصفى)) (ص 101) للمجتهد بعد شرط العدالة: أن يكون محيطاً بمدارك الشرع متمكناً من استثارة الظن بالنظر فيها، وهذا يكون بمعرفة المدارك المثمرة للأحكام ومعرفة كيفية الاستثمار، ويكون ذلك بمعرفة علوم ثمانية هي: الكتاب، و السنة، والإجماع، والعقل أو القياس، ومعرفة أصول الفقه، واللغة والنحو، والناسخ والمنسوخ، ومصطلح الحديث.
(25) انظر ((الاجتهاد)) ليوسف القرضاوي (ص 65، 66).
(26) المصدر السابق.
(27) ولكنهم لم يتنازعوا في الأصول كمسائل الأسماء والصفات والأفعال، كما سبق بيانه.
(28) ((مجموع الفتاوى)) (24 / 173).
(29) انظر ((الموافقات)) (4/214).
(30) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/27، 28).
(31) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/133).
(32) انظر المصدر السابق، و ((الموافقات)) (4/221، 222).
(33) انظر ((الاقتضاء)) (1/128، 129).
http://www.khayma.com المصدر:
ـــــــــــــــ(2/290)
قواعد الاختلاف في الرأي
هناك قاعدتان يفضّل اتباعهما في نقاشات الآراء المختلفة:
الأولى: أن لا نتخاطب بالأسماء
والثانية: عدم المقاطعة عندما يتحدث الآخر. وبالرغم من بساطة هاتين القاعدتين، إلا أنك ستلمس تغيراً إيجابياً في نتائج النقاشات.
نبرة الصوت أثناء الحوار
إذا توجب عليك مواجهة أحد أبنائك من المراهقين أو مناقشة موضوع حساس معه، حاول أن تتذكر دائماً أن الاهتمام سينصب على الطريقة التي ستقول بها ما تريد أن تقوله وليس على ما تقوله. أحدهم وضعها بطريقة معبرة أكثر فقال: إذا رميت بكرة إلى الحائط فسترتد إليك بنفس القوة التي رميتها بها!
لا تستجلب المواضيع القديمة
عندما يشتد التوتر أثناء إحدى النقاشات التي تطرح فيها أفكار متضاربة، لا تحاول أن تستجلب مواقف ومواضيع سابقة كأن تقول: "...وشيء آخر أنا غاضب منك لأنك... "، لن تصل إلى أي حل أو نتيجة مرضية مع هذا الأسلوب.
تأديب هادئ وواضح وسريع
يعتقد معظم المراهقين أنهم بمناقشاتهم المستمرة والمتكررة وإصرارهم سيهزمونك ويحصلون على ما يريدون. كن واضحاً وصريحاً وحاسماً في قراراتك.
إلا أن أبناءنا في بعض الأوقات لا يملون ويستمرون في النقاش بعد اتخاذ القرار، وكلما طال النقاش كلما أصبحت الفرصة أكبر أن يتفوه أحدكما بكلمات قد تحرق جسور الاتصال، الحل هنا أن تنسحب بهدوء من النقاش.
من الصعب أن تكون أباً أو أماً.
في بعض الأحيان تكون عبارة "من الصعب أن تكون أباً (أماً)" لابنك أو ابنتك مؤثرة في حوارات الآراء المختلفة، ويمكن أن تأتي على الشكل التالي: "من الصعب أن تكون أباً، وأعرف أنه من الصعب أن أكون مراهقاً، دعنا نتساعد.. " هذه الكلمات تشحن العاطفة في نفوسكما معا وتساعدكما للوصول إلى الحل المناسب.
للآباء من مهارات التعامل
يجب أن لا تخلق المواجهة المزيد من الغضب والمواقف الدفاعية. اتبع النصائح التالية من أجل مواجهة مسؤولة ومتأنية:(2/291)
*التوقيت هو كل شيء في المواجهة. وقّت المواجهة بحيث يكون الطرف الآخر مستعد لسماعك. إذا كان الطرف الآخر متعباً أو غاضبا أو في مزاج سيء أجّل المواجهة لوقت آخر.
* كن دمثاً، لطيفاً.
* اطرح أفكارك بوضوح ودقة
* كن صادقاً في تواصلك
* عبّر عن تقديرك عندما تحصل على مكسب ثانوي.
من أقوال المراهقين:
ـ "سئمنا من الصراخ في وجهنا في كل صغيرة وكبيرة! "
ـ "خذ وقتاً في ملاحظتنا ونحن ننجز الأعمال يشكل جيد".
http://www.ebdaa.ws المصدر:
ـــــــــــــــ(2/292)
منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين
للشيخ : هشام الصيني
قواعد عامة في الحكم على الآخرين .
القاعدة الأولى : الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين .
حرم الله سبحنه وتعالى الغيبة في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى " ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " وقال - صلى الله عليه وسلم - " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال ذكرك أخاك بما يكره . قيل : فإن كان أ فرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فقد بهته " وفي السنة وعيد شديد لمن ارتكب معصية الغيبة دل على ذلك الأحاديث الواردة في هذا السياق .
ووردت آثار كثيرة عن السلف تبين خوفهم الشديد من الوقوع في الغيبة , من ذلك ما قاله البخاري رحمه الله تعالى حي قال : " أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا "
القاعدة الثانية : تقديم حسن الظن بالمسلم .
والأصل في هذه القاعدة هو قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا " الآية .
والمسلم أمره - في الأصل - قائم على الستر وحسن الظن به كما دلت عليه النصوص الواردة .
القاعدة الثالثة : الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف .
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
يقول ابن تيميه رحمه الله تعالى : ( الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل , لا بجهل وظلم كحال أهل البدع ) .
وبهذا لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك شرعا إلا بعلم وعدل وإنصاف , وإلا فإنه يعتبر مخالفا لنصوص الكتاب والسنة ولمنهج السلف الصالح , كما يعتبر سببا من أسباب تفريق الصف المسلم بإثارة الشحناء والبغضاء في النفوس .(2/293)
القاعدة الرابعة : العدل في وصف الآخرين .
وهي جزء من القاعدة السابقة ولأهميتها أفردت في الذكر , والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى : {ولا تبخسوا الناس أشياءهم } , والمقصود بالعدل في وصف الآخرين : هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينهما . وكمثال على هذه القاعدة نذكر قول الإمام الذهبي رحمه الله في الجاحظ وهو أديب معتزلي ومع ذلك قال عنه ( العلامة المتبحر ذو الفنون .. وكان أحد الأذكياء .. وكان ماجنا قليل الدين له نوادر ) . على فمنهج الذهبي منهج علمي دقيق وهو عين منهج أهل السنة والجماعة في أحكامهم على غيرهم .
القاعدة الخامسة : العبرة بكثرة الفضائل .
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث , فمن غلبت فضائله هفواته اغتفر له ذلك , وقد قال ابن رجب رحمه الله في ذلك ( والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه )
القاعدة السادسة : العدل في المفاضلة بين الناس .
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل : أي الناس أكرم ؟ قال : ( أكرمهم عند الله أتقاهم ) .
والتفضيل بين الناس يكون مطلقا ومقيدا , فالمطلق يكون على أساس التقوى والمقيد بحسب قيده .
وقاعدة السلف تنص على ألا نقدم إلا من قدمه الله ورسوله ولا نؤخر إلا من أخره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
القاعدة السابعة :المنهج الصحيح في الحب والبغض .
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى : {{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم }} فالإنسان يحب على قدر ما فيه من موافقة للشرع ويبغض على قدر ما فيه مخالفة للشرع .
قواعد عامة لمن يبلغه جرح في غيره .
القاعدة الأولى : النظر في حال الجارح .
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى {{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ..}} الآية .(2/294)
فإن الله تعالى بين أن التثبت في خبر الفاسق واجب , وهذا يدل على أول شيء قبل التثبت من الخبر هو النظر في حال صاحبه هل هو عدل أم فاسق ؟
القاعدة الثانية : التثبت من الأخبار .
وهذه القاعدة أصل عظيم في تلقي الأخبار والرواية والعمل بها والأصل فيها هو قوله تعالى {{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }}
يقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية ( وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين : الأول منهما أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته وهل ما قاله في الفاسق حق أو كذب فإنه يجب فيه التثبت
والثاني : هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل ) مفهوم مخالفة -
القاعدة الثالثة :رد الغيبة على المغتاب .
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((من ذب عن عرض أخيه بالغيبة , كان حقا على الله أن يعتقه من النار ))
والسلف رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعملون على رد الغيبة على المتكلم , من ذلك ما ذكر عن إبراهيم ابن أدهم رحمه الله تعالى " أنه أضاف أناسا فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلا فقال إبراهيم : إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز "
القاعدة الرابعة : كلام الأقران يطوى ولا يروى .
وهذه قاعدة قررها جمهور السلف رضوان الله عليهم يقول ابن عباس رضي الله عنه " خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة "
والقاعدة في ذلك أن المسلم إذا بلغه قدح في إخوانه وبان أنه من قبيل كلام الأقران فإنه يجب عليه أن يرده ولا يلتفت إليه .
قواعد عامة للمسلم مع غيره .
القاعدة الأولى : السعادة في معاملة الخلق .(2/295)
والسعادة في معاملة الخلق تكون نابعة عن النية الصحيحة في معاملتهم , فكل تعامل وشعور نحوهم إذا بنية خالصة لله تعالى , وعلى يقين من أمر الله تعالى فإنه يجد السعادة في معاملتهم .
القاعدة الثانية : حال الإنسان مع غيره إذا لاقاه .
يقول عبد الرحمن بن مهدي : كان يقال ( إذا التقى الرجل الرجل فوقه في العلم فهو يوم غنيمته , وإذا التقى من هو مثله دارسه وتعلم منه , وإذا التقى من دونه تواضع له وعلمه , ولا يكون إماما في العلم من حدث بكل ما سمع , ولا يكون إماما من حدث عن كل أحد , ولا من يحدث بالشاذ والحفظ للإتقان )
القاعدة الثالثة : معاملة من أخطأ في طلبه للحق .
يقول الله تبارك وتعالى (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ))
القاعدة الرابعة :ذكر الناس داء وذكر الله دواء .
قال الذهبي : ( إي والله , فالعجب منا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداء ؟؟)
وقد ثبت في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ))
القاعدة الخامسة : إعطاء كل ذي حق حقه .
وهي قريبة من قاعدة العدل في وصف الآخرين , ولكن ههنا المراد منها الاقتصار على بيان ما يتميز به كل إنسان عن غيره فقد يبرع أحدهم في العلم والآخر في الجهاد والآخر في الدعوة وهكذا .
ـــــــــــــــ(2/296)
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً
عثمان جمعة ضميرية
إن كل دين من عند الله تعالى يتضمن جانبين اثنين: العقيدة، والشريعة، إذ أن من طبيعة الدين الرباني أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع، وأن لا يقتصر على الجانب العقدي وحده،ولا على الجانب التهذيبي أو الأخلاقي وحده، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها ، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك.
فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله تعالى للبشر ، فهو يربط حياة الناس بمنهج الله تعالى ، ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية ، ولا عن القيم الخلقية، ولا هذا وذاك عن الشعائر والأحكام التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرِّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي..
وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس، كما يبطله في الحياة، وهذا يخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله تعالى.
وإذا كانت العقيدة واحدة لا تختلف؛ فإن الشريعة لكل قوم ، مباينة لغيرها من الشرائع ، مختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً ، ثم يجعله الله تعالى حلالاً في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وقد يكون خفيفاً في شريعة ، فيزداد في الشدة في شريعة أخرى ، وقد تختلف طرق العبادة نظراً لاختلاف الناس وطرق تعليمهم ، باختلاف استعداداتهم وظروف بيئتهم في مختلف العصور والأزمان ، إذ أن الشريعة تأتي لتلبية حاجات الناس ، وفق علم الله -سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما يصلح للبشر في كل مكان وفي كل زمان ، وهذه الحاجات قد تختلف من أمة لأخرى ومن زمن لآخر.
كما تختلف الشرائع في شمولها لبعض الأحكام مما لم يكن منصوصاً عليه في شريعة سابقة خاصة؛ لأن كل شريعة لاحقة إنما جاءت مكمِّلة أو موضحة لشريعة سبقتها ، أو مصححة لما وقع فيها من انحراف.(2/297)
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم ، مما لم يكن في الشرائع السابقة ، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية ، وفي روابطهم الشخصية ، ومعاملاتهم ، بعضهم مع بعض ، فردية كانت هذه المعاملات أو جماعية ، كبيان أحكام البيع والإجازة في العقارات والمنافع.. وغير ذلك من ضروب المعاملات.
وهذا الاختلاف بصوره المتنوعة ، إنما يقتضيه ما لله -سبحانه وتعالى- من الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع باختلاف استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان.
وقد أشار الله -سبحانه وتعالى- إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن عيسى -عليه السلام:
((ومُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))[ آل عمران:50]. وقال -سبحانه وتعالى- عن دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ورسالته : ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) [الأعراف:157].
وقال الله تعالى أيضاً : ((يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتَابٌ مُّبِينٌ)) [المائدة:15].
ثم يضع الله -سبحانه وتعالى- قاعد عامة فيقول : ((ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة:148].(2/298)
فكل أهل دين لهم قبلة ووجهة ، فلليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وقد هداكم الله تعالى -أيها المسلمون- إلى القبلة الجديرة بأن تتوجهوا إليها ، وثم وجه الله.
وهذا شبيه بقول الله -تبارك وتعالى- : ((لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) [المائدة:48].
فقد جعل الله تعالى لكل أمة شريعة ومنهاجاً ، أي سبيلاً وسنة وطريقة ، وهذه السنن والطرق مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ليبتلي بذلك عباده ، فيعلم من يطيعه ومن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو : التوحيد والإخلاص لله ، الذي بعث الله تعالى به رسله وأنبياءه -عليهم الصلاة والسلام-.(2/299)
يدل على هذا المعنى : أن الله -سبحانه وتعالى- ذكر في سياق الآيات الكريمة السابقة ما كتبه على بني إسرائيل في التوراة ، وذكر بعد ذلك : أنه قفَّى بعيسى بن مريم على آثار الأنبياء قبله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأمر من بعثه إليهم بالعمل بما فيه ، كما أمر بني إسرائيل بالعمل بالتوراة ، ثم ذكر نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، وأمره بالعمل بما فيه ، والحكم بما أُنزل إليه ، دون سائر الكتب غيره ، وأعلمه أنه قد جعل له شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله ، ممن قصَّ عليه قصصهم ، وإذ كان دينه ودينهم واحداً . فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ، ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم ، فقال سبحانه وتعالى : ((إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)) ، إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- : ((وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً)) [المائدة:48].
ويقول الشيخ ولي الدين الدهلوي رحمه الله، في بيان هذا المعنى : إن أصل الدين واحد ، اتفق عليه الأنبياء -عليهم السلام-، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج، وتفصيل ذلك:(2/300)
أن الأنبياء جميعاً -عليهم السلام- ، قد أجمعوا على توحيد الله تعالى . عبادة واستعانة ، وتنزيهه عما لا يليق به ، وتحريم الإلحاد في أسمائه ، وأن حقَّ الله على عباده : أن يعظّموه تعظيماً لا يشوبه تفريط ، وأن يسلموا وجوههم وقلوبهم إليه ، وأن يتقربوا بشعائر الله إلى الله ، وأنه قدّر جميع الحوادث قبل أن يخلقها ، وأن لله ملائكته لا يعصونه فيما أمر ، ويفعلون ما يؤمرون ، وأنه ينزل الكتاب على من يشاء من عباده ، ويفرض طاعته على الناس .. فهذا أصل الدين ، ولذلك لم يبحث القرآن الكريم عن ماهيِّة هذا الأشياء -إلا ما شاء الله- لأنها كانت مسلَّمة فيمن نزل القرآن الكريم بألسنتهم .إنما الاختلاف وقع في صور هذه الأمور وأشكالها ، فكان الرجم في شريعة موسى -عليه السلام- ، وجاءت شريعتنا بالرجم للمحصن ، والجلد لغيره . وجاء في شريعة موسى القصاص فقط ، وجاءت شريعتنا بالقصاص والدية جميعاً .. وعلى ذلك اختلافهم في أوقات الطاعات وآدابها وأركانها.
وبالجملة : فالأوضاع الخاصة ، مُهِّدت وبينت بها أنواع البر والارتفاقات هي الشرعة والمنهاج (1)
ولكن الشرعة والمنهاج الذي لا يقبل الله تعالى غيره هو ما أمر الله تعالى محمداً -صلى الله عليه وسلم- ، لأن شريعته هي كلمة الله الأخيرة ، التي جعلها الله تعالى له ولأمته إلى قيام الساعة . وقد جاء الأمر بذلك من الله -سبحانه وتعالى- ، فأمره أن يحكم بهذه الشريعة التي جعلها الله تعالى له ، من بعد الذي آتاه بني إسرائيل ، الذين وصف الله تعالى لنبيه صفتهم في اختلافهم بغياً بينهم ، فقال سبحانه وتعالى :(2/301)
((ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية:16-18].
ولن يفوتنا هنا أن نشير إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا أن أصل دين الأنبياء واحد ، وإن كانت شرائعهم مختلفة ، كما أنَّ أولاد العلاّت أبوهم واحد ، وإن كانت أمهاتهم شتى ، فقال -صلى الله عليه وسلم- :(أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة« قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : »الأنبياء إخوة من عَلاّت ، وأمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، وليس بيننا نبي) (2).
الهوامش :
1- حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي : 1/86-88.
2- أخرجه البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــ(2/302)
فقه الصحابة - رضي الله عنهم - في الرد على المخالف
فضيلة الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فالرد على المخالف والذب عن دين الله - تعالى - من أفضل الجهاد في سبيل الله، ففي هذا الجهاد إظهار الحق ودحض المفتريات وكشف الشبهات، كما أن فيه النصح للمسلمين والإشفاق عليهم.
ولما قيل للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل(1).
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري - رحمه الله -: « الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله»(2).
ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعمق هذه الأمة علماً، وأكمل معرفة بالخير والشر، وأتم الناس فقهاً لمراتب الأعمال الصالحة، فلقد كانت لهم الجهود المباركة والمساعي المحمودة في مجاهدة المبتدعة والدفاع عن السنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعظم إيماناً وجهاداً ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر؛ لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي« إلى أن قال: »وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين الله له الحق وتاب عليه توبةً نصوحاً، ورزقه الجهاد في سبيل الله، فقد يكون بيانه لحالهم، وهجره لمساويهم وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديداً على الجهمية ـ: « أنا شديد عليهم؛ لأني كنت منهم..» (3).(2/303)
ومن جهودهم الظاهرة في هذا المجال ما فعله الفاروق عمر - رضي الله عنه - تجاه صبيغ ـ لمّا خاض في المتشابه ـ حيث ضربه ونفاه.. وحرّق علي - رضي الله عنه - الغلاة القائلين بإلهيته، وجلد من فضّله على الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حد المفتري، وردّ عبد الله بن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - على الخوارج والقدرية.. كما حذر عمومُ الصحابة من الابتداع والإحداث في دين الله - تعالى -.
ومن خلال نظرات يسيرة في تلك الجهود نلمس جملة أمور، منها:
تمام الاتباع وكمال التأسي برسول الله في الردّ على المخالف، ودليل ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - "أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خرج ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، يقول ابن عمرو: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - لم أشهده بما غبطت بذلك المجلس أني لم أشهده (4). تأسى عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في ذلك، فلما بلغه حال أولئك القدرية النفاة، غضب أشد الغضب، حتى قال الراوي: حتى وددت أني لم أكن سألته (5).
ولما أُخبر ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل يكذب بالقدر، قال: دلوني عليه ـ وهو يومئذ أعمى ـ فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: « والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدُقنّها » (6).
أن الصحابة - رضي الله عنهم - يَجْمَعُون في ردهم على المخالف بين العلم بالحق والعمل به، وبين الرحمة بالخلق والإشفاق عليهم، والرد على المخالف لا يكون عملاً صالحًاً مقبولاً إلا إذا أُريد به بيان الحق وإظهاره، ورحمة الخلق وهدايتهم.(2/304)
فهذا أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - يقول الحق ويرحم الخلق: فإنه لما رأي سبعين رأساً من الخوارج وقد جزت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق، فقال - رضي الله عنه - إعلاماً بالحق ـ: سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم! كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء.
ثم قال أبو أمامة لصاحبه: إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم، ثم بكى قائلا: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام (7).
يتجلى من خلال ردّ الصحابة على المخالف وحدة العقيدة، فقولهم في هذا الباب قول واحد لفظاً ومعنى، فلا ترى بينهم اختلافاً، وخير مثال على ذلك ما رواه ابن الديلمي قائلا: أتيت أُبَيّ بن كعب، فقلت: أبا المنذر، فإنه وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني، فقال: إن الله - عز وجل - لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، لو كان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فسألته، فقال مثل ذلك، ثم قال ابن مسعود: ولا عليك أن تأتي أخي حذيفة بن اليمان فتسأله، فأتيت حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - فسألته، فقال مثل ذلك، قال: فَأْتِ زيد بن ثابت، فأتيت زيد بن ثابت، فقال مثل ذلك (8).
يظهر في ردود الصحابة - رضي الله عنهم - على المخالفين عمق علم الصحابة، فيقول الصحابي الكلمة أو الكلمتين التي تتضمن أنواعاً من الفوائد والعلوم، وترى في ردهم شمولية واعتدالاً في الرد فعندما يقول الفاروق عمر - رضي الله عنه - عن النصارى: »أهينوهم، ولا تظلموهم؛ فلقد سبوا الله مسبة ما سّبه إياها أحد من البشر» (9).(2/305)
فقول عمر: أهينوهم: من مقتضى البراءة من الكافرين، كما قال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)) [المائدة: 51] فحق الكفار العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، وأن نُهِينَهُم حيث أهانهم الله - تعالى -، ومن يهن الله فماله من مكرم، ولذا قال عمر - رضي الله عنه - لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهِم إذ أقصاهم الله (10).
وأما قول عمر: ولا تظلموهم، فهذا مقتضى العدل والإقساط معهم، كما قال - سبحانه -: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)) [الممتحنة: 8].
ففرّق عمر - رضي الله عنه - بين حسن المعاملة مع الكفار وبغض الكفار والبراءة منهم، فلا يصح الخلط بين الأمرين، فَيُجْعَلََ العَدْلُ والإقساط مع الكفار محبة وموالاة للكفار، كما لا يصح أن يُجْعَلَ بغضهم وعداوتهم ظلماً وتعدياً (11).
يتبين في ردود الصحابة على المخالفين: حدة أذهانهم ودقة أفهامهم، ومما يوضح ذلك أن عطاء بن يسار لمّا سأل أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن الحرورية، فقال عطاء: هل سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ذكرهم، فقال أبو سعيد: لا أدري مَنْ الحرورية، ولكني سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم... الحديث (12).
قال المازري: هذا من أول الدلائل على سعة علم الصحابة - رضي الله عنهم - ودقيق نظرهم، وتحريرهم الألفاظ، وفرقهم بين مدلولاتها الخفية؛ لأن لفظة مِنْ تقتضي كونهم من الأمة لا كفاراً، بخلاف » في.. (13).(2/306)
يقرر الصحابة - رضي الله عنهم - في ردهم على المخالفين والمبتدعين صلة هذه البدع بالملل والديانات السابقة، مما يدل على سعة علمهم، وغزارة معرفتهم، وبُعْد أُفُقِهم، ومن ذلك: مقالة ابن عباس - رضي الله عنهما -: « اتقوا هذا الإرجاء، فإنه شعبة من النصرانية » (14). ولا غرابة في ارتباط تلك البدع بالملل الأخرى، فإن الأفكار لا تموت، ولكل قوم وارث، وأما توجيه هذا الارتباط بين النصرانية والإرجاء، الذي أشارت إليه مقالة ابن عباس فيبدو ـ والله أعلم ـ أن من القواسم المشتركة بين الطائفتين أن النصارى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، كما ادعى المرجئة لأنفسهم ـ وكذا جميع الفساق والعصاة ـ أنهم مؤمنون كاملو الإيمان، كما يغلب على النصارى التفريط والتقصير، فلا يرون شيئاً حراماً ولا نجساً، ويأكلون الخبائث (15)، وشابههم المرجئة في هذا التفريط فضيعوا الواجبات وانتهكوا المحرمات.
وقد ورث سعيد بن جبير - رحمه الله - هذا العمق وسعة الأفق من شيخه ابن عباس - رضي الله عنهما -، فقال سعيد: «المرجئة مثل الصابئة.. » (16).
وقد حفلت مرويات الصحابة - رضي الله عنهم - وسيرهم بأنواع من الحوارات الهادفة والردود القوية تجاه المخالفين، نكتفي بمثال واحد مع التعليق عليه:(2/307)
عن عمرو بن سلمة الهمداني، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أَخَرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو، قال: إن عشت ستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئة، فيكبرون مئة، فيقول: هللوا مئة، فيهللون مئة، ويقول: سبحوا مئة، فيسبحون مئة، قال: فماذا قلت لهم؟، قال: ما قلت لهم شيئاً انتظاراً لرأيك، قال: أفلا تأمرهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلْقة من تلك الحِلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نَعُدّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم؛ فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتَكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - حدثنا: أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأيم الله لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الِحلق يطاعوننا يوم النهر وان مع الخوارج (17).
لقد تضمن هذا الأثر فوائد عديدة ودروساً مفيدة، فنذكر بعضاً منها (18):(2/308)
1- ضرورة الرجوع إلى فهم الصحابة (رضي الله عنهم) للنصوص الشرعية، والاستعانة بتفسير الصحابة للسنة النبوية.
فالصحابة - رضي الله عنهم - شهدوا تنزيل القرآن، وعرفوا خاصّه وعامّه، وهم أعلم الأمة بحديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وسيرته ومقاصده (19).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: « ومعلوم أن كل من سلك إلى الله - عز وجل - علماً وعملاً بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، فلا بد أن يقع في بدعة قولية أو عملية، فإن السائر إذا سار على غير الطريق المَهْيَع فلا بد أن يسلك بنيات الطريق » (20).
2- أن الإعراض عن فقه الصحابة لنصوص الوحيين من أسباب الزيغ والضلال، وهذا ما أشار إليه ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله: « والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أَوَ مفتتحو باب ضلالة؟! »، وصدق ابن مسعود - رضي الله عنه -، وصحت فراسته، فقد آل الأمر بهؤلاء: إلى أن سلكوا طريق الخوارج الضالين، قال - تعالى -: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) [الكهف: 103، 104].
3- أن البدع والانحرافات تبدأ شيئاً فشيئاً،، فأول ما تكون شبراً ثم تصير ذراعاً، ثم تؤول إلى أميال وفراسخ، فبداية هؤلاء: الإعراض عن سنة التسبيح بالأنامل، والاشتغال بالذكر بطريقة مبتدعة.. إلى أن انتهى بهم الأمر إلى الخروج عن جماعة المسلمين وقتال أهل الإسلام.
وقد أشار الإمام مجاهد - رحمه الله - إلى تدرج البدع، وأنها طريق إلى الشرك، فقال: « يبدؤون جهمية، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوساً » (21).
ويقول ابن تيمية في هذا المقام:
« ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مُفَضّلاً، ثم يصير سبّاباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطّلا » (22).(2/309)
4- أن النية الحسنة وإرادة الخير لا تكفي وحدها، كما قال ابن مسعود: « وكم من مريد للخير لن يصيبه»، فيتعين الاتباع للسنة وموافقة الصواب، فليس العبرة بالإكثار من العبادة دون اتباع وسنة، ولذا قال ابن مسعود أيضاً:« اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة» (23).
5-أن ثمة تلازم بين مخالفة الحق ووقوع العداوة والبغضاء، فإن الخوارج وكذا أهل الأهواء عموماً لما أعرضوا عن السنة وفقه الصحابة فهموا القرآن حسب أهوائهم وقد أدى بهم ذلك إلى أن جعلوا القرآن عضين، فآمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعضه، مما أوجب العداوة والبغضاء فيما بينهم، وفي المقابل؛ فإنه لمّا آمن الصحابة ومن تبعهم بإحسان بجميع النصوص الشرعية: أورثهم ذلك اجتماعاً واتفاقاً؛ قال - تعالى -: ((وَمِنَ الَذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاً مِّمَّا ذُكِّرُوا هِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)) [المائدة: 14].
يقول ابن تيمية في بيان معنى هذه الآية: « فأخبر أن نسيانهم حظًّاً مما ذكروا به ـ وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به ـ كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه » (24).
وفي ختام هذه المقالة: أسأل الله - تعالى -أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يحشرنا في زمرة النبيين والصديقين، وبالله التوفيق.
------------------
الهوامش:
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية، جـ28 ص231.
(2) سير أعلام النبلاء، جـ10 ص 518.
(3) مجموع الفتاوى جـ10 ص 301: 303 باختصار، وانظر الفوائد لابن القيم ص101.
(4) أخرجه أحمد جـ2ص178، وابن ماجه 85، وانظر أصول اللالكائي جـ3 ص 627، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم، جـ1 ص 138: 141.
(5) أصول اللالكائي، جـ3 ص588.(2/310)
(6) أصول اللالكائي جـ3 ص625، وانظر جـ3 ص669، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد جـ2 ص416.
(7) انظر مرويات هذه القصة في: الفتح الرباني للساعاتي، جـ23 ص 160، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد جـ2 ص644، وانظر: الاعتصام للشاطبي جـ71: 73 ص1، والآداب الشرعية لابن مفلح جـ2 ص24.
(8) أخرجه، أحمد، جـ5 ص182، وأبو داود ح4699، وانظر: السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، جـ2 ص388، وأصول اللالكائي جـ3 ص612: 673.
(9) انظر إغاثة اللهفان لابن القيم ـ ت محمد عفيفي جـ2 ص 398.
(10) انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ـ ت: صبحي الصالح، جـ 1 ص211.
(11) انظر الفرق بين الإحسان لأهل الذمة والعداوة لهم في كتاب الفروق للقرافي، جـ3 ص 1، 15.
(12) أخرجه مسلم.
(13) صحيح مسلم بالنووي، جـ7 ص 164.
(14) أخرجه اللالكائي، جـ3 ص631.
(15) انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جـ1 ص31، جـ2 ص52.
(16) أخرجه: عبد الله بن الإمام أحمد في السنة، جـ1 ص324، وابن بطة في الإبانة الكبرى، جـ2 ص888.
(17) أخرجه الدارمي جـ1ص79، وانظر »الصحيحة« للألباني ح 2005.
(18) أورد الكاتب أحمد سلام بعض المعالم المهمة والمستفادة من هذا الأثر في كتابه »ما أنا عليه وأصحابي« ص 47ـ 51
(19)انظر مجموع الفتاوى، جـ4 ص 158، جـ 7 ص390
(20) شرح الأصفهانية، ص 129.
(21) أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، جـ3 ص645.
(22) مجموع الفتاوى، جـ4 ص428.
(23) أخرجه اللالكائي في أصول أهل السنة، جـ1 ص55.
(24) مجموع الفتاوى، جـ1 ص 14.
ـــــــــــــــ(2/311)
التنزل للخصم في المناظرة
أحمد بن عبد الكريم نجيب
السؤال:
ما حكم التنزل في الكلام عند مناظرة مخالفٍ غير مسلم إذا رأينا في ذلك مصلحة راجحة؟
الجواب:
أقول مستعيناً بالله - تعالى -:
إن من الحكمة في الحوار و المناظرة أن يخاطِبَ المُنَاظِرُ الناسَ بما يفهمون، و أن يؤخذوا بقدر عقولهم، فإذا كان في التنزل في الحوار معهم مصلحة راجحة فلا بأس في ذلك على الظاهر، شريطة أن لا يؤدي الأمر في النهاية إلى فتنة أهل الحق، أو تقوية أهل الباطل؛ بتقديم ما يمكن أن يستغلوه في إشاعة و تثبيت باطلهم، أو التشكيك في الحق، و الطعن في أهله، و لو بعد حين.
و يجد الباحث في كتاب الله أمثلة من التنزُّل في الحوار مع المشركين على نحو لا يشكل على من أحسن فهمه و تدبَّره.
فقد حكى القرآن الكريم تنزل مؤمن آل فرعون في خطاب قومه حيث قال عن نبي الله موسى - عليه السلام - و ما جاءهم به من عند الله فيما حكاه عنه رب العالمين: (وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر: 28].
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة: تَنَزَّلَ مَعَهُمْ فِي الْمُخَاطَبَة فَقَالَ: (وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبه وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْض الَّذِي يَعِدُكُمْ)؛ يعني: إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل و الرأي التام و الحزم أن تتركوه و نفسه فلا تؤذوه؛ فإن يك كاذباً فإن الله - سبحانه وتعالى-سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا و الآخرة، و إن يك صادقاً و قد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم؛ فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذابٍ في الدنيا و الآخرة)
و أمر الله - تعالى -نبينا الكريم بأن يتنزل في حواره مع المشركين، فقال فيما أوحاه إليه: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ: 24].(2/312)
فانظر كيف عبَّر بلفظ الإجرام في قوله: (لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا) عما يفعله المؤمنون مع براءتهم من الإجرام و أهله في حقيقة الأمر، في مقابل التعبير بمجرد العمل لما تقترفه أيدي المخالفين مع ما يقع في أفعالهم من إجرام حقيقي في حق أنفسهم و حق المسلمين، حيث قال: (وَ لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
و لا ريب أن ذكر الإجرام في حق المؤمنين ليس إلا تنزلاً في حوار الخصم.
و مثل ذلك قوله - تعالى -لنبيه الكريم فيما أوحاه إليه: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، فمجرد افتراض أن يكون لله ولد أمر محال شرعاً و عقلاً، و لا يشك في استحالته عوام المسلمين فكيف بنبيهم الأمين، و لكن الله - تعالى -أذن له - - صلى الله عليه وسلم - - في أن يقوله للمشركين تنزلاً في محاورتهم، لعل ذلك يلزمهم الحجة أو يهديهم المحجة.
و أمام هذه الأمثلة من كتاب الله و غيرها مما كثر و اشتهر في الكتاب و السنة أرى جواز التنزل في مناظرة الخصوم شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى مفسدة أكبر، كإمعانهم في التعنت، أو الطعن في دين الله بسبب تنزل المتنزلين، و اعتبار تنزلهم ضعفاً في الدين.
هذا، و الله أعلم و أحكم، و ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت و إليه أنيب.
ـــــــــــــــ(2/313)
لا إنكار في مسائل الخلاف
الدكتور يوسف بن عبدالله الأحمد
هذه القاعدة غير صحيحة، والصواب أن يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
لأننا نختلفُ مع النصارى وأهل البدع، فهذه كلَّها من مسائل الخلاف الواقع، وينكرُ فيها على المخالف.
وإذا كانت المسألة، ومن مسائل الاجتهاد (كمسألة حكم تحية المسجد، هل تصلى وقت النهي أولا).
فإنك لا تنكرُ على من خالفك، فالجميع مقصده اتباع الحق، وكل له دليله ويرى أن قوله هو الراجح، وإنما يبقى النصح والبيان، فتكون القاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد وإنما النصح والببان) وانظر كلام ابن القيم، حول هذه القاعدة في إعلام الموقعين (3/288).
* الخلاف وأقسامه.
الخلاف قسمان:
الأول: اختلاف تنوع:
وأمثلته كثيرة ومنها: الاختلاف في صفة الإقامة، فمنهم من يجعلها إحدى عشرة جملة، ومنهم من يجعلها كالأذان سبع عشرة جملة، وكلا الصفتين ثابت عن النبي '. فالأول صواب والآخر صواب.
ومن أمثلته: اختلاف صفة دعاء الاستفتاح، وصلاة الخوف، واختلاف القراءات في القرآن الكريم.
ويكثر هذا النوع من الخلاف بين أقوال السلف في تفسير القرآن، فالبعضُ يفسرُ الشيء بمعناه، والآخر بلازمه، كتفسير الرحمة في بعض الآيات، فمن السلف من فسرها بالمطر، ومنهم من فسرها بلازمه، وهو إنبات الأرض وكثرة العشب.
وهذا النوع من الخلاف ليس بمذموم، وإنما يكون مذموماً في حال البغي بظلم بعضهم بعضاً.
ومن ذلك حديث ابن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعتُ من النبي ' خلافَها فأخذتُ بيده، فأتيت به رسول الله ' فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: ((كلا كما محسنٌ فلا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) أخرجه البخاري.
وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) (آل عمرن: 19).
الثاني: اختلاف تضاد:(2/314)
بأن يقول بعض العلماء بالوجوب في مسألة، ويقول بعضهم بالجواز مثلاً.
واختلاف التضاد نوعان:
أ. خلاف سائغ: (وهو الخلاف في المسائل الاجتهادية).
وهي المسائل التي اختلف فيها أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ولكلٍ استدلال معتبر. ومن أمثلته: جلسة الاستراحة في الصلاة، وكيفية الإشارة بالسبابة في التشهد، وصلاة تحية المسجد في وقت النهي، وهل الماء ينقسم إلى قسمين أو ثلاثة؟ واختلافهم في تحديد آخر وقت صلاة العشاء هل هو بانتصاف الليل أو بطلوع الفجر؟ واختلافهم في حكم صيام يوم الشك، هل هو واجب أو جائز أو محرم؟ ونحو ذلك.
وهذا النوع أمثلته كثيرة جداً، وهو الذي يقول فيه أهل العلم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد وإنما النصح والبيان؛ لأن مع كلا الطرفين دليل.
وهذا النوعُ من الخلاف غير مذموم، وإنما يكون مذموماً عند البغي، كالسب والشتم والعداء والبغض بينهم. كما سبق في اختلاف التنوع.
ب. خلاف غير سائغ:
ويكون في حالين:
الحال الأولى: فيما أجمع عليه أهل العلم من أهل السنَّة.
ومن أمثلته: توحيد الله في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وإثباتها كما أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان نبيّه ' إثباتاً يليقُ بجلاله، من غير تحريفٍ ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، والإيمان بأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وأنَّ القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الإيمان قولٌ وعمل، وأن الظهر أربع ركعات، وأن في كل ركعة سجدتان، وأن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، ومشروعية صلاة الوتر وقيام الليل.
وبدعية الاحتفال بالمولد النبوي، وصلاة الرغائب، والذكر الجماعي بعد الصلاة، وتلاوة المؤذن بعد الأذان للقرآن والتسبيح بمكبر الصوت، وتحريم سماع الموسيقى والأغاني، واختلاط الرجال بالنساء في العمل والتعليم، وحلق اللحى وو...الخ.(2/315)
الحالة الثانية: مما يكون الخلاف فيه غير سائغ: إذا حدث الخلاف بين أهل السنة والجماعة، ثم تبين الصحيح من الخلاف بجلاءٍ تام، فيكون الاختلاف حينئذ مذموماً، و يشرع فيه الإنكار، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف).
وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإنَّ الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعاً شائعاً وجبَ إنكاره اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره، بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاءُ من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء،
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، ممن ليس لهم تحقيق في العلم والصواب ما عليه الائمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهادُ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعنٌ على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب.(2/316)
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحةَ أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن ديَّة الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقاً، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزيء عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصراة يرد معها عوض اللبن صاعاً من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكمٍ من حكم بخلاف كثيرٍ من هذه المسائل، من غير طعنٍ منهم على مَن قال بها، وعلى كل حالٍ فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغهُ ما في المسألة من هذا الباب وغيره، من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد مَن نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحلُ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولى. وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوباً لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُعلمُ أصحابه(2/317)
هذه الحيل، ولا يدلهم عليها، ولو بلغهُ عن أحدٍ فعل شيئاً منها لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه يفتى بها ولا يعلمها، وذلك مما يقطعُ به كل من لهُ أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم، وفتاويهم، وهذا القدرُ لا يحتاجُ إلى دليلٍ أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث اللهُ به رسوله "اهـ (3/288ـ289).
مثال تطبيقي للقاعدة:
من الأمثلة العملية التي يكثرُ السؤال حولها: كشف المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب، وهذا المثال له حالان:
الحال الأولى: أن يكون من الخلاف غير السائغ، فيجب فيه الإنكار، وهذا إذا كان في الوجه زينة كالكحل، أو المكياج، أو نمص الحاجبين، أو كان في كشفه فتنة، أو كان الكشف أكثر من الوجه بكشفِ جزءً من مقدمة الرأس.
الحال الثانية: ألا يكون فيه زينة، ولا في كشفه فتنة، ولم يكن الكشفُ أكثر من الوجه، فهذه لا ينكر عليها باليد وإنما يكتفى بالنصح، فإذا رؤيت في الطريق فيقالُ لها: يجب على المؤمنة أن تغطي وجهها كما كان نساءُ الصحابة، وزوجات النبي' ونحو ذلك من العبارات المناسبة.
ومما ينبغي التنبيهُ عليه أيضاً من كانت من الحالة الثانية، ولكنها لم تلبس الجلباب، وإنما خرجت أمام الناس بالجاكيت والبنطال أو التنورة، فهذه يجبُ الإنكارُ عليها، لتركها لبس الجلباب الذي يسترُ ما دونه.
ـــــــــــــــ(2/318)
الشريعة الإسلامية وحدة في الأصول وتيسير في الفروع
أ. د. محمد بن أحمد الصالح
الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على أركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث خاتم النبيين - - صلى الله عليه وسلم - -، ونريد أن نقنع المسلم بأنه يعتنق أكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه ومثله ومقاييسه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع، كما نعمل على إقناع غير المسلم بهذا المعنى حتى لا يتصور الإسلام دعوة عصبية أو قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعرف أن ما جاء به الإسلام إنما هو برنامج عملي إصلاحي للبشرية كافة، قال - تعالى -: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107]، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وإذا كانت العبادات قد استقرت وأصبحت توقيفية لا يدخلها التبديل ولا التغيير، فإن أمور المعاملات قابلة للتجديد والتطوير، الذي يعتمد على الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على ركنين: اعتماد على الأصول، واتصال بالعصر، أما الاعتماد على الأصل فنحن نعتمد على الشرعية التي تقوم على الثوابت الكبرى، وهي حفظ الضروريات الست: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض وعلى القيم الأخلاقية.
وشريعة الإسلام قد اتسعت في كل عصر ومصر عبر آلية الاجتهاد والتجديد، ولهذا قال فقهاؤنا: إن الفتوى تتغير بتغيير الزمان والمكان والأحوال والأعراف، فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي الإمام أبي حنيفة قد خالفوا إمامهم في كم هائل من مسائل الفقه، وقالا: لو رأى إمامنا ما رأينا لغير رأيه بناء على ما طرأ من تغير الزمان والمكان وتطور في مسيرة الحياة.(2/319)
وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي أثر عنه المذهب القديم لما كان في العراق، ولما تحول إلى مصر دون مذهبه الجديد بناء على تغير الأحوال والأعراف، وهذا الإمام أحمد رضي الله عنهم جميعاً يؤثر عنه في المسألة أكثر من رواية، إما من باب التيسير أو الاعتماد على نص علمه.
إذن فأعمال الاجتهاد والتجديد ضرورة ملحة لاستيعاب قضايا العصر ومتطلبات الحياة، ومن خلال الثبات على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية مع المرونة في الوسائل ودقة الفهم وإدراك المصلحة.
والتغيير في الأحكام يعني: تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يندرج تحت قوله - تعالى -: "بسم الله الرحمن الرحيم الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون"، وقال - عليه الصلاة والسلام - (بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت).
وهذا يقتضي أن من يتصدى للفتوى في قضية الأحكام أن يكون لديه الأهلية في العلم والفهم والإدراك، قال - تعالى -: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" [الزمر: 9]، وقال - تعالى -: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، وقال - تعالى -: "شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [آل عمران: 18].(2/320)
ولكن ويا للأسف نعيش اليوم في عصرنا مع شباب حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام لم يأخذوا العلم عن الثقات ولا عن مصادر العلم الأصيلة، ولم يستمعوا لقول الله - تعالى -: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، كما أن هؤلاء لم يرجعوا إلى الراسخين في العلم، وإنما قرأوا جملة من الآيات أو جملة من الأحاديث ثم نصبوا أنفسهم للإفتاء بآراء شاذة ومنحرفة، فاخذوا يكفرون الأمة ويفسقونها ويجهلون العلماء ويسفهونهم ويخوضون في أعراضهم، ويسعى هؤلاء الشباب في تضليل الناس ووصفهم بالابتداع، ويصدرون من الفتاوى ما يؤدي إلى الفتنة والبلبلة والاضطراب، ويخوضون في القضايا الكبرى للأمة ومصالحها العليا، وهذا من الفتن العظيمة ومن الشر المستطير، فيجب على العلماء وأولي الأمر والرأي أن يتصدوا لهؤلاء ويبعدونهم عن الساحة، ليسلم الناس من هذا الهراء، ولا يتصدى للفتوى إلا الراسخون في العلم، ومن وهبهم الله فهماً دقيقاً وفقهاً عميقاً، ولهذا نرى أن الصيغة المثلى في علاج قضايا الأمة وحل مشكلاتها إنما تتحقق بالاجتهاد الجماعي الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها، والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته وتحدياته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع، فالاجتهاد الجماعي أقرب إلى السداد، وأبعد عن الخلاف في مثل هذه القضايا.
ونحن نعتز بديننا ونفاخر بتراثنا المستخلص من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - -.(2/321)
وإذن فلابد أن نستفيد من الماضي ونعيش الحاضر ونستشرف المستقبل، ونعمل على علاج قضايا الناس وحل مشكلاتهم، معتمدين على النص الشرعي مع الاستشارة بالعقل، والنظر في المصالح، والعمل على تكثيرها، والقضاء على المفاسد وتقليلها في كل مجالات الحياة، فالأمر بالمعروف هو من الصفات الخيرة في هذه الأمة، قال - تعالى -: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" [آل عمران: 110]، وقال - تعالى -: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" [آل عمران: 104].
ولكن لابد من الحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مجريات الأمور وما ينشأ عن هذا الأمر من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ولابد من الموازنة بين الخير والشر، وما يترتب على هذا التصرف من المآل والآثار، فليس كل منكر نراه نحمل عليه سيف التغيير والتبديل إلا بعد ما ننظر إلى ما يترتب عليه من أثر، فإذا كانت المفاسد المترتبة على التغيير أكثر فلا يجوز الإنكار، وإذا كانت المصالح أكبر وأرجح فلابد من الإنكار، فهذا يدركه أهل النظر والوعي وأهل الحكمة وأولي الأمر الذين يقدرون المفاسد ويدركون المصالح.
وهذا يتمثل فيما قاله الإمام سفيان الثوري - رحمه الله -: لا بد لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يتحقق فيه ثلاث: أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه.(2/322)
ولقد أثر عن الإمام الجليل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رضي الله عنه -، أنه مر مع أصحابه على أناس من التتار الذين غزو بلاد الشام وكانوا سكارى، فأراد من كان مع الإمام التغيير عليهم فنهاهم الإمام؛ لأن أمامه مفسدتان: مفسدة شرب الخمر، وهي منكر، غير أنها جريمة قاصرة، والمفسدة الثانية قتل المسلمين وإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم، ولهذا قال الإمام الجليل: دعوهم، إنما نهى الله عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء إنما تصدهم الخمر عن قتل المسلمين وإراقة دمائهم، ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من إراقة دم مسلم بغير حق.
ولقد أراد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بعد فتح مكة أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الخليل - عليه السلام -، فقال لعائشة: لولا أن قومك حدثا عهد بالكفر لهدمت الكعبة وأعدتها على قواعد إبراهيم - عليه السلام -، حيث يشمل الكعبة حجر إسماعيل، ويكون لها بابان على وجه الأرض.
ومما يؤيد فقه الموازنات والمقارنة بين التصرف وعدمه ما قاله الله - تعالى -: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" [الأنعام: 108]، فسب الأصنام أمر مباح ولكن لما كان يؤدي إلى التعرض للذات العلية صار أمراًً ممنوعاً.
ونحن أمة نعيش ضمن قرية كونية زالت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفي على أنفسنا أو نتقوقع على ذاتنا، حيث لابد من تبادل المنافع ورعاية المصالح ومد الجسور مع الآخرين والتفاعل الإيجابي من غير أن تذوب شخصيتنا وخصوصية حضارتنا من غير انطواء أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وممن جاء بها.(2/323)
والحضارات تتقاسم أقدار من القيم، ولهذا لابد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا، فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة، وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم، واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة، ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوربا كفرنسا وغيرها، ولهذا حدث التفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم من اليونان والروم وفارس.
فأمة الإسلام وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث فيه عن شراكة إنسانية يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد الذي يقوم على الأخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل، ولقد قال الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - لواليه على مصر (الناس صنفان أما أخ لك في الإسلام وأما نظير لك في الخلق أخوك في الإنسانية يفرط منه الخطأ والزلل وتغلب عليهم العلل ويؤتي على أيديهم من العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثلما تحب أن يعطيك الله من العفو والصفح، فإنك فوقهم ووالي الأمر فوقك والله فوق من ولاك".
إذن فهذه قاعدة التفاعل الحضاري نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين وإنما نلتزم العدل، كما قال - تعالى -: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" [الأنعام: 152] وقال - تعالى -: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" [المائدة: 8]، وقال - تعالى -: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة: 8].(2/324)
ونحن نحتاج إلى معرفة الخلاف فالله وحَّد الأمة على مصدر الكتاب الذي هو القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويقوم توحيد الأمة واجتماع كلمتها على ما صح من سنة المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - - وعلى وحدة القبلة وعلى وحدة المصير والجزاء المشترك، ولقد كان من رحمة الله أن يجري الخلاف في الأمة في فروع الشريعة، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ونزل على سبعة أحرف، تيسيراً على الناس ومراعاة للهجاتهم واختلاف ألسنتهم، واشتمل القرآن على العام والخاص، وعلى المطلق والمقيَّد، والمجمل والمفصل، والمبهم والمبين، والناسخ والمنسوخ، وفيه الحقيقة والمجاز على أن القرآن لم تنزل آياته كلها محكمة بل فيها المحكم والمتشابه، قال - تعالى -: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب" [آل عمران: 7].
فالمتشابهات هي التي تحتمل أكثر من وجه في التفسير، وهذا يعني أن الوحدة التي ندعو أمتنا إليها هي وحدة في الأصول وحدة في المقاصد، وحدة في الكليات، وحدة في المصالح، وإن وقع اختلاف في الفروع فهذا لا ينبغي أن يؤدي إلى الهجر والقطيعة أو تدابر أو تشاحن، إنما ينبغي أن يؤدي إلى الرحمة.
فلا ريب أن في الاختلاف في الفروع سعة ورحمة، وقد قال بهذا الصدد أحد الفقهاء السبعة وهو القاسم بن محمد: ما يسرني أن يتَّفق أصحاب رسول الله لأنهم لو اتفقوا صار في هذا ضيق وحرج وفي اختلافهم يسر وسعة ورحمة.(2/325)
والإمام محمد بن إدريس الشافعي تلقى علومه عن الإمام مالك بن أنس وقد اختلف التلميذ مع أستاذه ولكن الشافعي يحمل الود والإجلال والاحترام والتقدير للإمام مالك ويقول: ما تحت أديم السماء أعلم من الإمام مالك، ولا أصح بعد القرآن الكريم من كتاب الموطأ، ويقول: إذا ذكر العلماء فالإمام مالك النجم بينهم، ويقول: مالك حجة الله على خلقه، وكان الإمام مالك يرعى تلميذه الشافعي، ويقول له يا شافعي أرى أن الله قد ألقى عليك نور العلم فلا تطفئه بظلمة المعاصي ولما رحل الإمام الشافعي إلى بغداد تتلمذ على يده الإمام أحمد بن حنبل وقد جرى خلاف بين هذين الإمامين الجليلين في مسائل عدة، ولكن انظر إلى أدب الخلاف الذي نحتاج إليه بين أهل العلم، قال الإمام أحمد: لولده عبد الله منذ ثلاثين عاماً وأنا أدعو للإمام الشافعي فقال الابن لأبيه: لقد سمعتك تدعو للشافعي كثيراً، فمن هو هذا الشافعي؟ فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، وبالمقابل فإن الإمام الشافعي لما رحل إلى مصر قال: ما تركت في بغداد أعلم ولا أورع ولا أهدى من أحمد بن حنبل، ثم قال:
قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت المكارم لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله *** فالفضل في الحالين له
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ(2/326)
قواعد في التعامل مع المخالف
د. هاني بن عبد الله الجبير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - - صلى الله عليه وسلم - - تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن رباط القرابة والنسب على متانته وقوّته، وعلى ما يترتب عليه من واجبات وحقوق لهو أضعف من رباط الإيمان بين أهله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71) فالمؤمن ينظر للمؤمن نظراته لأخيه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)
ويوضح نبينا - عليه الصلاة والسلام - حال أهل الإيمان فيشبههم بالجسد الواحد: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمّى والسَّهَر). متفق عليه.
وترجمة ذلك موجود في أفعال سلف الأمة، فقد نقل أن الرجل منهم إذا رأى أخاه يبكي بكى لبكائه ثم يسأله بعد ذلك عما أبكاه. يقول حذيفه العدوى: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيتة فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه، آه. فأشار إلىَّ ابن عمي: أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه، آه، فأشار هشام أن أنطلق إليه، فجئت فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.(2/327)
والأخوة الإيمانية جزء أصيل من عقيدة الإيمان، ورتبة عالية من رتب الإسلام؛ ولذا كان جزاء هذه المحبة في الدنيا حلاوة يجدها المؤمن في قلبه تفوق كل لذة، وفي الآخرة يدخله الرحمن ظلاً ظليلاً. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: (إن الله - تعالى -يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) أخرجه مسلم. قال ابن تيميه: (جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم - سبحانه - بالائتلاف و نهاهم عن الافتراق والاختلاف، فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله - تعالى -) مجموع الفتاوى 3/419.
ومن تأمل أحكام الشرع وجد مظاهر كثيرة تؤكد على أهمية الاتفاق والاجتماع، وتقضي على الفرقة والشتات فجمعت الناس في أنساكهم وصيامهم وصلاتهم أن يشرعوا فيها في وقت واحد ويختموها في وقت واحد وشرع الاصطفاف للصلاة والتواص، ونهى عن تفويت الجماعة في الصلوات إلى مظاهر من تأملها وتشبع بها انقادت تطبيقاته لمسائل الاجتهاد على هذا النحو وقد اختار الشافعي - رحمه الله - أن من فاتته الصلاة في مسجد له إمام راتب أن يصلي منفرداً أو لايصلي في المسجد جماعة ثانية لما فيها من تفرق الكلمة والاختلاف. الأم 1/136.(2/328)
قال الشيخ أحمد شاكر معلقاً على ذلك: والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ينبئ عن نظر ثاقب وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام وأجلّه وأخطره: توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم على غاية واحدة: هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية...وهذا الشيء لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين والغوص على درره والسمو إلى مداركه) تعليق على سنن الترمذي 1/431.
الدعوة للاتفاق ليست إلغاء للخلاف:(2/329)
فالافتراق وصف مذموم في الشرع قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159)وقد نهى الله - تعالى -عنه نهياً مطلقاً كما قال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: من الآية 103))وقال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: من الآية 13) أما الاختلاف فإنه قد يكون رحمة، وأهله معذورون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرٍ عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الاختلاف فقال أحمد: سَمّه كتاب السَّعَة، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه.، لما في ظهوره من الشدة عليه) مجموع الفتاوى 14/159. وقد وقع الخلاف بين السابقين من أفضل قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين ولم يوجب افتراقاً، ولذا لم يكن مذموماً ونقل الشاطبي جملة مما اختلف فيه أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مما هو من محالّ الاجتهاد ثم قال: (وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع ذلك أهل مودة وتناصح وأخوه الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، وظهرت العداوات وتحزب أهلها، فصاروا شيعاً، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه) الاعتصام 2/231.(2/330)
وضابط التفرق أنه: تشتتت الشمل والكلمة. وهو بهذا يشل حركة المجتمع ويضعف المسلمين، ويمكن أعدائهم منهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها... وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا أصلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب) مجموع الفتاوى 3/421. أما الخلاف فإنه لا يذم متى كان في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد وإبداء الرأي وهو مالا يعارض قاطعاً من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. سواء من مسائل العلم أو أوضاع الدعوة وأحوال العمل.
مع أن نبذا التفرق حتى ولو كان على خلاف سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وارد إذا كن لقائله نوع تأويل كما حصل لابن مسعود - رضي الله عنه - لما أتم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الصلاة بمنى أربع ركعات خلافاً لما كان عليه رسول الله ل وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فاسترجع ابن مسعود وقال: صليت مع رسول الله بأبي بكر وعمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ثم صلى أربعاً فقبل له: عتبت على عثمان ثم صليت مع أربعاً، فقال: الخلاف شر. أخرجه البخاري مختصراً وهذا اللفظ لأبي داوود في سننه بسند صحيح، رقم 1960.
ويلخص ابن القيم المعنى الذي نريده بقوله: (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتخرب، وكل من المختلفين قده طاعة الله ورسوله، لم يقر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية.(2/331)
ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكن يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يفر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي رنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة). الصواعق المرسلة 2/519
وسائل تؤدي للاتفاق:
ولتحصيل اجتماع الكلمة ووحدة الصف والاتفاق وسائل يمكن استلهامها من النصوص الشرعية والأقوال السلفية منها:
أولاً / الإنصاف مع المخالف:
فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغي أو هوى كما قال - تعالى -: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) (آل عمران: 19).
والله - تعالى -مع أمه بعدم موالاة الكفار قال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة: 8). قال ابن تيمية: (وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمور به، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم) (منهاج السنة النبوية 5/127).
وإذا أنصف الإنسان حمله إنصافه على أن يعرف قدر الخطأ، فلا يعطيه أكبر من حقه، كما لا ينسى سابقة قائله، وظروفه التي حملته على فعله، ولا يغيبن عنك فعل حاطب بن أبي بلتعة وكيف أن عقوبته منع من ترتبها عليه مشهده العظيم يوم بدر، قال ابن القيم: (من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ويعفى عنه ما لا يعفى من غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين وكما قيل:(2/332)
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد***جاءت محاسنه بألف شيع) (مفتاح دار السعادة 1/177)
وكذلك قد يكون العالم أو الداعية أو الأمير غير قائم بشيء من أحكام الشرع لعذر، فمن أنصف عذره، وقد ضرب ابن تيمية أمثلة لهذا فذكر النجاشي وأنه لم يعمل بكثير من شرائع الإسلام كالهجرة والجهاد والحج، كما أنه لم يحكم قومه بالقرآن لعدم استطاعته وذكر مزمن آل فرعون ويوسف الصديق - عليه السلام - مع أهل مصر، ثم قال: (وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكن ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (الفتاوى 19/218).
ومن أراد أن يتصور كيفية مراعاة الحال فليتأمل حديث الذي فقد دابته وهو في صحراء، فلما أيقن بالهلاك وجدها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح(متفق عليه). فلم يؤاخذ مراعاة للظرف الذي ألمّ به حال تكلمه.
ثانياً / مراعاة المصالح والمفاسد:
إن من قواعد الشريعة تحمل أدنى المفسد يكن لدرء أعلاهما، وقد كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يرى بمكة أكبر المنكرات وأكبر الأصنام ولا يغيرها وترك المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.(2/333)
والتعامل مع كل من مخالف منوط بهذه القاعدة، فلا يسوغ الرد عليه إذا ترتب على ذلك مفسدة أكبر. وقد نهى الله - تعالى -عن سب آلهة المشركين لما ترتب على ذلك مفسدة أعظم من ملحة سبها، قال - تعالى -: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام: 108). قال ابن القيم: (إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله) (أعلام الموقعين 3/4). وفي امتناع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - عن هدم الكعبة شاهد ظاهر لهذا.
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: (إذا لم يحصل النور لصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقى الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية) (الفتاوى 10/364). ولا يمكن تبين المالح والفاسد وحقائقها إلا لمشارك في الحال، أما الناظر من بعيد فإنه لا يتصور ذلك على وجهه.
ومراعاة المصالح والمفاسد يتضمن ملاحظة الوقت الذي يعيشه الإنسان، وهل سيتعلق بكلامه أهل الفساد ليكون ذريعة لمآرب سيئة وهل سيُفهم على وجهه أم لا. وذلك كله مبني على قاعدة كبرى، وهي أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها وإنما قصدت المصالح المترتبة عليها(انظر المواقعات 2/385).
ثالثاً / معرفة لغة المتكلم وحقيقة رأيه:
فإذا جهل الإنسان حقيقة قول المتكلم ومقصده من اصطلاحاته حمله غير مقصوده، ولذا قال ابن تيمية: (وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم) (الفتاوى 6/303).(2/334)
وقال السبكي: (كثيراً ما رأيت من يسمع لفظةً فيفهمها على غير وجهها فيغير على الكاتب والمؤلف ومن عاشره واستن بسنته.. مع أن المؤلف لم يرد ذلك على الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل) (قاعدة في الجرح والتعديل 93).
ولما ذكر العلماء القوادم في باب القياس جعلوا منها استعمال اللفظ الغامض وطالبوا المتكلم بإظهار المراد منه ليمكن إبطاله أو التسليم به.
لعل من هذا الباب ما نُقل أن الإمام أحمد قال: ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا.
وقد طبق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الضابط لما تناول قول الجنيد: التوحيد إفراد القدم من الحديث... فقال: (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسناً وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة... وهذا حق صحيح وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه). (الاستقامة 1 / 92).
رابعاً: التثبت:
فالاستعجال في إصدار الأحكام تصرف يوقع صاحبه للزلل والخطأ، ولذا جاء الشرع بالأمر بالتثبت والتبيّن كما قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء: من الآية 94)والمراد بالتبيّن: التعرّف والتبصر والأناة وعدم العجلة حتى يتضح الأمر ويظهر، وهذا يحصل في النقل والمنقول. فأما النقل فبالتحقق من صدق الناقل وسلامته ولذا قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: (بئس مطية الرجل زعموا). (سنن أبي داود 4972؛ مسند أحمد 4 / 119؛ بسند صحيح).(2/335)
قال الخطابي: (إنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم - - صلى الله عليه وسلم - - من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة). (معالم السنن 4 / 130) ولعلماء الرواية تقدير رائق في عدم قبول رواية المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل كقول بعضهم حدثني الثقة أو من لا أتهم. (انظر تدريب الراوي 205)..
ولذا قال ابن تيمية: (من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمّ القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب). (منهاج السنة 2 / 413)..
وأما المنقول فلا بد أن يتثبت الناقد أن المنقول لا وجه له في الصحّة يقتضي قبوله وهذا ما سبق في فهم كلام المتكلم وحقيقة مراده.
خامساً: التخلص من سلطة الأتباع:
فعصا الأتباع مرفوعة على متبوعهم كلما خالف رغبتهم، أو عدل عن تقرير أبواه، أو فتوى أخذ بها، والمتبوع يخشى منهم الإنكار عليه والانفضاض من حوله والتشنيع عليه، وهذه العصا تصد المتبوعين عن التآلف مع من سبق أن كان بينهم نوع خلاف والله المستعان.
سادساً لزوم آداب الشرع:
فإن في سلوك الأدب تخلصاً من آثار الخلاف السيئة ومنعاً لتضخمها وهذه الآداب كثيرة، منها:
1- إحسان الظن بالمخالف فقد أمرنا الله بذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(سور ة الحجرات آية 12)، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً). (الدر المنثور للسيوطي 6 / 99).
2-ومنها الخضوع للحق ولو نطق به الخصم كما قال الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته. (قواعد الأحكام 2 / 176).(2/336)
وشاهد هذا من المأثور قبول أبي هريرة لخبر الشيطان الكذوب وما روى النسائي أن حبراً قال للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون والكعبة فأمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة.
3-الستر على المخطي فقد حث النبي - - صلى الله عليه وسلم - - على الستر فقال: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه. ومن هذا أن يبين الخطأ دون التعرض لشخص المخطئ وهذا نهج أثري منقول في قول المصطفى في كثير من الأحوال، ما بال أقوام.
سابعاً: البحث في وسائل لتجاوز الافتراق:
فإذا الاتفاق عمل وليس قول ومن اجتهد لبلوغه مع حسن القصد تيسر له أمره، كما قال - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69)، وهذه وسائل مقترحة يمكن بتفعيلها تجاوز الفرقة، منها: إيجاد مرجعية تحكم في الخلاف وتفصل فيه ولابد لهذه المرجعية أن تكون سليمة الماضي، نظيفة السجلات حتى تكسب الاحترام والقبول.
وكذلك كثرة اللقاءات بين الأطياف المختلفة لتفعيل الود وكسر الحواجز المصطنعة بينهم بالمؤتمرات والندوات والحوارات والزيارات ونحوها.
ومنها: نشر الكلام عن أدب الخلاف وطريقة التعامل مع المخالف سواء عبر الكتابات والمشافهات، أو من خلال وسائل الإعلام، أو طريقة عملية في تربية النشئ في محاضن الدعوة والتعليم.
****
وبعد، فما سبق ملامح يسيرة وحول بعض الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع الواسع ولكم تمنيت أن اتسع الوقت وطال المجال ليربي الإنسان في مقولة ويزيد منقوله. ونحن إذ نتناول هذا الموضوع لنرى ما تعانيه الأمة من فرقة واختلاف بين أطيافها فهذا عرض لها أن تنبذ فرقتها في هذا الوقت العصيب، فهل هي واعية لما يراد لها جميعاً، أم ستقول حين يعدى عليها: أكلت يوم أكل الثور الأحمر؟.
ـــــــــــــــ(2/337)
وإذا قلتم فاعدلوا
عبد العزيز بن ناصر السعد
أهمية الموضوع : إن أهمية هذا الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق وجامع الكلمة، والمؤلف بين القلوب، لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد هو الظلم والاعتداء وفقدان العدل والإنصاف.
ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية ستزول وتحل بإذن الله.
وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء إما الجهل وإما الظلم، فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط.
ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً، فتراه يقول: (الإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه، ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته، وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل؛ وإلا كان منه من الجهل والظلم ما يخرج به من الصراط المستقيم، وقد قال - تعالى -لنبيه - - صلى الله عليه وسلم - - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: (إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) إلى قوله - تعالى - (ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)، فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريباً منها فكيف حال غيره) أهـ [1].(2/345)
ويقول - رحمه الله -: (والعدل هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها، فصلاح القلب بالعدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم والمظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر، قال - تعالى -: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
إلى أن قال في نفس الجزء ص 99: (مع أن الاعتدال المحض السالم من الإخلاص لا سبيل إليه، لكن الأمثل فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والإعراض والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل.
ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريق السلفية: الطريقة المثلى.
وقال - تعالى -: (ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ) [الأنعام 152] وقال - تعالى -: (وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا)، والله - تعالى -أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط.
وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس.
اهـ [2].
وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بين أهمية العدل، وأنه أساس النجاة في الدنيا والآخرة، وقد قسمه حسب الأهمية إلى أعظم العدل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس، ثم العدل على النفس وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في ثنايا هذا البحث.(2/346)
وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - تعالى- أيضاً أهمية العدل مع الخصوم والمفارقين لأهل السنة حيث يقول: (وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، ولا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأً يعذره فيه الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - عذروه.. إلى أن قال: والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي- - صلى الله عليه وسلم - -: (القضاة ثلاثة. قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة)، وقد حرم - سبحانه وتعالى - الكلام بلا علم مطلقاً، وخص القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال - تعالى -: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) وقال - تعالى -: (قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وأمر بالعدل على أعداء المسلمين فقال - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [3].(2/347)
إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول والعمل وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل بالعلم والتفقه في دين الله - عز وجل -، وبأن يتغلب على صفة الظلم بالعدل والإنصاف، ومع ذلك - كما أشار شيخ الإسلام - فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ولا أن ينفك عن الجهل كله، وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه، وهذا هو ما يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب حيث ذكر الله - عز وجل - لنا صنفين من الناس: الصنف الأول: المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل، والعدل المنافي للظلم، فاستحقوا من الله - عز وجل - أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا تحقيقه من العلم والعدل.
الصنف الثانى: أولئك المشركون المنافقون الذين أعرضوا عن دين الله - عز وجل - فلم يتعلموه، وأعرضوا عن العدل والقسط فأركسوا في ظلمات الجهل والظلم، ووقعوا في الشرك والنفاق فاستحقوا العذاب الأليم.
يقول الله - تعالى -: (إنَّاعَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [سورة الأحزاب: 72 - 73].
نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم تقصيرهم.
تعريف العدل ومنزلته في الكتاب والسنة: قال في لسان العرب: العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور.
عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً، وهو عادل من قوم عدول..
وفي أسماء الله الحسنى (العدل) وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم.(2/348)
والعدل: الحكم بالحق.
وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه: إن العدل على أربع أنحاء: العدل في الحكم، قال الله - تعالى -: (وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ)، والعدل في القول؛ قال - تعالى -: (وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، والعدل في الفدية؛ قال - تعالى -: (لا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ)، والعدل في الإشراك؛ قال - تعالى -: ?(ثُمَّ الَذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، أي: يشركون.
وفلان يعدل فلاناً: أي يساويه، وعدّل الموازين والمكاييل: ساواها، وتعديل الشيء: تقويمه، والاعتدال: توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم: جسم معتدل، من الطول والقصر، وجو معتدل، من الحر والبرد.. الخ، والمعادلة. الشك في أمرين، يقال: أنا في عدال في هذا الأمر، أي: في شك منه أأمضي عليه أم أتركه. أهـ (باختصار).
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل والحث عليه والتحذير من ضده كثيرة جداً لكننا نقتصر على بعضها مع نقل أقوال علماء التفسير والحديث حولها.
الآيات الواردة في ذلك: الآية الأولى: يقول الله - عز وجل - في سورة آل عمران: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [ال عمران 18].
* يعلق شيخ الإسلام على قوله - تعالى -(قَائِماً بِالْقِسْطِ) ج 14 ص 179بقوله: (فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيماً، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل)[4].(2/349)
* ويعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية في ظلال القرآن المجلد الأول ص 55 بقوله: (وتدبير الله - عز وجل - لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل، فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر..لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس وبينه في كتابه وإلا فلا عدل ولا قسط ولا استقامة ولا تناسق ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والصراع). إلى أن قال - رحمه الله - في الصفحة نفسها (وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور.
ظلم الفرد للجماعة، أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة أو جيل لجيل.
وعدل الله - عز وجل - وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). اهـ [5].
الآية الثانية: قوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [سورة النساء: 135].(2/350)
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يأمر - تعالى -عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين، يقول: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) كما قال - تعالى -: (وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)، أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال: (ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)، أي: اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله: (أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ)، أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
وقوله: (إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)، أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله: (فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا)، أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان كما قال - تعالى -: (ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض) اهـ [6].(2/351)
ويعلق سيد قطب (549/2) على الآية نفسها بقوله: (إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال.
القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، من المسلمين وغير المسلمين، وفى هذا الحق يتساوى عند الله - عز وجل - المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء، والأغنياء و الفقراء.. والمنهج الرباني يجند النفس في وجه ذاتها وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً (ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً، وهي محاولة شاقة أشق بكثير من نطقها باللسان...) إلى أن قال: (ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية..
أو الاجتماعية حين يكون المقصود له أو عليه فقيراً تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية، وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده..
الآية الثالثة: قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [سورة المائدة: 8].(2/352)
يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية بقوله: (لقد نهى الله - عز وجل - الذين آمنوا قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام على الاعتداء، وكانت هذه قمة ضبط النفس والسماحة، يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم، وهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق، فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوز إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض..
) إلى أن قال - رحمه الله تعالى -: (إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله - عز وجل - حين تقوم لله متجردة عن كل ما عداه، وحين تستشعر تقواه وتحسُّ أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور) اهـ باختصار [7].
الآية الرابعة: قوله - تعالى -: (وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152].
يعلق سيد قطب - رحمه الله - على هذه الآية فيقول: (وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداءً - إلى مستوى سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري، الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل والامتداد، بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل وفى قوة القرابة سند لضعفه وفى سعة رقعتها كمال لوجوده، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده، ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم وبين الناس، وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، إكتفاءً به من مناجزة ذوي القربى وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد) اهـ [8].(2/353)
أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً نقتصر على بعضها: الحديث الأول: ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أنه قال: (نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ فقال: لا.
فقال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، وقال: إني لا أشهد على جور.
قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة [9] الحديث الثاني: روى البخاري عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (كل سُلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة) [10].
الحديث الثالث: ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (بايعنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على السمع والطاعة في: العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم) وزاد النسائى: (وعلى أن نقول بالعدل أين كنا) [11].
الحديث الرابع: روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا) [12].(2/354)
الحديث الخامس: روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) [13].
أقسام العدل: ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية: 1-أعظم العدل: وهو توحيد الله - عز وجل - لا شريك له، وهو الحق الذي قامت به السموات والأرض، ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله - عز وجل -: (ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان: 38 - 39].
وقال - تعالى -: (مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف: 3].
ويقابل هذا القسم من العدل: أعظم الظلم، وهو الإشراك بالله - عز وجل -، والكفر به، حيث قال الله - عز وجل -: (وإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
ومثله قول الله - تعالى -: (الَذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
وقوله - تعالى -: (والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة البقرة: 254].(2/355)
2 -العدل مع النفس: ويدخل في هذا العدل: قيامه بالأمانة التي كلفه الله - عز وجل - بها، وذلك فيما بين العبد وربه من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط، ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما حرم الله - عز وجل - مما هو دون الشرك -، أو تركه ما أمر الله - عز وجل - مما يتعلق به نفسه، ولا يتعدى إلى غيره، وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم؛ حيث إن صاحبه قد يتوب منه فيتوب الله عليه، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة، بينما الظلم العظيم - وهو الشرك بالله - لو مات عليه فلن يغفر الله له، كما قال - تعالى -: (إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) [النساء: 48].
وهو أخف من ظلم العباد؛ لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها واستباحتهم منها.
3-العدل مع العباد: وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا البحث، والقسمان السابقان ليس هنا موضع تفصيلهما، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض، سواء في القول أو الفعل، وسنذكر في هذا القسم - إن شاء الله - بعض مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعيّ الذي ينبغي سلوكه حيال هذه المواقف.
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين حول (منزلة الخلق).
يقول - رحمه الله -: (وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، العفة، الشجاعة، العدل.
فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.(2/356)
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من: الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم.
فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش.
كما قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)، وهو حقيقة الشجاعة، وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس.
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن.
والكمال نقصاً والنقص كمالاً.
والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة.
تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنَّهمة والجشع، والذل والدناءات كلها.
والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد، والعدوان والسَفَه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة.
وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة فيتولد في إفراطها في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف الأمور والأخلاق.(2/357)
ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة، والفحش والطيش.
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غيَّة كثيرون.
فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً.
فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القويّ، جريء على الضعيف.
فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضاً، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضاً.
وكل خلق محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما.
وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا: البخل والتبذير.
التواضع: الذي يكتنفه خلقا: الذل والمهانة والكبر والعلو [14].
-----------------------------------
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 14/38.
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه 10/98.
(3) المصدر السابق، 16/96.
(4) مجموع الفتاوى 55/1، 4 ا/ 179.
(5) في ظلال القرآن 1/55 ط دار المعرفة اللبنانية.
(6) - تفسير ابن كثير 2/214 ط دار الفكر.
(7) في ظلال القرآن 6 / 667.
(8) في ظلال القرآن 8/426.
(9) فتح الباري ج ه، رقم الحديث 2587، ط السلفية.
(10) المصدر السابق، رقم الحديث 2707.
(11) صحيح البخاري 13/167 باب كيف يبايع الناس، النسائي 7/37 في البيعة على السمع والطاعة.
(12) مسلم 2827 (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل.
(13) سنن النسائي، شرح السيوطي وحاشية السندي 3/55 باب الدعاء بعد الذكر، ط دار إحياء التراث.
(14) ج 2، ص 308 من مدارج السالكين تحقيق محمد حامد الفقي، ط دار الكتاب العربي.
ـــــــــــــــ(2/358)
هوى الخلاف أم خلاف الهوى؟
الخلاف سنة بشرية يعكس في حقيقته اختلاف الطبائع والنفسيات وتفاوت المدارك والتصورات؛ ومع ذلك فإن التعامل مع السنَّة البشرية يجب أن يكون بعيدًا عن التسليم المطلق أو المواجهة المطلقة؛ فالنفس مجبولة على خصال من الشر، كما أنها مجبولة على خصال من الخير.
والتسليم بهذه الحقيقة غير التسليم لها؛ فالتسليم لهذه الخصال بدعوى الواقعية مهلك ولا شك، كما أن إنكارها والتعالي على فهمها في اتجاهات الآخرين وتسويغ فعالهم هو جنوح إلى عالم الخيال أو المثال.
ويبقى بعد هذا وذاك أن المسؤولية الشرعية تقع على ما يملكه الإنسان من التجرد لله من شوائب الهوى، وحظوظ النفس، لا على ما لا يملكه من طبيعة التنشئة واختلاف المدارك، وفرق كبير بين الآمرين.
نعمة أم نقمة؟
الخلاف رحمة باعتبار، وبلاء ونقمة باعتبارات أخرى، ويبقى وجود الهوى أو عدمه العامل الأساس لقلبه من الرحمة إلى النقمة أو العكس؛ فانتفاء الهوى حتى مع بقاء الخلاف يلقي بظلال الود ويزيح معاني التطرف في التعامل مع المخالف، ويبقى الأمر في أشد الظروف في دائرة: "إخواننا بغوا علينا" كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
والمتأمل في ساحة العمل الإسلامي يلاحظ بوضوح أن بلايا الخلاف الواقع ورزاياه في أحوال كثيرة ليست في ذات الخلاف الناشئ عن اختلاف المدارك والتصورات والخلفيات بقدر ما هي في شطحات الهوى المصاحبة لهذا الخلاف التي تخرج به عن دائرة العقل والدين!
إن جمع الأمة على عقل واحد يبقى أمنية مغرقة في الخيال، ولكن جمع الأمة على أدبيات واحدة يبقى غاية لابد من أن تنال بإذن الله - تعالى -.
والواقع المؤسف أن خلطًا واسعًا يجري بين الخلاف الذي تبقى ساحته هي الآراء والأفكار، بل والتطبيقات الفرعية القابلة للاجتهاد، وبين الاختلاف الذي لا يقتات إلا صفاء القلوب، وسلامة الصدور، وطهارة الألسن.(2/359)
فالخطاب الإسلامي يجب أن يتوجه من نبذ الخلاف إلى نبذ الهوى في الخلاف أو خلاف الهوى، وهذا بدوره سوف يؤدي إلى توسيع دائرة المتفق عليه على حساب دائرة المختلف فيه، ثم بعد هذا يبقى أن هناك فرقًا بين الخلاف في الآراء والخلاف في الأداء.
فليس كل خلاف في التنظير يجب أن يتحول إلى خلاف في التطبيق؛ فساحة التنظير أوسع من ساحة التطبيق، ومرونة الآراء أرحب من مرونة الأداء، وتبقى قضايا التنوع والراجح والمرجوح والفاضل والمفضول، والحسن والأحسن، أيسر من أن تترجم إلى مفاصلة عملية بين حدين متضادين! فالتطاوع في الأعمال لا يعني التطابق في الأذهان، وإلا لما نِيلَ التطاوع وإن طال الزمان.
وعلى كل حال فستبقى هناك ثوابت لا تقبل التطاوع؛ لأن التطاوع فيها نوع من التنازل والتراجع، وليست المشكلة في خفاء هذا بقدر ما هي في التباس الثوابت بالمتغيرات؛ فالشريحة الكبرى من الصحوة لا تعاني من التنازل عن ثوابتها، بحجم المعاناة من المفاصلة على أمور ليست من الثوابت أو كبريات القضايا في شيء وفي كلٍّ شر.
ويبقى الجهل والهوى هو المحضن الخبيث لتفريخ بيض الخلاف في الأقوال اعتدادًا وغرورًا وخوضًا في الأعراض وتماديًا في الإعراض، وفي الأعمال هجرًا وصدودًا وإيقافًا لعجلة الخير، ودفعًا لعجلة الشر.
وأخيرًا فإن أحادية التفكير وتسطيح الأمور وإرجاع القضايا إلى بُعْدٍ واحد أمر مرفوض ولا شك؛ ولكن يبقى أن في الأمور تباينًا، ولكل أمر ثقله، ولكل رأسٍ أُسّه.
10/03/2005
ـــــــــــــــ(2/360)
الخلاف بين العلماء - أسبابه وموقفنا منه
للشيخ محمد بن صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليماً.
{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}، أما بعد:
فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض: لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثّها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لاسيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت ـ وبالله أستعين ـ أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.(2/361)
إن من نعمة الله- تبارك وتعالى -على هذه الأُمَّة أن الخلاف بينها لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصيلة، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون..وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - أن الله - تعالى -بعث محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - بالهدى ودين الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قد بيَّن هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله - عز وجل -، ورسول الله بُعِثَ بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده صلوات الله وسلامه عليه يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبيِّن لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيِّناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: «يسألونك عن كذا»، فيجيب الله - تعالى -نبيّه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس.قال الله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
{وَيَسَْلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.(2/362)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ}. إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - اختلفت الأُمَّة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبيِّن إن شاء الله بعض أسبابه. ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دلَّ عليه كتاب الله وسُنَّة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - عن عمد وقصد؛ لأن من اتَّصفوا بالعلم والديانة فلا بد أن يكون رائدهم الحق، ومَن كان رائده الحق فإن الله سييسِّره له. واستمعوا إلى قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}.(2/363)
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله تبارك وتعالى، لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابدَّ أن يكون؛ لأن الإنسان كما وصفه الله - تعالى -بقوله: {وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً}.
الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابدَّ أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور، ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة، مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول: أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم. ونضرب مثالين وَقَعَا للصحابة من هذا النوع.
الأول: فإننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة - رضي الله عنهم -، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.(2/364)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر... أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل، لأن الله - تعالى -يقول: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ويقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس - رضي الله عنهما -، ولكن السُّنَّة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج»، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمَّى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله - تعالى -: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.(2/365)
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فأخبرها النبي: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً؛ لقوله - تعالى -: {وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
عمر - رضي الله عنه - ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماً ـ خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل. وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها، نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -.(2/366)
السبب الثالث: أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجلَّ من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية، رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - «صلَّى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً»، وكان معه أُبي بن كعب - رضي الله عنه -، فلمَّا انصرف من صلاته قال: «هلا كنت ذَكَّرتنيها» وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}.(2/367)
ومن هذا ـ أي مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - حينما أرسلهما رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر. أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر - رضي الله عنه - فلم يصل.. ثم أتيا إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ـ وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. وكان عمار - رضي الله عنه - يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: «إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا». ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك أن لا أُحدِّث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدِّث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وحصل بينه وبين أبي موسى - رضي الله عنهما - مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ ـ يعني آية المائدة ـ فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي،(2/368)
فيقول قولاً يكون به معذوراً لكن مَن علِم الدليل فليس بمعذور. هذان سببان.
السبب الرابع: أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
1 ـ من القرآن، قوله - تعالى -: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً... } اختلف العلماء - رحمهم الله - في معنى: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجِماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وإذا تأمَّلت الآية وجدت أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع، لأن الله- تبارك وتعالى -ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}. أما الأكبر فقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ... } الآية.(2/369)
وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضاً موجبا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله - تعالى -: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.. ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذِكْر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر. وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مسَّ إنسان ذكرٌ بشرةَ الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
2 ـ من السُّنَّة: لمَّا رجع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أصحابه بالخروج وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» الحديث، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.
ومنهم مَن فهم: أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نصٌ مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم.. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.(2/370)
السبب الخامس: أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه، فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
ومن هذا رأى ابن مسعود - رضي الله عنه -.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نُسخ ذلك، وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه - رضي الله عنه - نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه.. قال - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ}.
السبب السادس: أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع. بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.(2/371)
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل، لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظنَّ أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس - رضي الله عنهما - في رِبا الفضل..
ثبت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال: «إنما الربا في النسيئة»، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: «أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة».
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد، فإنه عند ابن عباس لا بأس به، لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط.
«وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد» فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخَّرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا.. لأن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دلَّ عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -: «مَن زاد أو استزاد فقد أربى».(2/372)
إذاً ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدلَّ به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي وَرَدَ فيه قوله - تعالى -: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً}. إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيّم في كتابه «إعلام الموقعين» إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع: أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. وهذا كثير جداً، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويُسَبِّح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع.
ويرى آخرون أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد وقال: إنها لا تصح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - -، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة مَن تأمَّلها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع، إذ إن العبادة إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن مَن قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.(2/373)
وإنما مثَّلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس لأننا نعتقد أن كل مَن دان لله - سبحانه - مما ليس في كتاب الله أو سُنَّة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً مَن يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه».. فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أمّ الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أُخرج منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء مَن فهم أن المراد به ـ أي بالحديث ـ أن ذكاة الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُل». ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة، وبحر لا ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع: أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون مَن نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد
وحينئذٍ نقول: موقفنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا مَن هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله، لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.. ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:(2/374)
1 ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحِّراً في العلم.
2 ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب، أم يتبع ما ترجَّح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لِمَا ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟
الجواب هو الثاني، فالواجب على مَن علِم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف مَن خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترَك سوى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر، لأننا لا نزال في دوامة مَن الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة، لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها. وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل هو جيد؛ أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسُنَّة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل مَن عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع. والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ عالِم رزقه الله عِلماً وفهماً.
2 ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحِّر.
3 ـ عامي لا يدري شيئاً.(2/375)
أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه مَن خالفه من الناس، لأنه مأمور بذلك. قال - تعالى -: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك، وألا يقصِّر عن سؤال مَن هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطأ، وقد لا يصل علمه إلى شيء خصَّص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقاً، أو نَسَخَ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو مَن ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله - تعالى -: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، وفي آية أخرى: {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ}. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم، أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق.(2/376)
ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجَّل ويتسرَّع حتى يتثبَّت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلِّغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - «العلماء ورثة الأنبياء».
وأخبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - «أن القضاة ثلاثة: قاض واحد في الجنة وهو مَن عَلِمَ الحق فحكم به» كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلِّمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمَن سئل عن مسألة أن يُكْثِر من الاستغفار، مستنبطاً من قوله - تعالى -: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال - تعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}، وقد ذُكِرَ عن الشافعي أنه قال:(2/377)
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ** ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذٍ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهَّاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً...
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــ(2/378)
قاعدة : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب
سعود الفنيسان
هذه قاعدة أصولية يكثر ترديدها عن طلاب العلم والدعاة منهم خاصة، وموارد بحثها ((باب الاجتهاد)) من كتب أصول الفقه ومنشؤها: هل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحدٌ فقط؟
فمن يقولون بالأول يسمون ((المصوّبة)) ومن يقولون بالثاني يقال لهم ((المخطئة))، وعند النظر والتدقيق في أصلها ومحتواها يتبيّن ما يأتي:
أولاً: الأصل في استخدام القاعدة أن تكون بين العلماء المجتهدين الذين توفرت فيهم أهلية الاجتهاد وشروطه، فهي إذن قاعدة من قواعد الاجتهاد وللمجتهدين فقط.
ثانياً: يستخدمها كثير من الناس في كل أمر قطعيٍ أو ظني في الشريعة، وهذا خطأ بينٌ لأنها لا تستخدم في الأمور العقيدية كأصول الإيمان ولا ما فيه نص من أمور الأحكام، لأنه لا اجتهاد مع النص. ثم القول بهذه القاعدة نفسها ظني فلا تقوى على رد ما هو أقوى منها، وهو القطعي في الثبوت والدلالة.
ثالثاً: هذه القاعدة مبنية على الاحتمال وهو ظني، وليس أحد الاحتمالين الظنيين بأولى من الآخر ما داما متساويين. ثم إن الجزم بصواب رأى المتكلم وخطأ رأى مخالفه تحكمٌ ومصادرةٌ دون دليلٍ معتبر.
رابعاً: بسبب التوسع في تطبيق هذه القاعدة في كل خلاف ظهر التعصب المذهبي فطورت هذه القاعدة من قبل متعصبي المذاهب فصارت ((إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب غيرنا قلنا وجوباً: مذهبنا صوابٌ يحتمل الخطأ ومذهب مخالفنا خطأ ولا يحتمل الصواب)).
فيلاحظ بعد أن كانت رأياً فردياً يحتمل الصواب والخطأ أصبحت مذهباً جماعياً. وبعد أن كان الصواب في نظر المتكلم مجرد صواب أصبح ذلك الصواب ظاهر الوجوب.(2/379)
خامساً: القاعدة في المقولة الأولى كما في العنوان زكت رأى القائل مرتين مرة بالجزم بالصواب وإن لم يقل بالوجوب الثانية بالجزم بخطأ الرأي الآخر المخالف له، وإذا كان قائل هذه المقولة والمتمثل بها قد زكى رأيه مرتين، فإنه قد رد وصادر رأي غيره مرتين أيضاً، من بدون برهان أو دليل.
سادساً: الغريب في الأمر أن القائلين بهذه القاعدة بصيغتيها الفردية والجماعية يقلّدون عند الاقتضاء والحاجة غير إمامهم، فهم بهذا قد أجازوا لأنفسهم تقليد من يعتقدون خطأه. فكيف صار المذهب المخالف صحيحاً ومذهب إمامه الذي يقلده ((مذهبه الأصلي)) فاسداً؟ أم أن مذهب إمامه هو الصحيح ومذهب غيره فاسد عنده إلا إذا احتاج العمل به ؟ وهذا تناقض.
سابعاً: إن العامي لا يجوز له التخير بين المذاهب في المسألة الواحدة، لأن مذهب العامي مذهب مفتيه، ثم هو لا يستطيع أن يميز بين الراجح والمرجوح من الأقوال.
ثامناً: وعلى هذا لا يجوز لمقلد أبي حنيفة - يرحمه الله - مثلا - أن يقول إن أقوال مالك والشافعي وأحمد خطأ لمجرد مخالفتهما لمذهب إمامه، وكذلك لا يجوز لأتباع أحد الأئمة الثلاثة أو غيرهم التصريح بخطأ مذهب أبي حنيفة لمجرد مخالفته لمذهب من يقلده، ولا يتصور أن جميع ما خالفوا به إمامه خطأ وإمامه هو المصيب وحده، لأن الجميع يشتركون في عدم العصمة، وكل من الأئمة الأربعة ورد عنه أنه قال: ((إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عرض الحائط)).
تاسعاً: إن حكم أحد الأئمة المجتهدين والمتبوعين حكم شرعي يلزم الأخذ به لمن خوطب به إذا لم يظهر له دليلٌ اصح وأصرح منه.(2/380)
قال العز بن عبد السلام في كتابه [قواعد الأحكام]: ((ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين بكسر اللام يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه حيث لا يجد له مدفعاً ومع هذا يقلده فيه، ويترك الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جموداً على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده بفتح اللام حتى ظن أن الحق منحصر في مذهبه، وإذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم اهتد إليه. ولم يعلم المسكين انه مقابل بمثله، فالبحث مع هؤلاء ضائعٌ مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة)).
ـــــــــــــــ(2/381)
قاعدة في الحكم على المخالف
عثمان علي حسن
التفريق بين الكفر وقائله:
وهذا من الأصول العظيمة التي امتاز بها أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق، أنهم يفرقون بين المقالة وصاحبها، فالمقالة قد تكون كفراً أو فسقاً وصاحبها ليس بكافر ولا فاسق، كما أنها قد تكون إيماناً وتوحيداً وصاحبها ليس بمؤمن ولا موحد.
ولكي توافق مقالة الكفر صاحبها، ويوصف بها، لا بد من تحقيق شرائط وانتفاء موانع:
أما الشروط فمنها [1]:
1- أن يكون صريح قوله الكفر عن اختيار وتسليم.
2- أن يكون لازم قوله الكفر، وعرض عليه فالتزمه، أما إذا لم يلتزمه، بل رده وأنكره فليس بكافر.
3- أن تقوم الحجة عليه ويتبينها؛ لقوله - تعالى -: (ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء 15]، وقوله: (ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى) [النساء 115].
وأما الموانع فمنها [2]:
1- أن يكون حديث عهد بالإسلام.
2- أن يكون قد نشأ ببادية بعيدة، ويدخل معه من لم يجد إلا علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم.
3- أن يكون مغيب العقل بجنون ونحوه.
4- أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسنة، أو بلغته ولم تثبت عنده - إن كانت سنة - أو لم يتمكن من فهمها.
5- بلغته وثبتت - عنده - وفهمها، لكن قام عنده معارض - من رأي أو ذوق - أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً.
ويدخل معه المجتهد المخطئ، فإن الله يغفر له خطأه ويثيبه على اجتهاده إن كان حسن النية.(2/382)
وعليه، فلا يجوز الحكم على معين بالكفر إلا بعد تحقيق شروطه وانتفاء موانعه، وما أثر عن بعض السلف من إطلاق التكفير واللعن فهذا يبقى على إطلاقه وعمومه، ولا يتعين في حق إنسان إلا بدليل: قال ابن تيمية - رحمه الله -: (فإن الإمام أحمد - مثلاً - قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، وترك الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية؛ من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر..
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة..) [3].
فالمخالف للكتاب والسنة إما أن يكون مجتهداً مخطئاً، أو جاهلاً معذوراً، أو متعدياً ظالماً كأن يرتكب كبيرة، أو منافقاً زنديقاً كأن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أو مشركاً ضالاً وهو المصرح بالكفر.
وكل يعامل بحسبه.
العذر بالجهل [4]:(2/383)
لا بد من التفريق بين جاهل تمكن من العلم ومعرفة الحق ثم أعرض عنه، وآخر لم يتمكن من ذلك بوجه: فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم لا يتمكن منه بوجه، فهم قسمان: 1- مريد للهوى، مؤثر له، محب له، لكنه غير قادر عليه وعلى طلبه، وذلك لعدم وجود من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
2- معرض لا إرادة له، لكنه لا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه.
ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه.
لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته.
فهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه - بعد استفراغ الوسع في طلبه - عجزاً وجهلاً.
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المرض.
(1) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/334، ومجموع فتاوى ابن تيميه 12/ 501.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 3/179، 231، 3/345، 346، 7/ 217، 218، وطريق الهجرتين لابن القيم ص 412-413.
(3) انظر:مجموع فتاوى ابن تيمية 12/488، 489، وانظر: 23/ 348، 349.
(4) انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص 412-413، ومجموع فتاوى ابن تيمية 22/16، واقتضاء الصراط المستقيم.
ـــــــــــــــ(2/384)
منهج التعامل مع الخوارج المارقين
وقفنا في مقالات سابقة على شيء من تاريخ الخوارج، وعرضنا لبعض أفكارهم وانحرافاتهم، وما كان لذلك من أثر على أمة الإسلام، إذ لعبت هذه الطائفة دورا خطيرا في شرخ الأمة وإثارة الفتن والقلاقل الداخلية، ما أضعف الأمة واستنزف طاقتها.
وقد كان الخوارج منذ بدء خروجهم دعاة بدعة خرجوا من أجل فرض مذهبهم وتحقيق آرائهم التي تعتبر في نظر أهل السنة بدعا لا يجوز موافقتهم عليها، وحينما يتذكر المرء كيف سلَّ الخوارج سيوفهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بعد أن كفروه وتبرؤوا منه، وهو من هو علما وتقوى وصلاحا وعدلا. ونصَّبوا على أنفسهم أعرابيا بوالا على عقبيه لما كان على رأيهم، وكذلك كيف: سلَّوا سيوفهم على الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وهو من هو علما وتقوى وعدلا وصلاحا حتى قُرن بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في عدله. هذه النماذج تُظهر لنا بما لا يدع مجالا للشك مدى التحدي الذي يواجه الأمة في معالجة هذه الظاهرة والتعاطي معها.
وقد رأينا في منهج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خير أنموذج يقتفى في تحديد المنهج الصحيح للتعامل مع هذه الفرقة الضالة، لا سيما أن ذلك المنهج قد حاز على موافقة الصحابة الذين لم ينكروا - فيما نعلم - على علي - رضي الله عنه - أياً من مواقفه مع الخوارج.
الحوار أولا:
كان الحوار أول ما بدأ به أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - مع الخوارج إذ بعث إليهم عبد الله بن عباس لمحاورتهم والنظر فيما أخذوا عليه، حيث ذكروا ثلاث خصال ناظرهم فيها عبد الله بن عباس، فرجع منهم ألفان وبقي الآخرون فقتلوا في معركة النهروان.(2/385)
والبدء بالحوار هو ما سار عليه أيضاً الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عندما بعث إلى الخوارج عبد الحميد نائبه على الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق ويتلطف بهم، وألا يبدأهم بقتال إلا أن يظهر فيهم ما يستوجب ذلك، فلما فعلوا ما يوجب قتالهم أرسل إليهم جيشا فقاتلهم.
دعوتهم إلى كف أذاهم عن المسلمين:
وهذه الخطوة جاءت تالية بعد أن أظهر الخوارج عنادا في الاستجابة للحجة، والخضوع للحق عندما ناظرهم ابن عباس - رضي الله عنه -، فقد عرض عليهم علي - رضي الله عنه - أمورا ثلاثة، فقال لهم: "..إلا أن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا "رواه البيهقي وابن أبي شيبة.فجمع هذا العرض من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بين الحكمة والسماحة: الحكمة في محاولة دمج الخوارج في المجتمع المسلم مع ضمان كف أذاهم عن المسلمين، مما يؤدي إلى إذكاء روح الحوار بينهم وبين سائر المسلمين الأمر الذي ربما يثنيهم عن آرائهم، أو يخفف من شدتها التي ستضعف تدريجيا أمام قوارع الحق من الحجج والبراهين.
والسماحة أيضا في تركهم مع أفكارهم - على خطورتها على الأمة - وما ذلك إلا أن مفسدة مجابهتها ستؤدي إلى زيادة التمسك بها والتعصب لها وما يستتبع ذلك من إراقة للدماء وانتهاك للحرمات. فكان في تركهم مع أفكارهم على ضلالها قمة الحكمة والسماحة. ولعله - رضي الله عنه - استند في مذهبه هذا إلى ترك النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قتل ذي الخويصرة التميمي - البذرة الأولى لبدعة الخوارج - إذ كان أذاه مقتصرا على الرأي فقط.
القتال وآخر العلاج الكي:(2/386)
وهذا المنهج اتبعه أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - مع الخوارج عندما سلوا سيوفهم على المسلمين وبقروا بطون الحوامل، وقتلوا وأفسدوا في الأرض، حيث قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت وشقوا بطن أمَتِه، فبلغ صنيعهم ذلك عليا - رضي الله عنه - فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا عشرة أو دونهم، ولم يقتل ممن معه إلا نحو العشرة.
وقد فرح أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بقتال الخوارج فرحا شديدا لما سمع من أمر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بقتالهم ومدح من قاتلهم، بل وعزمه - - صلى الله عليه وسلم - - إن هو أدركهم - على قتلهم قتلا عاما كقتل عاد، فعن علي - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، يقول: (يأتي في آخر الزمان: قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة) متفق عليه.
وعلى ضوء هذا الملخص للمنهج الفكري والسياسي الذي اتبعه علي - رضي الله عنه - في تعامله مع الخوارج يتضح لنا بعد نظره ومدى حكمته في معالجته لهذه الظاهرة الخطيرة، فقد حاول - رضي الله عنه - ثني الخوارج أولا بالمناظرة والحجة والبرهان، وقد حققت هذه الخطوة تقدما كبيرا حيث رجع ثلث الخوارج وأفقدت البقية الباقية مصداقيتها الشرعية، كما أن الخطوة الثانية: كان الهدف منها كف أيدي الخوارج عن أذى المسلمين، والعود بهم إلى جماعتهم - وإن بقوا على ضلالاتهم الفكرية - التي لن تلبث أن تذهبها طوارق الحق والنور.(2/387)
وأما الخطوة الثالثة: فكانت ضرورية حفظا لأنفس وأعراض وأموال المسلمين من هذه الآفة الضارة التي سلت سيوفها على رقابهم، في حين كان المشركون منهم في عافية، فكان قراره - رضي الله عنه - بقتالهم، بل وتقديم قتالهم على قتال أهل الشام رأيا موفقا، وموقفا صائبا يدل على حنكة سياسية وسياسة شرعية رصينة.
وبعد: فهذا ملخص أوضحنا من خلاله منهج أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في التعامل مع الخوارج، وهو منهج يكتسب أهميته لكونه صادراً من أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين، وقد طُبِّق في محضر جمع من الصحابة فحاز على موافقتهم وإجماعهم، نسأل المولى الكريم أن يوفقنا للحق والعمل به إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ(2/388)
اتباع الهوى يصد عن الحق
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
معنى الهوى في اللغة والشرع:
الهوى هو ميل النفس إلى الشيء يقال: هذا هوى فلان وفلانة هواه رأى مهويته ومحبوبته وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم كما قال - تعالى -: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات (40-41) ويقال إنما سمي هوى لأنه يهوى بصاحبه. فالهوى إذاً ميل الطبع إلى ما يلائمه كما قال ابن الجوزي وابن القيم، وهو أيضاً ميل النفس إلى الشهوة.
حكم ا تباع الهوى:
خلق الميل في الإنسان لضرورة بقائه؛ فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل وما شرب ولا نكح، فالهوى مستحث لها لما يريده كما إن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً ولا مدحه مطلقاً كما إن الغضب لا يذم مطلقا ولا يمدح مطلقا وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار.
ولما كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لأنه يندُر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده؛ فلذلك لم يذكر الله - تعالى - الهوى في كتابه إلا ذمه، وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموماً إلا ما جاء منه مقيداً بما يخرج معناه عن الذم كقولهم: هوى حسن، وهوى موافق للصواب. وقد قيل: الهوى * لا يؤمن.
أهل الأهواء والبدع:(2/389)
هم أهل القبلة الذين لا يكون معتقدهم معتقد أهل السنة والجماعة كالذين يُكَفِّرون بالكبيرة أو يقولون بعصمة الأئمة أو سقوط التكاليف عن الواصل بزعمهم وكالذين يقدمون العقل على النصوص الشرعية، وقد صاروا فرقاً لاتباع أهوائهم، وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا. ولذلك برأ الله نبيه منهم بقوله: (لست منهم في شيء) (الأنعام: 159) ومن علامات أهل الأهواء أنهم يكفرون المخالف لهم ويفسقونه ويبدعونه بلا سبب موجب، وعادتهم التقاطع والتنافر والتباغض، أما أهل السنة فكانوا يتناظرون في المسألة ما يقصدون إلا الخير ولا يتقاطعون ولا يتبارون حذراً من الفرقة التي نبه عليها بقوله - تعالى -: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) الأنعام (159) (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (آل عمران: 105).
ولا يسلم العبد من الأهواء والبدع إلا بالرجوع للكتاب والسنة، وأن يكون على مثل ما كان عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - والصحابة الكرام.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
بعض الآيات الواردة في ذم اتباع الهوى:
حذرت الآيات من اتباع الهوى ووبخت أهل الأهواء، قال - تعالى -: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون). (البقرة: 87) وقال - تعالى -: (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) (الأنعام: 119).
وقد حذر - سبحانه - نبيه - - صلى الله عليه وسلم - - وأمته من اتباع أهواء الكفار والمنحرفين في مواضع كثيرة من كتابه كقوله - سبحانه -: (ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). (المائدة: 49).
بعض الأحاديث الواردة في ذم اتباع الهوى:(2/390)
لقد كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يتعوذ بالله - تعالى - من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء وكان مما يخشى على أمته شهوات الغي في البطون والفروج ومضلات الهوى.
وفى الحديث: "وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى (أي تتسابق) بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. وفي حديث أنس- رضي الله عنه-: "وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه".
بعض الآثار في ذم اتباع الهوى:
لقد كان السلف - رضي الله عنهم - يحذرون من اتباع الهوى كما حذروا الأمة من ذلك ومما أثر عنهم في ذلك قول علي-رضي الله عنه-: (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة).
وقال رجل للحسن البصري: (يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال: جهاد هواك).
وقال ابن تيميه: (جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم).
وقال بشر الحافي: (البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه).
وقال عطاء: (من غلب هواه عقله وجزعُه صبرَه افتضح).
وقال أبو علي الثقفي: (من غلبه هواه توارى عنه عقله).
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة *** أن لا يُرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها *** والحر يشبع تارة ويجوع
عواقب اتباع الهوى:
على العبد أن يتأمل كم أضاعت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وقبحت ذكراً وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء، غير أن صاحب الهوى عمياء.
كيف يتخلص العبد من اتباع الهوى:(2/391)
بعون الله وتوفيقه يتم التخلص من هذه الآفة بعزيمة حر يغار لنفسه وعليها وجرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، وقوة نفس تشجعه، والشجاعة كلها صبر ساعة، وملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه، وإبقائه على منزلته عند الله - تعالى -وفى قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة موافقة الهوى، وإيثاره لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية، والتفكر في أنه لم يخلق للهوى وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى، وألا يختار لنفسه أن يكون الحيوانُ البهيمُ أحسنَ حالاً منه؛ فالحيوان قد يحسن التمييز بين ما ينفعه وما يضره، وأن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى وأن يكون تحت قهر الشيطان، وأن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه ونيل اللذة المطلوبة وأن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده حتى وإن كان علماً وزهداً، والشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، وقد شبه - سبحانه - متبع الهوى بالكلب، ولو تأملت السبعة اللذين يظلهم الله - عز وجل - في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ل وجدتهم إنما نالوا ذلك كله بمخالفة الهوى، فجاهد نفسك واستعن بالله واستشعر أنه لا حول ولا قوة إلا به - سبحانه -.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ(2/392)
حرية العقيدة وحرية الرأي بين الدقة والوضوح وبين التفلت والغموض
الدكتور عدنان علي رضا النحوي
اعتاد عدد غير قليل من المسلمين أن يستخدم مصطلحات عامة لا يرافقها تحديد ووضوح، ثم تتحول هذه المصطلحات إلى شعار لا يحمل الدقة كذلك، ولا المنهج، ثم ينتشر بين الناس حين يلامس رغبة في النفوس أو مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم من ضغط وحيرة وآمال مضطربة، فيصبح الواقع كله يعيش في أجواء من الشعارات والتعبيرات العامة خالية من النهج أو تحديد الدرب والمسار، وتطوى قضايا الأمة في خضم الشعارات دون بلوغ هدف أو تحقيق غاية.
إن انتشار هذه الظاهرة من المصطلحات العامة يوحي بعدم وجود نهج أو خطة واضحة في أذهان مختلف القطاعات.
ويزداد الأمر سوءاً حين تصبح هذه المصطلحات العامة قاعدة لتحديد موقف أو اتخاذ قرار أو إصدار اجتهاد وفتوى، ويصبح هذا الموقف أو القرار أو الاجتهاد مصدراً لاضطراب أوسع أو خلافات وشقاق.
ومن أبرز الأمثلة على هذه المصطلحات العائمة " حرية العقيدة وحرية الرأي " وقد دأب على استخدام هذه المصطلحات بعض دعاة المسلمين وانتشرت بين الناس على أنها مطلب حضاري ينادون به. ماذا تعني "حرية العقيدة "، وماذا تعني " حرية الرأي "، وكيف تُمارس وتُطبق؟!.
اعتقد أنها مصطلحات وافدة من الغرب العلماني الذي يقوم على تصورات خاصة مغايرة للإسلام، ولو رجعنا إلى الكتاب والسنة لا نجد مثل هذه التعبيرات. ولو رجعنا إلى أئمة الإسلام في العصور التي كان يحكم فيها الإسلام لا نجد مثل هذه التعبيرات لقد جاء الكتاب والسنة في غاية الدقة والوضوح والتفصيل في استعمال التعبيرات والمصطلحات، وتعلم أئمة الإسلام هذه الدقة والوضوح فيما يستخدمونه من مصطلحات أو فيما يستحدثونه.(2/393)
جاء الإسلام ليدعو إلى عقيدة واحدة ودين واحد، وحمَّل الإنسان مسؤولية اختيار الإيمان والتوحيد والإسلام أو سواه، ولكل اختيار نتيجة في الدنيا والآخرة، الإسلام يدعو الناس كافة إلى الإسلام، وفرض القتال والجهاد من أجل ذلك، ونفر من الكفر ومن أي دين غير الإسلام، وأنذر الكافرين بعذاب شديد، وجعل النار مصير من يموت منهم على الكفر، مع ابتلاء شديد في الدنيا، ووعد المؤمنين بالجنة لمن صبر والتزم، ووعد الصادقين العاملين المجاهدين بالنصر.
هذا الذي يدعو إليه الإسلام، فهل تعبير حرية العقيدة الذي يطلقونه اليوم يحمل هذه المعاني، أو هل هذا الذي يدعو إليه الإسلام يماثل " حرية العقيدة ". الإسلام ينظر إلى الكافرين وغير المؤمنين الصادقين أنهم يتساقطون في النار، في نار جهنم، هذه حقيقة أكيدة ويقين بالنسبة للإسلام، فهل يعقل أن يترك الناس ليتهاووا في جهنم؟! إذن لماذا بعث الله الرسل على مدى الزمان وختمهم بمحمد - - صلى الله عليه وسلم - -، ولماذا شرع القتال والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا.
دين الله:
الإسلام جاء ليجتث الكفر من الأرض ولينشر الإسلام دين الله. دين جميع الرسل والأنبياء، الدين الذي لا يقبل الله غيره، فهل يُعقل بعد ذلك أن ينادي الإسلام ويقول يا أيها الناس خذوا أي عقيدة تريدون وأي دين ترغبون فلا بأس في ذلك!! ((إنْ الدين عند الله الإسلام)) [آل عمران: 19]. ! ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [آل عمران: 85].
هنالك فرق كبير بين أن يُحمّل الله كل إنسان مسؤولية اتخاذ قرار اختيار دينه وعقيدته، بعد أن يكون رسله قد أبلغوا الرسالة كاملة، وأنذر من خالف بعذاب الدنيا والآخرة. وبشر الصادقين بخير الدنيا والآخرة. وبين أن يترك الأمر في حرية عائمة مائعة، تغري الناس بالكفر والفتنة والفساد أكثر مما تغريهم بالإيمان والإسلام.(2/394)
فارق كبير بين حرية اختيار العقيدة والدين والحرية التي تغري الناس بالكفر والفتنة:
ليست القضية من حيث المبدأ انفلات حرية العقيدة ولا الدعوة لها ولا سن القوانين من أجلها إن القضية بالنسبة للإسلام أعظم من ذلك بكثير وأخطر من ذلك بكثير، إنها تتمثل في النقاط التالية:
أولاً: إنقاذ الإنسان من هلاك محقق وعذاب في جهنم شديد إذا مات على الكفر.
ثانياً: تهيئة الأجواء التي تعين على الإيمان والتوحيد والإسلام، وترغيب الناس بهذا الحق واليقين، وإخراجهم من الفتنة والضلال والباطل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ثالثاً: سد أبواب الفتنة والضلال والكفر، والفساد والأهواء والشهوات المتفلتة، واتخاذ الأسباب اللازمة لحماية فطرة الإنسان، الفطرة التي فطر الله الناس عليها لتكون منطلق الإيمان والتوحيد، قادرة على استقبال رسالات الأنبياء والدين الواحد.
رابعاً: إن هذه القضية بلغت أهميتها وخطورتها أن أصبحت أساس الأمانة التي حملها الإنسان وأبتها السموات والأرض والجبال. وأشفقن منها، إنها الأمانة التي يكون الإنسان بها غير ظالم ولا جاهل، وبتركها يصبح ((ظلوماً جهولاً)) [الأحزاب 72]! وهي الأمانة التي يقوم عليها معنى العبادة التي خلق الله الإنسان لأجلها والخلافة التي جعلت له، والعمارة التي أمر بها.
وعلى هذه الأسس تصاغ الشعارات والمصطلحات، وتسن القوانين، وتوضع مناهج التربية والبناء، وتقوم العلاقات بين المؤمنين وغيرهم.
وثيقة الرسول مع يهود:
يذكر بعض المسلمين هذا التعبير على النحو التالي: " لقد تضمنت الوثيقة التي كتبها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مع يهود المدينة أوضح صورة للتعايش والتعاون كما يسعى إليه الإسلام، فقد تضمّنت حرية العقيدة وحرية الرأي … "!(2/395)
ولو رجعنا إلى نص الوثيقة لوجدناها تختلف عما ذكر اختلافاً واسعاً. فهي أولاً ليست وثيقة كتبها الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - مع يهود المدينة وحدهم، إنها مع أهل يثرب وقبائلها كلها، ولنستمع إلى ما تقوله الوثيقة: " هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم "! ثم ذكرت الوثيقة المهاجرين من قريش، ثم قبائل يثرب ثم اليهود، ثم تذكر الوثيقة العلاقات، ولنستمع إلى ما تنص عليه الوثيقة في بعض فقراتها:
ألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسعيه ظلم أو إثماً أو عدواناً أو
فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وأن ذمة الله واحدة. يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس.
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وأمن بالله واليوم الآخر أم ينصر محدثاً أو يؤويه وأن
من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة. ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
ونصوص أخرى تفصّل في العلاقات والمسؤوليات والحقوق لا تجد فيها نصاً مبهماً أو عائماً أو متفلتاً.
جميع النصوص تقوم على القواعد التي ذكرناها، والتي تبين أهمها ونذكّر به حتى لا تختلط الصورة والتعبيرات:
فالوثيقة تنص بشكل صريح حاسم على أن الحكم في المدينة لدين واحد فقط هو الإسلام، هو لله ولرسوله.(2/396)
وتنص كذلك على أن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه لا يقتل مؤمن مؤمناً بكافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، فالمؤمنون إذن أمة واحدة تربطهم الموالاة التي تجعلهم أمة واحدة من دون الناس. والولاء والموالاة علاقة شرعها الله للمؤمنين ورابطة تقوم عليها أخوة الإيمان.
فالحكم إذن للإسلام، والإسلام هو أحسن هدي وأقومه ولا يُنصر كافر على مؤمن ولا يقتل مؤمن بكافر، إنها تعبيرات محددة واضحة مفصلة لا تترك أمراً عائماً.
وعندما جاء النص: " وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. " جاء النص مرتبطاً بسائر النصوص مبنياً عليها لا ملغياً لها، فاليهود أمة والمؤمنون أمة ولكنهم كلهم بحكمهم الإسلام وكل ما اختلف فيه مرده إلى الله وإلى محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، وجميع من في يثرب يحمل مسؤولية الدفاع عنها وحمايتها من خلال الشروط والأسس التي ذكرناها.
وشرع الله للمسلمين أن يكون أهل الكتاب أهل ذمة يرتبطون مع المؤمنين بمواثيق وعهود يصبحون بها قوة لتنصر الإسلام والمؤمنين لا لتحاربهم، لهم دينهم وليس لهم أن يحكم دينهم أو لا أن ترد الأمور إليه، لهم أن يتبعوا فيما بينهم أحكام دينهم، وليس لهم أن يدعوا لها وأن ينشروها، فذلك حق المؤمنين الذين هم على أحسن هدي وأقومه.
وان من يعادي الإسلام ويحاربه فعلى اليهود نصرة المؤمنين. في مثل هذه التفصيلات الأساسية التي ذكرنا بعضها يأخذ أهل الكتاب حرية عقيدتهم ويظل المؤمنون يدعونهم إلى الإسلام لينقذوهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.(2/397)
أما الكافرون من قريش وغيرهم، وقريش أقرباء النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قربى ونسب ورحم، لكنهم حاربوا الله ورسوله فانقطعت حمية النسب إلا في أن يدعوا إلى الإيمان والإسلام، وتعلن الوثيقة قطع الصلات معهم، وبوادر الحرب معهم وتدعو إلى محاربتهم والتميز عنهم ولا تعطيهم أي حقوق، ولا تُقرهم على كفر أبداً ولا تعطيهم حق الدعوة إلى كفرهم ولا نشر مذهبهم وأفكارهم وآدابهم.
وكذلك شأن كل محدث والمحدث هو الذي يُحدث شيئاً مخالفاً للإسلام الذي يحكم المدينة كلها، ويخضع له كل من فيها، هذا المحدث لا حقوق له، ولا يحل نصره ولا إيواؤه، ولا مساعدته ومن يفعل ذلك فعليه لعنة الله.
فهل هذه الشروط كلها توحي بأن نقول إن الإسلام يدعو إلى "حرية العقيدة " بهذا التعبير المتفلّت والمصطلح العائم؟
إذا أردنا أن نبلغ دين الله. الإسلام. فلنبلغه كما أنزل على محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، وكما كان يبلغه محمد - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه الأبرار.
حين نستعير مصطلحات من الشرق والغرب، ثم نلصقها بدين الله، وبأحاديث الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، نكون قد ارتكبنا خطأ جسيماً، فالإسلام حين قال: ((لا إكراه في الدين))، لم يتركها عائمة وإنما قال معها: ! ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) [البقرة: 256-257]
وقبلها جاءت آية الكرسي: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه لا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض و يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)) [البقرة: 255](2/398)
دعوة إلى التوحيد:
دعوة إلى الإسلام والتوحيد صريحة جلية حاسمة، قبل ((لا إكراه في الدين))، ودعوة كذلك صريحة جلية حاسمة، مع إنذار شديد للكافرين وبشرى للمؤمنين بعدها.!
((لا إكراه في الدين)) تعبير يختلف عن تعبير " حرية العقيدة " يختلف معنى وصياغة وشروطاً ((لا إكراه في الدين)) تعني أن الله لا يقبل من عبد ادعاء الإيمان تحت ضغط الخوف أو المصلحة الدنيوية وهو يبطن خلاف ذلك. إن الله يقبل من عبده إيمانه وإسلامه حين يصدر عن قناعة ويقين وهذا يعني أن الله يريد من المؤمنين أن ينهضوا ليبلغوا رسالة الله وحقيقة الإيمان والتوحيد ودين الإسلام بلاغاً صادقاً واضحاً دقيقاً، لا أن يبلغ كل إنسان هداه وتصوراته الخاصة ويطوي نصوص الكتب والسنة، أو يبلغها محرفة أو ناقصة أو غير واضحة ولا يرى الإسلام على أساس ما عرضناه أن للكافر أن يدعو إلى كفره في ظل دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله، ولا أن لأهل الكتاب أن يدعوا إلى دينهم في قلب دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله.
يعطي أهل الكتب حرية الإقامة في أرض الإسلام على ألا يسعوا إلى أن يسود معتقدهم، وألا يحملوا السلاح على المسلمين، وألا يناصروا عدواً للإسلام، والمسلمين سراً ولا جهراً، وأن يرضوا بحكم الإسلام ولا يتآمروا عليه.
وعلى المسلمين أو يكونوا يقظين، فإن وجدوا منهم خيانة يؤخذ الخائن أو الخائنون بذنبهم ويعاقبون، ويخرجون من أرض الإسلام إذا خُشي استمرار خيانتهم وتأمرهم.(2/399)
هذا الذي تبينه لنا الآيات والأحاديث وسيرة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وصحابته الأبرار - رضي الله عنهم -، فإن ابتلي المسلمون بالوهن والذل وغلب عليهم أعداؤهم، فلا يحملون الإسلام وشرعه وفقهه نتائج تهاونهم وعجزهم، ولا يلوون الآيات والأحاديث ليسوغوا المذلة والهوان. فأعداء الله يعرفون الإسلام وحكمه فيهم، فإن كتمنا حقائق الإسلام نخسر رضاء الله أولاً ونصرته، ونخسر ما كان يمكن أن نناله من هيبة في أعين الكافرين وأهل الكتاب، حين يرون أننا غيرنا وبدلنا. وأننا بدأنا نتبع ما تشابه من الأمور شأن من في قلوبهم زيغ.
إن أساس الدعوة الإسلامية هو البلاغ المبين البلاغ الذي يبلغ رسالة الله ليعذر الناس أنفسهم بين يدي الله يوم القيامة. فلا يتغير الدين مع تغير الواقع، فالدين حق لكل زمان ومكان. ونجد فيه الحلول لكل واقع كما وجد أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -. دون الخروج عن الحق المطلق في الكتاب ولا سنة ودون تحريف النصوص ودون اتباع ما تشابه منه.
لقد أخذ ضغط الواقع المنحرف اليوم يشتد على بعض المسلمين حتى أصبح منهم من يسهل عليه إعطاء رأي ليؤمن مصلحة دنيوية ثم يلصق دعواه بالإسلام.
إن التقوى أهم أسباب النصر وإن خشية الله أهم عنصر في التقوى، وإن العلم وحده إذا ضعفت فيه التقوى، فقد قوته الإيمانية في الميدان.(2/400)
ومصطلح أخر كثر ترداده بين المسلمين اليوم، ينادي به المنتسبون إلى الإسلام، فالإسلام أعظم رسالة في الأرض تحض على التفكير وتدعو له، وأعظم رسالة تحرر عقل الإنسان من أغلال الهوى والشهوات ومصالح الدنيا الآثمة، إن مصطلح "حرية الرأي " مصطلح عائم متفلت أعطى الفرصة لأعداء الله ليطعنوا الإسلام والمسلمين أكثر مما أعطى المسلمين الفرصة لبيان حقائق دينهم، إن الإسلام الذي يحض على التفكير ويدعو إليه ليحترم الرأي الذي يصدر عن إيمان ووعي مع الحجة والدليل، مع صدق النية وإخلاصها لله مبرأ من الهوى، نابعاً من العلم الحق لا من الظن والتخمين، فالإسلام لا يستخدم مثل هذا التعبير "حرية الرأي" ولكن يدعو المسلم ليقول رأيه جلياً واضحاً، ملتزماً بالشروط الإيمانية التي فصلها منهاج الله، دون أن يعتبر أن رأيه وحده هو الحق إلا إذا كان الرأي نصاً من الكتاب والسنة، وجاء عرضه مطابقاً لحاجة القضية والواقع، جامعاً لكل الأدلة التي تنفي الشبهة وتشرق بالصدق والحق، لا يماري فيه بعد ذلك إلا ممار أو مجادل أو منافق، إن الحق يحمل معه دائماً إشراقته، والباطل يحمل عتمته وظلامه والقلب المؤمن يهتدي إلى الحق ويميزه من الباطل.
ـــــــــــــــ(2/401)
الخلاف شر
أيها المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا ولا تفرقوا، واتحدوا ولا تنازعوا، واعلموا أن المسلمين لم يبتلوا بشيء في هذا العصر أخطر ولا أشد عليهم من الاختلاف والتفرق والتشرذم، ولم يتسلط عليهم الأعداء إلا لتفرقهم واختلافهم.
لا شك أن الخلاف كائن في هذه الأمة كما كان كائناً في غيرها من الأمم: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك".
ولا شك كذلك أن الخلاف منه ما هو سائغ ومنه ما هو ممنوع، والتمييز بين ما هو سائغ وما هو ممنوع مطلب شرعي وواجب ديني.
لا تستطيع قوة في الأرض أن تمنع من وقوع الاختلاف بين الناس، ولكن علمنا ربنا ماذا نفعل عند الاختلاف، فقال: "فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول"2، وقال: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"3، وأدَّبنا رسولنا - - صلى الله عليه وسلم - - أن الخلاف السائغ لا يوجب عداء ولا هجراً، وأرشدنا سلفنا الصالح إلى كيفية التعامل مع المخالف، وحذرنا الشارع الحكيم من مغبة البغي والظلم والكبر، وقالت الحكماء: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
جل الخلافات بين المنتسبين إلى السنة والسلفية اليوم تنحصر في الآتي:
1. في بعض الفروع.
2. في وسائل العمل وليس في الغايات.
3. بعض النوازل.
4. بعض التأويلات الخاطئة.
وكلها لا تخرج عن دائرة الخلاف السائغ الجائز في الجملة، الذي لا يوجب عداء ولا تبديعاً وتضليلاً وتكفيراً، وغاية ما ينتج عنه التخطئة، ولا يكون سبباً بحال من الأحوال لما نراه من التفرق والتشرذم والتحزب، وما نتج عن ذلك من التباغض، والتحاسد، والتبديع، والتكفير في بعض الأحيان.
ومرد كل ذلك لأمور هي:
1. قلة الفقه.
2. قلة الورع أو انعدامه.
3. انعدام الثقة وسوء الظن بالآخر.
4. الغرور والاستكبار.
5. عدم إدراك المخاطر المحيطة بالمسلمين عموماً.
6. قلة الحكمة عند القيادات.
7. سوء أدب كثير من الأتباع.(2/402)
يتضح ذلك إذا أجرينا مقارنة بين نوع وحجم الخلاف الذي حدث لسلفنا الصالح وكيفية تعاملهم مع الخلاف والتزامهم بالآداب الشرعية والسنن المرعية، وضبط النفس، والتحلي بالحكمة، والصبر في أحلك المواقف، وبين ما نراه ونشاهده من تباغض، وتناحر، وسباب، وشتم، ومعاداة بين إخوة العقيدة ورفقاء الدرب، من أتباع السنة والسلفية مع بعضهم البعض، حيث لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالح.
نماذج لسلوك بعض السلف مع المخالفين لهم فيما يسوغ فيه الاختلاف وما لا يسوغ:
1. خالف ابن مسعود عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في أكثر من مائة مسألة في الفرائض وغيرها، ومع ذلك كان عمر من أحب الخلق لابن مسعود - رضي الله عنه - بعد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان كل منهما يثني على صاحبه بما هو أهله، ولم نجد لهذه الخلافات أثراً في سلوكهما ومعاملتهما.
كان عمر يقول عن ابن مسعود: "كنيِّف ملئ علماً"، وعندما استشهد عمر قال ابن مسعود: "لم يُصب الإسلام بمصيبة أفدح من هذه"، أو كما قالا.
2. عندما أتم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الصلاة الرباعية في موسم الحج بمنى متأولاً، أتم معه ابن مسعود، فقيل له: كيف تصلي أربعاً وقد صليتَ مع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأبي بكر وعمر ركعتين؟! قال: "الخلاف شر".
الذي حمل ابن مسعود على إتمام الصلاة الرباعية بمنى مع عثمان خوف الاختلاف الذي لا يأتي بخير، وإن كان المخالف محقاً، طالما أن عثمان فعل ذلك متأولاً، وهو إمام راشد يُقتدى بفعله.
3. معاملة علي رضي الله عنه للمقاتلين له من أهل الجمل وصفين، وإكرامه لعائشة - رضي الله عنها -، ورده لها إلى المدينة معززة مكرمة مع فريق من النساء، وقد أخرج ابنيه الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة.
وقوله لمن أخبره بمقتل الزبير رضي الله عنه: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار.(2/403)
4. ثناء علي - رضي الله عنه - على الذين امتنعوا عن القتال معه ومع غيره: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -.
5. عندما سُئل عن الخوارج الذين شقوا عصا الطاعة عليه، وأضعفوا عسكره، وكفروه، وقاتلوه، وفي نهاية المطاف قتلوه ظلماً وعدواناً: هل هم كفار؟ قال: لا، بل من الكفر فروا.
فقالوا له: هل هم منافقون؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء كما شهد لهم الرسول: "ينكر أحدكم صلاته إلا صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم" الحديث.
فقالوا: ما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.
قال كل ذلك على الرغم من أنه يملك دليل كفرهم من السنة المطهرة، وعلى الرغم من انشراحه لقتالهم، وعدم انشراحه لقتال أهل الجمل وصفين، لأنهم كانوا صادقين في تأويلهم على الرغم من خطئهم في هذا التأويل.
6. اختلف الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وتناظرا في كفر تارك الصلاة كسلاً، وثبت كل منهما على ما أدَّاه إليه اجتهاده، ولم يؤثر هذا الخلاف ولا تلك المناظرة في علاقتهما وودهما لبعض.
قال الشافعي: خرجتُ من بغداد ولم أخلف فيها أفضل ولا أورع ولا أعلم من أحمد؛ وقال: أحمد إمام في عشرة أمور؛ ذكر منها الحديث، والفقه، والزهد، والفقر.
وكان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي؛ وكان يدعو له في السحر مع والديه وبعض أهل وده.
7. صفح الإمام أحمد - رحمه الله - وعفوه عن كل من أذاه بالضرب والسجن والتعذيب، إلا عن أئمة الفتنة الحقيقيين.
8. جانب من حلم وصفح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن خصومه عندما قدر عليهم ومُكِّن منهم، ونهدي ذلك إلى أولئك الذين يستدلون بأقوال هذا الإمام ويهملون ما كان يعامل به خصومه من أهل البدع وغيرهم.(2/404)
قال الشيخ علم الدين البرزالي: (لما دخل السلطان4 إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الإسكندرية5 معززاً مكرماً مبجلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حافل في قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه، ويتنصل مما وقع منه، فقال الشيخ: أنا أحللتُ كل من أذاني.
إلى أن قال: وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا يتكلمون فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله أي الملك-... وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم أي الملك على العلماء بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحد منهم بسوء، وقال: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له أي الملك -: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراً؛ فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي؛ وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حَرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجَّ عنا). 6(2/405)
9. وقال ابن القيم مادحاً ابن تيمية: (كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت له يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إذائه فزجرني، وأعرض عني، وقرأ: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وذهب لساعته إلى منزله فعزى أهله، وقال: اعتبروني خليفة له، ونائباً عنه، وسأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه؛ وتحدث معهم بلطف وإكرام، بعث فيهم السرور، فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه).
هذه النماذج الرائعة والصور الجميلة توضح ما كان عليه سلفنا الصالح من الفقه والأدب والورع وحسن الخلق، وتبين كذلك البون الشاسع والفرق الواسع بيننا وبينهم، حيث أن بعضنا يفتعل أسباب الخلاف افتعالاً، بإفشاء الزلات وتضخيمها، وستر الحسنات وإخفائها، ويعادي من غير سبب شرعي، على الرغم من أن الأسباب التي تدعو إلى الائتلاف والتوافق أكثر من أن تحصى في هذا العصر، من تكالب الأعداء من كفار ومنافقين وجهلة ومبتدعين.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "سدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا"، وعلى آله وصحبه ومن والاهم.
ـــــــــــــــ(2/406)
ولا تبخسوا الناس أشياءهم
قال - تعالى -: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) (هود/ 84-86).
(ولا تنقصوا المكيال والميزان) أي: لا تطففوا، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص… والتطفيف من المحظورات أشد الحظر، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع، ولو في القليل. لأن من دَنُؤتْ نفسه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملكته، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة [1].
(إني أراكم بخير): يريد بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف، أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما تأتونه من الشر كقول مؤمن آل فرعون: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) (غافر/29).
(وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط): وتكرر قوله في هذه السورة وغيرها: (يا قوم) يريد: (يا أهلي وأقربائي إني أحب لكم الخير والسداد في دينكم ودنياكم. وأخاف عليكم من عذاب مهلك إن لم تنتهوا عن الشرك والتطفيف.
وقوله: (عذاب يوم محيط) أي: مهلك، أو لا يشذ منه أحد، كقوله - تعالى -: (وأحيط بثمره) (الكهف/42)، وأصله من إحاطة العدو، وإحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وقد جاءتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وعذاب الدنيا لا يغني عن عذاب الآخرة فهم خالدون مخلدون في نار جهنم وبئس القرار.(2/407)
وقوله شعيب: (إني أخاف عليكم) يذكرنا بقول نوح لقومه: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)، وهكذا أنبياء الله ورسله يشفقون على أقوامهم، ولا يقابلون السيئة بمثلها، وهكذا يجب أن يكون الدعاة إلى الله.
(ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط) أي: أتموهما، والقسط: العدل، وهو عدم الزيادة والنقص، وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير، وهذا أمر بالواجب بعد النهي عن ضده لتأكيده [2].
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس: الهضم والنقص، ويقال للمكس البخس، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً كما تفعل السماسرة، أو كانوا يمكسون الناس أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء فنهوا عن ذلك [3]. وقال الألوسي: (وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم).
قلت: رحم الله الألوسي، لقد جاء قوله هذا في تفسيره (روح المعاني) الذي كتبه قبل بضعة عقود، ترى ماذا كان سيقول لو عُمَّر قليلاً ورأى الأنظمة التي تسمى بالاشتراكية، وقوانين التأميم ومصادرة أموال الناس وممتلكاتهم؟!
ماذا سيقول لو رأى القوانين الربوية والأنظمة المصرفية؟!. لقد شاهد - رحمه الله - بدايات الانحراف، وكانت هذه البدايات مستغربة أشد الاستغراب عنده، وعند أمثاله من العلماء، وأصبحت هذه الانحرافات رغم خطورتها وبشاعتها شيئاً مألوفاً عند كثير من علماء عصرنا، مع أن بينهم وبين الألوسي بضعة عقود من الزمن!!
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى الحديث عن البخس، جاء في المنار: (هذا أعم مما سبقه في البخس يشمل القنص والعيب في كل شيء، يقال بخسه حقه وبخسه ماله وبخسه علمه وفضله. والأشياء جمع شيء وهو أعم الألفاظ وجمعه يشمل ما للأفراد وما للجماعات والأقوام من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بالحدود الحسية ومن حقوق مادية ومعنوية) [4].
وبخس قوم شعيب ومعظم تجار عصرنا نوع من أنواع البخس الكثيرة…(2/408)
فمن البخس: تشويه المستعمرين وعملائهم لتاريخ استقلال معظم بلدان العالم الإسلامي. لقد عمدوا إلى ترويج الإشاعات وتلفيق التهم وإلصاقها بالعلماء الأبطال الذين قادوا الأمة في جهادها ضد المستعمر الدخيل… ومن جهة أخرى صنعوا زعامات مزيفة، وسلكوا سبلاً فيها من الخبث والدهاء ما يحير أولي العقول والألباب، ومن ذلك قيامهم باعتقال ومطاردة عملائهم من أجل أن يكسبوا عطف الجماهير التي تؤيد وتحيي كل من يقاوم المستعمرين، وأخرجت الجماهير هؤلاء الأقزام من المعتقلات، أو استقبلتهم بعد عودتهم من المنفى، ليفاوضوا أسيادهم ويتمموا المسيرة بعدهم.
ومن البخس: ما يزعمه المستشرقون ودعاة التغريب من تجرد وحياد وموضوعية في أبحاثهم ومؤلفاتهم، ولكنهم فيما يكتبون عن الإسلام يتنكرون لما يزعمون من حياد أشد التنكر، ويلجأون إلى الدس وتلفيق الروايات، ويستعينون بأكاذيب من سبقهم من أعداء الإسلام وأساطين الكفر والإلحاد… ثم تصبح وبكل أسف هذه المؤلفات مناهج في الجامعات والمعاهد العلمية في بلدان العالم الإسلامي.
ومن البخس: اتهام العلماء الدعاة، والجماعات الإسلامية بالتطرف والإرهاب والتخلف والرجعية، أما المنافقون الذين يتاجرون بدين الله، ويبيعون الفتاوى بدريهمات معدودات فهؤلاء تطلق عليهم أجهزة الإعلام أوصافاً وألقاباً فضفاضة كقولها عنهم: دعاة الاعتدال والشرعية والتقدم… وإذا قام طاغية بحفر الأخاديد، ونصب المشانق، وفتح أبواب السجون والمعتقلات ليزج فيها الأبرياء الآمنين… تطوعت الصحافة ووكالات الأنباء العالمية بنقل اتهاماته المتناقضة المتهافتة، مع أن مثل هذا الموقف يخالف أبسط أهداف الصحافة وغاياتها.. فكيف تعتمد الصحافة في أخبارها على أقوال طرف وتهمل معرفة أقوال الطرف الآخر؟!(2/409)
ومن البخس: أن لا يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وبشكل أخص فيما يسمى دول العالم الثالث حيث تقدم الولاءات الشخصية والحزبية على كل اعتبار آخر.. ويطارد أصحاب الكفاءات والاختصاصات النادرة، ويفترى عليهم لأنهم يخالفون مواقف الطاغوت وحزبه، وكم جرت هذه السياسة الطائشة من النكبات والمصائب على أمتنا، فالضابط الطيار الذي أنفقت عليه أموال طائلة يعيش في السجن، وفي أحسن الأحول في مكتب إداري وليس له عمل يستحق الذكر، هذا إذا كان ملتزماً بسلوكه الإسلامي ويعارض سياسة الحزب ومنهجه العلماني.
ومن البخس: تنحية شريعة الله - جل وعلا -، والاحتكام إلى الشرائع الأرضية الجائرة الظالمة، ولا يقبل الطغاة مجرد المساواة بين ما أنزله الله وما أملته أهواؤهم، ولا يعطون القضاة حرية الاختيار بين هذا وذاك.
ومن البخس: ظلم العاملين في حقل الدعوة الإسلامية لإخوانهم الدعاة سواء كانوا أفراداً أو جماعات، فعندما يقع بينهم خلاف بسبب الحسد أو التنافس على حطام الدنيا الفانية، يصبح الأخ في عين أخيه وكأنه شيطان رجيم، فتراه ينقد أعماله وأقواله ومؤلفاته، ويتدخل بنواياه، ويفسر عباراته وألفاظه تفسيراً ظالماً ليس فيه أدنى عدل ولا إنصاف… ويستنفر أنصاره وأعوانه في معركة لا يريد من ورائها وجه الله - تعالى -، ومعظم الأنصار ينصرون أخاهم وهو ظالم، ولا يطلبون منه برهاناً أو دليلاً… وقد يستعين بالظالمين ضد أخيه، وبعد هذا كله قد يعود المتخاصمان إلى سابق ودهما، ويعود الشيطان على حد زعم الخصم الظالم تقياً ورعاً طيباً… ألا ما أحوجنا إلى الالتزام بمعاني قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون) (المائدة/ 8).
- منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، الجزء الثاني.
----------------------------------------
[1] - الإكليل للسيوطي (عن محاسن التأويل) للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، مطبعة البابي الحلبي: 17، صفحة 6092.
[2] - الكشاف، تفسير سورة الشعراء، ص 127.
[3] - روح المعاني، الألوسي البغدادي، الجزء الثاني عشر، سورة هود: ص 116.
[4] - تفسير المنار: محمد رشيد رضا، 12/142، دار المعرفة بيروت.
ـــــــــــــــ(2/410)
الاختلاف في الدين
الاختلاف في مجالات نشاط الإنساني يؤدي إلى إقامة الحياة السعيدة، لكن الخلاف في مجالات الدين المختلفة سبب لتعاسة الإنسان، وفساد أمره وتشتت شأنه، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن الاختلاف في إطار الديانة مذموم من حيث الجملة قال - تعالى -: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء {الأنعام: 159}.
أ- الاختلاف في القرآن الكريم:
الاختلاف المذكور في القرآن الكريم على ضربين:
الضرب الأول: اختلاف تُذم فيه كلا الطائفتين المختلفتين كما قال - سبحانه -: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد {البقرة: 176}، وقال - تعالى -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}، وقال - تعالى -: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات {آل عمران: 105}.
وترجع أسباب الاختلاف المذموم بين طائفتين إلى فساد النية، لأن الدافع إليه هو البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ويرجع أيضًا إلى جهل كل من المختلفين بالأمر المتنازع فيه، أو الجهل بالدليل القاطع للنزاع، أو جهل كل من المختلفين بما عند صاحبه من الحق سواء كان ذلك في الحكم أو الدليل، هذا إذا كان عالمًا بما عنده من الحق حكمًا ودليلا، وقد بين الله - تعالى - أن أصل الشر كله الجهل والظلم، قال - تعالى -: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا {الأحزاب: 72}.(2/412)
الضرب الثاني: هو ما حمد الله فيه إحدى الطائفتين؛ وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما قال - سبحانه وتعالى-: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا {البقرة: 253} فحمد إحدى الطائفتين ووصفهم بالإيمان، وذم الأخرى ووصفها بالكفر، هذا وأكثر الخلاف المؤدي إلى الأهواء والبدع في الأمة المحمدية هو من النوع الأول، سبب ذلك أن كلا من الطائفتين المتنازعتين لا تعترف بما عند الأخرى من الحق ولا تعدل في حكمها لها وعليها.
ب: الاختلاف في السنة النبوية:
ويتبين ذلك من عدة أمور:
أولا: إخباره - - صلى الله عليه وسلم - - عن افتراق هذه الأمة كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" {رواه أبو داود كتاب السنَّة (38) والترمذي كتاب الفتن (34)}
ثانيا: إخباره بانتشار الأهواء وتبني بعض الأمة نشرها والدفاع عنها، كما قال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - - صلى الله عليه وسلم - -؛ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به" {رواه أحمد في المسند (4-105) وأبو داود في كتاب السنّة (38}(2/413)
ثالثا: إخباره باتباع هذه الأمة أهل الكتاب في أهوائهم كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" {رواه الترمذي كتاب الإيمان (8)}
رابعا: نصه على من معه الحق من طوائف الافتراق كما في الحديث الآنف الذكر.
خامسا: أنه نهى عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما عند الآخر، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: "كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" {رواه البخاري كتاب الخصومات(1)، فضائل (27)، أنبياء (54)}
فدل الحديث على تحريم مثل هذا الاختلاف وأن يكون لنا عبرة فيمن قبلنا حيث اختلفوا بمثل ذلك.
سادسًا: الاختلاف في السنة النبوية على نوعين:
النوع الأول: اختلاف تنوع: كالاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد ونحو ذلك وهذا النوع من الاختلاف يأتي على وجوه منها:
أن يكون القولان أو الفعلان مشروعين كالقراءات ومن ذلك ما تقدم من اختلاف الأنواع، ومنها ما يكون الاختلاف القولي في اللفظ دون المعنى، ومنها ما يكون كل واحد من الأقوال غير الآخر لكن لا تنافي بينهما وهما قولان صحيحان، ومنها ما يكون في طريقتين مشروعتين لكن كل واحد قد سلك واحدة منهما. وهذا النوع من الاختلاف ليس مذموما لكن إن اقترن به البغي والظلم مع الجهل صار مذموما.(2/414)
النوع الثاني: اختلاف تضاد: وهو أن يتنافى القولان من كل وجه وهو يكون في الأصول والفروع، وهذا لا يكون إلا على قول جمهور العلماء من أن المصيب في الكل واحد وهو الراجح، وأما على قول من يقول كل مجتهد مصيب فهو عنده من قبيل اختلاف التنوع، أما هذا النوع من الاختلاف أي التضاد فهو أكثر أنواع الاختلاف وأعظمها خطرًا؛ وذلك كالاختلاف في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك في باب الأصول والاختلاف بالتبديع وعدمه في باب الفروع، هذا وقد جاءت السنة بإقرار اختلاف التنوع كما في إقراره - - صلى الله عليه وسلم - - للصحابة على اجتهادهم في فهم قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" {متفق عليه، رواه البخاري كتاب (64) باب (49)، مسلم كتاب (5) ح (209)}
فمنهم من أخرها أخذًا بهذا الحديث ومنهم من أخذ بأحاديث الوقت مخصصًا لهذا الحديث.
وجاءت السنة بذم اختلاف التضاد كما في حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن ابن عمر أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: "إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب" {رواه مسلم كتاب العلم ح(2)}
أسباب الاختلاف في الدين
ويمكن أن نتلمس أسباب الخلاف من خلال نصوص الكتاب والسنة وهي كما يلي:
أولا: بغي الخلق بعضهم على بعض وظلم بعضهم لبعض كما قال - سبحانه -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}.
واستحلال الدماء من أخطر النتائج التي تترتب على الظلم والبغي، ولذا فقد شرع الله ما يمنع البغي والظلم من الإصلاح فقال - سبحانه -: فأصلحوا بين أخويكم {الحجرات: 10} وأوجب على الأمة المحمدية رد الظلم فقال - سبحانه -: فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين {الحجرات: 9} فأمر بالعدل الذي هو ضد الظلم والبغي.(2/415)
ثانيا: اتباع الهوى الذي يتضمن اتباع ما تهواه النفوس والطبائع وترك ما يأمر به الشرع من العدل والإحسان كما قال - تعالى -: ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله {الأنعام: 153} فجمع السبل لكثرتها ووحد سبيله لأنه واحد كما قال - تعالى -: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه واتباع الهوى من أكبر الأسباب في رد الحق والتكبر عليه والإقامة على الباطل والتشبث به كما قال - سبحانه -: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم {الجاثية: 23}.
وقال أبو العالية: (وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء)، ومن هنا حذر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - من أتباع الهوى فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". {أخرجه بن أبي عاصم في السنة (1-12) والبغوي في شرح السنة (1-212) من طريق نعيم بن حماد وأشار ابن رجب الحنبلي لانقطاع سنده في كتاب (جامع العلوم والحكيم) ح (41) فهو ضعيف}
ثالثا: اتباع وساوس الشيطان، والشيطان عدو لبني آدم كما أخبر الله بذلك بقوله: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر: 6} وهو لا يألوا جهدًا في إضلالهم كما قال - سبحانه -: إنه عدو مضل مبين {القصص: 15}، وحذرنا الله من اتباع طرقه ووساوسه فقال: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين {البقرة: 208} وأوضح لنا أن التفرق والاختلاف ما هو إلا حبيلة من حبائله قال - تعالى -: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون {المائدة: 91}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم" {رواه أحمد في مسنده}.(2/416)
رابعا: اتباع المتشابه: وهو ما لا يعلم معناه إلا الله، وترك المحكم الواضح البين، فقد روى الآجري بسنده عن سعيد بن جبير في قوله - عز وجل -: وأخر متشابهات {آل عمران: 7}، قال: أما المتشابهات فهي: آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن، كل فرقة يقرأون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى.
وقد حذر الله هذه الأمة من اتباع المتشابهات، فقال - تعالى -: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {آل عمران: 7}.
وسبيل أهل الحق: الإيمان بالمتشابه ورده إلى المحكم، فقد روى الآجري بسنده عن ابن عباس قال عن الخوارج: (يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به).
خامسا: الجهل بالدين، فإن في العلم نجاة وفي الجهل هلكة قال - تعالى -: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون {الزمر: 9}.
والعلم لن يضل السبيل أبدا لأن العلم النافع هو الطريق الصحيح لحفظ الإسلام، قال - تعالى -: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم {النساء: 83}.
سادسا: إطلاق الألفاظ المشتركة والمجملة المحتملة للحق والباطل وأكثر ما جرى بين الأمة من الاختلاف والفرقة هو بسببها بدءًا بانشقاق الخوارج والشيعة بقولهم: (لا حكم إلا لله) وانتهاء بذلك الكم الهائل من الفرق بسبب تلك المصطلحات التي عجت بها كتب العقائد كالافتقار والتركيب والبعض والجزء والجهة والحيز والحد ونحوها مما لا يمكن حصره.(2/417)
سابعا: الابتداع في الدين بأن يشرع ما لم يشرعه الله لعباده أصلا وهيئة، كما قال - سبحانه -: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله {الشورى: 21}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" {سنن أبي داود كتاب السنة باب (5)}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" {متفق عليه رواه البخاري كتاب الصلح باب (5)، مسلم الأقضية ح(17)}.
والناظر في أكثر ما جرى من الانقسام في جسم الأمة المحمدية يجده من هذا القبيل.
ثامنا: الغلو في الدين كما قال - سبحانه -: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق {النساء: 171}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" {رواه أحمد في مسند (1-215) وابن ماجه كتاب المناسك (25) ح(29-30)}.
تاسعا: متابعة الأمم السابقة من اليهود والنصارى وسواهم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - - صلى الله عليه وسلم - -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". {سنن الترمذي كتاب الفتن باب (18)، وابن ماجه كتاب الفتن باب (17)}
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مِثْلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة"، قيل من هي يا رسول الله؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" {سنن الترمذي كتاب الإيمان (38) باب (18)}.(2/418)
عاشرا: الثقافات الوافدة نتيجة لترجمة علوم الأمم الأخرى كاليونانية والهندية وهي ثقافات وثنية، وقد بدأت ترجمتها في أواخر عهد بني أمية في المائة الثانية من الهجرة حيث كان خالد بن يزيد بن معاوية شغوفا بعلوم الأوائل وفلسفتهم ثم زادت حركة الترجمة بعد توقف في خلافة المأمون حيث أرسل لملوك البلدان من يجلب ما عندهم من مخطوطات العلوم والفنون ليجلبوا له كتب الفلسفة التي اتفقوا على جلبها إلى العالم الإسلامي حتى يفسدوا عليه عقائده ويولدوا الفرقة فيه من داخله وهو نتيجة طبيعية لتلك المناظرات الفلسفية والمعارضات العقدية.
حادي عشر: كيد أعداء الإسلام والذين أظهروا الإسلام قصدًا لِفَتِّ قوته وتقويض دوْلته وزرع الخلافات بين أهله واتخذوا من الحركات الباطنية والسرية طريقا لنشر أباطيلهم ولقد كان لبعضهم من المكانة والمنزلة ما يسر له ذلك مثل ابن المقفع المجوسي والبرامكة عُباد النار ممن كانت لهم صولة وجولة في أيام غيبة الوعي الإسلامي ومن أعظمهم أثرًا وأكثرهم خطرًا الوزير ابن العلقمي الرافضي والباطني والنصير الطوسي اللذان عن طريقهما قضي على حضارة الإسلام في المشرق عندما هيأوا للتتار طريق الدخول على المسلمين وتحطيم دولتهم والقضاء على معارفهم، مما كان سببًا في نشر الفرقة بين المسلمين.
ثاني عشر: التأويل الذي به استحلت الأموال والأنفس والفروج وغُيِّر وجه الدين عن طريق التأويل الباطني والصوفي والكلامي.
ثالث عشر: الجدل والخصومة في الدين.
رباع عشر: العصبية للآراء والمذاهب.
والله من وراء القصد.
ـــــــــــــــ(2/419)
في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها
الاختلاف والخلاف وعلم الخلاف:
الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من "الضد " لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال - تعالى -:
((فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم…)) [مريم: 37]
((وَلا يزَالُون مُخْتلِفين)) [هود: 118]
((إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف)) [الذاريات: 8]
((إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون)) [يونس: 93].
وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف " يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.
وأما ما يعرف لدى أهل الاختصاص بـ "علم الخلاف " فهو علم يمكِّن من حفظ الأشياء التي استنبطها إمام من الأئمة، وهدم ما خالفها دون الاستناد إلى دليل مخصوص، إذ لو استند إلى الدليل، واستدل به لأصبح مجتهداً وأصولياً، والمفروض في الخلاف ألاّ يكون باحثاً عن أحوال أدلة الفقه، بل حسبه أن يكون متمسكاً بقول إمامه لوجود مقتضيات الحكم - إجمالاً - عند إمامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم، كما يكون قول إمامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل إليه إمامه كذلك.
الجدل و "علم الجدل":
إذا اشتد اعتداد أحد المخالفين أو كليهما بما هو عليه من قول أو رأي أو موقف، وحاول الدفاع عنه، وإقناع الآخرين به، أو حملهم عليه سميت تلك المحاولة بالجدل.
فالجدل في اللغة "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة " مأخوذ من "جدلت الحبل " إذا فتلته وأحكمت فتله، فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه.
وأما "علم الجدل " فهو: علم يقوم على مقابلة الأدلة لإظهار أرجح الأقوال الفقهية(4).(2/420)
وعرَّفه بعض العلماء بأنه "علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد ولو باطلاً وهدم أي وضع يراد ولو حقا ً" (5).
ويظهر في هذا التعريف أثر المعنى اللغوي للجدل، لأنه - على هذا - علم لا يتعلق بأدلة معينة، بل هو قدرة أو ملكة يؤتاها الشخص ولو لم يحط بشيء من الكتاب والسنة ونحوهما.
الشقاق:
فإذا اشتدت خصومة المتجادلين، وآثر كل منهما الغلبة بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بنما تفاهم أن اتفاق سميت تلك الحالة بـ "الشقاق" و "الشقاق" أصله: أن يكون كل واحد في شق من الأرض أي نصف أو جانب منها، فكأن أرضاً واحدة لا تتسع لهما معاً، وفي التنزيل ((وَإنْ خِفْتُم شِقاق بيْنِهِما)) [النساء: 35] أي خلافاً حاداً يعقبه نزاع يجعل كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه، ومثله قوله - تعالى - ((فَإِنّما هُمْ فِي شِقاق ٍ)) [البقرة: 137].
المقبول والمردود من الاختلاف:
قضت مشيئة الله - تعالى - خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله - تعالى -، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله - تعالى - كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن أعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له ((وَلوْ شاء ربُّك لجَعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولا يزالون مُخْتلِفين إلاّ مَنْ رَحِم ربُّك ولذلِك خَلقهم)) [هود: 118-119].
ـــــــــــــــ(2/421)
لخلاف بعد القرون الخيرة وآدابه
منذ القرن الرابع الهجري انتهى الاجتهاد، وغربت شمسه، وغدا التقليد شائعاً، فالكتب والمدونات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا على مذهب الواحد من المجتهدين، واتخاذ قوله، والحكاية عنه، والتفقه على مذهبه لم يكن شيء من ذلك موجوداً في القرنين الأول والثاني(155). وأما القرن الثالث فقد كان الاجتهاد ولا يزال هو الشائع فيه، وربما عمد بعض العلماء إلى التخريج على قواعد وأصول من سبقهم من أهل العلم ولكن دون تقليدهم والتشبث بأقوالهم.
وأما أهل المائة الرابعة، فقد كان فيهم العلماء والعامة، فأما العامة من الناس فقد كانوا يتلقون من أهل العلم ما يروى عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في المسائل التي لا خلاف فيها من جمهور المجتهدين، كمسائل الطهارة والصلاة والصيام والزكاة ونحوها، فيعملون بحسب ما روي لهم فيها، وإذا وقعت لهم أمور فيها من الدقة ما يحتاجون معه إلى الاستفتاء، استفتوا أهل العلم في ذلك دونما نظر إلى المذهب الذي يتمذهب به ذلك العالم.
وأما خاصة الناس وأهل العلم منهم، فقد كانوا يشتغلون بالحديث، ويتلقون من أحاديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وآثار أصحابه ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين، فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن إليه قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام من سبقه من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار أوثقهما سواء كان من أهل المدينة أو الكوفة.(2/422)
وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً به ويجتهدون في المذاهب، وينسبون إلى المذهب الذي يخرجون عليه، فيقال: فلان شافعي وفلان حنفي، دون أن يكون هنالك التزام بالمذهب كما صارت إليه الحال فيما بعد. وأصحاب الحديث منهم ينسبون إلى المذاهب لشيوع التوافق، فالنسائي أو البيهقي أو الخطابي كانوا ينسبون إلى الشافعي مثلاً، وكان لا يتولى القضاء إلاّ مجتهد، ولا يسمى العالم فقيهاً إلاّ إذا كان مجتهداً.
الحالة بعد القرن الرابع:(2/423)
أما بعد القرن الرابع فقد تغيرت الحال ولندع حجة الإسلام الغزالي (توفي: 505هـ) يصف لنا ذلك حيث يقول: "اعلم أن الخلافة بعد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله - تعالى -، فقهاء في أحكامه، وكانوا مشتغلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلاّ نادراً في وقائع لا يستغني فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله - تعالى - بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة من بعدهم (أي الخلفاء) إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات ، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبّوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب، ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طلبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله - تعالى - في عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات. ثم صدر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقلات الناس في قواعد العقائد، والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم(2/424)
الكلام(156)،
وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الذين، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقاً على خلق الله، ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة، والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، - رضي الله عنهما -، على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد(157) - رحمهم الله - تعالى - وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة وإلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضاَ معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين (158)".
ومن استقراء الأفكار في النص نجد أن:(2/425)
1 - الإمام الغزالي - رحمه الله - قد وضع يده هذه الكلمات على الداء الحقيقي الذي أصاب الأمة نتيجة ذلك الفصام النكد الذي وقع بعد الأئمة الراشدين بين القيادتين: الفكرية والسياسية، فدمغ تاريخنا بتلك السمة التي لم نزل نعاني منها، حيث وجدت ممارسات سياسية غير إسلامية، نجمت عن جهل الساسة بالسياسة الشرعية الإسلامية… لدينا فقه نظري افتراضي لا مساس له بقضايا الناس، ولا يعالج مشكلاتهم اليومية بالطريقة العملية نفسها التي كانت تعالج فيها تلك القضايا على عهد الصحابة والتابعين، فمعظم القضايا الفقهية، وكثير من المسائل الأصولية ليست إلاّ أموراً افتراضية ولدتها المناظرات والمجادلات والقضايا الخلافية.
2 - تحول الفقه، بعد تلك الممارسات الخاطئة، من وسيلة لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشريعة إلى وسيلة لتبرير الواقع المطلوب، أياً كان ذلك الواقع، فأورث ذلك الحياة التشريعية لدى المسلمين نوعاً من القلق الغريب كثيراً ما جعل الأمر الواحد من الشخص الواحد في زمن واحد في زمن واحد ومكان واحد حلالاً عند هذا الأصول الفقهية، وباب واسع من أبواب الفقه عرف بباب "المخارج والحيل " (159) وأصبح إتقان هذا الباب والمهارة فيه دليلاً على سعة فقه الفقيه ونبوغه وتفوقه على سواه، وكلما تقدم الوقت وضعف سلطان الدين على أهله تفاقم هذا الأمر وتساهل الناس في أمر الشرع حتى وصل الأمر لدى بعض القائمين على الفتاوى أنهم أخذوا يفتون بما لا دليل عليه، ولا يعتقدون صحته زعماً منهم أن في ذلك تخفيفاً على الناس أو تشديداً يضمن عدم تجاوز الحدود كأن يرخص بعضهم لبعض الحكام بما لا يرخص فيه لعموم الخلق (160).
وقد يسال أحدهم عن الوضوء من لمس المرأة، ومس الذكر فيقول: لا ينتقض به الوضوء عند أبي حنيفة.
وإذا سئل عن لعب الشطرنج وأكل لحوم الخيل قال: حلال عند الشافعي.
وإذا سئل عن تعذيب المتهم، أو مجاوزة الحد في التعزيرات قال: أجاز ذلك مالك.(2/426)
وإذا أراد أن يحتال لأحد في بيع وقف إذا تخرب وتعطلت منفعته، ولم يكن لمتوليه ما يعمره به أفتاه بجواز ذلك على مذهب أحمد؛ حتى أصبحت أوقاف المسلمين تتحول من الوقف إلى الملك الخاص في كل مجموعة من السنين(161).
وهكذا ضاعت مقاصد الشرع بضياع تقوى الله، وأهملت قواعده الكلية، حتى بلغ الأمر بسفهاء الشعراء وغواتهم ومجّانهم حد التندر بأحكام الله كأن يقول أبو نواس:
أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد *** فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما *** وأشربها لأفارق الوازر الوزر
لقد هان الرجال الذين يحمون بيضة الدين، فهان على الناس دينهم حتى غدا تجاوز الحدود أمراً يقبل عليه الناس بحجة التيسير، فصار ذلك شأن بعض المفتين من الذين هدموا جدار الهيبة وأباحوا لأنفسهم الإفتاء بما يستجيب لهوى النفوس، قابلهم فريق تصلب وتشدد، وحاول أن يبحث عن أغلظ الأقوال وأشدها ليفتي من يستفتيه، ظناً منه أنه في هذا يخدم الإسلام، ويرد الناس إلى الأخذ بعزائمه، ولكن الأمر ليس كذلك، النتيجة لم تكن - دائماً - كما توقعوا إذ كثيراً ما يحدث العكس فتنفر العامة من الشرع، وتأبى الانقياد له، وترى فيه العسر بدل اليسر، كما في قصة الملك الأندلسي الذي سال الفتي المالكي يحنى بن يحنى(162) عما يجب عليه أن يفعله كفارة لوقاعه في نهار رمضان، فأجابه بأن عليه صيام شهرين متتابعين لا يجزئه غيرهما. وكان عليه أن يفتيه بالعتق أولاً، ولما سئل عن ذلك قال: إنه يستطيع أن يعتق مئات الرقاب فلا بد من أخذه بالأشق وهو الصيام، ولو احتكامه استجابة ذاتيّة فطرية طوعية بلا عنت ولا مشقة، وفي الوقت نفسه لا يدع الناس أحراراً يمتطون مراكب الهوى، لو فعلنا ذلك لتبين لنا أن كلا الطرفين كان مخطئاً وأن كلاّ منهما قد تجاوز ما قصده الشارع الحكيم.(2/427)
إن مهمة العالم هي تبليغ رسالة الله - تعالى - للناس كما أنزلها الله في كتبه، وكما أرسل بها رسله، وليس له أمر التشديد أو التخفيف
((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِنِكُمْ…)) (الحجرات: 16)
((… قل أأنْتُمْ أعْلمُ أمِ الله ُ)) (البقرة: 140) والعبرة بالاتباع فما جاوزه ابتداع سواء أكان في جانب التشديد أم التخفيف.
التقليد وعواقبه:
رأينا فيما تقدم كيف آل أمر الاجتهاد إلى ما أل إليه، لقد خاف كثير من الصلحاء من أن يلج بابه من لا يصلح له، فقد تصدى الفتيا رجال صنعوا على أعين السلطان فأصبحوا يلوون أعناق النصوص إلى حيث مالت بهم رياح الهوى، وتفاوت العلماء بين مرخص ومتشدد، وخشي صلحاء الأمة على مصيرها ومصير دينها وبدؤوا يبحثون عن العلاج فلم يجدوا منفذاً للخلاص إلاّ في إلزام الأمة يا تقليد، ويا لها من أزمة يكون المخرج منها درك التقليد.
إن تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، واستمرار مناقضاتهم ومعارضاتهم وممانعتهم جعل المخرج الوحيد من الجدل هو الرجوع إلى أقوال المتقدمين في المسائل الخلافية، كما أن الناس فقدوا الثقة بكثير من القضاة لتقربهم من السلطان وإقبالهم على الدنيا وجورهم في كثير من القضايا، فأصبحوا لا يثقون بقضاء القاضي إلاّ إذا كان قضاؤه موافقاً لقول أحد الأئمة الأربعة.
وهكذا اعتبر تقليد الأئمة الأربعة عند جماهير المسلمين، والتزام أقوالهم في كل ما قالوا به، والتخريج عليها فيما لم يقولوا به ضمانة واقية من الاجتهادات المنحرفة التي قد تصدر عن غير أهل الورع من حملة العلوم الشرعية خدمة للأغراض، وتحقيقاً للرغبات، فقد ادعى إمام الحرمين (توفي 478هـ) انعقاد إجماع المحققين على منع تقليد أعيان الصحابة، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذي سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين، ثم أكد ذلك وخلص إلى ذلك الحكم الغريب بكون العامي مأموراً باتباع مذاهب السابرين (163).(2/428)
وعلى قول إمام الحرمين هذا، وعلى ادعائه إجماع المحققين، بنى لبن الصلاح (643هـ) دعواه بوجوب تقليد الأئمة الأربعة لانضباط مذاهبهم وتدوينها، وتحرير شروطها، ونحو ذلك مما لم يتوفر لمذاهب سواهم من الصحابة والتابعين(164) وتناقله عنه - بعد ذلك - المتأخرون(165). ومن هنا بدأ إهمال الناس للكتاب الكريم وعلومه، وإعراضهم عن السنة وفنونها، وقنعوا من العم بنقل الأقوال والمذاهب وتقعيدها وتأصيلها والجدال عنها، والتفريع عليها، والتخريج منها في أحسن الأحوال.
واستمر الانحدار واشتد الخلاف وتعمق ونشأت بعد ذلك قرون على التقليد المحض، فركدت حركة الفكر، وذوت شجرة الاجتهاد، وانتشرت الفتن وعم الجهل، وأصبح الفقيه العالم - في نظر الناس - هو ذلك الذي حفظ جملة من أقوال الفقهاء وتزود بعدد من الآراء، دون تمييز بين قويها وضعيفها، وصار المحدث من حفظ جملة من الأحاديث. صحيحها وسقيمها.
وليت الأمر توقف عند هذه الحدود، فقد نزل الحال عن هذا الدرك الهابط إلى ما هو أشد هبوطاً منه، كأن شمس العلوم غابت عن دنيا المسلمين وعقم الفكر، فراجت سوق البدع، ونفقت بضاعة الانحراف، وشاعت الخرافات فاتخذت أشكالاً مختلفة، مما أفسح أمام الغزاة الطريق ليكتسحوا الحضارة الإسلامية ويستبيحوا ديار الإسلام.
حالة الأمة في الأحقاب الأخيرة:
كانت تلك حالة الأمة التي غفت في أحضان التقليد، ونامت على أحلام ماض مجيد، فمنذ وقوع الفصام النكد بين أولي الأمر ومصادر التشريع لهذه الأمة والناس حيارى تتقاذفهم الأهواء، وعلماء الأمة في شغل عنهم، كل بما يشغله ويرى أنه الأسلم، حتى إن من يطلع على تراث الأمة يكاد لا يصدق أن هذا الخلف الجامد المتحجر من ذلك السلف الحي المستنير؛ ولما قامت النهضة الأوروبية الحديثة، والأمة على تلك الحال، وجد الأوروبيون أمامهم أمة لم يبق من مقوماتها الحقيقية شيء يذكر:(2/429)
فالعقيدة خاملة، وإيمان الكثيرين مزعزع، واليقين لم يعد يقيناً، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفكر جامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع قائمة، والسنة نائمة، والوعي غائب، حتى لكأن الأمة ليست هي، وحالة كهذه قد أغرت الذين كانوا يتربصون بالأمة، فاهتبل الغربيون هذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه اليوم، من هوان واستكانة، وغدت مقاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشاكل أوجدناها بأنفسنا، وشكلناها بأيدينا.(2/430)
وخلال ذلك حاولت الأمة بما بقي لها من صبابة الحياة أن تنهض من كبوتها، وتستقيل من عثرتها، فباءت كل محاولاتها بفشل ذريع، لأنها أخطأت السبل المؤدية إلى النجاح وخالفت سنة الله، فقد قامت تلك المحاولات من منطلق تقليد الأجنبي والتبعية للمحتل حتى ازدادت أحوالها سوءاً وبدأ الجيل الجديد من الأمة يتطلع إلى الحل السليم، ويبحث عن البلسم الشافي، فبدأت فئات لا بأس بها من أبناء الأمة تدرك "أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلاّ بما صلح بها أولها" فاتجهوا نحو الإسلام ينهلون من عذب معينه، وظهر ما اصطلح على تسميته "الصحوة الإسلامية" وما كان لأعداء الإسلام على اختلاف نحلهم إن يخلوا الساحة لهذه الدعوة المباركة، وما أكثر الأسلحة التي يستخدمونها المحاربتنا - وبعض أبناء جلدتنا الذين يعيشون بين ظهرانينا من تلك الأسلحة - حيث لم ير بعضهم بأساً في أن يكونوا معاول هدم بأيدي أعداء الأمة، وقد تمثل ذلك في أجهزة كثيرة تحاول الكيد للعصبة المؤمنة، وتحول بينها وبين تميد السبيل لاستئناف الحياة الإسلامية، مستعملة شتى الأسلحة، ناصبة بوجه هذه الصحوة أخطر التحديات، فإذا بهذه الصحوة المباركة توجه التحدي المقيت "الاختلاف " فيما تواجه من تحديات هائلة، وكانت التحديات الأخرى كافية لاستنزاف جهد العاملين المخلصين بله "الاختلاف " وإذا بكثير من الجهود تتفتت على هذه الصخرة المقيتة، فبدأنا نرى شباباً ينتسبون إلى السلفية، وآخرون ينتسبون إلى أهل الحديث، وفريقاً ينتسبون إلى المذهبية، وآخرين يدعون اللامذهبية، وبين هؤلاء وأولئك تتبادل الاتهامات المختلفة من التكفير والتفسيق والنسبة إلى البدعة والانحراف والعمالة والتجسس ونحو ذلك، مما لا يليق بمسلم أن ينسب أخاه إليه بحال، فضلاً عن أن يعلنه للناس بكل ما لديه من وسائل غافلين أو متغافلين عن أن ما يتعرض له الإسلام من محاولات استئصال أخطر على الأمة من تلك الاختلافات، وإذا كان للأزمة المجتهدين(2/431)
أسباب اختلاف تبرر اختلافهم، وتخفف منها، وتساعد على وضعها ضمن ضوابط الاختلاف، فإن أرباب الاختلاف من المعاصرين لا يملكون سبباً واحداً من أسباب الاختلاف المعقولة، فهم ليسوا بمجتهدين، وكلهم مقلدون بمن فيهم أولئك الذين فعون أصواتهم عالياً بنبذ التقليد ونفيه عن أنفسهم، وأنهم يأخذون الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة دون تقليد، وهم في الحقيقة يعكفون على بعض كتب الحديث، ويقلدون كاتبيها في كل ما يقولون في الحديث ودرجته ورجاله ويتابعونهم في كل ما يستنبطونه من تلك الكتب أو ينقلونه من الفقهاء، وكثير منهم ينسب لنفسه العلم بالرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل وتاريخ الرجال، وهو في ذلك لا يعدو أن يكون قد درس كتاباً من كتب القوم في هذا الموضوع أو ذاك فأباح لنفسه أن يعتلي منبر الاجتهاد، وحق له أن ي- تعالى - على العباد، وحري بمن نال نصيباً من العلم أن ينهاه علمه أن يكون من الجاهلين، وأن يترفع عن توزيع الألقاب واتهام الناس، ويدرك خطورة ما تثعرض له عقيدة الأمة فيعمل على الذب عنها، ويحرص على جمع القلوب، وما دام الجميع يقلدون ويأخذون عن أئمتهم أقوالهم على اختلافهم - وإن زعموا غير ذلك - فلا أقل من أن يلتزموا بآداب الاختلاف التي عاش في كنفها كرام الأئمة من السلف.(2/432)
لقد كان المؤمنون المخلصون يؤملون أن تنطلق هذه الصحوة الخيرة لتردم ما أحدثته الأفكار الكافرة والملحدة، والعقائد الزائفة المنحرفة من هوة سحيقة في كيان هذه الأمة التي اجتالت الشياطين عقول وأفئدة الكثير من أبنائها، وتطهر قلوبهم من ذلك الزيغ لتحل محله العقيدة الإسلامية الصحيحة، ثم تنطلق برسالة الله إلى هذا العالم الفسيح فتعلو كلمة الله في الأرض، ولكن ما يحز في النفس أن يعمل بعض أبناء المسلمين ما يستحق من الأمور وما لا يستحق، الأمر الذي شغل المسلمين بأنفسهم، وبدد الكثير من طاقاتهم، وخلط أمامهم الأشياء خلطاً عجيباً جعلهم لا يفرقون بين الهنات الهيِّنات وعظائم الأمور، وبين يسيرها وجليلها، فكيف يمكن لقوم هذا شأنهم أن يعالجوا قضاياهم حسب أهميتها وأن يرتبوا الأمور بشكل يجعلهم قادرين على استئناف مسيرة الحياة الإسلامية؟!
إن إثارة الخلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه خيانة عظمى لأهداف الإسلام ، وتدمير لهذه الصحوة المعاصرة التي أحيت الأمل في النفوس، وتعويق لمسيرة الإسلام ، وتثتيت لجهود العاملين المخلصين لا يرضي الله جلّ شأنه، ولذلك فإن من أكثر وأهم واجبات المسلمين اليوم عامة - والدعاة منهم خاصة - بعد الإيمان بالله - تعالى -: العمل على توحيد فصائل حملة الإسلام ودعاته، والقضاء على كل عوامل الخلاف بينهم، فإن كان لا محالة فليكن في أضيق الحدود، وضمن آداب سلفنا الصالح، ولا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة ما دامت النية خالصة لوجه الله - تعالى -، وعندها فلن يعدموا التوفيق والتأييد من الله.
أسباب الاختلاف اليوم:
من المسلم به أن أسباب الاختلاف تتباين بين الأعصار، وإن كان كل عصر يورث الأعصار التالية بعض أسبابه، وإن من أبرز وأهم أسباب الاختلاف اليوم بين المسلمين: الجهل بالإسلام، أو العلم الناقص به.(2/433)
كانت الحالة العلمية في بلاد المسلمين قبل دخول المستعمر الكافر إليها ما وصفنا، أما بعد دخوله ديار الإسلام فقد ازداد الأمر سوءاً، فقد عرف المحتلون أين يكمن فضل هذه الأمة، فوجهوا اهتمامهم إلى وضع برامج التعليم وبناء مؤسساته بالطريقة التي تضمن لهم عقول المسلمين وتغيير أفكارهم حتى تصبح مهيأة لقبول الأوضاع والأفكار العالمية الجديدة ومحاولة الانسجام معها، زعماً من المستعمرين الكفرة أن في تقبل المسلمين للواقع الجديد دفعاً لهم في مدارج الرقي والتقدم قياساً على البلاد الأوروبية التي لم تخط خطوتها الجادة نحو مدارج الحضارة إلاّ بعد أن تمردت على الأحكام الدينية، وتحررت من ربقة الكنيسة، وأن الدين - أي دين بزعمهم - ليس إلاّ قيداً يحول دون انطلاق الإنسان نحو النعيم المنتظر((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً)) (الكهف: 5) وإذا كانت هذه الادعاءات صحيحة بالنسبة لأديانهم المحرفة فما أبعد أن يصح ذلك بالنسبة للإسلام الذي شاء الله أن تسعد به البشرية وتحقق سائر طموحاتها وهي تتحرك بنور الله.(2/434)
وسعياً لقطع الأمة عن أسباب وجودها وحياتها الإسلامية وضع المستعمر الكافر كل العراقيل والعقبات أمام التعليم الإسلامي، وما يمكن منه وهو تعليم اللغة العربية، وتحقيقاً لهذا الهدف فقد أهمل الطلبة الذين ينحون منحى التعليم الإسلامي، وبث الأفكار التي تقلل من شأنهم وتستهين بدراساتهم التي لم تعد تؤهلهم لشغل أدنى المراتب والمناصب، وبالمقابل خص بالرعاية والعناية الطلبة الذين انخرطوا في المدارس الحديثة، وتلقوا تعليمهم فيها، وفتحت أمامهم أبواب المستقبل الزاهر، فأصبحت المواقع القيادية في الأمة وقفاً عليهم، وهكذا ضيق الخناق على أهل التعليم الإسلامي واللغة العربية وسدت جميع السبل المؤدية إليه، ولم يعد يقدم على سلوك سبيله إلاّ نزر يسير من الطلبة يتعرضون - عادة - إلى مضايقات كثيرة جداً قد تحملهم على التراجع في أي مرحلة من مراحل الطريق، ومن أصر على الاستمرار فإن أمامه -دائماً - ألواناً من التمييز بينه وبين لآخرين، كما قلنا، في الأعمال والوظائف والمرتبات والدرجات تجعله يشعر بالظلم وانتقاص القدرة، لذلك فإن التعليم الإسلامي، في معظم بلاد المسلمين، قد قلَّ طالبوه وتدنى مستواه، وصار معظم الذين يقبلون عليه كمن يزرع في أرض لا يرجو جني حصادها، وقد لا يدفعهم إلى هذا النوع من التعليم إلاّ ظروف معينة، لا يقوون على التحرر من ضغوطها حتى بعد التخرج حيث السبيل موصدة أمامهم، ولا قدرة لهم على ممارسة الدور الذي ينبغي العالم أن يقوم به في المجتمع وتحقيق الرسالة المنوطة به، وأمام الأبواب الموسدة يفقدون استقلالهم وتضمحل شخصياتهم ويُحْملون على الانخراط في مؤسسات دينية رسمية أعدت، من قبل، لخدمة أغراض مرسومة محددة لا يستطيعون تجاوزها، حيث يحال بينهم وبين تأدية دورهم في المجتمع، وفقد الناس ثقتهم بهم.(2/435)
وفي محاولة لتعميق الهوة بين هذه الأمة وعقيدتها، ورغبة في قطع الجذور التي تصلها بشريعتها، حاول المستعمر الكافر وضع التعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية في الظل، وأخلى الساحة لأفكار ومبادئ اختارها، وزين لشباب الأمة ورود حياضها، فلم يجن هذا الشباب إلاّ الشوك والقذى. ولم يذق غير مر العلقم، لقد جرّب الشباب المسلم كل ألوان الفكر الذي قدم له من شيوعية إلى اشتراكية إلى راديكالية وقومية وديمقراطية وغيرها مما زُيِّنَ له من الغثاء الذي زاد الأمة الإسلامية هواناً على هوان، وذلاً فاق ما كانت فيه، وأيقن أن الإسلام - وحده - القادر على معالجة مشكلات الأمة، والنهوض بها من كبوتها، والقضاء على أسباب تخلفها، فقرر أن يتجه - بعد أن تاهت به السبل - إلى الإسلام ، وأن يسلك السبيل إليه من غير رفيق سوء يخاف على دينه ونفسه، ولما واجهته مشكلة التفقه في الدين ومعرفة أحكامه لجأ إلى الكتب من غير دراسات منهجية أن أصبح هؤلاء الشباب يفهمون الإسلام من خلال الكتب التي قرؤوها فرؤوا جانباً محدوداً من الإسلام لا يعطيهم الفكرة الشاملة المتكاملة عنه، ولا يمكنهم معرفة مقاصده وكلياته، ولا يمنحهم الرؤية السليمة من خلال غاياته، فهم أشبه بمجموعة من المكفوفين مرت أياديهم على مواضع متفرقة من جسم الفيل واعتبر كل منهم ما لمسه هو الفيل، وهكذا حال المسلمين مع الإسلام وتركب عربة الهوى تطوف بها بين شرق وغرب حتى كأن لم يعد يربطها بالإسلام إلاّ أسماء ورثتها، ولولا بقية حياء لتبرأت منها. وأخرى تحن للعودة إلى دوحة الإسلام الوارفة ولكنها تتخذ إليها سبلاَ مختلفة فيفرق بينها الاختلاف، ويمكِّن منها الأعداء، وتلاحقها عصا السلطان تحت كل سماء تحاول أن تسد عليها كل منفذ، وتستأصل شأفتها قبل أن يستقيم عودها.
ـــــــــــــــ(2/436)
ألا يستقيم أن نكون إخواناً ؟ !
متعب بن فرحان القحطاني
إنها سطورُ مكاشفةٍ ومصارحة..
إنها عملية ترميمٍ لما تصدّع من بنيان التربية..
إن شئتَ قُلْ إنها همساتٌ أخويّة تداوي قلوباً مريضة..
وإن شئتَ فقُلْ إنها كلماتٌ جريئة في فضح الأدعياء..
كتبتها حين سمعت أصواتاً نشازاً تؤذي مسامع الدعاة العاملين المرهفة..
تقيّد إقدامهم بهمزٍ ولمزٍ فاضح، وتطعن همَّتَهم بخنجرٍ مسمومٍ من القول الجارح..
تلك الأصوات لم تكن لعدوٍ ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق..
بل لأقوامٍ يزاحمون أهل الصلاح والإلتزام بمناكبهم.. ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ واحد..
ولكنهم بغوا على إخوانهم وأصابوهم بطائش سهامهم..
ادّعَوا أن الصوابَ رداؤهم والحقَ تحت عمائمهم.. فحجّروا واسعاً..
تقرّبوا إلى الله - جهلاً- بإيذاء إخوانٍ لهم.. يظنون أن ذلك يقرّبهم إلى الله زُلفى.. وما بلغهم " ولا يقبل اللهُ إلا الطيّب " (1)
مَن يشتري لسانَ طاعنٍ أو يشدّه بنِسْعَةٍ(2)؟!
"كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجّاء بشدِّ لسانه بنِسعةٍ، أو تشتري منه لسانه بمعروفٍ يصنعونه له فيمسكه عنهم، فكأنما ربطوا لسانه.
ولما جاءت رسالة الإسلام أقرَّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - هذه العادة حين أمر في غزوة حنينٍ يوم توزيع الغنائم، فقال: "اقطعوا عني لسانه"، أي أسكِتوه بالعطاء.
وأمضى الفاروق عمر -رضي الله عنه- هذه السُّنة في الحُطيئة(3) لما أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي -رضي الله عنه- وقال فيه ذمّاً مقذعاً ظنَّه عمرُ مدحاً حتى سأل حسان بن ثابت عنه أهو هجاء؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه بقوله:
(دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها *** واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي) (4)
فسجنه عمرُ في المدينة، فاستعطفه الحطيئة بأبياته المشهورة:
(ماذا تقولُ لأفْراخٍ بذي مرخٍ *** زُغْبُ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ(2/437)
ألقيتَ كاسبَهم في قَعرِ مُظلمة *** فاغفرْ عليك سَلامُ الله يا عمرُ) (5)
فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال الحطيئة: إذاً تموت عيالي جوعاً. فاشترى عمر -رضي الله عنه- منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم" (6) وأخذ منه العهد على ذلك، ولكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت الفاروق.
فياليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف " في كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب " و " كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في الطريق ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان. " (7)
بين سَتر العُصاة المُجرمين.. وفَضحِ الدّعاة المُصْلحين..
إنَّ القلب ليحزن وإن النفس لتضيق من إلتزامٍ صوريٍّ يعيشُ صاحبُه ضمن دائرةٍ ضيقة من معاني الإسلام الظاهرة كإعفاء اللحية وتقصيرِ الثوب ونحوها من سنن الهدى، فيدور في فلكها دون أن يخالط الإيمانُ شغافَ قلبه لينعكس خُلقاً كريماً وسلوكاً رفيعاً.. وإلى مثل هؤلاء وجَّه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خطابه فقال: " يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبِعوا عوراتِهم ". (8)
وإنك لتعجب من أبي بكرٍ الصّديق حين يقول فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: "لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه"، ولعلَّ ابن هبيرة قد فقِهَ قول الصِّديق فأسرَّها إليك أن "اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام و أولى الأمور ستر العيوب". (9)
إن قلباً كبيراً رحيماً كقلب الصدّيق -رضي الله عنه- قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم فأبت إلا أن تتتبعَ عوراتهم لتفضحهم، فيالله العجب!(2/438)
وكان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت، هل غزوت الروم؟ فرد سفيان أن لا. فسأله إياس ثانية: أغزوت الترك؟ فقال سفيان: لا.
فعلمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً حين صاح فيه: سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم. (10)
وهذا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق - حفظه الله - يعرّي دعاوى زائفة طالما تشدق بها أشباه المتدينين لاستباحة أعراض إخوانهم الدعاة والعاملين، في قوله:
"إنه مازال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر مَن يزعم نصرَ الدِّين وقول كلمة الحق فيترك أهل الأوثان والشرك والإباحية والكفر ويُعمِل قلمه ولسانه في المسلمين، بل وجدنا منهم مَن لا همَّ له إلا مشاغلة الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالسبِّ والتشهير........... ولمثل هذه الأمور التي يرونها مخالفاتٍ وما هي بمخالفات- يستحلّون أعراضهم وينتهكون حرماتهم ويفتّشون على أسرارهم ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعتهم وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فضِّ الناس عنهم". (11)
أ " لله " تُستباحُ الحُرمات وتُرتكبُ المحرمات؟!
إن ظاهرة القتل بنيران صديقة ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى قرونٍ مضت حين اكتشفها مُحدّث الأمة أبو هريرة -رضي الله عنه- فوقف ناصحاً واعظاً أولئك الذين سلّطوا عدساتهم المكبرة للتفتيش عن صغائر إخوانهم، فقال: " يُبصرُ أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذلَ -أو الجذعَ- في عين نفسه" قال أبو عبيد: الجذل الخشبة العالية الكبيرة. (12)
وهذا ابن القيم - رحمه الله - يلفّه استغرابٌ من مدّعي التديّن والوَرَع، الذين سَلّوا سيوفَ الكلمة لتقطّعَ لحوم إخوانهم ولم يُراعُوا لميِّتٍ حُرمة، فيقول: "وكم ترى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول!! ". (13)(2/439)
وفيما روى ابن الأثير في كامله من أحداث مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
"....... وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره -رضي الله عنه- وبه رمقٌ، فطعنه تسع طعنات قال: فأما ثلاثٌ منها فإني طعنتهن إياه لله - تعالى -، وأما ستٌ فلما كان في صدري عليه.
وأرادوا قطع رأسه، فوقعت نائلةٌ عليه وأمُ البنين، فصاحتا وضربتا الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه، فكسر ضلعاً من أضلاعه....... ".
ويقول الشيخ محمد أحمد الراشد - حفظه الله - معلّقاً:
"هكذا أعداء الإسلام دوماً يريدون قطع رأس الجماعة، وكسر أضلاع تنظيماتها، والمبرر ((لله))، كما قالها ابن الحمق!! وبصيحة ((لله)) هذه ضاع ألوفٌ من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثُبّطت جموعٌ، وكُشِفت أسرارٌ، ومُلئت سجون. ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركاً: ستٌ لما في الصدر". (14)
وما ذلك من ممارساتِ بعضِ مَن يُحسبون على تيار الصحوة اليوم ببعيد!!
ويبقى السؤال.. أحقاً كان ذلك ((لله))؟!
"ولا تَنْسَوُاْ الفَضْلَ بَيْنَكُمْ "..
إن أمراضاً خفيةً من هوى وحسد مع قلّةِ رصيدٍ من تربية وبضاعة مزجاة من علم قد تُنسي لاحقاً فضلاً لسابقٍ في دعوة لله وأمرٍ بمعروف ونهي عن منكر أو سجنٍ عند طاغيةٍ مستبدٍ أو كلمةٍ أوْدَعها نُصحاً في أذُن عاصٍ ضاقت به السبُل أو كتاباً نشر فيه علماً نافعاً أو حتى حضوراً لمجالس الخير كثّر به سواداً للمسلمين.
وإن مما تستوحش منه قلوب المؤمنين النقية وتشمئز منه نفوسهم السويّة ما تراه اليوم من تصرفات رعناء لأدعياء العلم والفضل حين يخطئ عَلمٌ أو رمزٌ مُوثّق أو داعيةُ خيرٍ كانت له في الإسلام سابقةٌ فيستبيحون عرضه ويهتكون أستاره وينسون فضله ولمّا يشتدّ عودُهم أو ينضج فكرُهم أو يبلغوا سنّ الحُلُم بَعْد.(2/440)
وكم رأينا من أقزامٍ تطاولوا ظلماً وعدواناً وافتروا زوراً وبهتاناً على أعلامٍ للدعوة ورموزٍ للفكر النيّر قد بذلوا لله الغالي والنفيس من أوقاتهم وأموالهم ودمائهم وهجروا الفُرُشَ والملذات حين كان أولئك الناقدون الناقمون يتسابقون على الدنيا وحطامها ويسيرون وراء سراب أهوائهم لا يلوون على شيء.
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا (15)
أقزامٌ ما حفظوا من كتاب الله إلا قصار السِّور، نصيبهم من العلم قليل ومن الفقه العَدَم، ما عرفوا الله إلا قريباً وظنوا جهلاً أنهم مع أشياخ الدعوة وعلماءها في الفضل سواء وما دَرَوا أنه ((لا يستوي منكم مَن أنفقَ من قبلِ الفتحِ وقاتلَ أولئك أعظمُ درجةً مِن الذينَ أنفقوا مِن بعدُ وقاتلوا)). الحديد-10.
ولسيدٍ - رحمه الله - كلامٌ جميل حول هذا المقطع من الآية:
"إنَّ الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة والأنصار قلّة وليس في الأفق ظِلُّ منفعةٍ ولا سلطان ولا رخاء، غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة والأنصار كثرة والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال". (16)
منهجٌ سَلفي ولا قلبٌ يَعي..
أين أدعياء السلفية -ممن يستبشرون بأخطاء الدعاة ويتصيّدون هناتهم ويبحثون عن زلاتهم- من كلامٍ نفيس لابن القيم - رحمه الله - يشرح فيه منهجاً لميزان الرجال، حيث يقول:
"من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن مَن كثُرت حسناته وعظُمَت وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يُحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث.
ومن هذا قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لعُمر: (وما يدريك لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).(2/441)
وهذا هو المانع له - - صلى الله عليه وسلم - - من قتل مَنْ جسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر - - صلى الله عليه وسلم - - أنه شهد بدراً، فدلَّ على أن مقتضى عقوبته قائمٌ لكن مَنعَ مِن ترتُّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات". (17)
وحول نفس المعنى له أيضاً كلماتٌ تُكتب بماء الذهب أوردها في كتابه إعلام الموقعين، حيث قال:
"....... ومن له علمٌ بالشرع والواقع يعلم قطعاً أنّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالح وآثارٌ حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلّة هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين". (18)
ولقد سبقه سعيد بن المسيب - رحمه الله - في بيان ذلك المنحى السلفي في احترام أولي الفضل والسابقة حين قال:
"ليس من شريفٍ ولا عالم ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيبٌ ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه، فمن كان فضله أكثر من نقصه: وُهِبَ نقصُه لفضله". (19)
وكأني بمحمد بن سيرين يأخذك في زاوية من المسجد يناجيك ويرشدك، فيقول لك واعظاً: "ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلم منه وتكتُم خيرَه"(20) ثم يتلو عليك ((ولا تَبْخَسوا النَّاسَ أشْيَاءَهم)).
ولعلَّ الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد عانى من مثل هؤلاء أعداء النجاحات ومتتبعي الزلات، فقال لهم بصريح العبارة: "...... فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدّعي العصمة". (21)(2/442)
وكم يكدّر صفوك الرائق وقاحةُ قولٍ في تبيين الحق وإنكار المنكر وردِّ الخطأ. ولا أدري أين أصحاب تلك الإسفافات من "قول الإمام الشافعي لصاحبه المزني حين سمعه يقول: فلانٌ كذّاب، فقال له: يا إبراهيم اكسُ ألفاظَك، أحْسِنها، لا تقل: كذّاب ولكن قل: حديثه ليس بشيء. " (22)
وليت الشافعي يأتي ليؤدب أولئك المتبجحين الذين امتهنوا عيبَ الأعلامِ وانتقاصَ إخوانهم الدعاة صَنْعةً يتفاخرون بها في مجالس النجوى والوقيعة.
لا تُعِنْ على سَفكِ دمِ الدَّعوة..
كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان؟!
وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً؟!
وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل؟!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشةٌ أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه؟!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده؟!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله؟!
واستمع إلى التابعي المخضرم الثقة أبي معبد الجهني - رحمه الله - لتعيَ ما أقول..
"ففي حلقةٍ دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام المكلّف باستدراك ما صنعته الفتنة حاضرَ عبد الله بن عكيم، وطفق يلخّص لهم تجارب المخلصين، فقال:
(لا أُعينُ على دم خليفة أبداً بعد عثمان).
وكانت كلمة مثيرة منه حقاً.. وتأخذُ الجميعَ إطراقةٌ، فما ثَمَّ إلا عيونٌ تتبادل النظر مستغربةً ما يقوله الرجلُ الصالح. ما لهذا الشيخ البريء المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفاً أبداً يتّهم نفسه ويلومها على ما لم تفعل؟
وينبري جريءٌ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أوَ أعنتَ على دمه)؟
فيقول: (إني أرى ذكرَ مساوىء الرجل عوناً على دمه).(2/443)
فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه وقام في نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف طوّروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه". (23)
أظنك وعيتَ الوصية.. فلا تُعِنْ على سفك دم الدعوة..
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بكلامِ سوءٍ وقدحٍ في إخوانك هم منه بَراء..
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بتتبع زلات الدعاة لفضحهم وهتك أستارهم لمجرد الإختلاف معهم..
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بغيبةٍ أو بُهتانٍ لرموزها وأشياخها..
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بإعطاء المتربصين فرصةَ انقضاضٍ لفُرقةٍ في الصَّف..
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بوشاية عن أخيك عند ظالمٍ جائر أو مخاصمٍ فاجر..
وختاما ً أيها الأخ الكريم..
إن كنت ممَن استزلّه الشيطان يوماً فوقع في أعراض بعض العلماء الربانيين أو الدعاة العاملين فأرِزْ إلى ناحيةٍ من مسجدٍ عتيق تجدُ فيه قلبك وابكِ خطيئتك وأعلنها توبة نصوحاً لا نكوص بعدها.. وردد بإخباتٍ وانكسارٍ.. (ربنا اغفرْ لنا ولإخواننا الذين سَبقونا بالإيمانِ ولا تجعَلْ في قلوبِنا غلاً للذين آمَنوا ربَّنا إنكَ رؤوفٌ رَحيْمٌ). الحشر-10.
وإن كنت ممن قد تناوشه باغٍ بأباطيل زائفة وأكاذيب مرجفة، فلا تقف ولو للحظة واحدة تلتفتُ فيها إليه فدَعْوتُك إلى تلك اللحظةِ أحْوَج.. وردد بصوتٍ يَسْمعُه وأنت ماضٍ عنه.. (لئن بسطتَ إليَّ يدَك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لأقتلك إني أخاف الله ربَّ العالمين). المائدة-28.
وما أروع ما رواه الإمام الذهبي عن يونس الصدفي حين قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! ". (24)
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين...
-------------------(2/444)
(1) مقطع من حديث رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 6152-2044.
(2) سَيرٌ من جِلدٍ مَفتول.
(3) جرول بن أوس العبسي المتوفى سنة 45هـ ، الملقب بالحطيئة لقصره، كان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أمه وأباه وعمه وخاله ونفسه. انظر البداية والنهاية لابن كثير 8/100.
(4) المصدر السابق: 8/101.
(5) جواهر الأدب لأحمد الهاشمي: ص 395.
(6) بتصرف من كتاب تصنيف الناس بين الظن واليقين للشيخ الدكتور بكر أبو زيد: ص 47.
(7) المصدر السابق: ص 22.
(8) رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته، ح 7984-3078.
(9) قول أبي بكر وابن هبيرة منقول من "منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم" للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان: ص 41.
(10) منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، هشام بن إسماعيل الصين: ص 59.
(11) القدوات الكبار بين التحطيم والإنبهار، د. محمد موسى الشريف: ص 66.
(12) قال الألباني - رحمه الله -: صحيحٌ موقوفاً، انظر صحيح الأدب المفرد، ح460/592.
(13) الجواب الكافي لابن قيم الجوزية: ص120.
(14) العوائق: ص 268.
(15) من نوادر شعر المدح للحطيئة، البداية والنهاية: 8/102.
(16) في ظلال القرآن: 6/3484.
(17) العوائق، للشيخ محمد أحمد الراشد: ص 139.
(18) قواعد في التعامل مع العلماء للشيخ عبد الرحمن اللويحق: ص 133.
(19) المصدر نفسه: ص 132 نقلاً عن جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 9/106.
(20) إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم للشيخ محمد بن صالح العلي: ص89.
(21) المصدر نفسه: ص90.
(22) منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم للشيخ أحمد الصويان: ص40.
(23) العوائق: ص 156.
(24) نزهة الفضلاء، د. محمد موسى الشريف: 2/734.
ـــــــــــــــ(2/445)
اختلاف تصورات لا اختلاف منهج
عبد الله رشاد
يقوم منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع المخالف على قواعد وأصول عامة تُشكل في مجموعها ثوابت لا تتبدل ولا تتغير. وهو منهج يتسم بسمات عظيمة أهمها:
الأولى: الشمولية.
الثانية: الواقعية.
الثالثة: مراعاة مقاصد الشريعة وقواعدها العامة.
الرابعة: الموازنة بين المصالح والمفاسد.
الخامسة: مراعاة اختلاف الأزمان وتبدل الأحوال.
وهذا يُفسر لنا ما نجده من اختلاف في التطبيقات العملية لذلك المنهج، وذلك عند تنزيل أحكامه على الواقع والنوازل المتجددة عبر قرون التاريخ الإسلامي.
ولنأخذ أمثلة تبين هذا الأمر وتجليه:
المثال الأول: موقف أئمة السنة من البدعة: حيث كان موقفهم في العصور الأولى قائماً على ذم البدع والمبتدعة، وبيان خطرها على الأمة، تحذيراً لهم وتحصيناً.
أما موقف أئمة السنة في العصور المتأخرة فقد اختلف في طبيعة المواجهة. حيث أضافوا عناصر جديدة في التعامل مع البدع التي انتشرت وعمت واستحكمت. فمع التحصين للبقية الباقية من أفراد المجتمع السُّني، استجدت الحاجة لمقارعة الخصوم، وتفنيد أباطيلهم، والرد على مشبهاتهم.
بل إن طبيعة التحصين قد اختلفت، إذ لم يعد كافياً تحذير الناس من البدعة وذمها. فأصَّل أولئك الأئمة الأصول والقواعد التي تميز بين السنة والبدعة؛ ليكون الناس على بينة من أمر دينهم.
المثال الثاني: وهو قريب من المثال الأول إلا أنه أخص منه، حيث يُبين لنا موقف أئمة السنة من بدعة معينة، ألا وهي الفلسفة اليونانية.
فقد تميز موقف الأئمة في بداية ظهور تلك البدعة النكراء بالتحذير منها، وذمها وتحريم تعلمها، وهو يُمثل موقف التحصين كما أسلفت.(2/446)
أما بعد انتشار تلك البدعة في المجتمع الإسلامي، وتبني بعض من كان ينتسب إلى العلم لها، وترجمة كثير من كتبها ومؤلفاتها؛ نلاحظ أن موقف أئمة السنة قد أخذ أبعاداً جديدة. حيث بدأوا في نقضها وبيان تناقضها، وأوضحوا للناس وجه مخالفتها للإسلام ومنهجه جملة وتفصيلاً.
بل أخذت المواجهة أبعاداً أكثر عمقاً، عندما قام بعض الأئمة بنقض الفلسفة باستعمال قواعدها وأصولها ومصطلحاتها كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من مصنف. [1]
المثال الثالث: النهي عن الجدل والمراء ومناظرة أهل البدع أصل أصيل في منهج أهل السنة والجماعة. ولكن هل هي قاعدة مطردة لا استثناء فيها؟.
نجد الجواب عملياً في مناظرة ابن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج، ومناظرة الإمام أحمد للمعتزلة، ومناظرة الإمام عبد العزيز الكناني لبشر المريسي المبتدع.
إذن القاعدة والأصل هو عدم الجدال وترك المناظرة، ولكن إذا كانت المناظرة سيترتب عليها: إقامة الحجة وإفحام الخصوم، ودحض الشبهة ورد الناس إلى الحق، ووقعت من عالم متمكن في الشريعة، خبير بشبهات من يرد عليهم؛ كانت تلك الحالة مستنثاة من القاعدة والأصل.
المثال الرابع: اختلفت مواقف أهل السنة والجماعة من أهل البدع وفي التعامل مع المخالف تبعاً لاختلاف الأعصار والأمصار والأحوال. فنجد اختلافاً بيناً بين مواقفهم في العصور الأولى حيث كانت القوة والغلبة والظهور للسنة وأهلها، وبين مواقفهم في العصور المتأخرة حيث تبدلت الأحوال، وانتشرت البدعة وقوي أهلها.
يقول الإمام الشاطبي: "إن القيام عليهم - أي أهل البدع - بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين، أم لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستظهراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا.(2/447)
وكلٌّ من هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصه، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حدٌّ لا يزاد عليه ولا ينقص منه". [2]
بعد ذكر هذه الأمثلة أعود فأؤكد أن منهج أهل السنة والجماعة ثابت في أصول وقواعد، ولكنه قد يتغير ويختلف في جزئياته التطبيقية العملية.
إن عدم استيعاب هذا المنهج، وأخذه بشموليته، وربط جزئياته الفرعية بقواعده الكلية هو من الأسباب الجوهرية التي جعلت الدعوة السلفية تتأخر عن قطع مراحل متقدمة في زماننا هذا.
وهذا ناتج عن القصور في الفهم، والنظرة الجزئية المبُتسرة للمنهج دون ربطه بتطبيقاته المختلفة من قبل أئمته، أو الأخذ ببعض صوره وتطبيقاته واعتبارها دون غيرها بلا مرجح شرعي.
ولا أدل على هذا القصور في الفهم، وعدم الأخذ بشمولية المنهج من وجود المدارس والمذاهب المتعددة والمختلفة فيما بينها المنتسبة إلى المنهج نفسه.
وبما أن الجميع منتسب إلى المنهج، ويحتج بأصوله وقواعده وكلام أئمته، كانت الوسيلة الوحيدة لإسقاط المخالف هي نفي النسبة عنه، والطعن في سلامة قصده ونيته، وأنه مُتسترٌ بالمنهج تقية.
يقول شيخ الإسلام ضمن رده على من قال: "والآخر يتستر بمذهب السلف" إذا أريد بالتستر أنهم يجتنون به، ويتقون به غيرهم، ويتظاهرون به: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً. فإن كان موافقاً له باطناً وظاهراً: فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً. وإن كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن: فهو بمنزلة المنافق. فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته إلى الله. فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم". [3]
والآن نعرض إلى بعض الصور للفهم القاصر لمنهج السلف في التعامل مع المخالف في العصر الحاضر.(2/448)
الصورة الأولى: طعن بعض المنتسبين للمنهج في الأئمة قديماً وحديثاً فقد طعن أحدهم في تفريق الإمام أحمد بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية من حيث "الهجر"، فقال الإمام أحمد بهجر الأول دون الأخير، ولكن هذا القول من هذا الإمام لم يرق لهذا المسكين فرده، وسود به صفحة من صفحات كتاب له.
ثم تجرأ المسكين على الإمام ابن تيمية، ولمزه في أحد مقالاته، بأن من الناس من جمع بين رأي الخوارج والمرجئة. لأن شيخ الإسلام يقول بأنه قد يجتمع في الشخص الواحد إيمان وكفر، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، فيوالى على قدر ما عنده من خير، ويُعادى على قدر ما عنه من شر.
ثم ازداد حدة فقال بأن منهج شيخ الإسلام في التعامل مع أهل البدع متميع. ولولا انتشار أقوال هذا المسكين، ووجود أتباع له لما سودت هذه الأسطر بآرائه.
الصورة الثانية: جاء أحد تلاميذ ذلك المسكين ليعلن أن حد المبتدع مطلقاً السجن حتى الموت أو القتل ثم تُرمى جثته للكلاب تنهشها ولا يدفن في مقابر المسلمين، وسود ذلك في كتاب طبعت منه آلاف النسخ، وأرسل إلى كل بقاع الدنيا بيعاً وإهداءً!.
الصورة الثالثة: وقال ثالث بأن حكم المبتدعة عموماً وبلا استثناء وعلى كل حال ألا نذكر محاسنهم، وما عندهم من حق، بل حكمهم السب والشتم وذكر المساوئ فقط، والطعن فيهم والإزراء عليهم.
الصورة الرابعة: قول رابع في محاضرة له، بأن لا يقال لرجل أنه صاحب سنة حتى تجتمع فيه خصال السنة كلها، واحتج بقول الإمام البربهاري في ذلك، وجعل كلامه مطلقاً، وغفل المسكين عن المقصود بخصال السنة التي ذكرها الإمام البربهاري في كتاب "السنة" بعد تلك العبارة.(2/449)
الصورة الخامسة: قول خامس في محاضرة له، أن الفيصل بين السلفي والمبتدع في هذا الزمان هو موالاة ولاة الأمور في بلده. مع أن ولاة أمره فسقه فجرة ظلمة يتنصلون من الشريعة وتحكيمها، كل يوم ويحاربون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر علانية، وينكلون بهم على مسمع من العالم كله، ويوالون أعداء الله - تعالى - ويكرمونهم.
ولنتساءل: ما هي أسباب القصور في فهم منهج أهل السنة على العموم ومنهجهم في التعامل مع المخالف على الخصوص؟.
فيما يلي محاولة لتجلية بعض تلك العوامل والأسباب:
السبب الأول: أنصاف التعلم، وهو أمر خطير، جعله شيخ الإسلام ابن تيمية من عوامل هدم الدين فقال: "ونصف متعلم يهدم الأديان« وهو سبب ينتج عن عدة عوامل أهمها:
أ - عدم التلقي على أيدي المشايخ والعلماء.
ب - التلقي على يد أصحاب الفكرة والأخذ عنهم دون غيرهم.
ج - عدم الاطلاع الواسع، والاكتفاء بالاطلاع الجزئي وعدم الاستقصاء في المسائل.
السبب الثاني: استعمال أنواع التفكير القاصرة نحو:
أ - التفكير السطحي: القائم على التحيز، وعدم مراعاة النسبية، والنظرة الآحادية للأمور القائمة على عدم مراعاة الاحتمالات الأخرى، وتجاهل الاختلافات، واستبعاد الاستثناءات، واستعمال التجريد والتعميم والاطلاقات.
ب - التفكير العاطفي: القائم على الحدس والذوق والانطباعات والشعور، والشك والتحامل.
وهذه الأخرى لها مسببات كثيرة أهمها:
1- ضيق الأفق، ومحدودية التصور.
2- تأثر المقررات السابقة شعورية كانت أم فكرية.
3- الإصابة بالإحباط إثر المرور بتجربة مدرسة قائمة على التعصب ثم الإفاقة المفاجئة على أخطائها وسلبياتها.
4- النمطية الثنائية في التفكير (أبيض/ أسود).
5- ضعف التركيبة النفسية.
6- عدم النضوج في مستوى التفكير.(2/450)
السبب الثالث: أثر البيئة والمحيط، بوجود الشخص في محيط يحمل نفس الأفكار، ووجوده شعر أم لم يشعر ضمن مجموعة أشخاص يحملون الآراء ذاتها. وهو سبب قد يستمر فترة من الزمن لسبب من الأسباب التالية:
أ - العامل الاجتماعي.
ب - حب السلامة.
ج - المجاملة والأخذ بالخواطر.
د - الخوف من النقد إذا خالف.
السبب الرابع: الخطأ في التصور نتيجة توظيف المعلومات توظيفاً متحيزاً، بسبب من الأسباب التالية:
أ - الهوى وتمكنه من النفس.
ب - النظر من زاوية دون أخرى.
ج - استعمال المنطق والقواعد العقلية - دون شعور - لتكييف تلك المعلومات مع المقررات السابقة، أو لتوافق المفاهيم العامة والأسس التي قام عليها تفكير الشخص، أو مدرسته التي ينتمي إليها، أو تفكير شيخه الذي ينتسب إليه ويُعظِّمه ويبجّله.
د - الافتراضات الوهمية أو المظنونة أو المتعسفة القائمة على التأويل، وسوء الظن، ومبدأ انطلاقها النظرة العدائية.
هـ- سيطرة بعض المفاهيم على التفكير سواء أكانت سيطرة ظاهرة أم خفية »مثل مفهوم الفتنة، مفهوم الحزبية، مفهوم طاعة ولاة الأمر، مفهوم محاربة أهل البدع... الخ«.
و - النظر إلى مسائل الاجتهاد على أنها مسائل محكمة، وتحويل الرأي فيها إلى دين من خالفه فقد ضلَّ، وليست على اعتبار أنها مسائل اجتهادية من خالفها فقد أخطأ.
السبب الخامس: الأخذ بجزئية من الجزئيات، وفصلها عن الكلية التي جاءت ضمنها، لتصبح تلك الجزئية - بعد النفخ فيها وتضخيمها - كلية من الكليات. ومن أمثلة ذلك:
أ - قد يكون في المسألة الواحدة عدة مناهج للسلف فيؤخذ منها ما يوافق الرأي والهوى ويترك غيره.
ب - قد يكون الكلام مطلقاً ويُذكر ما يقيده فيما بعد، فيؤخذ المطلق ويترك التقييد.
ج - قد تكون المسألة لها ضوابط واعتبارات فتُهمل.
وبعد ذكر هذه الأسباب وراء ذلك القصور في الأفهام، يحسن بنا أن نختم بسؤال والإجابة عليه.(2/451)
ذلك السؤال هو: من خالف المنهج، فكان تصوره له قاصراً سواء أكان قصوراً جزئياً أم كلياً هل يخرج عنه؟ ولا يُنسب إليه؟.
الجواب: للعلماء طريقتان في هذا المقام:
الطريقة الأولى: أنه إذا خالف المنهج في كلية من كلياته، أو خالفه في جزئيات كثيرة فإنه يخرج عنه ولا ينُسب إليه.
أما إذا كانت مخالفته في جزئية من جزئيات المنهج أو في جزئيات قليلة منه، فإن نسبته تبقى إليه، ولا يخرج عنه. وهي طريقة الإمام الشاطبي.
الطريقة الثانية: ينظر في مجموع حاله، ويوازن بين موافقاته ومخالفاته للمنهج ويكون الحكم للغالب عليه.
فإن غلب عليه موافقة المنهج - وإن كانت له مخالفات - فإنه يُنسب إليه. ولكن يُقال: هو من أهل السنة وخالف في كذا وكذا.
وإن غلبت عليه المخالفة للمنهج لم يُنسب إليه ولا كرامة. وهي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية. ولعل الطريقة الأولى تكون مناسبة في حق الفرق التي بنت مذهبها وتأسست واجتمع الناس حولها على أساس تلك المخالفة.
ولعل الطريقة الثانية تكون أنسب لمقام حديثنا هذا، وهو اتفاق كثير من الناس من أهل عصرنا على أصل المنهج - أقصد منهج أهل السنة والجماعة - واختلافهم في تصور الجانب التطبيقي منه...
----------------------------------------
[1] - انظر على سبيل المثال: درء تعارض العقل والنقل، ونقض المنطق، ونقض التأسيس.
[2] - الاعتصام 1/175.
[3] - مجموع الفتاوي 4/149
ـــــــــــــــ(2/452)
كيف تقوّم الآخرين؟
المقال.. والنص..
تقرؤه: ترضاه.. أو لا ترضاه.
تنظر في جمله ومفرداته، وما وراء الكلمات، وما بين الأسطر!!.
حين ترضاه: تصطحب عين الرضا، فتبرز مواضع الإصابة.. وتَعمى، وتتأول مواضع الخطأ..
حين لا ترضاه: تصطحب عين السخط.. فتبرز مواضع الخطأ، وتعمى، وتتأول مواضع الإصابة..
وعين الرضا عن كل عيب كليلة... كما أن عين السخط تبدي المساويا
ذلك هو الجور..!!.
في الأول: ظلمت، وما نصرت.
وفي الآخر: هضمت، وما أنصفت.
ولهذه العلة: نصحوا بقراءة النصوص قبل معرفة كاتبيها.. بعضهم مزق الغلاف.
فالتعصب أعمى، والجور أدنى، والعدل عزيز...؟؟!!..
{ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون}.
هنا العاطفة غالبة، والعقل مغيّب، وكم اتهم بريء، لأنه مبغوض غير محبوب..
وكاد أن يفوز بالعصمة آخر، لأنه محبوب؟؟!!...
إذن: ماذا نصنع؟.
الإجابة:
عليك أن تنظر في النص المنقود، فتحدد:
- ما فيه من صواب. - وما فيه من خطأ. - وما فيه من مشتبه.
* فأما الصواب: فتثبته، وتقبله، وتحمد لصاحبه، وتنسبه إليه، لأن الأصل في المسلم حسن الظن.
وأما الخطأ: فتنفيه، وترده، وترشد صاحبه، وتعتذر له، ولا تنسبه إليه إلا بعد إقامة الحجة بالبيان.
والمشتبه: فتقبل ما فيه من صواب، وترد ما فيه من خطأ.. على القانون الآنف.
وابتعد عن النيات، فقد كفيت، فما في القلب ظاهر، من غير تكلف بحث:
{ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول}.
ومهما تكن عند امريء من خليقة........ وإن خالها تخفى على الناس تعلم.
فإن فعلت: فقد نصحت، وأبلغت، وأنصفت، وعدلت..
ـــــــــــــــ(2/453)
من فقه التعامل مع المخالف
مبارك بقنه
قراءة سريعة لواقعنا نجد أن هناك خلل في فقه التعامل مع المخالف، وحقيقة لن نستطيع أن نردم هوة الخلاف بين المسلمين إلا إذا تركنا الغلو والخروج عن الإطار الشرعي في كيفية التعامل مع المخالف. ومن الغلو الناتج لاستجابات واقع الأمة المتردي، وهو مصادرة الرأي المخالف، والتسلط الفكري الأحادي. فعدم القدرة على التعامل مع المخالف بصورة طبيعية لا شك أنه يولد تنافر وتشاحن بين المتخالفين بحيث يصبح كل فريق في طرف بعيد عن الآخر مما يبعدهم عن الاعتدال والوسطية، ويزرع بينهم الشقاق والفرقة، وإن كانوا على منهج واحد تجمعهم ظلال السنة والجماعة.
وهنا أذكر بعض النقاط الأساسية في التعامل مع المخالف، والتي تساعد عند تطبيقها على إقامة جسور محبة بيننا، وإزالة كثير من الحواجز والموانع التي تحول بيننا وبين فهم الآخر فمن هذه الأساسيات:
1) تحديد القضايا المتنازع عليها تحديداً دقيقاً وواضحاً لكلا الطرفين، فالفهم السليم والصحيح للمعاني والمقاصد مع الاتفاق على هذا الفهم هو من الأوليات الأساسية، والمقومات الضرورية لدفع الاضطراب الفهمي، " فكثيراً ما يثور الخلاف بيننا في مسألة، ويشتد الجدال في موضوع، ويظهر أن المتجادلِين على خلاف فيما بينهم، وهم في الواقع على اتفاق، ولو حددت ألفاظهم لتجلًى لهم أنهم على رأي واحد. وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها والتباسها، لذلك كان "فولتير" يبدأ المناقشة دائماً بقوله:"حدد ألفاظك" ؛ فالعلم بمعاني الألفاظ علماً صحيحاً لا يستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح.[1] "(2/454)
وقد درج العلماء قبل الخوض في أي موضوع أن يقدموا في بداية أبحاثهم تعريفاً لغوياً وشرعياً للموضوع لكي تكون المنطلقات الأساسية واضحة وخالية من أي لبس، لذلك يقول ابن حزم - رحمه الله -:" إن الآفة العظيمة إنما دخلت على الناس - وتمكن بهم أهل الشر والفسق والتخليط والسفسطة ولبسوا عليهم دينهم - فمن قبل اشتراك الأسماء واشتباكها على المعاني الواقعة تحتها، ولذلك دعونا في كتبنا إلى تمييز المعاني، وتخصيصها بالأسماء المختلفة، فإن وجدنا في اللغة اسماً مشتركاً حققنا المعاني التي تقع تحته، وميزنا كل معنى منها بحدوده التي هي صفاته التي لا يشاركه فيها سائر المعاني.[2] " وهذه السمة بارزة في منهج ابن تيمية - رحمه الله - فلقد كان مما يتميز به استوضاحه واستفساره قبل مقارعة الخصوم عن معاني ومقاصد الألفاظ، فكان كثيراً ما يقول: إن كنت تقصد باللفظة كذا فالحكم كذا، وإن كنت تقصد كذا فالحكم كذا ـ وقد ورث تلميذه ابن القيم ذلك عنه ـ كما يظهر ذلك جلياً في كتبه القيمة، وهذا المنهج الاستفساري ـ إن صحت التسمية ـ وهو منهج العدل، نجده غائباً في بعض نقاشاتنا وحواراتنا وأطروحتنا.
ثم إنه لا يكفي التحديد اللغوي وإنما كذلك لا بد أولاً معرفة المعنى الشرعي وتحديده، إذ إن عدم تحديد المسميات تحديداً واضحاً دقيقاً لن يجعلنا نصل إلى حل نهائي وجذري لمشاكلنا، ولا أدل على ذلك مثلاً في تحديد معنى لفظة الإرهاب، فالعالم الإسلامي إلى اليوم لم يخرج بمصطلح جامع مانع لهذه الكلمة، فنهاك اختلاف كبير في معنى الإرهاب فكلا يعرفه وفق تصوراته ومفاهيمه فكانت النتيجة أن صار هناك مؤيد ومعارض للإرهاب وفقاً لمفهوم مصطلح الإرهاب لديه، وللخروج من هذه الإشكاليات لابد من تحديد المصطلحات اللفظية تحديداً دقيقاً.(2/455)
" فكم من المعارك نشبت، لو حللناها تحليلاً دقيقاً فسوف نجد أن جزءا كبيراً منها إنما يعود إلى عدم الاتفاق على الوضوح الفكري، ونشير إلى الوضوح لا إلى تطابق المفاهيم، لأن هذا احتمال قد يكون بعيداً في بعض الأحوال، لكن ما لا بد منه هو أن يعرف كل طرف المعنى الدقيق لما يقوله هو أو يقوله الطرف الآخر. [3] "
2) دراسة الموضوع المتنازع فيه دراسة مستفيضة، فقبل الخوض في النقاش والأخذ والرد والصراعات الفكرية لابد من معرفة هل المسألة من الأصول أو الفروع، وهل هي من المسائل التي يحتمل فيها الخلاف، وهل اختلف فيها الأقدمون.
ويتوجب كذلك العودة لكتب العلم المعتبرة ودراسة المسألة دراسة متأنية، فإن الجهل بالمسألة ـ ولو كان جهلاً جزئياً ـ قد يكون هو منشأ الخلاف ولهذا جاء في الحديث عند قبض العلماء قوله ـ عليه السلام ـ :" اتخذ الناس رؤوساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" فوقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علماً، والغالب أن النزاع يكون بين أوساط المتعلمين أكثر وأشد من الراسخين في العلم، وذلك أن طالب العلم قد لا يعرف في المسألة ـ المتنازع فيها ـ إلا قولاً واحداً، فلو وجد أحداً خالفه في هذه المسألة فإنه يقوم الدنيا ولا يقعدها، وقد يبدع ويفسق إن لم يكفر وذلك حسب درجة المسألة، فيجب عند الرد والنقاش استقصاء أقوال أهل العلم ومعرفة الراجح من أقوالهم.(2/456)
فمما يوسّع دائرة النزاع ويجعل هناك هوة سحيقة بين أصحاب المنهج الواحد هو الغلو في تضخيم المسائل الجزئية والتي يقبل فيها التنازع، وجعل الخلاف فيها كالخلاف في الأصول وهذا مزلق خطير في الفهم، ونحن لو تأملنا قليلاً في المسألة، لوجدنا أن وجود الخلاف في المسائل الجزئية هو ظاهرة صحية؛ بشرط إلا يسبب الفرقة والنزاع، فالصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وكذلك أصحاب القرون المفضلة اختلفوا وتعايشوا بصورة طبيعية مع هذا الاختلاف؛ حتى إنك تجد هناك مذاهب فقهية مختلفة: فمذهب الطبري، والثوري وداود، والمذاهب الأربعة، ولكنهم ـ عليهم رحمة الله ـ كانوا بحق يفقهون مسائل التعامل مع المخالف.(2/457)
3) الأخذ بالأسلوب النبوي الكريم في عرض المسألة ومناقشة الآخرين، إننا كثيراً ما نفتقد في حوارنا ونقاشنا فن الحوار وآدابه، فنقدم الاتهام قبل المحاورة وهذا كاف لرفض الحق الذي نحمله، وكذلك التشهير على رؤوس المنابر والمنتديات وهذه ليست طريقة شرعية أو أسلوب أدبي نزيه، وإنه من المحزن أن تكون ألفاظ القدح والشتم أكثر من ألفاظ الاحترام والتقدير فضلاً أن تكون أكثر من الاستدلال بالأدلة الشرعية والتي بها يقتنع الخصم، وهنا يشترط علينا ـ ديانة ـ أن نحرر ألفاظنا قبل وعند وبعد المناقشات، بحيث لا تكون حاوية على ألفظ قدح وذم وسخرية واستهزاء وشتيمة، فنحن ما علينا إلا البلاغ والتبيين وليس الإلزام والإقناع بالقوة (( وما عليك إلا البلاغ ))، كل ذلك بلفظ حسن طيب، وفي هذا يقول الله تعالى: (( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )) وأولى الناس يقال لهم الألفاظ الحسنة هم أهل العلم، ويقول الله تعالى أيضاً: (( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ )) وليس إلى الفاحش من القول، فالمؤمن أبعد ما يكون عن فحش في القول والعمل، واستخدام السب والشتيمة ليس دلالة على أن الحق مع قائلها؛ بل قد تكون دلالة على ضعف الحجة، فكثيراً ما يتجه أصحاب الحجة الضعيفة إلى السب والشتم لإخفاء ضعفه، ومحاولة لإسقاط خصمه، ولا شك إن استخدام مثل هذا الأسلوب هو إسقاط لمكانة المتكلم بها أولاً.
ولو أخذنا نتكلم عن أدبيات فقه التعامل مع الآخر لطال بنا المقام، ورغبة في الاختصار أذكر بعض المفردات والتي لابد منها في حواراتنا:
الإخلاص وابتغاء وجه الله هو القصد والدافع، تقديم حسن الظن، اتهام النفس قبل الآخرين، ملازمة الدعاء للخصم، ترك العناد والتعصب، التنازل فيما يمكن التنازل به، وغير ذلك من الأدبيات الإسلامية السامية والتي بها نرضي ربنا قبل أن نرضي البشر.
----------------
[1] مبادئ الفلسفة (46)
[2] الإحكام في أصول الأحكام (6/235)
[3] فلسفات تربوية معاصرة (39)
ـــــــــــــــ(2/458)
هل من سبيل إلى توحيد تقويم المسلمين
د. محمد السيد علي بلاسي
لا شك أن التقويم مظهر من مظاهر حضارة الأمة، وسمة من سمات وحدتها؛ لا سيما وهو يتعلق بأخص شؤونها، ألا وهو التعامل فيما بينها أو مع غيرها.
ومما هو بين في أقطار المسلمين. إننا نجد تباينًا في تقويمها قل أن نجده عند غيرها. فمن الدول من يستخدم التقويم الميلادي مع الهجري. ومنها من يقتصر على التقويم الميلادي، وعجيب أن إحداها ينفرد بتقويم يؤرخ من وفاة الرسول محمد - - صلى الله عليه وسلم - -.
التقويم والإنسان:
في العصور القديمة كان الإنسان يعتمد في حساباته الحياتية والوقائية على ضياء الشمس! لما يحدثه هذا الضياء من ظل يتغير بين فترة وأخرى. كذلك كان يعتمد على نور القمر من خلال هلاله وأدواره المختلفة. إلى جانب اعتماده على حركة النجوم المتحركة في حسابه الزمني والوقتي. ولكن تعذر في بعض الأحيان الاعتماد عليها! وذلك لكثرة الغبار والغيوم التي تكثر في فصل الشتاء، وقبل وبعد هذا الفصل، أي ما يقارب ثلث السنة. لذا فقد اتخذ الإنسان ـ ومنذ القدم ـ مقاييس طبيعية مستندًا على ما يلي:
1 ـ حركة الأرض حول نفسها.
2 ـ حركة الأرض حول الشمس.
3 ـ حركة القمر حول الأرض.
ومن دراسة هذه المقاييس وضع الإنسان التقاويم[1].
التقويم الميلادي:
وفي سنة (46) قبل الميلادي استدعى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر من الإسكندرية الفلكي المصري (سوسيجينيس) طالبًا منه وضع تقويم حسابي..
وضع الفلكي المصري التقويم معتمدًا على السنة الشمسية وبعد إعداد هذا التقويم سمي بالتقويم اليولياني نسبة إلى الإمبراطور يوليوس قيصر، وقد اعتمدت بعض الدول والشعوب هذا التقويم.(2/460)
وبأمر من الإمبراطور قسطنطين انعقد المجمع الكنسي العام (المسكوني) في سنة (325م). وأقر المجمع الاعتماد على التقويم الولياني المستعمل في ذلك الوقت، وأن يبدأ من السنة الميلادية نسبة على ميلاد المسيح ـ - عليه السلام - وأن تكون بداية هذا التاريخ من 1/1/1م. وهو يوم ختان المسيح ـ - عليه السلام -.
وبعد إقرار التقويم من قبل المجتمع اعتمدت عليه كافة دول أوروبا وغالبية الشعوب والأمم الأخرى، ويمثل هذا التقويم أن كل ثلاث سنوات بسيطة بمعدل (365) يومًا، والسنة الرابعة تكون كبيسة بمعدل (366) يومًا.
واستمر هذا التقويم إلى سنة (1582م)، وبالضبط في تاريخ 4/10/1582م، حيث لاحظ الفلكيون في هذا السنة في عهد البابا الثالث عشر جريجوري أن دوران الأرض حول الشمس في السنة الواحدة ليس (365.25) يومًا. إنما أقل بقليل من ذلك. حيث حسبت أن دوران الأرض حول الشمس في السنة الشمسية الواحدة تساوي (365.2422) يومًا. وأن هذه الفترة الزمنية التي هي بمقدار (0.0078) من اليوم في السنة الواحدة قد غيرت فصول السنة على مدى السنين المنصرمة؛ لذا أمر البابا جوريجوري بإجراء إصلاح على التقويم المقدم من الفلكيين حول هذا الفرق، فتقرر إصلاح التقويم كالآتي:
1 ـ تتلاقى الفرق الحاصل للفصل عبر السنين المنصرمة زيد التاريخ (10) أيام، وجعل التاريخ بعد يوم 4/10/1582م ـ 15/10/1582م بدل 5/10/1582م.(2/461)
2 ـ تبقى السنوات الكبيسة كما هي حسب التقويم (اليولياني)، أي أن أي سنة تقبل القسمة على رقم (4) بدون باقي فهي كبيسة، وما عداها يكون سنة بسيطة، باستثناء (رؤوس القرون) السنوات التي يكون آحادها وعشراتها (00) لا تكون كبيسة إلا إذا قبلت القسمة على رقم (400) بدون باق، أو إذا كانت السنة واقعة في رأس قرن تحذف الصفران في آحادها وعشراتها وباقي رقم السنة إذا قبل القسمة على رقم (4) من دون باق تكون كبيسة. وعلى هذا يكون في كل (400) سنة شمسية (97) سنة كبيسة. في حين كان في التقويم اليولياني (100) سنة كبيسة في كل (400) سنة شمسية.
وقد أقر هذا الإصلاح، وسمي التقويم بعد إصلاحه بالتقويم الجوريجوري، نسبة إلى عهد البابا جوريجوري.
واستعمل هذا التقويم من الدول بالتعاقب. ومازال يستعمل حتى الآن وهو المعروف بالتقويم الشمسي أو التاريخ الميلادي[2].
التقويم العربي:
لم يكن لجميع العرب قبل الإسلام تقويم واحد لتدوين تواريخهم وتثبيت حوادثهم، بل استعملوا عدة تقاويم، فقد كانت كل قبيلة تستعمل تقويمًا خاصًا بها، وأحيانًا كانت تستعمل قبيلة تقويم قبيلة أخرى.
وكانت هذه القبائل العربية في الجاهلية تؤرخ وتقوم عدة تقاويم بفترات متباينة مبتدئة بالسنين بما يحصل فيها من أحداث جسام.
فقد أرخ قسم من القبائل من بناء النبي إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - الكعبة. وآخرون أرخوا بانهيار سد مأرب أو حرب الفجار وقسم آخر يؤرخ بموت رئيس القبيلة. وآخرون يؤرخون بتولي رئيس جديد للقبيلة.
ومن أشهر تلك التقاويم التي أرخ بها أهل مكة وتبعتهم معظم القبائل العربية هو تقويم (عام الفيل) وسمي بذلك نسبة إلى هجوم الملك الحبشي (أبرهة) على الكعبة يريد هدمها بجيش يتقدمه فيل وفي ذلك العام ولد خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد - - صلى الله عليه وسلم - - وكان ذلك في سنة (53) قبل الهجرة، الموافق سنة (571) ميلادية.(2/462)
بقي تقويم عام الفيل تؤرخ به العرب قبل الإسلام وحتى في زمن الإسلام، وانتهى بعد الاعتماد على التقويم الإسلامي (الهجري).
أما عن كيفية تاريخ العرب لتقاويمهم، فقد كانت هناك عدة تقاويم تؤرخ من قبل القبائل العربية قبل الإسلام وكانت تقاويمهم تعتمد على مبدأ الشهر القمري. ومن جملة تقاويمهم قمري شمسي أي جعل السنة القمرية متصلة بالسنة الشمسية، حيث كانت تحسب كل (19) سنة قمرية منها (12) سنة بسيطة ذات (12) شهرًا، والسنوات السبع الباقية سنين كبيسة يلحق بكل ستة شهرًا قمريًا إضافيًا أي (13) شهرًا. ومن جملة ما أخروا بالتقويم العربي هو إلحاق شهر إضافي كل ثلاث سنوات قمرية [3].
ولقد كان من بين العادات الكريمة التي دعا إليها إبراهيم - عليه السلام - العرب، تحريم أربعة أشهر لا قتال فيها ولا جدال، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وقد كان العب يسافرون في هذه الأشهر بكل حرية وبخاصة لأداء فريضة الحج.
وحين دب الفساد في بعض القبائل، اخترعوا بدعة (النسيء)[4].
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وعادات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمونه مكانه شهرًا آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر[5]، فأنزل المولى ـ عز وجل ـ في ذلك قرآنًا يتلى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله} [التوبة: 37]، أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، وكذلك قال ـ عز وعلا ـ {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا} [التوبة: 36]، يعني من غير زيادة زادوها [6].(2/463)
وفي حجة الوداع يقول الرسول المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - - في خطبته الجامعة: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
يقول الزمخشري علقًا: والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبي بكر - رضي الله عنه - قبلها في ذي القعدة[7].
التقويم الإسلامي (الهجري):
بعد وفاة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - في سنة (11) هجرية، واستلام الخلفاء الراشدين زمام أمور المسلمين، بدأت الفتوحات الإسلامية واتسع مداها، وعندئذ التبس الأمر على المسلمين في الإشارة على السنة، نظرًا لكثرة الحوادث الإسلامية المهمة واختلاف مواقع حدوثها، وكثرة أموال الجزية التي كانت تدفع إلى المسلمين ونظرًا لنهم كانوا يؤرخون بالتقويم الميلادي لبعض الحوادث التي تطرأ في فتوحاته؛ لذا بدأ المسلمون في التفكير لحل الالتباس المذكور.
ففي سنة (17) هجرية، جمع الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجوه الصحابة للبحث في أمور التقويم الإسلامي، بحيث تكون بدايته من حدث إسلامي عظيم الشأن.
فمنهم من اقتراح أن يبدأ من يوم ولادة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وآخرون قالوا: نؤرخ من بعد وفاة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - واقترح عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجعل بداية التقويم الإسلامي من سنة هجرة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - من مكة إلى المدينة.
واتفق الخليفة والصحابة على رأي الإمام عليّ - رضي الله عنه -! لما لهذا الحدث من معان سامية وانتصار للإسلام، ومن هنا؛ سمي التقويم الإسلامي (التقويم الهجري)؛ نسبة إلى هجرة الرسول محمد - - صلى الله عليه وسلم - - من مكة ليستوطن في المدينة المنورة[8].
دعوة للتوحيد:(2/464)
لم أكن أدري سر اعتماد الجماهيرية العربية الليبية على التقويم بوفاة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -؛ حتى طالعت بحثًا للكاتب الليبي المعروف الأستاذ إبراهيم بشير الغويل، والذي قدمه للندوة الفكرية العالمية حول مرور أربعة عشر قرناً على اختتام النبوية واكتمال الدين [9]، تحت عنوان: (الدورة، أو الاستدارة الكبرى للزمان)، وفيه يوضح هذا السر إذ يقول: (ولقد بلغت الإنسانية ـ وبما أثرتها به التنوعات القومية وتجاريها وثرائها ـ الغاية في الارتقاء يوم أن اكتمل الدين وختمت النبوة والرسالة.. يوم أن أعلن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - في خطبة حجة الوداع أن الزمان قد استدار كهيئته يوم أن خلق الله السموات والأرض ـ فقد بدأ بعد حجة الوداع إذن الحساب الدقيق الذي تفرد بالصحة.. كما أن مرحلة جديدة من الزمان قد بدأت. ونحن في الجماهيرية تتمسك بهذا التاريخ الصحيح.. ونتخذ منه علامة فارقة في تاريخ الإنسان، ففي ذلك اليوم اكتمل الدين وأعلن انتهاء نظام النبوة والرسالة.. وبهذه المفاهيم يؤرخ بالتاريخ الذي تفرد بالصحة وبدأ بحجة الوداع[10].
ولو نظرنا بعين ثاقبة على ما قاله الأستاذ الغويل، وناقشناه مناقشة موضوعية ـ بعيدة عن منطق الهوى المتجرد ـ، لقلنا:
أولاً: لماذا جزمت بأن التاريخ الذي عليه أنتم هو الذي تفرد بالصحة دون غيره؟! مع أن التاريخ الهجري كان يعتمد على حساب في غاية الدقة من بدايته؟ حيث ارتباطه بشعائر إسلامية كالصوم ـ مثلاً ـ والذي فرض في السنة الثانية من الهجرة [11].
وفي الحديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) [متفق عليه].
فأوجب الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - تثبيت يوم بدء الشهر القمري برؤية هلاله.(2/465)
ثانيًا: لما انفردتم بالتأريخ من وفاة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - مع أن هذا التقويم كما تذكر كتب السير والتاريخ ـ كان مجرد اقتراح من بعض الصحابة، لم يدخل حيز التنفيذ؛ إذ أجمع الصحابة والخليفة ـ ساعتئذ ـ على التقويم الهجري، ولا يزال يعمل به حتى الآن ولم يعترض عليهم أحد؟!! وفي إجماع الصحابة والخلفاء، وجوب للاتباع، كما ورد في الأثر الشريف.
ثالثًا: لم تذكر كتب السير والتأريخ ـ على حد علمنا ـ أن حدث نسيء أو كبس للأشهر بعد الهجرة في المجتمع المدني، وما خطبة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - الجامعة في حجة الوداع، وقوله: (وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) إلا لمحة جليلة ـ فيما نرى ـ على وضع تقويم موحد للمسلمين جميعًا؛ حيث حدد الرسول الكريم مواقع الشهور كما أرادها الله، وأشار إلى موقع شهر رجب وأنه بين جمادى وشعبان حسب ما عليه قبيلة مضر، هذا بخلاف قبيلة ربيعة فكان عندها الشهر السابع رمضان والشهر التاسع رجب! وفي هذا مخاطبة للقبائل العربية بأنه يحرم النسيء ويجب الوقوف على ترتيب موحد للشهور ينبني عليه تقويم موحد للأمة الإسلامية.
رابعًا: لو كان هناك عدم انضباط في التقويم الهجري في زمن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - فلماذا انتظر الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - عودة ذي الحجة إلى موضعه فحج حجة الوداع وأعلن استدارة الزمان وعودته كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض وزوار النسيء وإلى قيام الساعة على حد تعبيرك يا أستاذ غويل؟!![12]
الأمر إذن ـ متعلق بالنسيء عند العرب وليس بالتقويم الهجري وما انتظار الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلا لكي يوافق التقويم الهجري التقويم العربي، وعند عودة التقويم العربي إلى وضعه الطبيعي، حيث انقضاء دورة نسيئة، سوف يتفق هذا التقويم مع التقويم الهجري في سيره.(2/466)
ومن هنا، يتضح أن التقويم الهجري من بداية تاريخه كان محكومًا بضوابط في غاية الدقة! ولذا فإنني أناشد الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي والمجامع الفقهية المتخصصة للتنسيق فيما بينها لاتخاذ قرار بشأن هذا الموضوع الجلل، والعمل على تجميع الدول الإسلامية والمجتمع المسلم على تقويم موحد هو التقويم الهجري ونبذ ما عداه. فالتقويم مظهر من مظاهر وحدة الأمم، وحري بأمتنا أن تتحد على تقويم واحد! حتى تعود للإسلام هيبته من جديد! لا سيما إذا تأملنا ماضينا وحاضرنا علمنا أن عزنا وجاهنا هو في التضامن والتوحد والاعتصام بحبل الله المتين. وصدق الله إذ يقول: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 97]، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 52].
والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.
----------------------------------------
[1] تاريخ التقويمين الميلادي والهجري ومبادئهما، سليمان إبراهيم الجبوري. ص (11) بتصرف. مطبعة الانتصار ـ ببغداد سنة 1407 هـ.
[2] المرجع السابق: ص (13 ـ 19). بتصرف.
[3] نفس المرجع: (39 ـ40) ـ بتصرف ـ.
[4] انظر، الإسلام يتحدى: للأستاذ وحيد الدين خان. ص (34) وما بعدها.
[5] كان يقوم بمهمة النسيء رجل ذو شأن بين القبيلة، ملم بعلم المواريت وكنمن يقوم بهذه الوظيفة يلقب بـ (القلس)، وهي وظيفة لها وزنها ومقامها، وكانت محصورة بأسرة واحدة من القبيلة.
يقول ابن إسحاق، وكان أول من نسأ الشهور على العرب. فأحلت منها ما أحل ـ وحرمت منها ما حرم: القلس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم قام بعد عباد. قلع بن عباد، ثم قام بعد قلع، أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية عوف بن أمية، ثم قام بعد عوف أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام.(2/467)
راجع: السيرة النبوية: لابن هشام، (1/28، 29)، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، ط. دار التراث العربي سنة 1399 هـ.
[6] تفسير الكشاف: للزمخشري، (2/189)، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، الطبعة الأخيرة، مصطفى البابي الحلبي سنة 1392هـ.
[7] المصدر السابق: (2/188).
[8] تاريخ التقويمين الميلادي والهجري ومبادئهما. ص (44) ـ بتصرف ـ.
[9] عقدت هذه الندوة بطرابلس في الفترة 1 ـ 2 محرم 1412 هـ تحت رعاية جمعية الدعوة الإسلامية العالمية.
[10] انظر: البحث المذكور: ص (43).
[11] راجع: نيل الأوطار للشوكاني. (4/186)، ط. المكتبة التوفيقية. د.ت.
[12] انظر بحثه: (الدورة "أو الاستشارة" الكبرى للزمان) هامش ص: 1.
ـــــــــــــــ(2/468)
مفهوم الجماعة بين الضيق والسعة
كمال المصري
الجماعة لغةً:
مأخوذةٌ من الاجتماع، وهو ضدُّ التفرق، يقال: "جمع الشيء عن تفرُّقه فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا".
وهذا الاجتماع قد يكون حسيًّا كاجتماع الناس في مكانٍ ما - أي رابطة مكانية تاريخية كالرابطة القومية -، وقد يكون معنويًّا كاجتماع الأمَّة على الإيمان بالله ورسوله في رابطة إيمانية تتجاوز المكان، بل قد تتجاوز الزمان بالتواصل مع الأمة عبر التاريخ، وتقدير منزلة هذا التاريخ في إطار المرجعية، وهذا نراه أيضاً في أمم وعقائد مختلفة، بل وفي أيدلوجيات وضعية تجمع الناس، وتكون كتبها المؤسسة ونماذجها التطبيقية مرجعية معتبرة.
مفهوم الجماعة في النصوص الشرعيَّة:
لم يرد لفظ الجماعة في القرآن الكريم، وإن كان معنى "الجماعة" قد ورد عدَّة مرَّاتٍ مرتبطاً بالترغيب في الالتزام بها، والنهي عن التفرُّق والتنازع والفشل.
ولكنَّ لفظ "الجماعة" قد كثر وروده في السنَّة المطهَّرة، والمتتبِّع لمواضع ورود هذه الكلمة في السنَّة يجد أنَّها تأتي دائماً في مقابلة التفرُّق المذموم، وذلك في مثل:
قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة"رواه أحمد الترمذيّ، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
- وورد في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "... فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه.
- وكما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: "كان الناس يسألون رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقد عَنْوَن الإمام مسلم باب الحديث ب: "باب: وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة".(2/469)
وانصبَّ مفهوم الجماعة في نصوص السنَّة المطهَّرة على مفهومين:
الأوَّل: مفهومٍ اعتقاديّ، ويشير إلى الدعوة أو المنهج الذي تحمله هذه الجماعة.
والثاني: مفهوم سياسيّ، ويشير إلى الدولة أو النظام السياسيِّ الذي ينشأ لحماية هذا المنهج والتمكين له في واقع الحياة، فإذا جُمِع بينهما تحقَّق المدلول المتكامل والنهائيُّ لمعنى الجماعة، وتفصيل ذلك التالي:
أوَّلا: المفهوم الاعتقاديّ:
تعددت النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع على الأصول الثابتة بالكتاب والسنَّة والإجماع، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الحقِّ واتباع السنَّة، ومنها:
1 - ما رواه أبو داود وابن ماجهْ عن معاوية (رضي الله عنه) عن النبيِّ - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال: "ألا إنَّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة" وروى الترمذيُّ نحوه، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
2 - ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن مسعود (رضي الله عنه) عن النبيِّ - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
والجماعة بهذا المعنى لا يُشترط لها كثرةٌ ولا قلَّة، بل هي حيث الحقُّ.
ثانيا: المفهوم السياسيّ:
ومن النصوص الواردة في أنَّ مفهوم الجماعة هو من الاجتماع بالأمَّة المستقيمة على الشرع، وطاعة "أولي الأمر" "منكم"، وعدم الخروج على الجماعة والنظام العامِّ لها:(2/470)
1 - ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبيِّ - - صلى الله عليه وسلم - - أنَّه قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهليَّة" (لاحظ هنا دقَّة النصّ وتسلسله: رؤية الخطأ من الأمير، والخروج على الجماعة وليس على الإمام، وهذا يؤيِّد فكرة أنَّ المراد هو الأمَّة وليس الإمام، والإمام لا يأخذ طاعته إلا من خلال الصلاحيَّات التي تعطيها الأمَّة له، ويكون ملزَماً بالشورى).
2 - ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ - - صلى الله عليه وسلم - -: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات مِيتةً جاهليَّة".
والجماعة بهذا المعنى تقع في مقابلة البغي والتفرُّق.
مفهوم الجماعة عند أهل العلم
انقسم أهل العلم في مفهوم الجماعة إلى قسمين:
الأوَّل: أنَّ الجماعة هي جميع العلماء من أهل السنَّة؛ أي الاجتماع على الحقِّ الذي تمثِّله القرون الثلاثة الفاضلة، ويحمل لواءه في كلِّ عصرٍ الثقاتُ العدولُ من أئمَّة أهل السنَّة، وهم يمثِّلون السواد العامَّ من المسلمين؛ لأنَّ العامَّة بالفطرة تبعٌ لهم.
الثاني: أنَّ الجماعة هي الأمَّة في اجتماعها على الإمام ما دام - في الجملة - مقيماً لأحكام الإسلام، أو هي السواد الأعظم من أهل الإسلام.
والملاحظ أنَّ أصحاب الرأي الأوَّل قد خلطوا بين "جماعة المسلمين" و"أهل الشورى - أو الحلِّ والعقد - "؛ حيث اعتبروا من تعتبرهم الأمَّة ممثِّليها هم "الجماعة"، بينما هم مجرَّد ممثِّلين للجماعة لا أكثر، بل هم لم يأخذوا هذه الشرعيَّة في التمثيل إلا من خلال الأمَّة؛ فكيف تصبح الأمَّة بعد ذلك هي التابع، ويصبح الممثِّلون هم المتبوع؟؟
وعلى ذلك فالرأي الراجح في هذا - والله أعلم - هو أنَّ الجماعة هي "السواد الأعظم من أمَّة الإسلام" حسب اصطلاح الفقهاء.(2/471)
وهكذا تتَّفق دلالات النصوص، ومآلات أقوال أهل العلم في بيان المقصود بمعنى الجماعة، وأنَّها تتضمَّن كلا المعنيين السابقين "الاعتقاديّ والسياسيّ".
ويتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها الاعتقاديِّ بالالتزام المجمل بالإسلام؛ وذلك بالبقاء على الولاء للإسلام والرضا بشريعته وموالاة دعاته، سواء وُجدت الجماعة ككيانٍ سياسيٍّ أم لم توجد.
كما يتحقَّق الانتساب إلى الجماعة في إطارها السياسيِّ بالانتظام في النظام السياسيِّ العامِّ الذي ارتضته الجماعة، أيًّا كان شكل هذا النظام أو نوعه أو من يقوم عليه، وما يقتضي ذلك الانتظام من الولاء والتزام الطاعة، وإن تعددت الأنظمة بتعدد الديار وجب أن تجمعها مظلة من الاحتكام للشرع والتناصر، كما في الأشكال المختلفة من التنسيق والاندماج الدولي على كافة الأصعدة والهياكل التي يعرفها زماننا.
معنى لزوم الجماعة:
لا معنى إذن للزوم الجماعة إلا التزام ما هم عليه من التحليل والتحريم والطاعة فيهما؛ أي القبول بمرجعية الإسلام، وإن اختلفت المذاهب والمدارس والرؤى، جاء في "الرسالة" للإمام الشافعيِّ قال: "فما معنى أمر النبيِّ - - صلى الله عليه وسلم - - بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد، قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرِّقةً في البلدان فلا يقدر أحد أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرِّقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى؛ لأنَّه لا يمكن، ولأنَّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها".(2/472)
أي أنه لم يعتبر الاشتراك في المكان دليلاً على الانتماء للجماعة؛ بل يجب إظهار الموالاة لله ورسوله والرضى بمرجعية الشرع في الأمور على درجاتها وعلى درجات الأحكام.
وتطبيق هذا الأمر على مفهوم الجماعة يعني:
الأول: المفهوم الاعتقاديّ، ويعني ضرورة اتِّباع أهل السنَّة والجماعة فيما كانوا عليه من الاعتقاد والتحليل والتحريم ونحو ذلك، في اختلافهم سعة ما داموا على المنهج.
الثاني: الجانب السياسيّ، ويعني اتِّباعهم فيما اتَّفقوا عليه من شكل النظام الذي حدَّدته الجماعة، والطاعة لهذا النظام والالتزام بقواعده في غير معصية، وعدم الخروج عليه إلا بالكفر البواح؛ حفظاً لبقاء الجماعة.
وعليه فكلُّ مسلم:
ليس له أن يخرج عن منهج أهل السنَّة والجماعة (في المنهج الاستدلالي وحجية الأدلة) في اعتقاده وتحليله وتحريمه.
ليس له أن يخرج عن طاعة نظام الجماعة في غير معصية، سواء أكان المسلمون ذوي شوكةٍ وسلطانٍ أم لم يكونوا، كما في أوقات الفتن، أي احترام "النظام العام" في كلياته، ولو كان المسلمون أقلية؛ فعلى المسلم اتباع الشرع في أموره مع احترام النظام العام للدولة التي يعيش فيها والحفاظ على الرابطة الإيمانية بالأمة عبر الاحتكام للشرع على المستوى الفردي والاجتماعي حتى وإن عاش في ظل نظام قانوني له مرجعية وضعية.
مراتب الخروج على الجماعة:
الخروج على الجماعة بأيٍّ من مفهومَيْها الاعتقاديِّ والسياسيِّ يحتمل أشكالاً ثلاثة:
1 - الخروج تأويلاً للنصوص:(2/473)
فمن كان له في خروجه وجه تعلُّقٍ بالنصوص ونوع تأويل لها، مع الإيمان بها في الظاهر والباطن، والالتزام بها جملة، فإنَّ مخالفة تأويله للإجماع أو الجمهور لا يُخرجه من الملَّة بل يبقى في دائرتها، وفي هذه الحالة يكون الحوار والنقاش هو الطريق لمحاولة إرجاعه إلى الحقِّ طالما لم يتحوَّل خروجه هذا إلى خروج السلاح والقتال، وأبرز مثالٍ على ذلك ما حدث مع الخوارج؛ حيث حاول الإمام عليٌّ -رضي الله عنه - حوارهم بالنصِّ والعقل والمنطق، ومجادلات ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما - معهم خير دليل، ولم يقاتلهم الإمام عليٌّ إلا عندما بدؤوا هم بالقتال؛ أي تجاوزوا الخلاف في الرأي بل والعصيان المدني للثورة المسلحة ضد النظام العام.
2 - الخروج طلباً للملك أو قطعاً للسبيل، وهو نوعان:
أن يخرجوا طلباً للسلطة وتنازعاً على السيادة، وهؤلاء هم البغاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى كيفيَّة التصدِّي لفتنتهم في قوله - تعالى -: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
أن يخرجوا لقطع السبيل وأخذ المال والإفساد في الأرض، وهؤلاء هم المحاربون، وقد أشار القرآن الكريم إلى جزائهم في قوله - تعالى -:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33).
3 - الكفر، وهو أيضاً نوعان:(2/474)
- الخروج ردًّا للنصوص بغير تأويل، أو تأويلاً يترتَّب عليه إنكارٌ لما عُلِم من الدين بالضرورة، أو استجازةً لما أجمع على تحريمه المسلمون، أو تحريماً لما أجمعوا على حلِّه؛ فلا شكَّ أنَّ إعلان ذلك رِدَّة، والمجاهرة به سعي لقلب نظام المرجعية الإسلامية ذاته، وهؤلاء يخرجون بذلك من الدين، ويفارقون بهذا جماعة المسلمين، وإلى أمثالهم يشير الحديث السابق: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، والخلاف يثور في العصر الراهن على فك الارتباط بين الترْك للدين الذي قد يكون بين العبد وربه وأن يترتب على ذلك مناهضة علنية للنظام الإسلامي توجب دفاع هذا النظام عن مرتكزاته - شأن أي نظام - ؛ لأنَّ المفارق يكون قد فارقها فيما أجمعت عليه من الدين، ورفض مع هذا أيضاً مرجعية الشرع في إدارة شئون الناس وأنظمتهم الحياتية؛ فصار بذلك عضواً مفصولاً عن جماعة المسلمين مناهضاً لعقيدتهم وشريعتهم العامة.
- الخروج كفراً بالإسلام ومعاداةً له وموالاةً لأعدائه، وحرباً عليه، وهؤلاء هم المرتدُّون الذين خلعوا بذلك رِبقة الإسلام من أعناقهم، وانضموا لأعدائه، وذلك كما كان من المرتدِّين في أيَّام أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - من مفارقةٍ للدين، ومظاهرةٍ على حرب المسلمين، وكالذين قتلوا القرَّاء الذين أرسلهم معهم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ليعلمُّوهم القرآن والدين فيما عُرِف بحادثة "الرجيع".
مفهوم الجماعة اليوم:
استمرَّ مفهوم الجماعة يحمل نفس معناه الاعتقاديِّ دون لبسٍ أو خلاف، أمَّا المعنى السياسيُّ فقد مرَّ بمراحل عديدةٍ حفلت بالوضوح حينا، وبالالتباس أحياناً كثيرة، ووصل المفهوم اليوم في أذهان العديد من الناس إلى مسلكَين خاطئَين:
1 - إفراط:(2/475)
فمنهم من نازع في شرعيَّة الانضواء في تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات ابتداء؛ ذهاباً منه إلى أنَّ المقصود بالجماعة هو جماعة المسلمين كلهم، وهذه التجمُّعات ليست من الجماعة في شيء، وهم على صنفين: صنفٍ يعتقد ألا جماعة ولا بيعة إلا بعد التمكين ونصب الإمام، وصنفٍ آخر يرى أنَّ الجماعة موجودةٌ بالفعل ممثلة في الأمة، وبالتالي فلا حاجة لوجود مثل هذه التجمُّعات.
2 - تفريط:
ومنهم من غلا، فقصر جماعة المسلمين على تجمُّعه الخاصّ، ولم يرَ لغيره شرعيَّة الانتساب إلى الإسلام أو الجماعة، فجعل لزوم جماعته جزءاً من أصل الدين لا تثبت صفة الإسلام ابتداءً إلا باستيفائه، واعتبر من لم يكن في جماعته كافرا، ومن كان في جماعته فخرج منها فقد خرج من رِبقة الإسلام، ورفض التقارب أو التعاون مع غيره من التجمُّعات والجماعات الأخرى، ولم يفهم أن الجماعة التي أشار إليها الحديث هي مجمل الأمة المستقيمة على الشرع مع قبول التعدد داخلها والاختلاف بين الرؤى والاتجاهات على أرضية المرجعية الإسلامية الجامعة.
ولا يسع المجال هنا للردِّ التفصيليِّ على هؤلاء ولا أولئك، فقط نلاحظ التالي:
ا - أنَّ الاستدلال على عدم شرعيَّة التجمُّعات القائمة في واقع العمل الإسلاميِّ المعاصر موضع نظر؛ وذلك لأنَّ الفِرَق التي جاء الأمر في الحديث باعتزالها هي ذلك الشرُّ الذي أشار إليه النبيُّ - عليه الصلاة و السلام - في الحديث قبل ذلك بقوله: "دعاةٌ على أبواب جهنَّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" (متَّفقٌ عليه)، والذي أمر النبيُّ - - صلى الله عليه وسلم - - عنده بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأذن بغير ذلك ولو كان البديل هو الاعتزال حتى الموت.
قال الإمام النوويُّ - رحمه الله -: "قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعةٍ أو ضلال، كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة".(2/476)
وقال الإمام الشاطبيُّ (رحمه الله): "إنَّ هذه الفِرَق إنَّما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلِّيٍّ في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيَّات؛ إذ الجزئيُّ والفرع الشاذُّ لا ينشأ عنه مخالفةٌ يقع بسببها التفرُّق شِيَعا، وإنَّما ينشأ التفرُّق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلِّيَّة".
وليست الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة من هذا القبيل لاتِّفاقها في الجملة على الالتزام المجمل بأصول أهل السنَّة والجماعة، ولسعيها جميعاً إلى غايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في إقامة الدين والتمكين لشريعة الله في الأرض؛ فهي في مجموعها هي الجماعة، أمَّا ما يقع بينها من اختلافٍ فهو اختلاف خططٍ ووسائل، وليس اختلاف غاياتٍ أو عقائد.
وكذلك قصر مفهوم "جماعة المسلمين" على تجمُّعٍ بعينه، هو خطأٌ وزعمٌ لا دليل عليه؛ فجماعة المسلمين -كما ذكرت آنفا - هي السواد الأعظم من أمَّة الإسلام، وهذه التجمُّعات أيًّا كان شكلها ليست الأمَّة ولا هي سوادها الأعظم، بل اتحادات لنصرة الدين بوسيلة محددة أو أدوات معينة؛ فمن أين أتى الزعم بأنهم هم الجماعة، وغيرهم ضال؟!
وتبرز خطورة هذا الفهم القاصر حين تكرَّس الخصومة بين فصائل العمل الإسلاميّ، ويصبح التكفير قُرْبةً إلى الله - تعالى - ، فكلٌّ منهم يتقرَّب إلى الله بإخراج الآخر من الملَّة، ويتعبَّد لله بقطع ما بينه وبين أخيه، وتزداد الفتنة عندما تنتقل هذه الخصومة إلى دائرة المنابر العامَّة، ويندلع لهيبها في أوساط الأمَّة، وأدنى ما يمكن أن يترتَّب على ذلك هو الزهد في العمل الإسلاميِّ كلِّه الذي يفقد احترامه بسبب هذه المهاترات، ويبدو في صورة الفِرَق المتناحرة والشِّيع المتلاعنة، وبدلاً من أن توجَّه هذه الجهود وهذه الطاقات إلى دعوة العالَمين إلى الله - تعالى - ، تُحوَّل إلى التكفير والتفسيق بل والضرب والقتل في أحايين كثيرة!.(2/477)
هذه الجماعات أو التجمُّعات ليست أيٌّ منها هي جماعة المسلمين؛ ولهذا فإنَّها ليست نهاية المطاف، ولا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، ولا كلُّها مجتمعة، وبالتالي فليس هناك من زعمٍ في اعتبار هذه أو تلك هي الأصل وغيرها ليس كذلك، وليست هناك من مشكلة في وجود جماعةٍ واثنتين وثلاث تتعاون على البر والتقوى، طالما لم يتعدَّ الأمر كونها مجرَّد وسائل للنهوض بجماعة المسلمين، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ.
علماً بأنَّ هذه التجمُّعات الموجودة قد نشأت لمواجهة تحدِّياتٍ معيَّنةٍ واجهت الأمَّة في القرن العشرين، وإطلالةٌ سريعةٌ على أسباب تكوين هذه التجمُّعات تُنبئ بذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ هذه التجمُّعات تصبح تكامليَّة لا تصادميَّة؛ بمعنى أنَّها كلَّها في صفٍّ واحد، وكلَّ واحدةٍ تقف في مواجهة تحدٍّ مختلفٍ عمَّا تواجهه الأخرى؛ فيكون الجمع هو الصحيح لا المواجهة، والأولويَّات قد تتغيَّر وتتبدَّل حسب الاحتياجات والتحدِّيات.
إذا كان الأمر كذلك؛ يصبح تحديد الانتماء لهيئة مرتبطاً بقدرة الفرد على تقديم أقصى جهدٍ في هذا السياق، بعيداً عن الأسماء والمسمَّيات والأشخاص والهيئات؛ فمن كان أداؤه الأَوفى والأعلى حين يعمل منفرداً فليعمل، ومن كان يعطي كلَّ طاقته حين ينتمي لجماعات إسلاميَّةٍ فلينتمِ، ومن كان يجد نفسه وطاقته من خلال جمعيَّات المجتمع ومؤسَّساته فليسارع إلى الاشتراك فيها دون إنكارٍ من أحدٍ على أحد، ولا لوم أحدٍ لأحد.
فعلامَ الخلاف والنزاع واللوم والتلاوم؟؟!(2/478)
وما المانع أن يكون المسلم عضواً في جمعيَّةٍ وجماعةٍ في آنٍ واحد؟ بل ما المانع من أن يلتزم في جماعتين طالما يحقِّق ذلك الخير للفرد وللأمَّة؟ فإن حدث تعارضٌ ما يُترَك تقدير الأمر للفرد حسب ما يرى من خدمة دينه وأمَّته، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بنظم وقواعد التجمُّع الذي انتمى إليه طالما رضيه وارتضى الانتماء إليه، إذ الالتزام هنا ليس التزاماً شرعيًّا باعتباره جماعة المسلمين، ولكنَّه التزامٌ إداريٌّ تنظيميٌّ لتسيير العمل وانتظامه.
ونرى أنَّ المسلم أمام أمرين:
الأوَّل: الالتزام باتِّجاهٍ من الاتِّجاهات القائمة باعتبار ذلك خطوةً مرحليَّةً في الطريق إلى جماعة المسلمين، والسعي من خلاله إلى نهوض الجماعة بمفهومها العامِّ والشامل.
وفي هذا ينبغي التنويه إلى أنَّ المقصود بالالتزام هنا الالتزام بتجمُّعٍ ما بمفهومه العامِّ الذي يشمل: الجماعات الإسلاميَّة الخيريَّة؛ جمعيَّات ومؤسَّسات المجتمع... إلخ.
على أن لا يعتبر انتسابه لهذه الجماعة هو نهاية المطاف؛ فهذه التجمُّعات وسائل لغايةٍ واحدةٍ تتمثَّل في جمع الكلمة وتنسيق الجهود في سبيل خدمة الأمَّة؛ فهي خطوةٌ مرحليَّةٌ على الطريق.
وهذه الجماعات والتجمُّعات لا يمثِّل أحدها على انفرادٍ جماعة المسلمين، وإنَّما هي خطواتٌ مرحليَّةٌ في الطريق إليها، وأنَّ التزام المسلم ب"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل أسبق من التزامه بهذه التجمُّعات الجزئيَّة؛ لأنَّ الأوَّل واجبٌ بأصل الشرع؛ فهو الذي دلَّت عليه النصوص، وانعقد عليه الإجماع. أمَّا الثاني فمستَنَد وجوبه هو المصلحة الراجحة، وكونه ذريعةً لإقامة بعض الواجبات الشرعيَّة التي قد لا يتسنَّى أداؤها إلا من خلال هذه الأطر.(2/479)
ويوم أن تصبح هذه التجمُّعات مفرِّقةً للكلمة، أو مشوِّشةً على الولاء العامِّ للإسلام والجماعة، فإنَّ شرعيتَّها من الأساس تكون موضع نظر؛ لما تقرَّر من أنَّ الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاًّ وحرمة.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "لمَّا كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطرق تُفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها؛ فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها، والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبَّتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها؛ فوسيلة المقصود تابعةٌ للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنَّه مقصودٌ قصد الغايات، وهي مقصودةٌ قصد الوسائل، فإذا حرَّم الربُّ - تعالى - شيئاً وله طرقٌ ووسائل تفضي إليه، فإنَّه يحرِّمها ويمنع منها؛ تحقيقاً لتحريمها، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته - تعالى - وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء".
وإذا كان مفهوم "جماعة المسلمين" لا ينطبق على التجمُّعات الموجودة؛ ففي هذا الإطار ماذا تكون "البيعة" التي يعطيها المسلم لبعض هذه التجمُّعات حين التزامه بها؟ وما إلزاميَّتها؟
أمَّا البيعة التي تُعطَى لأيِّ تجمُّعٍ فهي ابتداءً بيعةٌ على عملٍ صالحٍ يتَّفق مع مقرَّرات الشرع؛ كفعل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البرِّ والتقوى، والمقصد منها الالتزام بالعمل الذي تمَّ الاتفاق عليه بين الطرفين، بصرف النظر عن الأوصاف والمسمَّيات.(2/480)
وأمَّا إلزاميَّتها فهي لا تأخذ حكم التعاقد الملزم بين أطراف العلاقة التعاقديَّة، ولا يترتَّب عليها التزامٌ بين المتعاقديْن إلا بقدر ما تسبِّبه من ضرر، فالبيعة التي تُعطَى لهذه التجمُّعات لا تخوِّل لأمرائها الحقَّ في السمع والطاعة المطلقة، وإنَّما هي بمثابة العهد أو العقد، وقد جاء في فتاوى المذهب الحنفيِّ ما نصُّه: "رجلٌ أعطى العهد لشيخ، ثمَّ أعطاه لآخر، أيُّ العهدين يلزمه؟ قالوا: لا هذا ولا ذاك!".
فإن فارق الشخص تجمُّعه، وقد التزم معه بعمل؛ فلا شيء عليه، بشرط ألا يُخلَّ فراقه بالتزامٍ تَعهَّد به وترتَّب عليه ضررٌ على الطرف الآخر، شأنه تماماً كشأن المتعاقد الذي أخلَّ بتعاقده؛ فوقع الضرر بسبب ذلك على الطرف الآخر، فلا يمكن بحالٍ إكراهه على الاستمرار في التجمُّع، أو اعتبار تحلُّله من عهده وانتمائه "خروجا" على "جماعة المسلمين".
الثاني: الالتزام بالطاعة ل"جماعة المسلمين" بمفهومها العامِّ والشامل، دون الالتزام بتجمُّعٍ بعينه، مع الالتزام بالعمل للإسلام حتى ولو كان وحيدا، والاكتفاء في هذه المرحلة بإقامة صلاتٍ متوازنةٍ مع كافَّةٍ التجمُّعات الإسلاميَّة وبذل النصيحة الواجبة لأصحابها، والتعاون معهم جميعاً على ما عندهم من خير، دون الالتزام العضويِّ بأحدها إلى أن يأذن الله بتجاوز هذه الفرقة، وتقام جماعة المسلمين.
مع التذكير بأنَّ في ديننا ما اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأجله؛ فالعديد من فروض الدين لا تقوم إلا بالاجتماع، كالاجتماع لأداء الفرائض كالجمع والجماعات، وكالانتصار للدين، ومجاهدة المنافقين والكافرين ونحوه، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
وعموماً فتحديد أيِّ اختيارٍ من هذيْن الاختياريْن مردُّه إلى المسلم نفسه؛ فحيث يرى نفسه أنفع فليذهب إلى ذلك دون تردُّد، فالانفراد وسيلة، والانتماء وسيلة، والغاية هي المراد، وما يحقِّق الغاية أقصى تحقيقٍ يصبح مراداً أيضا.
الخلاصة:(2/481)
- جماعة المسلمين هي الأمَّة، أو السواد الأعظم من الأمَّة حسب اصطلاح الفقهاء.
- الجماعات الموجودة لا تستند في تأسيسها إلى نصوص السنَّة المطهَّرة الواردة في لزوم الجماعة ووجوب البيعة إلا على سبيل الاستئناس، وإنَّما استنادها إلى النصوص العامَّة التي تحضُّ على التعاون على البرِّ والتقوى، وتنهى عن الفشل والتنازع، وفي هذا السياق عليها أن تسعى بكلِّ طاقتها للتعاون والتكامل والتعاضد، والابتعاد كلَّ الابتعاد عن التقاتل والتنازع والتخاصم.
- البيعة المعقودة لهذه التجمُّعات بمثابة العقد، والطاعة لها تكون في حدود ما اتُّفِق عليه في هذا العقد، ويكون التحلُّل منها عند الاقتضاء بإنهاء هذا التعاقد.
- مفهوم الجماعة أو التجمُّع أشمل من مجرَّد ما شاع من وصف "الجماعات الإسلاميَّة" فهو يشمل كلَّ هيئةٍ أو مؤسَّسةٍ أو جمعيَّةٍ من هيئات ومؤسَّسات وجمعيَّات المجتمع يمكن خدمة الإسلام من خلالها؛ إذ خدمة الإسلام هي الغاية، والكيانات هي الوسيلة، فبأيِّ شكلٍ كانت تبقى وسيلة، مجرَّد وسيلة.
- إذا لم تكن هذه التجمُّعات هي جماعة المسلمين، فلا مانع من عمل المسلم في جماعةٍ أو في أكثر من تجمُّعٍ منها، والتزامه بها طالما حقَّق ذلك مصلحةً للأمَّة، وانتفى التعارض بينها أو أمكن الجمع بينها.
- اقتضت الضرورة الشرعيَّة الاجتماع لأداء بعض الفرائض التي لا يمكن أداؤها إلا بالاجتماع، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
- إذا كان الأصل هو السعي من خلال تجمُّعٍ من هذه التجمُّعات القائمة إلى إيجاد جماعة المسلمين بالمعنى السياسيّ، فإنَّ بعض الناس لا يتسنَّى له أداء الدور إلا خارج هذه الأطر، أو تكون مصلحة العمل الإسلاميِّ في مكانه خارجها أغلب من المصلحة في لزومه لها، فهؤلاء يترجَّح في حقِّهم ما يحقِّق أكمل المصلحتين، وإذا عُرِف مقصود الشارع سُلِك في حصوله أوصل الطرق إليه.
وختاماً فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة فقد يدع واجباتٍ ويفعل محرَّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة خلف الذين فيهم بدعةٌ أو فجور، ويرى ذلك من الورع".
ـــــــــــــــ(2/482)
نقد العلماء بين التعصب والإسقاط
عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي
علماءُ الملةِ هم ورثةُ الأنبياءِ عليهم السلام، وحماةُ الشريعةِ المطهرة، ونورُ الأرضِ، يستضاءُ بهم، حبُهم عبادةٌ، واجلالُهم نسكٌ، فضلهم على العبّادِ كفضل النبي على الأمةِ، هم كالعودِ يحترقُ ليطيبَ الآخرين، فالله ما أعظم فضلهم، وما أكبر حقهم، وما أسوء من نالهم بسوء.
قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين.
أثنى اللهُ - تعالى - عليهم في غيرِ ما موضعٍ من كتابِهِ العظيمِ، فقال - جل وعلا -:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر] بل أشهد اللهُ هؤلاء العلماء على أعظمِ مشهودٍ وهو ألوهية الربِ - جل وعلا - فقال - سبحانه -:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[سورة آل عمران] وأما ثناءُ عبدُ اللهِ ورسوله - - صلى الله عليه وسلم - - عليهم فقد كثرُ وتنوع، ومما قالهُ رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: [مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ]ِ[حديث صحيح].(2/484)
وفي قال - صلى الله عليه وآله سلم -: [الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ].
وقد نبه الله - جل وعلا - تنبيه من باب التعجب، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر] لا والله لا يستوون مثلاً.
وقد صح في السير والأخبار من حسن تعامل السلف مع علمائهم الشيء الكثير، فمنها:
أن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذهب لبيت جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -ليتعلم منه، فلما قدم وجد جابر نائمًا، فبقي عند البيت ينتظره، فلما خرج سلم عليه وقبل يده وقال:'هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَ عُلَمَائِنَا...'.
وإن أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء بين غلو الرافضة والصوفية وبين جفاء الخوارج الغلاظ، فأهل السنة لا يدّعون عصمة لعلمائهم، ولا يتعصبون لهم مقابل الدليل، ولكن لا ينقصون قدرهم، ولا يحقرون أمرهم.
وقد كثر الكلام عن هذه المسألة في الآونة الأخيرة بين متعصب قد وضع عقله في يد غيره، وصار بين يدي شيخه كالميت في يدي مغسله، وشابه الروافض والصوفية في هذا، وبين رجل قد نزع الحياء عن وجهه، وغلّب السوء، وأراد إسقاط أهل الفضل والخير والإيمان، فشابه الخوارج في هذا.
والعلماء أضراب وأقسام فمنهم: عالم السلطان، وعالم العامة، وعالم الملة؛ وهاك شيئًا من تفصيل هذه الأقسام:
عالم السلطان:(2/485)
وهو العالم الذي يفتي ويأمر بهوى السلطان، فقد يكون له رأي في مسألة ينصره ويؤيده فلما رأى هوى السلطان مال لشيء مال معه، ولا يظهر لمثل هذا أمر بالمعروف ونهي للمنكر تجاه السلطان أو حاشيته، بل أشد موقف له مع السلاطين هو السكوت، وفي مثل هذا قال ابن القيم - رحمه الله -: 'وَأَيُّ دِينٍ، وَأَيُّ خَيْرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ، وَحُدُودَهُ تُضَاعُ، وَدِينَهُ يُتْرَكُ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - - صلى الله عليه وسلم - - يُرْغَبُ عَنْهَا، وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ؟ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا سَلَّمْت لَهُمْ مَآكِلَهُمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟، وَخِيَارُهُمْ الْمُتَحَزِّنُ الْمُتَلَمِّظُ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ بَذَلَ وَتَبَذَّلَ وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ وُسْعِهِ. وَهَؤُلَاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ - قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبُ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى، وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ'.
وقال الإمام النووي - رحمه الله -: وَرَوَيْنَا عَنْ الْأُسْتَاذ أَبِي الْقَاسِم الْقُشَيْرِيِّ - رحمه الله -قَالَ:سَمِعْت أَبَا عَلِيّ الدَّقَّاقَ يَقُول:'مَنْ سَكَتَ عَنْ الْحَقّ فَهُوَ شَيْطَان أَخْرَس'.(2/486)
فهذا وأمثاله لابد للأمة من بيان حاله؛ لأنه أخطر على الأمة من الفساق والزنادقة؛ لأنه يهدم دين الناس بدعوى الإصلاح قال - تعالى -:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [11] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة]. وقد نقل لنا أن أحدهم دخل على الخليفة وهو يلاعب حمائم عنده فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ أَوْ جَنَاحٍ] الحديث بدون لفظة: [أَوْ جَنَاحٍ] ر واه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم. فكذب قبحه الله على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ رغبة بما عند السلطان، فويل له يوم يقوم الناس لرب العالمين!
وكم ابتليت هذه الأمة في شتى عصورها بهذا الصنف، فيكثرون عندما تمر الأمة بأزمات ويحتاج السلاطين لفتاواهم، وقد رأينا من هؤلاء من يفتى بجواز مظاهرة الكفار على المسلمين، فذهب ليهدم مذهب أهل السنة في باب الولاء والبراء إرضاء لفلان، أفلا يكون مثل هذا ظالما؟!
بلى وربي. ألم يسع هذا وأمثاله أن يسكت، فيكون شيطان أخرس، خيرًا من أن يحمل المعول ليهدم ملة إبراهيم؟! مع أن حكامه لم يطلبوا منه ذلك بل قد يسخطهم فعله؛ لأنه مخالف للسياسة. وصدق في هؤلاء قول الله - جل وعلا -:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[سورة المائدة] اللهم أورثم الغم والهم والحزن والندم على فعلهم هذا، اللهم وأرهم تبرؤ أسيادهم منهم في الدنيا والآخرة.
ألم يسمعوا هؤلاء قول القاضي أبي الحسن الجرجاني - رحمه الله -:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما... رأوا رجلا عن مواطن الذل أحجما(2/487)
أرى الناس من دانهم هان عندهم... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وإني إذا ما فتني الأمر لم أبت... أقلب كفي إثره تندِّما
ولم أقض حق العلم إن كان كلَّما... بدا طمعٌ صيرته لي سلما
إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى... ولكن نفس الحرِّ تحتمل الظَّماَ
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي... لأخَدمَ من لاقيتُ ولكن لأخُدماَ
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلَّةً... إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم... ولو عظموه في النفوس لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا... محياه بالأطماع حتى تجهما
أم إن قلوبهم قد خربت، وأفهامهم قد بليت، وأذواقهم قد أنحطت، بحثًا خلف منصب أو مال؟ ويستحق من كان هذا حاله أن يسمى بأبي عامر الفاسق.
عالم العامة:
وهو الذي ينظر في رغبات الأتباع والجمهور فما وافقهم قال به، حتى قال بعضهم: بحثنا في مسألة حكم بقاء المرأة المسلمة مع زوجها الكافر حتى نجد من يقول بالجواز فلم نجد إلا حكاية قول عند ابن القيم: فأخذنا به!!!،
وأفتى أحدهم لبعض الجنود المنتسبين للإسلام بالقتال مع دولتهم الكافرة ضد المسلمين، وأفتى للمسلمين بقتال هذه الدولة!!! فأي عقل مع مثل هذا؟؟ بل أي دين مع هؤلاء الذين ركبوا موجة الفتوى برخص الفقهاء ـ للتيسير زعموا ـ وما هم إلا مفسدون لدين الناس منسلخون من طاعة رب الناس، وإن كان العلماء قد قرروا أن من تتبع رخص الفقهاء تزندق فيكف بمن تتبع رخص الفقهاء ليفتي الناس بها؟!(2/488)
أفلا يكون زنديقا؟!. وفي أمثالهم قال الله - جل وعلا -:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175] وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف].
عالم الملة:
وهو العالم الموحّد الذي يدعو لتوحيد رب العالمين، وينهى عن شرك القبور والقصور، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويظهر الحق، زاهد في الدنيا، صاحب نسك وطاعة، وقد يقع في شبهة أو شهوة، فنحن لا نشترط في العلماء العصمة، وتجده يحترق على دين الله - تعالى -، يبكي قلبه لمنظر المسلمة التي تنتهك في أفغانستان؛ أو ذاك الطفل الذي يبحث عن أمه بين ركام دارهم في فلسطين؛ أو شيخ فانٍ قد وضع العلج الصليبي نعله على وجهه في دار الخلافة بغداد، وتتفتت كبده لما يسمع زنديقًا يقول:'الله والشيطان وجهان لعملة واحدة '، ولا يعتذر لمثل هذا بأي عذر كان، يأبى عليه دينه إلا قول الحق.
وقد يضعف أحيانًا، أو يتحرف لقتال أعداء الدين والملة أخرى، قد استجمع شرائط الاجتهاد، وقد يكون متوليًا لمنصب ديني في الدولة؛ أو عار عن المناصب قد حلق في السماء، ينظر بعيني البصيرة إلى قوله - تعالى -:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران] فيرتعد قلبه ويقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد.(2/489)
متوكل على الله، فقد علم أن من توكل على الله فهو حسبه{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة].
وكلما خوفه مخذل تلا عليه قول ربه:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران]. وازداد يقينه وعلم علم اليقين أن الله حسبه وصدع بقوله - تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران].
وعلم أن قول الله:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران] فيه وفي أمثاله من الصادقين، وقد يخالطه شيء من البخل أو شيء من الخوف من قمع سلطان جائر مما يعتري البشر.. فهذه أقسام العلماء.
وأما القسم الأول والثاني فلابد من بيان حالهم وفساد أفعالهم ليحذرهم الناس، وهذا التحذير طاعة وعبادة، وقربة من المولى جل شأنه وتقدست أسماؤه، وقد يخالط فسادهم مع السلاطين، أو العامة فساد في معتقد، وقد لا يخالطه ذلك.
وكم رأينا من علمائنا من يرد على أمثال هؤلاء الضلال في القديم والحديث، ومع ردنا عليهم يجب مراعاة الأدب الجم وعدم التنقص لعله أن يتوب أو يرعوي، وقد يتنبه بعض الأتباع إذا أحسنا العبارة، فإن التابع قد يرفض الحق إذا صاحبته شدة أو تهكم، وكل إناء بما فيه ينضح، واللسان عنوان ما في القلب.(2/490)
وأما عالم الحق فنتأول له مالا نتأول لغيره، ونعذره مالا نعذر غيره، ونتلطف معه مالا نتلطف مع غيره؛ لكمال فضله وجلالة قدره، ولا يمنعنا هذا من الرد عليه أبدًا، ولا يقال سلم منك الترك والديلم ولم يسلم منك أخوك المسلم، فإن هذا يقال في مقام الرد بجهل أو ظلم، وقد تقع المخالفة بزلة عالم، وفلتته بقول شاذ أو قائل فارد، لا تجد له عليه تبيعًا، وهكذا من مسالك الشذوذ الأخرى، والمغادرة إلى مجاهيل التلون في دين الله، وضغط الإسلام للواقع، وتطويع الأحكام الشرعية للحياة الغربية.
وتفنيد دعاوى الخصوم للدين بغير علم، الذين يضغطون الإسلام للواقع، ويسخّرون النصوص لآرائهم الشاذة وأقوالهم الفجة؛ من أجل الواجبات، وبيان زلة العالم محمدة في الإسلام.
وبيان زلة العالم بأدب مما تميز به منهج أهل السنة والجماعة على سائر الفرق بل على سائر الأديان والملل، فكل أتباع الفرق والملل هم عبيد لعلمائهم وصدق فيهم قول الله - تعالى -:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ - سبحانه - عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة] أما أهل السنة فقد وضعوا جباههم على عتبات ربهم راغبين وراهبين، وهو قد وعدهم وأوعدهم وهم بين حبه والخوف منه سائرين إلى جنته برحمة منه وفضل.
ثم إياك، ثم إياك أن تغتر بقول من قال: رد على الكفار واترك المسلمين، أو بين الحق للناس واترك الردود على الخطأ، فهذا ضعف وخور، و نزعة عصرانية خبيثة يسمونها حرية الرأي والتعبير، وما هي إلا حرية الكفر والإلحاد، والزندقة والفسق.(2/491)
ولهذا فإذا: رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي، أو قول بدعي؛ فاشكر له دفاعه بقدر ما وسعك، ولا تخذله بتلك المقولة المهينة:'لماذا لا يرد على العلمانيين'. فالناس قدرات ومواهب، ورد الباطل واجب مهما كانت رتبته، وكل مسلم على ثغر من ثغور ملته.
والمعرض عن رد الباطل بعد تذكيره، يخشى أن يدخل في الذين إذا ذكروا بآيات ربهم: يخرون عليها صمًا وعميانًا. والبصراء يعرفون أن المخذل قد لا يقصد التخذيل، وإنما يرمي إلى الاعتذار لنفسه، عن القيام بهذا الواجب، وحجب تقصيره عن العذل والملام.
والتخذيل لا يسري في أمة إلا وتعمل على إسقاط نفسها بنفسها، وتوجد من تقصيرها، وتخذيل الناصحين فيها، معاول لهدمها. وقل لي بربك إذا أظهر المبطلون ـ ولو كانوا متأولين ـ أهواءهم والمرصدون في الأمة: واحد يخذل وواحد ساكت، فمتى يظهر الحق؟ ألا إن النتيجة تساوي: ظهور الأقوال الباطلة، والأهواء الغالبة على الدين الحق بالتحريف والتبديل وتغير رسومه في فِطَر المسلمين. ألا إن السكوت على كل مبطل وباطله أبدًا: هو هُنا أبطل الباطل، وخوض في باطن الإثم وظاهره.(2/492)
وأما حال كثير من الناس: حال الأتباع الذين أجروا عقولهم لغيرهم بثمن بخس دراهم معدودة، وباعوا أفهامهم، بل باعوا خوفهم من الله - تعالى - لمن وسموهم بسمة المجتهدين والأئمة الأطهار حتى صاروا إمامية عصرية، وهؤلاء أعداء كل طالب علم أو عالم يريد الرد على خطأ عالم لعله أن يؤوب، ويدّعون أن هذا تشهير!! ونقص لحق العلماء الأماجد!! ويرضون منك بقول: ما بال أقوام يزعمون أن هذه سنة أحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا محض افتراء عليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه العبارة النبوية الشريفة تقال لمن استتر بخطئه، ولم يخش أن يضل الناس بسببه، [وإن المسلم الموحد ليصاب بأذى مضاعف من المُقَرَّنِينَ بالتخذيل، إذا خفقت في الصف رِيحُهُم، فما أن يقبض عالم قبضة من الهداية ليرمي بها على بدعة وعماية إلا وترى في الصف نزراً رغبت بطونهم، ملتفين بملآتهم، أشغلتهم دنياهم عن آخرتهم دأبهم دأب [المْوَالِسَة] يرمون بالتخذيل والتحطيم صبرة بلا كيل ولا وزن فيبسطون ألسنتهم بالنقد حيناً والاستعداء أحياناً، وينزلون أنفسهم في [روزنة] يفيضون فيها الحكمة، والتعقل، والذكاء الخارق في أبعاد الأمور وهكذا في أمور ما إن تفور إلا وتغور؟ وهم في الحقيقة: المخذلون المنزوون عن الواقع الفرّارون من المواجهة وارثوا التأويل الخاطئ لقوله - تعالى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...}[سورة المائدة].
والذين يلوون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل- وإن كان في بعضهم صلاح وخير- لكنه الوهن وضعف العزائم حيناً، وضعف إدراك مدارك الحق ومناهج الصواب أحياناً، بل في حقيقته من التولي يوم الزحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذب عنه، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالناطق بالباطل في الإثم.(2/493)
وأي دعوى لعدم الرد على المخالف هي دعوى خرجت من رحم رافضية صوفية، وأصحابها يريدون هدم أعلام الإسلام شاؤوا أم أبوا؛ فإن الرد على المخالف منهج لنا وعقيدة، وأما محاولة إسقاط العلماء وأننا لا نأخذ عنهم الدين فهذه دعوى للإلحاد والزندقة، فكيف يأخذ الناس دينهم إن أسقطنا كل عالم زل زلة أو سقط في شبهة أو شهوة؟!!.
كيف للناس معرفة الحلال والحرام، هل يرجعون لأشباه المتعلمين وأنصاف طلبة العلم مما اشتهر عبر الشبكة العنكبوتية ولا يعرف له أشياخ قرأ عليهم ولا علماء يزكونه ويثنون عليه، أم يرجع أحدهم بقلة علمه وضعف إدراكه للكتاب والسنة مباشرة؟!!. وأنى للعوام بفهم كلام الله - تعالى - أو كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة؟ بل أنى لهم بفهم كلام العلماء؟؟. وأنا لا أعنى أن كلام الله - تعالى - عسر صعب، ولكنه يحتاج لأدوات فقدها كثير من طلبة العلم فضلاً عن العوام.
وبعد: فإياك أخي أن ترد على عالم بقصد التشفي وإرواء الغليل لخلاف في مسألة، أو فهم دليل، وليكن مرادك وجه الله، وعالج نيتك مرة بعد مرة، وإياك أن ترد شبهة بأعظم منها، أو زلة بأكبر منها، وعليك بسلوك دروب العلم والعرض على العلماء، ولا تعجل، فتزل قدمك، فتدق رأسك، وإياك، ثم إياك وسلوك طريق أرباب المهن الوضيعة ممن رضعوا ألبان أمهاتهم بين الطرقات والسكك، فلم يعرفوا الأدب، ولا الحياء بزعم أن التشديد والتثريب على المخالف جائز، وأن بعض العلماء قد فعله، فلكل مقام مقال ولكل خطأ رد بحسبه.(2/494)
ومن سلك هذا المسلك بغير حجة من كتاب وسنة، وقد تعرى من الذوق والأدب؛ فقد صدق فيه قول ابن عساكر - رحمه الله -: ' اعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب..'. وكم من شخص رأيناه قد أطلق لسانه في العلماء ثم سقط على قارعة الطريق وصار عبرة لكل معتبر، قد بلاه الله بالكبائر ويخشى عليه من الهلاك التام والردة، وكلما مر عليه عامي استرجع أو محتسب فيقول له: هلا تنحيت عن طريق الناس. وعند الله تجتمع الخصوم.
هذا وقد أكثرت النقل عن كتاب:'الرد على المخالف من أصول الإسلام ' ففتش عنه واغنمه وعض عليه بالنواجذ، وكرر النظر فيه مرة تلو مرة، وهو لشيخ من شيوخ الإسلام والمسلمين العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا لما بين وحقق.
وهذه لبنة في طريق الإصلاح، فمن أرادها؛ فليأخذها مشكورا، ومن أبت نفسه، فليتركها؛ فإن لها طالبًا سيأخذها بيد شاكرة وعين مقدرة، والله من ورائنا محيط وهو العزيز الحكيم.
ـــــــــــــــ(2/495)
إدراج بعض المسائل التعبدية في عداد المعتقدات
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
الحمد لله حمدَ الشاكرين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمدٍ الأمين، وآله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد:
فقد استشكل على بعض من درس العقيدة الصحيحة ورود بعض العبادات في سياق المتون العقدية المتضمنة لمسائل الإيمان والأمور التصديقية، وسألني إزالة اللبس عنه فأجبته إلى ذلك، وقلت مستعيناً بالله - تعالى -:
لا يُستغرب إدراج بعض المسائل التعبدية في عداد المعتقدات، وذكر بعض الفروع في كتب الأصول، فقد كثر هذا في كتب الأئمة الثقات رضوان الله عليهم أجمعين، ومن ذلك قول الإمام أبي جعفر الطحاوي - رحمه الله - في عقيدته: (و نرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر).
ونحو ذلك إدراج الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لمسائل من قبيل تحريم النياحة نكاح المتعة، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [انظر: فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص: 40].
وعلى هذا درج كثير من العلماء، وهذا ليس من قبيل الخلط بين مسائل الأصول والفروع، أو إحلال مسألة في غير محلها، ولكن له أسبابه ومسوغاته؛ ومنها:
أولاً: الرد على المبتدعة الذين عدوا بعد المنهيات من شعائر الدين، كالرافضة الذين شرعوا النياحة واللطم والعويل على الأئمة وأهل البيت الطاهرين سنّة جارية إلى يوم القيامة، يتقربون بها إلى الله، إلى جانب ما يخالط طقوس اللطميات من ترهات وشركيات.
ولما عدَّ الروافض النياحة مسألة عقدية في دينهم، ورد ذكرها في كتب العقائد عند أهل السنة، ليس لاعتبارها مسألة من مسائل التوحيد والاعتقاد، ولكن لبيان خلل اعتقاد من تقرب إلى الله (أو إلى الأولياء والصالحين!!) بها.(2/496)
ثانياً: بيان فساد بعض الأصول التي بنى عليها المبتدعة حكمهم الفقهي في آحاد المسائل، كإنكار المسح على الخفين، بزَعْمَيْن باطلين؛ أولهما: ما نسبوه زوراً وبهتاناً إلى أئمة أهل البيت أنهم أجمعوا على المنع من المسح، واعتبروا صلاة المتوضئ بدون غسل الرجلين باطلة وإن كان ماسحاً على الخفين، وكذلك صلاة من ائتم به، وما أكثر ما زعم القوم إجماع أهل البيت عليه، وهو أبعد ما يكون عن مسائل الإجماع.
وثانيهما: تعمد المبتدعة مخالفةَ أهلِ السنة واعتبار ذلك شعاراً من شعارات أهل البدع، كما هو الحال في موقفهم في مسألة المسح على الخفين، المجمع على مشروعيته عند من يعتد بإجماعهم.
لذلك ناسب أن تذكر هذه المسألة في كتب أصول الاعتقاد لبيان فساد الأصول الذي اعتمد عليه المبتدعة في بيان حكمها، وهو رد الإجماع الثابت، والاعتداد بإجماع أهل البيت دون غيرهم رغم تعذر إثباته، وزعم الإجماع فيما ذاع فيه الخلاف.
ثالثاً: الرد على المبتدعة الذين اعتبروا الالتزام ببعض الفروع (على فرض مشروعيتها) شعاراً لمذهبهم، كقولهم في التقيَّة: لا دين لمن لا تقيَّة له، وقولهم في المتعة: من لم يتمتع فليس بشيعي.
و كفى لمعرفة بطلان هذين القولين تأمل ظاهرهما.
أما وجه ذكر مسائل من قبيل تحريم المتعة والتقية في كتب الأصول السُنِّية، فهو البراءة من البدعة وأهلها، فنحن نذكر قولهم: لا دين لمن لا تقية له، ثم نبين فساد مذهبهم المقارب بين التقية والنفاق في هذه المسألة، ووجه مخالفتنا لهم فيها.
ونذكر قولهم: من لم يتمتع فليس بشيعي، لنعقبه بحكاية الإجماع المعتبَر عند أهل الحق على تحريم نكاح المتعة، ونبين بالتالي مفاصلتنا لأهلها الذين اعتبروها أمارة فاصلة تميزهم عن العالمين.(2/497)
وأخيراً، لا غضاضة إذن في إيراد بعض مسائل العبادات في كتب أصول الدين، حينما تقتضي مصلحة إظهار الحق ذلك، ولا يعني ذلك أنها مسائل ملحقة بمسائل الأصول من حيث الحكم على المخالف فيها تبديعاً أو تفسيقاً أو تكفيراً، بل هي مسائل فقهية تزم بزمامه، ويحكم عليها بأحكامه.
هذا والله الهادي إلى سواء السبيل، وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــ(2/498)
الإسلام دين وحدة أم دين فرقة
محمد بن احمد غروي
صليت بالناس خارج المملكة في رمضان وما أن انتهيت من صلاة العشاء قام رجل يتلكم بلغة لا أعرفها وبلهجة شديدة وهو يشير إلي بغضب بالغ.. استغربت من أسلوبه فسألت المترجم فقال لي: إن الرجل يقول لماذا يصلي بنا عربي؟!!
استنكرت هذا الموقف وتعجبت من الرجل... من شدة تعصبه رفض أن يصلي به رجل من غير بني جنسه.
صار المعيار في إمامة الناس الجنس الذي ينتمي إليه الشخص لا حفظه ولا علمه إلى غير ذلك كما في الحديث المروي (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله... الحديث)
العصبية للهويه أو وقبيلة.صار مذهبا شائعا بين المجتمعات. بل فرقت بين قبلية وقبيلة.. حتى صار بعضهم لا يزوج إلا من القبيلة فحسب وما علموا أن السبب في تنوع القبائل والشعوب هو التعارف والتآلف لا التفاخر والتناحر قال - تعالى -: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) قال الزجاج: "جعلناكم كذلك لتعارفوا، لا تفاخروا" انتهى.
وقد حرص الإسلام اشد الحرص على نبذ التفرق بين المسلمين لما يبثه من ضعف وخور في جسم الأمة الإسلامية.ولذلك دعا الشارع إلى نبذ كل ما يفرق بين المسلمين وبين المجتمعات.
وللأسف الشديد تنبه الغرب إلى أهمية الوحدة بينهم مع أنهم تحسبهم جمعيا وقلوبهم شتى فصاروا يشكلون تكتلات وتجمعات اقتصادية ودفاعية. فلم يجمع بين فرنسا وألمانيا _ مع ما بينهم من الحروب على مدى العقود السابقة _ إلا المصالح المشتركة حتى صارت كبريات الشركات تندمج مع بعضها لكي تسحق كل من يقف أمامها من منافسين.
تأبى الرماح إذا اجتمعت تكسرا *** وإذا افترقن تكسرت أحادا
والمسلمون في سبات عميق وفي فرقة يندى لها الجبين
وعلى النقيض من ذلك بعد ما علموا أهمية الوحدة قاموا بالتفريق بين المسلمين ليوهنوا قوتهم ويضعفوا شوكتهم. على قول البعض (فرِّق تسد) ففرقوا بين العرب والأتراك فأصبح كل ينادي بقومه لا بدينه وإسلامه.
فما أجدر بنا نحن المسلمين أن نكون صفا كالبنيان المرصوص.
ـــــــــــــــ(2/499)
هوس البدعة
د.طارق الحبيب
ما أكثر البدع حسب اعتقاد المغرمين بتبديع الناس، وفي نظرهم معظم قطاعات الصحوة لا تخلو من بدعة ضلالة.
فالسبحة بدعة، والأهازيج الإسلامية بدعة، وفقه الواقع بدعة، والدعاء غير المنصوص عليه بدعة، وقفاز المرأة بدعة، ورفع اليدين بعد الصلاة بالدعاء بدعة، وهناك ما لا نهاية له من هذا الهوس، إن هذه الظاهرة ولا شك تنطلق من مرض نفسي أو سقم عقلي.
ويزداد شعورنا هذا حين نجد مثل هذه المبتدعات منصوصاً عليها في أحاديث بعضها في الصحيحين، وبعضها في السنن وأقلها درجة لا ينزل عن رتبة الحسن أو يكون غير مجمع على ضعفه.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن هؤلاء متيّمون بالدليل العدمي، فدليلهم على التبديع في أحيان أخرى هو عدم الدليل، فإذا قال لك عن فعل من الأفعال بدعة فقل له: ما الدليل؟ فسيقول لك: لأن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه لم يفعلوه، فإذا حاججتهم بجمع القرآن ومضاعفة بعض الحدود وفتح الدواوين وصلاة التراويح، قالوا إنها سنة الخلفاء الراشدين وأمرنا باتباعها، فإذا قلت فما قولك في إنكار الصحابة لجمع القرآن في بداية الأمر؟ وإنكارهم على عمر في مسألة إبقاء أراضي الخراج عند أصحابها بدلاً عن توزيعها على الفاتحين والاستفادة من فيئها؟ وما قولك في إنكار الصحابة على عثمان إتمام الصلاة بمنى في الحج؟ هل كان الصحابة يجهلون قوله - عليه الصلاة والسلام -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)؟ ولماذا وقف جمع من الصحابة ضد علي مع معاوية وهو الخليفة المبايع؟ فإن قال هذه اجتهادات لم يبدّعوا بعضهم بعضاً من أجلها، قلنا هذا ما نريد منك الآن، فإما أن تحكم بالبدعة على الصحابة والتابعين وإما أن تقرّ بجواز الاجتهاد في فهم مقاصد الدين، وما لم يرد فيه نص، وبجواز الاجتهاد في فهم مقاصد النصوص وأسرارها فيما فيه نص.(3/1)
وما ذكرته الآن من حوار مفترض يجوز على المعتدلين منهم، أما الغلاة فإنهم يرون الأذان الأول يوم الجمعة بدعة لم ترد ولا يعترفون بأن الخلفاء الراشدين هم الأربعة بل يقولون لا يوجد دليل ينص على أسمائهم، ويرون المذاهب الأربعة مبتدعة،كما قال أحدهم: «إن كل هذه المذاهب ضلالات والحق فيما قال الله وقال الرسول». ومع الأسف فهم من المعروفين بالعلم والتدريس والتأليف، وكلمات أخرى يقولونها في أئمة الدين والمذاهب، تقشعرّ منها الجلود.
ويذكر الجميع كيف ظهر منذ مدة من يقول بأن وسائل الدعوة توقيفية، وأي وسيلة ليس عليها دليل فهي بدعة، ثم لما علموا تورّطهم في هذه المقولة، ورأوا استهزاء الناس بعقولهم خجلوا من أنفسهم.
والذين حرموا اتباع المذاهب الأربعة خاضوا في الأدلة بأنفسهم فغرقوا في بحار العلم ولما يخوضوا غمراته بعد.
ولقد كان أكثر الصحابة يتورّعون عن هذه الكلمة، ولا يطلقونها بالمعنى الدارج بيننا إلا في مواضع مخصوصة، والروايات التي تروى عنهم في هذا يجب أن تؤخذ بحذر من ناحية سندها أو من ناحية إقرار الصحابة الآخرين لها، لأن عدداً من الصحابة رأوا بدعة ما ليس ببدعة لعدم بلوغ الدليل إليهم فلما عرّفهم الصحابة بذلك رجعوا، أو من ناحية مخالفة النصوص فقد يقول الصحابي بقول يصل إلينا خلافه عن طريق صحابي آخر عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، هذا إذا صدر عن الصحابة، فما بالك فيما يصدر عن الأئمة والعلماء الذين جاءوا من بعدهم - رضي الله عنهم -.(3/2)
فعندما يحكم أحد الأئمة ببدعة قول أو فعل فليس من الضروري أن يكون كلامه حقاً وصواباً فهناك عدد من الأئمة والرؤى والأقوال تتعدد في الأمر الواحد، أذكر أن بعض الأئمة والعلماء رحمهم الله في مواضع كثيرة من الفتاوى وغيرها يحكمون على أمر ببدعيته فيقولون لم يرد ذلك في السنة ولا ورد عن الصحابة وقد ورد في السنة وورد عن الصحابة في أكثر من دليل ومرة يقول أحدهم اتفق أهل العلم ولم يتفقوا، ومرة ينفي صحة شيء ويقرّه في مكان آخر ويقول به، ويحكم بالتحريم في شيء يحكم بحلّه في موضع آخر، وغيره مما يحدث من العلماء ممن يفوتهم دليل أو تخفى عليهم سنة، وهذا يدعونا إلى الحذر من الاندفاع في تبديع الخلق أو نفي الحق عنهم بأقوال لم تمرّ على التحقيق والتمحيص أو رجع عنها أصحابها.
وقد يذكّرنا ذلك بقصة الإمام البخاري حين قال: «لفظي بالقرآن مخلوق"فطرد وأوذي وقد كان الحق معه والناس يرونه على بدعة مغلّظة إن القدح في عقائد الناس وقذفهم بالبدعية أشد عند الله من رميهم بالزنى والفواحش كلها، لأن البدعة عند الله أغلظ من كبائر الذنوب.
سوف أضع ضوابط لما ليس ببدعة لنخرج بتعريف عام لكل ما هو بدعة
1- ما ورد فيه نص صحيح أو ضعيف
ولا غرابة أن يتعجب القارئ من هذا الضابط ويتساءل: وهل السنة إلا ما ورد فيه نص؟ وهذا صحيح ولكن حين نتأمل في المهووسين بتبديع الناس وننظر في أقوالهم نجد أنهم لا يخشون من إطلاق البدعة على من يملكون مرجعية ونصوصاً فيما ذهبوا إليه، والأدلة على ذلك كثيرة وعندي مجموعة فتاوى من هنا وهناك تحكم ببدعة عدد من الأفعال بعضها في الصحيحين وبعضها في غير الصحيحين بأسانيد صحيحة وبعد أن تأملت في الأمر وجدت أن الدافع إلى ذلك في غالبه الهوى وإن تذرعوا بكل ذريعة ووجدتهم يكيلون السنة بموازين كثيرة ومن يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة يجب ألا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، من الأمثلة على ذلك ما هو في الصحيحين وغيرهما(3/3)
أما الحديث الضعيف فهو برغم ضعفه لا يجوز تبديع من عمل به لعدة أسباب:
أ - احتمال ثبوته بوجه من الوجوه.
ب- أن العمل بالضعيف مستحب عند بعض الأئمة احتياطاً حتى لو اشتدّ ضعفه.
ج- إثبات الأئمة هذه الأحاديث بأسانيدهم فما من كتاب إلا فيه ضعيف عدا الصحيحين والموطأ على خلاف في الموطأ.
د - دخول الضعيف في مسائل الاجتهاد وليس في المحدثات.
2- ما جاز فيه وجه من وجوه الاجتهاد إما بالفهم لما نص عليه أو بالاستنباط
فكل دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو ما لم يرد فيه دليل جاز الاجتهاد فيه إلا ما ورد التحريم من الخوض فيه أو التعرض إليه، ولك أن تعجب ممن يرى اجتهاده حقاً واجتهاد غيره جهلاً وضلالاً.
3- ما ثبت عن أحد الصحابة أو بعضهم فعله أو قوله
لأن الصحابة كلهم ثقات عدول لا يجوز إطلاق البدعة على أفعالهم لاقترابهم من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، ولهم من الفهم ما لا تدركه مفاهيمنا، وثبت عندهم ما لم يصلنا، نعم قد يخالفه صحابة آخرون ولكن ما دام الصحابي متمسكاً برأيه ولم يرجع عنه فليس لأحد أن يعتبر فعله خارجاً عن السنة ما لم يرد فيه دليل على تخطئة صاحب هذا الفعل كحديث الفئة الباغية وحديث إسرائيل قد يكون فعل الصحابي مرجوحاً ولكن وسمه بالبدعة أو من يفعل فعله جريمة وشناعة، اشتهر بها الرافضة والخوارج.
4- أن يكون العمل منتسباً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو متفرعاً عنهما أو نابعاً منهما أو منطلقاً من مقاصدهما(3/4)
من هذا المنطق رأينا الصحابة في عهد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ينطلقون دون حرج في ذلك وهو يقرّهم على ذلك كالصحابي الذي حمد الله بعد الرفع من الركوع بثناء جاء به من عنده منطلقاً من أصل الحمد في هذا الموضع من الصلاة فامتدح الرسول فعله وأخبره بأن الملائكة نزلت لترفعها، وكما فعل بلال - رضي الله عنه -يوم كان يصلي لكل وضوء ركعتين فسمع الرسول خشخشة نعليه في الجنة وأمثلة لا تحصى في هذا الباب، يكفينا فعل أبي بكر - رضي الله عنه - في جمع القرآن، وفعل عمر - رضي الله عنه - في صلاة التراويح.
5- ألا يكون العمل مضافاً إلى عبادة توقيفية خاصة
كالذي يزيد شوطاً في الطواف تعبداً أو يرمي الجمار أكثر من سبع تعبداً أو يترك السحور تعبداً أو يأتي في الصلاة بأفعال وأقوال زيادة على ما ورد وما هو توقيفي.
بعد هذا كله نستطيع أن نقول:
«البدعة: هي كل عمل قلبي أو بدني أحدث على سبيل التعبد أو أضيف إلى عبادة توقيفية لا ينتسب إلى أصل من الكتاب والسنة الصحيحة أو الضعيفة أو عمل الصحابة ولم يكن له وجه جائز من وجوه الاجتهاد».(3/5)
ويجب أن ننبه على كلمة عبادة لأن ما لا يدخل في العبادة لا يدخل في البدعة وهذه إشكالية عند المهووسين بالتبديع يضعون العادات في مصاف العبادات ثم يدخلونها في أبواب البدعة، ويحكمون على الخلق بالبدعة والضلال.إن الصحوة الإسلامية في هذا العصر بحاجة ضرورية إلى تضييق معنى البدعة والاقتصار على الكتاب والسنة ومفهوم الصحابة - رضي الله عنهم - وليس التبديع بأقوال كل من هبّ ودبّ، لأن كثيراً من معالم البدعة التي نسمع عنها ونجدها ما هي إلا قضايا اجتهادية جاءت من رؤى وآراء مختلفة تستحق المراجعة والتمحيص؛ لأن العلماء الذين جاءوا بها لم يجمعوا على كثير منها، ولأن كلاً منهم ينطلق من قواعد تختلف عن الآخر، وكل عالم له تصور عن البدعة فهذا مضيق في منهج البدعة وذاك موسع وهذا متسرع متشدّد وذاك متأن معتدل وغيره بطيء متساهل. من أجل ذلك فليس كل من حكم على اعتقاد أو عمل بالبدعة نجعله حجة على الخلق، ولا يصح أن نجعل عالماً من العلماء أو إماماً من الأئمة ميزاناً لباقي الأمة كلها. ومن أخطاء الصحوة أن كل قطاع منها يتخذ إماماً من الأئمة ليقيس الأمة كلها عليه ومن خرج عنه فهو على خطر عظيم، فالإمام الغزالي له أتباع، والإمام ابن رشد له أتباع، والإمام ابن حزم له أتباع، والإمام الجيلاني له أتباع، والإمام ابن تيمية له أتباع، والإمام ابن حجر له أتباع، وغير هؤلاء لهم أتباع - رضي الله عنهم جميعاً -. الحل الوحيد هو أن يقاس كل هؤلاء على الكتاب والسنة فإن اختلفت أفهامنا للكتاب والسنة فلنرجع إلى السواد الأعظم وما أجمعت عليه الأمة في القرون الثلاثة فإن تعذّر الإجماع والسواد الأعظم، فليس لإمام فضل على إمام ويدخل الجميع في باب الاجتهاد المغفور والمأجور.
ـــــــــــــــ(3/6)
الضوابط الشرعية للتعبير عن الرأي
هاني بن جبير
الحمد لله وحده وبعد فـ (لقد كفل الإسلام حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ, وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق, وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا, فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها, وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق - جل وعلا - , فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها و إلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء, ويخل بالنظام العام وحسن الآداب).
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصل إليه منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها كوسائل الإعلام الحديثة.
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعى جماهير من الناس كل واحد منهم يعتصر الهم فؤاده ويحتقن الغضب في صدره وهو يرى ما لا يحب مما لا يقدر على منعه ولا خيرة إليه في رفضه فيتبع وسائل للتعبير عمَّا في نفسه يستشعر فيها أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة.
ولكن الباحث الشرعي همه تنزيل الأحكام على الوقائع ورائده في ذلك تطلب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه.
وفي هذه الأوراق القليلة نطرات عاجلة تبيّن ضوابط في هذا الموضوع لتكون مقدمة لدراسات أكثر جداً وتوسعاً.
أولاً: قواعد ومقدمات:
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها وسأتناول هنا مقدمات أصولاً أربعة:
الأولى: الأصل في النصيحة:(3/7)
- الأصل في مناصحة الولاة والإنكار عليهم أن تكون بالسِّر لا بالجهر. وهو الأصل في النصيحة عموماً.
عن عياض بن غُنْم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية, وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك و إلا كان أدَّى الذي عليه).
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه).
ومراده أنّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك.
قال الشوكاني - - رحمه الله -:(ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد).
هذا هو الأصل وقد يسوغ غيره في ظروف معينة كما حصل لأبي سعيد الخدري عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان, فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة, فقال: قد تُرك ما هنالك, فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان).
وفي بعض روايات الحديث أن أبا سعيد قال: خرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى, فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن, فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجرُّه نحو الصّلاة فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاثاً ثم انصرف.(3/8)
قال النووي - رحمه الله -: (فيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه وهذا كله إذا أمكن ذلك فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق).
- والأصل في نصح عامة المسلمين أن ينصح المخطئ والمقصّر سراً وعلى ذلك كان السلف قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير).
ومع ذلك فإنه إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى التشهير بمنكر وفاعله فإن ذلك سائغ إذا كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة كما فعل ذلك رسول الله? لما بعث عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل. فقال رسول الله?: (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله). قال ابن حجر: (في الحديث العتب على من منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك).
الثانية:وسائل إبداء الرأي اجتهاديَّة:
لقد كلف الله - تعالى - هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (آل عمران:104) وجعل ذلك سبب خيريتها (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).
وجعل النصيحة من الدين عن تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (الدين النصيحة) قلنا لمن. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم). كما أنه كفل لأتباعه التعبير عن آرائهم - فيما يسوغ ذلك - .
ولا يتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ليصل من خلالها لما يريد ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف مادامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه.(3/9)
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدى - رحمه الله -: (لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه وإشاعته والإخبار به.. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود.. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر.. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها أسرعوا إليها وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم فإن الشرع يقره ويقبله, ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً, بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة.. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك - إذا فهمته - أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي لا تزال تقع ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع, فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس... و الترجمة التي يحصل بها العلم لم يزل العمل بها على أي طريقة و صفة كانت, ويدل على هذا أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - -قد أَمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة... و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين, ومن أعظم ما يدل في ذلك أنَّه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر, فإنّه يتعيّن على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق, و أحسن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات وتوقّى المحرمات).
والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة قال الشاطبي - يرحمه الله -: (و التبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ معلومة؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى, فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين و الكتابة وغيرها).
الثالثة:مجالات إبداء الرأي.(3/10)
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة سواء كان متعلقاً بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل بمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: من الآية36).
وهذا أظهر من أن يستدل له؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره.
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي.
وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر الله به وسكت عن طريقة تنفيذه, أو ما لم يرد به نص محكم.
ولذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم أن (لا اجتهاد في مواد النص) وأن ما عارض النص ففاسد الاعتبار.
الرابعة: صاحب الرأي.
ذمَّ الله - تعالى - من يقول بلا علم. فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو منسحب إلى كل علم. فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير إتقان له.
فلابُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه. وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد.
والله - تعالى - أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: من الآية43). وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به.(3/11)
ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما يُسْتشارون فيه. قال ابن خويز منداد: (واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون, وفيما أشكل عليهم من أمور الدين. ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب. ووجوه الناس فيما يتعَلَّق بالمصالح, ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها).
فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به.
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه ولذا ذكر الفقهاء أنه يشرع الحجر على المتطبب الجاهل, فكذلك غير الطب يمنع من لم يكن مؤهلاً من إبداء رأيه إذ لا يوثق برأيه.
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف لكن ليس له أن يصف العلاج المركب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً.
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم بالشرع فقط وهكذا.
وكذلك أمور السياسة فإن العلم الشرعي يكفي للحكم على تصرفات المكلفين فيما يتعلّق بالسياسة لكنه لا يكفي وحده لتناول القضايا السياسية إلا على أساس خبرته بها.
قال ابن خلدون - رحمه الله -: (العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسببُ في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل.. ويطبقون بعد ذلك الكلي على الخارجيات.. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها.. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنيّة والأنظار الفكريَّة لا يعرفون سواها.. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها..).
ثانياً: ضوابط وسائل التعبير عن الرأي:
تقدّم أن هذه الوسائل اجتهاديّة - ليست توقيفيَّة - فللمسلم أن يسلك ما شاء من وسائل التعبير عن الرأي.(3/12)
إلا أن سلوك هذه الوسائل وممارسة هذا الحق مقيد بضوابط تمنعها عن معارضة مقاصد الشريعة الإسلاميَّة وأهم هذه الضوابط:
1 - ألا تخالف الشرع في نفسها فإذا كانت الوسيلة مخالفة للأدلة الشرعية أو القواعد الكليّة فإنها تكون ممنوعة. كمن يستعمل المحرمات بقصد أن يتوب الناس مثلاً. وهذا الضابط هو الذي يميّز أهل السُّنة عن غيرهم وهذا هو الذي يكفل البقاء على الجادة مؤذناً بطاعة الله ورسوله. وليس نبل المقصد وحسن الهدف مسوغاً لمعصية الله ورسوله ومخالفة قواعد الشريعة فإن ما خالفها ضرر وفساد ولا يترتب عليه مصلحة (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب: من الآية36). وتأمل أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كره استعمال الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة - قبل الأمر بالأذان - لما فيه من مشابهة النصارى مع كون الهدف هو الدعوة إلى العبادة والاجتماع لها. ففي السنن أنه لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها فقالوا لو اتخذنا ناقوساً فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ذاك للنصارى فقالوا لو اتخذنا نابوقاً قال ذاك لليهود ثم أمر بالنداء للصلاة.(3/13)
2 - أن يكون المقصود من الوسيلة مشروعاً؛ فإن كان الغاية منها الوصول لما هو ممنوع في الشرع فإنه لا يجوز التوسل لها بأيَّة وسيلة. فمتى كان المراد من الوسيلة المعيّنة الدعوة إلى باطل, أو نشر فكر منحرف أو الوصول إلى غرض فاسد كانت الوسيلة محرمة. قال ابن القيم - رحمه الله -: (إذا حرّم الرب - تعالى - شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنّه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له). عن جرير بن عبد الله أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: (من سن في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً). وعن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ من دمها لأنّه أول من سَنَّ القتل). فمن دعا لباطل أثم بذلك وكان عليه وزر من عمل به. وكذا كل وسيلة موصلة للباطل فإنه لا يسوغ سلوكها.
3 - ألا يباشرها معتقداً أن نفس مباشرتها قربة يتقرب بها إلى الله - إلا إذا كانت عبادة نص عليها الشارع.أما لو فعل الفعل المباح المؤدي للمصلحة مثلاً وهو يعتقد أنه قربة وطاعة فهو مخطئ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (.. حقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويتوب العاصين.. ولو سُئِل العالم عمّن يعدو بين جبلين هل يباح له ذلك قال: نعم فإذا قيل له إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة قال إن فعله على هذا الوجه حرام ومنكر... فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنّه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع. وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب). وذلك أن العبادات توقيفيّة لا يشرع منها إلا ما دل عليه النص.(3/14)
4 - ألا يترتب على الأخذ بها مفسدة أكبر من المصلحة المقصودة منها إذ درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. وقد نهى الله - تعالى - رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - و المؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين قال - تعالى -: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم). (الأنعام: 108).قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: قالوا يا محمد لتنتهين عن سَبِّك آلهتنا أو لنهجون ربك, فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم. ومن ذلك أن يحصل من سلوك الوسيلة زيادة فساد أو إتلاف لنفس معصومة أو مال محترم أو كان مسبباً لفرقة واختلاف, أو سبباً لتعصب أو نحو ذلك. قال ابن القيّم - رحمه الله -: (إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله, وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم, فإنّه أساس كل فتنة وشر إلى آخر الدهر.. ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها, بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر. ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد, لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء).(3/15)
وكذا ألا يترتب عليها فوات مصلحة أعظم ولو مع حُصُوْلِ مصلحةٍ أَقَلّ إذ لا شك أن الشرع يطلب تحصيل المصالح الأعظم ومن قواعد الشرع (تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أقلهما).
* * *
وبعدُ!! فإن جميع ما سبق موازنة فقهيةٌ وتأملات شرعيَّة بتفصيل ارتضاه كاتبه, أمَّا الفتوى التي تبرأ بها الذمم وتناط بها الأحكام فهي لمن تولاها موكولة ولمن أنيطت به متروكة.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ـــــــــــــــ(3/16)
ميزان التطور والثبات في أفكار الإسلاميين
د. أحمد عبد الرحمن
التطور .. التقدم .. التغيير .. شعار النخبة الثقافية .. بل دينها وديدنها ! , ومعه وفيه شعارات الحداثة والمعاصرة .. وضده كل قبيح منبوذ كريه : الثبات والإطلاق والخلود .. وإن شئت أن تسعد نفسًا , أو تطرب قلبًا , أو تستميل عقلاً فصف صاحبه بالتطور أو انْعته بالتقدم , أما إن أردت أن تهين كاتبًا أو تنفر من مذهب فَاعْمد إلى الثبات فأَلْصِقْه به ! , ولقد بلغ الهوس بأحدهم حد القول إن الله هو التقدم ! وهكذا الشأن في الدول أيضًا فدول العالم تُصنَّف على أساس التطور : أَرْفَعُهنَّ المتطورة ووسطاهن التي تسير في طريق التطور وأحطُّهن غير المتطورة .
وتأمل عنوانات المؤسسات وأسماء الأحزاب والصحف تجدها تتبارى في التسمي بالمتطورة والتقدمية والحديثة والمعاصرة والجديدة .. وهذا كله تقليد بحت غير نقدي للتوجهات التطورية الأوربية .. وقد نشرت مئات الكتب وآلاف المقالات وانعقدت عشرات المؤتمرات للحديث عن التطور والحداثة والتجديد .. وانقسم العالم الإسلامي كله إلى أنصار للتطور وأنصار للإسلام الذي أَلْصقوا به وَصْمَةَ الجمود والتحجر لأنه يتبنى ثوابت مطلقة خالدة !
ولقد مددوا نطاق التطور لكي يشمل كل شيء من الحياة الحيوانية (كما هو أصل نظرية دارون) إلى الحياة الإنسانية , والمجتمع البشرى وتركيبه , والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والطبقات , والنظم السياسية والاقتصادية والتربوية , والمبادئ التشريعية والقيم الأخلاقية والأدوات والوسائل التقنية , والعلوم المادية والإنسانية .
وقد ظن الأستاذ فريد وجدي أن مذهب التطور الشامل هذا لا علاقة له بالدين وهذا خطأ ويكفى أن نذكر أن نظرية التطور تناقض ما جاء في الإسلام عن خلق الإنسان , والثقافة الإسلامية تُعتبر عندهم ثقافة منحطة على سلم التطور ! فإما التطور وإما الفناء ولا خيار أمام المسلمين سوى هذا !(3/17)
مقولة رددها تطوريون عديدون في الشرق والغرْب , من ذلك مثلاً قول هاملتون جيب المستشرق الإنجليزي الكبير "إن الإسلام ليس له أي مستقبل ؛ لأنه لم يظهر أية قدرة على التكيف مع الأفكار الجديدة" .
و"الأفكار الجديدة" هي الفلسفات الأوربية الحديثة , العلمانية , المادية , فإذا تكيف معها الإسلام كان على المسلمين أن يستبدلوا المرجعية العلمانية ـ وهى الخبرة البشرية ـ بالمرجعية الإسلامية وهى القرآن والسُّنة , وبهذا يُنبذ الإسلام شيئًا فشيئًا حتى يتم هجره , ثم فناؤه , ويصبح تاريخا أو تراثًا لا صلة له بالحياة .. فالإسلام ليس له مستقبل سواء تكيف مع الأفكار الجديدة أو لم يتكيف ! لكن "جيب" وأمثاله يُوحون للمسلمين بأن الإسلام يمكن أن يعيش إذا هو ساير الفكر الأوروبي !
ومن المؤسف أن أعدادًا من أبناء المسلمين صدقوا مقولة "جيب" وروَّجوا لها تحت اسم الحداثة والتطور والتغيير والتقدم والتحرر من التقاليد , غير أن مرور أكثر من نصف قرن على مزاعم الفناء لم تظهر فيه الأعراض الدالة على الفناء على الأمة المسلمة ؛ وإنما حدث العكس فنهضت الأمة المسلمة واستردت استقلالها , وشرعت تتقارب شعوبها وتشكل المنظمات الإسلامية الوحدوية .. وازدهر التديُّن وأقبل المسلمون على دينهم إقبالاً عظيمًا , وفى الوقت نفسه ظهرت أمارات الضعف على "الأفكار الجديدة" أعنى الثقافة الغربية , باعتراف الأوروبيين أنفسهم ولم يعد "الغرب" مثالاً يحتذى .
لكن كتابًا عديدين عندنا لا يزالون يروجون لفكرة مسايرة الغرب ؛ ولا يزال الغرب أيضًا يروج للفكرة نفسها , فالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية يجب أن تساير النظم الغربية .. والمسلمون رجالاً ونساءً يجب أن يسايروا الغربيين في كل شيء ؛ بما في ذلك أنواع الطعام والشراب , ناهيك عن العادات والتقاليد والأزياء واللغة والتقويم والفنون والآداب .. وكل شيء .(3/18)
و"التطور" هو أصلح لفظ نضع تحته مجموعة المشكلات التي تضم : التغير والثبات , والنسبية والإطلاق , والإبدال والإحلال , والجمود والمرونة , والصلاحية لكل زمان ومكان.. وكل القضايا التي من هذا القبيل .
والثابت والمتغير في شريعة الإسلام لهما أصولهما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة : 3] , وقوله تعالى {وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (115)} [الأنعام] فالإسلام هو الدين التام الكامل الذي ارتضاه الله لعباده ؛ والتام الكامل لا يُغَيَّر أو يُبدَّل , لأن أي تغيير فيه انتقاص من كماله .. فهو ثابت خالد مطلق , وهذا ما سنراه بوضوح في هذا الفصل الذي يعرض نماذج لما قاله الإسلاميون في القديم والحديث عن الثابت والمتغير في شريعة الإسلام .
والسُّنة النبوية ذكرت "العفو" أو "ما لا نص فيه" من الأفعال ؛ وهو مجال واسع للتغيير والتطوير والتحديث في العلوم المادية والتقنية والصناعية والإدارية .
وقد واجه علماء الإسلام الأوائل التحدي الفلسفي الذي تمثل في فكر السوفسطائية من اليونانيين القدماء ودحضوا آراءهم السلبية المنكِرة للوجود والمعرفة والثوابت , وتكررت المواجهة في العصور الحديثة خصوصًا بعد ذيوع الفلسفة التطورية عند "دارون" .. وهنا نعرض نماذج لآراء الإسلاميين القدامى والمحدثين الذين عارضوها .
الثابت والمتحول عند الإمام الشاطبي يرحمه الله :(3/19)
يقول الإمام الشاطبي موضحًا الموقف الإسلامي "العوائد المستمرة ضربان : أحدهما ـ العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها, ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا , أو أذن فيها فعلاً وتركًا , والضرب الثاني هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.. فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية , كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات .. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة , فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها ؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا , ولا القبيح حسنًا , حتى يقال مثلاً : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ! أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه ! .. أو غير ذلك ؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نَسخا للأحكام المستقرة المستمرة , والنسخ بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) باطل"(1)
والشرائع والقيم الخلقية من قبيل الضرب الأول : فكل قيمة خلقية إسلامية قد أقرها دليل شرعي , ومن القيم الخلقية ما أمر به الشرع إيجابًا كبر الوالدين , والرحمة بالمرضى والضعاف , والصدق في الشهادة , والثبات يوم الزحف ,, ومنها ما أمر به الشرع ندبًا كالعفو , وبر الجار , والوفاء للصديق , وإصلاح ذات البين .
فكل القيم الخلقية داخلة تحت أحكام الشرع ومن ثم فهي ثابتة أبدًا ولا تبديل لها وإن اختلفت الأزمان والأماكن والآراء .. ودعاوى تطويرها أو تبديلها أو هجرها كلها دعاوى باطلة .(3/20)
ويحدد الشاطبي مجال التغيير والتبديل والتطوير في الضرب الثاني الذي يضم "العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي" .. مثال ذلك "كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع" (2) , فهو يقدح في عدالة الشاهد في بلد أو إقليم , ولا يقدح فيها في بلد أو إقليم آخر , وكذلك الحكم على بلوغ الصبيان , وما يترتب عليه من مسؤوليات ؛ "فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ , فإذا بلغ وقع عليه التكليف , فسقوط التكليف قبل البلوغ , ثم ثبوته بعده ليس اختلافًا في الخطاب , وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد" . (3)
هذه هي الصورة المشرقة , الموجزة , المحددة , الواضحة للموقف الإسلامي الصحيح من قضية النسبية الأخلاقية والتشريعية .. ولكن أقلامًا عديدة تنكبت الطريق إليها وحاولت عبثًا إعادة اختراع البارود كما يقال , وكانت النتيجة المحتومة: السطحية والهلامية والضياع والتشتت للكاتب والقارئ على السواء .
واستغلت العلمانية الفرصة وراحت تصخب على الحقيقة في محاولات لا تنقطع لطمسها , ولتصوير الإسلام على أنه كتلة من الصلصال يمكن تشكيلها حسب الهوى والغرض .
ابن القيم والمصالح المرسلة ..
ويكشف ابن القيم عن دور المصالح المرسلة كمصدر للتشريع من شأنه أن يبقى مظلة الشريعة شاملة سابغة لا يخرج عن حكمها شيء , بعكس أنصار النسبية و التطور الذين سوغت لهم أوهامهم إمكان اطراحها استنادًا إلى المصالح المرسلة .(3/21)
وابن القيم يرفض هذا الموقف كما يرفض موقف أولئك الذين جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد .. وإليك هذا النص الفريد من "إعلام الموقعين" يقول "هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة , فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرّءوا أهل الفجور على الفساد , وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد , وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يُعرف بها المحق من المبطل , وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق , ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع .. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها , فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلاّ بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم , فتولد من تقصير أولئك (العلماء) في الشريعة , وإحداث هؤلاء (الولاة) ما أحدثوه من أوضاع سياسية شر طويل وفساد عريض , وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله .. وكلا الطائفتين (من العلماء والولاة) أتيت من قِبل تقصيرها في معرفة ما بَعَثَ الله به رسوله ؛ فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض" . (4)
فطائفة من علماء الدين لم تعرف كيف تستفيد من المصالح المرسلة , ووقفت عند النصوص ولم تجتهد لتمديد مظلة الشريعة على كل جديد من شئون الحياة في المجالات التي لا نص فيها , والمجالات التي تحكمها نصوص ظنية الدلالة .
وطائفة أخرى من الولاة ـ يشبهون دعاة التطور اليوم ـ أخذت بالمصالح المرسلة وتمادت في ذلك حتى خرجت على النصوص , أو انتهكت النصوص استنادًا إلى المصالح المرسلة !(3/22)
لكن الموقف الإسلامي الشرعى الصحيح يعتبر المصالح المرسلة في التقنين والتنظيم فقط حيث لا نص , أو حيث يوجد نص ظني الدلالة أي يحتمل التفسير على أكثر من نحو ؛ وعلى شرط تجنب مخالفة النصوص الدينية ومقاصد الشرع , والهدف من وراء ذلك إحكام الصبغة الشرعية الإسلامية على حياة الجماعة المسلمة , بما يحقق لها مصالحها في الدنيا والآخرة , ويحفظ عليها شخصيتها الإسلامية المتميزة .. وهذا هو ما اتفق عليه فقهاء المسلمين .
يقول المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة "يتفق جمهور الفقهاء على أن المصلحة معتبرة في الفقه الإسلامي , وأن كل مصلحة يجب الأخذ بها ما دامت ليست شهوة ولا هوى , ولا معارضة فيها للنصوص تكون مناهضة لمقاصد الشارع" . (5)
والإمام مالك رحمه الله ـ وهو الذي حمل لواء الأخذ بالمصالح ـ اشترط لصحتها "الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائمًا بذاته وبين مقاصد الشارع فلا تُنافى أصلاً من أصوله , ولا تُعارض دليلاً من أدلته القطعية" . (6)
وحجة الشافعية والحنفية في رفض الأخذ بالمصالح استندت إلى "أن الأخذ بها ـ من غير اعتماد على نص ـ قد يؤدى إلى الانطلاق من أحكام الشريعة , وإيقاع الظلم بالناس باسم المصلحة , كما فعل بعض الحكام الظالمين" (7) , وكما فعلت الإجراءات الاشتراكية والشيوعية الحديثة حين صادرت الأموال والممتلكات .. إلخ , وهذا هو ما يريد دعاة التطور المطلق إحداثه اليوم؛ فأنصار التطور المطلق يتكلمون عن المصلحة ويعيدون القول دون أي تحرز ديني , أو تدقيق علمي , وهدفهم الأول والأخير هو الانفلات من أحكام الشريعة , والانتهاء إلى القضاء على خلودها , وإدخال النسبية عليها , وإقرار مبدأ التطور المطلق الشامل "السائب" تقليدًا للمدنية الأوربية الحديثة ؛ وتطبيقًا لنظرية "مسايرة" الغرب !(3/23)
وأعود مرة أخرى فأذكر القارئ بأن القيم الخلقية مثل سائر القواعد الشرعية كلها مستندة إلى نصوص من القرآن والسُّنة فهي من المنصوص عَليْه شرعًا , ولا يجوز مطلقًا أن تُلغى أو تُبدل أو تُهجر أو تُطور بناءً على مصلحة مرسلة ؛ لأن هذا كله خروج على النصوص القطعية .
وكذلك الإيثار وإخلاص النية لله تعالى وغيرهما من المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية كلها مستندة إلى نصوص القرآن والسُّنة ولا مجال فيها لتحكيم المصالح المرسلة .
الإسلاميون المعاصرون :
وقد تصدى الفكر الإسلامي المعاصر لدعاوى التطور في مجال القيم الخلقية , والمبادئ التشريعية , كما تصدى للدارونية الشرقية التي اُتخذت سندًا لهدم الدين من أساسه الاعتقادى ذاته .
وكانت العناية بمناقشة "دارون" في مجال علم الحياة (البيولوجيا) هي التي استحوذت على كتابات "جمال الدين الأفغاني" , والشيخ "محمد رضا آل" العلامة وغيرهما .
أما التطور في مجال التشريع والقيم الخلقية والمبادئ التشريعية فلم ينل إلاّ القليل من اهتمام الباحثين , فجاءت آراؤهم على شكل تعميمات أو نظريات , ولم تتطرق بحوثهم إلى الجزئيات ؛ وكذلك يُلاحظ أن الكتاب الإسلاميين المعاصرين لم يفيدوا كما ينبغي من علم أصول الفقه , وهو الذي تناول هذه القضية بمنهج صارم دقيق , وعرض موقف الإسلام منها بأسلوب منطقي رصين .. ومن هنا وجدنا كثيرًا من الكتابات الحديثة والمعاصرة قاصرًا عن أن يُقَارَن بما في تراثنا الأصولي الشامخ , وقد كان عليها أن تستوعبه , ثم تحاول أن تضيف إليه .
إن الكتابات الإسلامية المعاصرة التي عَرَضَت لقضية تطور الشرائع والقيم الخلقية لم تتناولها إلاّ عرضًا : فصل هنا , وفصل هناك , أو فقرة هنا, وفقرة هناك , دون تكرس أو تفصيل , على الرغم من أن إسقاط هذه الدعوى الخطرة يعني إسقاط كل المذاهب المناهضة للإسلام .
الشيخ محمد عبده :(3/24)
ونبدأ عرض موقف الفكر الإسلامي المعاصر بآراء الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا , عليهما رحمة الله .
ونلحظ بادئ ذي بدء أن الشيخ محمد عبده كان يرى أن إصلاح أحوال الأمة "يتم إذا سلك قادتها سبيل التربية والتثقيف , لا سبيل تقليد الغرب من غير فهم ولا إدراك عميق , أو التمسك بظواهر المدنية المادية مع الغفلة عن صميم المدنية الروحية" . (8)
فهو يدرك فساد الاتجاه الأعمى إلى تقليد الغرب .
بل إنه يبدو متشددًا في موقفه من تقليد المدنية الغربية حين نراه لا يجيز لبس البرنيطة إلاّ على شروط فيقول في فتواه ردًا على استفسار من أهالي "الترنسفال" : أما لبس البرنيطة .. إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره , فلا يُعد مكفرًا , وإذا كان اللبس لحاجة من حجب الشمس , أو دفع مضرة , أو دفع مكروه , أو تيسير مصلحة , لم يكره كذلك".(9)
فهو يقف في مجابهة التطور بالمعنى العلماني الحديث ـ أي تقليد المدنية الغربية ـ وذلك لإدراكه بأن الزي سمة من السمات الثقافية , يجب الحفاظ عليها , وإن كانت من الأمور "الخارجية".
لقد دعا الشيخ محمد عبده إلى :
ـ "تحرير الفكر من قيد التقليد" .
ـ "وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف" .
ـ "والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى" .
ـ "واعتباره من ضمن موازين العقل البشرى التي وضعها الله لتردَّ من شططه , وتقلل من خلطه وخبطه ,, لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني .. وإنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم باعثًا على البحث في أسرار الكون , داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة ..". (10)(3/25)
ومن الواضح أن هذا الذي دعا إليه "الشيخ" لا سند فيه لأنصار التطور ؛ بل فيه السند لتوكيد ثوابت الإسلام , في ينابيعه الأولى : أي الكتاب والسُّنة ؛ وواضح من كلامه أن اليد العليا للكتاب والسُّنة عند ظهور خلاف بينهما وبين الخبرة البشرية , سواء كانت معقولات أو علومًا بشرية .. وهو يرى تحرير الإسلام والفكر الإسلامي من آراء القدماء , وتحريره من التقيد بالاجتهادات الموروثة والتقليدية .
وإذا كان تلاميذه من أنصار نظرية التطور قد خالفوا مبادئه , فذلك شأنهم , وهو ليس مسئولاً عن أخطائهم .. لقد أرادوا الاستتار وراء اسمه ؛ وعلينا أن نزيح ذلك الستار جانبًا , ونبرِّئ الشيخ من ذنوب التطوريين الذين راحوا يتمسحون في عباءته ! (11)
وأما احترامه للنصوص الدينية , وتوكيده ضرورة الوقوف عند حدودها وعدم الخروج عليها لأى سبب كان , فأمر واضح أشد الوضوح : "فأمر الله في كتابه , وسنة رسوله الثابتة القطعية التي جرى عليها - صلى الله عليه وسلم - بالعمل , هما الأصل الذي لا يُرد .. وما لا يوجد فيه نص عنهما يَنظر فيه أولوا الأمر , إذا كان من المصالح". (12)
ومعنى كلامه أن السُّنة الصحيحة لا تنسخ بإجماع , ولا مصلحة مرسلة , لأننا نعلم جميعًا أن فتح هذا الباب الخطير لابد أن ينتهي إلى تقويض التشريع والأخلاق جميعًا .
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى نبذ التقليد , فإنه لم يقصد بذلك الخروج على شرع الله باسم التطور أو التقدم أو المصلحة , أو غير ذلك من دعاوى الحريات العقلية أو العلمية .
لقد أطلق الإسلام العقل من قيوده "وخلصه من كل تقليد كان استعبده , ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته , مع الخضوع مع ذلك لله وحده , والوقوف عند شريعته , ولا حد للعمل (العقلي) في منطقة حدودها (أي داخل إطار الشريعة) , ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها" . (13)
فليعمل العقل , وليفكر الإنسان , ولينظر الناظرون , ولكن ضمن حدود الشريعة , وتحت بنودها .(3/26)
وإذا توهم الواهمون أن الامتثال لأوامر الله يضيّع مصلحة أو يسبب ضررًا فإن ذلك لا يجيز لأحد ردّها "لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة" . (14)
ورفض محمد عبده نسخ السُّنة بالقياس "فعلينا أن لا نحفل بكل ما قيل (عن إمكان نسخ السُّنة بالقياس في رأى بعض الشافعية) , وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شيء , ثم بسنّة رسوله التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون" . (15)
وكذلك رفض "التأويل السقيم والتحريف البعيد" كوسيلة ملتوية للخروج على النصوص من أجل إقرار مذاهب باطلة أو تشريعات وقيم خاطئة "كما هي عادة المقلدين في جعل مذاهبهم أصلاً والقرآن العزيز فرعًا يُحمل عليها ولو بالتأويل السقيم والتحريف البعيد" . (16)
فالتأويل عنده يجب أن لا يراعي "إلاّ الدليل القطعي , أو الأحاديث الصحيحة , لا الظنون الشخصية والميول الحزبية" . (17)
وبعد أن أنشأت الحكومة المصرية ما يسمى بصندوق توفير البريد , ووجدت أن الأهالي يتأثمون من أرباحه باعتبارها فوائد ربوية , سألت محمد عبده "هل توجد طريقة شرعية لجعل هذا الربح حلالاً حتى لا يتأثم الفقراء من المسلمين من الانتفاع به؟" فأجابها مشافهة "بإمكان ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق" . (18)
وهذا هو الموقف الإسلامي الصحيح .
وأما مسألة تعدد الزوجات فقد أفتى فيها بما يلي :
"نعم .. ليس من العدل أن يُمنع رجل لم تأت منه زوجته بأولاد أن يتزوج أخرى ليأتي منها بذرية , فإن الغرض من الزواج التناسل .. فإذا كانت الزوجة عاقرًا فليس من الحق أن يُمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى ـ وقال ـ وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلاّ لضرورة تثبت لدى القاضي , و لا مانع من ذلك في الدين أَلْبتة , وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط" . (19)(3/27)
ونحن قد نختلف معه في هذا الحجر , ولكننا لا نستطيع أن نتهمه بالدعوة إلى تحكيم المصالح المرسلة في النصوص , كما يريد العلمانيون ؛ فالنصوص يجب أن تعتبر وتحترم "مهما بدت مضرة في ظاهر الأمر , لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة" كما ورد في النص السابق إيراده قبل قليل .
هذا هو موقف محمد عبده على الحقيقة , وكما جاء في أعماله .. أما الصورة التي يرسمها له العلمانيون ففيها تحريف كثير .
فقد أرادوا هم أن يحرِّموا تعدد الزوجات , ليطوروا المجتمع كما يزعمون , وأرادوا أن يدعموا موقفهم بتزوير موقف محمد عبده وإظهاره على نحو يوافق أهواءهم .
إنك إذا قرأت ما كتبوه عن تعدد الزوجات تحس بأن محمد عبده قد دعا إلى تحريمه , أو أنه كان ينادى "بالخروج على جوهر الشريعة" , وأنه تبنى الفكرة القائلة بأننا يجب أن "نتناول تطبيق الشريعة الإسلامية ببعض التعديل الذي يلائم روح العصر" . (20)
فالرجل الذي لم يُجزْ لِبْس "البرنيطة" إلاّ على مضض , ينسبون إليه إطلاقَ القولِ جزافًا بتعديل الشريعة لتلائم روح العصر .. أي المدنية الغربية , وهذا التعديل معناه الخروج على النصوص , أو التعسف السقيم في تأويلها , ولا شيء غير ذلك .
ويزعم العلمانيون أن محمد عبده هو الأب الروحي لعدد من زعماء العلمانية (21) , والحق أنه لم يكن كذلك ؛ وإنما تتلمذ عليه رشيد رضا , ومصطفى صادق الرافعي , ومن بعدهم خلق كثير التزموا كتاب الله وسنَّة رسوله , ولم ينبهروا ببهارج المدنية الغربية فيقبلوا مبدأ التطوير "السائب" سعيًا إلى مسايرتها ؛ وأما المدرسة العلمانية أو التيار العلماني فمصدره دوائر أخرى.. وحتى لو رأوا فيه الأب الروحي لهم , فالذنب ذنبهم .. ولقد وجدوا في ابن القيم , والإمام مالك , والطوفى الحنبلي ؛ بل وعمر بن الخطاب أشياء تأولوها لصالح ضلالاتهم !(3/28)
ولقد كان للمستعمرين , والحكام المستغربين , دور كبير في تغذية التيار العلماني, ودعم فكرة التطور "السائب" فأرسلوا البعثات إلى أوربا ثم مكّنوا لمن عاد منها , وأخذوا يذيعون أسماءهم في الآفاق , ويسبغون عليهم الألقاب , حتى نسيَّ الناس محمد عبده , ورشيد رضا , وراحوا يفيضون في الكتابة والحديث عن رواد العلمانية .
لقد تخلى العلمانيون عن الموضوعية فيما كتبوا عن محمد عبده ومدرسته , وعلى هذا فقدت كتاباتهم كل قيمة علمية ؛ وقراءة كتاباتهم في مثل هذه المسائل مضيعة للوقت ؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يركن إليها .. ومن العجب أنهم تركوا مؤلفات محمد عبده جانبًا , وراحوا ينقلون دون تحفظ ما كتبه عنه المؤلفون الأجانب .. لقد أعجبتهم تفسيرات الأجانب لفكر الشيخ محمد عبده , لأنها تفسيرات علمانية .. والعلمانيون العرب والشرقيون بعامة يغلب عليهم الحماس لا منطق العقل وموضوعيته .. ومؤلفات محمد عبده لا تريحهم ؛ لأنها واضحة في خطها الشرعي الملتزم .. فليذهب محمد عبده ومؤلفاته إلى قبر النسيان , ومرحبًا بمحمد عبده كما يصوره المؤلفون الأوربيون !
الشيخ محمد رشيد رضا يرحمه الله..
لا يقل رشيد رضا عن محمد عبده احترامًا لنصوص الشريعة , إن لم يَفُقْهُ في ذلك .. والتطور الذي أجازه رشيد رضا هو التطور الذي لا يعارض نصوص الشريعة أو روحها ومقاصدها.
يقول عن نفسه ورسالته "وصاحب المنبر قد وقف نفسه على الرد على جميع الملاحدة والبهائية والقاديانية والقبوريين وسائر مبتدعة عصرنا , وهو لم يدّع مذهبًا له يدعو إليه ولم يخالف إجماع الأمة" . (22)
ويقول عن المصالح المرسلة وحدودها :(3/29)
"وكان - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في المصالح العامة , سياسية وحربية ومالية , مما لا نص فيه في كتاب الله تعالى" .. وبيّن في تفسيره لآية الشورى "حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة , لأنها مصلحة تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة , ولو قيدت بنظام لَجعِلَ تعبديًا" . (23)
وهو في موضوع المصالح على مذهب الإمام مالك رحمه الله (24) , وكلنا يعلم شدة تمسك المالكية بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة .
لكن محمودًا الشرقاوى ـ وهو من أنصار التطور ـ يصور رشيد رضا في صورة أخرى مغايرة ويقتبس من كتاباته ما يؤيد مذهبهم , لكنه ـ للأسف ـ لم يحدد موضع الاقتباس لكي نراجع النصوص . (25)
وهذا مسلك عجيب حقًا , فالأصول المتعارف عليها تقتضي تحديد مواضع الاقتباس , وبخاصة حين يكون الرأي ـ موضع النظر ـ له خطورته , وله مخالفوه أيضًا .
ويذكر د. الأعظمى أن رشيد رضا "قسم الأحاديث النبوية قسمين : المتواتر وغير المتواتر , وكان رشيد رضا يرى أن ما نقل إلينا بالتواتر ـ كعدد ركعات الصلاة , والصوم وما شاكل ذلك ـ فهذا يجب قبوله , ويسميه الدين العام ؛ وأما ما نقل إلينا بغير هذه الصفة فهو دين خاص لسنا ملزمين بالأخذ به" , وهو يرجح أن الصحابة "لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًا دائمًا كالقرآن" . (26)
ثم نقل الأعظمي عن مصطفى السباعي أنه ـ أي رشيد رضا ـ رجع فيما يبدو عن موقفه هذا في آخر عمره . (27)(3/30)
وحقيقة ما قاله رشيد رضا هو حسب لفظه ذاته "وأقول .. معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها , ولذلك لم يكن الصحابة رضى الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له , إلاّ قليلاً من بيان السنة , كصحيفة على كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام , كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة .. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه , حتى الموطأ , وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة .. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منهما أن يأخذه عنه , ولكن لا يجعل ذلك تشريعًا عامًا ؛ وأما ذوق العارفين فلا يدخل شيء منه في الدين , ولا يعد حجة شرعية بالإجماع , إلاّ ما كان من استفتاء القلب في الشبهات , والاحتياط في تعارض البينات" . (28)(3/31)
وقال أيضًا "إن الأحكام الاجتهادية التي لم تثبت بالنص القطعي الصريح رواية ودلالة لا تجعل تشريعًا عامًا إلزاميا , بل تفوض إلى اجتهاد الأفراد في العبادات الشخصية والتحريم الديني الخاص بهم , وإلى اجتهاد أولى الأمر من الحكام وأهل الحل والعقد في الأمور السياسية والقضائية والإدارية , ومأخذه آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة : 219] , ووجهه : أن هذه الآية تدل على تحريم الخمر والميسر بضرب من الاجتهاد في الاستدلال , وهو أن ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو محرم يجب اجتنابه , وذلك ما فهمه بعض الصحابة فامتنعوا من الخمر والميسر .. ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يلزم الأمة هذا , بل أقر من تركهما ومن لم يتركهما , على اجتهادهما إلى أن نزل النص القطعي الصريح في تحريمهما والأمر باجتنابهما في سورة المائدة فحينئذ بطل الاجتهاد فيهما , وأهرق كل واحد من الصحابة ما كان عنده من الخمر وصار النبي (صلى الله عليه وسلم) يعاقب من شربها" . (29)
سيد قطب وفكرة النسبية :
رفض الأستاذ سيد قطب الفلسفة النسبية التي يستند إليها التطور المطلق , وقبل مذهبًا مؤداه أن هناك محورًا ثابتًا وحوله متغيرات .
يقول الأستاذ إن "سمة الحركة داخل إطار ثابت وحوله متغيرات هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله ـ فيما يبدو لنا ـ لا في التصور الإسلامي وحده" . (30)
فالتغيرات داخل إطار ثابت نظام كوني شامل وليس نظامًا قاصرًا على ناحية دون أخرى , فالمجموعة الشمسية الضخمة , والذرة , وكل شيء آخر في الوجود "فيه متغيرات حول محور ثابت" .
وفيما يتعلق بالقيم الخلقية يؤكد الأستاذ قطب أن فيها ما يتغير , وفيها ما هو ثابت .. أي هي خاضعة للسنة الكونية الشاملة , سنة الحركة حول محور ثابت" . (31) ولم يَخضْ في التفاصيل , ولم يعالج أمثلة محددة .(3/32)
وأهمية وجود محور ثابت للقيم الخلقية تتمثل في ضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية , فلا تمضى شاردة على غير هدى , كما حدث في أوربا المعاصرة التي تفلتت من عروة العقيدة , فانتهت إلى تلك النهاية البائسة . (32)
وأما التطور المطلق الشامل لكل الأوضاع والقيم , وللأصول التي تستند إليها القيم ذاتها , ففكرة تناقض الأصل الواضح في بناء الكون , وفى بناء الفطرة ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه" . (33)
وأما التطور في مجالات العلوم غير الدينية فالإسلام لا يضع عليها قيدًا "إن هذا الدين لا يدخل نفسه أبدًا في الشئون العلمية البحتة ولا العلوم التطبيقية المحضة , باعتبارها من أمور الدنيا , [أنتم أعلم بشئون دنياكم] .. وعندئذ يُخرج الإسلام نفسه نهائيًا من الميدان الذي حشرت الكنيسة نفسها فيه في القرون الوسطى , فحرقت العلماء وسجنتهم لأنهم يتحدثون في العلم وهى تحشر نفسها فيه" . (34)
ويفسر الأستاذ سيد قطب تبنى بعض النظم الاستبدادية لدعوى التطور المطلق فيقول إن التطور المطلق "هو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله .. وهو أولاً وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده الدولة بالأفراد , بحيث لا يكون هناك مبدأ ثابت ولا قيمة ثابتة يلوذ بها الأفراد في مواجهة الدولة .. وفى نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد , تطلق الدولة شهوات الأفراد من كل قيد" . (35)
والأستاذ سيد قطب يرد على الماركسية بالذات لأنها تمثل أقصى تطرف فلسفي معاصر في الموقف من تطور القيم الخلقية .. لقد جعلت الماركسية من القيم الخلقية مسألة مائعة , متبدلة , متغيرة , متطورة , مع تطور وسائل الإنتاج !(3/33)
وهذا ما يرفضه سيد قطب مؤكدًا أن القيم ثابتة "في كل المجتمعات .. سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة , وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة" (36) .. فالقيم في الشريعة الإسلامية تمثل المحور الثابت الدائم الذي لا يتغير ولا يتطور بحال .
ولقد أشرنا من قبل إلى أن الموقف الإسلامي يتيح مجالاً واسعا للتطور , بحيث لا يصبح هناك أدنى خطر للتحجر كما ظن بعضهم . (37)
وفى هذا يقول الأستاذ قطب "ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي ـ خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت ـ فخطر التجمد لا يَرِد على مثل هذا التصور ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره" . (38)
فكرة التطور عند محمد قطب ..
ويتخذ الأستاذ محمد قطب الموقف نفسه , وينكر على الماركسيين مزاعمهم القائلة بأن الأخلاق مجرد انعكاسات للحالة الاقتصادية , ويؤكد أن للأخلاق "مقياسًا ثابتًا .. وأن هناك أصلاً ثابتًا للأخلاق "وأن على الإنسانية أن تصل إليه من كل طريق يضمن الوصول" . (39)
ويرى الأستاذ محمد قطب أن أحْوال التطور في العالم المعاصر "ليست كلها نموًا سويًا ولا "تطورًا" كما يقول التطوريون , إنما هي مفتعلة افتعالاً حسب مخططات شريرة وُضِعت لإفساد البشرية ودُسَّت فيها كثير من المفاسد , وقيل للناس إنها "تطور حتمي" وأن عليهم أن يأخذوها بلا معارضة ولا جدال , وهددوا إن هم وقفوا في سبيلها بأن عجلة التطور ستسحقهم" .
وهو يحدد موقف المسلم من هذا العالم "التطوري" فيقول "إن عليه أن يُفَرِّق بين المتطور أو المتغير بطريقة سوية , وبين المتغير بطريقة مفتعلة , أو بأسباب جاهلية لا علاقة لها بالإسلام ومرجعه في ذلك هو الكتاب والسُّنة" . (40)(3/34)
فالدعوة إلى التطور "السائب" المطلق مرفوضة .,. والدعوة إلى الثبات الشامل مرفوضة أيضًا . وهذا يذكرنا بما سبق أن اقتبسناه من أقوال ابن القيم من أن الإحجام عن الاستفادة من السياسة الشرعية أو المصالح المرسلة فيما لا نص فيه تقصير مضر , كما أن إعمال المصالح فيما فيه نص خطأ .
فحيث النصوص المحكمة لا تطور .. وحيث لا نص فثمة فرصة للجديد المستحدث (مع تفصيل وتكميل يعرفه الأصوليون) .
وهكذا نتبين بجلاء أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يقبل مطلقًا فكرة التطور المطلق الذي لا يعرف للنصوص الدينية حرمة , كما أنه أنكر الثبات المطلق الذي يأبى أن يتحرك في النطاق المشروع للحركة ويركن إلى الجمود والتحجر .
هذا هو الموقف الذي ارتضاه الفكر الإسلامي الذي يمثله الأصوليون الكبار مع بعض الفوارق اليسيرة بطبيعة الحال (وقد أشرنا إلى بعض هذه الفوارق في صدر هذا البحث) .. فلا مجال بعد هذا للزعم بأننا معرضون لخطر الجمود .
ولا مجال بعد هذا للتميع , والتمسح في "سعة قيمنا المورثة" (41) , بقصد الإيحاء بمشروعية التطور , دون تحديد دقيق لمجال هذا التطور .(3/35)
إن الإسلام يقر نوعًا من التطور , ويحدد مجاله , ويمنعه من تجاوز هذه الحدود .. وعلينا أن ندرك هذا جيدًا , وأن نعرف هذه الحدود بوضوح .. وإذا نحن تأملنا آراء الإسلاميين المعاصرين وجدناها تقرر مبادئ عامة , ولا تخوض في التفاصيل .. أعنى أنها لم تتساءل عن ظواهر التغير التي يتذرع بها التطوريون , مثل تغير الفتوى مثلاً , أو تغير آراء كبار الفقهاء , كما حدث للشافعي , أو ظواهر إرجاء قطع يد السارق في الغزو , أو تغير ظروف المجتمعات بما يبطل الحاجة إلى الضيافة التي أَوْجبَتْها السُّنة , أو أَمْر عثمان رضى الله عنه بالتقاط الإبل الضَّالًّة في حين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد نَهَى عن ذلك , هذا فضلاً عن التغيرات الهائلة في النظم الإدارية والحربية وأثر ذلك في شرائع القتال وأخلاقياته .
هذا هو طابع المعالجات الحديثة لقضية التطور في مؤلفات الإسلاميين المعاصرين الذين درسناهم .. أما العلماء من السلف الصالح فقد عالجوا الفروع وبعض التفاصيل والجزئيات في مؤلفاتهم الموسوعية , لكنهم لم يجمعوا ظواهر التغيير أو التباين أو التطور لتشكيل مذهب في الثابت والمتغير , لأن القضية لم تطرح عليهم بوصفها التحدي الفكري الذي يبتغى هدم أصول الإسلام وفروعه كما حدث عند طرح نظرية دارون في العالم الإسلامي المعاصر . (42)
الهوامش :(3/36)
(1) الموافقات جـ 2 صـ 283 , 284 .(2) نفسه صـ 284 . (3) نفسه صـ 286 .(4) إعلام الموقعين جـ 4 صـ 372 , 373 .(5) أبو زهرة "أصول الفقه" صـ 283 .(6) نفسه صـ 279 .(7) نفسه صـ 283 .(8) رشيد رضا "تاريخ الأستاذ الإمام" جـ 1 صـ 137 .(9) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ 3 صـ 115 .(10) مذكرات الإمام محمد عبده , تقديم طاهر الطناحى , نشر دار الهلال , بدون تاريخ صـ 18 .(11) انظر ما يقوله "جيب" عن انتشار المفهوم التطوري لسير التاريخ بين تلاميذه "دعوى تجديد الإسلام" صـ143 . (12) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ5 صـ238 , 239.(13) نفسه جـ 5 صـ 444 .(14) نفسه جـ2 صـ 107 .(15) نفسه جـ 4 صـ 403 .(16) نفسه جـ 5 صـ 224 .(17) د. عثمان أمين "رائد الفكر" صـ 175 .(18) الأعمال الكاملة جـ 1 صـ 679 .(19) نفسه جـ 2 صـ 95 .(20) د. عثمان أمين, المرجع السابق صـ 40 , 233 : 239 .(21) نفسه , المقدمة صـ 11 .(22) رشيد رضا "الوحي المحمدي" المكتب الإسلامي طـ 8 صـ 254 , 255 .(23) الوحي المحمدي" صـ 272 , 273 .(24) نفسه صـ 278 .(25) هذا ما فعله محمود الشرقاوي ,كتابه السابق صـ227.(26) د. الأعظمي صـ 27 "نقلاً عن مجلة المنار , المجلد العاشر , صـ 511" .(27) د. الأعظمى صـ 27 "نقلاً عن "السنة ومكانتها" للسباعي صـ 42 .(28) تفسير المنار جـ 1 صـ 138 .(29) نفسه صـ 118 .(30) "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" صـ 121 .(31) نفسه صـ 120 , 142 : 143 .(32) نفسه صـ 128 .(33) نفسه صـ 131 .(34) سيد قطب "الإسلام والرأسمالية" دار الشروق طـ 10 صـ 81 .(35) نفسه صـ 140 .(36) "معالم في الطريق" دار الشروق (لم يسجل مكان النشر ولا تاريخه) صـ 111 .(37) د. زكى نجيب محمود "ثقافتنا في مواجهة العصر" صـ 57 .(38) "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" صـ146 ,147(39) محمد قطب "الإنسان بين المادية والإسلام" الحلبي بمصر طـ 4 سنة 1965 صـ 78.(40) نفسه صـ 79(3/37)
.(41) د. زكى نجيب محمود , السابق صـ 57 .(42) محمد قطب "دراسات قرآنية" صـ 505 , 506 .
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الأول…4
أصول الحوار…4
أصول الحوار وآدابه في الإسلام…4
أدب الحوار…18
الحوار .. طرق وأفكار…41
أدب الحوار والمناقشة والجدل…50
الحِوار…51
10 همسات في فنِّ الحوار…61
أدب الحوار…62
المتحاورون .. وعلم لا ينفع ..!…64
فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم…66
الحجاز والتسامح الديني…70
موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء…79
آداب يجب استصحابها عند نقد الآخرين وخاصة العلماء والدعاة…91
رجم المخالف!!…100
أدب الحوار في الإسلام…103
البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر…105
الحوار الإسلامي النصراني أو الحوار بين مسلمين ونصارى…115
لماذا نفشل في الحوار مع أبنائنا؟…126
متى ينجح الحوار مع الولايات المتحدة ؟…130
الحوار بين الثقافات…133
نماذج من الحوار .. أيها يختارون ؟…136
فن الحوار…139
الحوار الأسري أسلوب تقويم…145
الحوار مع الغشاوة…146
الحوار وثوابت الدين…148
الحوار الهادئ والعنف…150
نصائح لرواد ساحات الحوار…153
الحوار مجادلة لا مداهنة…155
من هدي النبوة في الحوار…159
أهم ضوابط الحوار في الإسلام…164
الحوار في الكتاب والسنة ( 1 )…170
الحوار الحضاري والثقافي: أهدافه ومجالاته…176
الحوار آدابه وأهدافه…184
من آداب الحوار عدم التعدي على مسلمات الشرع وثوابت الدين…189
أدب الحوار…193
الحوار اللفظي في البيت النبوي…195
الحوار بين الحضارات…204
فتح قنوات الحوار…208
حتى لا يتحول الحوار عن المسار !!…210
البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر…215
الحوار بين الأمهات والأبناء .. لغة نحتاج إليها دائماً…225
كيف نرسخ أدب الحوار والنقد ؟…228
من أشكال الحوار…232
الحوار كأسلوب وإستراتجية للتدريس…235
المسلمون في روسيا .. جدل الحوار والانفصال…240(3/38)
الحوار من الضرورة إلى الثقافة…243
الحوار مع الآخر .. نظرة شرعية…246
الحوار المتسامح : استدراك على قصور الاجتهاد…251
الحوار الإسلامي ... بين الدواعي والمعوقات…258
فرق الحوار بين الرجل والمرأة…286
أزمة الحوار الديني *…297
الحوار بين الأديان…300
الحوار بين الأديان ... ( 2 - 2 )…305
أسس إدارة الحوار…319
القوة قبل الحوار…320
حوار .. على فعاليات الحوار…322
هل الحوار الإسلامي العلماني مستحيل؟…324
تحقيق التعاون لنشر ثقافة الحوار…330
مستقبل الحوار بين الحضارات والثقافات…332
الحوار الناجح ضرورة وليس ترفا تربويا…342
التقريب بين المذاهب والأديان حيلة الأقوياء حلم الضعفاء…344
حوار المفاهيم…348
الاجتماع ضرورة شرعية…365
قواعد في التعامل مع المخالف…368
الحوار من الضرورة إلى الثقافة…375
الباب الثاني…379
آداب الاختلاف…379
أدب الاختلاف…379
الهوى وأثره في الخلاف…389
محاولة لعلاج ظاهرة التنازع والتشرذم…405
إدارة الخلاف…408
أخلاقيات الخلاف…412
كيف نختلف…418
أدب الخلاف…423
الفرق بين الاختلاف والافتراق…433
نهي الأسلاف عن الخلاف…435
أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة…440
أسباب الاختلاف وتطوره…442
تاريخ الاختلاف وتطوره…448
في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها…458
في معالم الاختلاف بين الأئمة وآدابه…460
الاختلاف في الدين…469
قراءة في فكر ابن تيمية : حتى لا يكون الاختلاف لعنة…475
الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار ( 1 ـ 2 )…481
أدب الاختلاف في الرأي .. مقدمة لابد منها…510
أسباب الاختلاف بين الناس بصفة عامة…512
الألفة والاتحاد ونبذ الاختلاف…514
فقه الاختلاف…518
قواعد الاختلاف في الرأي…524
منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين…526
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً…530
فقه الصحابة - رضي الله عنهم - في الرد على المخالف…533
لتنزل للخصم في المناظرة…540
لا إنكار في مسائل الخلاف…542(3/39)
الشريعة الإسلامية وحدة في الأصول وتيسير في الفروع…546
قواعد في التعامل مع المخالف…551
فقه الاختلاف…558
وإذا قلتم فاعدلوا…564
هوى الخلاف أم خلاف الهوى؟…573
الخلاف بين العلماء - أسبابه وموقفنا منه…575
قاعدة : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب…585
قاعدة في الحكم على المخالف…587
منهج التعامل مع الخوارج المارقين…589
اتباع الهوى يصد عن الحق…592
حرية العقيدة وحرية الرأي بين الدقة والوضوح وبين التفلت والغموض…595
الخلاف شر…601
ولا تبخسوا الناس أشياءهم…605
الاختلاف في الدين…608
في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها…613
لخلاف بعد القرون الخيرة وآدابه…615
ألا يستقيم أن نكون إخواناً ؟ !…624
اختلاف تصورات لا اختلاف منهج…631
كيف تقوّم الآخرين؟…637
من فقه التعامل مع المخالف…638
هل من سبيل إلى توحيد تقويم المسلمين…641
مفهوم الجماعة بين الضيق والسعة…648
نقد العلماء بين التعصب والإسقاط…658
إدراج بعض المسائل التعبدية في عداد المعتقدات…665
الإسلام دين وحدة أم دين فرقة…667
هوس البدعة…668
الضوابط الشرعية للتعبير عن الرأي…672
ميزان التطور والثبات في أفكار الإسلاميين…678(3/40)