الخلاصة في أصول الحوار وأدب الاختلاف
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) [سبأ/1]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأصلي وأسلم على حبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الاختلاف من طبيعة الحياة ، والنصوص ، والمخلوقات ، شاءه الله تعالى ، ولن يستطيع أحد في الأرض أن يزيله .قال تعالى :{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود/118، 119]
يَا أَيُّها النَّبِيُّ إِنَّكَ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِكَ ، وَحَزِينٌ لإِعْرَاضِهِمْ ، أَوْ إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ ، عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِكَ ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ ، بِمُقْتَضَى الغَرِيزَةِ وَالفِطْرَةِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الاسْتِعْدَادِ ، وَكَسْبِ العِلْمِ . وَكَانُوا فِي أَطْوَارِهِمُ الأُولَى لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ كَثُرَتْ حَاجَاتُهُمْ وَتَنَوَّعَتْ ، وَكَثُرَتْ مَطَالِبُهُمْ ، فَظَهَرَ فِيهِم الاسْتِعْدَادَ لِلاخْتِلاَفِ ، وَهُمْ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي شُؤُونِهِمِ الدِّينِيَّةِ وَالدَّنْيَوِيَّةِ ، تَبَعاً لِمُيُولِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ ، وَاسْتِعْدَادِهِم الفِطْرِيِّ ، يَتَعَصَّبُ كُلُّ فَرِيقٍ لِرَأْيِهِ ، وَلِمَا وَجَدَ عَلَيْهَ آبَاءَهُ .(1/1)
إِلاَّ الذِينَ رَحِمَهُمُ اللهُ فَإِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَغَيْرَ مُخْتَلِفِينَ ، وَلَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ أَنَّ النَّاسَ سَيَكُونُونَ مُخْتَلِفِينَ ، وَأَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقاً سَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَسَتَكُونُ الجَنَّةَ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ ، وَقَدْ قَضَى اللهُ ، لِحِكْمَةٍ يَرَاهَا هُوَ ، أَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنِّ وَمِنَ البَشَرِ جَمِيعاً
وهذا الاختلاف قد يكون بين الحق والباطل ،قال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} [سبأ/24-26]
ومن ثم فقد أمرنا الله تعالى بحوار هؤلاء فقال تعالى :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } [آل عمران/64]
وأمر بجدالهم بالتي هي أحسن بقوله تعالى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت/46](1/2)
وحثنا على القول المعروف والكلمة الطيبة ولاسيما مع من يملك القوة والسلطة ، قال تعالى :{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) }[طه/43، 44]
وأمر بالدعوة غلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، قال تعالى { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) } [النحل/125 ]
بل وأمرنا أن ندفع بيننا وبين بعضنا البعض بالتي هي أحسن ، بقوله تعالى :{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) } [فصلت/33-35]
وأمرنا بالإصلاح بين بعضنا البعض والوقوف مع الحق ، قال تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات/9-10](1/3)
وفي صحيح مسلم(6751 ) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».
والتفرقُ في الدين أو الاختلاف فيه ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما كان اختلافاً في العقائد، وأصول الأحكام الثابتة، وما ثبت بإجماع صحيح عن خير القرون، فهذا تفرقٌ مذمومٌ بلا شك، ذلك أن دلائل تلك المسائل واضحة في الكتاب والسُّنَّة، مجمع عليها عند سلف الأمة، فالمخالف فيها متبع للهوى مفارق لسبيل المؤمنين، مقدم عقله على نصوص الوحي، وهذا قد ذمَّه الله ورسوله والمؤمنون(1/4)
أما الاختلاف في فروع العقيدة ، فقد وقع منذ عهد الصحابة ، فمنه ما هو سائغ وهو مما احتملته النصوص الشرعية ، ومنه ما هو غير سائغ وهو الذي يخالف النصوص الشرعية الثابتة ،كما حدث مع كثير من الفرق التي خالفت منهج أهل السنة والجماعة في فهم النصوص الشرعية ، قال ابن تيمية :" وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِن هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَن قَرَأَ { بَل عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ . كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنهُ وَكَانَ يَقْرَأُ { بَل عَجِبْتَ }(1) . وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ وَقَالَتْ : مَن زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِى صُورَتِهِ ، وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الأُفُقِ (2).
وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمُنَازِعِينَ لَهَا : إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ . وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ."(3)
__________
(1) - المستدرك للحاكم(3608) صحيح
(2) - صحيح البخارى(3234 )
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 229)(1/5)
وَمَعَ هَذَا فَمَا أَوْجَبَ هَذَا النِّزَاعُ تَهَاجُرًا وَلَا تَقَاطُعًا . وَكَذَلِكَ نَاظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَقْوَامًا مِن أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ " حَتَّى آلَتْ الْمُنَاظَرَةُ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَهْجُرُوا مَن امْتَنَعَ مِن الشَّهَادَةِ ؛ إلَى مَسَائِلَ نَظِيرِ هَذِهِ كَثِيرَةٍ (1).
الثاني: ما كان خلافاً في الفروع الفقهية والمسائل التي لم تجمع الأمة فيها على رأيٍ واحد، وذلك كالاختلاف الواقع في المذاهب الأربعة، وكثير من المسائل الحادثة التي اختلف فيها أهل العلم، فهذا النوع من الاختلاف غيرُ مذمومٍ إذا وقع من أهله العارفين بأصوله، بل يمدحُ إن كان الحاملُ عليه اتباعَ الحق وتقديمه، ذلك أن نصوص القرآن والسُّنَّة في بيان تلك الأحكام ظنيةٌ في دلالتها، فربما رجح مجتهد مالم يرجحه آخر، فالكلُّ مأجور في اجتهاده، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » متفق عليه(2).
وقد كان خلاف الصحابة، وأئمة السلف من هذا النوع، فلم يوجب فسقاً ولا بدعة، بل كان بعضهم يجلُّ بعضاً، ويكرمه من غير أن يكون خلافهم لتفرقهم، طالما أن الحقَّ بغيةُ كل واحدٍ منهم ومطلبه، لكن خلفهم خلوفٌ ادعَى كلُّ طائفةٍ منهم التمسك برأي إمامٍ، وتعصبَ كلُّ فريق لإمامة، وضللَّ الطائفة الأخرى، فتركت كل طائفة بعض ما أمرت به من الحقِّ، وارتكبت بعض ما نهيت عنه، فوقعت العداوةُ والبغضاءُ، شأن أهل الكتاب من قبلنا، فلله الأمر من قبل ومن بعدُ. والله المستعان.
والاختلاف منه المذموم ومنه المحمود أيضاً :
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 6 / ص 502)
(2) - صحيح البخارى برقم(7352 ) وصحيح مسلم برقم(4584)(1/6)
الاختلاف المذموم(1):
وهو اختلاف تضاد ، ويرجع إلى أسباب خلقية متعددة ، ومن هذه الأسباب :
1- الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي .
2- سوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة .
3- الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب .
4- اتباع الهوى وحب الدنيا .
5- التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف .
6- العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد .
7- قلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين .
8- عدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها .
وهذه الأسباب وغيرها من الرذائل الأخلاقية والمهلكات هي التي ينشأ عنها اختلاف غير محمود وتفرق مذموم ، وكل واحد من هذه الأسباب يطول شرحه ، وسنأتي على ذكر الكثير من هذه الأسباب عند الكلام عن القواعد العلمية والأخلاقية في أدب الخلاف .
الاختلاف المحمود(2):
وهو اختلاف تنوع ، وهو عبارة عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد ، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري ، والخلاف اللفظي ، والخلاف الاعتباري . وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية ، واختلاف وجهات النظر ، في بعض القضايا العلمية ، كالخلاف في فروع الشريعة ، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية .
وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية ، كالخلاف في بعض المواقف السياسية ، ومناهج الإصلاح والتغيير ، ويدخل في الخلافات الفكرية : اختلاف الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل : علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف . والاختلاف في تقويم الأحداث التاريخية وبعض الشخصيات التاريخية والعلمية .
وهذا الخلاف ليس فيه مذمة ، وإنما الذم في عدم مراعاة آداب الخلاف العملية والأخلاقية التي سيأتي ذكرها في ثنايا هذا البحث .
وجود الخلاف في خير قرون الأمة :
__________
(1) - آداب الحوار وقواعد الاختلاف - (ج 1 / ص 31)
(2) - آداب الحوار وقواعد الاختلاف - (ج 1 / ص 32)(1/7)
لقد كان الخلاف موجودًا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم . ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم .
بل كان الخلاف موجودًا في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار ، بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة نظرًا لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص .
بل إن الخلاف وجد في عهد النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، فأقره ولم ينكره ، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة ، وهي مشهورة ، وفي غيرها من القضايا.
فأما طبيعة الدين :
فقد أراد الله أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه ، وأن يكون في المنصوص عليه : المحكمات والمتشابهات ، والقطعيات والظنيات ، والصريح والمؤول ، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط ، فيما يقبل الاجتهاد .
ولو شاء الله لأنزل كتابه كله نصوصًا محكمة قطعية الدلالة ، لا تختلف فيها الأفهام ، ولا تتعدد التفسيرات . ولكنه لم يفعل ذلك ، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة ، وطبيعة الناس وضروريات الزمن .
وأما طبيعة اللغة :
فإن نصوص القرآن والسُّنَّة ، جاءت على وفق ما تقتضيه اللغة في المفردات والتراكيب ، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى ، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد .
وأما طبيعة البشر :
فقد خلقهم الله مختلفين ، فكل إنسان له شخصيته المستقلة ، وتفكيره المتميز ، وميوله الخاصة ، ومن العبث صب الناس في قالب واحد ، ومحو كل اختلاف بينهم ، فهذا أمر مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس .
وأما طبيعة الكون والحياة :
فالكون الذي نعيش في جزء صغير منه ، خلقه الله - سبحانه - مختلف الأنواع والصور والألوان ، وهذا الاختلاف ليس اختلاف تضارب وتناقض بل هو اختلاف تنوع .(1/8)
وكذلك طبيعة الحياة ، فهي أيضا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة ، في المكان والزمان .
فالخلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية ، قال الله عز وجل : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [هود : 118] .
وفي الأثر :" لَا يَزَال النَّاس بِخَيْرٍ مَا تَفَاضَلُوا فَإِذَا تَسَاوَوْا هَلَكُوا" يَعْنِي لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا كَانَ فِيهِمْ أَهْل فَضْل وَصَلَاح وَخَوْف مِنَ اللَّه يُلْجَأ إِلَيْهِمْ عِنْد الشَّدَائِد وَيُسْتَشْفَى بِآرَائِهِمْ وَيُتَبَرَّك بِدُعَائِهِمْ وَيُؤْخَذ بِتَقْوِيمِهِمْ وَآثَارهمْ .(1) .
الاختلاف رحمة (2):
الاختلاف مع كونه ضرورة ، هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها .
ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة ، ولم يضيقوا ذرعا بذلك بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : "ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا ، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة" .
فهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم ، كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية ، وظلوا معها إخوة متحابين .
الاختلاف ثروة :
اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه ، وينمو ويتسع ، لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية .
__________
(1) - انظر : [ فتح الباري 13 / 16] .
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 30 / ص 80) والدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية - (ج 4 / ص 88) وأبحاث هيئة كبار العلماء - (ج 3 / ص 177) والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم - (ج 1 / ص 37)(1/9)
وبهذا التعدد والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية ، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث ، فقد يكون بعضها أكثر ملاءمة لزمان ومكان من غيره (1) .
-----------------
ولكن غالب أنواع الحوار اليوم لا يلتزم فيها بآداب الإسلام وقيمه العليا ، ومن ثم فلا تؤتي أكلها .
وكثير من الناس المختلفين في الفروع العقدية أو الفقهية أو السياسية ،لا يقبلون بالرأي الآخر ، ويعتبرونه ضلالاً أو بدعة منكرة ، أو زندقة أو شذوذا وانحرافاً عن سواء السبيل .
بل يجعلون فهمهم للدين هو الفهم الحق وما سواه فباطل ، وكل ذلك خلل في فهم هذه الرسالة الخاتمة ، فقد شاء الله تعالى أن تكون معظم النصوص الشرعية ( في القرآن والسنة ) ظنية الدلالة ، تحتمل وجوها كثيرة ، فكيف نلزم الناس بواحد منها ؟
والصواب أن يقال رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب ، وغالب الخلافات بين المسلمين اليوم ليس بين قطعي الشريعة وظنيها ، بل بين ظنين محتملين أو ظنون محتملة ، فكيف نزعم أنها حق وما سواها باطل ؟!!!
وكل النصوص الظنية الدلالة لا يقال فيها صواب وخطأ ، بل كلها صواب ومرادة للشارع الحكيم
وأعداء هذه الأمة يوقعون بين أفرادها وجماعاتها ، ويفرقون صفوفهم من هذا الباب .
ولذلك تجد كل واحد منهم متعصب لرأيه أو جماعته ، ولا يقبل رأيا آخر بتاتاً مهما كان قويا.
ومن لم يكن رائده تقوى الله تعالى وبغية الحق ، لن يصل إليه ولو عمر بعمر النبي نوح عليه السلام
__________
(1) - الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ، للقرضاوي ، ص 53 .(1/10)
ففي صحيح مسلم(1847) عن أبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَىِّ شَىْءٍ كَانَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ».
هذا وقد قسمته لتمهيد وبابين
أما التمهيد ، فتكلمت فيه عن أصول أدب الحوار بين المختلفين ...
وأما الباب الأول -أصول الحوار ، وهو مجموعة من البحوث والمقالات حول هذا الموضوع
وأما الباب الثاني فعن آداب الاختلاف بين المسلمين ، وهو مجموعة من البحوث والمقالات .
وكل بحث معزو لصاحبه أو مصدره ، وغالبها من المواقع التالية :
صيد الفوائد ، شبكة نور الإسلام ، الإسلام اليوم ، الشبكة الإسلامية ، والإسلام سؤال وجواب ، والمختار الإسلامي ....
ومن أراد تفصيل أسباب الاختلاف بين الفقهاء فليرجع إلى كتابي (( الخلاصة في بيان أسباب الاختلاف الفقهاء )) وهو على الشبكة في صيد الفوائد والمشكاة وغيرهما .
أسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناقله والدال عليه وناشره في الدارين .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 23 رمضان 1429 هـ الموافق ل 23/9/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - -
تمهيد حول
أدب الحوار بين المختلفين(1)
__________
(1) - انظر كتاب الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم - (ج 1 / ص 126)(1/11)
الحوار جائز في الإسلام متى كانت المصلحة المتوقعة منه أعظم من المفسدة المترتبة عليه، ومتى ثبت أن نفعه أكثر من ضرره، وقد عني القرآن الكريم عناية بالغة بالحوار، وذلك أمر لا غرابة فيه أبدًا، فالحوار هو الطريق الأمثل للاقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه، والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يُفرض فرضًا، وإنما ينبع من داخل الإنسان.(1)
المبحث الأول
إحسان الظن بالآخرين
ومن المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل بين الإسلاميين مع بعضهم البعض: إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود، عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه، واتهام غيره..
والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم.
ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (49) سورة النساء.
والمؤمن ـ كما قال بعض السلف ـ أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح!
فهو أبدا متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يسوغ لها خطأها، يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، والتقصير في حقوق عباد الله.
وهو يعمل الخير، ويجتهد في الطاعة، ويقول: أخشى أن لا يقبل مني. فإنما يتقبل الله من المتقين، وما يدريني أني منهم؟!
وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، وخصوصا لإخوانه والعاملين معه لنصرة دين الله، فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!
__________
(1) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21886)(1/12)
وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.
إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسُّنَّة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وأن لا تظن به إلا خيرا، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليبا لجانب الخير على جانب الشر.
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات، والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.
وعَنِ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنِ النَّبِىِّ - - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا إِخْوَانًا » (1).
والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وأن لا يظن به إلا خيرا، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} (12) سورة النور.
وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم!
__________
(1) - صحيح البخارى(5143)(1/13)
ومن أجل هذا يعجب المرء غاية العجب، ويتألم كل الألم، إذا وجد بعض العاملين للإسلام يتهم بعضهم بالعمالة أو الخيانة، جريا وراء العلمانيين وأعداء الإسلام فيقول أحدهم عن الآخر: هذا عميل للغرب أو للشرق أو للنظام الفلاني، لمجرد أنه خالفه في رأي أو في موقف، أو في اتخاذ وسيلة للعمل مخالفة له، ومثل هذا لا يجوز بحال لمن فقه عن الله ورسوله.
ـــــــــــــــ(1/14)
المبحث الثاني
ترك الطعن والتجريح للمخالفين
ومن أسباب التواصل والتقارب: ترك الطعن والتجريح للمخالف، والتماس العذر له، وإن كان مخطئا في ظنك.
وذلك لأنه قد يكون مصيبا وأنت المخطئ، إذ لا يقين في الاجتهادات بصواب أحد القولين، كل ما تملك في هذا المجال هو الترجيح، والترجيح لا يعني القطع واليقين.
كما أن المخطئ في هذه القضايا لا يجوز الطعن عليه بحال، لأنه معذور في خطئه، بل مأجور عليه بنص الحديث النبوي الشريف.
فكيف يجرح أن يطعن عليه في أمر هو مأجور عليه من الله تعالى، وإن كان أجرا واحدا غير مضاعف، ولكن يكفي أنه مثاب ومأجور غير مأزور؟
وهذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد، فلم يجرح بعضهم بعضا، بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه.
نموذج من أدب كبار العلماء مع مخالفيهم:(1/15)
ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف: تلك الرسالة العلمية الرائعة، التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع، حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه، ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظرا لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع، الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد: (... سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه.. ثم يقول: وأنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له).(1/16)
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبينا أن كثيرا من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه، وبين أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: (ومع ذلك ـ بحمد الله ـ عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ما عمله)، ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر ـ والقضاء بشاهد ويمين ـ ومؤخر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق ـ وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء.. وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة: (وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله)(1).
وإن من المؤسف اليوم أن نجد من بين المشتغلين بالدعوة إلى الإسلام من يشهر سيف الذم والتجريح لكل من يخالفه، متهما إياه بقلة الدين، أو باتباع الهوى أو بالابتداع والانحراف، أو بالنفاق، وربما بالكفر!
__________
(1) - إعلام الموقعين - (ج 3 / ص 88)(1/17)
وكثير من هؤلاء لا يقتصرون في الحكم على الظواهر، بل يتهمون النيات والسرائر، التي لا يعلم حقيقة ما فيها إلا الله سبحانه، كأنما شقوا عن قلوب العباد واطلعوا على دخائلها!
ولم يكد يسلم من ألسنة هؤلاء أحد من القدامى، أو المحدثين، أو المعاصرين ممن لا يقول بقولهم في قضايا معينة، حتى وجدنا من يسب بعض الأئمة الأربعة في الفقه، ومن يسب بعض أئمة السلوك والزهد.
وهذه من المزالق التي يتورط فيها كثير من المنتسبين إلى التيار الديني: الطعن والتجريح، فيمن يخالف وجهتهم، أو مذهبهم في الاعتقاد أو الفقه أو السلوك.
فتجد بعض المنتمين إلى مذهب يطعنون في المذهب الآخر وإمامه.
ومن ينتمون إلى الحديث أو السلف يطعنون في الفقهاء كالأئمة الأربعة وكبار أتباعهم ممن لا يشك أحد في علمهم واجتهادهم ودينهم وورعهم.
أو يطعنون في كبار الصوفية الذين أثنى عليهم الربانيون والعلماء المحققون من خيار الأمة، وربما طعنوا في الصوفية جميعا.
وكذلك قد يطعنون في كبار علماء الأشاعرة ويجرحونهم تجريحا منكرا، وهم من لهم منزلة وفضلا في الذب عن هذا الدين، وعن الكتاب والسُّنَّة.
وانظر إلى موقف الإمام ابن القيم من شيخ الإسلام الهروي الأنصاري صاحب كتاب (منازل السائرين إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين") الذي شرحه ابن القيم بكتابه (مدارج السالكين) فكثيرا ما خالف الشارح (صاحب المدارج) المؤلف (صاحب المنازل) وبين خطأه فيما ذهب إليه، وذلك حين لا يجد أي مجال لتأويل كلامه وحمله على أحسن الوجوه الممكنة، ومع ذلك يلتمس له العذر بعد العذر، ويثني عليه وعلى علمه وفضله ومنزلته.
خذ مثلا لذلك ما قاله الهروي في حقائق التوبة، حيث جعل منها (طلب أعذار الخليقة) على نحو ما يقوله كثير من الصوفية أن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم، على حين أن من نظر إليهم بعين الشريعة لامهم.(1/18)
وقد بين ابن القيم أنه لا وجه لعذر العصاة بالقدر، وليس عذرهم من التوبة في شيء، فلا هم معذورون، ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة.
قال: لا سيما أنه يدخل في هذا عذر عباد الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء وفرعون وهامان، ونمرود بن كنعان، وأبي جهل وأصحابه، وكل كافر وظالم، ومتعد حدود الله، ومنتهك محارم الله، فإنهم كلهم تحت القدر، وهم من الخليقة أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة؟
ثم يقول ابن القيم: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم، صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عد خطؤه. ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب، الذي زلت فيه أقدام. وضلت فيه أفهام. وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا ـ إلا أقلهم ـ على أودية الهلكات.
ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض المتدينين: أنهم لا يسمحون للشخص الذي يثقون بمنزلته في العلم أو في الدين، بأي زلة تزلها قدمه في الفكر أو في السلوك، وتراهم بمنزلة واحدة يهدمون جهاد إنسان وجهوده طوال عمره، ويهيلون التراب على تاريخه كله.
ـــــــــــــــ(1/19)
المبحث الثالث
البعد عن المراء واللدد في الخصومة
وعامل آخر يقرب بين أصحاب الرأي المختلف، وهو: البعد عن المراء المذموم واللدد في الخصومة.
فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء، الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين.
وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) [الحج/8-9]).
ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء، والترغيب في البعد عنه.
فعَن أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَن حَسَّنَ خُلُقَهُ »(1).
وعَن أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- « مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- هَذِهِ الآيَةَ {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَل هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (58) سورة الزخرف (2).
__________
(1) - سنن أبى داود(4802 ) صحيح لغيره -الربض : حوالى الجنة وأطرافها
(2) - سنن الترمذى(3562 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(1/20)
وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق، تركوا العمل، وغرقوا في الجدل، وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان {ووَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (54) سورة الكهف.
ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناسا لا هم لهم إلا الجدل في كل شيء وليس لديهم أدنى استعداد لأن يعدلوا عن أي رأي من آرائهم، وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون. فهم على حق دائما، وغيرهم على باطل أبدا. منهم من يجادل في كلمات أعطاها اصطلاحا خاصا، خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزم الآخرين برأيه، مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح.
ومنهم من يذم التعصب للمذاهب، وهو يقيم مذهبا جديدا، يقاتل الآخرين عليه!
ومن يحرم التقليد ويطلب من الناس أن يقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلد بعض المعاصرين!
ـــــــــــــــ(1/21)
المبحث الرابع
الحوار بالتي هي أحسن
ومن الدعائم الأساسية في أدب الاختلاف: الحوار بالحسنى، وإذا استخدمنا التعبير القرآني قلنا: الجدال بالتي هي أحسن، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
ادْعُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمَكَ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقِ اللهِ ، طَرِيقِ الحَقِّ الذِي شَرَعَهُ اللهُ لِلنَّاسِ ، وَاسْتَعْمِلْ فِي دَعْوَتِكَ مَعْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الوَسِيلَةَ النَاجِعَةَ مَعَهُ ، وَالطَّرِيقَةَ المُنَاسِبَةَ ، وَجَادِلْ أَهْلَ الكِتَابِ بِالحُجَّةِ وَالقَوْلِ اللَّيِّنِ ، وَالعِبَارَةِ الحَسَنَةِ التِي لاَ تَشُوبُهَا قَسْوَةٌ وَلاَ عُنْفٌ ، لِيَسْتَمِرَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمُ الحِوَارُ وَالجَدَلُ وَالنِّقَاشُ ، فَتَسْتَطِيعَ إِقْنَاعَهُمْ بِصِحَّةِ دَعْوَتِكَ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِكَ ، وَاتَرْكُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهُمْ للهِ ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَنْ ضَلَّ فَلاَ يُفِيدُ مَعَهُ جَدَلٌ وَلاَ دَعْوَةٌ ، وَهُوَ الذِي يَعْلَمُ مَنْ صَفَتْ نَفُسُهُ ، وَسَلِمَ تَفْكِيرُهُ ، فَاهْتَدَى وَآمَنَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ .
وهنا نجد تفرقة في التعبير بين المطلوب في الموعظة والمطلوب في الجدال. ففي الموعظة اكتفى بأن تكون حسنة، أما في الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن، بمعنى أنه إذا كان هناك أسلوبان، أو طريقتان إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها وأفضل، فالمأمور به أن نتبع التي هي أحسن.(1/22)
وسر ذلك: أن الموعظة ترجع ـ عادة ـ إلى الموافقين الملتزمين بالمبدأ والفكرة، فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم، وترقق قلوبهم وتجلو صدأهم، وتقوي عزائمهم، على حين يوجه الجدال ـ عادة ـ إلى المخالفين، الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير، أو الخشونة في التعامل، أو العنف في الجدل، فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار، حتى يؤتي أكله.
ومن هذه الطرائق أو الأساليب أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر.
إن بعض المتحاورين في مسائل العلم والدين، يخيل إليك أنهم يتقاتلون لا أنهم يتجادلون، وإن الذي في إيمانهم ليس قلما يقطر مدادا أسود بل سيفا يقطر دما أحمر.
وكان الأولى أن يغلب الجو العلمي بهدوئه ورزانته على الجو الانفعالي بشدته وسخونته، وأن تهب الكلمات من الجانبين نسائم تنعش، لا أعاصير تدمر.
إن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتني من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب، وإن قال شوقي: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بآداب الحوار وموضوعيته، والبعد عن الإثارة والتهييج، أما الحوار الذي يصحبه العنف والاتهام والتجريح فالأغلب أنه يفسد الود، ويعكر صفاء الأنفس بل قد يخشى إذا ذهب الود أن لا يعود مرة أخرى، على نحو ما قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!
إن حسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان يحل مشكلات، ويفض اشتباكات.
وعَن أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ :« يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا »(1) .
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
أصول الحوار
أصول الحوار وآدابه في الإسلام
صالح بن عبدالله بن حميد
توطئة
__________
(1) - صحيح البخاري(69)(1/23)
أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه ، ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله ، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً ، فبلغ الرسالة ، وأَدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجعلنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها الأخوة :
هذه كلمات في أدب الحوار مُشتمِلَةٌ العناصر التالية : تعريف الحوار وغايته ، ثم تمهيد في وقوع الخلاف في الرأي بين الناس ، ثم بيان لمُجمل أصول الحوار ومبادئه ، ثم بسط لآدابه وأخلاقياته .
سائلاً المولى العلي القدير التسديد والقبول ..
تعريف
الحوار : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام .
الجدال : من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها
والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1) ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .
وقد يكون من الوسائل في ذلك : الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات ، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقة .
غاية الحوار(1/24)
الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) .
هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :
- إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
- التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
- البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية .
وقوع الخلاف بين الناس
الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .(1/25)
ومن معنى الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم فيه ولا اختيار .. وإِذَنْ لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر ؛ بل كانوا في حيلتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، ولكانوا في الرّوح كالملائكة ؛ مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة ؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع . ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين . عاملين بالاختيار ، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض ؛ لا مجبورين ولا مضطرين . وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فلتعلموا أن اللام ليست للغاية ؛ فليس المُراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، إذ من المعلوم أنه خلقهم لعبادته وطاعته . وإنما اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير
وقدّ تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ، فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم يعضاً سخرياً .
خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية .
وضوح الحق وجلاؤه
وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ .. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله : { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود:119) .(1/26)
وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) .
وذلك أن النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه ؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) .
ومنه الحديث النبوي : (( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) .
ويُوضح ذلك ، أن أصول الدين ، وأمَّهات الفضائل ، وأمَّهات الرذائل ، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حُسْن محموده وحمده ، والاعتراف بعظيم نفعه ، وتقبيح سيِّئه وذمِّه . كل ذلك في عبارات جليَّة واضحة ، ونصوصِ بينِّة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءاً . وجعلها أمّ الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه من أحكام ، ولم يُعذَرْ أحد في الخروج عليها ، وحَذَّر من التلاعب بها ، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات بتعسف التأويلات والمُسوِّغات ، مما سنذكره كأصل من أصول الحوار ، ورفع الحرج عنهم ، بل جعل للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين تشجيعاً للنظر والتأمل ، وتَلَمُّس الحقّ واستجلاء المصالح الراجحة للأفراد والجماعات . ولربك في ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة .
مواطن الاتفاق
إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً .(1/27)
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :
دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .
إن التلفظ بـ ( لا ) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده ، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني ( 5 ) .
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد .
وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر .
أصول الحوار
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :(1/28)
1- تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2- صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار - لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية - لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
الأصل الثالث :
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه إعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :(1/29)
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .(1/30)
ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ - غير المقصود - عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة - الحجاب - تعدد الزوجات - وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل - فضلاً عن المسلم - الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء ج1 .(1/31)
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم ) .
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .(1/32)
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .(1/33)
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) .
--------------
آداب الحوار
1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53) . { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) .
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83) .
فحق العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .(1/34)
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سبأ:24) . مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية . والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً . ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته - في الغالب - إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .(1/35)
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) .
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)
ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه ، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً .
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ، وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون ، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك .
وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط .
ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم ، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة ، وهذا ضيق العَطَنْ ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق ، وآخر يميل إلى التوسيع ، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال . فذو العقل اللمّاح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور ، وآخر دون ذلك بمسافات .(1/36)
ولله الحكمة البالغة في اختلاف الناس في مخاطباتهم وفهومهم .
2- الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : ( وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( 9 ) .
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الالتزام بذلك .
والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى
ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي :
1- إعجاب المرء بنفسه .
2- حبّ الشهرة والثناء .
3- ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
4- قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم ، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ، وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .(1/37)
ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .
3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الإطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً - وإن طال - حتى يُمسك ) .
ويقول ابن المقفع :
( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم . والوعي لما يقول ) .
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان ) كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف ، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
4- تقدير الخصم واحترامه :
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .(1/38)
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ، والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات والسير الذاتية .
5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
قالوا : لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ، فَيَلْتَبسُ الحق .
أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي ، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطئ إلى الحق ، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه .
بخلاف الحال أمام الناس ؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو مُخالفيه .(1/39)
ولهذا وُجِّه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا ؛ لأن اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء السابقين .
ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ،ثم انصرفوا .(1/40)
حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج ، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبه ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها . قال ألخنس : وأنا والذي حَلَفْتَ به ! . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنّا كفرسيّ رهان ، قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى نُدرك هذا ؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
6 - الإخلاص :
هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته .
ومن أجلى المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية
وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه الأسئلة :
- هل ثمَّت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟(1/41)
- هل يقصد تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟
- وهل يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان حقهَّا أن تسدّ .؟
ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذاتٍ وهوى . ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه ، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة ، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه . فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ، ومن أيّ مكان ، ومن أيّ وعاء ، وعلى أيّ فم .
إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت .
ومن الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا .
وهذا ما تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
صالح بن عبدالله بن حميد
مكة المكرمة
أصول الحوار وآدابه في الإسلام .. فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد
ـــــــــــــــ(1/42)
أدب الحوار
سلمان بن فهد العودة
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعد:
فعنوان هذه الرسالة: "أدب الحوار"(1).
وموضوع أدب الحوار مع الآخرين كبير وخطير؛ فالخلاف بين الناس أمر طبيعي مشهور، وللخلاف في أمور الدين والشرع أسباب كثيرة، منها:
- أن دلالة بعض النصوص الشرعية ظنية، وليست قطعية فتحمل أكثر من اجتهاد في تحديد معناها.
- اختلاف العقول والأفهام، وتفاوت المدارك.
- تفاوت العلم؛ فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل.. قال تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76].
- عدم بلوغ الدليل فيقول العالم القول ولو بلغة الدليل في المسألة لما قال به .
- الهوى والتعصب لقول، أو مذهب، أو رأي، أو شيخ(2).
مسالك الناس في حل الخلاف(1/43)
وحينما يختلف الناس -سواء كانت اختلافاتهم كلية أو جزئية-؛ فإنهم يسلكون في معالجة هذا الخلاف مسالك شتى منها :
- الحرب:
فالحرب تكون -أحيانًا- وسيلة لحل الخلاف، وإنهاء الخصومات، وإثبات الحجة، إلا أنها لا تصلح أن تكون الحل الأول في ذلك؛ إذ إننا نجد أن كثيرًا من المبادئ والنظريات التي قامت على القوة، وعلى الحديد والنار -كما يقال-، سرعان ما تهاوت وسقطت.
وحال الشيوعية اليوم خير شاهد على ذلك، فقد قامت بالحديد والنار، وكانت أجهزة الـ (KGB) -وهي أجهزة المخابرات السوفيتية- تلاحق المنشقين والمعارضين والمحاربين بكافة الوسائل، وتجند مئات الألوف من العملاء، فضلاً عن الكثافة العددية لقوات الاتحاد السوفيتي العسكرية، والتي تعتبر أكثر من ثلاثة أضعاف القوات في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم كل هذا البطش والإرهاب، فقد سقطت الشيوعية خلال أقل من ثمانين عامًا.
على حين أن الوجه الآخر للحضارة المادية المنحرفة -وهو وجه الرأسمالية- لا زال حيًّا ، وربما قويًّا ممكنًا في الأرض، وما ذلك لأنه مؤمن بالله عز وجل؛ ولكن لأنه سلك الأسلوب الذي يمكن التعبير عنه بأنه الأسلوب الديموقراطي، وذلك على الأقل في بعض أساليبه وطرائقه ومعاملاته لشعوبه، فكان أرسخ وأبقى من النمط الشيوعي الشرقي المتعسِّف.
أما في الإسلام، فإن المسلمين وإن شنّوا حروبًا ضد أعدائهم، لكن هذه الحروب لم تكن بهدف إكراه أحد على الدخول في الإسلام، فقد قال الله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256]؛ بل كانت بهدف إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وبين الدخول في الدين، أو تضغط عليهم وتكرههم على ترك دينهم الحق، والدينونة بالكفر.(1/44)
ولم يحفظ التاريخ أن المسلمين أكرهوا شخصًا واحدًا على الدخول في الإسلام؛ ومما يمكن أن نلحقه بالحروب كل صور المفاصلة بسبب الرأي بما في ذلك التباغض والتهاجر ومناصبة العداء ونحو ذلك من صور المغالبة .
- الحوار:
وكما سبق أن تناولنا موضوع الجهاد في سبيل الله وأحاديثه ومجالاته في رسالة "حي على الجهاد"، فإننا نتناول في هذه الرسالة الوجه الآخر من أساليب معالجة الخلاف، وهو الحوار، سواء مع الكافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو مع المسلم، وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: الحوار أقوى من الكلاشينكوف.
المبحث الثاني: أهمية الحوار.
المبحث الثالث: قواعد الحوار وأصوله.
المبحث الرابع: صفات المحاور.
المبحث الخامس: آفات في الحوار.
المبحث السادس: آداب الحوار الصحيح.
المبحث السابع: أمثلة من الحوارات.
________________________________________
المبحث الأول
الحوار أقوى من البندقية
إن الحوار يكون -أحيانًا- أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة.
وفيما يلي حادثتان تاريخيتان قديمتان تدلان على ذلك. وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة من الخوارج، ومن المعروف في تاريخ الإسلام أن الخوارج من أكثر الناس ضراوة وقوة، وشجاعة وبسالة في الحروب، مما جعل الناس يرهبونهم.
حتى نساء الخوارج، كن يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تدهش له العقول له:
فلننظر كيف فعل بهم الحوار؟!
- الموقف الأول:
ذكر الباقلاني، والسكوني، والشاطبي، وغيرهم، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج المسمين بالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه، وعليه حلة جميلة، فلما أقبل، قالوا له: يا ابن عباس، ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب التي عليك؟(1/45)
- فقال: أما الثياب التي عليَّ، فما تنقمون مني؟ فوالله، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات منَ الرِّزْق قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالصَةً يَوْمَ الْقيَامَةِ) [الأعراف:32].
- قالوا: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟
- قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني: علي بن أبي طالب-، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم، فأنا رسول -أي وسيط- بينكم وبينهم.
- قال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس، لا تخاصموه، فإن الله تعالى يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58]، فلما خافوا من الهزيمة قالوا: اتركوا هذا، هذا جدل إنسان خَصِم! وقال بعضهم: بل نكلمه، ولننظر ماذا يقول؟
- قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
- قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور.
- قال: هاتوا.
- قالوا: الأول: أن علي بن أبي طالب حكَّم الرجال في كتاب الله، يعني: بعث حكمًا منه، وحكمًا من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة(3)، والله تعالى يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ) [الأنعام:57].
- قال: هذه واحدة فما الثانية؟
- قالوا: الثانية: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يسْبِ، -أي قاتلهم وما سبى نساءهم-، فلئن كانوا مسلمين فقتاله حرام، ولئن كانوا كفارًا فلماذا لم يسبهم؟
- قال: وهذه أخرى، فما الثالثة؟(1/46)
- قالوا: الثالثة: أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لمَّا كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين؛ بل قال: علي بن أبي طالب. - قال: أوقد فرغتم؟
- قالوا: نعم.
- قال: أما الأولى: فقولكم: حكَّم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) [المائدة:95]، فذكر الله تعالى حكم ذَوَيْ عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم، أم التحكيم فيما قتله الإنسان من الصيد؟
- قالوا: لا؛ بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم.
- قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [النساء:35]، ناشدتكم الله تعالى! التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم، أو التحكيم في بُضع امرأة؟
- قالوا: لا، التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.
- قال: انتهت الأولى؟
- قالوا: نعم، فالثانية؟
- قال: أما الثانية، فقولكم: قاتل ولم يسْبِ، هل تسْبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر-، وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء، إن قلتم ذلك كفرتم، وإن قلتم ليست بأمِّنا كفرتم -أيضًا-؛ لأنها أم المؤمنين، فاستحيوا من ذلك وخجلوا.
- قالوا: فالثالثة؟(1/47)
- قال: أما قولكم: خلع نفسه من إمارة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية، قال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة، وقال: "اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله (4).
فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه(5).
فانظر كيف أثَّر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرؤوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة.
- الموقف الثاني:
وهو أيضًا يتعلق بطائفة الخوارج العنيدة.
فإنه لما بقيت منهم في الموصل بقية، كتب إليهم عمر ابن عبد العزيز رحمه الله -الخليفة الأموي العادل- ينكر خروجهم، ويقول لهم: "أنتم قليل أذلة"، فردُّوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل أذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأََرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]، فردوا عليه بذلك.
فوجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهًا اسمه: عون ابن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
- فقال لهم عون بن عبد الله: إنكم كنتم تطلبون حاكمًا في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلمَّا جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه.
- قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ ممن قبله ولم يلعنهم، فلم يلعن علي بن أبي طالب، ولا معاوية، ولا بني أمية؛ لذا فنحن نحاربه -وهذا هو مذهب الخوارج-.(1/48)
- قال لهم: كم مرة في اليوم تلعنون فيها هامان؟
- قالوا: ما لعنّاه قط!
- قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسعكم أن تتركوا لعن أهل قبلتكم، إن كانوا أخطأوا في شيء، أو عملوا بغير الحق؟!!
فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة.
فَسُرَّ بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتجّ عليهم بعدم لعن فرعون؟ - قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون؟ ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقلَّ من يلعنه علىألسنة الناس، فلذلك اخترته.
فسكت هؤلاء الخوارج، حتى خرجوا في ولاية يزيد ابن عبد الملك، فقاتلهم(6).
والشاهد هنا كما يقول السكوني في (عيون المناظرات): "فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف".
وهكذا يتبين أن الحجة القوية، والحوار الهادئ المقنع الرزين، من صاحب عقل وفهم وعلم، يفعل في كثير من الأحيان ما لا تفعله السيوف ولا المدافع والطائرات .
________________________________________
المبحث الثاني
أهمية الحوار
تبرز أهمية الحوار من جانبين:
الجانب الأول: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة:
فتعقد لذلك محاورات مع غير المسلمين؛ لإقناعهم بأن دين الله تعالى حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة؛ لدعوتهم إلى السنة، وأمرهم بالتزامها.
والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار.
إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب والنظريات والأديان الأخرى؛ بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة.(1/49)
ولا يجوز أبدًا أن نعتقد -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات والعقائد والمبادئ والمثل، فهذا غير صحيح؛ بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة من كثرة النظريات والمبادئ والعقائد والمثل والفلسفات وغيرها، صحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، والدعاة الذين تدرَّبوا وتعلَّموا كيف يدافعون عن الباطل حتى يصبح في نظر الناس حقًّا.
أما أهل الحق فكثير منهم لا يحسن الطريقة المثلى للحوار؛ لإقناع الخصم بما لديه من الحق والسنة .
وقد لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضًا، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، فإن لم يملكوها، فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة، ما هو أشد فتكًا من الرصاص والقذائف.
إذن، فإن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.
الجانب الثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية:
فالحوار يُعد وسيلة للوصول إلى اليقين والحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين، فيتكلم اثنان في محاورة أو مناظرة للوصول إلى الحق في مسألة اجتهادية ليس فيها نص صريح، أو إجماع لا يجوز تعديه.
وليس من الضروري -أيها القارئ الكريم- أن تعتقد أن نتيجة الحوار لابد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، فقد تقنع إنسانًا بذلك، فإن لم تتمكن، فأقل شيء تكسبه من الحوار - إذا التزمتَ بالشروط الموضوعية له - أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعًا بأنك موضوعي متعقل، بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.
فكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلِّدين، فإذا حاوروهم وناظروهم علموا أن لديهم حججًا قوية، فأقل ما تكسبه أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام.(1/50)
فقد تلتقي بنصراني داعية إلى النصرانية، فتناقشه، فمن المحتمل أن يسلم، وهذا خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه، لكن قد لا يسلم، فهل تعتبر أنك قد خسرت المناظرة؟ لا؛ لأنه وإن لم يسلم، فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث، ثم قد يسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر في ذلك، فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا، فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه، وصار عنده تردد في مذهبه الباطل.
ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون الاحتكاك بأهل الكتاب أو بالمنحرفين عن الإسلام ويسمعون منهم الكثير؛ نجد أن هؤلاء المسلمين وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم حتى وهم على الحق؛ وذلك من كثرة ما سمعوا من أعدائه، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم؟ لابد أن يفتر حماسهم له، أو يشكّوا فيه، أو يتراجعوا عنه.
الجدال المحمود:
الحوار والجدال والمناظرة كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء من لفظ الجدال في القرآن الكريم يطلق على الجدال المذموم، كما في قوله تعالى: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [الكهف:56].
ولكن جاء لفظ الجدل في القرآن أيضًا في مواضع محمودة، وهي:
- قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46]، فهذا جدل بالتي هي أحسن لدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام.
- قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].(1/51)
- قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود:74]، فكيف جادلهم؟ لما سألهم: أبُعثتم إليهم لإهلاكهم؟ قالوا: نعم. قال: أفيهم مائة مسلم؟ قالوا: لا. قال: أفيهم خمسون مسلمًا؟ قالوا: لا. قال: عشرة مسلمين. قالوا: لا. قال: خمسة مسلمين؟ قالوا: لا. قال: فقوم ليس فيهم هؤلاء جديرون بالإهلاك، فهذا -كما ذكر بعض المفسرين- الجدل الذي حصل من إبراهيم عليه السلام(7).
- قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة:1].
________________________________________
المبحث الثالث
قواعد الحوار وأصوله
إن من الضروري أن يتلقَّى المسلم -وخاصة الداعية إلى الله- أسس الحوار وأصوله، في عالم يموج اليوم بالنظريات الكافرة والاتجاهات المنحرفة، فقد أصبح الحوار فنًّا يدرس -أحيانًا- باسم: فن الجدل، وأحيانًا يسمونه: فن المناظرة.
إضافة إلى فن آخر له علاقة كبيرة بالموضوع، وهو ما يسمى بفن العلاقات العامة، الذي تقام فيه دورات لكثير من الموظفين، والمتخصِّصين في العلاقات العامة، والدعاة، وغيرهم .
والعلاقات العامة تعني: حسن الاتصال بالآخرين؛ لإقناعهم برأي، أو لترويج سلعة من السلع، أو تصحيح فكرة، أو التمهيد لقضية من القضايا من خلال الاتصال بالناس، فهو فن لابد للداعية أن يتعلمه نظريًّا وعمليًّا.
وللحوار قواعد كثيرة، نعرض بعضها فيما يلي:
القاعدة الأولى: تحديد موضوع الحوار:
ينبغي أن يدور الحوار حول مسألة محددة، فإن كثيرًا من الحوارات تكون جدلاً عقيمًا، ليس له نقطة محددة ينتهي إليها، فينبغي أن يكون الحوار أو الجدل (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125] حول نقطة معينة، بحيث يتم التركيز عليها، ولا يتعداها الحوار حتى يُنْتَهى منها.(1/52)
القاعدة الثانية: مناقشة الأصل قبل الفرع:
ينبغي ألا يتم التناقش في الفرع قبل الاتفاق على الأصل؛ إذ إن مناقشة الفرع مع كون الأصل غير متفق عليه، تعتبر نوعًا من الجدل العقيم إلا في حالات معينة.
وأضرب أمثلة لحالات يمكن فيها مناقشة الفرع، أو مناقشة الأصل:
فلو جاءك كافر لا يؤمن بيوم الحساب، وأخذ يناقشك في قضية حجاب المرأة المسلمة -مثلاً-، أو في قضية تعدد الزوجات، أو في مسألة الجهاد؛ حيث إن هذه القضايا بالذات هي أكثر القضايا التي يثير حولها الغربيون شبهاتهم؛ لإثارة الفتنة بين المسلمين.
المهم هو كيف تحاور هذا الكافر الذي لا يؤمن بالإسلام؟ هل تناقشه في هذه المسائل إذا حاورك بشأنها؟
بإمكانك هنا أن تحاوره بإحدى طريقتين:
- الأولى: أن تحيل إلى الأصل، فتقول له: إن الجهاد وتعدد الزوجات والحجاب وما على شاكلة هذه القضايا؛ جزء من دين الإسلام، وبدلاً من أن نناقش هذه النقاط ينبغي أن نرجع للأصل، وهو الإسلام، فنتجادل فيه، فإذا اقتنعت بالإسلام، فحينئذ -من باب أولى- أن تقتنع بهذه الأمور، ولا حاجة أن نتجادل فيها، وإذا لم تقتنع بالإسلام، فنقاشي معك في هذه الجزئية يعتبر نوعًا من العبث الذي لا طائل تحته.
- الثانية: يمكنك أن تناقشه بالحجج المنطقية، في نفس الجزئيات التي يجادل حولها.
فمثلاً: إذا تكلم عن تعدد الزوجات، فيمكن أن تجادله في هذا الموضوع بأن تخبره أنه من الثابت علميًّا أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وفي (أمريكا) نفسها تصل -أحيانًا- نسبة النساء إلى الرجال مائة وتسعة عشر إلى مائة، وأحيانًا مائة وستين إلى مائة؛ فستون امرأة زيادة على المائة، لمن تكون؟!
فإذا لم نأذن للرجال بتعدد الزوجات، فذلك يعني أن هؤلاء النساء بقين ضائعات بلا أزواج، أو اضطررن إلى ممارسة البغاء والرذيلة، فتعدد الزوجات ضرورة لابد منها؛ لأن نسبة الإناث في أكثر المجتمعات أكثر من نسبة الرجال.(1/53)
وهكذا، عندما تثبت لهذا الكافر حالات وأوضاعًا يكون تعدد الزوجات فيها أمرًا سائغًا؛ فربما آمن بالإسلام من خلال اقتناعه بهذه الحجج.
وقد بسط القول في الرد على هذه الشبهات الأستاذ محمد قطب في كتابه "شبهات حول الإسلام" بما لا يدع حاجة إلى أن نطيل فيه الآن.
القاعدة الثالثة: الاتفاق على أصل يُرجع إليه:
يجب الاتفاق على أصل يرجع إليه المتحاورون إذا وُجد الخلاف، واحتدم النقاش، وذلك كالاتفاق على الرجوع عند الاختلاف إلى القرآن الكريم، وإلى صحيح السنة، وإلى القواعد الثابتة المستقرة، أو إلى ما كان عليه السلف الصالح -رضي الله عنهم-، المهم أن نتفق على أمور تكون مرجعًا عند الخلاف.
وقد وقعت حادثة حدثني بها جماعة من العلماء منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، والشيخ عبد الله بن قعود، أن جماعة من الشيعة كتبوا إلى مفتي الديار السعودية السابق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، يطلبون منه أن يعقد مجلسًا للحوار معهم، فَهَمَّ الشيخ محمد بن إبراهيم أن يهمل هذا الطلب وألا يرُد عليهم، فأشار عليه الشيخ عبد الرزَّاق عفيفي بأن هذا الأمر ما دام جاء منهم فينبغي ألا يُهمل؛ لأنهم قد يعتبرون عدم إجابتنا على طلبهم نوعًا من النكول عن المناظرة أو ضعف الحجة.
فالأولى أن نكتب لهم بالموافقة على المناظرة شريطة أن يكون هناك أصلٌ نرجع إليه، ويكون هذا الأصل هو القرآن الكريم، وصحيحي البخاري ومسلم، فكتب لهم الشيخ رحمه الله بهذا المضمون، أنه لا مانع من إجراء الحوار والمناقشة، شريطة أن نرجع في الاختلاف إلى القرآن الكريم، وصحيحي البخاري ومسلم، فلم يرُدوا عليه، ولم يجيبوه إلى ما سأل.
وهذا يبرز أهمية تحديد أصل يُرجع إليه عند الخلاف.
________________________________________
المبحث الرابع
صفات المحاور
أولاً: جودة الإلقاء، وحسن العرض، وسلاسة العبارة:(1/54)
وقد كان ذلك من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدِّث حديثًا لو شاء العادُّ أن يحصيه لأحصاه،لم يكن يسرد الحديث كسردكم"(8).
فعلى المحاور أن يكون هادئًا سلسًا، جيد الإلقاء.
ثانيًا: حسن التصور:
والمقصود من حسن التصور، ألاَّ تكون الأفكار عند المتحدث مشوشة أو متداخلة أو متضاربة، فبعض الناس -لضعف تصوره- ربما يطرح فكرة أثناء النقاش، وبعدما ينتصف في شرحها يتبيَّن له أنها غير صالحة، ولا تخدم الغرض، فينتبه في منتصف الطريق بعدما يكون قد تورَّط في ذلك.
ثالثًا: ترتيب الأفكار:
فالقدرة على ترتيب الأفكار،وتسلسلها، وارتباط بعضها ببعض وعدم تداخلها، أو اضطرابها، مما يثبت حجة المحاور ويقويها.
رابعًا: العلم:
ينبغي أن يكون المحاور ذا علم وقوة وقدرة، فإن بعض المحاورين قد يخذل الحق بضعف علمه، فرغم أن الحق معه، إلا أنه لم يدعمه بالعلم القوي، فيضع نفسه في غير موضعه.
لذلك فليس كل إنسان مهيأ للحوار، حتى وإن كان صاحب حق، فإنه ربما حاور بهدف نصر الحق فيخذل الحق؛ لضعف علمه وبصيرته، وربما حاور بجهل فيقتنع بالباطل الذي مع خصمه، وربما احتج بحجج باطلة، مثلما يحدث في بعض المناظرات والمحاورات التي تعقد، فلا يقتنع الناس بالحق الذي يحمله.
خامسًا: الفهم مع العلم:
لابد من الفهم وقوة العقل؛ ليدرك المتحدث حجج الخصم، ويتمكن من فهمها، ويعرف نقاط الضعف والقوة فيها، فيقبل ما فيها من حق، ويرد ما فيها من باطل.
سادسًا: الإخلاص:
فينبغي التجرد في طلب الحق وتوصيله إلى الآخرين، بحيث لا يكون همُّ المرء الانتصار لرأيه، وإنما همه طلب الحق وإيصاله للآخرين.
سابعًا: التواضع:
فالتواضع أثناء المناقشة، أو بعد الانتصار على الخصم، من أهم ما ينبغي أن يتحلى به المحاور.
________________________________________
المبحث الخامس
آفات في الحوار(1/55)
أما الحوار القائم بين كثير من المسلمين بعضهم مع بعض، ففيه عيوب وأخطاء نذكر منها :
أولاً: رفع الصوت:
فكأن الإنسان في غابة تتهارش فيها السباع، ومن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب، فيرى أن انتصاره في الحوار لن يكون إلا عن طريق مبالغته في رفع الصوت على خصمه، والله تعالى يقول: (إِنَّ أَنْكَرَ الأََصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19].
ثانيًا: أخذ زمام الحديث بالقوة:
وذلك لئلا تدع للخصم فرصة يتحدث فيها، فيهدم بناءك الهش، أو يحطِّم حججك الزجاجية، أو يثير البلبلة في نفوس الناس.
وكأننا في ذلك قد أخذنا بمبدأ الكلمة التي قالها (دايل كارنيجي) في كتابه: "كيف تؤثر في الناس وتكسب الأصدقاء"؛ إذ قال: إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك وتتركهم، فإليك الوصفة: لا تعط أحدًا فرصة للحديث، تكلم بدون انقطاع، وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث، فلا تنتظر حتى يتم حديثه، فهو ليس ذكيًّا مثلك! فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض في منتصف كلامه، واطرح ما لديك.
ثالثًا: تهويل مقالة الطرف الآخر:
إن البعض يهوِّلون أقوال الآخرين، ويحمِّلون كلامهم من الضخامة ما لا يخطر إلا في نفوس مرضى القلوب، لماذا؟ لئلا يتجرأ أحد على القول بمثل ما قالوا، أو نصرة ما ذهبوا إليه.
فيحاول المحاور -أحيانًا- أن يحيط القول المردود بهالة رهيبة فيقول: هذا القول كفر، وهذا فسق، وهذا بدعة، وهذا خرق للإجماع، وهذا مصادمة للنصوص الشرعية، وهذا اتهام للعلماء، وهذا قول حادث باطل لم يسبق إليه...، ويظل يهوِّل ويطول ويضخم العبارات، بحيث يشعر السامع أنه قول خطير، يجب البعد عنه، وعدم التورط في قبوله، أو الاقتناع بحجة من تكلم به.
وقد لا يكون القول كذلك.(1/56)
نحن لا ننكر أن من الأقوال ما يكون كفرًا أو فسقًا أو بدعة، ومنها ما يكون مصادمة للنص، أو قولاً حادثًا لم يسبق إليه صاحبه، لكن هذه الأشياء كلها لابد حين يقولها الإنسان أن يثبتها بالدليل الواضح، أما مجرد إطلاق دعاوى فارغة في الهواء، فهذا لا يسمن ولا يغني من جوع.
رابعًا: الاعتداء في وصف الطرف الآخر:
فتصفه بما لا يليق من الأوصاف؛ تأديبًا له وردعًا لأمثاله، فتقول: هذا جاهل سخيف حقير متسرع، وأضعف الإيمان أن تصفه بأنه ليس أهلاً لهذا الأمر.
ولا يكفي هذا فحسب؛ بل لابد من كشف نية هذا الإنسان، فتتهمه بفساد نيته، وسوء طويته، وخبث مقصده؛ بل قد تتهمه بأنه عدو مغرض للإسلام، أو محارب للسنة وأهلها، له أهداف بعيدة من وراء مقالته تلك، أو بأنه عميل للشرق أو الغرب، أو لقوى خارجية أو داخلية...
ونحن لا ننكر -أيضًا- أن من الناس من هو سيء النية والطويَّة خبيث المقصد، ومنهم من هو عدو للإسلام أو السنة؛ بل ومنهم من هو عميل للشرق أو الغرب، أو لقوى بعيدة أو قريبة، لكن حين تُطلق هذه الأشياء، فلابد من الدليل الواضح عليها، ولا يجوز أن نصادر عقولنا، ويُطلب منا أن نقتنع بشيء لم يُسَق عليه أي دليل.
فليس مقصود الحوار تناول شخص بعينه، اللهم إلا إن كان موضوع الحوار أو نقطة الحوار -أصلاً- هي الكلام عن هذا الشخص، فهذا باب آخر.
________________________________________
المبحث السادس
آداب الحوار الصحيح
إن آداب الحوار الصحيح، هي بإيجاز:
أولاً: حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق .
والله تعالى يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.(1/57)
ضع في اعتبارك أنه يحتمل أن يكون الخطأ عندك والصواب عند غيرك، فالله تعالى لم يحابك، ويختصك دون بقية خلقه بالعلم والفهم والإدراك والعقل، فإذا كان عندك حق، فعند غيرك حق، وقد يكون عندك حق كثير، وعنده حق قليل، وقد يكون العكس.
فعلى المسلم أن يطلب الحق بحسن نية، وألا يكون هدفه وهو يسمع كلام خصمه أن يرد عليه متى سكت؛ بل هدفه الوصول إلى الحقيقة، ولهذا كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه"(9).
وهذه -والله- أخلاق أتباع الأنبياء؛ لأنه يبتغي إحقاق الحق لا إسقاط الخصم .
ثانيًا: التواضع بالقول والفعل:
من آداب الحوار: التواضع، وتجنُّب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.
فبعض الناس إذا حاور شخصًا أو حادثه أعرض ونأى بجانبه، وازورَّ لا يلتفت إلى خصمه، إشارة إلى السخرية وعدم الاكتراث به، وربما ظهر على قسمات وجهه أو حركات حاجبيه أو عينيه أو شفتيه ما يدل على السخرية والاستكبار، وربما يزم شفتيه، أو يلوي وجهه، أو يلوي عنقه، أو يشير بطرف عينيه إشارات تعبر عن السخرية والازدراء، فهذا كله من الكبر.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الكبر بطر الحق وغمط الناس"(10).
فمن التواضع أن تقبل الحق ممن جاء به حتى ولو كان أعدى أعدائك، وتعدّ ذلك ضالتك المنشودة، فأنت باحث عن الحقيقة أنىَّ وجدتها فأنت أحق بها.
ومن التواضع -أيضًا- ترك استخدام الألفاظ الدالة على التعالي والكبرياء، وازدراء ما عند الآخرين، كأن يقول: نرى كذا، وعندي، وأنا، وقلت، ونحو هذه الألفاظ.(1/58)
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم أن إبليس هو الذي قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ) [الأعراف:12]، فـ(أنا) هذه المتعاظمة الرادة للحق هي من إبليس، وقارون هو الذي قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]، فالذي يقول: عندي، وهو ليس أهلاً لذلك شبيه بقارون، وسائر المستكبرين تعاظموا في نفوسهم فردُّوا الحق.
ثالثًا: الإصغاء وحسن الاستماع:
الإصغاء إلى الآخرين فن قَلَّ من يجيده، فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع، والله سبحانه وتعالى جعل لك لسانًا واحدًا، وجعل لك أذنين حتى تسمع أكثر مما تتكلم، فلابد أن تستمع جيدًا، وأن تستوعب جيدًا ما يقوله الآخرون.
ووضع أذنك للمحدِّث، وحملقة عينيك بوجهه، وتأملك لما قال، يمكن أن يكون دليلاً على قوتك، وقدرتك على الحوار، وإذا وجدت ملاحظات، فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث فيها بعدما ينتهي من حديثه.
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدَّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. فتكلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من القرآن(11).
رابعًا: الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.
جرِّد نفسك، ولا تبالِ بالناس رضوا أم سخطوا، وكن باحثًا عن الحقيقة، وليعلم ربك من قلبك أنه ليس في قلبك إلا محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الحق الذي يحبه الله ورسوله.
فلتستخلص الحق من خصمك، ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به.(1/59)
وربما أجرى الله تعالى كلمة الحق على لسان الفاسق، أو حتى على لسان الكافر -أحيانًا-، فيمكن أن تستفيد من المحاور ولو كان فاسقًا أو كافرًا، فقد تستفيد منه عيبًا موجودًا عندك أو عند المسلمين، أو تستفيد منه مصلحة دنيوية للمسلمين، أو أسلوبًا من أساليب الدعوة إلى الله تعالى، ربما فطن له هو، وغفلت أنت عنه.
وللشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله كلمة حكيمة جميلة، يقول فيها معبِّرًا عن رد الحق عند الكثيرين: "إن الذين لديهم ذكاء حاد لا يقبلون الصواب غالبًا إلا إذا كان من عند أنفسهم؛ وذلك أن الله تعالى أعطاهم قدرات وطاقات عالية، وُفِّقوا بسببها إلى كثير من الحق الذي أخطأ فيه الناس؛ ولذلك فلديهم من الثقة بآرائهم وعدم الثقة بآراء الآخرين، ما يصعب معه على الناس إقناعهم بغير الآراء التي يرون هم".
إن الاعتراف بالحق وإعلانه -أيضًا- لا ينقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول في مناظرة أو محاورة أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا، هذا لا يعيبك؛ بل هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدل على شجاعتك وقوتك، وثقتك بنفسك.
خامسًا: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.
فممَّا يذكر عن سقراط -وهو أحد حكماء اليونان-، أنه كان يبدأ مع خصمه بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم أن يجيبه عليها إلا بنعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الآخر، حتى يرى المناظر أنه أصبح يُقر بفكرة كان يرفضها من قبل.
وأضرب مثالاً على قضية الانتقال من الكليات إلى الجزئيات، أو من المسلَّمات إلى غير المسلمات:(1/60)
قد يخاصمك إنسان في قضية أساليب الدعوة إلى الله تعالى، هل هي توقيفية، أي لابد أن يكون فيه نص على أسلوب الدعوة؟ أم أنها أساليب اجتهادية متجددة، يمكن أن آخذ بأي أسلوب، ولو لم يكن منصوصًا عليه، إذا لم يكن هذا الأسلوب حرامًا؟
مثال: النشيد، قد يقول قائل: إن النشيد أسلوب من أساليب الدعوة، ويقول آخر: لا. أساليب الدعوة توقيفية، والنشيد ما ورد في الكتاب ولا في السنة، فلا يجوز استخدام النشيد كأسلوب من أساليب الدعوة، وهذا يختلف فيه بعض العلماء والدعاة في هذا العصر، ويتحاورون فيه.
والنقاش حول مشروعية النشيد كأسلوب للدعوة، قد يكون موضوعًا جزئيًّا شكليًّا، ولكن لا مانع من ذكره للإيضاح فقط، فأرى أن تبدأ النقاش بهذا السؤال: لو أن إنسانًا أنشد نشيدًا ليس فيه معصية ولا كلام باطل محرم، وغير مصحوب بدف ولا مزمار ولا غيره، وهذا الكلام أنشده على سبيل الترويح عن النفس، أو المؤانسة، أو قطع عناء الطريق في سفر؛ هل هذا يحرم أم لا؟
سيقول لك الطرف الآخر: لا يحرم؛ بل هو طيب، ثم تنتقل وتسأله سؤالاً آخر: هل يوجد شيء في الشريعة يكون مباحًا غير حرام بشرط عدم إصلاح النية فيه، فإذا صلحت النية كان هذا الشيء حرامًا ؟ سيقول لك: لا.
إذًا: فمن أين لك أن قراءة بعض الأناشيد بنية صالحة؛ بهدف إشغال الناس -مثلاً- عن الغناء المحرم، أو رفع معنوياتهم، أو تلقينهم الحكم، والمعاني الرفيعة؛ أن هذا العمل يكون حرامًا؟!
قد يقول البعض: إن هذا عبادة والعبادة توقيفية، فيقال: من أين لك أن هذا داخل في باب العبادة التي هي القربى؟
إن العبادة أنواع: فقد تطلق العبادة على العبادات التوقيفية، التي هي القرب كالصلاة -مثلاً- والحج، فإحداث صفة جديدة للصلاة أو الحج لا يجوز؛ بل هو بدعة؛ لأن الصلاة توقيفية، وهي قُربة محضة إلى الله تعالى.(1/61)
وهناك أعمال أخرى يمكن أن يكون الإنسان مأجورًا عليها، ولا يُطلق عليها أنها قربة محضة إلى الله تعالى، مثلما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وفي بُضع أحدكم صدقة"(12)، فليس معنى ذلك أن جماع الإنسان لزوجته يكون عبادة بذاته، وليس قربة محضة إلى الله عز وجل، لكن يؤجر عليه الإنسان ما دام في الحلال، وقد أصلح صاحبه فيه النية.
كذلك القول في الأناشيد، مع التنبيه أنه لابد من ضوابط بطبيعة الحال، مثل: عدم الإكثار منها، وخلوها من المعاني السيئة، وألا تكون مصحوبة بآلات محرمة، إلى غير ذلك.
سادسًا: ترك التعصب لغير الحق:
فلو حاورت إنسانًا، فتناول معهدًا تعمل فيه، أو مقالة كتبتها، أو كتابًا ألَّفته، أو محاضرة ألقيتها، أو تناول جهة -تُحسب أنت عليها- بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء، فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي وتنتسب إليه، ثم تبادر بالرد، وتقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء، والسلبيات..، لا؛ بل عليك بالأمور التالية:
- أولاً: دع زمام الحديث بيده حتى ينتهي -كما اتفقنا قبل قليل-.
- ثانيًا: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه، والحق ضالة المؤمن -كما سبق-.
- ثالثًا: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية، بعيدة عن العواطف.
وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب -أي لون من ألوان التعصب-؛ فإن الحزبيات قد أثَّرت في المسلمين تأثيرًا كبيرًا جدًّا.
فمثلاً: يتعصب الإنسان -أحيانًا- لمذهب أو لوطن، أو قبيلة، أو لدعوة، أو لجماعة، فهذا ما يُسمى بالحزبية، بحيث يحيط هذا الشيء بعقله، فلا يملك عقلاً متحررًا من القيود والأوهام؛ بل تجده يدور في فلك معين، ولا يستطيع أن يتقبل الحق إلا في إطار محدود.
سابعًا: احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم.(1/62)
فيا أخي المسلم الداعية، ليس النجاح في الحوار والمناظرة مرهونًا بإسقاطك لشخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة؛ بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على إفلاسك وعجزك، وأنك لا تملك الحجة؛ فاشتغلت بالمتكلِّم عن الكلام.
والناس اليوم تعي وتعقل، ولو أنك سندت قولاً من الأقوال الباطلة الزائفة حينًا من الزمن بالتهويش، واللجاج، فإن هذا القول الذي لا يسنده الحق سرعان ما ينهار ويتهاوى بمجرد غفلة السَّاعين به، أو انشغالهم عنه بغيره، فيموت وينساه الناس.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"(13)، فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم، ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"(14)، فهذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن، أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.(1/63)
ومن بديع احترام رأي الآخرين، ما ينقل عن الإمام مالك: أنه لمَّا ألَّف الموطأ، ومكث أربعين سنة يؤلفه، وقرئ عليه آلاف المرات، وعرضه على سبعين من العلماء فأقروه عليه، وتعب فيه أيما تعب، ومع ذلك لمَّا بلغ الخليفة المنصور كتاب مالك وأعجبه، وقال: إنا نريد أن نعممه على الأمصار، ونأمرهم باتباعه؛ قال له الإمام مالك: "لا تفعل -رحمك الله-، فإن الناس سبقت منهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وما أتوا به، وعملوا بذلك ودانوا به وكل ذلك من اختلاف أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ثم من بعدهم من التابعين، ورد الناس عما اعتقدوه ودانوا به أمر صعب شديد، فدع الناس وما هم عليه، ودع أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم"(15).
فلا حاجة إلى اللجوء إلى تبكيت الشخص الذي تخاصمه وإحراجه والسخرية منه .
ثامنًا: الموضوعية:
الموضوعية تعني: رعاية الموضوع، وعدم الخروج عنه.
- فمن الموضوعية: عدم الهروب من الموضوع الأساسي إلى غيره. إن بعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع، وكلما أُحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها، ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة.
ولعل هذا أعظم أدواء المناظرة، التي تجعل الإنسان يخرج منها -ربما بعد ساعات- دون طائل، والموضوع يقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها، ثم تنتقل إلى غيرها.
-كذلك من الموضوعية: عدم إدخال موضوع في آخر، فقد تتكلم مع إنسان في قضية حجاب المرأة المسلمة، وضرورة التزامها بالستر، وبُعدها عن السفور، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، أو الذهاب إلى أماكن اللهو والفساد وغير ذلك، فتجد أنه بدلاً من أن يناقشك في هذا الموضوع يقول: يا أخي، الناس قد وصلوا إلى القمر، وأنت لازلت تجادل في هذا الموضوع!(1/64)
فما علاقة وصول الناس إلى القمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة؟! أليس هذا إدخالاً لموضوع في قضية أخرى لا يتعلق بها؟
وقد تُكلِّم إنسانًا -مثلاً- في قضية الغناء الفاحش البذيء، الذي أصبح يصك الأسماع، ويهيِّج الغرائز، ويدعو إلى الرذيلة، فيقول لك: يا أخي، المسلمون يُقتلون في مشارق البلاد ومغاربها، وتسفك دماؤهم، وتنتهك أعراضهم، وأنت لازلت تتكلم في هذه الجزئيات؟!
فما دمنا قد اتفقنا أن موضوع الغناء هو مادة الحوار الذي سيناقَش، فما دخل قضية قتل المسلمين بذلك؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة، ستُحل مشاكل المسلمين، ويُرفع الظلم عن المظلومين؟!
-كذلك من الموضوعية: عدم النيل من المتحدث باتهامه في نيته أو الكلام على شخصه، فبعض الناس يقول: من هذا الإنسان؟ ما هدفه؟ ما تاريخه؟ من وراءه؟ ما درجته من العلم؟ ما قدره؟
فيا أخي، ما علاقتك بهذا الشخص المتكلِّم؟ المهم أن أمامك دعوى وكلامًا ومطلوب منك مناقشته بالحجة والبرهان، فدع المتكلم جانبًا، وانظر في الكلام الذي قيل، وما قدره من الخطأ أو من الصواب؟
اعمل بقولي وإن قصرت في عملي *** ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري(16)
-كذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله سبحانه وتعالى ذمَّ الذين يكثرون من اليمين: قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ.هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:10-13]، فهذا دعيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم، وملصق في قومه وليس منهم، ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة، أو قد لا تكون كاذبة لكن اليمين ليس حجة، فكونك تحلف بالله العظيم الذي لا إله إلا هو أن هذا هو الحق، فهذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر.(1/65)
قد تكون مقتنعًا فعلاً أنه هو الحق، لكن قناعتك هذه ليست نابعة من دراستك، أو معرفتك بالحجج والأدلة؛ ولكنها نابعة عما تلقيته عن شيخ تعظمه فوقر في قلبك، أو درسته منذ صغرك فاستقر في قراره في نفسك، وليس لأن لديك دليلاً قويًّا على أنه هو الحق.
وفرق بين أن تكون مقتنعًا قناعة مطلقة بأنه هو الحق، فتحلف على ذلك، فإذا حلفتَ أنت عرفتُ أنك تعتقد أنه هو الحق، ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق، فقد تراه حقًّا وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.
-كذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث، فإن المناظر قد يكذب أحيانًا، فقد سمعت مرة مناظرة بين اثنين في قضية أحدهما شيعي، فقام الشيعي وقال: روى الإمام أحمد في مسنده، وذكر حديثًا موضوعًا مختلقًا، وهذا الحديث إذا رجعت للجزء والصفحة من المسند، لا تجده، لكنه يعرف أن الخصم ليس عنده وقت حتى يرجع للمسند، ويتأكد من صحة الحديث، ومن البعيد جدًّا أن يكون قد أحاط بمسند الإمام أحمد حتى يعرف ما فيه، مما ليس فيه، فيستغل حديثًا مختلقًا ليضر به الخصم، وينسبه إلى كتاب من هذه الكتب، وربما ينطلي عليه.
فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشفه الخصم حال المناقشة فسيكتشفه فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذبًا فيما ادعيت.
ومثل الكذب وأخوه بتر النصوص، وهو أن تنقل نصًّا طويلاً، فتجتزئ الكلام الذي يصلح لك، ويدل على ما تريد، وتترك الباقي، فهذا ليس من الأمانة؛ بل عليك أن تنقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقرُّوك، وإما أن يخالفوك في الفهم.(1/66)
ثم إن هذا الكلام أيضًا قد يقوله الإنسان ولا يُدرى كل ما وراءه، فالكلام يُفهم من حال المتكلم، ومن سياقه، ومن نصوصه الأخرى، ومن سيرة قائله، كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه: أن كلام الناس -يعني كلام البشر- يفهم على ضوء الشخص المتكلم، وظروفه، وما يُعلم عن المتكلم وأحواله، فإذا صدر كلام من شخص يحتمل أكثر من معنى عرفنا أن الذي يليق بفلان من المعاني هو كيت، وكيت، وإن كان الكلام يحتمل غيره؛ لأن كلام الناس يحتمل وجوهًا.
-كما أن من الموضوعية: إذا لم تعرف مسألة ما أن تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري، أصيبت مقاتله، كما كان السلف يقولون: ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه قول: "لا أدري"؛ حتى يلجؤوا إليها فيما لا يعلمون .
- ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، يعني إذا استدللت فلا تستدل بشائعات أو ظنون أو أوهام استقرت في عقلك أو في عقل من أمامك من الناس؛ بل استدل بالنصوص، والأدلة الواضحة؛ والبراهين الثابتة، والإحصاءات الدقيقة، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وبراهين العلماء، تستدل بحقائق علمية، وتوثِّق ما تقول، أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات، فإنها لا تصلح أدلة.
تاسعًا: عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
فإذا خالف إنسان أحد العلماء في قول، تأتي فتقول له: يا أخي، أنت خالفت فلانًا العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى نفسك أعلم منه.
وهذا غير صحيح، فلا يلزم من قوله وخلافه للعالم الفلاني ذلك، فقد يخالفه في هذه المسألة باجتهاده، وهو يعرف أن هذا العالم أعلم منه في كل المسائل، لكن هذه المسألة لا يسعه أن يقلده فيها، كما لا يلزم من مخالفته له أن أن يخطِّئه أو يضلِّله .
كذلك يأتي إنسان فيقول: فلان قال قولاً ما سُبق إليه، وهذا يلزم منه أنه يحكم بأن الحق قد غاب عن الأمة كلها طيلة القرون الماضية.. والصحيح أنه لا يلزم ذلك.(1/67)
وقد يكون هذا القول قد سُبق إليه، وقال به غيره من قبل، وعلى فرض أنه ما قال به أحد قبله، فقد يحدث أنه لم ينقل مع كونه قد قيل من قبل.
وحتى لو فُرض أنه لم يُسبق إليه، فهو لا يرى أن هذا من الحق الذي يجب أن تعلمه الأمة في كل زمان ومكان؛ بل يرى أن هذا من الأشياء الاجتهادية التي قد يقول بها إنسان، وربما تحتاجها الأمة أو لا تحتاجها، فليس فرضًا أن تعلمه الأمة في كل حين وكل زمن وكل مكان، أو أن يقول به من قال به، وقد يرى أن المسألة ما نقل فيها قول -أصلاً-.
والإلزام -بأن تلزم إنسانًا بمقتضى كلامه- من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الإلزام، يعني: يلزم من هذا النص كذا وكذا.
فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا اللازم، ولا فكَّر فيه يومًا من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
ولذلك من باطل اللوازم أن أبا نواس الشاعر الماجن المشهور حاول أن يستخدم هذا الإلزام بطريقة ماجنة، فكان أهل العراق الأحناف يقولون بجواز النبيذ، وأهل الحجاز يقولون بتحريمه مثل الخمر، فيقولون النبيذ والخمر سواء، فكان هذا الشاعر الماجن الخبيث يقول:
أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال: الحرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد *** فحل لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما *** وأشربها لا فارق الوازر الوزر(1/68)
ولا شك أن من قال بحل الخمر فهو كافر؛ لأن تحريمها ثابت بنص القرآن الكريم، قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأََنْصَابُ وَالأََزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) [المائدة:90]، لكني أردت أن أبيِّن فساد الالتزامات والإلزامات التي يختلقها البعض ويحاول أن يحاصر بها الآخرين.
عاشرًا: اعتدال الصوت:
لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ، حيث الصخور والمياه الضحلة، وحيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: "الماء العميق أهدأ".
________________________________________
المبحث السابع
أمثلة من الحوارات
حوار بين إسحق والشافعي:
هذا حوار جرى بين إسحاق بن راهويه رحمه الله -إمام من أئمة أهل الحديث- وبين الشافعي.
يقول إسحاق: إن الإمام أحمد لمَّا كان في مكة، قال: لماذا لا تذهب للشافعي وتستفيد منه؟ قلت له: كيف أترك ابن عيينة والمشايخ وأذهب إلى الإمام الشافعي؟ قال له: يفوت وهم لا يفوتون.
قال: فذهبنا إليه فتناظرنا في كراء(17) بيوت مكة، هل تكرى، أو لا تكرى؟ قال: فتكلمت مع الشافعي وتحمست؛ ولكن الشافعي كان متساهلاً، فتكلَّمت بالفارسية مع رجل جانبي، وذكر كلمة بالفارسية معناها: هذا ليس عنده كمال -يعني الشافعي-، قال: فعلم الشافعي أني أسبه، وإن كان لا يجيد اللغة، فقال: هل تريد أن تناظرني؟ قلت: من أجل المناظرة جئت!(1/69)
قال: أرأيت قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحشر:8]، أليس الله نسب الديار إلى أربابها، أو إلى غير أربابها؟ قال: قلت: بل إلى أربابها، قال: عمر لما اشترى دار السجن بمكة(18)، اشتراها من إنسان يملكها، أو لا يملكها؟ قلت: ممن يملكها، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور"(19) الدور لهم، أو ليست لهم؟ قلت: لهم.
قال إسحاق: فقلت: الدليل على صحة قولي أنه قال به من التابعين فلان وفلان وفلان، قال: فالتفت الشافعي إلى رجل بجنبه وقال: من هذا؟ قال له: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟!، قلت: هكذا يزعمون! قال: ما أحوجني أن يكون غيرك في مكانك فآمر بعرك أذنه، -هذا أدب يؤدب به الطالب الصغير-، قال: أقول لك: قال الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت تقول: قال: عطاء وطاوس والحسن وإبراهيم؟! وهل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟ (20).
ومثلها قصة أخرى طريفة جرت بحضرة الإمام أحمد، وذلك أن الشافعي وإسحاق تناظرا -أيضًا- في جلود الميتة إذا دُبغت هل تطهر، أو لا تطهر؟ فقال الشافعي: دباغ جلود الميتة طهورها، فإذا دُبغ جلد الميتة طهر، قال إسحاق: ما الدليل؟ قال: الدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد شاة ميتة، أُعطيَتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها؟"، قالوا: إنها ميتة، فقال: "إنما حَرُم أكلها"(21).(1/70)
قال إسحاق: دليلي على أن جلود الميتة لا تطهر: حديث عبد الله بن عكيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم قبل أن يموت بشهر: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"(22) يعني لا بجلد، ولا بعظم، وهذا يمكن أن يكون ناسخًا؛ لأنه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر، قال الشافعي: هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وذاك سماع، والسماع مقدَّم، فقال له إسحاق: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وكان ذلك حجة عليهم عند الله تعالى، فسكت الشافعي.
والغريب في الأمر أن أحمد بن حنبل ذهب بعد تلك المناظرة إلى حديث عبد الله بن عكيم وقال به، ثم رجع عنه فيما بعد، وكذلك رجع إسحاق إلى حديث الشافعي وقال به(23)، وهذا دليل على تجردهم، وسعيهم للوصول إلى الحق.
حوار بين أبي علي بن شاذان وشيعي(24):
ومن طرائف المناظرات: أن أبا علي بن شاذان -وهو فقيه وعالم، ولكنه كان ضعيفًا في النحو- ناظر أحد الشيعة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورَث، ما تركنا صدقة"(25).
فقال أبو علي بن شاذان: هذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث، فرد ذلك الشيعي: إن لفظة "صدقة" الواردة في الحديث حال منصوب، والمعنى: أن ما تركناه -نحن الأنبياء- من الصدقات، فإنه لا يورث، أما بقية مالنا مما لم نخصصه للصدقة، فإنه يورث.
فقال أبو علي بن شاذان: أنا -والله- ما أعرف اللغة، ولا النحو، ولا المرفوع والمنصوب، والفاعل والمفعول، لكني أعرف شيئًا، وهو أن هذا الحديث احتج به أبو بكر رضي الله عنه -وهو عربي فصيح- على علي بن أبي طالب، وعلى العباس بن عبد المطلب، وعلى فاطمة -رضي الله عنها وعنهم أجمعين-، فكلهم أقروا أبا بكر على ذلك وسكتوا، ولم يقولوا بالذي قلتَه أنت.(1/71)
فدل على أنهم -وهم عرب فصحاء- فهموا من الكلام -مثلما فهم أبو بكر-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بهذا الحديث أن الأنبياء لا يورثون(26).
احصل على نسخة من الكتاب
________________________________________
الهوامش :
(1) أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت بتاريخ 7/4/1412هـ.
(2) تراجع أسباب الخلاف في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية، وانظر: رسالة "الخلاف بين العلماء.. أسبابه وموقفنا منه" للمؤلف.
(3) انظر : البداية والنهاية (7/276-285)، وشذرات الذهب (1/46، 47)
(4) انظر قصة صلح الحديبية في: صحيح البخاري (2734) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه، وصحيح مسلم (1784) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5) أخرج القصة عبد الرزاق في مصنفه (18678)، وأحمد في المسند (3187)، وابنه عبد الله بن أحمد في السنة (1539)، والحاكم في المستدرك (2656)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم.اهـ. وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى (8/179) من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه.
(6) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5/358).
(7) انظر: تفسير الطبري (12/79،80)، وتفسير القرطبي (9/72).
(8) أخرجه البخاري (3568)، ومسلم (2493)، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(9) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/118)، وانظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (1/172).
(10) أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(11) رواه ابن هشام في السيرة (2/131) من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربعية قال.. اهـ. محمد بن كعب القرظي ثقة عالم من الطبقة الوسطى من التابعين. فالحديث مرسل.
(12) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(1/72)
(13) أخرجه ابن أبي شيبة (30338)، وأحمد (3839)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، والترمذي (1977)، وابن أبي عاصم في السنة (1014)، والبزار (1523)، وأبو يعلى (5369)، والطبراني في الكبير (10/206)، وفي الأوسط (1814)، وابن حبان (192)، والحاكم (29)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.اهـ. وقال الحاكم: حديث صحيح.اهـ. وقد صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (5381).
(14) أخرجه البخاري (3559)، ومسلم (2321)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(15) سير أعلام النبلاء (8/61).
(16) جمهرة خطب العرب (2/277).
(17) الكِراء: أجر المستأجَر. المعجم الوسيط (2/817).
(18) قصة شراء عمر لدار السجن أخرجها عبد الرزاق في المصنف (9213)، والفاكهي في أخبار مكة (2076)، والبيهقي في الكبرى (10962).
(19) أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(20) انظر القصة بتمامها: في طبقات الشافعية الكبرى (2/90،89).
(21) أخرجه البخاري (1492)، ومسلم (363)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(22) أخرجه أبو داود (4124)، والترمذي (1729)، والنسائي (4249)، وابن ماجه (3613)، من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن.اهـ.
(23) انظر القصة بتمامها: في طبقات الشافعية الكبرى (2/92،91)
(24) هو أبو عبد الله المعلم، إمام الإمامية.
(25) أخرجه البخاري (3093)، ومسلم (1759)، من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
(26) انظر: تنوير الحوالك للسيوطي (1/257).
ـــــــــــــــ(1/73)
الحوار .. طرق وأفكار
كانت هناك محاولة في كتابة بعض الأفكار في الحوار والمناقشات ولأهمية مناقشة الموضوع من حيث الموافقة والمخالفة والإضافة ننقلها هنا:
وسائل الحوار
عندما دخلت المنتديات ما كنت أظن أن هناك من يجادل في أمور أساسية من الدين .. لم أكن أظن أني سأرى مجموعة من التافهين يسخرون بكل شيء حتى بأوامر الدين بل بكتاب رب العالمين .. أكبر مناقشة كانت لي قبل الإنترنت تعد من صغائر المناقشات في بعض المنتديات .. وقفت وقفة تأمل مع هذه المناقشات وبعض المنتديات وبعد النظر فترة في أساليب المتناقشين والمتناظرين ووسائلهم والفوضوية في بعض الأحيان في التعامل مع الملحدين.. ونظرا لأهمية الموضوع في الإنترنت وكثرة المنحرفين وكثرة الحوارات ؛ بدأت يوم أمس بكتابة هذه الكلمات ثم أتممتها بعد صلاة الفجر لهذا اليوم والتي أرجو أن تكون نافعة لي ألوا ولإخواني وأرجو إن كان فيها بعض الملاحظات أن تتمم وأن تصحح والله المستعان والموفق للخير ..
واعتذر أشد الاعتذار إذا لوحظ بعض الأخطاء الإملائية وأخطاء الصياغة أو عدم ترتيب وذلك لأنها كتبت على عجالة شديدة وبين انشغالات وانقطاعات .. وأكرر لمن رأى نقصا أو ملاحظة أو خطأ أو أي أمر لا يوافقه أن يثير المناقشة حول ما يراه من هذه النقاط ..
________________________________________
وسائل الحوار للمناقش المسلم :
1- الإخلاص لله تعالى والدعاء الدائم بنصرة الحق ونصرة الدين والتوفيق للوصول للحق .
2- الابتعاد عن المنتديات و أماكن المحاورات التي تعج بالإلحاد والفتن والغوغائيين فالهجر هو الأسلوب الأمثل لمثلهم والأسلم لمثلنا .
3- إذا كنت في منتدى إسلامي فابتعد عن مناقشات الملحدين والعلمانيين الذين يدخلون في هذه المنتديات ويناقشون أصحابها ويحاورونهم فكذلك الهجر هو الطريق الأمثل لمثل هؤلاء أصحاب الأهواء .(1/74)
4- إذا كنت ترى دخولك في هذه الحوارات والمناظرات فكن ذو علم أو ابذل جهدك في التعلم
5- لا تتكلم بدون علم ..
6- نبه من كان له قدرة في الرد على هؤلاء الملحدين والعلمانيين أن يقوم بالدور اللازم
7- حاول ألا تكثر سواد الداخلين على موضوع صاحب الشبهات .. حتى ولو كان الدخول من صاحب علم إذا كان لا يريد الرد عليه أو لم يكن يريد دراسة وضع المناقش .
8- إذا دخلت في موضوع المناظرة للاطلاع لا تكن كالإسفنج تتشبع من الشبهات ولكن كن كالزجاج يرى الخطأ ولا يتأثر بالشبهة
1- كن صادقا .. لا تذكر شيئا كاذبا .. دين الله لا يحتاج للكذب فهو قوي بذاته .
10- لا ترد ردا علميا ضعيفا .. فيكون أهل الزيغ لهم أسلوب قوي وأنت بردك يظن الناس أن هذا هو رأي الدين
11- لا ترد ردا ضعيفا .. فيرتفع الموضوع السيئ إلى الأعلى .. وكلما ارتفع الموضوع كلما زاد قراؤه
12- لا ترد رد المتردد .. غير الواثق من دينه .. فهذا بحد ذاته ضعف يزيغ بسببه عدد من القراء ظنا منهم أن هناك خللا في التصور الإسلامي لا في ردك .
13- لا تكتب بصورة أن لك مصلحة شخصية في إجابتك أو أنك متحيز أو متعصب لرجل أو لبلاد أو لرأي .. أكتب بصورة متبع للحق .. والحق كل الحق في اتباع دين الله تعالى
14- لماذا ننتظر حتى نرد لماذا لا نجمع الأفكار الجيدة وننشرها فلا يكون للشبهة أي مكان بيننا وقد نشرنا علما يقضي على الشبه .. لأن الشبه والبدع تزداد عند الجهلة .
15- انتبه من هؤلاء العلمانيين والملحدين فإنهم يستخدمون أساليب فلسفية مع قلب الحقائق ويبحثون عن المتناقضات فإذا قرأت لهم أو رددت عليهم فأحذر من أساليبهم .
16- كن متأدبا في الكلام لا يستفزك الخصم فكم من قارئ لكلامك سيأسره خلقك قبل علمك .. وكم من نافر نفر من صاحب علم ودافع عن الملحد أو العلماني بسبب سوء خلقه في مكان ما إما في نفس الموضوع أو في مكان آخر ..(1/75)
17- ليس عليك هداهم ولكن عليك البيان فلا تلزم نفسك بما ليس لازما عليك .. ابحث عن أفضل وسيلة لإقناعهم وإقناع القراء .. ولو لم يقتنعوا .. فإن إلزام نفسك بما ليس لازما يجعل موقفك ضعيفا إما باستجدائهم أو إهانة علمك أو مجادلتهم بأسلوب غير لبق فيزداد نفورهم .(فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)
18- اعلم أنك لا تخاطب هذا الشخص بذاته ولكنك تخاطب كثيرا من القراء .. فلا تستخدم أسلوبا ينفر القراء منك بسبب أنك تستهدف ذلك الشخص فقط .. انتبه أن لك قراء كثيرون ومختلفي المشارب أحذر أن تغيظهم فينفروا منك له بسبب عدم تقدير قراء المقالات.
19- حاول كسب أكبر دائرة من شرائح القراء والكتاب .. مثلا إذا كنت تناقش علماني .. فلا تدخل ولا تسمح له يدخل قضايا مثل اللحية والإسبال لأنه بذلك يستقطب كثيرا من المسلمين إلى طرفه وهم في الحقيقة أتباعك وليسوا أتباعه .. لأن الحليق مسلم في الأصل بل وبعضهم متمسك بدينه مدافع عنه مبتلى بهذا التقصير وهذا التقصير لا يجعله بتاتا في أي مرحلة في دائرة ذلك العلماني .. وليس كل ملتح متدين وإلا كان كارل ماركس أكبرهم لكبر لحيته .
20- بعض الناس ينفر من إشعاره بإملاء فكرتك بالقوة أو يرى أنك تحرمه من التفكير أو تحرمه من الحرية أو أنك تملي عليه الأفكار إملاءً.. استخدم أساليب متقبلة للنفس ..
21- يمكنك استخدام أسلوب أنه صاحب الفكرة .. فلو عرج على فكرة من بعيد .. فيمكنك الاستفادة من ذلك وكأنه صاحب الفكرة الصحيحة الجيدة .. بل ويشكر عليها في بعض الأحيان .
22- وافقه فيما ترى أنه صحيح حتى يتكاثر ما تتوافقون فيه .. فيقبل منك ما لم يكن يقبله من قبل .
23- إذا كنت ذو علم فانشر علمك قبل نشرهم لشبههم واكسب قلوب الناس قبل كسبهم لأهوائهم .
24- تعاون مع إخوانك في الرد على أهل الزيغ والضلال
25- ابحث عن نقاط بداية أو نقاط مشتركة .. لا تناقش موضوعات تتفرع عنها موضوعات أخرى فتتميع القضايا(1/76)
26- لا تدعهم يسحبونك إلى الشبه ولكن اسحبهم إلى النقاط الفاصلة الأساسية إذا كانت المناقشة مع ملحد فليكن النقاش عن الله تعالى ثم الإسلام ثم اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وهكذا .. لا يمكن نقاش ملحد عن الورث وهو لم يؤمن بالله تعالى.
27- إذا كان المناظر يدعي الإسلام فليكن النقاش مربوطا أكثر ما يكون بالقرآن الكريم ..
28- إذا رأيت حقا موافقا لما قاله الله ورسوله .. ويصدقه أقوال العلماء .. فلا تتردد بالأخذ به حتى لو كان يخالف رأيك
29- حاول أن تنظر في كلام المناقش وتتعرف من أسلوبه ومن خلال تمعنك في أفكاره على أفضل طرق البداية في مناقشته ..
30- للمناقشات وسائل ينبغي لك اكتساب خبراتها من خلال النظر في أساليب المتحاورين
31- اجعل أسلوبك سهلا للقراءة .. اختصر العبارات .. استخدم أسلوبا محببا لنفوس القراء .. نبه خصمك إلى خطورة بعض الألفاظ التي يستخدمها .. أو خطورة بعض الأفكار التي يعملها .. فمثلا لا يعرف كثير من الناس حكم الاستهزاء بأمور الدين أو بالمتدينين
32- ادعم رأيك بالأدلة الشرعية .. والأبيات الشعرية والحكم .
33- ادعم كلامك بأدلة علمية أو أبحاث أو إحصائيات أو كلام متخصصين أو غيرها مما تراه مناسبا في التأثير على المقابل .
34- لو كانت استدلالاتك من أصولها لكان أفضل .. فالعلماني والمستغرب سيتأثر بنفس المعلومة لو كانت من موقع علمي غربي أو كتاب إنجليزي أكثر بكثير مما لو كانت المعلومة من كتاب إسلامي .. لأنه مهزوم نفسيا .. ومنقلب الفطرة .
35- إذا تشمت فيك من يخاطبك فاستغل ذلك في صالحك ..
36- ابحث من خلال مناقشة العلماني على تناقضاته .. وتناقضات من يقوم بالدفاع عنهم ..(1/77)
37- استغل نقاشه في الرد عليه .. مثلا تراه يسخر ثم إذا سخر منه شخص تعجب من سخريته .. فأظهر تناقضاته .. إذا كان لا ينضبط في كلام ويميع المناقشات .. ثم يطالب غيره في إجابات محدده .. يمكنك الاستفادة من تناقضاته في الرد عليه .. أو أنه خالف نفسه في مكان آخر فيفضح كذبه .. وهكذا
38- إذا كان العلماني من مناصري قضية المرأة .. فحتى ترى ويرى الناس كذبه من صدقه اطرح له مشكلات وقضايا للمرأة وهي إسلامية مثلا منع حجاب المرأة في برلمان تركيا أو منع المرأة من الحجاب في بعض الدول أو منع الحجاب في بعض الشركات الكبيرة عندنا أو غيرها كثير أو ليس هو يدعي أن منطلقه الحرية .. فإن حاد فهو لا يريد قضايا المرأة ولكنه يريد حرب الإسلام باسم المرأة .
39- يستخدم أهل الشر أسلوب إثارة الغرائز والشهوات .. فيتبعهم أصحاب الشهوات وراغبيها مع أنهم في الأصل مسلمون .. ابحث عن طريقة حتى لا تسمح لأهل الضلال الفكري بجذب أهل الشهوات إلى صفهم ولكن اجذبهم إلى الإسلام وتذكر أن الإسلام يجب ما قبله وأن التوبة تجب ما قبلها .
40- ينفر كثير من العصاة والمنحرفين من الكفر .. فإذا ناقشت أحدا وكان فيه بقية دين فاستغلها لكسبه للإسلام ولو وقع في أخطاء ترى أنه يمكن إصلاحها إذا رغب في الإسلام .. لا تذكر الكفر حتى لا يدعي أنك تكفره ..
41- إذا كنت في موقع ما .. فلا ينطبع في أذهانهم أن هذا فقط مهمته الردود .. ولكن ليكن لك يد عندهم من كتابات مفيدة وأفكار شيقة وتشجيع على أمور .. وكسب لقلوب البعض ..
42- استغل قضية الدعاء له أو على الملحد .. والسنة إن تدعو للناس ويدعى على من كثر شره وأضل الناس .. ويمكن الدعاء بالصلاح لمن وجد فيه قوة في أسلوبه حيث أن هذا سينفع المسلمين وينفع الدعوة لو أنه تغير حاله .
43- استخدم الإقناع بالرسائل الخاصة إذا رأيت أن مخالفته أمام الناس يمكنه أن يزداد في تمسكه برأيه الخاطئ ..(1/78)
44- بالنسبة للرد ينبغي أن يكون مع تقدير المقابل حتى لا تكون الردود تحمل طابعا شخصيا أو يكون الرد جارحا .. يمكن استخدام الرد العام ليس الموجه لذات الشخص ..
45- بالنسبة للمغرور والمعجب بنفسه والمتكبر إذا قمت بالرد عليه بأسلوب مؤدب وحاولت معه وكان يرده كبره وعجبه .. فيتم تكليف شخص آخر يتكفل بتحطيم كبرياؤه وإعجابه بنفسه .. أو يتم الدخول باسم آخر لتحطيم الكبرياء والغرور وذلك لأن كبره رده عن الحق .. ويبقى المناقش ليس له إلا الأسلوب السهل حتى يمكنه الاستمرار معه في المناقشة .
46- قد يكون الشخص الذي تناقشه عاش في بيئات تعتقد أمورا وتعيش أمورا يراها صحيحة وتراها سيئة جدا .. استخدم أسلوب الإصلاح بالمناقشة الهادئة واربطه بكتاب الله وسنة نبيه وسيتحسن وسيتغير إن شاء الله إن كان فيه خير .. ولو بعد حين ..
47- وإذا تأكدت أن مناقشك ملحد ولا ينفع معه الوسائل المحببة .. فحبذا أن يكون أسلوبك قويا جدا ضاربا تبين عوار رأيه وسخفه وهزاله وتسقطه بالضربة القاضية .. حتى تقضي عليه فلا يكن له قدرة على المناقشة مرة أخرى .. ولا يكن لغيره قدرة لفتح نقاش .. ومع هذا لا تخرج المناقشة عن باب الأدب الإسلامي ..
48- انتبه أن هناك مأجورون يقومون بالكتابة في موضوعات مقابل نصيب مادي مثلا .. انتبه أن هناك أيضا غير مسلمين يكتبون باسم الإسلام مهمتهم تفريق الكلمة وإشغال المسلمين بالمجادلات العقيمة .. هناك غير مسلمين مهمتهم إثارة الشبهات .. هناك أهل الأهواء والذين لا يريدون إلا نشر الشبه .. فحاول في بعض المنتديات السيئة طرح قضايا موحدة لجميع طبقات المسلمين .. مثلا فلسطين واليهود .. فكل المسلمين بجميع طبقاتهم سيتفاعلون معك .. إلا المنافق والعلماني و غير المسلمين .. فبهذا تكشف خياناتهم ..(1/79)
49- اطرح في بعض المنتديات السيئة بعض القضايا التي تنفع الإسلام و لا تثير زوبعة مثل الحديث عن بعض الأخبار الواقعة والتي لا خلاف في تفسيرها .. وقضايا عجيب خلق الله تعالى وعظم دقة الخلق من باب (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وليكن الكلام مبنيا على حقائق ومراجع .
50- للمرأة دور قوي في الرد على المستغربين الذين يبحثون عن انحراف المرأة .. لا يلزم أن يكون الرد مؤصلا أو علميا .. يكفي أن يكون الرد بكلمات قلائل .. كما قالت إحداهن عندما طرح أحد المنحرفين سؤال أيها أفضل الورد أم الشوك ويقصد التبرج أم الحجاب فقالت : ( الشوك مع حفظ كرامتنا ) أو رد الأخرى لذلك المدعي لتحرر المرأة والمطالب بانتزاع الحقوق قالت : (سننتزعها منكم انتزاعا .. أنتم من ضيعتم حق المرأة )
ردود قصيرة .. ولكنها قوية جدا .. كافية لإيقاف المناقشة ..
51- ينبغي أن يكون لكل مشرف منتدى خطة أو طريقة لمواجهة الملحدين والمنحرفين .. يتم ترتيبها حسب قدراته ووجهة نظره بما لا يضر الأعضاء أو ينشر شبهات المنحرفين .
52- ملاحظة مهمة ينبغي أن ينشغل أعضاء المنتدى بما ينفعهم خلال المناظرات مع الملاحدة ووضع الكلمات النافعة .. حيث أني لاحظت أن بعض المنتديات يضعف حالها وينشغل أصحابها كلهم في المناظر القادم ويتركون عملهم الأساسي في المنتدى . وأرى أنه لو كان هناك مجموعة لا يعيرون لهذا السيئ اهتماما ولا يتابعون مناقشاته ستكون هناك عدة جبهات نافعة بإذن الله ..
53- أهمية دفاع الأعضاء عن بعضهم عندما يخطئ ملحد ويسخر من أحدهم .. حيث أن رد العضو السخرية عن أخيه خير بمراحل من رد العضو عن نفسه .
54- استخدام وسيلة مؤثرة جدا عند الملحدين والمنحرفين ألا وهي الحالة النفسية .. فالكتابة في الحالة النفسية للمناظر لها تأثير شديد عليهم خاصة إذا ظهرت منه حالات أو كلمات تدل على نفسية سيئة.(1/80)
55- التخويف من الله ومن اليوم الآخر .. والتذكير بعقابه وشديد عذابه .. عندما ينفع الكلام .
56- إبراز أن المستقبل لهذا الدين يعمي أبصار الملحدين ويرفع معنويات المسلمين الصادقين ..
57- لا أدري إمكانية وشرعية ومتى يمكن استخدام المباهلة .. ولكني أعلم أنها وسيلة مشروعة وقوية و سيخشاها محبي الحياة الدنيا من محاربي الدعوة الإسلامية ..
58- الدعاء للمناظر المسلم وشكر من ينبغي شكره و الدعاء على المناظر الخبيث
59- إذا كانت المناظرة في منتدى إسلامي فعلى المشرف أن يقضي على كل ملحد مباشرة وبدون تردد ويلغى اشتراكه ..
60- إذا رغب المشرف في بقائه لإظهار عوار رأيه وتفنيد ما يدور في رأسه فعليه المتابعة المباشرة وعدم ترك مجال للفوضوية وينبغي توزيع الأدوار وجعل المناظرة في أضيق الحدود .. وإغلاقها إذا خرجت عن المسار الصحيح ..
61- لا يترك المشرف ولا المناظر مجالا للمنحرف بنشر شبهاته .. ينبغي بأسلوبهم الجيد بمناقشته بما لا يضر المنتدى .
62- عند الانتهاء من المناقشة مع من تختلف معه يجب أن يكون انتهاؤك عن قلب صاف .. أكثر من التقدير عند إنهاء المناقشات حتى يستمر الوئام
63- لا تتوقع أنك ستصل إلى توافق في كل النقاط .. ارض بأن يكون هناك فهم أحسن للطرفين .
64- لا تتصور أن الناس كلهم يكونون سواء في نفس الفهم ويقومون بنفس العمل .. لا شك أن هناك مواضيع اجتهادية يسع فيها الاختلاف بشكل كبير فلا تثريب من الاختلاف هناك .. بل قد يكون من الأفضل في بعض الأحيان أن يقوم كل بدور ما يختلف عن الآخر حتى يؤدي كل من الأفراد دور يكمل بعضهم البعض .
65- وتكملة لما سبق .. هناك أشخاص أصحاب خبرات معينة ومراتب وطاقات تختلف فقد يكون صحيحا لك ما يكون في حق غيرك غير صحيح .. لكل مقام مقال ولكل حادثة حديث
66- لا تبدأ ببداية تشعر القارئ أنك تخالفه .. كقولك مثلا : اقرأ وصحح معلوماتك الخاطئة أو أنت مخطئ أو غيرها(1/81)
67- ابدأ بطرح فكرة تقطع الطريق عن من يحاول الرد عليك قبل البدء بكلمتك .. وهذه الطريقة يستخدمها للأسف العلمانيين ويقومون بنقد الأحادية في التفكير وينتقدون من يربط بين العرف والدين فإذا أراد أحد أن يرد عليهم بالدين وجد نفسه مجبورا في دائرة النقد السابق .. وأنت يمكنك استخدام هذا الاسلوب ولكن لا تستخدمه في الباطل مثلهم .. لا تستخدم هذا الاسلوب إلا في الحق . .
68- فرق بين الحلال والحرام الواضحان وبين ما يكون مما يسوغ فيه الاجتهاد والاتباع .. ومن خلال الانترنت وحيث يلتقي الناس من مشارب شتى ينبغي الوصول إلى أفضل الظروف وتقليل المنكر إلى أقل شيء ممكن وزيادة المعروف أكثر شيء ممكن ..
69- راجع كتاباتك قبل إنزالها .. راجع الأخطاء الإملائية فكم من خطأ إملائي يغير المعنى .. راجع الأسلوب فما تكتبه وهو مفهوم لديك قد لا يكون مفهوما للقارئ .. اكتب لمن لا يفهم ثم اقرأها وكأنك لست الذي كتبتها .. ستجد عدم وضوح في فقرات وسقط وخلل عدل الكلمات قبل الإرسال
70- قبل الدخول إلى منتدى علماني تقدم بخطة دخول .. ضع هدفا .. استفد من بعض أصحابك .. طبق طريقة لكسب القلوب .. أفد الموجودين .. تكلم عن أمور تكسب فيها كثيرا من أعضاء المنتدى ..
71- أنت هناك في ذلك المنتدى السيئ ستمثل الإسلام أمام القراء .. قد يكون مناقشك سيئا أو يريد إحراجك أو إظهار شيء ما ينفر منك .. قبل ذلك كله تذكر أنك تمثل الدين الإسلامي ..
72- إذا لم تستطع علما ما فدعه ولا تخرب .. ولا تسب وتشتم المناقش .. شجع غيرك لمناقشته واستفد من مناقشتك بأن تتعلم وتزداد علما
73- ابذل جهدك في أي منتدى طيب أو سيء بحسن البيان فإن من البيان لسحرا .. فقد تأسر شخصا ما بإسلوبك وبطريقتك وبفوائدك ما لا يأسره ما تذكره من الحقائق
74- يمكنك استخدام الألوان والتنسيقات لإظهار بعض الكلمات المهمة والأفكار الأساسية
75- تعلم أن تقول لا أعلم إذا لم تكن تعلم ..(1/82)
76- إذا لم تعرف شيئا لا يمنعك ذلك من طلب الطرف الآخر في تعليمك إياه .. أو البحث عنه .. فهذا مما يديم الإلفة وينزع ما يقع في قلب مناقشك العصبية الشخصية .. إذا لم يكن مناقشك من المنحرفين وناشري الفتن والشبهات .
77- تعلم كيف تقفل المناقشة باسلوب مناسب .. حيث أن المناقشات إذا طالت جدا فقدت نفعها وتحولت إلى جدال .. تعلم أن تسحب نفسك بطريقة جيدة حتى لا يفهم منه القراء أنك انسحبت فيظنوا أن كلام خصمك هو الحق ..
78- تعلم من مناقشاتك التي استطعت أن تنقل شيئا مفيدا للآخرين أو تمنع شرا عن الآخرين .. تعلم من هذه المناقشات ما هي الوسائل التي كان لها تأثير إيجابي في مناقشك .. وما هي الأمور التي تجعل من مناقشك لا ينتفع من معلوماتك ..
79- تعلم من أخطائك .. لا يمنعك اعتزازك بنفسك أن ترى أخطائك وتتعلم منها .
80- تعلم التوثيق .. وكتابة المراجع بل كل مرجع إن أمكن .. أنت بذلك ستنفع القراء أكثر بكثير من أفكارك الخالية من المراجع .
81- فرق في المناقشة بين الفكرة وصاحبها .. تناقش الفكرة وقد تضرب الفكرة ولكن الشخص حاول أن تكون معه شيئا آخر .. (إلا ما كان من ناشري الشبه والفتن والذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومع هذا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث قريش بالتي هي أحسن .. وقال الله : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )
82- تعود ألا تناقش للرد عن ذاتك .. بل ابذل الجهد في الذب عن دين الله ..
83- استخدم ظن الخير بالمسلم ولا تحسن الظن بالملحد و الكافر .. ولو أحسن العمل أمامك .. ولو أحسنت تعاملك معه فلا تترك الحذر منه ..(1/83)
84- يقوم البعض بالتضخيم لبعض القضايا أكبر من الحد المطلوب وترى أن بعضها الآخر المساوي لها لا يعيره اهتماما .. تعلم كيف تقيس القضايا بميزان الشرع وميزان الحاجة في الواقع وعلم الناس كيف يمكن أن يقيسوا القضايا .. لا تقس القضايا بناء على ما تسمعه في الإعلام ولا ما يدور في المجالس التي تعيشها و لا تقيسها حسب حاجتك فقط .. اكرر قس القضايا حسب الشرع ومن الشرع حاجة الدعوة وواقعها ..
85- التأكيد على النقاط التي تتوافقان فيها .. حتى يكون قبول لما لا تتوافقان عليه أكثر .
86- الدعاء له (لمناقشك)
87- شكره إذا جاء بفكرة جيدة لا تعرفها .. أو تعرفها ولكنها جيدة فعلا وتوافقه عليها
88- اذكر اسم مناقشك بين الفينة والأخرى بشكل فيه التقدير .. ذكر الأسماء مهم في زيادة الإلفة وهنا تسقط كثير من الخلاف بسبب هذه الألفة .
89- للخلاف أسباب اعرف الأسباب وحاول ألا تقع فيها وأن تبذل السبب حتى لا يظن أنك واقع فيها .. ولعلنا نتطرق إليها لاحقا ..
90- لا تتكلم مع مخالفك من علياء أو برج عاجي .. اسأله بعض الأسئلة من خلافك معه .. اطلب منه وجهة نظره في شيء لا تعرفه .. هذا يزيل من عند مخالفتك نظرة السوء تجاهك (نظرة التعصب) ويجعله أيضا يعاملك بالمثل فلا يتكلم من برج عاجي أو من علياء ..
91- تختلف المجادلة مع النساء .. فالمرأة يجب أن تراعي فطرتها في المناقشة والرجل في نقاشه مع المرأة يجب أن يراعي فطرته وفطرتها ..
أبو أحمد -شبكة الفجر
ـــــــــــــــ(1/84)
أدب الحوار والمناقشة والجدل
1- عدم إلجاء المناقش والمحاور إلى الاعتراف الفوري بخطئه.
2- عليك أن تعطيه الفرصة للتراجع عن الرأي الخاطئ.
3- عليك أن تؤسس نقاشك على ما تتفقان عليه. ووافقه على بعض آرائه - جدلا- إن جاز لك ذلك.
4- عليك أن تختار ألفاظك التي توجهها إليه وكن مهذّب ومنضبط في ذلك.
5- أعطه فرصة للتفكير-إن كان غير مكابر-لأن جوَّا الجدل مشحونٌٌ بالتوتر ويصعب على كل منَّا أن يُخذَل أمام المجموع.
6- عليك بالهدوء المفتَعَل.وضبط الأعصاب أثناء الحِوار-ولو استثارك الآخر-عمد-لاختبار أعصابك.ولا تتعالى على من تناقشه ولو كان الحق معك وكانت الحجة بجانبك فالتواضع له دوره في شدِّ وجذب الجمهور من الحاضرين إليك وأخذهم بآرائك.
7- تجنب الأحكام الجاهزة التي لا تقدر على التصرف بألفاظها ومعانيها وقت إجراء الحوار فأنت لست بحاكم جائر ولا قاضٍ تفرض أحكامك بالقوة والعنف-وقصص الأنبياء مليئة بالحوار الهادئ والجدل المثمر البنَّاء.
8- يمكنك أن تستبدل بالأمر الاقتراح كقولك -مثلا- :إذا لم تقتنع بكلامي فارجع إلى مصدر كذا وكذا.أو شاور من يعجبك رأيهم وتثق بعلمهم وخِبرتهم.
-ولا تتعصَّب إلا للحق-.
9- الاستماع والإنصات للآخرين حتى يُكْملوا الإفصاح عن فكرتهم ثم الكَر ُّعليها بالنقد والتفنيد-وإن كان الآخَر مكابرا أو صاحب هوى-إذْ لا بدَّمن إجراء حوار مع كل ذي فكرة تحاول مجادلته وردَّه إلى الصواب حتى يزول الغبش وتنجلي الفكرة وتتضح الحجة ويبدو الموقف جليا واستمسك دائما بقول الله تعالى في محكم كتابه:((قل:هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))البقرة 111: ((قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون))الآية148 من سورة الأنعام سواء كان هذا الدليل عقليا أم كان نقلي وسمعي.(1/85)
10- إياك ثم إياك أن تجادل للغلَب والانتصار والفوز والظفر فإن ذلك محبط للعمل مدمر للأجر والثواب جالب للمقت وليكنْ علمك والدعوة إليه والجهاد في سبيل توضيحه لله ومن أجل الله ثم لإظهار الحق وردِّ الباطل ودمغه فإذا هو زاهق والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
اعتنى به ونشره :عثمان أحمد موسى
ـــــــــــــــ(1/86)
الحِوار
دكتور عثمان قدري مكانسي
تعريف الحوار : طريقة من طرق التواصل هدفه المراجعة في الكلام للوصول إلى الصواب أو الأكثر صواباً . وفيه حجة ودليل .
والحوار نقاش وتبادل الحديث بين طرفين أو أكثر يريد كل من المتحاورين الوصول إلى أهداف ، أهمها :
1- إيصال الدعوة .
2- إثبات الصواب .
3- الوصول إلى الحقيقة . يقول الشافعي رحمه الله : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب .
شروط الحوار الجيد :
1- وجود الرؤية الواضحة عند المتحاورين (حسن الفهم).
2- أن تتصور الطريق الموصل إلى الهدف بسبله العريضة والضيقة ، والعامّة والدقيقة .
3- البعد عن الاستطراد ، فهو يعرقل الوصول إلى الهدف أو يؤخره .
4- عدم الانتقال من فكرة إلى أخرى في الحوار نفسه قبل الانتهاء من الفكرة الأولى ( الحوار الهادئ المنظم ).
5- الحفاظ على الهدف الاستراتيجي ، فينبغي أن نميز بين الهدف المرحلي والرئيسي حتى لا نضيع في متاهات تحرف عن الهدف المنشود .
6- أن يكون محاورك عالماً بأصول الحوار ، يساويك في الفهم والإدراك ، أو يقارب . يقول علي رضي الله عنه : (ما حاورني عالم إلا غلبته ، ولا جاهل إلا غلبني ).
7- البعد عن الانفعال فهو يشوش الأفكار . والبعد عن الإساءات التي تضعف الموقف وتقلبه رأساً على عقب . والبعد عن الوقوع في الاستجرار الذي يحرف عن الهدف ويضيعه .
8- النباهة والتصرف الحكيم يفيدان صاحبهما جداًحين يحدث طارئ كان في الحسبان أم لم يكن .
9- الفصاحة ،والحديث المنمق ، والدقة في طرح الفكرة ودليلِها ، والتركيز على المراد ، والاستشهاد على الفكرة بما يناسب ... كل ذلك طريقُ النجاح في أي حوار .
10- عدم التداخل في الحوار يجلي الفكرة ويجعل الحديث مفهوماً ( للمحاور أن يتحدث دون أن يُقاطع حتى ينهي فكرته في الوقت المحدد ) .
11- الاحترام وحسن الظنّ من أسس المحاورة .
12- التركيز على نِقاط الاتفاق يُعتبر عنصراً مساعداً في الحوار .(1/87)
13- التركيز على نقاط الاختلاف لتجلية الصواب والخطأ .
فائدة الحوار : وبمعنى آخر : ( إيجابيات الحوار )
1- التعرف على أسلوب دعويّ راقٍ في الحديث للوصول إلى الهدف المنشود .
2- الحوار يثري السامع والقارئ والرائي بأفكار تُطرح أمامه بالحجة والبرهان ، فيعتاد التفكير السليم ، والأسلوب القويم .
3- الحوار أثبت في النفس ، فالمتابع يشغل أكثر من حاسة في تفهم أبعاد الحوار ومراميه .
4- قد يكون الحوار بين أصلين مختلفين كالإيمان والكفر . وقد يكون في أمر واحد وفكر واحد فيه دقائق يثري المتابع ، فيعلمه الدقة فيالاستنتاج ، واللذة والإمتاع .
نماذج في الحوار :
اخترت لك ثلاثة نماذج حوارية ... الأول : من القرآن .
الثاني :حديث شريف .
الثالث : قطعة أدبية نثرية.
النموذج الأول
وَإِذ? نَادَى رَبُّكَ مُوسَى? أَنِ ائ?تِ ال?قَو?مَ الظَّالِمِينَ (10) .
قَو?مَ فِر?عَو?نَ ? أَلَا يَتَّقُونَ (11).
قَالَ رَبِّ إِنِّى? أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) .
وَيَضِيقُ صَد?رِى وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَر?سِل? إِلَى هَارُونَ (13).
وَلَهُم? عَلَىَّ ذَن?بٌ? فَأَخَافُ أَن يَق?تُلُونِ (14).
قَالَ كَلَّا ? فَاذ?هَبَا بِـ?َايَاتِنَا? ? إِنَّا مَعَكُم مُّس?تَمِعُونَ (15) .
فَأ?تِيَا فِر?عَو?نَ فَقُولَا? إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ال?عَالَمِينَ (16) .
أَن? أَر?سِل? مَعَنَا بَنِى? إِس?رَ??ءِيلَ (17) .
قَالَ أَلَم? نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدً?ا وَلَبِث?تَ فِينَا مِن? عُمُرِكَ سِنِينَ (18) .
وَفَعَل?تَ فَع?لَتَكَ الَّتِى فَعَل?تَ وَأَنتَ مِنَ ال?كَافِرِينَ (19) .
قَالَ فَعَل?تُهَا? إِذً?ا وَأَنَا? مِنَ الضَّا?لِّينَ (20) .
فَفَرَر?تُ مِنكُم? لَمَّا خِف?تُكُم? فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُك?مً?ا وَجَعَلَنِى مِنَ ال?مُر?سَلِينَ (21) .
وَتِل?كَ نِع?مَةٌ? تَمُنُّہَا عَلَىَّ أَن? عَبَّدتَّ بَنِى? إِس?رَ??ءِيلَ (22) .(1/88)
قَالَ فِر?عَو?نُ وَمَا رَبُّ ال?عَالَمِينَ (23) .
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَ?تِ وَال?أَر?ضِ وَمَا بَي?نَهُمَا? ? إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) .
قَالَ لِمَن? حَو?لَهُ ?? أَلَا تَس?تَمِعُونَ (25) .
قَالَ رَبُّكُم? وَرَبُّ ءَابَا???ِكُمُ ال?أَوَّلِينَ (26) .
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى? أُر?سِلَ إِلَي?كُم? لَمَج?نُونٌ? (27) .
قَالَ رَبُّ ال?مَش?رِقِ وَال?مَغ?رِبِ وَمَا بَي?نَہُمَا? ? إِن كُنتُم? تَع?قِلُونَ (28) .
قَالَ لَ??ِنِ اتَّخَذ?تَ الها غَي?رِى لَأَج?عَلَنَّكَ مِنَ ال?مَس?جُونِينَ (29) .
قَالَ أَوَلَو? جِئ?تُكَ بِشَى?ءٍ? مُّبِينٍ? (30) .
قَالَ فَأ?تِ بِهِ?? إِن ?ُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) .
فَأَل?قَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُع?بَانٌ? مُّبِينٌ? (32) .
وَنَزَعَ يَدَهُ ? فَإِذَا هِىَ بَي?ضَا?ءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) .
قَالَ لِل?مَلَإِ حَو?لَهُ ?? إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ? (34) .
يُرِيدُ أَن يُخ?رِجَكُم مِّن? أَر?ضِ?ُم بِسِح?رِهِ? فَمَاذَا تَأ?مُرُونَ (35) .
قَالُو?اْ أَر?جِه? وَأَخَاهُ وَاب?عَث? فِى ال?مَدَا???ِنِ حَاشِرِينَ (36) .
يَأ?تُوكَ بِ?ُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ? (37) ف.
َجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَو?مٍ? مَّع?لُومٍ? (38) .
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَل? أَنتُم مُّج?تَمِعُونَ (39) .
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ال?غَالِبِينَ (40) .
فَلَمَّا جَا?ءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِر?عَو?نَ أَ??ِنَّ لَنَا لَأَج?رًا إِن كُنَّا نَح?نُ ال?غَالِبِينَ (41) .
قَالَ نَعَم? وَإِنَّكُم? إِذً?ا لَّمِنَ ال?مُقَرَّبِينَ (42) .
قَالَ لَهُم مُّوسَى? أَل?قُواْ مَا? أَنتُم مُّل?قُونَ (43) .
فَأَل?قَو?اْ حِبَالَهُم? وَعِصِيَّهُم? وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِر?عَو?نَ إِنَّا لَنَح?نُ ال?غَالِبُونَ (44) .
فَأَل?قَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَل?قَفُ مَا يَأ?فِكُونَ (45) .(1/89)
فَأُل?قِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) ق.
َقالُو?اْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ال?عَالَمِينَ (47) .
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) .
قَالَ ءَامَنتُم? لَهُ ? قَب?لَ أَن? ءَاذَنَ لَكُم? ? إِنَّهُ ? لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّح?رَ فَلَسَو?فَ تَع?لَمُونَ ? لَأُقَطِّعَنَّ أَي?دِيَكُم? وَأَر?جُلَكُم مِّن? خِلَافٍ? وَلَأُصَلِّبَنَّكُم? أَج?مَعِينَ (49) .
قَالُواْ لَا ضَي?رَ ? إِنَّا? إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) .
إِنَّا نَط?مَعُ أَن يَغ?فِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا? أَن كُنَّا? أَوَّلَ ال?مُؤ?مِنِينَ (51) ? .
يمكن تقسيم هذه القطعة الحوارية إلى مشاهد :
1- بين الله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم موسى .
2- بين النبي الكريم موسى وفرعون وملئه .
3- بين فرعون والسحرة.
4- بين موسى والسحرة ( موقف قصير )
5- بين فرعون السحرة المؤمنين .
أما الحوار بين الله تعالى وموسى عليه السلام فبين رب خالق وعبد صالح رُبّي على عين الله تعالى .. الحوار في هذا اللقاء أمر من الجليل إلى داعية أهّله الله أن يبلغ الرسالة إلى فرعون الطاغية المستكبر وملئه الضالعين في الغواية . فهو - النبي موسى الكليم - راضٍ بمهمته إلا أنه خائف من لقاء فرعون لأسباب ثلاثة : خائف أن يكذّبوه ، وأن لا يستطيع التبليغ لحصر في لسانه ، فيضيق صدره لذلك ، فهو يطلب الاستعانة بأخيه الفصيح هارون ، وأن يقتلوه بالقبطي الذي قتله موسى عَرَضاً ولم يُرِد ذلك . فيُطمئنه الله تعالى أنه معه يسمع ويرى ، ولن يستطيع فرعون أن يناله باذى . وزوده الله تعالى بالبراهين والأدلة . قسم منها العقل والمنطق لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد ، وقسم منها معجزات مادية وحسية لا يملك لها الكافر دفعاً سوى الجحود والاستكبار .
هذا الحوار تغيب فيه المحاجّة والجدال لأنه بين حبيبين يسعى فيه العبد أن يًرضي مولاه ، وفي الوقت نفسه يطلب العون لإنجاح الخطة .(1/90)
وأما الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملئه من جهة أخرى فقد احتدم الجدال والنقاش الذي خالطه المنطق والتهديد والسخرية وتراشق التهم أحياناً بصريح العبارة وأحياناً بالتلميح .. ثم يبدأ التحدي وكسر الظهر حين لا يبقى للعقل والفكر دورٌ .
ونرى روعة انتقال الحوار في الآيتين الكريمتين الكريمتين : " ...فَقُولَا? إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ال?عَالَمِينَ (16) .أن? أَر?سِل? مَعَنَا بَنِى? إِس?رَ??ءِيلَ (17) . نسمعهما من الله تعالى يلقنهما موسى عليه السلام ، فإذا بنا نرى أنفسنا نسمعهما في الوقت نفسه من موسى يقولهما بقوة وإيمان دون خوف ولا وجل أمام فرعون وملئه .. انتقال رائع من موقف إلى موقف آخر بتداخل محكم لمتين لا خلل فيه !
يعلن موسى أمرين مهمين أما أولهما : فموسى وهارون رسولان من رب العالمين، ولا رب سوى الله ، ولئن ادّعى فرعون أنه رب مصر إن الله رب العالمين ، فلا يحق لأحد مهما ظن أنه عظيم أن يطاول الله عز وجلّ ويدّعي الألوهية وثانيهما : أن على فرعون أن يفرج عن بني إسرائيل ، ويسمح لهم أن يعودوا إلى بلادهم في فلسطين . فما ينبغي لبشر أن يستعبد بشراً مثله ، ويسلب حريتهم ، ويسخرهم لخدمته .
يتغاضى فرعون عن طلب موسى وكأنه لم يسمع ، فهو لن يتخلى عن ألوهيته ، ولن يطلق سراح اليهود .. وينتقل إلى الهجوم . فالهجوم خير وسيلة للدفاع . .. يقول لموسى باستعلاء ، فيُدلّ عليه بفضله حين رباه في قصره ، وينكر نبوته فقد عاش شبابه بينهم فمن أين جاءته النبوّة هذه ؟! وكيف يكون نبياً صالحاً من قتل قبطياً مسالماً حين كان كافراً ؟! يطعنه ثلاث طعنات يظن أنه نال منه مقتلاً ! هجوم سريع على جبهات ثلاث . ... فيرد موسى هذه الطعنات بأقوى منها حين يعلن :(1/91)
أولاً : أن قتل القبطي كان خطأ ، والخطأ غير العمد ، وأنه ما هرب إلا لعلمه أن فرعون وملئه يبحثون عنه ليقتلوه دون أن يعرفوا الحقيقة ، وهذا ظلم كبير ما كان للحاكم العادل أن يقع فيه " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فاخرج ، إني لك من الناصحين "
ثانياُ : أنه لم يكن كافراً بل كان ضالاً يبحث عن الهداية ألم يقل الله تعلى لنبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " ووجدك ضالاً فهدى " ؟ لم يكن موسى - كغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - إلا باحثاً عن الحقيقة فهداهم الله تعالى إليها ، ورباهم على عينه وجعلهم أنبياء يهدون الأمم ، وآتاهم النبوة وعلمهم الحكمة .
ثالثاً : نجد موسى عليه السلام يشن هجوماً مضاداً قوياً ينتقد فيه ظلم فرعون وبطشه : " لئن قتلت قبطياً خطأ فرأيتموه جرماً عظيماً إنكم قتلتم رجال بني إسرائيل سنوات طويلة واستحييتم نساءهم ، واستعبدتموهم عن إصرار . فمن المجرم الحقيقي ؟ ومن الذي يجب أن يحاسب ويعاقب جزاءً وفاقاً ؟
قتل امرئ في غابة........... جريمة لا تُغتفرْ
وقتل شعب آمِنٍ ............ مسألةٌ فيها نظرْ!(1/92)
إن فرعون - حين تناسى الآية التي تدعو إلى عبادة الله وألوهيته - ظنّ أنه حرف الحوار إلى حيث ينسى الملأ السبب الحقيقي لوجود موسى بينهم . لكنّ جواب موسى عليه السلام بدقة وموضوعية ضيّق عليه الخناق ، فألجأه إلى العودة إلى الفكرة الأساسية التي جاء لها موسى عليه السلام . فاضطر فرعون إلى العودة إلى السؤال الذي هرب منه ابتداءً فسأل بسخرية وهزء : " وما ربُّ العالمين ؟" ولم يقل " من رب العالمين " ..إن " من " للعاقل . و" ما " لغير العاقل ... تمالك موسى نفسه ، فلم يجابهه - وهو بين يديه- بسخرية واضحة ، إنما غلّفها بسخرية أشد حين قال : " قَالَ رَبُّ السَّمَاوَ?تِ وَال?أَر?ضِ وَمَا بَي?نَهُمَا? ? إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ " ففي الآية الأولى وصف الله تعالى بأنه رب العالمين ، وهنا وسّع الأمر حين أخبر أنه رب السماوات ، ورب الأرض ، ورب ما بينهما ، فماذا بقي لفرعون من ألوهيّة؟ ! ثم زاد على ذلك بأن اليقين الحق هو الإيمان بالله فقط حين قال " إن كنتم موقنين " .(1/93)
وهنا أسقط بيد فرعون فاستنجد بملئه يستعديهم على موسى . " قَالَ لِمَن? حَو?لَهُ ألاتَس?تَمِعُونَ " ؟ وهذا حال الضعيف المستكبر ينكشف بسرعة . فيلتفت موسى إليهم منبهاً أن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق آباءهم ، أما فرعون فمدّع كذاب " ربّكم وربّ آبائكم الأولين " .. وهنا يستشيط فرعون غضباً ويسخر من موسى عليه السلام ويتهمه بالجنون ليضحك منه الحاضرون . " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " ونلحظ ارتفاع وتيرة الهجوم على الشخص لا على الفكرة ، فإذا سقط حامل الفكرة سقطت الفكرة نفسها . .. وينتبه النبي المؤيد بالله تعالى إلى هذا الاتهام ، فينفي الجنون عن نفسه ، ويرد الهجوم بهجوم أشد حين يضيف جديداً في تعريفه بالله تعالى ، فهو سبحانه رب المشرق والمغرب وما بينهما . أما المنكر ذلك فهو لا يعقل ، ومن لا يعقل فهو المجنون بحق . " .. رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " .. فرعون يستفزه ليصرح بالهجوم فيقتله ، وردُّ موسى تلميحٌ لكنه أشد وقعاً من التصريح . كما أن التلميح يدل على التماسك ورباطة الجأش .
وهنا نرى فرعون - إذ فقد بعض مقومات الحوار ( شروطه) التي ذكرناها قبل - يتهدد ويتوعد بالاعتقال والسجن لمن يعبد غيره ، وهذا دأب الجبابرة والطواغيت في كل زمان ومكان . " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنّك من المسجونين " ولم يقل لأسجنَنّك ، بل قال لأجعلنّك من السجناء الكثيرين الذين سجنتهم ، ونسيتهم ، وانتهى أمرهم ، فهذه عادتي ، وانا أفعل ما أشاء ... إهدار للإنسانية ، وكبت للحرية ، وإرهاب فكريّ ، واستعباد للبشر ، وتألّه و...(1/94)
وهنا لم يعد أمام موسى عليه السلام سوى إظهار المعجزة التي ادّخرها للوقت العصيب الذي لا ينفع فيه غيرها . إن العاقل لا يحتاج لمعجزات خارقة للعادة تقهره فيما يعتقد . وإن الحرّ يحترم الفكر ، وإذا رأى الحق بين واضحاً أذعن له طواعية . لكنّ الفراعنة لا يجدي معهم هذا ، ولا بد للمتأله أن يتعرّى بطريقة أخرى تحطم عجرفته واستكباره . وهنا جاء دور المعجزة . ..
يقول موسى عليه السلام : " أولوْ جئتك بشيء مبين ؟ " لو فهم فرعون السؤال بما فيه من تحدّ وثقة بالله ثم بالنفس فَهْمَ قلب وعقل لعلم أن في الأمر ما يهزّ مكانته ، ويزعزع عرشه ، لكنّ الظلم ظلمات تعمي قلب صاحبه وفكره . فقال قول المستبدّ المتعاظم : " فائت به إن كنت من الصادقين " .. إن من يخاطر بروحه وحريته فيدخل على فرعون لا يفعل ذلك إلا إذا كان على بيّنة من صدقه ، وعلى وضوح من موقفه . وهو صادق رغْم أنف من رغِم ، وهذا نعت الصادقين على مر الدهور وكرّ العصور ، يقفون شامخين أمام الصلف والغرور غير هيّابين ولا وجلين .. وقد جرّب ما سيفعله الآن أمام رب العزّة فنجح في التجربة ، واطمأنّ إلى سلامة موقفه ، ونجاحه في مسعاه . " فَأَل?قَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُع?بَانٌ? مُّبِينٌ? ،وَنَزَعَ يَدَهُ ? فَإِذَا هِىَ بَي?ضَا?ءُ لِلنَّاظِرِينَ " . لو كان فرعون إلهاً لأبطل ما زعمه من أن ما فعله موسى سحر ، وأظهر عجز موسى بكل سهولة ويسر .
وهنا يبدأ الحواربين فرعون والسحرة . فهذا الإله ! " الديموقراطي " يستشير " عباده " فيما يفعل و" يتزلف " إلى السحرة " يستنجد بهم " ليقفوا أمام سحرموسى ! و" يستغل السحرة ُ ضعف هذا الإله " حين يطلبون أجراً مقابل ما يفعلون " أَ??ِنَّ لَنَا لَأَج?رًا إِن كُنَّا نَح?نُ ال?غَالِبِينَ " بل إن عجزه وضعفه يجعله " يمنيهم بأكثر مما يطلبون " بقوله " .. نَعَم? وَإِنَّكُم? إِذً?ا لَّمِنَ ال?مُقَرَّبِينَ " .(1/95)
ويجهز السحرة بأمر فرعون أنفسهم ليدافعوا عن ربهم الضعيف ، ويأخذوا من غنائم الدنيا الفانية الفُتاتَ اليسير ..!
ولم يقل لهم موسى حين التقاهم في الموعد المحدد سوى كلمات قليلة " ألقوا ما أنتم ملقون " فالتحدّي بينه وبين فرعون . وما هم سوى أداة رخيصة بيد الظالم يستعملها حين الحاجة فقط ثم يرميها . وهذه سمة الساقطين دائماً ، وليتهم يدرون ذلك ، ولكن لهم قلوب لا يعقلون بها .
أما حين يتجرد الضعيف من ثوب الفناء ويعرف الحقيقة ، ويوقن بها فإنه ينقلب نوراً هادياً وأسوة تحتذيها الأمم إلى يوم القيامة . وينقلب ضعفهم قوة ، وهباؤهم أوتاداً وهوانهم عزة .
حين عرفوا الحقيقة زال الخوف عن قلوبهم ، وامتلأت قلوبهم إيماناً فدوّت ألسنتهم بنداء الحق وهم ساجدون للحق تبارك وتعالى فقالوا دون خوف ولا وجل :
" آمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون " كانوا يؤمنون برب مصر الدعيّ ، فلما عرفوا الرب الحقيقي رأوه رب العالمين ، رب الداعيتين الرائعين موسى وهارون عليهما السلام .
لما رأى فرعون سجودهم لله، وإيمانهم بخالق السموات والأرض، وانقلب السحر على الساحر لم يدْرِ ما يقول : أيعاقبهم على كفرهم به وإيمانهم برب موسى ؟ أم يعاقبهم لأنهم لم يستأذنوه حين انقلبوا عليه ولم يستشيروه !!.. ثم اكتشف أنهم خُدعوا بسحر موسى ! الذي علمهم السحر!
" قَالَ ءَامَنتُم? لَهُ ? قَب?لَ أَن? ءَاذَنَ لَكُم? ?
إِنَّهُ ? لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّح?رَ،
فَلَسَو?فَ تَع?لَمُونَ ? ،
لَأقَطِّعَنَّ أَي?دِيَكُم? وَأَر?جُلَكُم مِّن? خِلَافٍ? ،
وَلَأُصَلِّبَنَّكُم? أَج?مَعِينَ "
فكيف أجابوا غطرسته وجبروته ؟ أتراهم استكانوا ، وخافوا ، وعادوا يتمسحون به ؟ أم شروا الدنيا بالآخرة ؟!
" قالوا لا ضير ، إنا إلى ربنا منقلبون "
من ذاق عرف ، إنهم اشتروا الآخرة .. فربح البيع .. ربح البيع ..
" إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين "(1/96)
النموذج الثاني
عن أبي أمامة الباهلي أن غلاماً أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ،
فقال : يا نبي الله ؛ أتأذن لي في الزنا؟
فصاح الناس به ز
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قربوه ، ادنُ .
فدنا حتى جلس بين يديه ؛
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتحبه لأمك ؟
فقال : لا؛ جعلني الله فداك .
قال : كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم . أتحبه لابنتك ؟
قال : لا؛ جعلني الله فداك .
قال : كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم . أتحبه لأختك ؟
وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة ، وهو يقول في كل واحدة : لا ؛ جعلني الله فداك .
و - صلى الله عليه وسلم - يقول : وكذلك الناس لا يحبونه . ...................
فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره ،
وقال : اللهم طهر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصّن فرجه .
فلم يكن شيء أبغض إليه منه .
الحوار في هذا الحديث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وشاب آمن ولكنه يستأذن في الزنا
الناس يصرخون به ويؤنبونه حين طلب السماح له أن يزني ، وكادوا يضربونه .
الرسول الكريم ذو القلب الرحيم والصدر الواسع - صلى الله عليه وسلم - يقرّبه منه ، ويهدّئ من روعه .
حديث منطقي هادئ ، بينهما .. متسلسل يعتمد على النقاط التي يتفق عليها الطرفان .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرّه إليه الزنا معتمداً على وجوب امتناع الإنسان عن أذية الناس في أعراضهم . فيما يكرهه لنفسه وعرضه ، وعلى مبدأ " أحبَّ للناس ما تحب لنفسك " . بعيداً عن التشنجات والاستفزاز . في جو يحيط الطرفين بالرغبة في الوصول إلى الحقيقة ثم اتباعها. . والدليل على ذلك اللطف النبوي في وضع اليد الشريفة على صدر الشاب ، والدعاء له .
النموذج الثالث
مسرحية " عالم وطاغية " للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في الحوار بين الشيخ سعيد بن جبير ، والحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق .
قال الحجاج لسعيد: ما اسمك؟
قال: سعيد بن جبير.
الحجاج: أنت الشقي بن كسير.(1/97)
سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقيت وشقي أبوك.
سعيد: الغيب يعلمه الله.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظي.
سعيد: لو علمت أنك كذلك لاتخذتك إلها.
الحجاج: ما رأيك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: اختر لنفسك قتلة أقتلك بها؟
سعيد: اختر أنت يا حجاج.. فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
الحجاج: أتحب أن أعفو عنك؟
سعيد: إن كان العفو فمن الله.
الحجاج لجنده: اذهبوا به فاقتلوه! فضحك سعيد بن جبير وهو يتأهب للخروج مع جند الحجاج.
الحجاج: لماذا تضحك؟
سعيد: لأني عجبت من جرأتك علي الله ومن حلم الله عليك.
الحجاج: اقتلوه.. اقتلوه.
سعيد: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.
الحجاج: وجهوا وجهه إلي غير القبلة.
سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله.
الحجاج: كبوه علي وجهه.
سعيد: 'منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري'
الحجاج: اذبحوه!!
سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
ثم رفع رأسه إلي السماء وقال: خذها مني يا عدو الله حتي نتلاقي يوم الحساب:
'اللهم اقصم أجله، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي'.
نجد في هذا القسم من الحوار الدائر - بأسلوب الشيخ يوسف القرضاوي - بين الحجاج والتابعي سعيد بن جبير سمات الحوار التي عرفناها واضحة جلية من براهين ورؤية واضحة وحفاظ على الهدف في إجابات سعيد بن جبير رحمه الله ، ونجد الاستعلاء والسخرية والغطرسة والانتقال هنا وهناك في أسلوب الحجاج .
كما نجد في أسلوب الحجاج المباشرة والجرأة - فهو الحاكم المهاجم دون مواربة - ونجد الجواب المحكم الموحي في أسلوب سعيد- ولكنّه إيحاء أكثر ظهوراً من مباشرة الحجاج - ببراهين ساطعة واستشهادات مكينة.
الحوار إذاً من أفضل الأساليب المعبرة عن الأفكار لأنه سماع وتفاعل تشتركُ فيه كثير من الحواس المادية والروحية الفكرية . يبقى عالقاً في النفس مؤثراً فيها .
ـــــــــــــــ(1/98)
10 همسات في فنِّ الحوار
عبد الرحمن بن محمد السيد
أيها الحبيب .. حتى نرتقي بحواراتنا .. ونتألَّق في الحفاظ على أجواء اجتماعاتنا ولقاءاتنا .. ولكي نخرج منها بثمرةٍ وفائدة ؛ كتبتُ إليك هذه الهمسات السريعة ، خرجت من قلبٍ محبّ ، وهي مشتاقةٌ أن تستقرّ في قلبك ، فارفُق بها :
الهمسة الأولى : لا تقاطع مَن أمامك ، واتركه حتى يطرح رأيه ، وينتهي من عرضه كاملاً .
الهمسة الثانية : حاول أن تستوعب جميع ما يطرحه الطرف الآخر قبل الإجابة عليه ، وتريَّث قبل التحدُّث معه .
الهمسة الثالثة : إياك أن تحتقر آراء الآخرين ، وأظهر اهتمامك بما يتحدثون ، حتى وإن لم تقتنع بما يقولون .
الهمسة الرابعة : تبسَّط في الحديث ، وخاطب الناس بما يعقلون ، وتجنَّب التشدُّق والتقعُّر في الكلام .
الهمسة الخامسة : خيرُ الكلام ما قلَّ ، ولم يطُل فيُملّ ، فاختصر كلامك ، ولا تتكلم إلا بما يُستفاد من ذكره .
الهمسة السادسة : تأدَّب في الحوار مع أهل العلم والفضل والرأي ، واختر الأوقات المناسبة في ذلك ، ولا تُكثِر عليهم ، فإنما هم مشغولون بما هو أهمّ .
الهمسة السابعة : تجنَّب الحديث في الأشخاص ، وناقش الرأي دون التعرُّض لقائله .
الهمسة الثامنة : تودَّد وتلطَّف في الحديث مع من تحاوره ، ولا يمنعك الاختلاف معه إلى القسوة عليه ، فإن ذلك أدعى لقبول رأيك ، { فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } طه44 .
الهمسة التاسعة : اِختر أجمل العبارات وأحسنها ، وإياك والتجريح ، وأحذِّرك من اتِّهام النيَّات .
الهمسة العاشرة : إذا شعرت أن الحوار عقيم ، والفائدة منه معدومة ، أو أن الطرف الآخر قد بدأ في الجدال والمخاصمة فتجنَّبه ، ونبيُّك - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربضِ الجنة لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحقّاً ) . أو كما قال عليه الصلاة والسلام .(1/99)
تلك عشَرَةٌ كاملة ، كتبتها باختصار ، وأملي : أن ينفع الله بها ، وأرجو من قارئها : الدعاء والاستغفار لي بظهر الغيب .
اللهم اهدِنا لأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت .. واصرف عنَّا سيِّئها ، لا يصرفُ عنّا سيِّئها إلا أنت .. يا سميع الدعاء . بقلم مُحبُّك : عبد الرحمن بن محمد السيد
حُرِّر ظهر السبت ، بتاريخ : 5 / 5 / 1429 هـ
ـــــــــــــــ(1/100)
أدب الحوار
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
لقد قيض الله لهذا الدين أنصارا من أمم وشعوب شتى ينافحون عنه ، ويدعون إليه ، ويبينونه للناس ، فعلى من اختاره الله لهذه المهمة النبيلة أن يكون لبقا ، حكيما في دعوته ، وأمره ونهيه ، واضعا نصب عينيه قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ...) إن الكلمة الطيبة التي يلقيها الداعية الصادق في أذن امرىء شارد عن الطريق فيغرس بها بذرة الهداية في قلبه ، تعود على الداعي بثواب عظيم ، وأجر جزيل ، قال عنه المصطفى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص من أجورهم شيئا)
ولأن الحاجة إلى الحوار ضرورية وملحة في الدعوة الإسلامية فقد رسم الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أروع الأخلاق في الحوار وأحسنها، بل وأسماها وأنبلها؛ لأنها مطلب إلهي أوصى الله به رسوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في كثير من الآيات القرآنية العظيمة، والتي من بينها قوله تعالى: ( وجادلهم بالتي هي أحسن )
و لقد اهتم الإسلام بالحوار اهتماماً كبيراً، وذلك لأن الإسلام يرى بأن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار ، أو الجدال كما يطلق عليه القرآن الكريم في وصفه للإنسان : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) بل إن صفة الحوار ، أو الجدال لدى الإنسان في نظر الإسلام تمتد حتى إلى ما بعد الموت، إلى يوم الحساب كما يخبرنا القرآن الكريم في قوله تعالى: ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها )
عليه فإن للحوار أصولا متبعة ، وللحديث قواعد ينبغي مراعاتها ، وعلى من يريد المشاركة في أي حوار أن يكون على دراية تامة بأصول الحوار المتبعة ؛ لينجح ـ بحول الله ـ في مسعاه ، ويحقق ما يرمي إليه ، ومن آداب الحوار وأصوله ما يلي:(1/101)
1ـ إخلاص النية لله ـ تعالى ـ وهي لب الأمر وأساسه ، و أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة ، متبعا في ذلك قاعدة : ( قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ) فالحق ضالة المؤمن أنى وجده فهو أحق به، كما أنه ضالة كل عاقل . فيلزم من الحوار أن يكون حسن المقصد ليس المقصود منه الانتصار للنفس إنما يكون المقصود منه الوصول إلى الحق أو الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول ( ما ناظرت أحداً الا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه ) هذه أخلاق أتباع الأنبياء ، وهنا الإخلاص والتجرد.
2- فهم نفسية الطرف الآخر ، ومعرفة مستواه العلمي ، وقدراته الفكرية سواء كان فردا أو مجموعة ؛ ليخاطبهم بحسب ما يفهمون.
3- حسن الخطاب وعدم استفزاز وازدراء الغير، فالحوار غير الجدال ، واحترام أراء الآخرين أمر مطلوب ، ولنا في حوار الأنبياء مع أقوامهم أسوه حسنة، فموسى وهارون أمرا أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى . وفى سورة سبأ يسوق الله لنا أسلوبا لمخاطبة غير المسلمين حيث يقول فى معرض الحوار . "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" .
4- حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر ، وتفهمها فهما صحيحا ، وعدم مقاطعة المتكلم ، أو الاعتراض عليه أثناء حديثه.
5- التراجع عن الخطأ والاعتراف به ، فالرجوع إلى الحق فضيلة.
6- أن يكون الكلام في حدود الموضوع المطروح ، وعدم الدخول في موضوعات أخرى.
7- البعد عن اللجج ، ورفع الصوت ، والفحش في الكلام ، قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في حديث ابن مسعود ( ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيء ) وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو ابن العاص ـ رضي الله عنه ـ انه قال: ( لم يكن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فاحشاً ومتفحشاً ) وكان يقول : ( إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) .(1/102)
8- البعد عن التنطع في الكلام ، والإعجاب بالنفس ، وحب الظهور ولفت أنظار الآخرين.
9- التروي وعدم الاستعجال ، وعدم إصدار الكلام إلا بعد التفكر والتأمل في مضمونه ، وما يترتب عليه.
10- عدم المبالغة في رفع الصوت ، إذ ليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار بل كل ما كان الإنسان أهداء كان أعمق .
إذا فالحوار الإيجابي الصحي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت ، ويرى العقبات ويرى أيضا إمكانيات التغلب عليها ، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر وآداب الخلاف وتقبله .
وبالله التوفيق...
زاحف
شبكة الفجر
ـــــــــــــــ(1/103)
المتحاورون .. وعلم لا ينفع ..!
(( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يسمع ))
صلى الله عليك أيها الحبيب المصطفى .
إن السعي إلى العلم والمعرفة ، والبحث والمطالعة في كافة الفنون ، وبذل الجهد والوقت للازدياد من الثقافة والاطلاع .. إن ذلكم فعل حسن وعمل جيد ، وهو كثير بحمد ربي في فئام لا بأس بها من بني قومي ، غير أن القليل من هذا الكثير من يزكي علمه ، ويطهر معارفه ، ويتبع علمه بالعمل ، ومعرفته بالتطبيق ، فتغدو كثير من علومنا ؛ علم لا ينفع إن لم يضر ويهلك صاحبه .
إن العلم حين لا يصاحب بعمل ، ولا يعقب بزكاة ونقاوة ، ولا يميز صاحبه بخشية وتقوى ، ما هو إلا ازدياد من حجة الله على صاحبه ، فيكون علمه حجة عليه يعقبه حسرة وندامة .
وإننا نمارس في واقعنا تطبيقا كبيرا للعلم الذي لا ينفع ، شعرنا بذلك أم لم نشعر ، في مواقف يكون حظنا هو العلم لا العمل .
حين نعلم فضيلة الخلق الحسن ، ومنزلة الأخلاق الفاضلة ، ووجوب الإحسان إلى الناس جميعا بل وحتى الحيوان ، وان نقول للناس حسنى ، ونعلم أن نختار لإخواننا ليس حسن الكلام فحسب ، بل وأحسنه وأطيبه ..
حين نعلم ذلك ، وتبقى الكثير من حوارتنا يسودها طابور من الأخلاق المشينة ، والألفاظ البذيئة ، وغير المهذبة ، وامهر الأساليب والفنون في تنقص المخالفين وتحقيرهم ..!
حينها ذلكم علم لا ينفع ..!
وحين نعلم أن العدل واجب وفرض لازم ، وان الشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يعدل مع الجميع ،ولو كان عدوه وشانئه ، فالعدل مبدأ لا مصلحة ، وخلق لا تجارة ..
حين نعلم ذلك ، فإذا خصمنا أو خاصمنا نسفنا المخالف بكليته ، ورمينا حقه وباطله ، وغدت محاسنه مساويا لا يمكن أن يعتذر لصاحبها ..
حينها ذلكم علم لا ينفع ..!(1/104)
وحين نعلم وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وفرضية التحاكم إليهما ، وان لا خيار للمسلم في أن يختار أو يحتار في ذلك ، وان الشرع حاكم لا محكوم ..
حين نوقن بذلك ، لكننا نغيب هذا كله ، ونبحث عن أية أعذار أو مخارج لنتعلل ونتملص ونتصل من التزام حكم الشرع ، ونضرب بأية حجة نسمعها في وجه الشرع ، مع كونها لم تتخمر بعد ، وربما نكون قد سمعنا بها ولم نعرفها حق معرفته .
حينها فذلك علم لا ينفع ..!
وهكذا ...
فكل علم لا يتبعه عمل وتطبيق واقعي ، هو علم لا ينفع ، وفي ظني أننا إلى عمل بما علمنا أحوج إلينا من مزيد العلوم والمعارف ، فكثير من علومنا ومعارفنا تبقى حبيسة في رؤوسنا ، وربما نبصرها في حوارات وصراعات ونزاعات ، لكنها في الواقع والتطبيق نزر يسير ..
وفق الله الجميع .
أخوكم : المارقال
في 30/4/1425هـ
ـــــــــــــــ(1/105)
فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُ من أبي العصمة إلا لكتابه ، و أصلي و أسلِّمُ على من حُمِيَ من الزلل جنابُه ، و على آله و أصحابه .
أما بعدُ :
فهذه مُرْسَلَةٌ أوضِّحُ فيها معالم (فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم ) ، ناشداً من الله التوفيق في الإيضاح ، و راغباً من الأنام درايةَ سرِّ الإفصاح .
أضع بين مخائل لفظها بدائع لحظِ القواعد ، و أسطِّرُ فيها غُرَرَاً من نفيس الفوائد ، مَسْرُدَةً في عِقْدٍ منظوم بمعانٍ من الإجلال ، و مُزَيَّنَةٍ بجلبابٍ من اللآل .
فأقول و بربي استعانتي ، و عليه اتكالي :
إ ن الكلام عن (فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم ) يدور على محاورَ هُنَّ أساسٌ له ، و عليها اعتماده :
الأول : الأصل في العالم عدم مخالفة الشريعة .
و هذا الأصل معروف مشهور ، إذ علماءُ الشريعة على جانب كبير من التعظيم للملة ، و على حيازة عظيمة لإجلال الآثار .
و لذا قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ : (وليعلم انه ليس أحد من الأئمة-المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً- يتعمد مخالفة رسول لله-صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنته, دقيق ولا جليل .
فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول -صلى لله عليه وسلم- ,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ) أهـ [رفع الملام ص :4].
فإذا تقرر هذا فإن مخالفة العالم للنص الشرعي سيكون له فيها عذراً يشفع له بتجاوز زلته .
ولا يجوز - إطلاقاً- إخراج احد من العلماء من هذا الأصل.
الثاني: أسباب المخالفة.
حصر شيخ الإسلام -رحمه الله - أسباب مخالفة العالم النصَّ في عشرة أسباب :
أولها: أن لا يكون الحديث قد بلغه.
ثانيها: أن يكون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده .
ثالثها: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ خالفه فيه غيره.
وقد جعل الشيخ لحصول هذا السبب أسباب خمسه هي :(1/106)
أولاً : أن يكون المحدث ( الراوي ) بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ويعتقده الآخر ثقة.
ثانياً : أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حَّدث عنه,وغيره يعتقد انه سمعه .
ثالثاً: أن يكون للمحدث حالان:
1- حال استقامة .
2- حال اضطراب(اختلاط , واحتراق كتب).
فما حَدَّث به في الحال الأولى فهو صحيح,وما حَدَّث به في الثانية فهو ضعيف.
فهنا يكون النزاع بين العاَلِمَيْن في حديث الروي في أي الحالين حَدَّث به؟
رابعاً: أن يكون المحَّدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد ,أو أنكر أن يكون حَدَّث به, ويرى أحد العالَمِين أن ذلك علة توجب ترك الحديث.
ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.
رابعها: اختلاف العلماء في شرط خبر الواحد.
فبعض العلماء له في خبر الواحد شروطاً يرى أهمية تواجدها فيه,بينما غيره لا يرى تلك الشروط .
خامسها: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده, ولكن نسيه.
سادسها: عدم معرفة العالم بدليل الحديث. وسبب ذلك:
أولا: كون لفظ الحديث غريباً عند العالم.
ثانياً:الاختلاف في معنى الكلمة في لغة العالم ولغة النبي-صلى الله عليه وسلم- فيحمله على ما يفهمه من لغة نفسه.
ويحتج لفعله هذا بأن الأصل بقاء اللغة.
ثالثاً: كون اللفظ:مشتركاً,أو مجملاً,أو مترددا بين حقيقة ومجاز.
فيحمله العالم على الأقرب عنده, وان كان المراد المعنى الآخر.
كما في فَهمِ عدي بن حاتم من قوله تعالى(الخيط الأبيض من الخيط الأسود) انه الحبل المعروف.
رابعاً: كون الدلالة من النص خفية.
فإن جهات الدلالات مُتَّسَعَةُ جداً ، يتفاوت الناس في إدراكها . وفهم وجوه الكلام بِحَسبِ منح الحق -سبحانه وتعالى-ومواهبه.
سابعها: اعتقاد العالمِ أن لا دلالة في الحديث .
والفرق بين هذا والسابق :
الأول :العالم لا يعرف جهة الدلالة .
الثاني: العالم عرف الدلالة في الحديث لكنه اعتقد عدم صحتها.(1/107)
وهذا الاعتقاد _ أي كون الدلالة ليست صحيحه-سبب كون بعض الأصول-لدى العالم-ترد تلك الدلالة.
ثامنها: اعتقاد العالم أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة.
تاسعها: اعتقاد العالم أن الحديث معارضٌ بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله- إن كان قابلاً للتأويل- وشرط العارض : أن يكون معارضاً بالاتفاق كـ(آيه)أو(حديث)أو(إجماع).
وهذا الاعتقاد نوعان:
الأول:أن يعتقد أن هذا المعارض راجحٌ في الجملة, فيتعين أحد ثلاثة أمور , من غير تعيين واحدِ منها.
قُلْت : والظاهر أن المراد بالثلاثة التي يتعين واحداً منها وهي:ضعف الحديث , أو نسخه , أو تأويله.
الثاني:أن يعين واحداً من الأمور الثلاثة بأنه يعتقد أنه منسوخ أو مؤول.
عاشرها: معارضة الحديث بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله ,مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضاً , أو لا يكون في الحقيقة معارضاً.
وبيان هذا أن يأتي عالم فَيِعارض حديثاً بمُعَارضٍ فيه دلالة على ضعف الحديث أو نسخه أو تأويله .
وعالمٌ آخر لا يعتقد أن المعارض معارضاً, أو لا يكون عند التحقيق فيه معارضاً.
[انظر: رفع الملام ,ص5-20]
الثالث: المسائل المخالف فيها.
إن الخلاف القائم بين علماء الدين لا يخرج عن مسألتين:
الأولى: مسألة في الأصول (الاعتقاد)
الثاني: مسألة في الفروع (الفقه وغيره)
وقبل أن يخطأ العالم في مخالفته لابد من معرفة ما يأتي:
الرابع: دوران المسائل بين الوفاق والخلاف.
بعد أن ننظر إلى العالم وكونه خالف غيره في أي من المسألتين الآنفتين فإن الواجب أن ينظر إليهما من خلال جهتين:
الأولى:جهة الوفاق والإجماع .
الثانية: جهة الخلاف
فإن كان العالم قد أخذا بمسألة انعقد عليها الإجماع ولم يَقُمْ فيها خلاف فإنه يخطأ بأدب وعلم.
وأما أن كان العالم قد اخذ بمسألة قام الخلاف فيها قديماً فلا يجوز أن يخطأ أو يجهل .(1/108)
قال سفيان الثوري -رحمه الله- :(إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه) . (الفقيه والمتفقه 2/69).
وَصْلٌ: اعلم -علمني الله وإياك- أن الخلاف يعود إلى أمرين رئيسين:
الأول:الأخذ بالأدلة
الثاني: فهم الأدلة
فأما الأول فإن الأدلة على قسمين:
أولها: أدلة متفق عليها.
وهي(القرآن,السنة,الإجماع,القياس)
ثانيها: أدلة مختلف فيها
مثل: (الاستحسان,الاستصحاب,فعل الصحابي,شرع من قبلنا)
وأما الثاني: فإن فهوم العلماء متفاوتةٌ مختلفةٌ.
وعلى ذلك فلا لوم على من قال بمسألة واعتمد على دليلٍ معتبر (متفقاً عليه أو مختلفاً فيه)
هذا ما سنح الخاطر برقمه , وما جاد القلم برسمه سائلاً ربي الكريم إصلاح الحال وجمع الشمل , وإقصاء بواعث الفرقة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
كتبه
ذو المعالي
ـــــــــــــــ(1/109)
الحجاز والتسامح الديني
مناقشة لكتاب مهد الإسلام للكاتبة مي يماني
الشريف حاتم بن عارف العوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فتعليقاً على ما نُشِر في موقع قناة الجزيرة في الإنترنت، يوم الخميس25/7/1425هـ، من عرضها لكتاب بعنوان: (مهد الإسلام: الحجاز، والسعي نحو هويَّة عربيَّة)، لمؤلفته: مي يماني، والمنشور في لندن.
وانطلاقاً من خلفيات الطرح الذي بُني الكتابُ عليه، حسب العرض المنشور عنه، وهو طرح له وجود ولا شك، ويقف وراءه ويتبناه أفراد وجماعات، ودُعم مؤخراً بقوة من جهات متعددة :
أحببت أن أشارك في مناقشة هذا الموضوع، لا لكوني مسلماً ويهمني شأن مهد الإسلام (الحجاز) فقط، ولا لكوني من السعودية على وجه الخصوص؛ بل الأمر يخُصُّني أكثر؛ لكوني حجازياً، من أعرق أسرة في الحجاز، وهم الأشراف، ومن الأسرة الحاكمة في الحجاز سابقاً، وهم آل عون، والذين منهم حكام الأردن حالياً.
نعم..فحديثي عن الحجاز لا يمكن أن يُدَّعى أنه كلام دخيل عليها، وحديثي عن تاريخها لا يمكن أن يُزعم أنه كلام معادٍ لتاريخها السياسي أو العقائدي؛ لأني كما ذكرت من الحجاز في ذروة السنام..ولا فخر.
أهوى الحجازَ وطَلْحَه وسَيَالَه *** وأراكَه وبَشَامَه وعَضَاه
فسقى الإله سهوله وحُزُونَه *** ومروجَه ووهَادَه ورُبَاه
غيثاً يطبِّق بالفلاة فيستوي *** بالروض منظرُ أرضِه وسماه
كما أني في تعليقي على الكتاب المشار إليه، حسب العرض الذي نُشر عنه، لا أقصد التعليق على كل النقاط التي تناولها ذلك العرض، ولا أريد أيضاً أن يُفهم عني أني أخالف كل ما تضمنه ذلك العرض.(1/110)
فقد تضمن ذلك العرض حقائق ليس لأحد أن يخالف فيها، من مثل أن الحجاز متميز عن بقية مناطق المملكة. بل إني أقول: إنه متميز عن بقية مناطق الدنيا؛ لاحتضانه الحرمين الشريفين، ولكونه مهد الإسلام، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين، ومحجتهم من كل بقاع الأرض.
كما أني أؤكد على صحة ما جاء في ذلك العرض، من أن أبناء الحجاز عموماً (قبائل وقاطنين) يتميزون باندماجهم القائم على سماحة الإسلام وبُعده عن العنصرية، وأنهم أكثر أبناء المناطق السعودية قبولاً للغريب عن منطقتهم، إلى غير ذلك من المميزات، التي أكسبتهم إياها المكانة الدينية والجغرافية للحجاز، والتي أثَّرت في أبنائها على مر القرون، والتي لم تكن وليدة عصر النفط في المملكة.
لكني أود التعليق على موضوع جاء في ذلك العرض، كثيراً ما يُطرح بنوع من المغالطة من جهة، وبمخالفة حقائق التاريخ الماضي وحقائق الحاضر والواقع الذي نعيشه من جهة أخرى.
ويتركز التعليق على قول صاحب العرض عن صاحبة الكتاب:
إن المشروع السعودي التوحيدي القادم من نجد لم ينازع الحجاز الزعامة السياسية فحسب، بل نازعها أيضاً، وبصورة أكثر أهمية، حصرية التمثيل الديني، ونوعية التعامل مع الدين نفسه، مهمشاً التنوع الحجازي المذهبي المتسامح، وأنه أبرز عوضاً عن هذا التنوع المتسامح التطرُّفَ الوهابي في الدين والتفسير له، وأن ذلك أدى إلى اضمحلال سلطة الحجاز وصعود سلطة نجد.
بهذا الأسلوب عرضت الكاتبة لإحدى أهم موضوعات كتابها، حسب عرضه المنشور عنه، وهو عرض لا شك أنه يساعد على تأجيج نار الإقليمية والعنصرية، المؤدية إلى إثارة الفتن، وإلى المطالبة بتفكيك هذه الوحدة التي تنعم بها المنطقة، والتي هي (أعني الوحدة) مما تتفق عليها جميع التيارات الإسلامية والمشاريع الدينية بل والقومية الصادقة مع مبادئ القومية: على المطالبة لا بالحفاظ عليها كإنجاز وقد تم فقط، بل على توسيع دائرتها، ليشمل العالم الإسلامي كله.(1/111)
ثم إن الكاتبة أرادت أن تضع حلاً لإعادة الهوية الحجازية، فكان الحل حسب العرض هو الاعتراف بالتنوع الديني والاجتماعي والثقافي.
ولكي يكون نقاشي لهذا الحل علمياً موضوعياً، وعميقاً بعيداً عن السطحية الصحفية التي تعودنا في العالم الثالث أن نعالج بها الأمور، أود أن أفهم المقصود من ذلك الحل، أو بصورة أوضح: ما هو التنوع الديني الذي تطالب الكاتبة به؟ وتعدّه الحل الأمثل لمنطقة الحجاز؟ وما هي صورة هذا التنوع؟ ومتى سيصل هذا التنوع الحد المرضي عندها؟
أعترف أني لا أعرف ما هي أجوبة الكاتبة عن هذه الأسئلة؛ لأني لم أقرأ إلا عرضه المنشور عنه.
لكني أسمع وأقرأ دوماً مثل هذا الطرح، دون أن تكون لدى أصحابه أجوبة صريحة ومنطقية لتلك الأسئلة، في أكثر الأحيان.
فهل المقصود بالتنوع الديني المطالب به هو التنوع المذهبي الفقهي؟ كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي؟
إن كان هذا هو التنوع المطلوب، فهو موجود دون أي قمع أو محاربة له في المملكة، قديماً وحديثاً. بل إن التيار السلفي الذي تتبناه المملكة والسلطة الدينية فيها هو أبعد التيارات عن التعصب لمذهب فقهي معين؛ لأنه يقوم على ترجيح ما دلت نصوص الكتاب والسنة عليه من أقوال فقهاء المسلمين من المذاهب الأربعة جميعها.
وأما إن كان المقصود بالتنوع التنوع العقائدي، كالسلفية والصوفية والتشيع وغيرها، فهذا في حقيقته وواقعه ليس مجرد تنوع، بل الوصف الواقعي له أنه اختلاف، يصل في بعض نواحيه إلى اختلاف في أصول المعتقد.(1/112)
أقول ذلك لا لغرض إقصاء الآخر أو إلغائه، ولا بسبب عدم قبول مبدأ التسامح مع المخالف؛ ولكني أقوله لأني صادق مع مبدأ التسامح، ولأني أريد حلاً صحيحاً لهذا الاختلاف، ولن يكون الحل صحيحاً إذا صورنا ذلك الاختلاف أنه مجرد تنوع، أو أنه أطياف جميلة لقوس قزح. وإن كان هذا قد يخدع البسطاء، وإن كان قادراً على تخدير المشاعر في لحظة من اللحظات، وإن كان نافعاً لواجهة صحفية إعلامية في العالم الثالث. لكن أن يكون هذا التصوير المخالف للواقع حلاً، فلا؛ لأنه ولسبب هيِّن: يخالف الواقع، وسيصطدم به حال نزوله إلى أرض الواقع.
ولكي أثبت أن هذا التنوع اختلاف وليس مجرد تنوع، لن أدخل في تفاصيل المسائل المختلف فيها، فهي معلومة عند كل مثقف عربي ومسلم؛ فضلاً عن العلماء والمتخصصين في العقائد، لكني أثبت ذلك بالواقع:
أما رأي السلفية في الصوفية والشيعة، وتعاملهم معهم، فالكاتبة ومن على رأيها، يصفونها بالتطرف والإلغاء للآخر؛ فلن أثبت هذا الواقع الذي يرونه هم واقعاً.
وأما موقف الصوفية من غيرهم، فكتبهم ومقالاتهم في ذلك معروفة، من اتهام السلفية ببغض النبي - صلى الله عليه وسلم، وانتهاك حرمة الصالحين، بل إنهم دسيسة على الإسلام والمسلمين، إلى درجة التكفير الصريح، وما يستتبعه ذلك من استباحة الدماء والأعراض. وها هي السلفية محاربة في كثير من بقاع العالم الإسلامي، من قبل الصوفية والشيعة، ولا دعوة فيهم إلى المطالبة بالتنوع الديني.
وأما موقف الشيعة من بقية المسلمين (سلفية وصوفية) فمعروف لا في بطون الكتب فقط، ولا على منابر الخطب فقط، ولا في الدروس اليومية فقط؛ بل في واقع تعاملهم معهم في عدد من بلاد العالم الإسلامي، التي يكون لهم فيها سلطة. فأين التنوع الديني عند هؤلاء؟
فلا داعي بعد ذلك كله أن نغالط أنفسنا، لنصف هذا الاختلاف بالتنوع.(1/113)
ولا داعي لأن ندعي وبكل سذاجة أن مجرد وصف هذا الاختلاف بالتنوع، أن الواقع سيتغير، وأن الأمور ستنقلب رأساً على عقب، فيصبح الاختلاف ائتلافاً والافتراق اتفاقاً.
بل الاعتراف بالواقع، وبأن هذا التنوع هو في حقيقته اختلاف مبادئ وعقائد، وأن كل أصحاب معتقد يعدون مخالفيهم مخطئين، ويعدون أنفسهم أهل الحق = هذا الاعتراف هو أول طريق للحل الصحيح.
وهذا الاعتراف هو أول ناقض لذلك الحل الذي جاءت به الكاتبة؛ لأنه يناقض ذلك التصوير الخيالي لواقع الاختلاف الذي طرحته، وهو الدعوة إلى التنوع الديني.
وأنا أعلم أني بمجرد أن أطالب بالواقعية، سيحاول بعض أصحاب الأغراض الخفية، أن يصفوا هذا الطرح بأنه إقصائي، أو طائفي، وغير ذلك من التهم الجاهزة، لكل من يحاول إفساد مخططاتهم الخفية، القائمة على إقصائهم هم للآخرين، وعلى الطائفية التي ينتظرون معها ساعة تصفية الحسابات صباح مساء.
وبناء على ما سبق، يكون هناك اختلاف بين تلك التيارات: السلفية، والصوفية، والشيعية، وهذا الاختلاف لا يمكن أن يصبح بمجرد الدعوة إلى التعدّديّة ائتلافاً، بل سيبقى اختلافاً حتى مع حصول التعدّديّة.
وعليه.. فالحل للإشكال في هذا الواقع يجب أن ينطلق منطلقاً واضحاً، ليس مبنياً على إلغاء الآخر، بل على تحديد معالم استيعاب المخالف واحتوائه، وعلى معرفة القدر الذي يكون فيه الاختلاف طبيعياً، وحدود خروجه عن القدر الطبيعي إلى العدوان من أحد المختلفَين على الآخر.
أقول: ما هو القدر؟ حيث إن المطالبة بالتعدّديّة والدعوة إلى التسامح الديني والمذهبي لا يمكن أن يكون بلا حدود ولا ضوابط يقتضيها الشرع والعقل. وهذا مما يتفق عليه العقلاء، ولا تخالف فيه الأنظمة التي تعد نفسها دول الحرية والتسامح.(1/114)
إذن فالمطالبة بقدر تلك التعدّديّة، وما هو المقصود بها، وما هي حدودها المقبولة، ومتى تكون مرفوضة؟ كل ذلك هو الذي يجب أن يدرس ويطرح، قبل تلك الدعوة الجوفاء إلى مطلق التعدّديّة.
فمثلاً: قد يقال في هذا السياق: التعدّديّة المطلوبة هي التعدّديّة الدينية الموجودة في الغرب.
والذي يستبعد هذا الحل هو أن التعدّديّة الغربية لن تكون مقبولة عند المسلم الذي يرى في نصوص الدين ما يعارض هذا النوع من التعدّديّة، كما أن محاولة تطبيق تلك التعدّديّة بكل حذافيرها لا يمكن أن يتم إلا بعد أن تطبق التعدّديّة السياسية أيضاً؛ لأن نظام الحكم كله يجب أن يكون مستعداً لكل التغييرات التي تقتضيها التعدّديّة الغربية، وذلك ينبثق من دستور للدولة شامل لجميع شؤونها.
ثم إن المسلم في الغرب يُعاني من تناقض الحياة الغربية وحريتها مع مبادئه وعقائده وحريته، بل مع أبسط حقوقه (كالحجاب في فرنسا). فكيف سيكون في تطبيق تلك التعدّديّة تطبيق لمبادئ الحرية التي يريدها المسلم؟ وكيف سيسعى إلى تحقيقها في البلاد الإسلامية؟! هل سيرضى المسلمون أن يعيشوا حياة الاغتراب (كالتي يعيشونها في الغرب) في أوطانهم الإسلامية أيضاً؟!
ثم إن الغرب مع تطبيقه لتلك التعدّديّة، فإنه لم تزل للأقليات الدينية والعرقية فيه مطالبات قوية، تصل إلى درجة المواجهات العسكرية. فإما أن تدل هذه المطالبات على فشل التعدّديّة الغربية في تحقيق الحرية والتسامح الديني والمذهبي، فكيف تطالبون بتطبيق هذا النمط الغربي، وإما أن مجرد وجود المطالبات لا يدل على انعدام الحريات وعلى التطرف الديني، فلم كان مجرد وجوده دليلاً على انعدامها وعلى التطرف في السعودية خاصة.(1/115)
إذاً فنحن لا نلغي فكرة قبول التعدّديّة والتسامح من أساسها (بل ندعو إليها)، ولا نقبلها بلا ضوابط، كما أننا لا نقبلها معلبة مستوردة من الغرب؛ لسبب طبيعي وعادي: وهو أننا مسلمون، لنا دين وقيم وثقافة تختلف عن الغرب في دينه وقيمه وثقافته، وكما لا يقبل الغرب أن يحل ديننا وقيمنا وثقافتنا مكان دينه وقيمه وثقافته، فيحق لنا -من باب العدل والمساواة أن نرفض نحن ذلك.
وإن وصلنا في نقاش هذه المسألة إلى هذا الحد، وإذا اتفقنا على هذا المنطلق في مناقشة طريقة تطبيق التعدّديّة، وهو: أن التعدّديّة والتسامح الديني له حدوده التي لا بد منها، وأن النمط الغربي له لا يحقق تطلعات المجتمع المسلم؛ لأنه لم يحققها له في الغرب = فيجب علينا أن نحرص على هذه النقطة التي اتفقنا عليها، وأن لا نسمح لأي شيء أن يبعدنا عن هذا الحد من التقارب والاتفاق، وأن نحاول إكمال مسيرة الاتفاق؛ إذا كنا صادقين في إرادة الخير لأنفسنا ولأمتنا.
والذي يجب أن يكون هو الخطوة التالية لنقطة الاتفاق السابقة، هو أن التعدّديّة المطلوبة يجب أن تكون منضبطة بضوابط صحيحة، محققة لتطلعات المجتمع المسلم. وهذا لن يتحقق إلا إذا كان تصور تلك التعدّديّة غير مخالف للإسلام، وإلا فإنه سيكون مرفوضاً من المجتمع المسلم، إذا ما خالف الإسلام.
وهذه نقطة اتفاق ثانية، لا يُستهان بها، ويجب المحافظة عليها.
إذاً فالتصور لمشروع التعدّديّة الدينية والتسامح المذهبي يجب أن يكون تصوراً إسلامياً بحتاً؛ لأنه ينطلق من الإسلام في جميع مراحله؛ وإلا فسيكون تصوراً مستحيل التطبيق؛ باصطدامه بالواقع الإسلامي الذي يريده المسلمون. ولا يعني ذلك أن هذا التصور سيكون مُنبتاً من كل وجه عن التصورات الأخرى؛ لأن ما وافق فيه الغرب أو الشرق التصور الإسلامي سيكون مأخوذاً به؛ لأنه من ديننا.(1/116)
فإذا أردنا مناقشة التعدّديّة المذهبية أو العقائدية في السعودية، يجب أولاً أن نعترف بوجود قدر منها؛ لأن مجرد بقاء أصحاب تلك المذاهب والعقائد هذا وحده يدل على وجود قدر من التعايش والتعامل، وأن التعدّديّة في السعودية لم تصل إلى حد رفضها تماماً، كما حصل في محاكم التفتيش النصرانية في أسبانيا، فإن هذا الحد من الرفض وعدم التسامح الديني لا يدعي أحد أنه وقع في السعودية، ولا قريباً منه، ولا ادعته الكاتبة نفسها، ولا يستطيع أن يدعيه أحد لمناقضته للواقع الماثل للعيان.
وأنا إنما أهبط إلى هذا الحدّ من التنازل لإثبات أن هناك قدرًا ما من التعدّديّة ما زال ولم يزل موجودًا في السعودية، لأقول بعد ذلك: إن هذا القدر قد يراه البعض غير كافٍ وغير متسامح، وقد يراه آخرون كافيًا متسامحًا، ويراه أيضاً آخرون مبالغًا فيه إلى حدّ الإساءة إلى حريته الدينية؛ لأنه يرى في دينه ما يعارض بعض مظاهر تلك التعدّديّة.
فإذا ما انحصر الخلاف في قدر ذلك التعايش، وفي تلك التعدّديّة الموجودة: هل وصلت حد التسامح المطلوب؟ أم لم تصل إليه؟ أم بالغت في تطبيقه؟ فالمرجع في معرفة الجواب الصحيح على هذه الأسئلة المختلفة التوجهات، هو الإسلام، الذي رضيه الجميع مرجعًا لتصوراته عن التعدّديّة المذهبية والتسامح الديني؛ كما سبق أن اتفقنا عليه؛ لأنه هو الحل الوحيد الذي لا يرفضه المجتمع المسلم، بل يقبله ويريده.
فإن وصلنا إلى هذا الحد من النقاش، أمكننا أن نحاكم ذلك القدر من التعدّديّة والتعايش الموجود حاليًا في السعودية إلى نصوص الكتاب والسنة، مبيِّنين تصورَنا عن التسامح المذهبي والعقائدي الذي يقرُّه الإسلام، وعن الانفلات الذي يرفضه الإسلام؛ لأنه يهدّد الإسلام بالذوبان والفناء التدريجي، إذا ما رضيناه منهجًا للتعددية الدينية والعقائدية.(1/117)
ومن هنا نعلم: أن أيّ دعوة مطلقة للتعددية والتسامح، لا تضع تصوّرًا واضحًا لها، لا تعدو أن تكون شعارات سطحية، لا تلج إلى لبِّ المسألة، ولا تناقش حقيقة الخلاف. ولذلك فإن مثل هذه الدعوة المطلقة لا تستحقُّ الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة؛ لأنها طريقة أنضجها التاريخ السياسي حتى أحرقها، وأصبحت لعبة مكشوفة لدى العقلاء: أن المطالبة بالباطل لابد أن تكون بشعارات الحق، التي يحتفظ أصحاب الباطل بحق تفسيرها وقتما يجدون الفرصة سانحة لذلك. ولقد أعلنها جدّي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه قبل ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين سنة، عن مثل هذه الشعارات، عندما قال عنها: "كلمة حق أريد بها باطل" [صحيح مسلم 2/749]. فما أقدمها من أسلوب لأهل الباطل! وما أعظم غفلة من ينخدع بها!!! ولذلك قلت: إن المطالبة بالتعدّديّة المذهبية والتسامح الديني دون ضوابط أو تصورات، لا تستحق الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة، خاصة في هذا الوقت، الذي لم يعد الأمر فيه خافيًا، أن هناك مخططًا أمريكيًا للتلاعب بالمنطقة، لكي تحقق المنطقة مصالح أمريكا، على حساب الأمة ودينها ومقدراتها.
هذا ما يتعلق بالمغالطة التي جاءت في عرض كتاب الكاتبة ميّ يماني، أما ما يتعلق بالمخالفة للتاريخ: فهو ما أوهمت الكاتبة أنه كان موجودًا في الحجاز إبّان حكم الأشراف لها، وهو ذلك التنوّع والتسامح الذي أطلقته الكاتبة دون معالم له ولا حدود.
والكاتبة -حسب العرض المنشور تتحدّث عن تنوّع وتعددية خيالية، لأنها لم تحدّد معالمها (كما سبق). فإثبات وجود ما تقصده أو نفيُهُ غير ممكن، حتى نعرف تصوّرها عن التعدّديّة التي تدّعي أنها كانت موجودة في الحجاز، وحتى نعرف الفرق بينها وبين الموجود اليوم فيها.(1/118)
وأنا إذ أتكلم عن الحجاز وتاريخها، فأنا ابن تاريخها، وأقولها كلمة حق عن تاريخها: إن الحجاز - كغيرها من مناطق العالم الإسلامي قد مرّت بمراحل مختلفة، بالنسبة لتحقق التسامح الديني والمذهبي فيها، بحسب الظروف الدينية والسياسية والعلمية التي تمر بها.
فمثلاً: في الفترة التي كانت فيها الحجاز تُعدُّ ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وبما أن الدولة العثمانية كانت تتبنى مذهبًا صوفيًا متطرّفا في الغالب، كانت الدعوة السلفيّة في الحجاز وغيرها من ولايات الدولة العثمانية محارَبةً بقوّة وبغير تسامح.
فهذا محمد بن محمد بن سليمان الرّوداني المغربي، والذي توفي قبل مولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث توفي سنة (1094هـ)، وهو أحد علماء الحجاز الذين كانوا غير راضين عن كثير من بدع الاحتفالات الدينية التي كانت تقام في الحجاز حينها، وكان شديد النفرة من بناء القباب على القبور، ويصف ذلك بأنه من بدع الكفار المنكرة. بقي معتزلاً في بيته، لا يستطيع أن يطالب بما يعتقده ويدين الله تعالى به. حتى عرفه وزير الدولة العثمانية الأكبر، وأحبه وعظّمه، فولاّه النظر في الشؤون الدينية للحجاز، فمنع تلك الاحتفالات، وهدم القباب. ولكن ما إن توفي ذلك الوزير، حتى عُزل الروداني من منصبه، وأوذي أشدّ الإيذاء، وطرد من مكّة والحجاز بأسوأ معاملة. ثم أعيدت تلك الاحتفالات، وبنيت القباب من جديد.
فأين التسامح الديني في هذا الحادث التاريخي، الذي يدلّ على الواقع الذي كان يعيشه الحجاز في تلك الفترة، ومناهضته وعداوته للدعوة السلفيّة، وعدم تعايشه معها بأي وجه من وجوه التعايش، والتي وصلت إلى درجة الطرد والإبعاد من الحجاز.(1/119)
وفي آخر حكم الأشراف كانت الدعوة السلفية محاربةً بكل قوّة؛ لتعلّق ذلك بالصراعات السياسية بين الحجاز ونجد. وما قصة العالم المكي السلفيّ أبي بكر بن محمد عارف بن عبد القادر خوقير (ت1349هـ) عنّا ببعيد؛ الذي أوذي أشد الإيذاء، حتى سجن هو وابنه، وقتل ابنه في السجن، وبقي هو في السجن إلى أن سقط حكم الأشراف في مكّة المكرمة، كل ذلك من أجل معتقده السلفي، والذي لم يكن له فيه أتباع تُخشى شوكتهم في الحجاز، بل هو تيار مكبوت أتباعه، متفرقون، لا يجمعهم تنظيم، ولا يتكلم بلسانهم خطيب. ومع ذلك أوذي هذا العالم بكل تلك القسوة، وبهذا القدر الغالي في مصادرة الرأي الآخر، وكبت الحريات الدينية.
وكل من عرف الحجاز وتاريخها الأخير، يعرف مقدار ما كانت تواجه به الدعوة السلفية من العداء، وعدم السماح لصوتها بالظهور، بل للقلوب أن تنطوي عليها، لو كان ذلك في قدرتهم.
وكما كان هذا هو موقف حكومة الحجاز من الدعوة السلفية، كذلك كان موقفها من الشيعة الإمامية، خاصة وعداء الدولة العثمانية للشيعة الإمامية (ممثلاً في الدولة الصفوية) عداء سياسي وعسكري وديني مستحكم.
ولديّ من صحائف التاريخ الحجازي ما يدل على مقدار العداء الذي كان مستحكمًا في الحجاز بين المذهب الإمامي والمجتمع الحجازي حكومة وشعبًا.
وبناءً على هذا التاريخ الحقيقي للحجاز، ولمقدار التسامح الديني والتعدّديّة المذهبية الموجودين فيه: ما هو ذلك التسامح الذي كان موجودًا في الحجاز سابقاً، وتطالب الكاتبة بعودته؟!
إن كانت تقصد اضطهاد الدعوة السلفية بها، فهذا ممكن!!
والمغالطة الأخرى للكاتبة: هي أنها صوّرت انتشار الدعوة السلفية في الحجاز بأنه اضمحلال لسلطة الحجاز الدينية لصالح سلطة نجد!(1/120)
فهل هذا الطرح طرح علمي؟! وهل يمكن أن يكون لمثل هذا الطرح ثمارٌ طيبة؟! أم أنه سيكون داعيًا لإثارة النعرات الجاهلية.والعجيب في هذا الطرح هو المصادرة والتحكم بغير دليل ولا شبهة دليل الذي بني عليه: فنجْدٌ عند الكاتبة تمثل الدعوة السلفية، والحجاز عندها تمثل الدعوة المناهضة لها، وهي التصوف. هكذا سمحت الكاتبة لنفسها أن تقسِّم المناطق حسب رغبتها، أو حسب فهمها.
إن عدّ منطقة ما ممثلة لمذهب معين، لمجرد أن ذلك المذهب كان منتشرًا فيها خلال فترة تاريخية معيّنة = تصرف غير علمي؛ لأنه يتناقض مع نفسه. حيث إن الحجاز مثلاً قد مرّت في تاريخها بمراحل مختلفة، انتشرت فيها خلالها مذاهب متعددة: من المذهب السني، إلى الزيدي، إلى الصوفي؛ فما الذي جعل الحجاز ممثّلة للمذهب الصوفي خاصة، دون غيره من المذاهب. إن كان ذلك بناءً على الواقع الذي فرض نفسه، فلم لا ترضى الكاتبة بالواقع الحالي. وإن كان غير ذلك، ولن يكون إلا المصادرة على الرأي، فهو أمر مرفوض.وكذلك منطقة نجد، قد مرّت بمراحل مختلفة في تاريخها؛ فلم تكن الدعوة السلفية دعوة نجديّة يوم دعا إليها شيخ الإسلام ابن تيمية في بلاد الشام ومصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي.والحق الذي لا مرية فيه: أن الحجاز ونجدًا والأرض كلها لله وحده، يورثها من يشاء من عباده. والحق الذي لا مرية فيه: أن الحجاز تمثل الإسلام الصافي؛ لأنها مهبط الوحي، ودولة الإسلام الأولى، وإليها يأرز الإيمان في آخر الزمان. فكل رجوع إلى الإسلام الصافي في الحجاز، وكل نصرة لسنة النبي المكي - - صلى الله عليه وسلم - = هي انتصار لسلطة الحجاز أيضاً.ولذلك فلمن يرى أن الدعوة السلفية هي التي تمثل الإسلام الصافي، له أن يرى أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي اضمحلال لسلطة نجد لصالح سلطة الحجاز، خاصة مع ما جاء في كتاب (مصباح الظلام) لحفيد محمد بن عبد الوهاب، وهو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(1/121)
(ت1293هـ)، الذي قال عن جده محمد بن عبد الوهاب: " وسمع الحديث عن أشياخ الحرمين في وقته، وأجازه الكثير منهم، ومن أعلامهم محدّث الحرمين الشيخ محمد حياة السندي، وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيده عبادة الله، والتخلص من رقّ التقليد الأعمى، والاشتغال بالكتاب والسنة".
وكذلك لمن يرى الدعوة السلفية هي التي تمثل الإسلام الصافي، له أن يعدّ عودة هذه الدعوة إلى الحجاز اضمحلالاً لسلطة الأتراك العثمانيين، الذين نشروا التصوّف في العالم الإسلامي، وأن هذا الاضمحلال لسلطتهم كان فيه عودة لسلطة الحجاز إلى الحجاز مرةً أخرى.
وأما اعتراف الكاتبة بانتشار الدعوة السلفية في الحجاز في العقود الأخيرة، فهو وإن كان عندها اضمحلالاً لسلطة الحجاز، إلا أنه اعتراف منها بالواقع الماثِل للعيان، وهو أن الدعوة السلفية في الحجاز اليوم هي معتقد غالب أهل الحجاز (من القبائل والقاطنين أيضاً)، وأن المناهضين لها هم فيها اليوم أقلية. وأما أن ذلك اضمحلال لسلطة الحجاز، فهو في الحقيقة اضمحلال للسلطة التي تريدها هي للحجاز، لا لسلطة الحجاز الدينية، التي هي الإسلام الصافي، المعتمد على الوحي من الكتاب والسنة.ولذلك فإني أطالب من يطرح مثل هذا الطرح، أن يتكلّم بموضوعية علمية؛ إذ بأي حقّ تُصَوَّرُ فيه الحجاز، وكأنها وقف خاص على الدعوات المناهضة للدعوة السلفية.
فالموضوعية إذن هي أن ننظر إلى المذاهب الدينية القائمة، ونقيسها بالكتاب والسنة، فأقرب المذاهب إليهما فهو الذي يمثل سلطة الحجاز الدينية.وهنا أغتنم هذه الفرصة لأعلن عن هذه الحقيقة، التي لم يعد بإمكان الكاتبة ولا غيرها أن يتجاهلها؛ لأنها واضحة وضوح الشمس: وهي أن غالب أهل الحجاز اليوم على الإسلام الصافي، وأنهم غير مخالفين للدعوة السلفية، فإلى متى يسمح المناهضون للدعوة السلفية لأنفسهم أن يتكلموا بلسان أهل الحجاز، وأن يتباكوا على السلطة التي يريدونها هم للحجاز؟ !!(1/122)
هذا كله لو سلّمنا بمنطق الكاتبة غير المنطقي، الذي أراد أن يربط سلطة الحجاز الدينية بالمذهب الديني الذي ينتشر فيها، وإن كان مذهبًا يشوبه من الكدر بقدر ما يبعده عن الإسلام الصافي. وهذا منطق متناقض كما سبق، لكن أردنا أن نبين أن هذا المنطق لا يخدم الكاتبة فيما تريده أيضاً.
ولذلك.. وانطلاقًا من حرية الكلمة، ومن حرية التعبير عن المعتقد، أقول: (وأنا أحد أبناء الحجاز، بل أحد أعرق أبنائها دينًا ونسبًا وتاريخًا)، إني لا أسمح لأحدٍ مناهضٍ للدعوة السلفية أن يتكلم باسمي، وباسم أغلب أهل الحجاز المخالفين له في مناهضته للدعوة السلفية. له أن يتكلّم باسمه وباسم الموافقين له، أما باسم جميع أهل الحجاز، فهذا ما لا نرضاه لأنفسنا، ولا يرضاه كل مناصر للحرية وللتسامح الديني. بل لو كنا نحن الأقلية، كما هم الآن، لما رضينا بهذا الإلغاء من الوجود، إلى هذا الحدّ البغيض من الإلغاء، الذي لا يقبله حيّ لنفسه.ومن هؤلاء الذين ألغوا وجودنا كاتبة هذا الكتاب، حينما تصرّ على عدّ الحجاز وقفًا للتيار المخالف للدعوة السلفية، مع أن غالب أهل الحجاز اليوم مع التيار السلفي.فأين التنوع والتسامح الديني في مثل هذا الإلغاء، يا دعاة التنوّع والتسامح؟!
هذا والله أعلى وأعلم.والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا بني بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه.
ـــــــــــــــ(1/123)
موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء
تأليف
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف
الطبعة الأولى
1423 للهجرة - 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف
للحصول على نسخه من الكتاب
تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
واصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .(1/124)
و صار أهل الحقّ - و هم أوسط الناس و أعدلهم - إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :
المقصد الأول
في بيان المقصود بزلّة العالم
أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء - فيما وقفت عليه - جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:(1/125)
لو يقومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُهُ *** زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .
________________________________________
المقصد الثاني
في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها
فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .
قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...(1/126)
و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
و قد رويَ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .(1/127)
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و عند الدارمي عن محمد بن واسع قال : كان مسلم بن يسار يقول : ( إياكم و المراء فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان زلته ) .
و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
و قد أحسن مَن قال :
أيُّها العالِم إيّاك الزَلَل *** و احذَرِ الهفوةَ فالخَطبُ جَلَلْ
هفوةُ العالِمِ مُستَعظَمَةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْقِ مَثَلْ
إن تكُن عندَكَ مُستَحقَرةٌ *** فهيَ عِندَ اللهِ و الناسِ جَبَلْ
أنتَ مِلحُ الأرضِ ما يُصلحُهُ *** إن بَدا فيهِ فَسادٌ أو خَلَلْ
________________________________________
المقصد الثالث
في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء(1/128)
كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) : على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ( يعلم ) : المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ( فقد خانه ) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .(1/129)
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
و قال - رحمه الله - في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .(1/130)
و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .
________________________________________
المقصد الرابع
الأسباب المفضية إلى زلل العالم :
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .
ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .(1/131)
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .(1/132)
و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .(1/133)
و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .
________________________________________
المقصد الخامس
في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته
لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في النصيحة .
روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .?( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .(1/134)
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .(1/135)
قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .(1/136)
و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني - رحمك الله - أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .
________________________________________
المقصد السادس(1/137)
في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .(1/138)
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .(1/139)
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل )[ المبسوط : 16 / 62 ]
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .(1/140)
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك *** و أحبار سوء و رهبانها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
خاتمة(1/141)
و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
وطلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .
ومُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ - قبل الكتاب و السنّة - إليه .
وكلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .(1/142)
وقد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
وأفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب -أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
ـــــــــــــــ(1/143)
آداب يجب استصحابها عند نقد الآخرين وخاصة العلماء والدعاة
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، وعلى آله وصحبه والشرفاء .
وبعد ، فقد تأملت عدّة مشاركات لإخواننا الكرام الأعضاء اشتمل مضمونها على توجيه سهام النقد الشديد إلى بعض المشايخ والدعاة .
ثم تأملت الردود والتفاعلات ، فوجدتها تتردد بين مُنافح ومتحامل .
فالمنافح اعتراه حب (فلان) من الناس حبًا شديدا حمله ذلك على التعصب المقيت لهذا الشيخ أو الداعية ، وبلا ريب تختلف دوافع هذا الحب والتعصب من شخص إلى شخص آخر، فتارة تكون بسبب أنه من جماعته أو بلده أو عشيرته، وكل هذه الدوافع باطلة ؛ لأن الحب يجب أن يكون لله وحده، وكما قال أبو حامد الغزالي صاحب (الإحياء): (وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق).
ثم ينبري يدافع بشراسة عن (فلان) بغض النظر عن صحة ما ينافح به !! المهم والهدف عنده المنافحة بأي شيء ولو بالسب والتسفيه ولعن الطرف الآخر، وأبسط حجة يلقيها في وجه منتقد شيخه قوله: (لحوم العلماء والدعاة مسمومة) فهي كلمة حق أريد بها الباطل، فلحوم العلماء والدعاة مسمومة من الطعن في العرض والسب والشتم والتشهير، ولكن ليس لحومهم مسمومة من النقد البناء والنصيحة الخالصة، فيجب التفريق بين هذا وذاك.
وفي المقابل ترى المتحامل ـ أصلحه الله ـ وجد لغمز ولمز (أحد المشايخ أو الدعاة) مستقرا له في قلبه بسبب كره سابق في قلبه لـ (فلان) ، فيعمل كما يقال : (من الحبة قبة) ، فالغاية عنده تبرر له وسيلة الطعن، والعجيب أنه يجد لذلك من المبررات الشرعية في نفسه كالدفاع عن الدين وإنكار المنكر. ونسى هذا الحبيب أن إنكار المنكر له ضوابطه الشرعية ، والنصيحة لها أسلوبها الأمثل.(1/144)
فهل تعلم أنه لا يجوز في إنكار المنكر التجاوز في الإنكار حد المنكر، فلو رأيت من يشرب خمرا من زجاجة ، فليس لك في الإنكار باليد إلا كسر الزجاجة ، فإن ضربته ، فقد وقعت في مخالفة شرعية .
ثم تخيل معي أيها الحبيب لو اجتمع المنافح مع المتحامل في حوار أو نقاش كيف يكون حالهما حينئذ؟!!!.
بلا ريب سيكون (حوار طرشان) ـ إن لم تكن مجزرة من السب والشتم واللعان ـ بمعنى أن كل من المتحاورين سيعتريه (الطرش) الوصفي ، فهو لا يعبأ بما يقوله الآخر بقدر ما يعبأ بما يقوله هو ، وهذا أشبه ما يكون بمنطق دكتاتورية فرعون التي وصفها الله تعالى في كتابه : { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } (غافر:29) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وصاحب الهوى يُعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله. بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين). وقد نقل عن سلفنا الصالح قولهم: (احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه).
فأخرج من هذه المشاركة ويعتريني الحزن الشديد على حال الملتزمين (الصحوة التي نعقد عليها آمال الأمة المنكوبة) .
ومع تفشي هذه الظاهرة رأيت وجوب إسداء النصح لنفسي أولا ، ولأحبتي في الله ثانيا ، ويعلم الله أنني كنت أتمنى أن لا أكتب ذلك ولكن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فأقول وبالله التوفيق:
أولا ـ كلمة من القلب بين يديك فأرجو قبولها :
1 ـ يا أيها القارئ لهذه الكلمات لا تعجل في قراءتها ! فوالله لقد كتبت من أجلك من القلب وثق أن ما كان من القلب ذهب إلى القلب، فاصبر على تأملها لعلك تجدها في ميزان حسناتك يوم تلقى الله عز وجل.
2 ـ هذه الأسطر لا أقصد بها شخصا بعينه ، وإنما هي عامة لجميع الأحبة .(1/145)
3 ـ من كتب هذه الأسطر كتبها بدافع الحب ، فاصطحب معك هذا المعنى أثناء القراءة وافتح لها قلبك ، وإن خالفت ما في نفسك فزنها بميزان عدلك الذي لا يعلم حقيقته إلا الله.
ثانيا ـ يجب التفريق بين (النقد) و(التجريح)، وبين (النصيحة) و(الفضيحة)، وبين (الصدع بالحق) و(التحامل):
وهذا يجب أن ينتهجه المسلم بشكل عام مع جميع من حوله . ولكن لكوننا نقصد بهذه الرسالة صنف من الناس وهم (العلماء والدعاة) وجب علينا أولا طرح هذا السؤال : هل يجوز لنا نقد أو نصيحة أو الإنكار على العلماء والدعاة؟! .
الجواب : نعم يجوز ذلك بلا ريب ، فالعالم أو الداعية بشر من البشر يخطئ ويصيب، يعصي ويطيع وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد بإسناد صحيح من حديث أنس .
وقال الإمام مالك : كل منا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار بيده إلى قبر النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ .
ونحن (أهل السنة والجماعة) ننكر أشد الإنكار على ما يعتقده المريد في شيخه الصوفي، فالشيخ الصوفي أول ما يلقن مريده من آداب هو (أن يكون بين يديه كما يكون الميت بين يد مغسله أي جسد بلا روح) ، وهكذا يدرب المريد حتى يؤول الأمر إلى منكرات عظيمة تصل لدرجة أن بعض الزنادقة من شيوخ الصوفية يغتصب زوجة المريد أمام المريد وهو لا يحرك ساكنا امتثالا لأمر الشيخ ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
فنحن لا نعتقد العصمة في أحد من الصحابة ، فكيف نعتقدها في العلماء والدعاة ؟!!.
ثالثا ـ وهنا يأتي السؤال الأهم : كيف يمكن أن يكون (النصح أو النقد أو الإنكار) على أهل العلم والدعاة؟!! وهل من ضوابط في ذلك؟!!
قلت : اعلم ـ وفقك الله للخير ـ أن هناك عدة أمور يجب أن يتحلى بها من تصدى لنقد أو نصح عالم قبل أن يقوم بذلك ، وهي :
1 ـ (ملاحظة "مؤشر الإخلاص" في قلبك اتجاه النصيحة) :(1/146)
ويكون ذلك بوقوفك بنفسك على الدوافع الحقيقية التي حملتك على بذل هذه النصيحة، وهذه لن يقف على حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى ثم شخصك الكريم ؛ لأن ذلك محله القلب ، والقلب لا يطلع عليه إلا الله الذي { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (غافر:19) .
وللكشف عن حقيقة دوافعك من النصيحة ومراقبة مؤشر الإخلاص في قلبك أجب على هذه الأسئلة أولا قبل إسداء النصيحة:
س1 ـ هل أنت محب (لفلان) الذي تنصحه ؟!. فإن كنت تحبه فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س2 ـ هل تمنيت أن يكفيك غيرك بذل هذه النصيحة؟!!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س3 ـ هل أحزنك صدور ذلك من (فلان) أم سررت بذلك ووجدتها فرصة لنصحه؟!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س4 ـ هل كنت تتمنى أن تكون نصيحتك في السر بينك وبينه ، ولكنك لم تجد إلى ذلك سبيلا؟!!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س5 ـ هل لو فعلها أحب الناس إليك كنت ستنصحه بنفس الكيفية والأسلوب ؟!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فإليك هذه المذكرات الهامة :
1 ـ الإخلاص شرط لقبول العمل الصالح ، فإن فقده فهو طالح ؛ لحديث عمر مرفوعا: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى…) رواه الشيخان.
2 ـ صح من حديث أبي أمامة مرفوعا: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد جيد.
3 ـ هل تعلم أن علاج الإخلاص يكون بكسر حظوظ النفس ، وقطع الطمع عن الدنيا ، والتجرد للآخرة حتى يغلب ذلك على قلبك؟!.
4 ـ هل تعلم أنه قيل : (يا نفس اخلصي تتخلصي) أي اخلصي لله تتخلصي من العذاب؟!.
5 ـ هل تعلم أن (رب عمل صغير يعظمه النية !! ورب عمل كبير تصغره النية) ؟!!.(1/147)
يا أيها الحبيب يا من تريد بذل نصيحة لأحد العلماء أو الدعاة وتريد بها الخير استصحب معك هذه المعاني وأنت مقدم على نصيحة عالم أو نقده:
أ ـ ذكر أحد العلماء عند الإمام أحمد وكان متكئا من علة فاستوى جالسا وقال: (لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ)!!!!!.
ب ـ قال الترمذي : (لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم) فكيف بعلماء زماننا ودعاتنا، وكيف بي أنا وأنت أيها الناصح الكريم ؟!!.
جـ ـ يجب على الجميع استيعاب حقيقة لا بد منها ، وهي وقوع الخلاف من عهد الصحابة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الخلاف سنة الله في خلقه وأسبابه كثيرة.
د ـ الفتوى غير ملزمة لأحد إن ترجح لديه مخالفتها لدليل معلوم لديه ، ولكن عدم الطعن في صاحب الفتوى والتشنيع بشخصه ملزم للجميع.
2 ـ (أن تقدم بين يديك محبة المنصوح أولا) :
وإظهار الشفقة عليه في ثنايا نصحك له، أذكر أن أحدهم كان كلما خاطبني في رسائله قال لي : (أخي الحبيب فلان) ، فلما بدا له أن ينصحني في مسألة ما قال : (الأخ فلان) ، فتعجبت لذلك وقلت له: عجبا لك!! ما خاطبتني قط إلا وتقول: أخي الحبيب ، فلما كان أحوج ما يكون الكلام لذلك عند النصيحة جردت (أخ) من ياء المتكلم التي تتضمن معنى التلطف والقرب وذكرته بقول إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم:42) وقول لقمان لابنه وهو ينصحه: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (لقمان:17) ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه الكافر أبي طالب : (يا عماه). فتأمل ـ رحمك الله ـ .
فمحبة العالم أو الداعية ليست للونه أو جنسه أو جماعته ، إنما لما يحمله من بقايا إرث النبوة وهو العلم الشرعي.
وقد تقول : أنا لا أحبه ؛ لأنه يفتي بالطامات ومتساهل !!.(1/148)
فأقول لك : فأخبرني ـ وفقك الله ـ هل ما يفتي به باجتهاده أم بالتشهي ؟!!.
فإن قلت : باجتهاده .
فأقول لك ما قاله شيخ الإسلام: فأما الصديقون والشهداء والصالحون ، فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يُصيبون وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران. وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين ، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان: لا يعصمون ولا يؤثمون).
والمرء يعجب من صغيرة غيره ***أي امرئ إلا وفيه مقال
لسنا نرى من ليس فيه غميزة *** أي الرجال القائل الفعّال
وإن قلت : بل يفتي بالتشهي !!.
فأقول لك : وأين الدليل على ذلك ـ يرحمك الله ـ ؟!.
فإن قلت : مخالفته في فتواه النصوص الصريحة والصحيحة وجمهور أهل العلم؟!.
قلت لك : هل يلزم كل من تلبس بذلك أن تكون فتواه بالتشهي؟!.
يا أيها الحبيب إن العلم واسع ، وأسباب اختلاف العلماء قامت منذ الصدر الأول حتى يومنا هذا ، ولا يوجد أحد من أهل العلم ينكر وجود الخلاف في الفروع الفقهية ، فلا تضيق واسعا !! وعليك بقراءة كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) و(مقدمة في أصول التفسير) لابن تيمية ، حتى تقف على أسباب وحقيقة الخلاف بين أهل العلم حتى لا تنكر شيئا لا إنكار فيه ، أو تعطيه أكبر من حجمه.
أما إن قلت : لا أحبه ؛ لأنه متكبر .
فأقول لك : هذا إذا يدور في فلك الإيمان ؛ لأن الحب يكون لطاعة ، والبغض لمعصية، وإن ثبت أن فلانا من الدعاة من المتكبرين ، فحق لك بغضه في ذلك ، ولكن عليك الاحتراز من الخروج من البغض في الله إلى البغض لحظ النفس .(1/149)
واعلم ـ وفقك الله للخير ـ أن بغضك له بسبب شرعي لا يسوغ لك التشنيع به والاسترسال في ذمه وتعنيفه في النصيحة، ولذلك إن لم تكن ممن يملك زمام رابطة الجأش ، فأنصحك بعدم نصحه حتى لا تنحرف النصيحة عن وجهتها الصحيحة ، فتتحامل فيها على المنصوح.
3 ـ (أن تقدم بين يديك إحسان الظن) :
فإحسان الظن بالآخر والذهاب في ذلك إلى أبعد الحدود يجب أن يكون مطلقا لجميع المسلمين ، وأهل العلم والدعوة من باب أولى . كما قال الحق سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحجرات:12) .
وروى أبو هريرة مرفوعا: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) رواه الشيخان .
وروى المحاملي في "أماليه" عن عمر بن الخطاب قال : (لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) .
وروى البيهقي في "الشعب" عن محمد بن سيرين قال : (إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد له عذرا فقل له عذر).
وعنه أيضا في "الشعب" عن جعفر بن محمد قال : (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا ، فإن أصبته وإلا قل لعل له عذرا لا أعرفه).
وعنه أيضا في "الشعب" عن سعيد بن المسيب قال : (كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد له في الخير محملا).
فالواجب على من سمع مقالة أو فتوى أن يحملها المحمل الحسن بكل وسعه ، ويقول في نفسه: لعله يريد كذا أو كذا ، ولا يقصد كذا أو كذا، فيتأول كلام الآخر بكل السبل، خاصة إذا سبق لذهننا ماهية هذا الشخص من خلال قرائن الحال.
وفي هذا الخصوص روى البيهقي في "الشعب" عن حفص بن حميد قال: (إذا عرفت الرجل بالمودة ، فسيئاته كلها مغفورة ، وإذا عرفته بالعداوة ، فحسناته كلها مردودة عليه).(1/150)
4 ـ (أن تكون عالما بحقيقة ما تقوم بالنصح به) :
فيجب على الناصح أن يكون مؤهلا علميا فيما سينصح به ، وعلى دراية تامة بأوجه الاجتهاد في المسألة ، ومعرفة الراجح من المرجوح فيه ؛ حتى إذا أنكر على العالم أو الداعية يتناسب إنكاره مع حجم المنكر ، ولا يبالغ في ذلك فيخرج عن الجادة والصواب.
5 ـ (ترك التعصب) :
فأحيانا نجد البعض من شدة تعصبه لعالم من العلماء يشنع تشنيعا شديدا على العلماء والدعاة المخالفين لرأي شيخه ، وهذه عصبية مقيتة تدل على ضعف إيمان وعقل وعلم صاحبها، فتعمى العصبية لشيخه بصره ، وتغشى على عقله ، فلا يرى حسنا إلا ما حسنه شيخه ، ولا صوابا إلا ما ذهب إليه شيخه!!. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } (البقرة:91) .
ولهذه العصبية تبعات خطيرة على صاحبها منها : أنها ستصده بكل قوة عن معرفة دليل المخالف لشيخه ، أو الاستماع إليه أو فهمه وتأمله.
6 ـ (أن تتحرى الألفاظ عند النصيحة) :
فنحن عندما نتكلم على عالم أو داعية إلى الله يجب أن يكون كلامنا يدور بين (النقد البناء، والنصيحة، والصدع بالحق)، ، ونحترز من نواقض هذه الصفات كـ (التجريح ، والفضيحة، والتحامل) ؛ لأن هذه مطية أعداء الدين والتدين، لهدم الدين والخلق كما لا يخفى.
فأعداء الدين من المنافقين ، والعلمانيين ، والحداثيين ، والزنادقة ، والفساق تتهلل وجوههم الكالحة والسوداء من نعت علماء الإسلام والدعاة بهذه النعوت ومن تتبع خضراء الدّمن (جريدة الشرق الأوسط) ، ومجلة (روزر يوسف) ، وغيرهما يعلم جيدا خبث هؤلاء واصطيادهم في الماء العكر، فهل تسعد أيها الناصح المريد للخير بإسعاد هؤلاء؟!! بلا ريب لا وألف لا!!
إذًا فعليك بالاحتياط وتحري الألفاظ .(1/151)
فامتلاك الكلمة قبل النطق بها هو دأب أهل الصلاح والخير ؛ حتى لا نقع في مخالفة شرعية {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (قّ:18) .
وعن عقبة بن عامر مرفوعا : (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك) رواه الشيخان.
فالواجب على العاقل أن يملك الكلمة ويتحكم فيها ولا يدعها تملكه ويكون أسيرا لها ، وأذكر أنني قرأت في "روضة العقلاء" لأبي حاتم أنه حكى عن السلف قولهم : (من تكلم بالكلمة ملكته ، ومن لم يتكلم بها ملكها) أو نحو هذا .
وكما روي عن عمر قوله : (من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به) رواه البيهقي في "الشعب".
فالمبادرة بالكلام والرد على عجالة له عواقب كثيرة ، والكيس الفطن هو الذي يعلم أين يضع قدمه، ويجهز لكل عبارة جوابا شرعيا لا جوابا فلسفيا أو جدليا أو سفسطائيا. جوابا مفحما للآخرين يقنع نفسه به قبل إقناع الآخرين.
والكيس الفطن من احترز من السقطات بقلة الكلام ، فهذا ابن مسعود يقول : (والله الذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لساني) .
وقال الحسن : (ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه) . وبلا ريب أن الكتابة في المنتديات تعد بمنزلة النطق باللسان. وهذا يتولد منه التنبيه التالي:
7 ـ (التأني في الإنكار ) :
وذلك خشية أن يقع صاحبه في الظلم، فقد ينكر على الآخر على عجالة بدون تأني ويكون إنكاره ليس له وجه ، فيقع المُنكِر ـ بضم الميم وكسر الكاف ـ في ظلم المنكر عليه ، فيقع في المخالفة الشرعية وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (الحج:71) .
فعلينا تذكر كلام حبيبنا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما رواه عنه أبو هريرة مرفوعا : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم.(1/152)
ولا أعني بذلك أن يصاب المؤمن ببرود الدم فيرى المنكر ولا يحرك ساكنا لا والله ، ولكن ما قصدته أن ما يظهر للبعض أنه منكر محتمل ويسعه الخلاف ، أو أنه غير متأكد من درجة المنكر ، فلا يدري بأي درجة يعالج؛ لأن لكل منكر طريقة إنكاره، ومن هنا وجب التفقه في علم الحسبة ، ومناهج السلف ؛ حتى نوفق في إنكارنا. فمن المنكرات ما يسكت عنه ، ومنها ما يعجل فيه بالإنكار ، وهذا بابه واسع يحتاج لعلم وخبرة. وهذا يفضي بنا إلى التنبيه التالي :
8 ـ (طلب علم ما لم يعلم) :
فإذا أشكل على المنكر أي أشكال ، فليبادر بالاستفهام كما قال الحبيب ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ : (يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟) رواه البخاري من حديث عمران بن حصين ، فإنما شفاء العي السؤال.
معنى ذلك أننا يجب أن نتثبت قبل الخوض في الرد كما نبهنا الله تعالى لذلك: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (الإسراء:36) .
فالعاقل يجب عليه أن يحذر من ترديد كلام الآخرين من غير التثبت منه وعقله وفهمه فيورط نفسه ويقع في المخالفة الشرعية التي جاء التحذير منها في حديث أبو هريرة مرفوعا: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم.
ويترتب على ذلك أن يقع هذا الشخص في التشبع بما لم يعط ، فهو كلابس ثوبي زور كما روى ذلك الشيخان من حديث أسماء.
نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الحق ردا جميلا ، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل .
أخوكم محتسب .. أبو مصعب
منتدى الحسبة
ـــــــــــــــ(1/153)
رجم المخالف!!
محمد بن حسين الأنصاري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد: فإنه قد يبدو هذا العنوان قاسياً بعض الشئ، لكنني لا أجد عنوانا مناسبا كهذا، فإن من نظر إلى صفحات ما يسمى "بالشبكة العنكبوتية" وما يكتب من الردود في بعض الصحف والمجلات وفي غيرها = يجد فيها من الإقذاء في الرد وضيق الأفق، والفحش في القول والسب أحيانا، والدخول في النيات، وتفسير المقاصد، وغياب الإنصاف = ما يجعل القارئ يسبح في خيال موهوم "قد يصدق وقد لا يصدق": بأن هذا الكاتب لو استطاع النفوذ إلى هذا المتطفل على المعرفة، أو المتشبع بما لم يُعطى كما يزعم، لانهال عليه ضربا بكل ما أوتي من قوة، ورجمه بالصخور لا بالحجارة.
من خلال هذا المنطق أردت أن أدلي بدلوي في هذا المجال، وأن أساعد في علاج هذه الظاهرة التي عمّت بها البلوى في أوساطنا العلمية والأدبية والفكرية والإعلامية على حد سواء.
كما أساهم في مناشدة من تصلّب فكره،وهتف بلسان حاله "ما أريكم إلا ما أرى"
= إلى كلمة سواء {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
فهذه بعض الأفكار أعتقد أنها مهمة في فهم حتمية الخلاف تأملها وطبقها عملياً لا نظرياً، وهي كالتالي:
- عند المناقشة والرد دائما حاول التركيز وتسليط الضوء على الأفكار دون الأشخاص. فإنه كما قيل: "التفريق بين الشخص ومقاله هو أدنى مراتب الإنصاف".
- عند عدم قبول الفكرة تجنب تسفيهها مهما تكن، ولو كان الرد تدريجيا لكان أجود.
- دع الفكرة جانبا وركّز على لوازمها. فقد يتنبه المحاور لبطلانها، أو العكس.
- تجنب ما استطعت قول هذا الرأي ليس عليه أثارة من علم، أو هذا القول لا يقول به عاقل. أو أن هذا الكلام غث سقيم، أو أنه ركيك. وقد يكون كذلك، لكن في مقام الرد والجدل الزم الإنصاف والقول اللين.(1/154)
- ضع في ذهنك أن الفكرة مهما كانت في نظرك تافهة، فهي ليست كذلك عند صاحبها. فتلطّف في إبطالها.
- حرر موطن النزاع بشدة قبل الخوض في أي استدلال.
- احرص على الفهم والتفهيم للأدلة وتأملها فقد يكون الخلاف نظريّاً أو صوريًّا، أو أنه لا تنبني عليه ثمرة عملية، أو علمية.
- ضع في ذهنك أنه ليس كل خلاف أو حوار لابد أن يحسم في حينه، أو يصل إلى نتيجة، فإذا انقطع المخالف عن النقاش فاقطع الكلام ودعه يتأمل، وإلا فقد يتمادى.
- اعلم أن التصريح أو الاعتراف بالهزيمة صعب جدا.
- افتح لك ولمن خالفك خط رجعة ولا تغلق عليه جميع المسارات، وإلا فقد تخسره، أو تضطره إلى المكابرة ولابد، وقد ينصف ويرجع وقليل ما هم.
- البعض عندما يناقش أو يحاور ربما يقرر لك بحاله دون مقاله ما يعبر عنه بـ"ذهنية الإلغاء" فلا يلقي بالاً للمحاور كائنًا من كان، فهو يحاور ليصحح المفاهيم، بل يُخيل إليه أنه في مجلس إملاء، وقد ينصب نفسه قاضياً أو حاكما يُصدّر الأفكار ويُقوّم الآراء لا غير "أنا جُذَيْلها المحكَّك وعُذيقها المرجَّب" فالنقاش معه في مقرراته، يعتبر ردة عقلية، وبدعة فكرية، لأنك قد شكّكّت في بعض مسلماته، أو لأنك ملغى من ذهنه تماما، لستَ أهلاً لهذا المضمار، أو مخولا للدخول فيه، فإن عارضته فقد قامت قيامتك، وإن قلت: عندنا أو في قطرنا أو عند علمائنا. قال لك بملئ فيه: "ومن أنتموا حتى يقال لكم عندوا" .
وهذه النظرية "إلغاء الآخر" قد تكون جبلية وقد تكون مكتسبة وهو الأكثر، وقد يساعد في رسوخها أمور منها:
- الطبيعة النفسية لهذا الشخص.
- طريقة النشأة والتربية التي تلقاها.
- اعتقاده أن هذه الأفكار التي يقررها مسلمة عند الجميع.
- عدم الخلطة بالناس ومحاورتهم والنقاش معهم.(1/155)
- اليقين الجازم والثقة التامة بما عنده وما توصل إليه. وغاب عنه أن الشيطان قد يلبس عليه بسبب العزلة الفكرية ما يظنه سالما من النقد وهو ليس كذلك، وما يظنه دليلا أو قرينة وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
- أن توضع له هالة ومكانة فوق الجميع.
- وأخيرًا: التلاميذ وتأثيرهم بالغ.
* وصاحب هذه النظرية قد يتجاسر على الدخول في النيات والحكم على المقاصد، وقد يرتع في أعراض الناس ويتفكه بلحومهم في كل مجلس بحجج واهية، ومصالح متوهمة ظنية، يتكئ بها على النصوص الشرعية التي تبطل دعواه، وتحرم الخوض في أعراض المسلمين وتتبعها.
تنبيه: وهي أن الخصم في غالب الأحيان يعلم بضعف حججه وبراهينه، لذلك قد يُشغِّب ببعض الشبه، لهذا على المناظر أن يتحلى بالحكمة والصبر أمام المخالف ويعطيه فرصة التفكير والتأمل فيما يهرف به من الشبه.
وهنا أؤكد أن من خصائص أهل السنة والجماعة أنهم ينهون عن البغي والاستطالة على الخلق بحق وبغير حق. كما قرره ابن تيمية - رحمه الله - في أكثر من موضع في كتبه.
وهذه الخاصيّة متفق عليها بين جميع أصحاب العقول السليمة التي لم تتأثر بأمور خارجية. هذا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ـــــــــــــــ(1/156)
أدب الحوار في الإسلام
كتبه : الشيخ مازن الفريح
للحديث مع الغير في الإسلام أصول وآداب ينبغي للمسلم مراعاتها حتى يكون المرء ملتزماً حدود الله، عاملاً في مرضاته، متجنباً مساخطه، فما أكثر عثرات اللسان حين يتكلم، وما أكثر مزالقه حين يتحدث…
وقد قال الله تعالى: ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً? (الإسراء:53).
• فكم من حوار بين زوجٍ وزوجته لم يُراع فيه أصول الحوار وآدابه كانت نهايته إلى الطلاق..
• وكم من حوار نزغ الشيطان فيه بين المرء وصاحبه فكانت عاقبته الفراق.
فمن آداب الحوار:
(1) أن يكون الكلام هادفاً إلى الخير:
• ?لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً? (النساء:114).
• وفي حديث أبي هريرة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت].
(2) البعد عن الخوض في الباطل: والمراد بالباطل كل معصية.
• فالحديث في الأغاني وليالي الطرب على سبيل الإعجاب هذا من الخوض في الباطل.
• والحديث في أحوال الممثلين والممثلات على سبيل التعلق بهم وإشاعة أفعالهم والدعوة للإقتداء بهم من الخوض بالباطل.
• الحديث عن عادات وتقليعات المرأة الغربية على سبيل الدعوة للتشبه بها وتقليدها من الخوض في الباطل.
• الحديث في أعراض المسلمات بالغيبة والنميمة هذا من الخوض بالباطل.
وأنواع الباطل.. وهي كثيرة كما يقول الإمام الغزالي لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها…
(3) البعد عن المماراة والجدل:(1/157)
كم من القلوب تشتت بسبب الجدل الذي لا طائل منه ولا فائدة من ورائه ولا يقصد منه إلا إفحام الخصم.. أو التشهير به، وإظهار الخلل في كلامه أو فعله أو قصده..
• وعن أبي أمامه الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا زعيمُ بيتٍ في ربض الجنة (ما يحيط بها خارجاً عنها) لمن ترك المِرَاء وإن كان محقاً] رواه أبو داوود بإسناد صحيح.
(4) إن يخاطب كلَ إنسانٍ بما يناسبهُ شرعاً وعرفاً:
• فيخاطب الوالدين بالتوقير والإجلال، والرحمة وخفض الجانب لهما. ?فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً? (الاسراء: من الآية23)
• أن لا يعظم الفاسق والكافر [لا تقولوا للمنافق سيداً، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل] رواه أبو داوود بإسنادٍ صحيح.
(5) البعد عن عبارات المدح للنفس أو للغير إلا لمصلحة وبالضوابط الشرعية:
?فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى? (النجم: من الآية32)
أيها الأخوة: ومن خلال الحوارات التي تجري بين جدران البيوت يجد أخطاء في الحوارات الأسرية.
http://www.naseh.net المصدر
ـــــــــــــــ(1/158)
البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر
فايز بن عبد المجيد الغامدي
يُعَدُّ الحوار - بمعناه الواسع - مع الآخر المنتمي لثقافة مختلفة ونائية من أصعب ما يواجه المفكر المسلم من مهام، بل هو من المعضلات الفكرية والبلاغية التي تواجه المفكرين المهتمين بالحوار الفكري بين الثقافات بوجه عام. تنبع هذه الصعوبة من محاولة المفكر المسلم الجمع بين شيئين مختلفين أو متناقضين؛ بين محاولة تقريب المفهومات والأفكار والقيم ودلالاتها السائدة في الثقافة العربية والإسلامية إلى القارئ أو المثقف الغربي والأمريكي، والذي ينتمي إلى ثقافة مختلفة بمفهوماتها الخاصة وأفكارها وقيمها، وهذا لا ينفي وجود قدر مشترك من التشابه - وليس التطابق - في بعض المفهومات والقيم ودلالاتها بين الثقافتين.
إن أحد أكبر العقبات والتحديات التي تواجه هذا النوع من الحوار «عبر الثقافي»، والتي تحدد بشكل كبير مدى تأثيره؛ تكمن في مدى اختراق الخطاب الموجه وانتشاره (الخطاب هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل جميع استخدامات اللغة) في الفضاء المعرفي الذي يملكه الآخر ويحيطه بثقافته ولغته وإيديولوجيته وطريقة تفكيره. إن أي اختراق معرفي ناجح هو بمثابة احتلال مساحة معرفية في فكر الثقافة المتلقية ووعيها، لكن هذا التأثير الخطير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى معرفة الكاتب المفكر بالآخر، ومراعاته لخصوصية القراء الفكرية والثقافية، ومحاولة محاكاة طرائق تفكيرهم قدر الإمكان، مع استخدام الأساليب البلاغية والجدلية المقبولة والمنتشرة في خطابهم الفكري بشقيه التحليلي والنقدي.
وسوف أتناول في هذا المقال - وبإيجاز - بعض الجوانب النظرية والعملية للحوار الفكري مع الآخر الغربي:(1/159)
القسم الأول: أبدأ به مستهلاً ببعض أهم مقومات الخطاب الفكري الغربي المعاصر، والتي منها الاعتماد على الجدل والمنطق الاستنتاجي، ومركزية المفهومات، وأهمية النظرية والتنظير في العلوم الإنسانية، واعتماد بُناها وأنظمتها المعرفية على التحليل والنقد.
أما القسم الثاني: فأناقش فيه بعض القضايا أو الجوانب المتعلقة بكتابة الحوار الفكري، وهي خيارات التأليف والترجمة وإعادة الصياغة.
أما القسم الثالث والأخير: فسوف أركز فيه على بعض المقترحات والحلول العملية والممكنة، والتي أرى أن تجمع بين الاستفادة من الأساليب الفكرية والبلاغية السائدة في الخطاب الفكري الغربي، وبين التفكير والنظرة الاستراتيجية لمستقبل حوار الثقافات الفكري، ومحاولة التقريب بينهما قدر الإمكان.
* أولاً: مقومات الخطاب الفكري الغربي:
إن من أهم ما يميز التفكير الغربي، أو الكتابة الفكرية الغربية: الالتزام بـ «الأسلوب الجدلي» المبني غالباً على «المنطق الاستنتاجي»، وليس المقصود هنا «منطق أرسطو» الاستنتاجي الذي شاع استخدامه في الجدل الفلسفي والبرهان العلمي قديماً، والذي يعتمد على الأقيسة المنطقية الصارمة المبنية على مقدمات قطعية أو يقينة مجردة ولكنها ملزمة، وتؤدي إلى نتائج ملزمة وإن كانت أحياناً غير منطقية، ولكن المقصود هو «الجدل الاستنتاجي» المبني على المقدمات العامة والشائعة أو المقبولة في سياقات خطابها المتعددة، والتي لا تلتزم بشكل معين متكرر دائماً، أو تؤدي إلى نهايات ملزمة كما هو الحال في المنطق الأرسطوي، بل تنطلق من «العام»؛ أي الاستهلال بفكرة أو حجة عامة واضحة تحدد الموضوع المراد طرحه، إلى «الخاص» والمحدَّد، مع دعم الفكرة أو الحجة الرئيسة بالبراهين والأدلة والأمثلة التفصيلية.(1/160)
وهنا تظهر أهمية (المقدمة الفكرية المنطقية العامة) واهتمام القراء الغربيين بها؛ سواء كانت على مستوى الفقرة أو المقال أو الكتاب؛ حيث تعد صياغتها بقوة ووضوح وتسلسل منطقي من أهم عوامل قبول المكتوب والتأثر به. أما بقية النص (الجزء التفصيلي والتحليلي)، فبالإضافة إلى غلبة الأسلوب الاستنتاجي عليه؛ فإنه عادة ما يحافظ أيضاً على مستوىً عال من القوة والوضوح والعمق، والتسلسل والترابط المنطقيين، مع الارتباط بالأفكار والحجج العامة المطروحة في المقدمة. أما الجدل الاستقرائي، والذي تكون فيه الحجة أو الفكرة الرئيسة مرجأة إلى النهاية، ومبنية على الحجج الجانبية أو الأمثلة والأدلة التفصيلية؛ فإنه يستخدم أحياناً في الكتابة الفكرية وبشكل محدود.(1/161)
وتُعَدُّ المفهومات المستقاة من الفكر الغربي ـ وخصوصاً الفلسفة ـ محور حركة الخطاب الفكري عند الغربيين، وهي ما ينظمه ويضبطه، وهي لبنات بناء النظام المعرفي والنظري في العلوم الإنسانية خاصة، ولها خصائص معرفية محددة ترتبط بغيرها من المفهومات في الحقل المعرفي الواحد، وفي المؤسسة العلمية أو الأكاديمية الواحدة، في سياقات ثقافية واجتماعية محددة، ومن ثم فإن لها أبعاداً تاريخية وإيديولوجية تنفي عنها صفة المطلق الزماني والمكاني؛ إذ إن هذه المفهومات والمصطلحات الفكرية ـ خاصة التي نشأت في الغرب، ثم صُدِّرت وشاعت في الخطاب الفكري العربي ـ تأتي مثقلة بتاريخ معرفي وثقافي خاص بها له دوافعه الإيديولوجية؛ مما يجعل معانيها ودلالاتها تختلف أو تتحول ولو بشكل جزئي باختلاف سياقات استخدامها الثقافية والتاريخية. وهذا لا يعني بالضرورة عدم الاستفادة من مفهومات الفكر الغربي واستخدامها فيما يخدم أهداف المسلمين الاستراتيجية على الصعيدين المحلي والعالمي؛ سواء تلك المفهومات العالمية التي تتشابه جزئياً مع المفهومات الإسلامية، مثل (حرية التعبير، أو رأس المال، أو السلطة الاجتماعية)، أو التي لا يوجد لها مقابل شائع في الفكر والثقافة الإسلامية، مثل مصطلح «ريْس» بالإنجليزية، ويعني (عِرق أو سلالة جماعة من البشر يتميزون بصفات خَلقية أو جسدية خاصة)، وهو أحد أهم مكونات الثقافة الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص. ولكن ينبغي أولاً معرفة المعاني والدلالات الدقيقة لهذه المفهومات، والوعي بتحولاتها وانعكاساتها التاريخية، وتاريخ تنقلاتها عبر الثقافات، ودوافعها وأهدافها، ثم استخدامها في الحوار الفكري مع الآخر بشكل يعكس هذا الوعي وهذه المعرفة، مع إبراز الفروق المهمة في دلالات المفهومات المستخدمة بين الثقافتين حسب الحاجة والمصلحة.(1/162)
وتشتمل الكتابة الفكرية في الغرب على الطروحات المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كالكتابة الفلسفية والتاريخية والنفسية والاجتماعية والسياسية، ونظريات اللغة والأدب والنقد، والدراسات الثقافية وغيرها. وأهم ما يميز الخطاب الفكري في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة إلى خلوِّه غالباً من الأسلوب السردي أو القصصي الذي يعتمد عليه الخطاب الأدبي، هو طغيان «الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي»، وهذا بدوره يختلف عن «الأسلوب الوصفي التوضيحي» الذي يطغى على الخطاب العلمي (أي في العلوم الطبيعية)، حتى العلوم الإنسانية التي تتبع غالباً منهجية البحث العلمي التجريبي المعتمدة غالباً على الاستقراء، مثل علوم التاريخ والنفس والاجتماع وغيرها؛ فإنها تعتمد في صياغتها وعرضها النظري على «الجدل الاستنتاجي والتحليلي»، ونتائجها أقل قطعية وموضوعية من نتائج العلوم الطبيعية التي تستخدم «المنهج التجريبي». والمقصود بالنقد هنا «النقد التحليلي» الذي لا ينفصل عن «التحليل المفهومي» أو (تحليل المفهومات)، بل يقويه ويكسبه هويته الخاصة به من حيث هوية الكاتب، وموقفه الذاتي المنبثق من ثقافته وفكره ورؤيته الذاتية.
وقد وصل أمر اعتناء الغربيين بالنقد أن خصصوا له حقولاً معرفية وأكاديمية مستقلة، مثل النقد الأدبي والثقافي والبلاغي، التي لها نظرياتها الخاصة بها، والتي تمتاز عن نظريات الحقول الأخرى في العلوم الإنسانية، فضلاً عن الطبيعية، باعترافها بأهمية النظرة الذاتية للناقد، والتجربة الشخصية للمؤلف والاعتماد عليهما. أما «تحليل المفهومات» فيقصد به تفكيكها، وتبسيطها، وتحديد العلاقات بينها وبين أجزائها؛ من تشابه واختلاف، وتضاد، وعموم وخصوص، وجزء وكل، وغير ذلك.(1/163)
والمهم هو إدراك أهمية الأساليب الجدلية والتحليلية والنقدية التي تقوم عليها العلوم الإنسانية، ودورها الرئيس في صياغة النظريات التي تكوِّن بنية الفكر الغربي الحديث ونظامه.
ومن الملاحظ أن التنظير في العلوم الإنسانية الغربية الآخذة في التداخل بشكل ملحوظ ومتسارع أيضاً؛ قد اتسع بشكل يجعل متابعة النظريات المستجدة في المجال الواحد، ومعرفة تاريخها وعلاقاتها المركبة مع النظريات الأخرى القريبة؛ من الصعوبة بمكان، وهذا بلا شك يُثقل كاهل المفكر المسلم المهتم بالحوار الفكري؛ إذ لا بد من الإلمام بالحد الأدنى من هذه النظريات التي تشكل جزءاً مهماً وأساسياً من نظام الآخر المعرفي، وغالباً ما يُعرف الكتاب الفكري الناجح والمؤثر في صفوف المثقفين والمتعلمين الغربيين بقوة طرحه النظري وكثافته، ومعرفة صاحبه العميقة بالنظريات المهمة في الموضوع المتناول. وليس المقصود بالتنظير هنا التجريد الذي لا روح فيه أو الإغراق في الغموض والتعقيد العقيم، وإنما التنظير المشتمل على التقعيد والتحليل والتفصيل للموضوع، والواعي بجوانبه التاريخية وارتباطاته الواقعية، والعلاقات المتشابكة بين النظريات وبين سياقاتها المتعددة، والعلاقات المقارنة بين النظريات نفسها.
ولعل عدم إدراك الكثيرين منا لأهمية التنظير أو البناء المعرفي في الحوار مع الآخر وتأثيره يرجع إلى ضعف التنظير في الفكر الإسلامي المعاصر بوجه عام، بالرغم من توفر الأصول الراسخة في العقيدة والتصور، هذا فضلاً عن ثراء الجانب المعرفي التاريخي للحضارة الإسلامية وتعدده، وهذا الضعف لا ينفك بطبيعة الحال عن مظاهر الضعف الأخرى التي تعاني منها الأمة في جوانب متعددة؛ أخلاقية وسياسية ومادية.
ومن أسباب الضعف التنظيري ومظاهره وجود اتجاهين رئيسين يمثلان فكرين وموقفين مختلفين من نظريات الآخر وفكره (وهذا لا يعني عدم وجود اتجاهات أخرى أقل انتشاراً):(1/164)
الاتجاه الأول: ينفي أصحاب الاتجاه الأول وجود أي مشكلة معرفية أو تنظيرية أصلاً، ويُرجعون الحل دائماً إلى الأصول النظرية والتاريخية للفكر الإسلامي دون فهم أو استنباط لمعانيها ودلالاتها وتطبيقاتها في الواقع المحلي والعالمي؛ ذلك الواقع المتجدد بتعقيداته وتشابك أجزائه، ودون إدراك الحاجة إلى إعادة النظر وتأمل المعرفة البشرية باتساعها وشمولها والاستفادة منها، أو يقفون عند الجهود التنظرية والفكرية لعلماء عصور الإسلام الذهبية ونتاجهم الفكري، بالرغم من أن أولئك لم يقفوا عند جهود من سبقوهم بل فهموها وطوروها ونقدوها.
أما الاتجاه الآخر: فهو نقيض الأول؛ إذ يرى أصحابه أن حل هذه المشكلة يكمن في نسخ نظريات الغرب في العلوم الإنسانية أو بعضها، وتطبيقها كما هي في العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي.
وكلا الفريقين كفى نفسه مشقة التفكير والتجديد والتطوير والمقارنة والنقد، مع اختلاف في الدوافع والأهداف، وكلاهما لم يقدم حلاً عملياً ومؤثراً لمشكلة الفراغ التنظيري في العلوم الإنسانية من جهة، والتشويه التنظيري الذي سببه النقل النظري غير الواعي وغير المسؤول مع الآخر، من جهة أخرى.
ومما يميز الكتابة الفكرية لدى الغربيين الاهتمام والالتزام بـ (وحدة الموضوع) المبني على أو المستخرج من المفهومات العامة؛ حيث يتناول الكتاب الفكري عادة موضوعاً واحداً يكون على شكل مفهوم رئيس أو عدة مفهومات رئيسة تنسج حولها مفهومات أخرى جانبية، وترتبط هذه المفهومات جميعاً بالمفهوم الرئيس بحجج فكرية وبأساليب تحليلية متنوعة؛ إذ يشكل المفهوم الرئيس الخط الفكري الذي ينتظم حجج الموضوع، وبالتالي مفهوماته من أوله إلى آخره، وتكون الحجة الرئيسية للموضوع ـ والمحتوية على المفهوم الرئيس عادة ـ على شكل حجة أو فكرة واضحة ومتكاملة، تأتي رداً على حجة أخرى مطروحة سلفاً أو مقابلاً لها (تضاد الأفكار والحجج هو محور بناء الموضوع).(1/165)
وهذا لا يعني الإفصاح دائماً عن الحجة أو الفكرة المضادة أو المقابلة، بل تكون على الأقل حاضرة ذهنياً أثناء الكتابة والمراجعة لأهميتها في بناء الحجة المطروحة وتوجيهها. ويقال الشيء نفسه عن الحجج الجانبية أو الفرعية، والتي بدورها تكوّن وتشكل الجانب الجدلي، ومن ثم التحليلي للموضوع.
وبالإضافة إلى الوحدة العامة للموضوع (موضوع الكاتب مثلاً)؛ هناك الوحدات المحلية: الفصل، والقسم، والفقرة، والأخيرة هي الأهم، والخلل فيها أظهر وأشد تأثيراً على القارئ، ومن علامات قوة الكتاب ونجاحه: إتقان كتابة الفقرة وقوتها، ووحدة فكرتها العامة مع الموضوع، والمواضيع الجانبية، وتسلسل أفكارها وحججها الجانبية، وترابط الفقرات بعضها مع بعض في القسم أو الفصل الواحد.
* ثانياً: الحوار الفكري بين التأليف والترجمة وإعادة الصياغة:
من الأفضل في حال الحوار مع الآخر استخدام لغته مباشرة دون اللجوء للترجمة، مع المعرفة العميقة بفكره وتاريخه وثقافته، ليس المعرفة النظرية فحسب، وإنما المعرفة المقترنة بكثرة ممارسة الكتابة التحليلية والنقدية بلغته، والتفكير بطريقته. فإن تعسر هذا ـ والحال غالباً كذلك ـ فالأفضل إعادة صياغة ما كُتب بالعربية، سواء كان مقالاً أو بياناً أو كتاباً، وليس ترجمته فقط؛ لكي يناسب أحوال المخاطبين وأفكارهم وثقافتهم، مع المحافظة على جوهر النص الأصلي ولبه. وليس بالضرورة أن تطال «إعادة الصياغة» جميع ما كُتب في النص الأصلي (أي جميع الجمل والعبارات والمفهومات)، ولكن تكون بالقدر المطلوب الذي يراه المترجم أو الكاتب، والذي لا يذهب بلب أفكار النص الأصلي ولا يشوّه النص الجديد أيضاً.(1/166)
وبسبب تشابه بنى اللغات البشرية، وتشابه طرائق التفكير ذات الطابع الكوني أو «عبر الثقافي»، وكذلك تداخل الثقافات واتصالها؛ فإن المترجم سيجد قدراً مشتركاً بين اللغتين والثقافتين والفكرين لا يحتاج فيه إلى إعادة الصياغة بالمعنى المقصود هنا، وإنما تكفي فيه الترجمة الجيدة بالمعنى المعروف.
وعادة ما يتفاوت الكتاب المفكرون في مدى قربهم أو بعدهم عن فكر اللغة أو الثقافة المقابلة الأخرى وأسلوبها (أي مقدار وجود القدر المشترك بين اللغتين والثقافتين)؛ وذلك حسب اختلاف تأهيلهم ومعرفتهم بالموضوع المطروح، ومعرفتهم بالآخر المخاطب وفكره وتاريخه وثقافته، واستحضار ما أمكن من ذلك أثناء الكتابة.
ومما يدخل في عملية «إعادة صياغة» المفهومات أو المصطلحات أو العبارات أو التراكيب أو الفقرات: التقديم والتأخير، والتبديل، والحذف والإضافة، ومراجعة العلاقات المتعددة بين المفهومات والاستنتاجات المنطقية الرئيسة العامة والفرعية التفصيلية، وإبراز بعض الجوانب المهمة التي اختصرها المفكر، إلى غير ذلك.
ويدخل في مراعاة خصوصية القراء الغربيين أيضاً استخدام المصطلحات والمفهومات المعروفة عندهم، ليس عن طريق نقل المصطلحات والمفهومات والعبارات والتراكيب الواردة في النص الأصلي أو العربي وترجمتها حرفياً، والذي غالباً ما يسبب اللبس والغموض في المعنى؛ ومن ثم تثبيط القارئ وصرفه عن الاستفادة أو التأثر بالمكتوب، أو الاكتفاء بترجمة معانيها فقط وفق ما يراه المترجم، وإنما عن طريق استخدام ما يقابلها في اللغة والثقافة الأخرى لكي يسهل تصورها وفهمها، مع إبراز الفروق الجوهرية في دلالات المفهومات والقيم الإيديولوجية بين الثقافتين؛ لكي يظهر تميز الفكر الإسلامي وأصالته وشموله وعمقه.(1/167)
أما المصطلحات أو المفهومات التي لا مقابل لها في اللغة والثقافة الأخرى فلا ينبغي أن يركّز عليها كثيراً، وإنما تترجم معانيها باختصار عند الحاجة (هذه هي الطريقة المثلى في الإيضاح والتبيين في مثل هذا المقام الذي لا يقصد منه بيان دلالات المصطلحات الشرعية بدقة، كما هو الحال في مخاطبة المسلمين الذين لا يتحدثون العربية).
ومن مفارقات الترجمة بين اللغتين والثقافتين المتباعدتين؛ أنه كلما حاول المترجم المحافظة على معالم النص الأصلي والاقتراب منه كان ذلك على حساب النص الآخر، وتسبب في حدوث التشويش والغموض أثناء القراءة، ومن ثم تثبيط القارئ عن إكمال قراءة النص والتفاعل معه والاستفادة منه.(1/168)
إن العلاقة التبادلية بين الكاتب والقارئ والتي تنشأ عن طريق النص تكون ـ أو تتكون ـ أثناء كتابة النص لا بعدها؛ إذ هي تشكل الخطاب وتحدد معالمه وأبعاده وجوانبه المتعددة؛ المعرفية والأسلوبية على حد سواء. بمعنى آخر: إن إيديولوجية القارئ ومعرفته الخاصة عن الموضوع، أو العامة عن المفكر والثقافة الأخرى، وأفكاره وقيمه؛ ينبغي أن تسهم بشكل كبير في صياغة النص ـ وخصوصاً النهائي ـ أثناء الكتابة. ولأن هذا الشرط البلاغي ينبغي توفره في الكتابة أحادية اللغة والثقافة؛ فإن الحاجة إليه في الحوار والتخاطب «عبر الثقافي» أشد والاهتمام به أولى. وهذا ما يجعل الكتابة الفكرية بالعربية (أي مخاطبة الآخر بلغة المتحدث) أولاً ثم ترجمتها (بالمعنى السائد للكلمة) إلى لغة المخاطب إخلالاً بهذا الشرط المهم في الغالب. والأولى أن يأخذ النص المكتوب بلغة المخاطبين ـ سواء أكُتب مباشرة أو صِيغ من النص الأصلي ـ جل العناية والمراجعة؛ حيث يجب أن يعامل النص المترجم خصوصاً كنص مستقل يخضع لقواعد لغته وفكره ومنطقهما، وليس للغة النص الأصلي وفكره (عادة تأتي هذه المرحلة من المراجعة النهائية الدقيقة المنبتة عن النص الأصلي، بعد مرحلة انتقالية من الترجمة يكون فيها النص المترجم أقرب إلى لغة النص الأصلي ومنطقه وفكره).
* ثالثاً: بعض الجوانب والمقترحات العملية:
الكتابة الفكرية بين الواقع والمأمول:(1/169)
قد تكون الترجمة الجيدة حلاً عملياً ومؤثراً بالنسبة للقراء المسلمين الذين لا يعرفون العربية، إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل في حال مخاطبة القراء المتعلمين أو المثقفين الغربيين بسبب الصعوبات والعقبات آنفة الذكر، لكن بسبب ندرة العلماء المفكرين المسلمين القادرين على الكتابة الفكرية بلغة الآخر مباشرة، وبشكل يقارع ما يكتب وينشر في الأوساط الفكرية الغربية؛ فإن عملية «إعادة الصياغة» تعد حلاً عملياً وأكثر يسراً؛ حيث يمكن أن يجتمع عالم أو مفكر مع كاتب جيد ذي معرفة واسعة بفكر الغرب وثقافته على تأليف كتاب فكري، ليس بالشكل المعهود بالضرورة ـ حيث يقوم الأول بكتابة الكتاب والانتهاء منه تماماً؛ وكأنه سوف يقدم للقراء العرب ـ وإنما بواسطة كتابة نسخة مصغرة منه مثلاً، أو كتابته على شكل رؤوس أقلام وعناصر مختصرة (أي تقديم اللب الفكري للموضوع) اختصاراً للوقت وحفظاً للجهد، على أن يتولى الكاتب المترجم الجهد الأكبر في الصياغة والمراجعة للنص الثاني، ويكون ذلك بالتشاور المستمر مع صاحب النص الأصلي.
وفي حال البحث عن نص أو كتاب فكري مناسب للترجمة (وإن كنت لا أؤيد هذا المسلك جيداً)؛ فينبغي التركيز على ما كتب في هذا العصر؛ إذ إنه غالباً ما يجمع بين أفكار السابقين وطرح المعاصرين وأسلوبهم وأفكارهم الجديدة أيضاً. والأفضل من ذلك أن يُنشأ نص جديد لهدف أو مقام محدد (أحداث الحادي عشر ـ مثلاً ـ) يستفاد فيه من علم السابقين وأفكارهم عن الموضوع ذاته ـ أو ما هو قريب منه ـ إن كانت موجودة، مع التركيز على فهم أفكار المعاصرين من الكتاب والمفكرين وأسلوبهم.
ومما يجعل ترجمة كتب علماء السلف مثلاً كما هي، وتقديمها للقراء الغربيين عملاً محدود الأثر؛ هو الاختلاف الشاسع بين السياقين التاريخيين والثقافيين، وما ينتج عنه من اختلافات في تفاصيل الموضوع، ونوعية القراء المستهدفين وطرق تفكيرهم، وما يرونه مهماً، وما يمكن أن يؤثر فيهم.(1/170)
وخلاصة الأمر وسره: أن تُستحدث حالات بلاغية أو كتابية جديدة تراعي جدة المواضيع والأحداث المتعلقة بها، وأهميتها، وصفات القراء المستهدفين الفكرية والثقافية ومميزاتهم.
الكتاب أم المقالة الإلكترونية:
ليس في الغرب شيء أقوى تأثيراً وأبعد أثراً من الكتاب الفكري المتقن، ومن بعده الرواية؛ فالكتاب الفكري لا يزال مركزياً في الثقافة الغربية، وهو يتبوأ المرتبة الأولى في تعليم الناس وتكوين أفكارهم وصياغتها، بل حتى معتقداتهم ومواقفهم؛ ولذا فهو يعد أحد أهم الخيارات الاستراتيجية في الحوار الفكري مع الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ فهو أبقى من غيره وأيسر تداولاً وأوسع انتشاراً. ومن ميزات الكتاب أيضاً (وهذا وارد جداً) أن يكون مادة علمية تقرر في المواد الدراسية الجامعية في مئات الجامعات على مر السنين (تأمل أثر ذلك!)، ولنتذكر أن الباحثين الجادين عن المعرفة والفكر في الغرب (وما أكثرهم) لا يبحثون عنها أو لا يجدونها في الغالب وراء شاشات التلفاز أو حتى في مواقع الإنترنت، وإنما في بطون الكتب أو في الدوريات العلمية الرصينة.
وبالرغم من أهمية القنوات الفضائية في الغرب، وخاصة في أمريكا، ودورها في صياغة وعي الجماهير وأفكارهم وآرائهم عن الثقافات الأخرى؛ بما في ذلك كثير من المتعلمين والمثقفين؛ فإن الكتاب يظل أقل تكلفة وأيسر جهداً وأهدأ اختراقاً (قارن مدى تنوع الطروحات الفكرية والسياسية والإيديولوجية الواسع في الكتب، ومدى ذلك في قنوات التلفاز). وهذا لا يعني إلغاء أو تهميش فكرة القناة الفكرية الموجهة بلغة أجنبية، وإنما ينبغي عدم إهمال خيار الكتاب الفكري على حسابها.(1/171)
أما المواقع الإلكترونية الغربية ذات التوجه الفكري في شبكة الإنترنت؛ فهي لا تزال محدودة العدد والانتشار إذا ما قورنت بمواقع الأعمال والترفيه والخدمات والأخبار وغيرها، ومعظم ما يكتب ويقرأ في المجال الفكري في تلك المواقع يقع على شكل مقالات، أو دراسات قصيرة نسبياً، أو منتديات حوارية غير محكمة، أو مراجعات للكتب، أو قوائم بمراجع المواضيع الفكرية المطروحة. أما الكتب الإلكترونية فلا تزال محدودة العدد مع أنها في ازدياد مستمر.
وينبغي أن تكون المواقع المعنية بالحوار مع الآخر ـ سواء كانت على شكل مقالات أو منتديات ـ مستقلة يراعى فيها ما ذكر آنفاً، وألا تختلط بمواضيع موجهة للمسلمين.
والخلاصة هي: أن مواقع الإنترنت الفكرية مهمة، ولكن يجب أن تتكئ على قاعدة صلبة ومؤسسية من الكتب، والدراسات الرصينة، والمفكرين.
أولوية الأسلوب الجدلي في الحوار الفكري:(1/172)
ينبغي الاهتمام بـ (الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي) المبني على المسلمات البشرية، والأسس العقلية، أو الحقائق الشائعة المقبولة في ثقافة القراء الغربيين ومجتمعاتهم، والتي بالتالي تخاطب وتؤثر في قطاع عريض من متعلميهم فضلاً عن المثقفين منهم أو المفكرين، والتي لا تتعارض في الوقت نفسه مع مسلمات الدين الإسلامي وثوابته. أما الانطلاق دائماً من مسلمات الدين الإسلامي وتقريرها أولاً، أو مهاجمة عقائدهم وأخلاقهم الخاصة بهم بأسلوب مباشر فقد يكون أسلوباً أقل إقناعاً، وذلك لعدم وجود الأسس الفكرية أو الفلسفية المشتركة مع القراء، أو الاعتماد على معلومات تفصيلية لا يعلمها ولا يهتم بها إلا المتخصصون، أو بسبب انتقاص الجانب الأخلاقي والديني الذي لا يتقبله كثير من القراء اتباعاً لهواهم أو انتصاراً لأنفسهم وثقافتهم. وهذا لا يعني إغفال أهمية النقد الموضوعي للآخر بجوانبه المتعددة وتأثيره، أو أهمية استخدام النقد الذاتي بشكل استراتيجي، والذي يضفي بدوره مصداقية وموضوعية للمفكر المسلم وموقفه وتحليله، لكن ينبغي التركيز على القضايا المعرفية والفكرية الكبرى والمفهومات العامة، وتقديمها كأسس أو مقدمات منطقية، ومن ثم مناقشة المسائل الدينية والأخلاقية وغيرها بأسلوب جدلي تحليلي ونقدي ضمن تلك المقدمات وليس العكس.(1/173)
ولتوضيح المقصود هنا؛ يمكن أن نقارن على سبيل المثال بين كتاب يتحدث عن الإسلام بشكل عام (أي على شكل مختصر لتعاليم الدين) بأسلوب وصفي أو توضيحي، وهذا يخرجه مباشرة من تصنيف الكتب أو الطروحات الفكرية، كما أسلفت في الفرق بين أنواع الخطابات البلاغية، ومن ثم يقل انتشاره وتأثيره بشكل كبير (لاحظ تركيز الجهود الدعوية في الكتابة والترجمة على هذا الجانب)، وبين كتاب يتناول جانباً أو موضوعاً رئيساً من الدين يكون هو المفهوم الرئيس (على سبيل المثال: الحرية الفردية؛ حيث يقابلها مثلاً مصلحة الجماعة والدولة، أو تضحيات النفس، ويقابلها حفظ النفس وإبقاؤها، أو العلاقة مع الآخر)، ومن ثم تربط به المفهومات الجانبية والأفكار الأخرى المكونة للموضوع، والتي تتناوله من جوانب متعددة: دينية، أو تاريخية، أو حضارية، أو اجتماعية، أو قيمية، أو ثقافية، أو سياسية.
الخطاب الفكري ليس تجريداً فقط:
ومن الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بالطرح المعرفي النظري أو التجريدي الذي يتجاهل واقع المسلمين العملي (وغيرهم، في حالة الدراسات المقارنة)، بل يجب مناقشة واقع المسلمين الفردي والاجتماعي بجوانبه المشرقة والمعتمة، مع التركيز على النواحي المشرقة التي تجسد أو تقرب من تعاليم الإسلام، وربط ذلك أو مقارنته بالأصول النظرية أو الأفكار. وكذا طرح القضايا المهمة والمؤثرة في حياة القراء والمتعلقة بقضايا الساعة، فالغربيون عموماً، والأمريكيون خصوصاً، يهتمون كثيراً بالجوانب الواقعية والحياتية لكل ما يطرح؛ سواء كان ذلك في شكل دراسات، أو جوانب ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية (يمكن الجمع بين هذه جميعاً أو التركيز على جانب دون الآخر بحسب الموضوع أو الحدث الداعي للكتابة).(1/174)
ومن اللافت للنظر أن الأمريكيين غالباً لا يفرقون بين الإسلام كنظام معرفي ونظري، وبين فهم المسلمين العملي وتطبيقهم له وممارساتهم، أو على أقل تقدير لا يهمهم هذا الفرق، ويتجاهلونه من الناحية العملية وإن اعترفوا بوجوده من الناحية النظرية، وهذا التوجه قد يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أن معظمهم يعتقدون أن الأفعال والمعاملات والعلاقات البشرية الحسنة ـ بغضِّ النظر عن عقيدة صاحبها أو دينه ـ أهم بكثير من مجرد الاعتقاد والإيمان بالفضائل والمثل الإنسانية، خاصة إذا كانت هذه القيم لا ترى النور ولا تتجلى في أرض الواقع، وهذا بدوره يرجع إلى تأثير العلمانية وهيمنة البراجماتية كفلسفة وطريقة للحياة. ومن الأسباب أيضاً أن الأمريكيين غالباً ما يرون - بسبب تأثير ما يقرؤونه أو يشاهدونه عن الإسلام والمسلمين - أن أفعال المسلمين التي تؤثر فيهم وتحدد علاقتهم بالآخر هي تجسيد لمعتقدات الإسلام وتعاليمه، أو الإسلام كما يفهمه أولئك المسلمون على أقل تقدير.
وهذا الإشكال في الفهم والتصور لا ينبغي تجاهله من قبل المفكرين المسلمين؛ مما قد يزيد الأمر تعقيداً وغموضاً، بل إن التناول الصريح المتسم بالعمق والوضوح للقضايا الحساسة والغامضة والمعقدة يسهم إلى حد كبير في تجليتها، وفي تحسين صورة الإسلام والمسلمين ولو جزئياً.
التراكم المعرفي المضاد:(1/175)
وختاماً.. أود التركيز على مسألة (التراكم المعرفي المضاد) وأهميتها، فما يعرفه الغرب عن الإسلام لم يتكون في فترة قصيرة، بل تكوّن على مدى عقود بل قرون من التراكم المعرفي، والذي غالباً ما يفتقر إلى الدقة والموضوعية، بل يتعمد التشويه وتغييب الحقائق والمبالغة في أحيان كثيرة. ومما يلاحظ في هذا الشأن تنوع الخطابات التي كونت وصاغت هذا النظام المعرفي؛ بما في ذلك الكتب الفكرية بتنوعها (التاريخية والاجتماعية.. وغيرها)، والروايات الأدبية، والأفلام السينمائية، والبرامج الإخبارية، والصحف والمجلات.. وغيرها. ومما لا شك فيه أن هذا الزخم التشويهي الهائل لا يمكن تغييره في فترة وجيزة وبأساليب سحرية (هذا فضلاً عن إيصال رسالة الإسلام إلى من يجهلها تماماً، والأمران على أي حال مرتبطان؛ حيث العمل الدعوي الفكري الجاد يسهم في البناء المعرفي، وفي تعديل الصور المشوهة وتقويمها في الوقت نفسه)، بل لا بد من النظرة الاستراتيجية الواضحة، والعمل الفكري المتقن والمتسق مع هذه النظرة، مع الاهتمام بتنوع الطرح الفكري وتعدده وكثافته؛ في خطابات وقوالب ووسائل متعددة قدر الإمكان.
http://www.albayan-magazine.comالمصدر
ـــــــــــــــ(1/176)
الحوار الإسلامي النصراني أو الحوار بين مسلمين ونصارى
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي*
بعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وأمره بالدعوة إليه، فعمَّ وخصَّ، فقال ـ سبحانه ـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]،
وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وحذَّره ربُّه أن يجنح إلى شيء من محاولات الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين لاستزلاله عما بُعث به، فعمَّ وخصَّ، فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون]، وقال في خاصة أهل الكتاب: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}، إلى أن قال: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 48 - 49] .(1/177)
فامتثل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ربه، فدعا عشيرته الأقربين، وثنى بسائر العالمين، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار؛ يدعوهم إلى الله تعالى. وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - »(1). وكان نص كتابه - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله؛ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»(2).
وعلى هذا الصراط المستقيم سار صحابته الكرام، والتابعون لهم بإحسان، وهم يفتحون القلوب قبل الحصون، ويُدخلون الناس في دين الله أفواجاً، وعلى خطاهم سار الموفقون من سلف هذه الأمة عبر القرون المتطاولة، لا يعرفون غير الدعوة إلى الله بالحجة والبيان، فإن لم؛ فبالسيف والسنان، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، لا يعرفون شيئاً من الطرائق المحدثة من تقريب أو تلفيق أو توفيق.
فلما استدار الزمان، وتحلحلت عرى الإيمان، وآل حال أهل الإسلام إلى ضرب من الضعة والانكسار في القرون الأخيرة؛ طمع فيهم عدوهم، واستهوى رقاق الدين منهم إلى مدارج من الفتنة والاستزلال ـ والتي حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - منها والمؤمنين ـ فاستشرفوها فاستشرفتهم، فلم يزل أمرهم في سفال، فلا هم أرضوا ربهم، ولا هم نالوا من مخالفهم بعض ما منَّاهم به.(1/178)
فمن ذلك: فتنة (التقارب الإسلامي المسيحي)، كما كانت تسمى قبل ثلاثة عقود، ثم لطِّفت فسُمّيت: (الحوار الإسلامي المسيحي)، ثم وُسِّعت بين يدي «اتفاقية أوسلو» للتطبيع مع اليهود، فصارت: (حوار الأديان)، وربما: (حوار الأديان الإبراهيمية)، ثم لم تزل تتسع في ظل الدعوة إلى العولمة لتصبح: (حوار الحضارات) فتشمل الهندوسية، والبوذية، وسائر الملل الوثنية، في زخرف من القول، وبهرج من العمل.
وقد كانت الجبهة العريضة ـ تاريخياً وجغرافياً ـ تجاه العالم الإسلامي هي الغرب النصراني، ولا يزال، وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، كما في حديث المستورد القرشي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس)(1). وأحاديث الفتن والملاحم ـ في الصحاح والسنن والمسانيد ـ متوافرة على أنهم خصوم المستقبل، كما أنهم خصوم الحاضر والماضي، وهم اليوم يملكون الآلة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية، ومع ذلك تنطلق من مراجعهم الدينية والسياسية الدعوة إلى التقارب والحوار.. فما سر ذلك؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي أن نلم بجانب وصفي معاصر لنشأة ظاهرة (الحوار الإسلامي النصراني) أو (الحوار بين مسلمين ونصارى) على وجه الدقة؛ حتى لا نضفي على بعض الممارسات الخاطئة الصفة الإسلامية، بل ننسبها إلى أفراد أو هيئات من المسلمين خاضوا فيها بحسن نية وجهل حيناً، وتساهل وتجاهل أحياناً.
ü وقائع معاصرة:
- في عام (1301هـ/ 1883م) أسس الشيخ محمد عبده، والقس الإنجليزي «إسحاق تيلور»، وجمال رامز بك (قاضي بيروت)، ونفر من الإيرانيين ـ جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت.
- في عام 1935م انعقد مؤتمر (تاريخ الأديان الدولي) في بروكسل، وأوفد شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي كلاً من الأستاذين: مصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي.(1/179)
- في عام 1936م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في لندن، وانتدب الشيخ المراغي أخاه عبد العزيز لإلقاء كلمة نيابة عنه.
- في عام 1937م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في جامعة السربون، وانتدب الشيخ المراغي الشيخ عبد الله دراز نيابة عنه.
- في عام 1941م أسس المستشرق الكاثوليكي الفرنسي «لويس ماسينيون»، والأب الكاثوليكي المصري «جورج قنواتي» (جمعية الإخاء الديني)، وضمت في عضويتها بعض علماء الأزهر.
- في عام 1948م (عام إعلان قيام دولة إسرائيل) أسس اليهودي الأمريكي «المير برجر» (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط)، واستدرج لمنصب نائب رئيسها الشيخ محمد بهجة البيطار ـ رحمه الله ـ، ثم تبين له لاحقاً خلاف ما كان يؤمل.
وكان من نشاطها:
- في عام 1954م انعقد مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية) في (بحمدون) في لبنان، ثم مؤتمر (لجنة العمل للتعاون الإسلامي المسيحي) في الإسكندرية عام 1955م، ثم مؤتمر (لجنة مواصلة العمل للتعاون الإسلامي المسيحي) في (بحمدون) عام 1956م.
ثم انطفأت تلك الجمعية المشبوهة أمام رياح الريبة من الدوافع اليهودية والأمريكية وراءها.
- في عام 1962م - 1965م انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني، لأساقفة الكنيسة الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان؛ ليزيح عن النصارى عقيدة (لا خلاص خارج الكنيسة)، ويوسع مفهوم (الخلاص) ليشمل المسلمين، وينظر إليهم بتقدير، ويحرضهم على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم، عن طريق الحوار والتعاون، كما جاء في دساتير المجمع وبياناته، فكان ذلك إيذاناً بانفتاح باب الحوار على مصراعيه، وانطلاق فعاليات التقارب من مؤتمرات، وندوات، وتبادل زيارات، وافتتاح سفارات، على أوسع نطاق.
- في عام 1964م أنشأ البابا «بولس السادس» (أمانة السر للعلاقات بغير المسيحيين)، تطورت في عام 1989م إلى (المجمع البابوي للحوار بين الأديان).(1/180)
- في عام 1969م حذا مجلس الكنائس العالمي حذو الكنيسة الكاثوليكية؛ إثر مؤتمر (كرتينيه) قرب جنيف، ودعا إلى الحوار مع المسلمين على أصعدة متعددة.
- في عام 1971م أسس مجلس الكنائس العالمي (الوحدة الفرعية للحوار مع معتنقي المعتقدات الحية والإيديولوجيات)، ثم عقد العديد من المؤتمرات في آسيا وإفريقيا والعالم العربي؛ في عقد السبعينيات الميلادية.
- في عام 1968م انطلقت في الفلبين سلسلة من المؤتمرات في مناطق المسلمين، رعتها جهات أكاديمية حتى منتصف السبعينيات، ثم تولتها الحكومة الفلبينية بعد ذلك.
- في عام 1969م شرع الشيخ حسن خالد (مفتي لبنان) في عقد مؤتمرات (إسلامية ـ مسيحية) محلية متتابعة، لكن أوقفتها الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م.
- في عام 1970م بدأت سلسلة من اللقاءات بين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، وأمانة السر الفاتيكانية للعلاقات بغير المسيحيين.
- في عام 1971م شرعت وزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا بعقد مؤتمرات متتابعة في أرجاء الجزر الإندونيسية، بلغت ثلاثة وعشرين مؤتمراً محلياً خلال ست سنوات، روجت لفكرة وحدة الأديان إلى حد بناء مجمع للمعابد الدينية للأديان المعترف بها في الحديقة الوطنية.
- في عام 1974م بدأت في الهند لقاءات بين مسلمين ونصارى؛ بتنسيق من مجلس أساقفة الهند الكاثوليك، ومعاهد تنصيرية، وأفراد من المسلمين، واستمرت حتى التسعينيات.
- في عام 1974م شرعت (جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية في إسبانيا) في عقد مؤتمراتها في قرطبة؛ حتى احتفلت عام 1986م بمرور اثني عشر قرناً على تأسيس الجامع الأموي.
- في عام 1974م أقامت جماعة صوفية مؤلفة من أوروبيين ومغاربة، تُسمى (فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية)، وتنتمي إلى (دير سيننكا) في فرنسا ـ العديد من اللقاءات الروحية في عواصم أوروبية ومغربية.(1/181)
- في عام 1974م قام وفد مكون من تسعة علماء من المملكة العربية السعودية، على رأسه وزير العدل الشيخ محمد بن علي الحركان بزيارة للفاتيكان، وبالتقاء البابا «بولس السادس»، وعقد ندوة عن حقوق الإنسان في الإسلام، سبقتها ندوة في باريس، وتلتها ثلاث ندوات في كل من جنيف، وباريس ثانيةً، وستراسبورج، وكان لها صدى واسعاً.
- في عام 1976م انعقدت (ندوة الحوار الإسلامي المسيحي) في طرابلس بليبيا؛ بتنظيم من الفاتيكان والحكومة الليبية، وبحضور كبير وتمثيل واسع من مختلف الطوائف والشخصيات، وقد فاجأ الرئيس معمر القذافي شركاءه النصارى بإلزامهم بالاعتراف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والإقرار بتحريف كتبهم، وإدانة إسرائيل؛ مما أدى إلى ولادة متعسرة للبيان الختامي، وقيام الكنيسة الكاثوليكية بإعادة تقويم مسيرة الحوار.
- في حقبة السبعينيات الميلادية نشطت مؤتمرات الحوار الإسلامي النصراني في أوروبا الغربية؛ برعاية كنسية، وصبغة صوفية. وفي عقد الثمانينيات اتخذت منحى اجتماعياً؛ بفعل الهجرة المتزايدة لأوروبا من البلاد الإسلامية، ورعتها مؤسسات اجتماعية وأكاديمية، ومع تنامي الوجود الإسلامي في أوروبا وتنظيمه في التسعينيات؛ بادرت حكومات غربية إلى احتضان الحوار وتوجيهه، وكذلك الحال في أمريكا الشمالية.
- في عام 1979م سعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات ـ إثر اتفاقيات (كامب ديفيد) مع اليهود ـ إلى بناء (مجمع للأديان) في (وادي الراحة) في صحراء سيناء، يضم (مسجداً، وكنيسة، وكنيساً)، وإلى طباعة القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، في غلاف واحد.(1/182)
- في عام 1986م دعا البابا «يوحنا بولس الثاني» إلى صلاة مشتركة بين أتباع مختلف الأديان في بلدة (إسيزي) الإيطالية، مسقط رأس القديس «فرانسيس الإسيزي»، وأمّهم البابا في دعاء جماعي، وقد أخذت جمعية (سانت إيجيديو) التنصيرية الإيطالية على عاتقها تكرار هذه المناسبة، ولا تزال إلى يومنا هذا.
- في عام 1987م دعا المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» ـ المنسوب إلى الإسلام ـ إلى (الملتقى الإبراهيمي) في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً لمؤسسته ومتحفه.
- نشأ في بعض البلدان العربية ذات التعددية الدينية ـ كلبنان، والأردن، وفلسطين، وتونس، والسودان ـ جمعيات متخصصة، ومراكز للحوار الإسلامي النصراني، أسسها جماعة من النصارى العرب، ومدت الجسور مع نظيراتها في العالم الغربي، وعُنيت بنشر ثقافة التقريب، وعقد المؤتمرات، وإصدار المطبوعات.
هذا غيض من فيض من حركة دائبة، واسعة الانتشار، متنوعة المناشط، تجاوزت مؤتمراتها ثلاثمائة مؤتمر خلال أربعة عقود، تُعنى بها أكثر من مائة جمعية ومركز في أركان الأرض الأربعة.
ü بواعث الحوار:
ثمَّ بواعث متعددة تكمن خلف المبادرة النصرانية للدعوة إلى الحوار مع المسلمين؛ منها:
أولاً: باعث الصد عن سبيل الله: قال ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99]، وقال: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] .(1/183)
لقد راع الكنائس الغربية في العصر الحديث انفتاح شعوبها على الإسلام، واعتناق ألوف منهم إياه؛ بعدما أتيح لهم سماع كلمة الحق بشكل أفضل من ذي قبل ـ حين كانت الكنيسة تغذي رعاياها بمعلومات مغلوطة منفرة عن الإسلام، ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وكتابه، وتاريخه ـ، فحين انفتح الناس بعضهم على بعض؛ خطف بريق الإسلام أبصار الغربيين الذين تحرروا من هيمنة الكنيسة، واعتمدوا التفكير المنطقي الحر، فرأت المراجع الكنسية أن لا جدوى من المجابهة؛ فهي أضعف من أن تقف أمام متانة العقيدة الإسلامية، وإحكام شريعتها، بل إن التحدي سيُكسب الإسلام مزيداً من الأنصار، ومن ثم تفتقت عقولهم عن فكرة (التقريب والحوار) للظهور أمام مواطنيهم بمظهر التآلف لا الندّية، والوفاق لا المجابهة، والحوار لا القطيعة؛ وبذلك يطفؤون روح التشوّف لدى رعاياهم، ويقرون في قلوبهم أن الفروق بين الأديان فروق شكلية، وكلها تؤدي إلى الله، فلا حاجة إلى تجشم عناء التغيير.
وقد أفصح عن هذا الباعث الخفي القس «أريا راجا» حين قال: «تواجه الكنيسة اليوم واقعاً يتسم بالجدة؛ ففي الماضي كانت العلاقة بالأديان الأخرى تساعد الكنيسة على إغناء ذاتها وتطوير إيمانها... أما اليوم فقد تبدلت الأوضاع تماماً، ومن المهم أن نشير إلى بعض خصائص هذه الحقبة من تاريخ البشرية:
أولاً: لقد تحررت الأديان الأخرى من وطأة الاستعمار، وهي تطرح نفسها اليوم كبديل عن الإيمان المسيحي له شموليته، ولقد حدث في تلك الأديان ما يشبه النهضة خلال السنوات الأخيرة، فظهرت فيه حيوية جديدة...
ثانياً: لقد توغلت تلك الديانات إلى حد بعيد، حتى في الغرب المسيحي؛ مما جعل من التعددية الدينية واقعاً في كل المجتمعات تقريباً، فعدد المسلمين في فرنسا يفوق عدد المسيحيين المصلحين، ومسلمو بريطانيا أكثر من الميتوديين فيها...(1/184)
ثالثاً: وربما كان هذا هو الأهم، هناك وعي متزايد لغنى الأديان الأخرى... كان المسلمون في الماضي يُحسبون منافسين، أما اليوم فنشهد اهتماماً متزايداً في مفهوم الإسلام للجماعة وللصلاة... وبعبارة أخرى: فإنه لا العدائية اللاهوتية، ولا اللامبالاة تجاه الأديان الأخرى مسموح بهما بعد اليوم، فالطرق التي انتهجها المسيحيون قديماً في تعاملهم مع الأديان الأخرى لم تعد تكفي»(1).
ثانياً: الباعث التنصيري: قال ـ تعالى ـ: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، لا ريب أن التنصير أو (البشارة) ـ كما يسمونه ـ يحتل موقعاً مميزاً في الديانة النصرانية، وحين تبنى النصارى خيار الحوار؛ لم يكن ذلك تخلياً منهم عن وظيفتهم العتيقة، ففي الدستور الرعوي (الكنيسة في عالم اليوم) الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني؛ جاء ما يلي: (تبدو الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية)(2).
ولما رأى بعض النصارى في الحوار خيانة للبشارة، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية وثيقة بعنوان (حوار وبشارة) عام 1991م، جاء فيها: (إن المسيحين وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم... نظراً إلى هذا الهدف ـ أي قيام الجميع بارتداد أعمق إلى الله ـ يكون للحوار بين الأديان قيمته الخاصة، وفي أثناء هذا الارتداد قد يولد القرار بالتخلي عن موقف روحي أو ديني سابق لاعتناق آخر)(3). أما «مجلس الكنائس العالمي» فقد صرح في كتاب (توجيهات للحوار) بالقول: (يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا)(4).(1/185)
ومن بين أربعين بحثاً قُدّمت في مؤتمر المنصرين البروتستانت لتنصير المسلمين عام 1978م؛ كان هناك بحث بعنوان: (الحوار بين النصارى والمسلمين وصلته الوثيقة بالتنصير)، ناقش «دانيل آر بروستر» فيه هذه المسألة، وخلص إلى القول: (إذا شعرنا بأن شكلاً ما من أشكال الحوار يمكن أن يكون مفيداً لكسب المسلمين؛ فعندئذ يكون مهماً أن نبدأ الآن في تخطيط كيفية القيام بذلك)(5).
ثالثاً: الباعث السياسي: قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118)هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)ن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 - 120].
كان من أكبر الدوافع التي صاحبت انطلاق التقارب الإسلامي النصراني في عقد الستينيات؛ طغيان المد الشيوعي الملحد على العالم، وتهاوي معاقل النصرانية أمام الفكر المادي الكاسح، فرأى المعسكر الرأسمالي الغربي أن يدعم جبهة المتدينين، ويوحد صفوفهم لكبح جماح الشيوعية.(1/186)
لقد وُلدت الدعوة إلى التقارب وولدت معها تهمة (الباعث السياسي)، فقد قال مدير الأبحاث والنشر في (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط) «إريك ولدمار» بين يدي مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية) المنعقد في (بحمدون) في لبنان عام 1954م: «إن غاية المؤتمر واضحة جلية، وهي محاربة الإلحاد، والعمل على التقارب بين المسيحيين والمسلمين، وتوحيد القوى ضد التيارات التي تحاول النيل من عقائد هاتين الديانتين»(1). وأفصح أحد أعضاء المؤتمر بجلاء عن الباعث الحقيقي خلف تلك التظاهرة، فقال: «إن العالم الحر اليوم ـ أكثر من أي زمن آخر ـ يحسب الحساب للتطورات العالمية، وازدياد خطر الشيوعية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بعين القلق إلى التطورات والأحداث الجارية في الشرق الأوسط، وترى من واجبها أن تقوم بكل ما في وسعها، كقائدة للدول الخارجة عن الستار الحديدي الشيوعي، للقضاء على الشيوعية التي أخذت تتفشى في الشرق الأوسط بشكل مريع»(2).
ومن العجب أن المعسكر الشيوعي المقابل شهر الأداة نفسها في وجه خصمه الرأسمالي، فقد رعى الاتحاد السوفييتي وبقية دول المنظومة الشيوعية مؤتمرات مُسيَّسة للحوار الإسلامي النصراني؛ لمناقشة قضايا التسلح النووي، والاستعمار، والتنديد بالسياسات الأمريكية، كان عرّابها بطريرك موسكو وسائر روسيا الأرثوذكسي «بيمن»، ومن الجانب الإسلامي مفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو.
كما أن الحكومات الغربية في عقد التسعينيات تبنت قضايا الحوار الإسلامي النصراني لتتمكن من دمج المهاجرين المسلمين في بنية المجتمعات الغربية، واتخاذهم ورقة ضغط على الحكومات الإسلامية لتقديم تسهيلات مماثلة؛ لتعزيز نفوذ الأقليات النصرانية في البلدان الإسلامية، ومهاجمة مشروع الدول الإسلامية، وتطبيق الشريعة.
ü اتجاهات الحوار:(1/187)
ثمَّ ثلاثة اتجاهات يجري الحوار الإسلامي النصراني المعاصر في مضمارها، تنتظم هذا الكم من المؤتمرات والمنتديات، وتفصح عنها أدبيات ذلك الحوار وبياناته الختامية؛ وهي:
أولاً: اتجاه التقريب: وهو الاتجاه السائد، والمستمد من مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني، ويمثل معظم المحاولات العالمية والإقليمية والمحلية التي يتواضع عليها المتحاورون. وأبرز معالمه ما يلي:
1 - اعتقاد (إيمان) الطرف الآخر، وتسويغه، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو.
2 - الاعتراف بقيم الآخر، واحترام عقائده وشعائره، وعدم تخطئته أو تضليله أو تكفيره.
3- تجنب البحث في المسائل العقدية الفاصلة؛ للحفاظ على استمرارية الحوار.
4- الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة.
5- نبذ (التلفيقية) و (التوفيقية)، واحتفاظ كل طرف بخصائصه.
6 - تجنب دعوة الآخر، ومحاولة اجتذابه، وحسبان ذلك خيانة لأدب الحوار.
7 - إبراز أوجه التشابه والاتفاق، وإقصاء أوجه التباين والافتراق.
8 - الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، والتخلص من آثاره.
9 - التعاون على تحقيق القيم المشتركة.
10 - تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
ثانياً: اتجاه التوحيد: وهو اتجاه يستصحب معظم الخصائص السابقة لدى دعاة التقريب، ويزيد عليها ما يلي:
1 - اعتقاد صحة جميع المعتقدات، وصواب جميع صور العبادات.
2- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس مشتركة.
ويمثل هذا الاتجاه غلاة الصوفية قديماً، كابن عربي، وابن الفارض، والحلاج، وحديثاً بعض المتمسلمين الأوروبيين مثل (روجيه جارودي)، و «فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية»، المنبثقة عن دير سيننكا في فرنسا، ومجمع «سوبود» في إندونيسيا، وفروعه في ثمانين دولة.(1/188)
ثالثاً: اتجاه التلفيق: وهو اتجاه يهدف إلى تشكيل دين جديد ملفق من أديان وملل شتى، ودعوة الآخرين للانخلاع من أوضاعهم السابقة، واعتناق دين مهجن، ويمثل هذا الاتجاه قديماً (البهائية)، وحديثاً (المونية) التي يعتنقها أكثر من ثلاثة ملايين شخص في العالم، وتعقد مؤتمرات للحوار باسم (المجلس العالمي للأديان).
ü الحوار المشروع:
لفظ (الحوار) مصطلح حادث، لا يحمل حقيقة شرعية يمكن الإحالة عليها، بل ولا يحمل دلالة قانونية مستقرة تكشف عن أبعاد استعمالاته، يقول د. عبد العزيز التويجري: (مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر؛ من المفاهيم الجديدة، حديثة العهد بالتداول، ولعل مما يدل على جدة هذا المفهوم وحداثته أن جميع المواثيق والعهود الدولية التي صدرت في الخمسين سنة الأخيرة، بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، تخلو من الإشارة إلى لفظ الحوار)(3).
ولهذا لم يبق سوى الدلالة اللغوية، فالحوار مادته (حور) و (الحور: الرجوع عن الشيء إلى شيء... والمحاورة: المجاوبة. والتحاور: التجاوب)(4)، قال الراغب: (والمحاورة والحوار: المرادة في الكلام، ومنه التحاور، قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1])(1).
ولعل هذا هو السر في تحبيذ المشتغلين بالحوار لهذا اللفظ، وهو أنه لا يحمل هدفاً مبيتاً، أو التزاماً مسبقاً بشيء يحرج الداعين إليه، والمنخرطين فيه.
وحيث (لا مشاحة في الاصطلاح)؛ فلا بد من البيان الذي يرفع الإبهام، والإيضاح الذي يزيل الالتباس، فنقول:
إن الحوار الشرعي نوعان:(1/189)
الأول: حوار الدعوة: وهو وظيفة المرسلين، وخلفائهم من العلماء الربانيين، والدعاة الناصحين، وهو مشروع الأمة الإسلامية، وعنوان خيريتها على سائر الأمم. ومضمون هذا الحوار هي (الكلمة السواء) التي دل عليها قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64]، وأسلوبه هو ما دل عليه عموم قوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] ، وخصوص قوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وترجمته العملية سيرته - صلى الله عليه وسلم - في دعوة أهل الكتاب؛ من يهود المدينة، ونصارى نجران، ومكاتباته لملوك الأرض، ثم طريقة السابقين الأولين من الصحابة والتابعين والسلف الصالح، كمحاورة جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه للنجاشي وبطارقته، وهدي الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في معاملة أهل البلاد المفتوحة، وأسلوب العلماء الراسخين في مخاطبة أهل الكتاب، ككتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى سرجوان (ملك قبرص).
وأبرز خصائص هذا الحوار ما يلي:
1 - مبادأة أهل الكتاب بالدعوة الصريحة إلى الإسلام، وعدم الاشتغال بأمور أخرى تصرف عن ذلك، أو توهنه، أو تؤجله.(1/190)
2 - مجادلتهم بالتي هي أحسن في القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم، ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيع، ثم مباهلتهم إن لزم الأمر.
3 - أخذ زمام المبادرة في دعوتهم، كما يدل عليه قوله: {تَعَالَوْا} [آل عمران: 64]؛ باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم، وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، وكل ذلك ثابت من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
4 - تألفهم بالقول الحسن، كمناداتهم بم يليق بهم من ألقاب حق، وتحيتهم تحية مناسبة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى»، وبالفعل الحسن، كعيادة مريضهم، وتمكينهم من الصلاة في المسجد لعارض، وإكرام وفدهم، تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: حوار السياسة الشرعية: وهو ما تفرضه حركة الأمة الإسلامية، وتمليه طبيعة التعايش بين البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة. وهذا النوع من الحوار والمفاوضات والمعاهدات يوكل إلى أولي الأمر، وأهل الحل والعقد، وتضبطه القواعد العامة في الشريعة، وتقدير المصالح والمفاسد. وقد رافق هذا اللون من (حوار التعايش) نشأة الدولة الإسلامية في المدينة، حيث عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عهوداً مع يهود المدينة، وأبرم صلح الحديبية مع كفار قريش، كما زخر الفقه الإسلامي المؤسس على فقه الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات الدولية بأهل الكتاب؛ ذميين كانوا، أو معاهدين، أو مستأمنين، أو حربيين.
أما الحوار البدعي؛ فهو حوار المداهنة، والابتذال، والخضوع بالقول، وكتم الحق، والسكوت عن الباطل، والموادة، والموالاة لغير المؤمنين؛ مما يقع فيه كثير من محترفي الحوار المذموم اليوم.(1/191)
ولا ريب أن في ديننا فسحة وسعة تنافي التقوقع والانكماش، وتمكن دعاة الإسلام ـ مستفيدين من التسهيلات الإعلامية الحديثة ـ من التقدم إلى العالم أجمع بخطاب متين يتضمن دعوة المرسلين إلى توحيد رب العالمين، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] .
(ü) أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ فرع القصيم، من مؤلفاته كتاب: «دعوة التقريب بين الأديان دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية) في أربع مجلدات.
(1) رواه مسلم، رقم (1774). (2) رواه البخاري، رقم (7)، ومسلم، رقم (1773).
(1) رواه مسلم، رقم (2898).
(1) الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: 81 - 82. (2) المجمع الفاتيكاني الثاني، ص: 312.
(3) حوار وبشارة، ص: 25، 30. (4) نقلاً عن: الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: 70.
(5) الإنجيل والإسلام، المترجم إلى العربية بعنوان: التنصير.. خطة لغزو العالم الإسلامي، ص: 777.
(1) نقلاً عن: هرطقات فريسية، جورج حنا، ص: 8. (2) المرجع السابق، ص: 9.
(3) الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي، ص 7. (4) لسان العرب، (3/383).
(1) مفردات القرآن، (135).
مجلة البيان السنة السابعة عشرة * العدد 184*ذو الحجة 1423هـ * فبراير 2003م
ـــــــــــــــ(1/192)
لماذا نفشل في الحوار مع أبنائنا؟
هاني العبد القادر
قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول".
وقال ابن القيم الجوزية في كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود) - ولاحظ ما يقول -: "وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم".
أما أبو حامد الغزالي فيقول: "الأبناء جواهر". ونقول له: صدقت - الأبناء جواهر - ولكن يا أبا حامد، كثير من الآباء - مع الأسف - حدادون مع هذه الجواهر.
أستغرب ممن يقول بكل ثقة: أولادي هم أغلى الناس، ثم يخبئ الكلام المهذب، والأسلوب الظريف ليقدمه للغرباء، ولا يكاد يقدم شيئاً منه لأولاده؛ مع أنهم أولى الناس بالكلمة اللطيفة، والتعامل اللبق.
ولعل هؤلاء شغلتهم متاعب التربية وروتينها عن حلاوتها ولذتها، وهي متاعب وآلام لا بد منها، ولا ينبغي أن تؤثر على علاقتنا بهم رغم شدة هذه المتاعب وكثرتها.. إنها كآلام الولادة! هل رأيتم أمّاً تضرب ابنها المولود حديثاً؛ لأنه سبب آلامها؟!! مستحيل.. إنما تحتضنه.. راضية.. سعيدة.. قريرة العين رغم كل ما تسبب فيه من معاناة وآلام. وكذلك التربية يجب أن نفصل فيها بين متاعبنا بسبب الأطفال، وبين تعاملنا معهم. يجب أن نبحث عن المتعة في تربيتهم، ولا يمكن أن نصل لهذه المتعة إلا إذا نزلنا لمستواهم، هذا النزول لمستوى الأطفال: (ميزة) الأجداد والجدات، عند تعاملهم مع أحفادهم، ينزلون لمستوى الطفل، ويتحدثون معه عما يسعده، ويتعاملون معه بمبدأ أن الطفل هو صاحب الحق في الحياة، وأن طلباته مجابة ما دامت معقولة، ورغم أن الأطفال يحبون أجدادهم وجداتهم لا شك، إلا أنهم ينتظرون هذا التعامل اللطيف، والعلاقة الخاصة منا نحن، وتظل صورة الأب الشاب القوي التقي هي النموذج الذي يحبه الولد ويقتدي به، ويتعلم منه كيف يقود البيت، ويرعى زوجته وأبناءه في المستقبل.(1/193)
وتظل صورة الأم الشابة الأنيقة، ذات الدين والحياء والعفة، والذوق الرفيع هي النموذج الذي تتعلق به الفتاة وتقتدي به، وتتعلم منه كيف تكون زوجة وأماً، والفرصة لا تزال متاحة للجميع لتغيير العلاقة بالأبناء، تغييراً ينعكس إيجابياً عليكم وعليهم، سواء في التفاهم والحوار معهم، أو احترام شخصياتهم المستقلة، أو قبولنا لعيوبهم ونقائصهم. إذن: تفهم، واحترام، وقبول.
كل هذا ممكن أن نحققه إذا جعلنا علاقتنا بأبنائنا أفقية، كعلاقة الصديق بصديقه، يغلب عليها الحوار والتفاهم، أما إذا كانت العلاقة رأسية كعلاقة الرئيس بمرؤوسه، ويغلب عليها الأوامر والنواهي، لا شك سيكون تأثيرها الإيجابي قليل.
من علامات نجاحنا في التربية: نجاحنا في الحوار مع أبنائنا بطريقة ترضي الأب وابنه، ولكننا - للأسف - نرتكب أخطاء تجعلنا نفشل في الحوار مع الأبناء؛ وهذا هو مادة هذه المقالة (لماذا نفشل في الحوار مع أبنائنا؟)، وهو العنوان الثاني من العناوين التي تتناولها سلسلة حلقات (من أجل أبنائنا).
أهم أسباب الفشل في الحوار أسلوبان خاطئان:
الخطأ الأول: أسلوب (ما أريد أن أسمع شيئاً).
والخطأ الثاني: أسلوب (المحقق) أو (ضابط الشرطة).(1/194)
الخطأ الأول: هو أننا نرسل عبارات (تسكيت)، وكذلك إشارات (تسكيت) معناها في النهاية: (أنا ما أريد أن أسمع شيئاً منك يا ولدي). مثل العبارات التالية: (فكني)، (بعدين بعدين)، (أنا ماني فاضي لك)، (رح لأبيك)، (رح لأمك)، (خلاص خلاص)، بالإضافة إلى الحركات التي تحمل نفس المضمون، مثل: التشاغل بأي شيء آخر عن الابن أو عدم النظر إليه، وتلاحظ أن الولد يمد يده حتى يدير وجه أمه إلى جهته كأنه يقول: (أمي اسمعيني الله يخليك) أو يقوم بنفسه، ويجيء مقابل وجه أمه حتى تسمع منه.. هو الآن يذكرنا بحقه علينا، لكنه مستقبلاً لن يفعل، وسيفهم أن أمه ممكن تستمع بكل اهتمام لأي صديقة في الهاتف أو زائرة مهما كانت غريبة، بل حتى تستمع للجماد (التلفاز) ولكنها لا تستمع إليه كأن كل شيء مهم إلا هو.(1/195)
لذلك عندما تنتهي من قراءة المقال، ويأتيك ولدك يعبر عن نفسه ومشاعره وأفكاره، اهتم كل الاهتمام بالذي يقوله، هذا الاستماع والاهتمام فيه إشعار منك له بتفهمه، واحترامه، وقبوله، وهي من احتياجاته الأساسية: التفهم، والاحترام، والقبول بالنسبة له، حديثه في تلك اللحظة أهم من كل ما يشغل بالك أياً كان، إذا كنت مشغولاً أيها الأب أو أيتها الأم.. أعطِ ابنك أو ابنتك موعداً صادقاً ومحدداً.. مثلاً تقول: أنا الآن مشغول، بعد ربع ساعة أستطيع أن أستمع لك جيداً، واهتم فعلاً بموعدك معه.. نريد أن نستبدل كلماتنا وإشاراتنا التي معناها (أنا ما أريد أن أسمع منك شيئاً) بكلمات وإشارات معناها (أنا أحبك وأحب أن أسمع لك وحاس بمشاعرك) وبالأخص إذا كان منزعجاً أو محبطاً ونفسيته متأثرة من خلال مجموعة من الحركات: الاحتضان، الاحتضان الجانبي، والاحتضان الجانبي حتى نتخيله.. حينما يكون أحد الوالدين مع أحد الأبناء بجانب بعضهم وقوفاً، كما في هيئة المأمومين في الصلاة، أو جلوساً يمد الأب أو الأم الذراع خلف ظهر الابن أو فوق أكتافه ويضع يده على الذراع أو الكتف الأخرى للابن ويلمه ويقربه إليه، بالإضافة إلى الاحتضان الجانبي التقبيل بكل أشكاله، والتربيط على الكتف، ومداعبة الرأس، ولمس الوجه، ومسك اليد ووضعها بين يدي الأم أو الأب... وهكذا.. لمّا ماتت رقية بنت الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - جلست فاطمة - رضي الله عنهما - إلى جنب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وأخذت تبكي .. تبكي أختها.. فأخذ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه يواسيها مواساة حركية لطيفة، ودخل علي بن أبي طالب وفاطمة ومعهما الحسن والحسين - رضي الله عنهم أجمعين - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فأخذ الحسن والحسين فوضعهما في حجره، فقبلهما، واعتنق علياً بإحدى يديه، وفاطمة باليد الأخرى، فقبّل فاطمة وقبّل علياً - رضي الله عنهما(1/196)
حتى الكبير يحتاج إلى لغة الحركات الدافئة، فما بالكم بالطفل الصغير؟! والشواهد على احتضانه وتقبيله للصغار كثيرة جداً.
كان حديثنا في هذه الحلقة علاجاً للخطأ الأول في الحوار مع الأطفال، وهو ما لخصناه في عبارة (ما أريد أن أسمع شيئاً).
أما علاج الخطأ الثاني من أخطاء الحوار، وهو أسلوب (المحقق) أو (ضابط الشرطة)..
ومع مشهد ننقله كما هو بكلماته العامية:
جاء خالد لوالده، وقال: (يبه اليوم طقني ولد في المدرسة).. ركّز أبو خالد النظر في ولده، وقال: (أنت متأكد إنك مش أنت اللي بديت عليه)؟! قال خالد: (لا والله.. أنا ما سويت له شي).. قال أبو خالد: (يعني معقولة كذا على طول يضربك؟!).. قال: (والله العظيم ما سويت له شي).. بدأ خالد يدافع عن نفسه، وندم لأنه تكلم مع أبيه.. لاحظوا كيف أغلق أبو خالد باب الحوار، لما تحول في نظر ابنه من صديق يلجأ إليه، ويشكي له همه إلى محقق أو قاضٍ يملك الثواب والعقاب، بل قد يعد أباه محققاً ظالماً؛ لأنه يبحث عن اتهام للضحية، ويصر على اكتشاف البراءة للمعتدي.. الأب في مثل قصة أبي خالد كأنه ينظر للموضوع على أن ابنه يطلب منه شيئاً.. كأن يذهب للمدرسة ويشتكي مثلاً، ثم يستدرك الأب في نفسه، ويقول: قد يكون ابني هو المخطئ، وحتى يتأكد يستخدم هذا الأسلوب.. في الحقيقة الابن لا يريد شيئاً من هذا أبداً، إنه لا يريد أكثر من أن تستمع له باهتمام وتتفهم مشاعره فقط لا غير..
الولد يريد صديقاً يفهمه لا شرطياً يحميه، ولذلك يبحث الأبناء في سن المراهقة عن الصداقات خارج البيت، ويصبح الأب معزولاً عن ابنه في أخطر مراحل حياته، وفي تلك الساعة لن يعوض الأب فرصة الصداقة التي أضاعها بيده في أيام طفولة ابنه، فلا تضيعوها أنتم.(1/197)
أسلوب المحقق يجبر الطفل أن يكون متهماً يأخذ موقف الدفاع عن النفس، وهذه الطريقة قد تؤدي إلى أضرار لا تتوقعونها.. خذ على سبيل المثال، قصة يوسف والسيف المكسور.. يوسف عمره سبع سنوات.. اشترى له والده لعبةً على شكل سيف جميل، فرح يوسف بالسيف، أخذه الحماس، وعاش جو الحرب وكأنه الآن أمام عدو، وبدأ يتبارز معه، وقع عدوه على الأرض، رفع السيف عليه وهوى به بشدة على السيراميك فانكسر السيف طبعاً، خاف يوسف من والده، فكّر في طريقة يخفي بها خطأه، جمع بقايا السيف وخَبَّأه تحت كنب المجلس.
جاء ضيف لأبي يوسف، وأثناء جلوسهم سقط الهاتف الجوال لأبي يوسف فانحنى لأخذه وانتبه عندها للسيف المكسور، عندما خرج الضيف، نادى ابنه (لاحظوا الآن سيأخذ الأب دور المحقق) صرخ قائلاً: (يوسف وين سيفك الجديد؟).. قال: (يمكن فوق..) قال: (إيه يمكن فوق.. ما أشوفك يعني تلعب به؟) قال الولد: (ما أدري وينه..). قال الأب: (ما تدري وينه؟ دوّر عليه أبغى أشوفه هالحين).. - ارتبك يوسف - ذهب قليلاً.. رجع قال: (يمكن أختي الصغيرة سرقته) صاح الأب قائلاً: (يا كذاب.. أنت كسرت السيف.. صح ولاّ لا..؟ أنا شايفه هناك تحت الكنب.. شوف ترى أكره شيء عندي الكذاب)، وأَمْسَكَ يد ابنه وضربه، ويوسف يبكي، أخذته أمه، ونام ليلته ودمعته على خده لتكون هي هدية والده وليست السيف.
في هذه القصة ظن الأب أنه معذور في ضرب ابنه؛ لأنه لا يريد أن يكون ابنه كذاباً، وهذا العذر غير مقبول نهائياً.. نقول له: ما الذي جعل يوسف يكذب غير أسلوبك.. كان يكفيه أن يقول: (أشوف سيفك انكسر يا يوسف) يقول مثلاً: (إيه كنت ألعب فيه وكسرته) يقول الأب: (خسارة؛ لأن قيمته غالية).. وينتهي الأمر عند هذا الحد. وقتها يفهم يوسف عملياً أنه يستطيع التفاهم مع والده، وأن يقول مشاكله وهو مطمئن، وسيشعر بالخجل من نفسه ويحافظ على هدايا والده أكثر؛ لأن الأب أشعر يوسف بأنه مقبول رغم خطئه بكسر السيف.
أسلوب المحقق أدّى إلى الكذب، والكذب هو موضوع العنصر الثالث الذي سنتناوله - بمشيئة الله - في الحلقة القادمة.
والله يرعاكم.
http://www.almoslim.com المصدر:(1/198)
متى ينجح الحوار مع الولايات المتحدة ؟
فيصل فرحي
بدلا من استهداف الحاكم العربي أو الفئات الواسعة مثل "الشباب" على واشنطن... التواصل مع أصحاب الآراء المعادية سياسيا لأمريكا... يجب على إدارة بوش أن تضع جانبا حبها للتهديد والقهر وميلها لتقسيم العالم إلى فئات تبسيطية من الخير والشر.
في جرأة نادرة، كتب الصحفي الأمريكي مارك لينش في المجلة النافذة "فورين أفيرز" (وهي واحدة من أكثر المجلات تأثيرا على السياسية الخارجية الأمريكية) في عددها الأخير أن واشنطن اعتمدت في تعاملها مع الملف العراقي على حسابات خاطئة مفادها أن الرأي العام العربي سيتم كسبه بنصر سريع و"نظيف" في العراق تصاحبه صور العراقيين وهم يرحبون بالجنود الأمريكيين كمحررين لهم، وأن "المتشددين" العرب سيشعرون بالصدمة، بل بالرعب، من القوة العسكرية الأمريكية، أما الرأي العام العربي فسيأخذ انطباعا إيجابيا قويا عن مشاعر العرفان بالجميل من جانب الشعب العراقي على حريته الوليدة، وبالتالي ستفقد الأصوات المناهضة لأمريكا مصداقيتها، بشكل يفتح الباب أمام تفكير ونقد ذاتي جديدين، لكن في الحقيقة، قلة فقط من العرب نظروا إلى هذا الصراع بالطريقة التي توقعها المحافظون الجدد في واشنطن.(1/200)
كان الجنود المهاجمون يظهرون وهم يتقدمون في وجه مقاومة عنيدة وكانت التغطية العربية تهيمن عليها مشاهد الخسائر البشرية المدنية والخسائر البشرية الأمريكية والمباني المدمرة بالقصف والعراقيين الغاضبين. وعلى سبيل المثال كان القصف الذي ضرب سوقاً شعبيا في بغداد يوم 28 مارس عرضاً متكرراً فجَر موجة من الغضب، كما أن الإنهيار المفاجئ لبغداد ضاعف هذه الموجة. وفي غضون ذلك، كان إسقاط تمثال صدام حسين يحظى بتغطية "فاترة" في الإعلام العربي الذي نظر إليه على أنه مسرحية بارعة أدارها العسكريون الأمريكيون بمشاركة عراقية محدودة. ثم تحولت القصة سريعا من قصة "قتال شديد" إلى مستنقع تخبط إداري أمريكي وبريطاني، وعداء عراقي متأصل وتزايد وتيرة حرب العصابات. وفي اللغة المستخدمة لتغطية الحرب، كان الجنود الأمريكيون دوما "الغزاة" وليسوا "المحررين"، ووُصف الوجود العسكري الأمريكي في العراق كاحتلال لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي البغيض في فلسطين. وببساطة فمثلما يعتبر معظم المسلمين المقاومة الفلسطينية ضد الإسرائيليين رداً شرعياً على الاحتلال، فإن الهجمات على القوات الأمريكية والبريطانية منذ نهاية الحرب كانت توصف كهجمات مفهومة ومشروعة.(1/201)
ويشير مارك بأن بعض أوساط الحكومة الأمريكية تعترف بهذه المشكلة وحاولت تسويتها، ولكن جهود هؤلاء قد تركزت على الترويج لسياسات الإدارة عبر الظهور بين الحين والآخر على وسائل الإعلام للمتحدثين من المسئولين والدعاية لتسويق صورة إيجابية عن الولايات المتحدة في محاولة لاختراق العقل العربي. غير أن هذا النهج لم يحقق سوى القليل، لأن الجمهور المستهدف أحس بأن هذه المشاركات كانت "محبوكة". وستواجه القناة التلفازية الفضائية المخطط لإطلاقها برعاية الولايات المتحدة أوقاتاً عصيبة في العثور على حصة لها في السوق، باعتبار أن محتواها السياسي على سبيل المثال سيتهم في مصداقيته بشكل آني على اعتبار أنه مجرد دعاية. كل هذا سيجعل - حسب مارك - المجموعة الاستشارية للدبلوماسية الشعبية في العالم العربي والإسلامي (وهي لجنة شكلت في يوليو الماضي بطلب من الكونغرس)، تبحث عن فرص حيوية في معالجة هذه القضايا.
وما ينبغي الضغط باتجاهه بدلا من ذلك هو نهج مختلف جذريا عن طبيعة التعاملات الأمريكية مع المنطقة، نهج يتحدث مع العرب بدلاً من أن يتحدث عليهم ويحاول تحقيق التواصل معهم بدلاً من التلاعب بهم. لقد ميز الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بين الفعل "الاستراتيجي" و"الاتصالي"، حيث يتم تصميم الأول للتلاعب بالآخرين، للمضي قدما في تحقيق المصالح الذاتية لصاحبه فيما يصمم الثاني للبحث عن الحقيقة. وغالبا ما تندرج جهود الدبلوماسية الشعبية الأمريكية في الخانة الإستراتيجية ويضيعون فرصتهم. لقد كانت المعلومات تتدفق في اتجاه واحد.(1/202)
إن العرب والمسلمين يدركون ويرفضون مثل هذه المحاولات باعتبارها دعاية، وهو شيء يعرفونه تماما من أنظمتهم. وهم يشعرون بالغضب من محاولات معاملتهم كالأطفال ويحسون بلسعة الازدراء في كونهم أهدافاً للتلاعب بدلاً من معاملتهم كمحاورين حقيقيين. ومع ذلك، فإنه إذا دعت لأي حوار حقيقي، فسيكون لها صدى قوي في مشهد الرأي العام العربي الجديد.
وفي رأي مارك، فإنه بدلا من استهداف الحاكم العربي أو الفئات الواسعة مثل "الشباب"، على واشنطن أن تركز على التواصل مع المثقفين والمفكرين وغيرهم من الشخصيات العامة من الذين أصبحوا أدوات فاعلة جداً في تشكيل الرأي العام العربي. وإن الحوار الناجح يتطلب تقليل اعتبارات القوة إلى أدنى مستوى ممكن وإظهار الاحترام المشترك. إذ أن الاعتماد على "الصدمة والرعب" لكسب الاحترام سيستعدي أكثر مما يقنع. كما أن التهديدات بالقوة، ستجذر الكراهية، وعلى الإدارة الأمريكية أن تعترف أن الرأي العام العربي يستطيع أن يتحدث عن نفسه وأنه يستاء بعمق من تجاهله. وإن التواصل مع أصحاب الآراء المعادية سياسيا لأمريكا أكثر أهمية من توفير منصة لأولئك المتفقين مسبقا مع المواقف الأمريكية.
وتؤكد مجموعة العمل في مجلس العلاقات الخارجية في تقرير حديث لها: ليس هناك شك في أن الصور النمطية للأمريكيين كمتغطرسين وأنانيين ومنافقين وعديمي الاكتراث بالآخرين وغير مستعدين أو غير قادرين على التواصل في حوار عابر للثقافات هي صور مزمنة وعميقة الجذور، ومثل هذه المواقف تصبغ فهم أي مبادرة. وأي مبادرة يجب أن تبدأ باعتراف بالشك العربي في النوايا الأمريكية، يجب على واشنطن أن تنأى عن لغة الغطرسة والقسوة وتعترف بدلا من ذلك بكامل المصالح والدوافع وراء السياسات الأمريكية.(1/203)
ويرى مارك لينش أنه يمكن للولايات المتحدة أن تبدأ بمعالجة الإجماع حول عدم صدق أمريكا في دعوتها للديمقراطية، إذ ولفترة طويلة، يتردد الساسة الأمريكيون في دعم الديمقراطية للعرب بدافع الخوف من أن الإسلاميين قد يفوزون بأي انتخابات حرة، غير أن إحلال الليبرالية السياسية مادامت قد قدمت على أنها هدف أمريكي بارز، لا يتأتى إلا بإظهار أمريكا استعدادها لقبول أي نتائج انتخابية، مثلما فعلت في تركيا، على الرغم من أن ذلك حصل على مضض منها. إلا أن أهم بند على جدول العمل في ما يدعو إليه مارك يجب أن يكون العراق، فالأفعال الأمريكية هناك على مدى الشهور العدة المقبلة ستكون ذات أثر أكبر على العلاقات الأمريكية مع العالم العربي أكثر من أي شيء آخر، حيث إن السياسات الارتجالية الحالية في العراق -كما يذكر مارك- والتي يراها معظم الأمريكيين ردود فعل مصلحية، يُنظر إليها من جانب معظم العرب على أنها دليل يثبت أولويات أمريكية خبيثة.
وبالتأكيد (كما يرى مارك) فإن أي قدر من الحوار مهما بلغ نطاقه لن يترتب عنه أي تغيير في رؤية الرأي العام العربي للولايات المتحدة ونواياها في ظل غياب تغييرات في السياسة، وحسب مارك، فإن الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتفكيك المستوطنات والسماح بانتخابات نيابية عراقية حقيقية وكل هذا يمكن أن يساعد في إصلاح الضرر الذي تسببت به السنتان الماضيتان، لكن فقط إذا تم شرح هذا عبر نقاش علني في إعلام عربي مستقل وذي مصداقية.(1/204)
وفي الأخير، يقرر الصحفي الأمريكي أن الحوار مع العرب لن يقدم رصاصات سحرية، إنه يتطلب صبرا وضبطا للنفس والتزاما مستديما ببذل الجهود، ويجب على إدارة بوش أن تضع جانبا كراهيتها للدبلوماسية، وحبها للتهديد والقهر وميلها لتقسيم العالم إلى فئات تبسيطية من الخير والشر، لكن بالنظر إلى التغييرات التي حدثت في العالم العربي في السنوات الأخيرة، فإن مثل هذا الحوار قد يكون الطريقة الأفضل وربما الوحيدة في إصلاح العطب في العلاقات مع الوطن العربي.
http://www.qawim.org المصدر:
ـــــــــــــــ(1/205)
الحوار بين الثقافات
جوشن هيبلار
بأي شكل يمكن أن يتم التبادل الفعال بين الثقافات الغربية والإسلامية؟
وكيف يمكن التغلب على عدم الألفة والمخاوف المتبادلة؟
لقد أصبحت العلاقات بين الدول الغربية والعالم الإسلامي أكثر صعوبة بعد الهجمات في 11 سبتمبر 2001م.
لقد أدى تدمير مركز التجارة العالمي والرد العسكري الأمريكي إلى خلق تحفظات وعدم ثقة، وحتى خوف متبادل، بالرغم من أن العديد من الناس في أوروبا وأمريكا الشمالية يرحبون بكل شيء إسلامي - أو حتى الإسلام بذاته - باهتمام جديد، إلا أن العديد من المسلمين يتهمون الغرب بالكفاح من أجل التفوق والسيادة وباستعمال معايير مزدوجة.
* الصدام أم الحوار؟
خلال العقد الأخير، أصبح الجدل حول العلاقات بين المجتمعات الغربية والإسلامية واضحاً تحت عنوانين متعارضين: بينما تحدث البعض عن"صدام الحضارات"، والذي يعني في المقام الأول نزاعاً جوهرياً بين الغرب والإسلام، ناشد الآخرون من أجل"حوار الثقافات"، مما يثير الاهتمام هنا، حقيقة أن هذا الاختلاف لم يكن موجوداً بين الغرب والعالم الإسلامي، ولكن كلا الموقفين كان موجوداً داخل الطرفين.
كانت هناك مناقشات قوية بين الجانبين فيما إذا كانت الثقافات تنقسم بسبب الاختلافات الجوهرية أو تتوحد بالفرصة والحاجة للحوار، لكن هذا الجدال لا يتم بين المسلمين والغربيين، بين الديني والدنيوي، بين أوروبا والشرق الأوسط، بين الإسلام والمسيحية، بل ضمن كل تلك المجموعات.
ثبتت صعوبة حوار الثقافات أيضاً؛ لأنه يجب أن يتم إجراؤه داخل المجتمعات نفسها، حيث يجابه بالمعارضة المترددة أحيانا والقوية أحياناً أخرى. يفترض الناس في كلا الثقافتين أن هذا النوع من الحوار قد يهدد هويتهم الخاصة، وفي كلا الجانبين يأمل الناس بأن يتعلموا من بعضهم البعض.(1/206)
يعد التفاهم الثقافي المتبادل مهمة صعبة، خصوصاً أنه يتأثر بشكل مؤذ بعلاقات القوى المختلفة السائدة في كلا الجانبين. منذ بداية القرن التاسع عشر اختبر المسلمون الغرب بشكل متكرر كقوة مسيطرة وليس كشريك متساوٍ.
تأثرت علاقة دول الشرق الأوسط مع الغرب بالنقص العسكري، الاقتصادي، التكنولوجي، والسياسي منذ زمن الاستعمار، ويوجد هناك تفاوت أيضاً في القوة الاقتصادية والتكنولوجيا. هذا بالغ الأهمية: الحوار بين شريك قوي اقتصادياً وآخر ضعيف هو أصعب بكثير مما لو كان بين شركاء متساوين.
التفوق والسيادة تغريان أحد الطرفين ليعد نفسه ليس فقط أقوى، بل أيضاً أفضل، ومتفوق أخلاقياً، وبالتالي فلا يعامل شريكه في الحوار كنظير ولكن يعظ، ودائماً يعرف أفضل. النقص الحقيقي للطرف الآخر ممكن أن يجعله ينفر من الحوار بسهولة؛ لأنه إما أن يبحث عن مفر في موقف عدائي غير مرن أو يقبل مواقف الطرف المتفوق دون نقد أو تشكيك. عندها يصبح التبادل الحقيقي الصريح ليس فقط صعباً ولكن غالباً مستحيل.
وهكذا فإن أي شخص يرغب في الانخراط في حوار ثقافي تبادلي جدي يجب ألا يغمض عينيه عن اللاتوازن في القوى، وعليه أن يلتمس وبشكل خلاق طرق جديدة لإجراء تبادل بن ندين متساويين.
"الغرب"ليس كياناً متجانساً ثقافياً، ولكنه سلسلة متصلة من المواقف، القيم، وأنماط السلوك التي يمكن فهمها فقط ككل عندما ينظر إليها بمستوى عال جداً من التجريد.
يشمل الغرب الدين والإلحاد، الدنيوية والطوائف الدينية، فلاسفة عصر التنوير، محاكم التفتيش، حقوق الإنسان، الفاشية والديمقراطية، ويتضمن كذلك المجتمعات الريفية ذات الروابط العائلية القوية وقابلية التحرك المنخفضة، إضافة إلى خبراء في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عن بعد ذوي قابلية عالية للتكيف.(1/207)
هناك اختلافات إقليمية وقومية مهمة. لغات مختلفة ولهجات، عقليات أبوية جنباً إلى جنب مع دعاة المساواة، تقدميون ورجعيون، وتعصب أعمى وتسامح. الغرب مليء بالاختلافات والتناقضات، فهو في مدة انتقال، في عملية تطور دائمة، مع تغير في القوى والقوى المقابلة. بإمكاننا جميعاً أن نتغاضى بسهولة عن هذه الاختلافات، وهذا المزيج من القيم؛ لأننا نعدها من المسلمات لدرجة أننا لا نراها كشيء غير اعتيادي، ونحن نغفل بشكل متكرر عن حقيقة أن الوضع هو نفسه بالضبط في المجتمعات الإسلامية: هنا أيضاً، يمكنك أن تجد التفاهم جنباً إلى جنب مع التعصب والانفتاح إلى جانب كره النساء وضيق الأفق إلى جانب التنوير. المجتمعات الإسلامية ليست إسلامية فقط، كما أن الغرب ليس"غربياً"فقط، فهي مكونة من مجموعة من التناقضات والنزاعات كما هي الحال في المجتمعات الغربية.
هذا يؤدي إلى ظهور مشكلتين. الأولى، هي: أن كلا الجانبين يميل إلى رؤية وتعريف الآخرين بشكل أساسي من خلال الاختلافات والجوانب الكريهة. العديد من الناس في أوروبا يرون الجوانب غير المألوفة للمجتمعات الإسلامية، وهكذا جزء واحد من الواقع، وكما أن ألمانيا ليست أساساً وحصرياً هي حليقي الرؤوس وهجمات المصابين بالخوف من الغرباء ودولة الهولوكوست، كذلك المجتمعات الإسلامية فهي لا تتميز فقط بالتعصب الديني، ومع ذلك فإن ظاهرة من هذا النوع تجذب كل الانتباه، وهكذا يتم استبدال الحوار بالنقد المتبادل للجانب المظلم للآخر. يجب ألا يتغاضى الحوار الحقيقي عن هذا العامل المدمر، بل أن يدركه ويميزه ضمن سياق أوسع.(1/208)
ثانياً: تجعل الطبيعة المتناقضة للمجتمعات الغربية والمسلمة الحوار أصعب؛ لأنه لا يوجد هناك جانبان فقط، ولكن عدد لا متناهي من اللاعبين في كل جانب. لا يمكن أن يتم الحوار بين هذه الأنظمة المتغايرة ككل، بل بين أفراد وجماعات لكلا الجانبين، يبدو أن هناك شريك حوار واحد في الواقع، إما تبلور جدل ثقافة تعددية والذي يتعلم أيضاً قبول تنوع الجانب الآخر -أو لا حوار ثقافي متبادل.
إن أي محاولة لإيجاد شركاء رسميين في المناظرة يمثلون "الغرب" أو "الإسلام" يقيد التبادل بمجموعات فكرية بارزة، ويستثنى الغالبية العظمى للمجتمعين.
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/209)
نماذج من الحوار .. أيها يختارون ؟
توفيق علي
هناك نماذج عدة للحوار يمكن الاسترشاد بها لمن يدعو للحوار:
إن أرادوها قرآنية فالقرآن يدعو إلى الحوار. وقدم لنا نماذج كثيرة على ذلك منها: ما دار بين الله - سبحانه وتعالى - وملائكته في موضوع خلق آدم - عليه السلام -:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)) (البقرة).
وقصة صاحب الجنتين في سورة الكهف: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34) ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا (36) قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا (38) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41) وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا (42) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43) هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44)) (الكهف)
وإن أرادوها نبوية فالنبي - صلى حاور أعداءه:(1/210)
يروى أن عتبة بن ربيعة جلس إلى رسول الله "فقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة أي: المكانة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها.
فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال له عتبة ما قال حتى إذا فرغ قال له: أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم: قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فأخذ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يتلو عليه من سورة فصلت: (حم" (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى" إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون (7) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8) قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9)) حتى إذا انتهى إلى الآية موضوع السجدة منها وهي الآية 37، سجد ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذلك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وطلب عتبة إليهم أن يدعوا الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وشأنه، فأبوا وقالوا له: سحرك يا أبا الوليد بلسانه"(1).
دروس من القصة:
1 - حسن استماع الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - لعتبة.
2 - أعطاه - - صلى الله عليه وسلم - - الفرصة إن كان يود إضافة شيء ربما نسيه أو غفل عنه.
3 - سأله ليتأكد من فراغه مما لديه.(1/211)
4 - قوله - - صلى الله عليه وسلم - - بعد القراءة "قد سمعت يا أبا الوليد" أي وما تختار.
وهذا من قمة الأدب وقمة الذوق مما يجعل الطرف الآخر تتفتح نفسه للسماع.
وإن أرادوها فرعونية:
فقد أرجأ فرعون موسى - عليه السلام - إلى موعد ليعرض ما لديه:
يقول الله - سبحانه وتعالى -: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين 104 حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل 105 قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين 106 فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين 107 ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين 108 قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم 109 يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون 110 قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين 111 يأتوك بكل ساحر عليم 112) (الأعراف).
يقول صاحب الظلال: ".. و قد استقر رأي الملأ من قوم فرعون، على أن يرجئ موسى إلى موعد. وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة، ذلك ليواجهوا "سحر موسى" بزعمهم بسحر مثله. وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين، في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين و تهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة(2).
أفلا نسمع صوت العبد الصالح الراشد الذي نصح فرعون: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب 28) (غافر).
فإذا كان هؤلاء كاذبون فسوف يتحملون تبعة عملهم، ويلقون جزاءهم ويحتملون جريرتهم. وهذا ليس بمسوغ لإقصائهم وعدم الحوار معهم.
وإذا كانوا صادقين فسوف يصيبكم بعض الذي يعدكم هؤلاء. فمتى نكون منصفين عادلين؟
وفرعون قد اختار وقت الضحى "وأن يحشر الناس ضُحى"، حتى يظهر كل طرف حجته واضحة جلية.(1/212)
فهل يستفيد قادة الحوار من تلك النماذج، أم يخشون من إيمان الحضور بمنهج التيار الإسلامي في الإصلاح السياسي والاقتصادي، ويخشون من اختيار الشعب ومفكريه وقادته للمنهج القرآني النبوي في حل مشكلات الدنيا بأسرها؟.
------------
الهوامش
(1)سيرة ابن هشام (1 - 313).
(2) الظلال (3 - 1348).
http://www.almujtamaa - mag.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/213)
فن الحوار
يعتبر (الحوار) من الأمور التي نمارسها باستمرار. لذا فإتقان هذا الفن، أمرا مهما جدا. فأسلوب الحوار والكلام يدل على شخصية وسلوك وأخلاق المتحدث.
من خلال هذا المقال، سنرى كيف يمكننا تطوير مهارتنا بهذا الفن، وذلك من خلال طرح مشكلة عملية، تحتاج لأن يتحاور الأطراف فيما بينهم، لتفادي المشكلة وأسبابها مستقبلا. ومن ثم سنطرح الحوار الذي نراه مناسبا لحل المشكلة، ونحلله، وندلل على أهميته من سيرة نبينا الكريم محمد - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
أحضر قلما وورقة، وحاول الإجابة على السؤال في آخر الموقف التالي:
الموقف:
يعمل أحد المصانع بنظام الورديات، حيث توجد به ورديتا عمل (صباحية ومسائية). يدير الوردية الأولى شاب ذكي ومؤهل، أما الوردية الثانية فيديرها موظف تجاوز الخمسين عاما، قضى عمره في المصنع، فأصبح ذا خبرة كبيرة في الآلات وطريقة عملها.
وذات يوم خطرت ببال الموظف الشاب فكرة جديدة لتطوير عمل الآلات وزيادة إنتاجيتها، لكن تنفيذها يحوي بعض المخاطر على سلامة الآلات. فعرض الفكرة على المدير وناقشه بها، فوافق المدير عليها.
أسرع الموظف بتنفيذ الفكرة. وبالفعل زادت سرعة الإنتاج. وعند اقتراب موعد انتهاء ورديته، اضطر الشاب للخروج مبكرا من العمل، لارتباطه بموعد مهم. فكتب التعديلات التي أحدثها في ورقة ووضعها على طاولة الموظف صاحب الخبرة الذي يدير الوردية الثانية. ولم يستطع انتظاره حتى يحضر، فانصرف.
وعندما حضر الموظف الآخر إلى المصنع، تفاجأ بطريقة عمل الآلات، ففزع من التغييرات، وخشي على الآلات، فأغلقها في الحال. دون أن ينتبه للورقة التي على مكتبه. مما أدى إلى خسارة كبيرة بسبب توقف الإنتاج.
المطلوب:(1/214)
افترض أنك مديرا لهذا المصنع، كيف ستحاور موظفيك، بحيث لا تقلل من حرصهم على تطوير المصنع، وفي الوقت نفسه تنبههم للخطأ بحيث أن لا تحبط الموظفين لأنهم كانوا حريصين على مصلحة المصنع فيجب أن لا تخسرهم , وأن تخرجون بحلول للمشكلة. وتتفادونها في المستقبل وتوجد الحلول لهذا الخطأ كي لا يتكرر. فما حدث سبب خسارة كبيرة للمصنع، لكن بالطبع خسارة موظفين أكفاء كهؤلاء تعتبر خسارة كبيرة أيضا!!
حاول كتابة الحوار الذي سيجريه المدير مع موظفيه.
الآن سأضع الحوار الذي أراه مناسبا لحل المشكلة، وثم سأقوم بتحليل الحوار. قارن حوارك بالحوار المعروض، وحاول تحليل حوارك لمعرفة مواطن الضعف فيه لتطويرها.
قبل أن نبدأ في الحوار. علينا أن نتوقع أن كلا الموظفين (الشاب والكبير في السن)، يتوقعون لوم المدير لهم، أو حتى معاقبتهم على ما قاموا به. لذلك فهم مستعدون للدفاع عن أنفسهم في حالة توجيه أي لوم أو عتاب، فما قاموا به لم يكن إلا لمصلحة المصنع (من وجهة نظرهم).
ولنعرض حوار المدير مع كل منهما على حده:
يطلب المدير الموظف الشاب (اسمه محمد) في البداية للاجتماع به. فيدخل الموظف إلى مكتب المدير بثقة.. ولكنه مستعد للدفاع عن نفسه في حال توجيه أي اتهام له. يرحب فيه المدير بابتسامة. ويبدأ بمحاورته:
المدير: مرحبا محمد. تفضل بالجلوس. كيف حالك؟ أتمنى أن جميع أمورك على ما يرام.
يجلس محمد (الموظف الشاب). ويكتف يده. وينظر إلى المدير مستعدا للدفاع عن نفسه.
المدير: محمد. أنت من الموظفين الذين يفخر المصنع بجودهم فيه. وكفاءتك في العمل ممتازة وحماسك جيد. وهذا كله أثر على تطور سير المصنع. خصوصا فكرة تعديل طريقة تشغيل الأجهزة لمضاعفة الإنتاج، التي طرحتها البارحة.
بالطبع سيؤثر هذا الكلام إيجابا على نفسية محمد. فتهدأ نفسه، ويبدأ تركيزه في التفكير في الدفاع عن نفسه يقل. ويزداد تفكيره في كيفية توضيح أفكاره بخصوص تطوير العمل.(1/215)
محمد (الشاب): نعم نعم.. هذه الفكرة ستضاعف الإنتاج 60%. وسنغطي أسواق (تحمس الشاب لفكرته كثيرا واسترسل في شرحها والدعاية لها).
بعد أن أنهى محمد شرحه فاتحه المدير في المشكلة التي حدثت:
المدير: أنت على علم بالطبع بما حدث البارحة من إيقاف للمصنع. مما أدى إلى خسارة في الإنتاج. ولكنا إن شاء الله سنعوضها بفكرتك.. لكني أود أن أستمع لرأيك في سبب حدوث هذه المشكلة؟
يفكر محمد للحظات.. لم يتوقع أن يوجه إليه هذا السؤال. كل الذي كان يفكر به كيف سيدافع عن موقفه!!!
محمد (الشاب): الفكرة ممتازة.. لكني أعتقد أننا يجب أن نخطط لطريقة تنفيذها أكثر. فعندما نفذتها. تركت ورقة للموظف الآخر، ليكون لديه علم لما أجريته من تعديلات. فلقد كنت مضطرا للخروج مبكرا من العمل.. ولكنه للأسف لم يرها. بل رأى الآلات تعمل بشكل مغاير عما تعود عليه، فذهل، واعتقد أن خللا ما ألم بها، فأطفأها.
المدير: إذا المشكلة ليست بسبب الفكرة. وإنما بسبب أمر آخر، ما هو برأيك؟
الموظف: نعم.. المشكلة كانت في طريقة التعامل بيننا كموظفين.. فكان علي أن أتأكد من أن الورقة ستصل إلى الموظف الآخر. فالأمر ليس بسيطا. وكان على الموظف الآخر أيضاً استشارتك قبل إطفاء الأجهزة، وعدم الانفعال.
المدير: إذن ماذا تقترح لحل المشكلة؟
الموظف يرد وقد نسى الدفاع عن نفسه، وخوفه من الاتهام: من الأفضل أن نحسن وسيلة الاتصال بين الموظفين، حتى يسهل علينا التشاور في شؤون المصنع. وأيضا علينا اتباع نظاما محددا في تطبيق الأفكار، وذلك بإخبار الجميع عنها. وأن وأن وأن (ويستمر محمد في سرد الحلول).
وانتهى الحوار بينهما بوعد من المدير بجمع الموظف الشاب مع الموظف الآخر لتطبيق هذه الحلول. فخرج الموظف الشاب بحماسه المعهود، وهو يفكر بوسائل جديدة من الممكن أن تزيد إنتاجية المصنع وتطور عمله.
سأعود للتعليق على هذا الحوار بعد الانتهاء من الحوار الآخر بين المدير والموظف ذو الخبرة.(1/216)
يدعو المدير الموظف الكبير في السن (عم أبو علي) فيدخل الموظف عم أبو علي، على المدير، متوترا، يفكر بما يمكن أن يقوله له المدير!!
المدير: أهلا عم أبو علي، تفضل بالجلوس، كيف حالك؟ هل أطلب لك شيئا تشربه؟
عم أبو علي: لا شكرا.
المدير: لا يمكن، يجب أن تشرب شيئا.
ويطلب له فنجان قهوة. فيشربها العم أبو علي.
المدير: عم أبو علي.. أنت من الموظفين.. الذين قضوا عمرا طويلا في المصنع. وأنت أحد الذين بنوه، فتعرف كل صغيرة وكبيرة به، وربما تكون أكثر مني معرفة بآلاته وطريقة عملها. ولولا خبرتك ما كنا وصلنا لمستوانا الحالي.
عم أبو علي: يبتسم، ويسعد بهذا الإطراء.
عم أبو علي: هذا واجبي، والمصنع هذا جزء من حياتي، ونجاحه هو نجاحي.
المدير: حسنا عم أبو علي. من خبرتك ومعرفتك، لماذا حدثت المشكلة البارحة في المصنع؟ هل بإمكانك أن توضح الأمر لي؟
عم أبو علي يفكر في السؤال، فلم يتوقع أن يسأله المدير هذا السؤال!!! ثم أجاب: الأسباب كثيرة. أولها، أنني لم أكن أعلم عن الفكرة مسبقا.. ولم أعلم بالورقة التي تركها لي (محمد) على مكتبي إلا اليوم، فلقد انشغلت البارحة بالعمل، وعندما رأيت الآلات أثناء جولتي التفقدية عليها، فوجئت بها، وظننت أن خللا ما قد أصابها، فأطفأتها حتى لا تزيد المشكلة.
المدير: إذن ما هي الحلول التي تطرحها لحل هذا المشكلة؟ حتى نتفادها في المرات القادمة؟
عم أبو علي: علينا أن نتبع نظاما واضحا في إجراء التغييرات. أي أن أي تغيير يعتمد يجب أن نعلم به قبل تنفيذه. وعلينا أيضا أن نوثق الروابط بيني وبين الموظف محمد. وأن تكون وسيلة الاتصال بيننا للتشاور في أمور المصنع أكثر سهولة. (ويستمر أبو علي في طرح الحلول).
المدير: أشكرك عم أبو علي. فما ذكرته أنت قريب مما ذكره الموظف محمد، وسأجمعكم ببعضكم قريبا إن شاء الله للاتفاق على حلول مفيدة لتطوير سير المصنع.(1/217)
انتهى حوار المدير مع أبو علي.. وخرج الأخير راضيا بما دار بينه وبين مديره، وعازما على بذل قصارى جهده لتحسين أداء المصنع وتعويض الخسارة.
ما رأيكم بالحوار السابق؟! إليكم تحليله الآن:
نلاحظ من الحوار أن المدير استخدم أسلوب النقاش وطرح الأسئلة على الموظفين لفتح المجال لإبداء آرائهم. لذلك لم يحبط الموظفان ولم يتضايقا. فالمدير لم يلمهم أو يعاقبهم، بل أثنى عليهم وطلب رأيهم. فهذا يرفع من مكانتهم ويدل على تقدير واحترام المدير لهم.
فكانت النتيجة أن تحمس الموظفان أكثر لحل المشكلة، لإثبات حرصهم على المصنع. فاستطاع المدير بذلك أن يحل المشكلة دون أن يحبط الموظفين، وأن يضمن أيضا مشاركتهم في تطوير المصنع وحماسهم له.
وعلى العكس من ذلك، لو عاقبهم المدير أو لامهم لأحبط الموظفين، وقد يطلبوا إنهاء عملهم. لأن حرصهم على المصنع كان جزاءه اللوم. وفي أحسن الأحوال سينفذون الحلول وهم متضايقون من تعامل المدير معهم. وبالتأكيد سوف تضعف همهم لتطوير المصنع.
نفس الطريقة نستطيع أن نطبقها في تعاملنا في الحياة. فعندما يقول لي شخص مثلا: أنت مخطئة، أو أنت كاذبة، أو يتهمني بأي اتهام. فالرد عليه بنفس طريقته أو الدفاع بقول أنني لست كذلك لن تفيد. والأفضل من ذلك الحوار. كأن أقول له مثلا وبدون غضب أو خوف: لماذا تعتقد أني كذلك؟ ما الذي رأيته مني لتحكم علي؟ بذلك يتحول الموقف إلى حوار وتوضيح بدلا من توجيه الاتهامات.
موقف أخر. إن رأى أحدكم أخاه مثلا أخطأ في حق أبنائه. فعاقبهم بشدة لخطأ ما، من دون أن يتفاهم معهم. بإمكانك لأن تتحاور معه بدلا من أن تقول له: أنت مخطئ، أنت لا تعرف كيف تتعامل مع أبنائك، كان عليك أن تفعل كذا وكذا. فهنا أنت تركز على اللوم والاتهام بدلا من حل المشكلة. من الأفضل أن تقول له: يا أخي، في اعتقادك ما نتيجة ردة فعلك هذه؟ ما رأيك لو قلت لهم كذا وكذا؟ لو كنت مكانهم هل ترى أن تصرفك فصحيح؟(1/218)
أسئلتك هذه ستجعله يستنتج خطأه. ويدعه يقول الحل بنفسه. فأنت بذلك تعطيه فرصة أكبر للتفكير في الحل. بدلا من التفكير في الدفاع عن موقفه عند اتهامك له بعدم معرفته أصول التعامل مع أبناءه.
والأمثلة على المواقف التي نتعرض لها يوميا، وتحتاج منا أن نتحاور مع الأطراف الأخرى في الموقف، كثيرة جدا. كل ما عليك، هو أن تفكر بالأسلوب الأمثل الذي يجعل الطرف الآخر يكتشف خطأه بنفسه، ويحاول إيجاد الحل له، دون أن يؤثر ذلك على نفسيته.
أعلم أن التطبيق ليس سهلا. لكن بإمكانك أن تطور هذه المهارة لديك، بالتعود على ممارستها، وسترى نفسك تتحسن في كل مرة. وتذكر نقطة مهمة: ركز على الحلو أكثر من التركيز على اللوم وتوجيه الاتهامات.
أود الإشارة هنا، أن المتتبع للسيرة النبوة المطهرة، سيرى أمثلة رائعة في فن الحوار، والفنون الأخرى الضرورية لاكتساب محبة الناس. لذا نرى أن رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، استطاع أن يدخل قلوب البشر، من رآه وحتى من لم يره. وهذا موقف نرى فيه أسلوب رسولنا الكريم في الحوار، وكيف استطاع أن يبين للشاب خطأه، بأسلوب يختلف عما كان يريد الصحابة القيام به.
عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا (مه، مه) فقال: ادن، فدنا منه قريبا.
قال: فجلس.
قال: أتحبه لأمك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال: أتحبه لأختك؟
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: والناس لا يحبونه لأخواتهم.
قال: أتحبه لعمتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.
قال: أتحبه لخالتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
قال: فوضع يده عليه وقال:"اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه".
فلم يكن من الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه أحمد(1/219)
ألم تلاحظوا أن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، لم يستخدم أسلوب اللوم أو العقاب، وإنما استخدم أسلوب الحوار والمناقشة، وطرح الأسئلة، ليدع المجال للأخر للتفكير في أمره. ولاحظوا معي هذه النقاط بالنسبة لهذا الموقف:
المجالسة، الرفق، الاحتواء، الحوار، السؤال، الاستماع، الاختيار، الذات، القناعة، الحوافز، الدعاء، واللمسة الأبوية.
أخيرا، حاول أن تتذكر مواقف حدثت لك، ألزمتك على التحاور مع الأطراف الأخرى، وحاول أن تتذكر نتيجة ذلك الحوار، هل كانت نتيجة إيجابية أم سلبية. فإنك كانت إيجابية، فأنت تسير على الطريق الصحيح. أما إن كانت سلبية، فعليك أن تحسن أسلوبك، بالطريقة التي شرحت أعلاه.
أتمنى أن يكون هذا المقال مفيدا لكم. وأن تقوموا بتطبيقه في أقرب فرصة.
http://www.alnoor-world.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/220)
الحوار الأسري أسلوب تقويم
الشيخ مازن الفريح
الحوار الأسري أسلوب لتقويم المخطئ والإنكار على المذنب بأسلوب حكيم:عن عائشة - رضي الله عنها -قالت: قلت للنبي: حسبك من صفية كذا وكذا - قال بعض الرواة: تعني قصيرة.
فقال: [لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته].
قالت: وحكيت له إنساناً (أي فعلت مثل فعله).
فقال: [ما أحب أني حَكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا].
أولاً: عظم إثم الغيبة. حتى شبهها عليه أفضل الصلاة والسلام بالنتن الذي لو خُلط بماء البحر لأنتنه. بل شبهها الله - عز وجل - فقال:]أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ[(الحجرات: من الآية12).
ثانياً: تعليمه عليه أفضل الصلاة والسلام لأهله العلم الشرعي، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. وهذه من المسؤوليات التي ضيعها - للأسف - كثير من الأزواج وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: [والرجل راعٍ على أهل بيته ومسؤول عن رعيته]. (وسائل تعليم الرجل لأهله العلم الشرعي).
ثالثاً: الغيبة تحصل بالقدح في عرض الشخص الغائب لغير مصلحة شرعية. وهي تحصل بالأقوال والأفعال.
أيتها الأخوة والأخوات:
وأخيراً: فإن الأسرة المسلمة يمكن أن تجني من الحوار منافع عظيمة وفوائد عديدة.
(1) فبالحوار يمكن أن نغرس الإيمان بالله - عز وجل - ومحبة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -.
(2) وبالحوار يمكن أن نحِل خلافاتنا ونتغلب على مشكلاتنا.
(3) وبالحوار يمكن أن نعلم أولادنا الصدق في القول والأمانة في العمل.
(4) وبالحوار يمكن أن نقوّم أخطاءهم ونصحح مسارهم.
(5) وبالجمة فبالحوار يمكن أن ندعو لكل خير وننهى عن كل شر.
http://www.naseh.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/221)
الحوار مع الغشاوة
عبد الله بن محمد السحيم
في زمن الفتن وتعاقب الأحداث تبرز على الساحات خفايا المجتمعات وما تحمله من متغيرات يومية تضغط عليها أفكار متنوعة كل واحدة منها تجادل عن نفسها وتريد إثبات وجودها محاولة بذلك التطاول بعنقها وسط الزحام، في هذه الأثناء كان ينبغي للصراحة أن تأخذ مكانها المقبول والمرضي لجميع الأطراف الملتقية على مائدة الحوار سواء المختلف منها أو المتفق فإن مما يفتح العقول للحوارات البناءة الناضجة والطروحات الموضوعية الحرة الشرعية هو تمييز أحاديثنا عن طريق تزويدها بزاد الصراحة المدعومة بجميل الألفاظ والمقننة بالمكاشفة النقية والبعيدة جداً عن العواطف وبواعثها المعمية للألباب ذلك أن القضايا المصيرية وغيرها حين تشرع أبوابها على مصراعيها لتلجها العواطف تجعل التعامل معها والحكم عليها معدوم الحكمة فيسود النقد التأثري الجائر حين تطغى غشاوة العاطفة على القلب فلا يرى إلا بها ولا يحكم إلا بما تلزمه به.
إن مجاملة الآخر زجٌ به إلى المهلكة واقتيادٌ له مع فكره المجامل إلى الطريق الملتوي وهذا مدعاة إلى أن ينظر بعين واحدة إلى المنصحين والمصلحين من حوله على أنهم حساد يملون عليه ما يمليه عليهم حقدهم وهم في الحقيقة من هذا برءاء، ثم إن توسيع دائرة المجاملات إلى مرحلة الإعجاب بحلاوة العلقم وجمال صوت الأبكم تجعل المصابين بدائها وغشاوتها أشبه بالبالونات المليئة بالهواء يفتضح أمرها مع أول امتحان لها مع الصبر ولهذا فإن ممارسة المجاملات بكثرة يعد نوعاً من أنواع التدليس وضرباً من ضروب الخديعة ولن يجد المخدوعون بها في يوم ما من يزيف لهم الحقائق بل سيقول لهم بلا ريب هؤلاء أنتم وهذا هو المطلوب فإما أن تجيدوا وإما أن تغيروا أو لا مكان لكم معنا فارحلوا وعندها سيصدمون بحقائق أنفسهم وعيوبها الغائبة عنهم.(1/222)
إن فريقاً ممن يزعمون الإيمان بفكرة الحوار البناء والنقاش الموضوعي النزيه وممن يهتمون بأساليب لمِّ الشمل ونبذ الفرقة هم أشد الناس كفراً بهذه النظريات فما تلبث مزاعمهم الهشة أن تنكشف أمام سيل الأحداث المتعاقبة والفتن المتلاحقة، ذلك أن الحوار حين يقوده من لا يريد التنازل عن رأيه قيد أنمله فإنه لا يعدوا أن يكون اجتماع بلوره عاقدوه ـ شعروا أم لم يشعروا ـ على تضييع الوقت به واستهلاك مادة الكلام فيه، فالنقاش حين يكون هدفه المبطَّن انتصار للذات وإثبات لشهوة المجادلة الساعية للإسكات ومن ثم الإطاحة بفكرة المُنَاقَش وتذليلها وإذابتها ولو حملت في طيها أحياناً بوادر الحق وبراعم يافعة تتقبل التصحيح والتنمية كل هذا يؤكد هشاشة تلك المبادئ الحوارية وضعف روادها.
إن محاولة الرقي للأفضل بعيداً عن سلالم المكاشفة والمصارحة وتقليل الأخطاء وتوضيحها ومواجهة المخطئ بها كل هذا يصيب المجتمع بأمراض القوة الوهمية والإعجاب بالتفاهات. وبالمقابل فإن إزالة الغشاوة عن الحوار مطلب مشرق ومضيء لأولي الأبصار.
إن الآداب الإسلامية الراقية ينبغي أن تظهر في مكانها المناسب وسط الحوارات الهادفة البناءة وألا تكون مترددة دائماً على الألسن دون أن تهذبها أو تتطبع بها، فبإمكاننا أن نكون مقنعين لكل الناس بما نريد إذا ملأنا عقولهم بما يريدون وذلك بسلوك بعض الأساليب الفنية المركبة الساحرة التي لا تضرنا في عقيدتنا ولا تهز من ثوابتنا.
إن الناس يعجبون دائما بمن يفتحون لهم الصدور بأريحية مطلقه وبمن يتقبلون أفكارهم ويتفاعلون معها بروح المحبة والمصافاة، إنهم قد يتنازلون عن بعضها إذا أحسوا فقط بأمانة من أمامهم وبصدق الرسالة التي يحملها بين جنبيه ذلك أنه ومن على شاكلته من الصادقين المخلصين إن يريد إلا الإصلاح ما استطاع فقمنٌ أن يطاع بما يستطاع.
فما أجمل الحق حين يبحث عنه مبتغيه بصدق ونزاهة وما أسرع الوصول إليه إذا أبعد عن نفسه غشاوة المكابرة فبهجرها وطردها يصل إلى بغيته بإذن الله وتوفيقه.
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/223)
الحوار وثوابت الدين
عبد الرحمن العشماوي
حينما يدور حوار حول بعض قضايا الدين الإسلامي وثوابته، فإنَّ الهدف من هذا الحوار لا يعدو البيان والتوضيح لمن لديه شبهةٌ، أوغَبَشٌ في الرؤية حتى يكون على بيِّنة من القضية الدينية التي يدور حولها الحوار، ومعنى ذلك أنَّ الحوار إذا تجاوز هذا الهدف إلى أهدافٍ أخرى مثل البحث في مدى صلاحية تلك القضية الدينية للحياة والإنسان، ومدى أحقّية الإنسان في تجاوزها وعدم الأخذ بها مع كونها ثابتة شرعاً، فإنَّه في هذه الحالة يصبح حواراً مخالفاً لمقتضى الشرع، ويصبح إقرارُه إثماً يجب على المسلم أن يتوب إلى الله منه.هنالك حوارات تجري حول البناء الأسري، وهل نظام الأسرة المتماسكة ضروريٌ في عصر العولمة الغربية الغاشمة، وهل القيم الدينية والأخلاق الفاضلة، ومصطلحات العِرض، والتقوى، والستر مطلوبة حتى يستقيم كيان الأسرة، أم أن هذه الأخلاق وتلك القيم تصادران حرية الإنسان الشخصية التي تتيح له عمل ما يريد دون ضابط من حكم شرعي، أو حياءٍ، أو مراعاةِ عُرْفٍ اجتماعي سليم؟.
وهنالك حوارات تجري حول النظر في إباحة العلاقات الجنسيَّة المحرمة تحقيقاً للحرية الشخصية، وحوارات تجري حول حشمة المرأة، وسترها، وحيائها ومدى أهمية ذلك في عصر التجاوزات الأخلاقية التي قرَّرتها المذاهب الغربية، وسوَّغتها القوانين البشرية المنحرفة عن جادة الطريق.
حوارات، وحوارتٌ تَمَسُّ ما ثبت من أمور الدين الإسلامي وقضاياه تحت شعارات الحرية، والديمقراطية، والعولمة الغربية، وغيرها من الدَّعوات المحاربة لفطرة الإنسان السليمة في أوروبا وأمريكا ومن سار في طريقهما من دول العالم الذي يحلو لوسائل الإعلام أن تطلق عليه «العالم الثالث».(1/225)
وهذه الحوارات باطلةٌ في ميزان الشرع الحكيم، والعقل السليم، مرفوضةٌ في مفهوم المصلحة العليا للإنسان الذي يعيش في هذه الحياة، لأنها حوارات خارجةٌ على قانون الفطرة البشرية السليمة، ومتجاوزة لحدود العقل البشري، والقدرة البشرية التي تظل ضعيفةً أمام عظمة هذا الكون قاصرةً أمام قدرة الله - عز وجل - الذي يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم ما يصلح لعمارة هذا الكون من الأعمال والأقوال وما لا يصلح.ومما يؤسف المسلم المتابع أنَّ شخصيات مسلمة على قَدْرٍ من المعرفة والعلم والثقافة تساهم في إذكاء جذوة تلك الحوارات الباطلة مع اختلاف كبيرٍ بينها في الأهداف، وأساليب الحوار وطرائقه.الحوار- كغيره من مظاهر التعامل البشري- له حدودٌ وغاياتٌ وأساليب معقولة مقبولة، إذا تجاوزها أعطى نتيجة مصادمةً للمصالح الحقيقية التي يدَّعي كل نظام في هذا العالم أنه حريص عليها.حينما وقفت أسماء بنت يزيد الأشهلية - رضي الله عنها -أمام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - تبلِّغه رسالةً موجَّهة من النساء، لم تكن تريد إلا الحقَّ لتلتزم هي ونساء المسلمين به، ولم تكن تسعى إلى إطلاق صرخةٍ تحرُّرية تجرُّ المرأة إلى سراديب مظلمة كما هو حال كثير من الأصوات النسائية الصارخة في هذا العصر، ولم يكن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بعد أنْ سمعها حريصاً على استرضائها واستمالة من وراءَها من النساء على حساب شيء من أمور الدين الثابتة، رغبةً في كسب أصواتهن الانتخابية وتأييدهنَّ لمشروعه السياسي.(1/226)
كلاَّ لقد كانت القضية، وما تزال قضية دين ثابت نحرص على بيانه لمن لديه تساؤلٌ يحتاج معه إلى بيان.قالت أسماء: يا رسول الله إن الله قد بعثك للرجال والنساء، فآمنَّا بك وصدقناك، وإنَّا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم وإنكم معشرالرجال فضِّلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك كلِّه الجهاد في سبيل الله، وإنا إذاغاب الرجل منكم حاجاً، أو معتمراً أو مجاهداً، حفظنا أموالكم، وغزلنا ثيابكم، وربينا أولادكم، فهل لنا من الأجر مثل ما للرجال؟
وعجب الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - من قولها البليغ، كما عجب أصحابه، ولكنَّه بيَّن لها مُراد الشرع الصحيح، بعد أن أشاد بمقالتها البليغة، فقال: افهمي أيتها المرأة، وأسمعي من خلفك من النساءأنَّ حسن تبعُّل المرأة لزوجها وقيامَها على مرضاته يعدل ذلك كلَّه. فانصرفتْ وهي تهلِّل.
هنا لا مجال للمجاملات، ولا لإرضاء الأشخاص، ولا لكسب الأصوات، لأن الأمرَ متعلِّق بتعاليم السماء الصحيحة التي تحدِّد لكل جنسٍ من البشر دوره الصحيح في عمارة هذا الكون، وبنائه بناءً سليماً بعيداً عن الاستبداد والظلم، وتجاوز حدود الشرع والعرف السليم.
هنا لا مجال لإعلان بيانات «تحرير المرأة"على غير الهدى والصلاح، ولا مجال للتفكير في أهمية صوت وافدة النساء ومن خلفها من النساء للتأييد وترجيح كفَّة أحد المتنافسين على الرئاسة والحكم.(1/227)
ولهذا كان قول الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - في هذا المقام وغيره واضحاً لا غمغمة فيه ولا مكان فيه للتلبيس أو التدليس.وكان البيان النبوي هنا واضحاً مباشراً محدَّداً بحدود السؤال المطروح من المرأة فلم يفصِّل الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - هنا الحقوق الكثيرة التي منحها الإسلام للمرأة بعد أن سلبتها منها قوانين جاهلية المنحرفين عن منهج الله، لأنَّ تلك الحقوق معلومة واضحة في أذهان المسلمين والمسلمات الذين يخضعون لأمر ربهم وشرعه خضوعاً يزدادون به عزَّةً ومكانة.
أين هذا الصوت النسائي النقيّ الواضح من أصوات نسائية مسلمة تتخبَّط في دروب الأوهام والشبهات والشهوات في زماننا هذا؟؟
الحوار الرَّاقي النزيه لا يتعدَّى حدود ما شرع الله مهما كانت المسوِّغات.
إشارة:
في ديننا الخير للدنيا وساكنها *** ولم يزل لدعاة العدل ميزانا
http://www.suhuf.net.sa المصدر:
ـــــــــــــــ(1/228)
الحوار الهادئ والعنف
هل تعلم عزيزي القارئ أن امرأة من كل ثلاث نساء ضحية العنف عام 1996 في أمريكا وأن امرأة من كل خمس نساء في بريطانيا ضحية كذلك للعنف، أما في المغرب فإن أمام كل 37 حالة عنف أسري فإن 7 حالات منها يكون الرجل فيها هو الضحية. وأن الرجل يستخدم العنف عند فشله في التعامل مع الزوجة وأن المرأة تضطر للعنف دفاعاً عن نفسها.
عناصر الحياة الزوجية السعيدة الآمنة:
إن أهم عنصر في استمرار الحياة الزوجية لكلا الزوجين هو توفر عناصر أربع ولعل أهمها الأمن النفسي للمرأة والثقة والتقدير للرجل، وأما ثانيها فهو وجود طريقة آمنة للتحاور ولإخراج المشاعر وكذلك للتعبير عن الغضب، أما إن اختفت أو تزعزعت تلك المقومات فإن الخلاف الأسري سيظهر وهنا قد يصاحبه مع الأسف استخدام العنف والذي هو أمر غير مستحب في ديننا الإسلامي، فقد ورد عن معلمنا ومرشدنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال: ولا يضرب خياركم أي إن الأخيار من أمة محمد لا يستخدمون الضرب وخاصة المبرح منه في حل خلافاتهم الزوجية.
التخطيط للضرب:
وهنا سؤال يطرح نفسه ويتمثل بأنه هل يعقل أن يخطط الرجل لاستخدام الضرب ضد زوجته قبل الزواج أو عند احتدام الخلاف بينهما.
وللإجابة عليه نقول إن أغلب الدراسات تؤكد أن الرجل الذي يستخدم الضرب والمرأة التي تستسلم لعملية العنف ضدها من زوجها، فإنها عايشت علاقة أسرية في محيط أسرتها أو أسرته، كان الضرب هو لغة الحوار بين أبويها على سبيل المثال أو أحد أفراد أسرهم، ومن هنا نقول إن عملية التنشئة تلعب الدور الأكبر في سبب حدوث العنف الأسري.(1/229)
ومن الأسباب الأخرى للعنف الأسري طريقة التربية التي تربي الفرد عليها، فالزوج الذي كان أهله عنيفين معه عند احتدام الخلاف معه نجده يسقط ذلك على زوجته، وكذلك الزوجة التي كانت لغة الصراخ والسب والشتائم في أسرتها، نجدها تثير الزوج الأمر الذي قد يدفع الزوج لتبرير ذلك باستخدام الضرب.
طريقة التربية وسمات الشخصية العنيفة:
وهناك سبب ثالث يتمثل في شخصية كل من الزوجين. فكم من حالة تعاملت معها سواء للأزواج أم الزوجات، كانت التركيبة الشخصية فيها متفاعلة مع الواقع الأسري قبل الزواج وطريقة التربية التي جعلت منه شخصية عنيفة جسدياً إن كانت تمتلك المقومات العضلية، أو عنيفة بلسانها عند احتدام المواقف.. وعليه يمكن تحديد السمات العامة لكل من الرجل - وغالباً ما يكون هو العنيف - وصفات المرأة وغالباً ما تكون هي الضحية.
صفات الرجل:
1 - قلة تقدير الذات.
2 - اعتمادي.
3 - لا يثق بالآخرين ولا بنفسه.
4 - غالباً ما يكون ضحية عنف في صغره.
5 - لديه صدمات وصعوبات نفسية.
6 - شبه معزول اجتماعياً ونفسياً عن الآخرين.
7 - حساس.
صفات المرأة:
1 - شخصية سلبية ويسهل قيادتها.
2 - لا تؤمن بحقها بأن تُحترم بل تعتقد أن الضرب تستحقه بسبب جهلها وخطئها، ولذا فهي تستحق الضرب أحياناً.
3 - تلوم نفسها وتحقّر ذاتها؛ لأنها تعتقد أنها سبب ثورة الرجل.
4 - تعتقد أن زوجها يضربها لكي تصبح أحسن وأنه يحبها لذلك.
5 - تبرر عنف زوجها وتحاول إخفاء بعض الكدمات لحمايته أملاً بصلاحه.
6 - شخصيتها اعتمادية وتشعر الزوج باعتمادها عليه وأنه مهما عمل لن تتخلى عنه.
7 - لديها أمل كبير جداً في أنه سوف يتغير.
8 - تخشى الطلاق؛ لأنه زّلة أعظم من الضرب.
9 - اقتصادياً تعتمد على الغير.
10 - تستخدم الجنس فقط كوسيلة لكسب الزوج.
11 - قليلة التقدير لذاتها.
12 - تعاني من اكتئاب وقلق.(1/230)
إن العنف الأسري لا يقتصر على الجانب الجسماني فقط وإنما قد يكون بأشكال وصور مختلفة فهناك العنف النفسي والعاطفي وهناك العنف غير اللفظي وهناك العنف الاقتصادي وغير ذلك. إن هناك من الأزواج من يرعب زوجته بالنظرة وهناك من يسيطر عليها عن طريق سلب راتبها، وبالمقابل هناك من الزوجات من تستخدم العنف تجاه زوجها بسلب وتبذير ماله، والتحكم في علاقاته الاجتماعية وعملية خروجه ودخوله، ومن هنا نخلص إلى القول بأن القوة والتحكم لا تقتصر على الجانب الجسدي وإنما لها صور عدة وأشكال مختلفة.
ما العمل لوقف العنف الأسري:
1 - عند النقاش ليكن قانون النقاش هو محاولة تجنب الوصول لمرحلة الانفجار أو العمليات المتمثلة بالضرب.
2 - عند الانفعال علينا أن نبتعد عن اتخاذ القرار، ولعل قرار رفع الصوت أو استخدام اليد هو اللغة التي علينا الابتعاد عنها.
3 - في حالة امتداد اليد - لا قدر الله - فإن على الزوجين وخصوصاً الضحية الإمساك بيد البادئ وتحذيره دون انفعال بعدم تكرار هذه العملية.
4 - على الزوجين تذكير أحدهما الآخر عند بروز بوادر الاستثارة تجنباً لأمور لا يحمد عقباها.
5 - ليتعلم الزوجان فن الحوار والتفاهم وإلا فعلى الأقل فليتعلما كيف يحصلان على طريقة انسحابية سليمة خشية تفاقم الأمر.
6 - على الضحية وغالباً ما تكون الزوجة عند الفشل في حل الخلاف واستمرار الاعتداء عليها اللجوء إلى شخص حكيم من أفراد أسرتها أو أسرته لتصفية الأمر وعليها أن لا تستسلم، خاصة إذا كان العنف قاسياً (وأنا مسؤول عن كلامي هذا) لأن اليد إذا اعتدت بالعنف ولم توقف فإنها لن تستمر في المستقبل إلا على جسد الضحية المستسلم.
7 - على الزوجة ألا تستثير الزوج إن علمت أنه يستخدم العنف وإلا فلا تلومن إلا نفسها، وهذا عليها احتواء الخلاف باختيار أفضل الكلمات والأوقات لعرض وجهة نظرها، لا أن تستجوبه وكأنها في محاكمة عسكرية.(1/231)
8 - على الزوجين عند مناقشة مشاكلهما الكبيرة الابتعاد عن وجود الأبناء لأن أثر ذلك سينتقل لجيل الأبناء عند كبرهم وتأسيسهم أسراً جديدة.
9 - على الزوجة استثمار فترة هدوء العاصفة بعد حادث العنف الذي يتمثل غالباً فيما أسميه بشهر عسل أو أيام مصالحة، بتحديد شروطها وأن تتفق معه على حدود العلاقة وأسلوب حل الخلافات الأسرية.
10 - ليعلم الزوجان أن العنف مرفوض إنسانياً ودينياً، فإذا حصل عنف لا قدر الله فليرضى الآخر بنتيجة ما قد يترتب عليه ذلك.
http://al - farha. com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/232)
نصائح لرواد ساحات الحوار
الشيخ محمد صالح المنجد
كثرت مواقع ساحات الحوار وكَثُر المشاركون فيها فما هي النصيحة لرواد قنوات الحوار سواء القراء أو المشاركين.
الجواب:
الحمد لله:
نعم لقد كثرت مواقع الحوار على الشبكة وكثر روادها وفيما يلي بعض النصائح للقراء والكتّاب فيها:
- الإخلاص لله: وكل امرئ سيفنى ويُبقي الدهر ما كتبت يداه، فاحرص أن لا تكتب غير شيء يسرك في القيامة أن تراه، ولا خير في عمل لا يراد به وجه الله - تعالى -.
- العامي وغير المتخصص لا بد أن يختار المواقع السليمة والمفيدة ويتحاشى مواقع أهل البدع والمواقع السيئة.
- مقاطعة مواقع أهل البدعة أو المواقع التي غلبت عليها البدعة لأن المشاركة والنقاش هو مادة الحياة لهذه المواقع، ولا يجوز إشهار أهل البدع ويجب إخمال ذكرهم، والعمل على ألا يشتهروا، وقد يحصل من طريقة ردود بعض أهل السنة خلاف ذلك، ولا يجوز للعامي المسلم أن يقرأ في مواقع أهل البدع بدافع حب الاستطلاع أو يناقش بدون علم بل يكل الأمر لأهله ولا بأس بأن يأخذ كلام المبتدع إلى أهل العلم ثم ينقل رده عليه.
- تذكير أصحاب المواقع المختلطة بالله - عز وجل - وأنه لا يجوز لهم أن يسمحوا لأحد من أهل البدع أو المقالات الباطلة بنشر ذلك في مواقعهم.
- يجب على طلبة العلم مؤازرة أخيهم الذي يردّ على أهل البدع والذين يعتمدون على الكثرة حيث يكتب أحدهم ويصفق له عشرة ويمدحون صاحبهم ويشتمون الذي يرد عليه.
- أهمية مشاركة الشيوخ وأصحاب الأقلام والأصوات المشهورة في هذه المنتديات.
- لا يشترط دخول العالم بصفة مباشرة فقد يُشغله ذلك ويكفي أن ينقل الثقات من طلابه عنه.
- الحذر من إضاعة الأوقات فإن عدداً من طلبة العلم قد استنزفت ساحات الحوار منهم وقتاً طويلاً ولا يلزم الرد على كل ناعق وعلى الأطروحات التافهة ويمكن الاكتفاء بإيراد النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.(1/233)
- إدراك أن أهمية إنفاق الأوقات لتعليم المسلمين ودعوتهم مقدمة في الرد على هذا وذاك ولنترك الردود إلى الحالات التي لا بد منها مثل شخص من أهل البدع أثار شبهة أو حكى باطلاً ولم يرد عليه أحد فيتعين الرد حينئذٍ.
- لا بد أن يدرك الداخل إلى ساحات الحوار أنه يتعامل مع شخصيات كثيرة مجهولة وأن هامش الثقة بمن يكتبون بغير أسمائهم الحقيقية هو هامش ضيق.
- ينصح الشباب المتحمسون أن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يحسنونه علمياً، ويكفينا في الفتوى بغير علم قول الله - تعالى -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ).
- التزام الأدب الشّرعي وعفّة اللسان (والقلم أحد اللسانين)، قال الله - تعالى -: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) والله الموفق.
http://www. alahbab. net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/234)
الحوار مجادلة لا مداهنة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
في العالم اليوم دعوات كثيرة إلى الحوار: حوار بين الأديان ولا سيما النصرانية والإسلام، أو النصرانية واليهودية، وحوار بين أهل الديانات والمنكرين لها، وحوار بين الفرق الدينية داخل الدين الواحد، وحوار خاصٌّ بين المنتمين إلى الوطن الواحد من كل تلك الأنواع.
والحوارات تتعدد بتعدد أغراضها؛ فمنها ما يكون هدف المحاور إقناع الآخر بأن اعتقاده أو رأيه أو موقفه هو الأحق بأن يتبع، ومنها ما يكون هدفه مجرد معرفة ما عنده؛ كي لا يكون هنالك سوء تفاهم بأن يَنسب إليه ما لا يرى أو يعتقد، ومنها ما يكون الغرض منه إمكانية الوصول إلى آراء أو أهداف مشتركة تساعد على التعايش والتعاون، وهكذا.
والمسلم يرى كل هذه أهدافاً مشروعة، ولا يتردد في المشاركة فيها، ما لم يتّصل بها ما يجعل ضررها أكبر من نفعها.
لكن الحوار لا يكون ناجحاً ولا يحقق شيئاً من تلك الأهداف التي وصفناها بالمشروعة إلا إذا توفرت فيه بعض الشروط، وإلا إذا خلا من بعض المفسدات.
فشرطه الأول أن يكون المتحاورون صادقين مخلصين في الوصول إلى ما أعلنوا من أهداف، لا أن يكون الحوار مجرد وسيلة إلى أغراض أخرى يُضمرها أحد المتحاورَيْن أو كلاهما.
من ذلك أن بعض إخواننا المسلمين اعترضوا على حوارات كانت تُقام بين المسلمين وجماعات من الكاثوليك قُدّر لي أن اشترك في واحدة منها أقيمت في إسبانيا. فلما سألناهم عن سرِّ اعتراضهم أجابونا بأن الكاثوليك يستغلونها لأغراض تبشيرية بين بعض عوامِّ المسلمين في بعض البلاد الإسلامية النائية، فيطلعونهم على صور علماء المسلمين جالسين معهم، مبتسمين لهم، ليقولوا لهم لا خلاف بيننا وبين المسلمين.(1/235)
هنالك مشكلة في الحوار مع العلمانيين في العالم الإسلامي، العلمانيون، بل الملحدون في أوربا يعلنون عن آرائهم بصراحة ويدافعون عنها. وإخوانهم في العالم الإسلامي يودون أن لو استطاعوا أن يفعلوا ذلك، لكنهم لا يستطيعون؛ لأن المجتمع لا يقبل مثل هذا التصريح بالكفر، وربما تعرض قائله للأذى. فماذا يفعلون؟ يلجؤون إلى النفاق: يتظاهر أحدهم بأنه مسلم ولو لم تكن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ويحاول أن يجد لكفره سنداً من الدين وهيهات فتأتي حججه المعلنة واهية لا تنطلي إلا على بعض الجهلاء أو ضعيفي الإيمان، لكن هؤلاء لا يفيدونه بشيء. أما طلاب العلم وصادقو الإيمان فيرون نفاقه في فلتات لسانه ويجزمون به (فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) [محمد:30]. قبل سنين تزيد عن الثلاثين أقامت منظمة باكستانية في لندن ليلة عن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - دعوا إليها عدداً من الأفراد والمنظمات، وكنت من ضيوف الشرف فيها. جلست أستمع إلى المتحدثين؛ لأن مهمتي كانت أن أختم بالتعليق على ما سمعت. تكلم أحدهم فشممت منه رائحة نتنة (هذا التعبير استعمله الأستاذ سيد قطب - عليه رحمة الله - حين استمع لأول مرة وفي منزله لكلمات من القصيمي)، فلما جاء دوري علقت على كلامه، فكأنما طعنته بسهم في قلبه، جاء محتجاً لكنه أسكت؛ فلما انتهت الجلسة جاء يجادلني وحولنا عدد من الشباب، وبدأت الرائحة تزداد نتانة كلما توغلنا في النقاش حتى قال لي في النهاية: ما برهانك على وجود الله؟ قلت: عندي والله برهان لكنني لن أذكره لك؛ لأنك جبان تظاهرت بالإسلام وجئت لتتحدث في ليلة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ولو أنك قلت لي منذ البداية إنك ملحد لكنت جادلتك على هذا الأساس.(1/236)
الحوار العلني مع العلمانيين من منكري الدين لا فائدة إذن فيه، إلا إذا كان القصد منه كشفهم وإحراجهم بإخراج مكنون معتقدهم. أما إذا كان القصد هدايتهم فالأحسن أن يدعوا إلى حوارات خاصة يستطيعون أن يصرحوا فيها بحقيقة ما يعتقدون. لقد جربنا هذا حتى مع الملحدين، وجربه من سبقنا من علماء المسلمين. فشيخ الإسلام مثلاً يذكر أنه كان يأتيه جماعة من أهل الأهواء ويطلبون منه مجادلتهم بهذه الطريقة، يشترطون عليه أن لا يستند في جداله معهم على النصوص، بل يحاجّهم بالعقل وحده. وعلّل الشيخ قبوله لشرطهم بأنهم قوم سلّموا بأصول ظنوها عقلية، فمهما أتيتهم بحجج نقلية تخالفها لم يقتنعوا؛ لأنهم وهو صادقون في إيمانهم بالإسلام ينزهون الله - تعالى - أن يقول كلاماً مخالفاً للعقل. يرى ابن تيمية أنّ هذا الاعتقاد بمثابة المرض، فيجب أن تشفيهم منه أولاً بالأدلة العقلية على بطلانه فيتهيؤون بعد ذلك لقبول النصوص.
فشرط الحوار الثاني إذن أن يستند إلى معايير يؤمن بها الطرفان؛ فإذا كان حواراً بين مؤمنين وملحدين كان المعيار هو العقل والحقائق العلمية المتفق على التسليم بها، وإذا كان بين مؤمنين بوجود الخالق أضيف هذا إلى تلك المعايير، وأضيف إليه أيضاً المحاكمة إلى حقائق دينية يؤمن بها كل من الفريقين. وإذا كان بين منتسبين إلى دين واحد كالإسلام مثلاً كانت المعايير مراجع دينهم الذي يؤمنون به.(1/237)
هذا هو الحوار كما يعرفه ويدعو إليه كل العقلاء من المفكرين من أهل الأديان وغير الأديان. لكن بعض الناس في بلادنا يتصور الحوار على غير هذه الصورة العقلانية المثمرة. يراه بعضهم مداهنة، والله - تعالى - يقول: (ودوا لو تدهن فيدهنون) [القلم: 9] وكلمة يدهن كلمة معبرة جداً في تصوير هذا الموقف؛ لأنها مأخوذة من الدهن، فهي عكس الثبات والاستمساك. يظنون بل يعتقدون أن من شرط الحوار مع الآخر أن تعترف بأنه على حق أيضاً. قال لي أحدهم هذا فقلت له: لِمَ أحاوره إذن؟ ألكي أزحزحه عن الحق وأجره إلى الباطل؟ إنك لا تحاور إنساناً إلا إذا كنت معه مختلفاً. هذا هو الأمر الطبيعي حتى بين المنتسبين إلى الدين الواحد. قال - تعالى -: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) [النساء: 59].
فالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - إنما يكون في حال التنازع؛ أما في إذا لم يتنازعوا فلا يحتاجون إلى هذا الرد، بل إن عدم تنازع علماء المسلمين دليل على أنهم على حق. ولذلك استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على حجية الإجماع.
ومن أشكال المداهنة أيضاً اللجوء إلى دعوى نسبية الحق. فخصمك المخالف لك على حق من وجهة نظره، وأنت على حق من وجهة نظرك؛ فلا داعي لأن تخطئه أو تجهّله. هذه دعوى باطلة، وهي فوق ذلك مضرة بالمجتمع غاية الضرر. ثم هي بعد ذلك مما لا يمكن لأحد أن يلتزم به. سمعت أحدهم قريباً في ندوة تلفازية يقول إنه إذا قال لي أحد: أريد أن أبين الحق، أقول له: لا داعي للحوار إذن. هيأت نفسي للاتصال لأقول له: لكنك أنت الآن بقولك هذا تريد أن تبين لنا ما تراه حقاً بالنسبة للحوار؛ وإلا فلماذا قلت ما قلت؟(1/238)
وقد وجدتُ شبهة نسبية الحق هذه مؤثرة حتى في بعض الشباب المتدينين. قال لي أحدهم: إذا كنا نحن نرى أنفسنا على حق؛ فهم أيضاً يرون أنهم على حق. قلت له: وماذا في هذا؟ إن الحق واحد، سواء كان حقاً متعلقاً بدين أو بدنيا؛ لأنه وصف لواقع، ولا يمكن أن يكون الواقع على صفتين متضادتين. فإذا اختلفنا اختلاف تضاد، فيستحيل أن يكون كلانا على حق. هب أن إنساناً قال إنه ما يزال يرى أن الأرض مسطحة وأنت تعتقد أنها مكورة. ماذا تقول له؟ هل تقول له: أنت على حق من وجهة نظرك، وأنا على حق من وجهة نظري؟ إنّ الاختلاف في الحق لا يعني نسبيته. إن صاحب الحق لا بد أن يكون له دليل على صحة دعواه؛ فمن حقه أن يقول لمخالفه إنني لا أطلب منك إلا أن تكون عاقلاً تخضع للدليل إذا تبين لك. ما أجمل وأصدق ما قال الإمام الشاطبي في موافقاته: "الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك. ولا يصح فيها غير ذلك. والدليل على ذلك أمور"(1).(1/239)
ومن أشكال المداهنة أن يكون الحوار بين أبناء الوطن الواحد دعوة إلى العلمانية. كيف؟ يقولون: إذا كنا جميعاً أبناء وطن واحد؛ فيجب أن تكون العلاقة الأساس بيننا هي علاقة المواطنة التي تفترض أن يكون كل مواطن مخلص في حرصه على مصلحة وطنه، وعليه يكون الحوار بيننا حواراً بين مواطنين متساوين؛ لا العلاقة الدينية التي تميز بين المواطنين. وهذه مغالطة سخيفة؛ لأن تصور الإنسان لما يعده مصلحة له أو لبلده تؤثر فيه معتقداته دينية كانت أو غير دينية. فإذا كان المواطن شيوعياً مثلاً فقد يكون مخلصاً في اعتقاده بأن النظام الشيوعي هو الذي يحقق مصلحة بلده، ولذلك يرى أنّ الذين يقفون في طريق تحقيقها هم أعداء الوطن. وكذلك قل عمن يعتقد في العلمانية الغربية، أو من يعتقد في الإسلام. إنهم جميعاً مواطنون لكن معتقداتهم مختلفة. إلى درجة أن ما يراه أحدهم مصلحة في بعض جوانب الحياة يراه الآخر أكبر خطر على الوطن. رأيت أحد إخواننا يستغرب آسفاً لموقف ينم عن شيء من خيانة، وقفه بعض العرب من قضية عربية كبيرة، فقلت له: هوِّن عليك ولا تستغربن. إنّ غزوة بدر الكبرى لم تكن بين عرب ويونان، إنما كانت بين عرب أقحاح أقارب ينتمون إلى أشرف قبيلة عربية، ولم يكن اختلافهم في أنّ بعضهم كان محباً لوطنه والآخر كارهاً له، إنما كان الخلاف بينهم في الحق والباطل والخير والشر. وكذلك سيظل إلى يوم القيامة، سواء كان الناس أبناء وطن واحد أو أوطان مختلفة.
- - - - - - - - - - - - - -
(1) الموافقات، ص 59 من الجزء الخامس، تحقيق أبي عبيدة، دار ابن عفان، 1417ه.
http://www. islamselect. com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/240)
من هدي النبوة في الحوار
حوار النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع عدي بن حاتم:
كان عدي بن حاتم الطائي رجلاً نصرانياً، ذا وجاهة وشرف في قومه، وكان شديد الكراهية لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -. ولكن طبيب القلوب - عليه الصلاة والسلام - وضع مبضعه على موضع الداء عند عدي، حتى تحول - بفضل الله - من مبغض عدائي إلى محب ولي، ولنترك عدياً يحكي لنا القصة:
قال عدي بن حاتم: "ما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مني حين سمعت به، وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع [1]، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي، فلما سمعت برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - كرهته، فقلت لغلام عربي كان لي، وكان راعياً لإبلي: لا أبا لك، اعدد لي من إبلي أجمالاً ذللاً سماناً، فاحبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنِّي، ففعل. ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي، ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد. قال: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضرة - يعني أخته - فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في سبايا طيء، وقد بلغ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - هربي إلى الشام، فمر بها - أي أخته - رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، فقالت: يا رسول الله، غاب الوافد [2] وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمن علي، من الله عليك،قال: "من وافدك؟" قالت: عدي بن حاتم. قال: "الذي فر من الله ورسوله؟ «قالت: فمنَّ علي. قال عدي: فلما رجع، ورجل إلى جنبيه يرى أنه علي بن أبي طالب، قال:(1/241)
سليه الحملان. قالت: فسألته،
فأمر لها به، قال عدي: فأتتني أختي فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال عدي: فأتيته وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه، أخذ بيدي، وقد كان قبل ذلك قال: "إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي" قال: فقام لي، فلقيته امرأة ومعها صبي، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها. وجلست بي يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما يُفرُّك؟... أيفرك أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟" قال عدي: قلت: لا. قال: ثم تكلم ساعة - أي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ثم قال: "إنما تفر أن يقال الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ قال عدي: قلت: لا. قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون" قال: عدي فقلت: إني ضيف مسلم. فرأيت وجهه ينبسط فرحاً. ثم أمرني فنزلت عند رجل من الأنصار، وجعلت أغشاه - يعني أجيء إليه - طرفي النهار، قال: فبينما أنا عنده، إذ جاء قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلى وقام، فحث عليهم - يعني أمر بالصدقة عليهم - ثم قال: "يا أيها الناس ارضخوا من الفضل ولو بصاع، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة، ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة، فإن أحدكم لاقي الله، وقائل له ما أقول لكم: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك، فينظر قدامه وبعده وعن يمينه وعن شماله، ثم لايجد شيئاً يقي به وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة. فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى تسير الظعينة [3] مابين يثرب والحيرة [4] وأكثر، ما يخاف(1/242)
على مطيتها السرق، قال عدي: فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طيء؟
ويحكي عدي طرفاً آخر من القصة رواها الإمام أحمد في مسنده [5] قال: "دخلت على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقال لي: "يا عدي ابن حاتم، أسلم تسلم" ثلاثاً. قلت: إني على دين، قال: "أنا أعلم بدينك منك" فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: نعم، ألست من الركوسية [6]، وأنت تأكل مرباع قومك؟" قلت: بلى، قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك" قال عدي: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها. فقال: "أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟" قلت: لم أرها، وقد سمعت بها، قال: "فوالذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز" قال عدي: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد" قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قالها.(1/243)
وفي سياق آخر في صحيح البخاري للقصة، قال عدي: بينا أنا عند النبي - - صلى الله عليه وسلم - - إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت بها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي، فأين دعار طيء [7] الذين قد سعروا البلاد، قال: "ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى" قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، قال عدي: سمعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة، فبكلمة طيبة". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم - - صلى الله عليه وسلم - - يخرج ملء كفه" [8] ، وفي رواية رواها الترمذي في سننه أن عدياً قال: "رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي: اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم..)) قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". [9]
ومن هذه القصة نستخلص الفوائد والدروس الآتية في الحوار:(1/244)
1 - كان الفعل الحسن لنبي الله - - صلى الله عليه وسلم - - يلازم قوله الحسن، مما كان له أعظم الأثر في نفوس الناس حتى الأعداء منهم، وإحسانه - - صلى الله عليه وسلم - - إلى أخت عدي، كان بمثابة المفتاح إلى قلب هذا الرجل، وذلك عندما قالت له: (لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها) تعني حاتماً الطائي أشهر من عرف بالكرم من العرب، فشهدت بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أكرم من حاتم وتبسط النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع عدي عندما جاء إليه، وقدم الفعل الحسن بين يدي الحوار فأخذ بيد عدي حتى أدخله داره، وأجلسه بين يديه، وعلى وسادته - كما في بعض الروايات - وهذا يناسب من يظن فيهم رجحان العقل وقابلية النفس للصفاء. وهو يتماشى تماماً مع هداية القرآن في الدفع بالتي هي أحسن مما يعين على الجدال بالتي هي أحسن. قال - تعالى -: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) [فصلت/34].
2 - لما قال عدي (أنا على دين) فاجأه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بأن الدين الذي هو عليه باطل وصارحه بذلك، بل أخبره بسبب بطلان هذا الدين وأنه اختلاط التشريع فيه بين البشر ورب البشر بعد التحريف، ولم يميع المواقف والحقائق أمامه مجاملة بل قال له: "إني أعلم بدينك منك... ألست من الركوسية؟... وأنت تأكل مرباع قومك؟... فإن هذا لا يحل لك في دينك، يعني أنتم الذين أحللتم وحرمتم وبدلتم، وهذا يتضح أكثر في رواية الترمذي التي فسر فيها الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم بأنها عبادة واتخاذ أرباب من دون الله، وذلك حسب مقتضى الآية.
3 - قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لعدي بن حاتم لما رأى الصليب على صدره "اخلع عنك هذا الوثن" فيه صراحة ووضوح وحسم في أمر التوحيد، وفيه تسمية الشيء باسمه دون مداهنة أو مخادعة، ولا خير في حوار ينجح على حساب العقيدة والحقيقة.(1/245)
4 - في رواية الإمام أحمد وضح أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بدأ بدعوة عدي إلى الإسلام بطلب صريح مختلط بالترغيب والترهيب "يا عدي بن حاتم أسلم تسلم". وقد بدأ الرسول - عليه الصلاة والسلام - الحوار بعد هذه الدعوة منطلقاً من الأصل والأساس وهو التوحيد وما يستلزمه من تعظيم الله - تعالى - ، واستعمل في ذلك الاستفهام الإنكاري ليقرر المخاطب نفسه بما يريد تحقيق الوصول إليه، فقال لعدي: "أيفرك أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟" فما كان من عدي إلا أن أجاب بلا، وكان هذا بمثابة اتفاق على أرضية الحوار. ثم لما أقر عدي بوحدانية الله قرره الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - بعظمة هذا الإله في أسمائه وصفاته وأشهده على بطلان الشرك وضلال أهله وذلك عندما قال له: "هل تعلم شيئاً أكبر من الله؟" فقال عدي عن ذلك: لا. فبنى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - على ذلك الإقرار بطلان عقيدة المشركين من أهل الكتاب الذين ينسبون لله - تعالى - الزوجة والولد، مما لا يليق باعتقاد الموحدين في أن الله أكبر ولهذا قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى لضالون"، ولم يجامله النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الإفصاح عن تلك الحقيقة عندما آنس منه قبولاً لأصل التوحيد.
5 - لما قال عدي (إني حنيف مسلم) اعتبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ذلك قبولاً منه للإسلام، فأمر بتكريمه في ضيافة أحد الأنصار، ريثما يعلمه بقية الإسلام، وكان يأذن له في التحدث إليه بين آن وآخر كما حكى ذلك (وجعلت أغشاه طرفي النهار) وكان - - صلى الله عليه وسلم - - أثناء فترة التحاور، يطلع عدياً على أحوال المسلمين وهداية الإسلام لهم بحسن المعاملة فيما بينهم عن طريق الصدقة وحسن الخلق والكلمة الطيبة، وكان يذكرهم بالآخرة والحساب وعدي يسمع، فكان هذا بمثابة عرض عملي للإسلام عليه.(1/246)
6 - كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يتكلم معه عن ثقة في وعد الله، ويخبره عن أمور يعلم أنه يدرك معناها جيداً بحكم موقعه القيادي المطلع على الأحوال، فأخبره عن انتشار الأمن والأمان في ربوع الجزيرة حتى تأمن المرأة المسافرة في هودجها من اللصوص الذين يعرف عدي كيف كانوا يقطعون الطريق، وأخبره عن فتح بلاد كسرى التي كان أهل بلده عمالاً عند ملوكها، وأعلمه بأنه هو بنفسه سيفتح شخصياً كنوز كسرى ابن هرمز أعظم أكاسرة الفرس. وفي هذا تعليم للمسلم أن يستعلن بالمستيقن من الدين ومن أمر الغيب إذا كان يعلم أن عند المخاطب من الإدراك والفطنة بحيث لا يفتنه ذلك.
7 - لم ينس النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن يذكر عدي بن حاتم بضعفه البشري، وأنه مهما كان في مقام من يغفر ويعطي الصكوك في ديانته، فإنه في الحقيقة لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً أمام عظمة الله وكبريائه "وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك فيقول: بلى "...
إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يكن بطريقته هذه في الحوار يقنع العقول فحسب، بل كان يلين القلوب، ويزكي النفوس، ويرطب الأفئدة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
[1] - المرباع هو: ما يأخذه رئيس القبيلة وهو ربع الغنيمة. لسان العرب مادة ربع 3/156
[2] - يعني من يفد بالخدمة والرعاية وهو عدي.
[3] - الظعينة: هي المرأة في الهودج.
[4] - الحيرة: كانت بلد ملوك العرب الذين تحت حكم الفرس وهي بجنب الكوفة كان ينزلها النصارى.
[5] - مسند الإمام أحمد 4/257
[6] - الركوسية: قوم لهم دين بين النصارى والصابئين لسان العرب 3/1718 مادة ركس.
[7] - جمع داعر، وهو المفسد في الأرض
[8] - أخرجه البخاري ك المناقب 61 علامات النبوة 25 ح 3595 انظر فتح الباري 6/706.
[9] - أخرجه الترمذي في سننه انظر تحفة الأحوذي 8/412 ح رقم 5093.
http://www. alsunnah. org المصدر:
ـــــــــــــــ(1/247)
أهم ضوابط الحوار في الإسلام
متولي موسى
الحوا
ر: مراجعة المنطق والكلام، ويتحاورون: أي يتراجعون.
فقد ورد في التنزيل قوله - تعالى -: {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} [الكهف: 34]، وقوله - تعالى -: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} [الكهف: 37]. ومعنى يحاوره في الآيتين: يراجعه في الكلام.
فإذا انطلقنا من أن الحوار في الإسلام له أهدافه التي يرجى الوصول إليها، فلابد له من ضوابط تحكم سيره، ومرجعية يرجع إليها عند الاختلاف في الآراء، فالمسلم الذي آمن بالله - تعالى - ورضي الإسلام منهجاً لحياته، لا يجوز له مناقشة قبوله بمنهج آخر للحياة، ولا يعقل أنه يتحاور مع سواه على إمكانية أن تصوغ حياته شريعة أخرى غير شريعة الله - تعالى -!.
وعليه فلا بد من تحديد أهم ضوابط الحوار التي تحكم سيره، إذا أريد للحوار أن يبقى في نطاق ما يقبل من قبل المسلم المُحاوِر أو المُحاوَر، وأهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - القبول بتعدد الثقافات والتعارف بينها:
يربي الإسلام المسلمين على أن الحوار طبيعة إنسانية، كما أنه ضرورة دينية، فقد كان مهمة الرسل جميعاً - صلوات الله - تعالى - وسلامه عليهم - وهو واجب على أتباع محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، مصداق قول الله - عز وجل -: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143]، وقوله - سبحانه -: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف: 108]، فالمسلم منفتح على الحوار مع غيره من الأفراد والثقافات، ولكنه في ذات الوقت له ثوابته التي يتمسك بها، ومنطلقاته التي يصدر عنها: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].(1/249)
كما أن الثقافة الإسلامية تؤمن بوجود مصطلحات متقابلة مثل: الإيمان والكفر، والهدى والضلال، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والعدل والظلم، والحق والباطل... الخ وهذه المصطلحات المتقابلة تقسم الفكر والثقافة بين المسلمين وغير المسلمين... ولا يقبل الإسلام وجود هذه المتقابلات في حياة الإنسان الواحد، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً و"علمانياً"، أو عادلاً وظالماً، أو على الحق والباطل، أو مهتدياً وضالاً... الخ.
والإسلام يؤمن بأن كل ثقافة تطرح نفسها من خلال مفاهيمها ومصطلحاتها، وبالتالي فإن الحوار بين ثقافتين أو أكثر يقتضي الاتفاق على مضامين ومعاني المفاهيم والمصطلحات، وتحديد المرجعية التي يرجع إليها عند الاختلاف في المعنى أو المضمون...
أما الثقافة غير الإسلامية عامة، والغربية منها خاصة، فهي قائمة على نفيِّ التنوع، ومتمركزة على الذات غير منصفة، فأهل الإنصاف من أتباع الثقافات المختلفة يعرفون ما عندهم، فإذا تبين لهم بالحوار أن فيه باطلاً أنكروه، كما أنهم إذا تبين لهم أن ما عند الآخرين فيه حق، أخذوه، ولا يدفعهم تقديس الذات إلى التمسك بالباطل الذي هم عليه، وإنكار الحق الذي عند سواهم، كما فعل اليهود والنصارى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} [البقرة: 111 - 1112].
وقد نشأ عن هذه الثقافة المنغلقة تطبيقات عملية عبر العصور تمثلت في الاستعمار القديم والجديد، والغزو الثقافي والقهر على كل مستوى وفي مجالات متعددة.
2 - التواضع في طلب الحق والالتزام به:(1/250)
أثبتت التجارب أن التواضع فضيلة تهدي صاحبها للحق، وأما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق البين الظاهر، وقد ورد عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في صحيح مسلم قوله: "الكبرُ بطر الحق وغمط الناس" وبطر الحق رده والإعراض عنه؛ كما أخبر الخالق - عز وجل - أن معصية إبليس كان الدافع إليها الكبر والغرور، قال - تعالى -: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34]، ولما سأله الله - عز وجل - عن السبب قال معجباً: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12].
ولا يكون الحوار مثمراً في مجال معرفة الحق إلا إذا كان قائماً على الأدلة والبراهين، ولقد علمنا الإسلام في مجال إحقاق الحق أن نتحاور مع الآخرين وفق قاعدة: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل: 64].
فالمحاور المسلم لا يصدر في نشدان الحق عن طلب المغالبة غروراً، أو الجدال بالباطل، كما أنه لا يقبل الدخول في الجدال المذموم عند إثارة أية فكرة أمامه، فذلك عبث سخيف وجهد ضائع، ويسعى لإغلاق أبواب الحوار التي تدخل بالمحاورين إلى متاهات... ويوجه الحوار إلى الفكرة التي تظهر الحق وتساعد على بناء حياة كريمة قائمة على مد الجسور بين البشر وصولاً إلى مافيه الخير والنفع.
وقد أثبت التاريخ أن الأطراف المتحاورة إذا كانت من أهل الإنصاف فإنها تعترف بالحق عند ثبوته.
ومن الفضائل الهامة أن لا يستنكف المتحاور من قبول الحق ولو جاء ممن هو دونه علماً أو سناً أو قدراً، ومن الرجوع للحق بعد أن يتبين له؛ وقد أرشد القرآن إلى أن ابن آدم الأول تعلم من غُراب: كيف يواري سوأة أخيه؟!، كما أن سليمان - عليه السلام - تعلم من الهدهد مالم يكن يعلمه: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} [النمل: 21].(1/251)
وقد حفظ لنا التاريخ رسالة الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في القضاء، والتي جاء فيها: "ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فهديت فيه إلى رشدك، أن تراجع نفسك اليوم فإن الحق قديم، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" [إعلام الموقعين لابن القيم 1/152].
وأن تكون فرصة الحوار متكافئة، فلا يُشعر طرف بالقهر أو الضعف، إذ أنه لو كان الحوار بين قوي وضعيف، أو غالب ومغلوب، أو مستعمر ومستعمر، أو قاهر ومقهور.. الخ، فإنه لن يكون هناك حوار، وإنما سيكون هناك إملاء من طرف والقبول أو الاستسلام من الطرف أو الأطراف الأخرى... وهذا الذي دل عليه الواقع الذي نقله لنا القرآن وسواه، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أ - قص علينا القرآن الكريم ما كان من فرعون - رمز الاستبداد السياسي والقهر - حين جاءه موسى يحاوره {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29].
ب - جاء في الأدبيات وخاصة في الشعر العربي ما يؤكد هذه الحقيقة، وتأمل قول القائل:
جَلو صارماً وتلوا باطلاً *** وقالوا صدقنا، فقلنا: نعم
أي رفعوا السيف فوق الرؤوس وقالوا الباطل، ثم قالوا لهم: قلنا الصدق، فقال من تحت السيف: نعم قلتم الصدق!!.
ج - أما في التاريخ الحديث فيكفي أن يراجع الإنسان مواقف القوى العالمية الكبرى، منذ الحرب العالمية الثانية، تجاه قضايا العالم الثالث على العموم، والبلاد الإسلامية على الخصوص، حتى يتجلى له انطباق هذه الحقيقة على الضعفاء، وكم ضاعت حقوق في مؤتمرات عقدت للحوار حول قضايا محددة؟ تكفي نظرة سريعة على مجريات المؤتمرات التي عقدها "الكيان الصهيوني" بإشراف أمريكا مع العرب، ابتداء من "كامب ديفيد" وانتهاء بـ "شرم الشيخ" حتى يتبين كيف استسلم الضعفاء للأقوياء؟ ويكفي أن يستمع الإنسان أو يقرأ ما قاله رئيس جمهورية البوسنة عقب مؤتمر "دايتون" ليعلم مدى الظلم الذي وقع على المسلمين... الخ.(1/252)
من كل ذلك يتبين أن الحوار الذي لا يقوم بين أطراف متكافئة لا تكون نتائجه إلى خير، وإنما تكون ظالمة... ولذلك أكدت شريعة الإسلام على العدل المطلق بين الصديق والعدو، مع القريب والغريب، وتكفي الإشارة هنا إلى قول الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة: 8].
{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام: 152].
3 - عدم اتباع الهوى ومحاربة الفساد:
الهوى هو أحد المزالق الخطيرة التي يمكن أن تؤثر على المتحاورين وتخرجهم عن طريق الخير، قال العليم الخبير لخاتم المرسلين - - صلى الله عليه وسلم - -: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، واتباع الهوى يؤدي إلى الفساد، قال - تعالى -: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].
فصاحب الهوى لا يمكن أن يكون موضوعياً ولا منهجياً في حواره، لأنه يريد إخضاع كل شيء لهواه، فالنصوص عنده تابعة لا متبوعة، والأدلة خادمة لا مخدومة، والنتائج عنده سابقة على الحوار... فهو إذا قرأ وإذا درس وإذا حاور... لا يفعل ذلك للوصول إلى الحقيقة... وإنما يفعل ذلك بحثاً عما ينصر رأيه وهواه... ويعضد فكرته ويقويها... فإن وجد مبتغاه فرح وأقبل، وإن وجد خلاف ذلك غض الطرف وأعرض.(1/253)
والوحي يعلمنا ويربينا معشر المسلمين على طلب الحق ومناشدته، ويكفي أن نتذكر أن القدوة - - صلى الله عليه وسلم - - كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته قائلاً: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" [رواه مسلم وغيره]، فحري بكل مسلم صادق أن يجأر بهذا الدعاء في كل وقت وحين..
كما أن الإسلام يطالب المتحاورين من أبنائه أن يعملوا مع غيرهم على محاربة الفساد، وإشاعة الخير والأخلاق الفاضلة في الأرض، قال - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 114]، كما نقل الله - تعالى - لنا قول الناصحين لقارون: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص: 76 - 777]. والإصلاح المطلوب عام أي: في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي والتخاصم فيه.
وأما سيرة خاتم المرسلين - - صلى الله عليه وسلم - - فقد بينت هذا الضابط بكل وضوح ويكفي هنا الإشارة إلى "حلف الفضول" فقد شهد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قبل البعثة مع أعمامه حلفاً قام به بعض رجالات قريش لنصرة المظلوم، ورد الظالم، وهو المعروف باسم "حلف الفضول"، وقد قال عن - - صلى الله عليه وسلم - -: "لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي بن حُمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت" [رواه ابن إسحاق والإمام أحمد وصححه أحمد شاكر والألباني].
4 - معرفة الآخرين ومد الجسور معهم:(1/254)
يربي الإسلام المسلمين على التعارف على الآخرين ومد الجسور معهم ابتغاء البيان لما عند المسلمين من الحق، ولقد حاول المسلمون مد الجسور مع غيرهم لمحاورتهم حول الكون والحياة، ولمعالجة القضايا الكلية المطروحة في مجال الفكر والعمل، ودل الإسلام المسلمين على أساليب الحوار، وخاصة في مجال الأفكار وفي نطاق المنهج العقلي، من خلال طرح الفروض المحتملة وإسقاط الفروض الخاطئة وإبقاء الصحيح، وفق منهج النفي والإثبات العقلي، أو منهج عرض الأفكار والأفكار المضادة... الخ.
كما أمر الله - تعالى - المسلمين باتخاذ الأسباب والسبل لاسماع الوحي لمن لم يسمعه، ثم تجري المحاورة بعد ذلك حول ما لفت القرآن النظر إليه، ويكفي هنا أن أذكر بموضوع واحد من سورة الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تتقون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 151 - 153]، فهذه الآيات أرشدت إلى خمس مجالات للحوار هي:
أ - تطهير النفس البشرية وتزكيتها.
ب - العلاقات بين الأفراد وداخل الأسرة والجماعة والأمة، والتي تقوم على الترابط والتراحم والعدالة الاجتماعية.
ج - الأساس التشريعي في القضاء والقوانين والنظم واللوائح، والذي يقوم على الحق والصدق.
د - الحضارة البشرية في جميع جوانب الحياة، والتي تقوم على ثقافة التوحيد.
هـ - العلاقات والصلات العالمية التي تقوم على العدل والتراحم والتعارف.(1/255)
كما أمر الخالق - سبحانه وتعالى- المسلمين بإشاعة الخير في الكون ومع جميع البشر، ولا يتم ذلك إلا بالتحاور والاتفاق. قال - تعالى -: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].
الخلاصة:
مما سبق يتبين أن الحوار إذا كان وفق ضوابط الشرع الإسلامي، فإنه يكون وسيلة فعالة من وسائل إصلاح الفرد والجماعة والكون، فبعض القرارات التي يتخذها المتحاورون قد تكون لها آثارها البعيدة المدى في المكان والزمان، ولنتأمل قرارات اتخذت لصالح منع التلوث، أو قرارات اتخذت في مؤتمرات طبية أو مؤتمرات مكافحة الجريمة، أو مؤتمرات العمالة والمواصلات والاتصالات... الخ.
كما أن الحوار قد يصبح وسيلة لضياع الوقت وتمييع القضايا، وإضاعة حقوق العباد والبلاد إذا فقدت الضوابط والمقاييس الصحيحة، فيكفي أن يطلع الإنسان على نتائج القرارات التي اتخذت في المحافل الدولية بشأن كشمير وفلسطين والبوسنة والهرسك والشيشان... الخ.
والمسلم الصادق يحاول دائماً لفت النظر إلى الضوابط القائمة على العدل والحق وإشاعة الخير في الأرض ومنع الظلم والطغيان والشر، فهو يصدر عن مقاييس الله - تعالى - القائل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
http: //www.alsunnah.org المصدر:
ـــــــــــــــ(1/256)
الحوار في الكتاب والسنة ( 1 )
براء زهير العبيدي
الإنسان بطبعه لا يستطيع العيش بمعزل عن الاتصال والتواصل مع الناس، فهو في حوار دائم من خلال اتصاله معهم، فأشكال الحوار في حياتنا متعددة.... منها العام والخاص، ولعل العائلي - وهو موضوعنا- من أكثرها، وذلك لمعنى الاحتكاك القريب بين أطرافه والخصوصية التي يعيشونها، وهذا بحد ذاته يستدعي منا الاهتمام بهذه الزاوية من مجالات الحوار أكثر من غيرها، وكم هي الكتب والدراسات التي تهتم بالحوار في المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية و......... الخ،
وما أقلها في الأكثر خطورة وهي الأسرة، لذا فإن هذا الموضوع-الحوار- الذي سنطرقه من الناحية العائلية، سيكون منجَّما إلى حلقات متعددة لإظهاره بقدر الأهمية التي يحملها في طياته، ولما له من آثار مهمة على تلاحم وسعادة الأسرة نواة النجاح في المجتمع، فأي مجتمع تفككت أسره بشِّره بالسقوط ولو بعد حين، فإذا كانت اللبنات الأولى متصدعة فأي بناء يرتجى؟!.
مدخل لابد منه:
تعريف:
الحوار كلفظة مجردة عن الإضافة هو عبارة عن: حديث بين اثنين يتم فيه تداول المفاهيم بينهما بطريقة ما، فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر. وإنما قلنا بطريقة ما لأننا سنتكلم لاحقا أن الحوار لا يكون فقط بالكلام الخارجي، بل منه الحوار اللفظي الخارجي ومنه الحوار الداخلي، وهذا نبينه في الحلقات اللاحقة.
أ-أهمية الحوار:
يعتبر الحوار من أحسن الوسائل الموصلة إلى الإقناع وتغيير الاتجاه الذي قد يدفع إلى تعديل السلوك إلى الأفضل، لان الحوار ترويض للنفوس على قبول النقد، واحترام آراء الآخرين... وتتجلى أهميته في دعم النمو النفسي والتخفيف من مشاعر الكبت وتحرير النفس من الصراعات والمشاعر العدائية والمخاوف والقلق وهو ما يسمى بالحوار النفسي-، فأهميته تكمن في أنه وسيلة بنائية علاجية تساعد في حل كثير من المشكلات
ب-الحوار ليس مرادا لذاته:(1/257)
إن الحوار أي حوار ليس بحد ذاته هدفا، إنما الهدف من ورائه تحقيق التواصل والتقارب، والحوار يعتبر من المفاهيم الأكثر رقيا في التعامل بين البشر، وإنه منذ اللحظة الأولى للتكوين الإنساني، كرس الخالق - سبحانه وتعالى- هذه القيمة الجمالية التي لها الأثر الواضح في تدعيم الحياة الإنسانية، وتحقيق تواصلهم في سبيل التكامل المعرفي فيما بينهم (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
ج- الحوار ليس لحل الخلاف فقط:
ومن الأخطاء الشائعة أن حاجتنا إلى الحوار تقتصر على مواطن الخلاف فقط، وبمعنى آخر: أن أهمية الحوار تكمن بين المتنافرين والمتباينين، وهذا خطأ فاحش إذ أن ضرورة الحوار مرادةٌ في شتى أبعاد الحياة، بين الزوج وزوجته، والجماعة الواحدة، والشعوب والقبائل، قال - تعالى -: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وهذا التعارف حوار ثقافات، فهو يزكي الأفكار وينميها، ويقرب بين القلوب ويصفيها، بل هو الوقود والبوابة التي ندخل منها إلى بوتقة هذه الدنيا المليئة بالمتنافرات والمتغيرات.
د- هل يكفي الحوار...؟!
ولكن يأتي السؤال: هل يكفي مجرد الحوار لنتجاوز كل الخلافات العالقة بيننا، وتذويبها؟ أم لابد من أمرٍ آخر لا يكون للحوار ثمرة وقيمة إلا به؟ إذ كم من المتحاورين لا يزيدهم حوارهم إلا بعداً وعداوة، وكم من متحاورين يتحول حوارهم إلى جدل عقيم لا ينجب إلا أحقاداً وضغينة، فالحوار المراد هو النقاش الإيجابي القائم على أسس صحيحة وسليمة معتمدة على قواعد الحوار وفنونه، لا المقصات والمنابذات.
أحببت أن أقدم للبحث بهذه المقدمات لوضعها نصب أعيننا، ولإظهار أن الحوار ليس نافلة من القول يتشدق به، بل هو منطلق الحياة بين الأفراد والجماعات.
ونحن سنتعرض في هذه الدراسة للحوار في القرآن الكريم مقدمين نماذجا للحوار في حالات مختلفة سجلها القرآن الكريم، ثم نتكلم عن الحوار في السنة النبوية، ونختم حلقتنا الأولى.
أولا: الحوار في القرآن الكريم:(1/258)
لعل ما يلفت نظر المتتبع للقرآن الكريم مدى الأهمية التي أولاها ربنا - سبحانه وتعالى- للحوار، من يتصور أن خالق السماوات والأرض يحاور الملائكة في شأن الخليفة الأول على الأرض؟! "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم ما لا تعلمون *........ حتى ألف (جفري لانغ) وهو أمريكي مسلم كتابه الشهير (حتى الملائكة تسأل) وقد ألف هذا الكتاب بعد إسلامه وكان مستغربا من مساحة الحوار الكبيرة في الإسلام حتى ترك الله المجال للملائكة بأن تسأل ربها عن خلق آدم.
ثم يتبع موقف حوار الملائكة بحوار مع مطلق الشر إبليس، ويعتبر هذا النموذج من أخطر النماذج الحوارية في القرءان الكريم، وفيه مفهوم الحوار بين الأضاد على إطلاقها، حيث أن هذا النموذج والذي يمثل فيه - سبحانه وتعالى- الحق المطلق والخير المطلق يحاور رمز الشر المطلق والباطل المطلق؛ والله - سبحانه - أراد أن يضع لنا مفهوما مهما لبني الإنسان، يقضي في إمكانية الحوار والتفاهم بالطريقة الحوارية مع الآخر، أو إقامة الحجة عليه لو كان يمثل النقيض للخير... ولنترك للقرآن أن يضع بين أيدينا جو هذا الحوار: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك قال أن خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال انظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين".
وإذا أردنا أن نضع بين يدي القارئ الآيات التي تتكلم عن الحوار لكثرت ولذا كان وضع مجالاتها المتنوعة على شكل عناوين موفٍ بالمقصود:
1-الحوار الإنساني بين:
أ- إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - في شأن الذبح.
ب - موسى والخضر - عليهما السلام - ورحلة طلب العلم.
2-الحوار الدعوي بين الرسل وأقوامهم:
أ -نوح وقومه.(1/259)
ب -إبراهيم وقومه.
ت - شعيب و قومه.
ث -هود وقومه.
ج - صالح وقومه.
ح - لوط وقومه.
خ -موسى وفوعون.
3-الحوار بين الله والأنبياء.
4-الحوار بين الله والإنسان بواسطة الملائكة.
5-الحوار بين الله والإنسان بواسطة الرسل.
6-الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب.
7-الحوار بين أهل الجنة وأهل النار.
8-الحوار بين الإنسان والمخلوقات الأخرى. (الهدهد والنمل مثلا).
هذا بالإضافة إلى تقسيمات أخرى ممكن أن نقسمها على الشكل التالي:
1-الحوار شكله السري: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)
(فتنازعوا أمرهم وأسروا النجوى).
(يتخافتون بينهم إن لبستم إلا عشرا) والآيات في هذا كثير.
2-الحوار شكله العلني: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه..............).
(ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) وكذلك الآيات في هذا أكثر من سابقتها.
3-الحوار: ضرورته (قل فلله الحجة البالغة).
4-الحوار: قطعه (فبهت الذي كفر).
5-الحوار: قواعده:
أ -الأدب (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
ب - إظهار الحق (ويكفرون بما ورآءه وهو الحق).
ت - البعد عن التناقض (أفتؤمنون ببعض وتكفرون ببعض).
ث - البعد عن المكابرة (وكذبوا واتبعوا أهواءهم).
ج - الصدق (فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
ح - طلب الدليل (قل هاتوا برهانكم).
خ -العلم (ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
وأخيرا هناك الحوار المذموم (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا).
هذه العناوين والآيات ذكرت على سبيل المثل لا الحصر وإلا فالقرآن مليء بالتقسيمات والتفريعات في مجال الحوار، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الأهمية القصوى التي يوليها القرآن الكريم في موضوع الحوار، فالرسل والأنبياء والمسلمون هم سادة ودعاة الحوار مع الأعداء قبل الأصدقاء.
ثانيا: الحوار في السنة النبوية:(1/260)
إن من خاطبه الله بقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن) كان خير من لبى هذا النداء وأتقن هذه الوصية - - صلى الله عليه وسلم - -، فمن ذلك ما روى ابن هشام في سيرته جـ1ص313 أن عتبة بن ربيعة جلس إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السلطة في العشيرة والمكان والنسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها.
فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (قل يا أبا الوليد أسمع) فقال له عتبة ما قال حتى إذا فرغ قال له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - (أوقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: (فاسمع مني)، قال: أفعل فأخذ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يتلو عليه من سورة فصلت، حتى إذا انتهى إلى الآية موضع السجدة منها وهي الآية 37-، سجد، ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وطلب عتبة منهم أن يدعو الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وشأنه، فأبوا وقالوا له: سحرك يا أبا الوليد بلسانه.
في هذه القصة النبوية أكثر من درس يحسن الوقوف عنده، فالرسول الكريم قد أحسن الاستماع لعتبة، وأعطاه الفرصة لقول ما يشاء، بل أكثر من ذلك أعطى محدثه الفرصة ليقول من جديد دون أن يعاجله، فلما سأله ليتأكد من فراغه مما لديه، بدأ التلاوة، وهذا قمة الأدب في الحوار وهو من الذوق الرفيع الذي تتفتح النفس للتلقي منه و تهتدي به القلوب العمي والآذان الصم - - صلى الله عليه وسلم - -، فكانت تلك المقدمة الفاتحة والمدخل النير لما جاء بعدها، وذلك من تلاوة آيات الذكر الحكيم، تنتهي بسجدة، سجدها - - صلى الله عليه وسلم - - ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك (أي ما تختار).(1/261)
إن هذا النموذج الراقي في الحوار هو الذي جعل من عتبة مستمعا جيدا، ولذلك لا غرابة أن قال له قومه بعد إذ عاد إليهم: سحرك يا أبا الوليد.
نموذج آخر أخرجه الإمام أحمد في مسنده(256-257، جـ5) عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: (إن فتى شابا أتى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقال:
يا رسول الله ائذن لي بالزنا.
فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه.... مه!
فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: ادن.
فدنا منه قريبا.
قال: فجلس.
قال: أتحبه لأمك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال: أفتحبه لابنتك؟
قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.
قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم.
قال: أتحبه لأختك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم.
قال: أفتحبه لعمتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.
قال: أفتحبه لخالتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء).
ما أرقى هذا الحوار..... وكيف قاده إلى الاقتناع والرجوع عن الخطأ، إنه أسلوب الحوار النبوي الهادىء القائم على التعقل والمنطق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسلوب تخلله إثارة للفطرة السليمة وإيقاظ لإيمان الروح والمشاعر.
تصوروا لو ترك هذا الفتى الشاب كما وصف- المتوقد بالحيوية لزجر والقوم وتوبيخهم، أما كانت الفاحشة فعلت فعلها في نفسه؟!، لكن حوار هادىء ومنطق قلبته إلى..... - فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء-، نعم هذا هو الحوار الذي نريده في حياتنا وبالأخص العائلية منها قبل غيرها.(1/262)
لذلك كان - - صلى الله عليه وسلم - - حواره العائلي الخاص لا يقل رقيا عن حواره الدعوي العام، حواره مع زوجاته، مع ابنته الزهراء شواهد كثيرة من السيرة النبوية هي منارات حوارية نهتدي بها في حياتنا.
وهذه مقدمة أحببنا أن نقدم للحوار بها، رجاء أن تكون مدخلا لطيفا للحلقات القادمة.
تابع معنا الحوار اللفظي في البيت النبوي
والحمد لله رب العالمين
http://www.almutawa.info المصدر:
ـــــــــــــــ(1/263)
الحوار الحضاري والثقافي: أهدافه ومجالاته
ذو الحجة 1425 هـ / يناير 2005 م
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد بن عبدالله ، الذي أرسله الله إلى العالمين هادياً ومبشراً ونذيراً: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً( (سبأ: 28)، أما بعد:
فبعون من الله سبحانه وتعالى ، وتوفيقه عقدت رابطة العالم الإسلامي مؤتمر مكة المكرمة الخامس ، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز آل سعود ، أمير منطقة مكة المكرمة ، بعنوان : " الحوار الحضاري والثقافي: أهدافه ومجالاته " في الفترة من اليوم الرابع، إلى اليوم السادس من شهر ذي الحجة ، من العام الهجري ألف وأربع مائة وخمسة وعشرين ، التي توافقها الفترة ، من الخامس عشر إلى السابع عشر من شهر كانون الثاني/ يناير من العام الميلادي ألفين وخمسة.
وأخذ المشاركون في المؤتمر في الاعتبار ما جدّ في الساحتين الإسلامية والدولية ، من تحديات، وفي مقدمة ذلك :
سيطرة العولمة بتياراتها الساعية لطمس الهويات والثقافات الوطنية للشعوب وتجاوز خصوصياتها.
أولاً: ظهور دعوات تؤكد على حتمية صدام الحضارات، والإعلان عن نظريات متطرفة تؤكد على ذلك، وتظهر الإسلام بصورة العدو الجديد، الذي حل محل الشيوعية.
ثانياً : حدوث اضطراب في العلاقات والموازين والقيم والمصالح الدولية والإنسانية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً : تصاعد الحملة الإعلامية في الغرب على الإسلام والمسلمين، وعلى المنظمات الإسلامية، ومؤسسات العمل الخيري الإسلامي، وفق سياسة تتصل بدوافع الكراهية والتمييز، وتفتقر إلى الموضوعية.
رابعاً : وقد ناقش أصحاب السماحة والفضيلة العلماء وأساتذة الجامعات والباحثون المشاركون في المؤتمر عدداً من البحوث التي تناولت محاور المؤتمر، وهي:(1/264)
المحور الأول : الحوار الحضاري والثقافي في الإسلام.
المحور الثاني : علاقة الحضارة والثقافة الإسلامية بغيرها من الحضارات والثقافات.
الحوار الحضاري والثقافي في مواجهة التحديات.
المحور الثالث : آفاق الحوار بين الحضارات والثقافات.
المحور الرابع : المنظمات والأقليات الإسلامية والحوار الحضاري والثقافي.
وتوصلوا في هذه المحاور إلى ما يلي :
المحور الأول: الحوار الحضاري والثقافي في الإسلام
أولاً: الإسلام دين الحوار :
1ـ يؤكد مؤتمر مكة المكرمة الخامس أن الإسلام دعا منذ ظهوره إلى الحوار بين الحضارات، وقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من العقل والحكمة ، والمجادلة بالحسنى أساساً ومنهاجاً لحوار المخالفين ودعوتهم إلى الإسلام وفق ضوابط فريدة في التسامح وتقبل التنوع الثقافي والحضاري.
2ـ خص الإسلام أهل الكتاب بالمزيد من الدعوة إلى الحوار (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( (آل عمران: 64 ).
3ـ لا توجد في الإسلام مشكلة في التعامل مع الأطراف الأخرى ، فهو دين أنزله خالق الناس، لا يفرق بينهم ولا يميز أحداً على أحد إلا بالتقوى ، والعمل الصالح : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( (الحجرات: 13).
4ـ إن الحوار واجبٌ ديني تمليه مهمة التعريف بالإسلام والدعوة إليه، ويؤكده وجوب إزالة سوء الفهم والتصورات الخاطئة التي تروج عن الإسلام.
ثانياً: قواعد إسلامية للحوار والتعايش بين الأمم والشعوب المختلفة :
يؤكد المؤتمر أن في الإسلام مبادئ عادلة في بناء العلاقات الدولية ، ويدعو مؤسسات الحوار والمهتمين به في العالم للاطلاع عليها ، والاستفادة منها ، ومن أهمها :(1/265)
1- تمايز الأمم والشعوب واختلافها أمر طبعي ، وهو آية من آيات الله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ ( (الروم: 22) وهذا التمايز في الخلقة يستتبع اختلافاً في الثقافات والنظم : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (المائدة: 48).
2- عدم الإكراه في الدين : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (البقرة: 256)، ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( (يونس: 99).
3- السلام والتعاون على البر هو الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم ، والترغيب في السلام وتحقيق الأمن للناس غاية كبرى في الإسلام : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( (الأنفال: 61).
4- الحوار يهدف إلى الوصول إلى الحق : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( (آل عمران: 64).
5- الوفاء بالعهود والالتزام بالعقود ، من القواعد الإسلامية التي يوجب الإسلام على المسلمين التقيد بها: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (النحل: 91).(1/266)
6- رسالة الإسلام رسالة عالمية، تحمل الرحمة للإنسانية : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء: 107).
ثالثاً : ضوابط للمحاورين المسلمين
أولاً: إن حوار المسلمين مع أتباع الحضارات ضرورة ملحة، إذا أريد تجنيب العالم أخطار المجابهات والحروب، وهذه الضرورة لها ضوابط شرعية، وقواعد خلقية في الإسلام، (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إَِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (العنكبوت: 46).
ثانياً: ينبغي أن تكون للحوار أسس مشتركة لدى مختلف الأطراف الإسلامية، تحدد أهدافه ومراميه وضوابطه، حتى يحقق الأغراض التي توخاها الإسلام.
ثالثاً: ينبغي أن يبدأ الحوار بالتركيز على التعاون في المجالات الاجتماعية العامة كالعدل، والسلم، والتضامن في محاربة الأوبئة الاجتماعية كالمخدرات والكحول، وضمان كيان الأسرة، ومنع الفساد بكل أشكاله ، ويجب أن يكون الطرف الإسلامي في الحوار، قادراً على إبراز وجهة النظر الإسلامية.
رابعاً: إن طغيان الحياة المادية وسيطرة الآلة على الإنسان أفرز رد الفعل المتوقع، فاتجه الناس إلى الأفكار والنظريات الروحية الغالية كالبوذية والهندوكية والكابالا، ويمكن للمحاور المسلم أن يقدم الصورة الإسلامية للتوازن والتكامل بين الروح والجسد: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (القصص: 77).(1/267)
خامساً: أن يتحقق الفهم الموضوعي لدى المحاور للنواحي الاقتصادية وإبراز مبادئ الإسلام المتعلقة بالاقتصاد والتجارة بين الناس، ومحاربة السيطرة والاستغلال والاحتكار وغيرها من الانحرافات التي تفسد حياة الإنسان وتقود للخلل والأزمات.
وإذ يبين مؤتمر مكة المكرمة الخامس، موقف الإسلام من الحوار، وقواعده التي تضمن التعاون والحرية والإحسان إلى الناس والسلام والأمن للبشرية، فإنه يوصي الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي وغيرها من المنظمات الإسلامية الرسمية والشعبية بما يلي:
1ـ إعداد مشروع لميثاق إسلامي للحوار بين الحضارات والثقافات الإنسانية، يحدد مرجعية إسلامية واحدة تكون مسؤولة عن الحوار وتتفق عليها المنظمات والهيئات الرسمية والشعبية في الأمة الإسلامية، وعرضه على الملتقى الأول لعلماء المسلمين والاجتماع الأول للهيئة العليا للتنسيق بين المنظمات الإسلامية، اللذين ستعقدهما الرابطة في العام الهجري 1426هـ ، على أن يتضمن:
× أهداف حوار المسلمين مع غيرهم.
× تكوين هيئة إسلامية مشتركة للحوار مع أتباع الحضارات والثقافات البشرية لمتابعة شؤون الحوار وتنشيطه.
× تحقيق التعاون الإسلامي في نشر ثقافة الحوار ومبادئه وقواعده بين الأمم، كما جاءت بها رسالة الإسلام، وذلك من خلال برامج وخطط إسلامية مشتركة.
2ـ دعوة وزارات الثقافة والإعلام في البلدان الإسلامية لحث وسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة على خدمة الحوار، ونشر برامجه ومنجزاته الميدانية، والتعريف بقواعده وضوابطه وأهدافه الإنسانية التي حث عليها الإسلام وتتولى الرابطة التنسيق في هذا الشأن.
3. تخصيص جائزة سنوية تقدم لمن لهم إسهام متميز في الحوار بين الحضارات وجعله وسيلة للتفاعل الحضاري بين الشعوب الإنسانية تقدمها رابطة العالم الإسلامي.(1/268)
4. إصدار كتاب شامل عن الحوار بين الحضارات من وجهة النظر الإسلامية ، وتعميمه بلغات مختلفة على المنظمات واللجان والجامعات ومراكز البحوث المهتمة بالحوار في العالم.
المحور الثاني: علاقة الحضارة والثقافة الإسلامية بغيرها من الحضارات والثقافات
أولاً: الحوار في الحضارة الإسلامية
يؤكد المؤتمر في مجال العلاقة بين الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات على ما يلي:
1ـ أن الحوار بين الإسلام والحضارات المختلفة لم ينقطع منذ فجر الإسلام، فقد حاور المهاجرون المسلمون النصارى في الحبشة ، واستقبل الرسول عليه الصلاة والسلام وفد نصارى نجران في المدينة المنورة وحاورهم في أمور الدين، وكان الحوار وسيلة فعالة أدت إلى إبرام العديد من العهود والاتفاقات.
2ـ أن من أوائل الخطوات التي اتخذها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدولة الإسلامية الأولى إصدار ( وثيقة المدينة ) أو عهد المدينة، التي حددت لمجتمع المدينة رسالته في دعم الحق والخير، فكانت أسبق في إنسانيتها العالمية من القوانين والمعاهدات العالمية.
3ـ عدم وجود عقبات عقدية تمنع المسلمين من الدخول في الحوار؛ لأن القرآن الكريم يحث على هذا الحوار ويضع له إطاره الخلقي : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (العنكبوت: 46).
4ـ أن الحوار يتجه إلى تحقيق التعاون في تحقيق القيم والمصالح المشتركة ، ويحرص على فتح قنوات الاتصال للإفادة من التجربة الإنسانية في مجالاتها الواسعة.
ثانياً: الأصول الإنسانية المشتركة للحوار:
1- الإيمان بأن أصل البشر واحد ، فكلهم يعودون إلى أب واحد ، وأم واحدة ، فلا تفاضل بين الأجناس ، ولا استعلاء بالأنساب : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) (النساء: 1).(1/269)
2- رفض العنصرية والعصبية وادعاء النقاء العنصري . ففي الحديث الشريف : "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " .
3- سلامة الفطرة الإنسانية في أصلها ، وأن الإنسان خلق محباً للخير مبغضاً للشر ، يركن إلى العدل، وينفر من الظلم : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( (الروم: 30).
4- التعاون في مجالات الخير والبر والمصالح المشتركة المشروعة : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (المائدة: 2).
< وإذ لحظ المؤتمر حاجة العالم إلى الحوار من أجل التفاهم على صيغ تحول دون الصدام بين الحضارات.
< وإذ تابع حملات الكراهية التي تشنها مؤسسات إعلامية وثقافية وسياسية غربية على الإسلام.
< فإنه يوصي رابطة العالم الإسلامي والمنظمات الإسلامية الرسمية والشعبية بما يلي:
1ـ دعوة مؤسسات الحوار الدولية ولجانه ومنتدياته للانطلاق في الحوار من المبادئ التي نصت عليها المواثيق والاتفاقات الدولية لتحقيق التكافؤ بين الشعوب في الحقوق، وضمان حرياتها، وحماية ثقافاتها.
2ـ مطالبة المؤسسات الغربية التي تمارس مناشط تبشيرية، بعدم التدخل في عقائد المسلمين أو تشكيكهم بدينهم، ومنحهم الإغراءات للتحول عنه، أو الاستخفاف به.
3ـ مطالبة المؤسسات الدولية وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة بالقيام بواجباتها، في منع الترويج لكراهية الشعوب، وإبطال النظريات العنصرية والشعوبية الفاسدة التي تحض معتنقيها وأتباعها على كراهية الآخرين. ؟يطالب المؤتمر هيئة الأمم المتحدة ودول العالم بأن لا تسمح لأي دولة بأن تنفرد بإصدار قانون يمتد تطبيقه إلى مختلف أنحاء العالم، وذلك انسجاماً مع القانون الدولي، وقوانين المنظمات الدولية التي لا تجيز لدولة أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى، أو أن تسن قانوناً يتعدى تطبيقه دائرتها الإقليمية.(1/270)
المحور الثالث: الحوار الحضاري والثقافي في مواجهة التحديات:
تدارس المؤتمر واقع العلاقات بين الأمم في عالمنا المعاصر ، وما برز من عقبات وتحديات ضد التعايش ، وتوقف عند الكوارث التي حلّت بالإنسانية في القرن العشرين ، ومنها كارثتا الحربين العالميتين الأولى والثانية ، اللتان أودتا بحياة الملايين من بني الإنسان، وما يزال الواقع الدولي ينذر بالمزيد من الشرور والحروب.
ويرجع أسباب ذلك إلى تغليب الاعتبارات المادية والمصلحية على حساب القيم والمبادئ، وأكد أن حسابات المصالح والقيم الذرائعية غلبت المبادئ والقيم في الحضارة المعاصرة.؟وتوقف المؤتمر عند المرحلة الاستعمارية الغربية لمعظم البلدان الإسلامية ومحاولات طمس هوية المسلمين، وخاصة في الجوانب التالية :
1ـ الجانب الديني، وهو ما عبر عنه قادة الاستعمار في العصر الحديث بدءاً من حملة نابليون بونابرت على مصر، وانتهاء بتصريحات عدد من المسؤولين الغربيين التي أساءت إلى الإسلام والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
2ـ الجانب الثقافي، حيث عمل الغرب على فرض ثقافته ومناهجه، مقابل تقليص التعليم الإسلامي، وفتح مدارس التنصير، وإعداد مثقفين متغربين.
3ـ الجانب الاقتصادي، وذلك بالسيطرة على خيرات الشعوب ونهب ثرواتها.
وأعرب المؤتمر عن تخوفه على السلام العالمي في ظل هذه التحديات، والتي يأتي في مقدمتها تأثر بعض الدوائر في الغرب بالمصالح المحلية المؤقتة، والصد عن التعاون مع الشعوب الأخرى، ومنها ما تتعرض له شعوب الأمة الإسلامية ودولها في حملات ثقافية وإعلامية شرسة من مؤسسات غربية عديدة، دأبت على وسم الإسلام بالإرهاب وشرائعه السمحة بالتطرف والهمجية.
والمؤتمر إذ يشير إلى خطورة الحملات التي تسعى إلى الترويج للصدام بين الحضارات المعاصرة والإسلام، فإنه يعرب عن الاستنكار البالغ تجاه تصاعد موجات العداء والكراهية للإسلام والمسلمين في أنحاء عديدة من العالم.(1/271)
ويؤكد ما أعلنته مجالس الرابطة ومؤتمراتها، وكذلك ما أعلنته الحكومات والمنظمات الإسلامية من أن الإرهاب ظاهرة عالمية تستوجب جهوداً دولية لاحتوائها والتصدي لها بروح الجدية والمسؤولية والإنصاف من خلال عمل دولي متفق عليه في إطار الأمم المتحدة، يحدد تعريف الإرهاب تحديداً سليماً؛ ويعالج أسبابه ويكفل القضاء على هذه الظاهرة ويصون حياة الأبرياء، ويحفظ للدول سيادتها، وللشعوب استقرارها، وللعالم سلامته وأمنه.
< وإذ يؤكد المؤتمر أن الترويج للصدام بين الحضارات خطر على الأمن والسلم في العالم، وأنه يتنافى مع مواثيق هيئة الأمم المتحدة فإنه يوصي رابطة العالم الإسلامي والمنظمات الإسلامية الرسمية والشعبية بما يلي:
1ـ الرد على مروجي نظريات الصدام بين الحضارات من خلال وسائل الإعلام المختلفة ونشر الكتب في نقض تلك النظريات وبيان خطرها على الأمن والسلم في العالم وتوزيعها باللغات العالمية.
2ـ الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في إحدى العواصم الغربية حول : ( أخطار نظريات الصدام بين الحضارات على الأمن والسلم في العالم ) وإشراك عدد من القيادات الدينية والثقافية والسياسية وأساتذة الجامعات الغربيين في المؤتمر، بالإضافة إلى إشراك ممثلين عن المنظمات الدولية الكبرى.
3ـ دعوة حكومات العالم إلى الاتفاق على تعريف موحد للإرهاب، وتطبيق برامج مكافحة هذه الظاهرة من خلاله، ضماناً لعدم الخروج عن مقاصد هذه المكافحة.
المحور الرابع : آفاق الحوار الحضاري ومجالاته :
تدارس المؤتمر سبل التعاون بين الدول، ودعا إلى الاستفادة مما قرره الإسلام بشأن إقامة علاقات دولية ترتكز على العدل ونشر السلام ، وتوفير السعادة للإنسان ، وإذ يؤكد المؤتمر أهمية مواجهة الأخطار التي تهدد البشرية ، فإنه يؤكد على ما يلي:(1/272)
1ـ أن الأمن والرفاه للشعوب كافة، لا يتحقق إلا بتعاون عالمي ، وبرنامج دولي تسهم في إنجازه مختلف الدول والشعوب، والقوى المحبة للخير في العالم، بحيث تشارك في إيجاد صيغة لتحقيق سلام ، واقتصاد عالميين عادلين متوازنين.
2ـ أن إيجاد نظام عالمي متوازن أساسه العدل وتحقيق المصالح المشتركة بين شعوب العالم على نحو متكافئ، يستوجب احترام إرادة الشعوب، وحقها المشروع في الحرية والاستقلال والأمن، وتقرير مصيرها.
3ـ أن تعاون الناس في مجالات الخير لبناء مجتمع عالمي تحكمه القيم الصحيحة، وتتحقق فيه تنمية شاملة يستفيد منها الإنسان، مما حث عليه دين الإسلام، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( (المائدة: 2).
4ـ أن بناء الأسرة السليمة وفق الروابط الشرعية في العلاقات بين الجنسين، يعد أساساً لبناء مجتمعات إنسانية قوية وصحية ونظيفة، وهذا ينبغي أن يكون في مقدمة برامج التعاون الدولي.
5ـ محاربة الإباحية والشذوذ والمخدرات والشرور والموبقات ، ومعالجة آثارها السلبية على المجتمعات الإنسانية.
6ـ معالجة مشكلات الفقر والجهل والمرض والكوارث المختلفة، ومساعدة الشعوب المحتاجة والتعاون في مجالات التنمية التي تهم الإنسان.
المحور الخامس: المنظمات والأقليات الإسلامية والحوار الحضاري والثقافي
نظراً لأهمية التنسيق لإنجاز برامج الحوار الحضاري والثقافي وتحقيق أهدافه الإسلامية، فإن المؤتمر يؤكد على أهمية التشاور والتعاون بين المنظمات الإسلامية الشعبية والرسمية، والتنسيق فيما بينها في مجال الحوار والتواصل مع المنظمات والمنتديات الدولية المهتمة بالحوار وبقضايا الإنسان، ويوصي بما يلي:(1/273)
1ـ الدعوة إلى التعاون والحوار مع الجهات والمراكز الحضارية والثقافية الآسيوية والأفريقية، بغية تعزيز التفاهم والتعاون لصد نزعات السيطرة والتحكم بمقدرات الشعوب الضعيفة.
2ـ أييد قيام المنتدى العالمي للحوار الحضاري، الذي أعدت رابطة العالم الإسلامي مشروعاً لإنشائه ودعوة الجهات الإسلامية المعنية بالحوار للتنسيق معها ، والحرص على وحدة الموقف الإسلامي في القضايا التي تعالجها منتديات الحوار.
3ـ نظيم ندوات ودورات علمية وثقافية لإعداد المحاورين المسلمين إعداداً يجعلهم مؤهلين لتحمل مسؤولياتهم، وقادرين على متابعة التطورات السياسية والثقافية، وعلى تقديم مقترحات لتطوير العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم لما فيه مصلحة الإنسانية.
4ـ تعزيز التواصل مع المنظمات الدولية، والإقليمية والمحلية، التي تؤمن بالقيم والآداب العامة، وذلك بهدف التعاون على صد تيار الفساد والانحراف الذي من شأنه أن يهدد مستقبل البشرية.
5ـ تشجيع الأقليات الإسلامية في قارات العالم على العمل داخل مجتمعاتها على توضيح صورة الإسلام الصحيحة، وتحقيق ذلك من خلال التواصل مع المؤسسات الثقافية والاجتماعية في بلدانها.(1/274)
وفي ختام المؤتمر ، شكر العلماء والدعاة والباحثون والأكاديميون المشاركون فيه المملكة العربية السعودية، وأشادوا بمواقفها في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، ودعم حوار المسلمين مع غيرهم، واستنكروا أعمال الإرهاب التي نفذتها عصابات ضالة على أرضها، مؤكدين أن الإسلام بريء من اعمالهم وأقوالهم، كما أعلنوا وقوفهم إلى جانب المملكة وقيادتها في محاربة الإرهاب، وأيدوا الإجراءات التي اتخذتها في مكافحة الإرهابيين، وحماية بلد الحرمين الشريفين من شرهم ، وطلبوا من معالي الأمين العام للرابطة رفع برقيات بهذا الشأن إلى خادم الحرمين الشريفين ، الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود ، وإلى سمو ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني ، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ، وإلى سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، ورفع برقية شكر إلى سمو الأمير عبدالمجيد ابن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة مكة المكرمة ، على تفضله برعاية هذا المؤتمر. والله ولي التوفيق ،،،
صدر في مكة المكرمة
6/12/1425هـ / 17/1/2005م
ـــــــــــــــ(1/275)
الحوار آدابه وأهدافه
العالم كله ينشغل بالحوار، ولم لا ••؟ فالحوار بين الحضارات هو عنوان العصر وطريق الأمم المتحضرة نحو التعاون والمستقبل، وقد نظمت الكثير من الجهات في السعودية (مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض) وفي الكويت وفي القاهرة، الكثير من الندوات والمؤتمرات، وأسفرت هذه الندوات عن توصيات مهمة أهمها إنشاء لجنة دائمة للحوار مع الشعوب والديانات الأخرى وغيرها من التوصيات المهمة التي دخلت حيز التنفيذ بنشاط العرب وتواصلهم مع أحداث العالم المعاصر•
وتضمنت بحوث هذه الندوات مختلف الموضوعات المتعلقة بالحوار بين الحضارات، واتسمت هذه البحوث بالدقة والعمق العلمي والمد الحضاري والبعد عن الأفق الضيق مع توضيح اليقين الإسلامي الكامل للحوار مع الآخر من أجل سعادة وتقدم البشرية، وللاستفادة من المعطيات الحضارية من خلال التعاون والتبادل وغيرها من الأسباب التي تصل بالإنسانية الى السلام والنمو والرخاء•
وعقب هذه الندوات الدولية، التي كان لها صدى طيباً وسريعاً في العالم أجمع، بدأت الجهات المختلفة تقيم بعض الندوات والمؤتمرات عن موضوع الحوار بين الحضارات، وبدأت بعض دور النشر العربية تهتم بإصدار الكتب والأبحاث عن موضوع الحوار بين الحضارات لأنه موضوع الساعة ولمعالجة الآثار السيئة لفكرة صراع الحضارات•• ومن هنا، كان اهتمامي الكبير بهذا الإصدار الثقافي والفكري المهم: الحوار آدابه وأهدافه للداعية الكبير الشيخ >منصور الرفاعي عبيد< وكيل أول وزارة الأوقاف المصرية الأسبق لشؤون المساجد والقرآن والصادر عن مركز الكتاب للنشر العام 1424هـ/ 2004م، وهذا الكتاب طيب ومبارك وفيه إضافات متعددة، وفيه جهد علمي متميز ورؤية مستنيرة - من رجل فقيه - عن الجوانب المتعددة للحوار، بل لا أبالغ إذا قلت إن هذا الكتاب يعتبر إضافة قيَّمة لأبحاث ودراسات الندوة الدولية التي أقامتها المكتبة••(1/276)
هذا الكتاب يقع في 144 صفحة من الحجم الكبير ويتضمن خمسة فصول بعد المقدمة وقبل الخاتمة، ويبدأه المؤلف بإهداء يدل على هدف الكتاب (إلى الباحثين عن الحق والحقيقة •• إلى من يريدون نشر الخير وتعميمه •• إلى الشباب والمدرِّسين •• إلى الآباء والأمهات •• نقدم هذا العمل لخلق جو صحي نتنفس فيه الهواء النقي ونحل مشكلاتنا بهدوء ونبعد عن أنفسنا التوتر العصبي •• عندما يكون الحوار وسيلتنا إلى التفاهم وهدفنا لمعرفة الحقيقة •• أقدم هذا العمل ليكون مرآة صادقة للجميع وأهديه لهم)•(1/277)
وتحت عنوان البداية: كان الفصل الأول الذي يتحدث فيه المؤلف عن تدريب الإنسان على أسلوب الحوار عبر مراحل عدة حياتية مهمة هي التي تصقل مواهبه ليتمرس على الحوار من خلال: الأسرة بصفتها المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل الكلام ومن ثم الحوار، فالأسرة هي المكان الأول الذي يتدرب فيه الطفل على الحوار ولها الدور الأكبر في صنع شخصية الإنسان وعلى الأب والأم أن يهيئا المناخ الاجتماعي المناسب لتعليم الطفل الحوار والتعامل مع الآخرين بحب وتعاضد وندية، ثم يأتي دور الإعلام الذي يبين للناس قوة الحوار وأثره في كيان الفرد والمجتمع من خلال الأفلام والمسلسلات والبرامج، ثم يأتي دور التعليم والمدرسة التي تؤصل منهج الحوار في نفوس الأبناء من حيث هو بين الطلاب وبين الطلاب والمدرسين وبين الطلاب والبيئة المدرسية ومن ثم البيئة الخارجية، ثم يأتي المسجد بدوره المهم للغاية، والذي يؤكد دعوة الإسلام للحوار المتحضر مع الآخر، حوار ليس فيه جدال عقيم ولا تصنع أوتصلُّب ولا أي شيء يبعد الحوار عن أهدافه السامية بل يرتقي في وجدان المسلم للتعاضد والتعاون في مختلف المجالات من أجل رقي الإنسان ونموه وتقدُّمه، متخذا من منهج القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهَّرة الأسلوب الأمثل للحوار مع الآخر، ثم تجيء الثقافة بعامة والكتب بخاصه لترسخ في ذهن القارئ كل ما يتعلق بالحوار من مبادئ وأهداف وأساليب ليرتقي الإنسان بفكره وعمله وممارساته وتعاملاته مع الآخر، فالكتاب وسيلة لنقل المعارف بين الأجيال وبين الشعوب والأمم، ولابد أن يلعب دوراً في تنمية مفاهيم الحوار في نفوس الجميع، ويصل المؤلف في هذا الخصوص إلى أن عوامل تنمية الحوار التي يكتسبها الإنسان منذ نعومة أظفاره تجعله دائماً يدير حواراً بينه وبين نفسه، ويؤدي اكتساب المهارات والخبرات من الآخرين الى تعميق الحوار في النفوس، فأدب الحوار أدب مكتسب من خلال التنشئة والمعرفة والعلم(1/278)
والمعلومات ونبذ الاختلافات ومعرفة الاتجاهات والسلوكات والميول والعقيدة•
ويوضح المؤلف أن عوامل تنمية القدرة على الحوار تكمن في التدريب على فن الخطابة والتواصل مع الناس وفن الإلقاء والتحدث إلى الجماهير، وأن يختار المحاور الألفاظ السهلة المباشرة ويبتعد عن الألفاظ الغريبة التي تحتمل التأويل، وأن يكون يقظاً منتبهاً ولا يخرج عن موضوع التحاور، وأن تكون لغة الحوار هي اللغة السائدة بين الجمهور مستشهداً بقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
ويتصدى الباحث في الفصل الثاني لموضوع مهم ألا وهو: مقومات الحوار، فيعلن أن الحوار هو أفضل طريقة للتفاهم بين الأطراف المتباينة التي تربطهم مصالح مشتركة، ليتمكن كل طرف من فهم سلوك وتصرفات الطرف الآخر حتى يمكن التعاون المشترك والعيش في سلام وأمان واطمئنان، ومن المقومات الأساسية للحوار ما يلي:
- الاحترام المتبادل بين المتحاورين، حتى لا يكون الحوار ساحة للتطاول والصراع وبداية نشوء الأزمات•
- ضرورة الإنصات الكامل لمن يتحدث وإعطاؤه الفرصة الكاملة للتعبير عن رأية بحرية وصراحة ووضوح•
- نبذ التعصب لرأي أو فكر وإنما يكون الهدف هو البحث عن الحق والتعاون المشترك والبرهان على ذلك•
- عدم الحقد والكراهية بين أطراف الحوار، فالمحاورون جاءوا للتعاون وليس للخلاف والتعصب الأعمى•
- الإنصاف والعدل: من أجل إعطاء المحاورين حقهم من التقدير والاحترام لتجاوز الآثار النفسية لما سبق من معاملات وعداء•(1/279)
- المعرفة التامة لأهداف الحوار من: تعميق التفاهم بين فئات المتحاورين، وتبادل الأفكار والمعارف والأنماط والعلوم بين الجميع، واعتبار الحوار أداة لنقل التراث الثقافي بين الأمم والشعوب بصفته تراثاً عالمياً، ونقل التجارب بين بيئة وأخرى، وتحقيق الخير والصلاح للجميع، وتنمية العلاقات الإنسانية والمعرفية والعلمية والتقنية بين الأمم والشعوب، وحفز المواهب للابتكار بروح المنافسة الشريفة ليكون من وراء ذلك تحسين ظروف الحياة والتفاعل لإثراء الحياة وتنشيط العقول والتفاعل الحضاري•
وعن أسلوب الحوار يذكر المؤلف في الفصل الثالث، فيعلن أنه على المسلم ان يتعلم أسلوب الحوار لأنه لغة العصر، وأسلوب الحوار يقوم على توضيح المعنى المراد توصيله للآخر، وهو يحاور غيره عليه أن يكون فاهماً للموضوع الذي سيحاور فيه محيطاً بأبعاده وعنده إلمام بالمناخ الاجتماعي للبيئة التي عاش فيها محاوره وغرضه من ذلك:
- ترتيب الأوليات في الموضوع مع ربط كل أجزاء الموضوع بعضها ببعض•
- توضيح المضمون الإسلامي الذي سعدت تحت ظلاله الإنسانية•
- تصحيح المفاهيم الاجتماعية•
ويتناول الكاتب موضوعين في غاية الأهمية: الأول: صراع الحضارات وضرورة تجنبه، لأن الحضارة هي نتاج عقل مفكر لديه قدرة على تقديم الأوليات مع تخطيط منظَّم منضبط على النظريات العلمية المبتكرة وقد يكون للبدن عمل في إرساء دعائم الحضارة فيكون ذلك بالدقة وحسن الأداء، وغرض أي حضارة انتفاع الإنسانية كلها ورفعة شأنها وتقدمها، وبالتالي لابد من أن يسود تعاون الحضارات وتكاملها لا تصارعها وفناؤها، والحوار وسيلتنا لتجنب هذا الصراع ولتحقيق هذا التعاون والتكامل والتعايش، والثاني: ضرورة الحوار، لأن العالم دخل في مرحلة من المتغيرات والتحولات الجذرية والكبرى•(1/280)
والثورة الهائلة في وسائل الإعلام والاتصال، وكل ذلك يتم بإمكانات غير مسبوقة، وترتب على ذلك، الغاء الحواجز الثقافية واختفاؤها، ولذلك لابد من الحوار في عالم الاتصال المفتوح على تدفق المعلومات لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يعزل نفسه عن العلم وعن العالم، مع الالتزام العقدي والروحي، أي التمسك بروح العصر العلمية والتقنية والتحاور من أجل اقتناء أحدث العلوم المعرفية والتقنية بحيث لا يمس ذلك قيمنا الأصيلة وعقيدتنا الراسخة•
أما الفصل الرابع فقد خصصه المؤلف للحديث عن الاختلاف المقبول، وهو الاختلاف الناتج من اختلاف الألوان والألسنة التي خلق اللّه البشر عليها، ولهذا اقتضت مشيئة اللّه اختلاف تصورات الناس للأشياء من خلال أفكارهم، لأن العقول متباينة ومختلفة في التفكير، وتلك مشيئة اللّه، لتتكامل في النهاية المنظومة الإنسانية، لأن اختلاف الناس في تفكيرهم رحمة لتتعدد الحلول عند أي قضية، فالاختلاف في الآراء - مع عدم التشنج والتعصب - رياضة للأذهان وتلاقح للآراء والتعرف إلى جميع الاحتمالات وفتح مجالات التفكير يؤدي للوصول إلى أعظم النتائج وأيسر السبل ومن هذا الاختلاف ينبع الحوار البنَّاء وتتضح فوائده التي تحقق الخير مادام ذلك يسير في إطار الحدود والآداب، ويضرب لنا الكاتب مثلاً بأصحاب رسول اللّه [ الذين كانوا في اختلافهم يتحلون بالآداب العظيمة مثل:
- معالجة أمر الاختلاف بالحكمة ولا يتيحون أي فرصة للجدل المفضي إلى التنازع والشقاق•
- كانوا ينتقون أطايب الكلام ويتجنبون الألفاظ الجارحة•
- كان كل واحد يحسن الاستماع الى أخيه ورأيه ويحسن الظن به•
- الالتزام بطهارة القلب وعفة اللسان وتجنب الهوى•
- كل واحد يشعر في قرارة نفسه أن ما ذهب إليه أخوه من آراء يحتمل الصواب كالذي يراه لرأي نفسه•(1/281)
فالاختلاف لا يفسد للود قضية والحوار هو السبيل للوصول لأرشد الأمور، فإذا غابت لغة الحوار ضاع الإيمان من دنيا الناس ودب الخلاف وظهر الاختلاف وتمسك كل برأيه وانقلبت حياة الناس إلى جحيم وتأخرت المجتمعات وتفككت الأسر وانهارت القيم وقُضي على البشرية، لأن الحوار هو التحضر والطريق للتعاون والتعايش والتكافل والنمو والازدهار•
والحوار الدولي هو الطريق للسلام والطمأنينة والتعاون والتقدم بشرط أن يقوم على ثلاثة أسس قال تعالى: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه) آل عمران -64 - وما عدا ذلك فالحوار ضروري فيه ولا شيء عليه لأنه دليل على الأخوة الإنسانية وطريق للمعرفة والعلم والنمو والرخاء والتقدم••
ويخصص الباحث فصله الأخير من كتاب الحوار آدابه وأهدافه للحديث عن نماذج من أدب الحوار في الكتاب والسنَّة ومن خلال حياة الصحابة•
وما أعظم الإسلام ديناً ورسالة وتشريعاً ومعاملات، فلقد كان العالم أجمع في مرحلة ما قبل الإسلام يعج في فوضى شاملة يأكل القوي الضعيف ويعتدي الكبير على الصغير، سواء في الجاهلية أو بين أمبراطوريات تلك العصور من فر س وروم واغريق، فكانوا يتصارعون صراع الديوك ويلتهم القوي الضعيف ولا يعرفون سوى لغة القوة والغدر، فلما جاء الإسلام أمر بالحوار وعلَّم المسلمين آدابه وكان الرسول [ يحاور الناس بالرفق ويجادلهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وعرفنا اللّه ورسوله بأن الحوار أفضل وسيلة للاقناع والتعاون والطمأنينة والسلام، فالحوار ما هو إلا وسيلة التفاهم بالحسنى والاقناع بالحجة لأن الناس كلهم اخوة والأخوة تزداد قوة بالحوار•(1/282)
إن هذا الكتاب القيم الذي يضيف إلى فكر الحوار بين الحضارات يؤكد على مبادئ وآداب الحوار وأهدافه ويدعو الأمة إلى التحاور دائما للوصول إلى أرشد الأمور، هو كتاب هادف ومفيد ويدل على استنارة دينية من مفكر قدير لا يعرف للتعصب مكاناً ولا للعجز موضعاً، فهو دعوة خيرة للحوار بين ذاتنا، وبين ذاتنا ومن حولنا وبين حضارتنا والحضارات المعاصرة، لنقضي بهذا الحوار على كوامن الصراعات وأسباب النزاعات وننتزع فتيل الأزمات ومنغصات الحروب وعوامل الفتنة، فبالحوار تتجدد الأفكار وتنشط العقول وتتسع المدارك وتنمو الشعوب وتقوى الإنسانية ويعلو العلم وينتشر• فهذا الكتاب دعوة حق تضيف جديداً لمفاهيم الحوار وحق الإنسانية في سيادته على ما عداه من مفاهيم، وكما قال الناشر: إن الحضارات تتحاور ولا تتصارع وإن هذا هو الهدف المنشود الذي نعمل جميعاً من أجل إبرازه حتى تنتفع البشرية كلها به، واللّه الموفق والمستعان•
ـــــــــــــــ(1/283)
من آداب الحوار عدم التعدي على مسلمات الشرع وثوابت الدين
متابعة: سليمان الصالح
الشيخ الدكتور سعد الشثري متحدثا عن حكم الحوار والمجادلة في الإسلام:
هناك نصوص نهت عن شيء من الجدال والمراء
الحوار في عصرنا أخذ في الانتشار واستجدت له وسائل لم تكن موجودة في السابق
أكد فضيلة الدكتور سعد بن ناصر الشثري - عضو هيئة كبار العلماء - أن الحوار أمر طبيعي بين الناس وهو قائم في أمورهم الدينية والدنيوية، وقال فضيلته: إن سماحة الحوار تتجلى بين الناس فيما يجري بينهم من لقاءات علمية وندوات وما يجري في قاعات الدرس والمحاضرات، وكذلك الحوار يكون في الدعوة إلى الله، خاصة إذا كان لتغيير منكر أو فكر منحرف عند المدعو.
جاء ذلك في سياق المحاضرة التي ألقاها فضيلته مؤخرا بجامع الإمام تركي بن عبد الله (الجامع الكبير) بالرياض وتناول فيها حكم الشريعة في الحوار والمجادلة وموقف الإسلام من المراء ومتى يكون الحوار محمودا ومتى يكون مذموما، كما بين فضيلته الأهداف التي من المفروض أن ينعقد من أجلها الحوار، وأيضا أدوات الحوار وآدابه وأهمية التزام أطراف الحوار بهذه الآداب والضوابط.
الدعوة والحوار
يؤكد فضيلته في البداية أن الحوار موجود بين الناس ولا ينحصر في مؤسسة بعينها أو مركز بعينه، بل هو يشمل الحوار ما يجري بين الناس من مناقشات وما بين المتخصصين في موضوعات تهم الجميع، كذلك الحوار يكون في الدعوة إلى الله، فعندما يلتقي الداعية بالمدعو خاصة إذا كان عنده فكر معين مخالف للعقائد أو في العبادات أو في الأخلاق، فأنت تحاوره وتناقشه كي يتخلى عما في ذهنه من هذه الأفكار الخاطئة أو المعتقدات الفاسدة.
أما الحوار في أصل اللغة مأخوذ من الفعل حار بمعنى رجع كما قال - تعالى -: {ظن أن لن يحور}، أي ظن أن يرجع إلى الدني ..(1/284)
وقد ذكر الله - جل وعلا - في سورة الكهف قصة المتحاورين اللذين ذكر الله شأنهما ما ذكر: {وكان له ثمرِ فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} [الكهف: 34].
والحوار عند العلماء المتقدمين يسمونه الجدال، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى -: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} [المجادلة: 1]، فسمى ذلك الجدال حوار.
حكم الحوار والمجادلة
وتحدث فضيلة الدكتور سعد الشثري عن حكم الحوار والمجادلة في الإسلام، فذكر عناية العلماء ببيان هذا الحكم وبيان الآداب والضوابط التي يجب أن يكون عليها الحوار والمجادلة وجعلوا لذلك فصولا خاصة في كتبهم عن الجدل وآدابه. وكذلك ألف طائفة من أهل العلم مؤلفات مستقلة في فن الجدل والحوار تحت مسمى الجدل على طريقة الفقهاء..
وقد جاءت شريعة الإسلام ببيان مشروعية الحوار والمجادلة وبيان أنهما وسيلة للدعوة إلى الله - جل وعلا - قال - سبحانه -: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. وقال - جل وعلا -: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة: 111]، وهذا فيه مجادلة ومحاورة.
ثم إن الله - عز وجل - قد حكى في كتابه العزيز من المحاورات مع الذين كانوا في عهد النبوة سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المشركين وترد على أفكارهم السيئة: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميمِ (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليمِ} [يس: 78 - 79]، كذلك كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يحاور من في عصره سواء من أصحاب الديانات الأخرى كما في سورة آل عمران التي ذكر الله - سبحانه وتعالى - فيها محاورة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع نصارى أهل نجران وكما في عدد من السور التي فيها بيان بعدد من المحاورات مع المنافقين وغيرهم.(1/285)
ولم يقتصر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - على محاورة أصحاب الديانات الأخرى، بل قد حاور أيضا بعض أهل الإسلام، الذين كانوا يسألون عن بعض الأمور التي تشكل عليهم مثل الرجل الذي جاءه يسأله أن يأذن له بالزنا، ناقشه الرسول وحاوره وبين له حتى أبعد الشبهة التي وردت على خاطره ونفسه.
وبعد وفاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - استمر أصحابه - رضي الله عنهم - على منهجه، فبدأوا يحاورون أصحاب الديانات الأخرى.. حاوروا الروم والفرس فدخل عدد كبير منهم - بالحكمة والأسلوب المقنع - في الإسلام، وحاوروا أصحاب الفرق التي عندها شيء من البدع والضلالات، ومن ذلك محاورة ابن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج عندما خرج آلاف منهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فناقشهم ابن عباس وحاورهم وكشف شبههم حتى عادوا إلى سبيل الحق وطاعة أمير المؤمنين، وما زالت الأمة تنتهج هذا الأسلوب من المحاورات والمناقشات والمجادلات الفقهية حتى يتمكن العلماء من الوصول إلى الحق وبيان حكم الله - عز وجل - فيما يرد عليهم من المسائل والحوادث.
النهي عن الجدال والمراء
وبين فضيلة الدكتور الشثري موقف الإسلام من الجدال والحوار فيقول: إن بعض النصوص قد نهت عن شيء من الجدال والمراء، ومن ذلك ما ورد في الحديث النبوي من قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا)، وفي الحديث الآخر أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: (ما أضل الله قوما بعد إذ هداهم إلا أوتوا الجدل)، ثم تلا قوله - جل وعلا -: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قومِ خصمون}.
فما هو الفاصل بين ما يكون جدالا مشروعا محمودا مرغبا فيه من الشرع، وبين ما يكون مراء محذورا ممنوعا في الشرع؟(1/286)
نقول: إن الذي يلازم آداب الحوار والجدل ويراعي الأحكام الشرعية المتعلقة به يكون فعله محمودا ومرغبا فيه ومثابا عليه، ومن لم يكن كذلك ولم يراعي الآداب الشرعية وأحكام الحوار فإنه يكون مذموما ولهذا ينبغي أن يعرف الذين يريدون الحوار والجدال ما هي آداب هذا الحوار.
انتشار الحوار وأهميته في هذا العصر
إن الحوار في عصرنا الحاضر بدأ ينتشر وبدأت تستجد له وسائل لم تكن موجودة في السابق، وهذا يجعلنا نؤكد على التزام الآداب الشرعية للحوار، ففي عصرنا نجد من وسائل الحوار الصحف المطبوعة والقنوات الفضائية التي امتلأت بالمحاورات والمناقشات والمناظرات وكذلك ما يبث في الإذاعات ومواقع الإنترنت وغير ذلك.
كذلك نجد هذه الحوارات والمناقشات في المجالس العلمية والمنتديات الثقافية والمجالس والمجامع العلمية نجد أعمالها مبنية على المناقشة والحوار وكل من يشارك في هذا الحوار يبين ما يراه ويقدم دليله للوصول إلى الحق.. فلا بد من جعل الحوار في هذه الوسائل جميعا مبنيا على الضوابط الشرعية حتى يكون هذا الحوار على وفق شريعة الله وحتى يكون مفيدا وموصلا للحق.
الوصول للحق أولا
ويشير فضيلته إلى أن أول ضوابط الحوار هي إحسان النية والقصد بأن ينوي المتحاورون الوصول للحق والتقرب إلى الله - جل وعلا -، فنحن ندعو إلى الله بالحوار من أجل أن نحصل على الثواب الأخروي وأن ننال رضا ربنا -جل وعلا-, وفي إحسان النية والقصد أجر عظيم وثواب جزيل، فالأعمال يثاب عليها بقدر النيات.
والدليل على وجوب إحسان القصد والنية في مثل هذه المناظرات والمحاورات قوله - جل وعلا -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [النساء: 114].
الصدق والعلم من مستلزمات الحوار(1/287)
ومن آداب الحوار في شريعة الإسلام، الحرص على الصدق، فلا يدعو الإنسان إلا إلى مبدأ يصدق فيه ولا يستدل إلا بدليل يكون صادقا فيه، فالكذب خلق مذموم جاءت الشريعة بالنهي عنه، والصدق خلق فاضل جاءت الشريعة بالأمر به، وكما جاء في سنن الترمذي أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة). فلنحرص في محاوراتنا ومناقشاتنا أن نكون صادقين متحرين للصدق، فلا نتكلم بأمر نعلم أنه مخالف للحق والواقع.
العلم العلم
ومن آداب الشريعة في الحوار، ألا يتكلم الإنسان إلا بعلم، فلا يقول بشيء إلا وهو يعلمه ويعلم مستنده ويعرف دليله، قال - سبحانه -: {ولا تقف ما ليس لك به علمِ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} [الإسراء: 36]، خصوصا إذا كان ذلك يتعلق بشرع الله ودينه، فمن أعظم الذنوب وأكبرها أن تنسب إلى الله من القول والحكم ما لم يقله أو يحكم به {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا}، فليحذر الإنسان أن ينسب إلى شرع الله ما ليس من شرع الله.. ولما ذكر الله - عز وجل - المحرمات قال - سبحانه -: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].
فليحذر الإنسان من الوساوس التي يلقي بها الشيطان في نفسه فيجادل بها ويتكلم بها ويحاور من أجلها، قال - تعالى -: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].
عدم التعدي على مسلمات الدين(1/288)
ويؤكد فضيلة الدكتور الشثري أن من أعظم الذنوب وكبائرها ما تفعله بعض وسائل الإعلام من صحف وغيرها من نشر مقالات لأناس لا ينتسبون إلى علم شرعي ينكرون فيه شيئا من مبادئ الشرع أو شيئا من الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة، فمن آداب الحوار في الإسلام عدم التعدي على مسلمات الشرع وثوابت الدين، فيجب علينا أن نقف ضد من يمس هذه المسلمات سواء بالنشر في المطبوعات أو البث في القنوات، وأن نتقرب إلى الله - جل وعلا - بإنكار هذا التعدي على الثوابت والمسلمات.
وقد تواترت النصوص من القرآن والسنة بالأمر بالتزام ما جاء في الشرع وعدم مخالفة ما جاء في الكتاب والسنة {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} [آل عمران: 32]. وقال - سبحانه -: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36].
فإذا وقع بيننا خلاف في مسألة نتحاور فيها فإن الواجب علينا أن نرجع إلى الأدلة الشرعية كتابا وسنة {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرِ وأحسن تأويلا} [النساء: 59].
فيجب أن نرد النزاع إذا حدث حول موضوع ما إلى الأدلة الشرعية، فهي الحاكمة على ما بيننا من الحوادث، هذا هو شأن أهل الإيمان، وأما غيرهم فإنهم لا يحكمون هذين الأصلين العظيمين.
التواضع سمة المتحاورين
ويؤكد الدكتور الشثري أن من لوازم وآداب الحوار أن يتواضع أطراف الحوار فيما بينهم بحيث لا يتكبر بعضهم على بعض ولا يتعالى كل واحد بمكانته أو علمه ولا يحتقر ما عند الآخر، فهذا ليس من مصلحة الحوار وليس من مبادئ الإسلام، فإن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن التكبر في كل حال فقال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر) ثم فسر الكِبر بأنه بطر الحق (يعني جحد الحق) وغمط الناس يعني احتقارهم.(1/289)
ومن الأمور التي جاء الشرع للالتزام بها عند الحوار والجدال عدم الاعتداء على الآخرين بالكلام السيئ، فالمخاطبة لا بد أن تكون بالأسلوب الحسن والكلام الطيب الهين اللين {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53].
ومن الوصايا الإلهية للسابقين: {وقولوا للناس حسنا}
والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - بين أن الكلمة الطيبة صدقة فليحرص الإنسان أن يكون كلامه وحواره وجدله بالكلام الطيب الذي تقبله النفوس خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بالدعوة إلى الله جل وعل.
العدل مع الطرف الآخر
ومن آداب الحوار أيضا ألا نكون في حوارنا ومجادلتنا ممن يعينون على الظلم أو يعين الظالمين فيجب أن يكون المقصود من الحوار إيصال الحق إلى الخلق وترغيب الناس في التزام شرع الله وطاعته حتى نكون بذلك ممن يثاب على عمله بالأجر والثواب، فالمحاورة والمجادلة لا تكون في نصرة الظلم والظالمين، بل ينبغي أن نجعلها في سبيل نشر الحق والعدل بين الناس.
فيلتزم المتحاورون جانب العدل فلا يظلموا من يتحاور معهم سواء كان هذا الظلم عن طريق مقال أو خبر أو حديث في إذاعة أو تلفاز أو غير ذلك، فالعدل واجب مع من يخاصمنا ويحاورنا وفي كل حياتنا .ومن آداب الحوار أن يحب كل طرف الآخر ويتمنى أن يكون الوصول للحق على يديه، فالوصول إلى الحق هو الهدف بصرف النظر على يد من يكون بلوغ الحق..
http://www.aldaawah.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/290)
أدب الحوار
اسمع مخاطبة الجليس ولا تكن *** عجلاً بنطقك قبلما تتفهم
لم تعط مع أذنيك نطقاً واحداً *** إلا لتسمع ضعف ما تتكلم
قرأت هذين البيتين لصفي الدين الحليّ مرات عدة حتى لكأنني أقرؤهما للمرة الأولى في كل مرة حيث يحويان آداباً وفنوناً قلماً ننتبه إليها أو نلقي لها بالاً..
كيف تكون متحدثاً لبقاً؟ ومستمعاً مثالياً؟ نعم فنحن نفتقد لمثل هذه المهارات السلوكية التي تجعلنا أناساً نرقى بأنفسنا عن سفاسف الأمور.. فمهارة الاستماع إحدى أهم الوسائل التي تعيننا على تفهم الأمور ووضوحها وقليل من الناس من تراهم يفسحون المجال لمحدثهم حتى يوضح وجهة نظره كاملة.
إن تحري الحقيقة والصواب هو الغرض الأساسي من المناقشات والحوارات في مختلف مجالات الحياة، وهذا الغرض هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الحوارات الزوجية التي تبدأ عادة بالصراخ وتنتهي بكومة من الاتهامات التي يكيلها الطرفان لبعضهما، وحري بنا كوننا فئة أخذت قسطاً لا بأس به من التعليم وتحيطنا مجموعة لا يستهان بها من الكتب التي تنمي مداركنا وتوسع آفاقنا لفهم مثل هذه الأمور التي لا تخفى عن عامة الناس.
وبهذه الطريقة نلغي الكثير والكثير من الخلاف في وجهات النظر وبالتالي نرى الأمور على حقيقتها وأقولها صراحة إن الحياة لا تستحق أن نعيشها بين تهم ومرافعات وخصومات لا نجني من ورائها سوى ما يعكّر صفو حياتنا، وما الحياة إلا أيام.(1/291)
فلننظر إلى الجانب المضيء منها ولنغفل جانبها المظلم.. كن مستمعاً جيداً افهم محدثك حاوره بدون استخدام أي لهجة اتهامية تجد نفسك سعيد النفس راضي القلب، فسعادة الإنسان جميع مقاديرها بيده، ولا يعني وجود من يخالفك أنك إنسان فاشل بل على العكس لا بد أن تأخذ بحسبانك أن رضا الناس غاية لا تدرك..وفي الختام أقول: " لو كان كل شيء سهلاً ولا صخور نتسلقها في حياتنا، ولا عقبات نفوز عليها، ولا مشكلات عقلية نحلّها ولا غوامض نكتشفها، فإن الحياة تكون بليدة وبلا قيمة على الإطلاق.
http://www.damasmed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/292)
الحوار اللفظي في البيت النبوي
براء زهير العبيدي
إن حوارات النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع أهل بيته، فيها من العناوين الشيء الكثير ليستفيد منه البيت المسلم، ومن أراد أن يتعلم الحوار العائلي، فما عليه إلا أن يقتفي خطوات سيد الخلق في حواراته مع أهل بيته، فإن في كل نموذج حواري مدرسة يتعلم منه الحوار الراقي، في كل الحالات؛ حالة الجد واللعب، حالة الرضى والغضب، وفي حالة حوار كبيرة السن و صغيرة السن ....، إلى ما هنالك من عناوين حاولت جمعها وتسليط الضوء عليها.
وقسمت الحوارات إلى عنوانين رئيسيين (الحوار اللفظي) و (الحوار غير اللفظي)
ونقصد بالحوار اللفظي: الحوار الذي جرى بين النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وأهل بيته من خلال الكلام، والحوار غير اللفظي: الحوار الذي جرى من خلال الحركات أو التعابير غير الكلامية كالإشارة واللمسة والنظرة وهزة الرأس و..، وأدرجت تحتهما عناوين فرعية حسب طبيعة الحوار، وفي ذلك إثراء لمادة السيرة النبوية وإعطاء نصوصها بعدا تحليليا أكبر من كونها قصصا تاريخية.
ومن معاني القدوة في النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في جميع شؤون الحياة، أن نسلط الضوء على جانب الحوار مع زوجاته ونستفيد من هذه النصوص العبر والعظات.
ونبدأ هذه الحوارات بالعنوان الأول.
أ -الحوار اللفظي:
قبل أن أبدأ بالعنوان الأول في الحوار اللفظي مع السيدة خديجة، فإنه لا بد من هذه المقدمة حتى نعلم أوصاف هذه الزوجة، و حياتها مع المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - -.
خديجة رضي الله عنها:
جاء في وصفها - رضي الله عنها - أنها ما زالت تعظم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها.
قال ابن حجر - رحمه الله -: (ومن مزايا خديجة أنها ما زالت تعظم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها) الإصابة جـ7ص603.(1/293)
قال ابن حجر - رحمه الله -: (كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها) فتح الباري جـ7ص138.
قال ابن حجر - رحمه الله -: (صدقته - - صلى الله عليه وسلم - - في أول وهلة، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها، ووفور عقلها، وصحة عزمها) فتح الباري جـ7ص134
قال ابن هشام: (آمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاء من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن نبيه - - صلى الله عليه وسلم - -، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، - رحمها الله - تعالى -) السيرة النبوية لابن هشام جـ2ص224.
إن العنوان العريض بعد هذه المقدمة التعريفية بالسيدة خديجة - رضي الله عنها -، أنها كانت الداعم الأول منذ اللحظة الأولى للوحي، ومن ثم هموم الدعوة الإسلامية التي كان يعاني بها من قومه - - صلى الله عليه وسلم - -، فحوارها كان فيه الدعم النفسي المعنوي والمادي، فهي لم تكتفي أن بشرته بكلماتها بل ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وهي لم تواسيه في تخفيف أذى الناس فحسب، بل وضعت كل إمكانياتها المادية في خدمة الدعوة إلى الله - عز وجل -، ومن هنا لا نعجب إن كان - - صلى الله عليه وسلم - - كثير الحوار معها بعد رجوعه من معاناة أذى الناس له في سبيل الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى-، كما ورد (لايسمع شيئا مما يكره من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها...........) و من هنا كان عنوان الحوار الأول مع السيدة الأولى هو:
1- الحوار الزوجي الداعم نفسيا و ماديا:(1/294)
ومعروف حوارها في تثبيت قلبه أثناء الوحي (... حيث رجع - - صلى الله عليه وسلم - - يرجف فؤاده فدخل على خديجة - رضي الله عنها - فقال زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، و تصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل..........) رواه البخاري.
روى الفاكهي في كتاب مكة عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة، فأذن له، وبعث بعده جارية يقال لها نبعة، فقال لها: انظري ما تقول له خديجة. قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة، فخرجت إلى الباب، فأخذت بيده، فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي يبعثك لي. قالت: فقال لها: (والله لئن كنت أنا هو، قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا). فتح الباري جـ7ص134.
وفكرت السيدة خديجة - رضي الله عنها - بعقلها الرشيد ورأيها السديد أن تختبر جبريل - عليه السلام - لتتأكد من حقيقته، فقالت للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -:(1/295)
(يا ابن عم: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل، فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (يا خديجة هذا جبريل قد جاءني)، فقالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: (نعم)، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: (نعم) قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: (نعم)، فحسرت فألقت خمارها، ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: (لا)، قالت: يا ابن عم اثبت وأبشر، فوالله إنه ملك، ما هذا بشيطان) السيرة النبوية لابن هشام جـ1ص223.
وما فعلته السيدة خديجة - رضي الله عنها - يدل على شدة ذكائها وبعد نظرها، وحرصها على تسكين النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وتبشيره وتثبيته، لأن الملك غادر المكان عندما كشفت رأسها وأدركت أن هذا التصرف لا يتصرفه شيطان، بل هو ملك من الملائكة.
وهذا ما جعل لفقدها فراغا في قلب المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - -؛ قال ابن إسحاق: (فتتابعت على رسول الله المصائب بهلاك خديجة وكانت وزير صدق على الإسلام) السيرة النبوية لابن هشام جـ2ص57.
وبقيت ذكرى خديجة عالقة في قلبه الشريف، لا تفارقه، كأنها أصبحت جزءا منه، لا تكاد تنفصل عنه، حتى قالت له السيدة عائشة: (كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) رواه البخاري.
2-الحوار الترفيهي:
عن عائشة قالت: (دخل علي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يوما وأنا ألعب بالبنات فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان، فضحك) الطبقات لابن سعد ص60.(1/296)
وكان - - صلى الله عليه وسلم - - يقدر لها حداثة سنها وحاجتها إلى اللعب وكان يسرب إليها صواحب يلاعبنها، وكان يمكنها أن تضع رأسها على كتفه الشريف وهي خلفه مستترة به، لتنظر إلى الأحباش يلعبون بحرابهم في المسجد، قالت السيدة عائشة: وكان يوم عيد، يلعب فيه السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وإما قال: (تشتهين تنظرين؟ ) فقلت: نعم فأقامني وراءه، خدي على خده، و هو يقول: (دونكم يا بني أرفدة) حتى إذا مللت قال: (حسبك). (رواه البخاري).
ومن لطفه - - صلى الله عليه وسلم - - بهن أنه كان يمازحهن ويضاحكهن، قالت: عائشة: أتيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلين أو لألطخن وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الحريرة فطليت وجهها، فضحك النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فوضع يده لها وقال لها: (ألطخي وجهها) ففعلت، فضحك النبي - - صلى الله عليه وسلم - -، فمر عمر، فقال: يا عبد الله، يا عبد الله، فظن أنه سيدخل، فقال: (قوما فاغسلا وجوهكما، قالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -. (رواه أبو يعلى).
ويسمر معهن مستمعا إلى أحاديثهن، وحفظت لنا كتب السنة شيئا من هذا السمر الشائق، فانظر مثلا إلى تحديث السيدة عائشة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حديث أم زرع، وقول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لها بعده: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك).(1/297)
وملخص حديث أبي زرع: أن إحدى عشر امرأة تعاهدن على ألا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن ولما جاء دور الحادية عشر أم زرع مدحت زوجها أبا زرع مدحا فاق كل ما سبقه ولما طلقها أبو زرع وتزوجت آخر كريم عدت محاسنه وكرم أخلاقه ولم تنس الثناء على أبي زرع فقالت: لو جمع ذلك كله ما ملأ أصغر وعاء لأبي زرع. فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لعائشة: (يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع) وفي رواية (ألا إنه طلقها وأنني لم أطلقك) (البخاري) وزاد (النسائي) قالت عائشة: (بل أنت خير من أبي زرع).
وهذه أمُّنا سودة بنت زمعة فقد اشتهر عنها أنها كانت تضحك النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حديثها، قالت سودة بنت زمعة لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: صليت خلفك البارحة فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطر الدم. قال فضحك. وكانت تضحكه الأحيان بالشيء.
(الطبقات لابن سعد)
- الحوار الديني:
عائشة بنت أبي بكر:
سألت عائشة النبي عن قوله - تعالى -:
(والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)
فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله - تعالى -.؟
قال: (لا... ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله - تعالى - أن لا يتقبل منه). (رواه أحمد)
حفصة بنت عمر:
عن جابر بن عبد الله أنه قال: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله! فانتهرها، فقالت حفصة (وإن منكم إلا واردها)، فقال النبي - عليه السلام -: قد قال الله - تعالى -: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) (رواه مسلم).
جويرية بنت الحارث:(1/298)
عن جويرية أنها قالت: أتى علي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأنا أسبح غدوة ثم انطلق لحاجته، ثم رجع قريبا من نصف النهار وأنا أسبح، فقال: (ما زلت قاعدة؟ قلت نعم.. فقال: (ألا أعلمك كلمات لو عدلت بهن أو لو وزن بهن- وزنتهن وهو سبحان الله عدد خلقه ثلاث مرات سبحان الله زنة عرشه ثلاث مرات، سبحان الله مداد كلماته ثلاث مرات) (رواه مسلم).
عن جويرية بنت الحارث أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟
قالت: لا.
قال: أتريدين أن تصومي غدا؟
قالت: لا.
قال: فأفطري إذا. (رواه البخاري).
زينب بنت جحش:
عن زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - محمرا وجهه وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق، قالت: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) (متفق عليه).
4- الحوار العاطفي:
عن فاطمة الخزاعية قالت: سمعت عائشة تقول يوما: دخل علي يوما رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة. فقلت: وما تشبع من أم سلمة؟ قالت: فتبسم فقلت: يا رسول الله ألا تخبرني عنك لو أنك نزلت بعدوتين إحداهما لم ترع والأخرى قد رعيت أيهما كنت ترعى؟ قال: التي لم ترع. قلت: فأنا ليس كأحد من نسائك، كل امرأة من نسائك قد كانت عند رجل غيري. قالت فتبسم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -. (الطبقات لابن سعد) ص80
وها هي تريد أن تتعرف على مكانتها في قلب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالقول الصريح فتسأله: كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل، وتقول السيدة عائشة: كنت أقول كيف عقدة الحبل يا رسول الله؟ فيقول على حالها.(1/299)
وهذا إن كان يرضيها فلا يكفيها، بل تريد أن تطمئن على جوارها للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الآخرة أيضا فتسأله: من أزواجك في الجنة؟ فيقول لها النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: أنت منهن. (البخاري ومسلم)
وقد كانت تفتخر بهذا وتدل أحيانا به إدلال الحبيب أمام النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فتقول له: أرأيت لو نزلت واديا، وفيه شجرة قد أكل منها، وجدت شجرا لم يأكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: (في الذي لم يرتع منها). )رواه البخاري
5- الحوار في حالة الغضب:
إن من السمو النبوي في الحوار أن تجد حوار النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع عائشة في حال الغضب والرضا متشابها وإليكم النص:
عن عائشة قالت: كان رسول الله إذا غضب على عائشة وضع يده على منكبها فقال: (اللهم اغفر لها ذنبها وأذهب غيظ قلبها وأعذها من مضلات الفتن) الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين ص 80.
6- الحوار في حالة الرضا:
عن عائشة قالت: لما رأيت رسول الله طيب النفس. قلت: يا رسول الله ادع لي، قال: (اللهم اغفر ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت). فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها، فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - (أيسرك دعائي؟).
فقالت: (وما لي لا يسرني دعاؤك).
فقال: (والله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة) رواه البزار بإسناد صحيح.
عندما نقرأ هذين الحديثين وتشابههما في دعائه - - صلى الله عليه وسلم - - لها لا يسعنا إلا أن نقول (وإنك لعلى خلق عظيم)، ولن يجد القارىء فرقا بينهما، أما السيدة عائشة فكان النبي يعرف متى تكون راضية عنه ومتى تكون غضبى، فقط من خلال حديثها معه وأسلوبها، فلاحظ الفرق!!!.(1/300)
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى) قلت: كيف يا رسول الله؟ قال: (إذا كنت عني راضية، قلت لا ورب محمد. وإذا كنت علي غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم) قالت: أجل والله ما أهجر إلى اسمك. (البخاري ومسلم).
أيضا هنا رقي في الحوار (ما أهجر إلا اسمك).
7- الحوار في حل الخلافات العائلية:
عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأنا أبكي.
فقال: ما يبكيكي؟
فقلت: سبتني فاطمة.
فدعا فاطمة فقال: يا فاطمة! سببت عائشة؟ فقالت: نعم! يا رسول الله.
فقال: ألست تحبين من أحب؟ قالت: نعم!.
قال: وتبغضين من أبغض؟ قالت: بلى!
قال: فإني أحب عائشة، فأحبيها.
قالت فاطمة: لا أقول لعائشة شيئا يؤذيها أبدا (رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح).
عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبوبكر على النبي فسمع صوت عائشة عالياً، وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي! فأهوى إليها أبوبكر ليلطمها، وقال: يا ابنة فلانة، أراك ترفعين صوتك على رسول الله! فأمسكه رسول الله وخرج أبوبكر مغضباً، فقال رسول الله: (ياعائشة كيف رأيت أنقذتك من الرجل)، ثم استأذن أبوبكر بعد ذلك، وقد اصطلح رسول الله وعائشة، فقال: أدخلاني في السلم، كما أدخلتماني في الحرب، فقال رسول الله: (قد فعلنا). (رواه النسائي).
عن حبيب بن أبي ثابت قال: كان بين علي وفاطمة كلام، فدخل رسول لله فألقى له مثالا فاضطجع عليه، فجاءت فاضطجعت من جانب، وجاء علي فاضطجع من جانب فأخذ رسول الله بيد علي فوضعها على سرته وأخذ بيد فاطمة فوضعها على سرته ولم يزل حتى أصلح بينهما، ثم خرج. قال فقيل له: دخلت وأنت في حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك. فقال: وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي. (الطبقات لابن سعد ص26).
8- الحوار في حالة الغيرة:(1/301)
كانت السيدة عائشة تغير عليه من فرط حبها له. ومن ذلك أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خرج من عندها ليلا، قالت: فغرت عليه، قالت: فجاء فرأى ما أصنع فقال: ما لك يا عائشة؟ أغرت؟ فقالت: فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك. فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أفأخذك شيطانك، قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: نعم. قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم. ولكن ربي - عز وجل - أعانني عليه حتى أسلم (فقه سيرة نساء النبي ص59).
9- الحوار الأخلاقي السلوكي:
عن عائشة - رضي الله عنها - أن يهودا أتوا النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقالوا: (السآم عليكم)، فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم، قال: (مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش) قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: (أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ) (رواه البخاري).
ويؤيد هذا المعنى من الرفق المقصود منه اتقاء الشر حديث آخر، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره). (رواه البخاري).
10- الحوار التوجيهي نحو الأفضل:
علي و فاطمة بنت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -:
عن علي - رضي الله عنه - أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه، وما تلقى من يدها في الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة. قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال: على مكانكما. فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم. (رواه البخاري ومسلم).
وفي رواية أخرى:(1/302)
قال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت (استقييت الماء) قد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتياه جميعا فقال علي: والله يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي وقد أتى الله بسبي وسعة فأخدمنا. قال: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم. فرجعا فأتاهما النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا فقال: مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى، فقال كلمات علمنيهن جبريل، تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين. قال: والله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله. (الطبقات لابن سعد ص25)
ميمونة بنت الحارث:
عن كريب مولى ابن عباس: أن ميمونة بنت الحارث أخبرته أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أوفعلت؟ قالت: نعم. قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك. (البخاري ومسلم).
11-الحوار النفسي:
عائشة بنت أبي بكر:(1/303)
عن عائشة قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعله فوضعه عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: ما لك يا عائش حشيا رابية؟! قلت: لا شيء قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله! قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم. قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون. (رواه مسلم)
وفي حديث الإفك الطويل (... فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، وإنما يدخل علي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم؟ ) ثم ينصرف، فذلك الذي يريبني ولا أشعر...). (رواه البخاري).(1/304)
فالريب الذي ورد في نفس السيدة عائشة أنها لا تجد اللطف الذي تعرفه من النبي - - صلى الله عليه وسلم - -، وكان بالنسبة لها كافيا حتى يداخلها الريب، ويحدث عندها هذا الحوار النفسي رغم عدم معرفتها ما الحدث.
ميمونة بنت الحارث:
عن ميمونة قالت: خرج رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ذات ليلة من عندي فأغلقت دونه الباب فجاء يستفتح الباب فأبيت أن أفتح له فقال: أقسمت إلا فتحته لي. فقلت له: تذهب إلى أزواج في ليلتي هذه. قال: ما فعلت ولكن وجدت حقنا من بولي. (الطبقات لابن سعد 138).
والحمد لله رب العالمين.
http://www.almutawa.info المصدر:
ـــــــــــــــ(1/305)
الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآنيّ، فهذا حِوار الله - سبحانه - مع ملائكته... (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء)[البقرة: 30].
وحوار الله مع البشر منها: يحاور رسله (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)[المائدة: 116]؛ بل حتى مع الكافرين (قال ربّ لِم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) [طه: 126، 125].
بل حتى حوار الله -جل جلاله- مع إبليس (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) [الأعراف: 12].
والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم (قالت رسلهم أفي الله شكٌّ فاطر السماوات والأرض) [إبراهيم: 10].
وتأمل حوار إبراهيم - عليه السلام - مع مُدّعي الربوبية (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربِّيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)[البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مُدّعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن، وكذلك بقية الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- إذ يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شُبُهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع امرأة (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوُركما إن الله سميع بصير)[المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار؛ فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(1).
ثانياً: آداب الحوار:(1/306)
1-حُسْنُ القصد من الحوار، حيث يبين أهم أهداف الحوار في الإسلام فيما يلي:
أ- الدعوة إلى الإسلام، وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف وأعظم حقيقة وهي الحكمة من خلق البشر (وما خَلَقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]، ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة (فمن اتبع هُداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124، 123].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه، وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يُراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لإفادة أنفسنا فحسب؛ بل لإفادة الأمم الأخرى أيضاً لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة، وعليها واجب الإبلاغ (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110]
ب- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض، وهي الخلافة وعمارة الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة: 30](2).
ج-تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة، والتعاون على الخير
(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) [المائدة: 2].
2-التواضع والرفق واللين؛ فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآنُ؛ فقد أمر الله به موسى - عليه السلام - وهو نبيه وكليمه عند مخاطبة فرعون وقد طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية؛ فقال - سبحانه -: (فقولا له قولاً ليناً لعلّه يتذكر أو يخشى) [طه: 44].(1/307)
فنحن نحمل أعظم رسالة وأعلى مضمون، ويجب أن تكون الوسيلة كذلك، وقد قال - سبحانه -: (ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125]. فثقافة الحوار تتطلب احترام حق الآخرين في الحوار والدفاع عن اجتهاداتهم؛ ولنتأمل قول المولى - سبحانه - (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين) [سبأ: 24] مع أنه الوحي المنزل والمخاطب النبي المرسل.
وفي أدب حواري رفيع تأتي الآية التي بعدها (قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) [سبأ: 25].
فيها بيان المسؤولية الفردية في الاختيار وعدم الوصاية، وهي كقوله - سبحانه - (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل) [الزمر: 41]، ثم قال في الآية الأخيرة بعدم الجزم مبينة أن الحكم لله (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتّاح العليم) [سبأ: 26].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعِرْق كما قال اليهود (نحن أبناء الله وأحباؤه) [المائدة: 18]، أو لون كما يدّعي العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس؛ وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ، ومقرره وجود الاختلاف، ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات: 13].
وهذا الاختلاف من آياته - سبحانه - (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات..) [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلهية ويجب التعايش معه (3).(1/308)
هذا هو الحوار والاختلاف في الإسلام، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح؟! إن ذلك يفقد ثقتنا بهذا الحوار.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جداً ليحقق الحوار أهدافه(4).
إن الحوار لا يحقق أهدافه مع الاحتلال في العراق والقصف في أفغانستان والمجازر المستمرة في فلسطين!
أيّ حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين؟!
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية؛ لتكريس الظلم، ولتحقيق مصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسية ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال؟! (5)
إن الغرب مطلوب منه قبل الحديث عن الحوار ونشر الديمقراطية (والشرق الأوسط الجديد) -إن كان يريد خيراً بالآخرين- أن يخفف الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة، وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر. وفرض الإملاءات عليها ويجب مساعدة البلدان التي خربتها الحروب؛ كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع؛ بل يجب أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح! ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والمشوه لديننا وثقافتنا!
ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا؛ فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشر.
----------------------------------------
1- انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات- غير منشور، مكتبه الملك عبد العزيز، الرياض / السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.(1/309)
2- انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص (11-12). بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423 غير مطبوع.
3- انظر مجلة المعرفة، العدد 101 شعبان 1424 هـ موضوع قيم الإسلام، الحوار والانفتاح على العالم ص (18-26).
4- انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي. دار النفائس، الطبعة الأولى 1411 هـ.
5- انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423 هـ.
28/4/1425
16/06/2004
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/310)
فتح قنوات الحوار
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين *
لقد شاع استخدام كلمة (الحوار) هذه الأيام في أدبيات الفكر، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والحياة الاجتماعية وغيرها.
إن فتح قنوات الحوار مع الآخرين يطول الحديث فيه، ذلك أن الكلام أو الحوار أحد أساليبِ الإقناع المؤثرة والفعالة، وما أحوجنا -جميعًا- إليه في كل حينٍ من أجل تربية أبنائنا وتوجيههم، ومناقشاتنا لغيرنا في بساطةٍ وهدوءٍ ووضوحٍ، لا سيما في أزمنتنِا المعاصرة؛ حيث كثرت الحوارات البعيدة عن المنهج الشرعي والآداب العامة.
إننا إذا أردنا أن يكون حوارنا فعالاً داخل الإطار الإسلامي بدءًا من المنزل ومرورًا بالمدرسة والمسجد والجامعة ومحيط العمل وانتهاءً بالأمة؛ فلا بد من ممارسة حوار متناغم يَشِي بوجود مراجعة دائمة وتسامحٍ عملي وتفاعلٍ إيجابي حتى يثمر نتائج محددة.
إن المتأملَ في حال بعضِ المتحاورِين في مسائِلِ العلمِ أو الدِّينِ أو القضايا العامة أو الاجتماعية وغيرها، يُخيّلُ إليه أنهم يتقاتلون لا أنهم يتحاورون ويتجادلون ويتناقشون، وأن الذي في أَيْمَانِهِم ليس قَلَمًا يَقْطُرُ مِداداً بل سيفاً يقطر دماً. وكان الأولى أن يَغلبَ الجو العلمي بهدوئِه ورزانتِهِ على الجو الانفعالي بشدته وطيشه، ولكنَّ هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بأدب الحوار والموضوعية والجدالِ بالتي هي أحسن، والابتعادِ عن العناد والمكابرة، إذ الإسلامُ يدعو إلى الحوارِ والمجادلةِ بالتي هي أحسن من أجل الوصولِ إلى الحقِ.
وكذا الوقوفِ على أحاديث النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وسيرته الجامعة في حواراته لا حصرَ لها، سواء بينه وبين المشركين، أو بينه وبين المنافقين، أو بينه وبين المسلمين، وسواء بينه وبين كبار الصحابة، أو بينه وبين صغارهم، أو الجهلة من البادية.(1/311)
وأنوه على أن الحوار مع الآخرين، وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي للوصول إلى قناعات معينة، أو صيغ مشتركة للتفاهم والتعاون، هو مطلب إسلامي، وإحدى وسائل الدعوة إلى الله - تعالى -، إذا توافرت للحوار شروطه، من إتاحة الفرص المتكافئة، وتحرير موضوع الحوار، والالتزام بآدابه وأخلاقه(1)، انطلاقًا من قوله - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(2).. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "إن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً؛ ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وألا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة، تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها". (3)].
وأشير إلى ما ذكره معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد -رئيس مجلس الشورى- في حديثه عن العنف والإرهاب: "إننا نحتاج إلى فتح أبواب الحوار الصريح الشفاف يقوده علماؤنا في حوار حضاري بنَّاء.. إن العدل في الحوار يتطلب شفافية ومصارحة ومصداقية من جميع الأطراف حتى تصل الأمة جميعها بأبنائها إلى ساحة الأمن الفكري الوسط في التدين والمنهج والخطاب".
ثم تحدث عن فضيلته عن دور المفكرين والمثقفين في أداء رسالتهم الخاصة والمنيرة المتميزة تنبع من انتسابهم للدين ومبادئه. (4)
وأؤكد على "أن الحوار يكون أحيانا- أقوى من الأسلحة العسكرية كلها، لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة". (5)(1/312)
وأحب أن أبين أنه ليس من الضروري أن نعتقد أن نتيجة الحوار لا بد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، ومن ثم التغلب عليه، وأنَّ ما عنده باطل؛ فليس هذا بلازم.
ولربما أقنعتَهُ فهذا جميل، وإذا كنتَ ملتزمًا بكيفية التحاور، وآدابِهِ ومنهجيتِهِ، فأقل شيءٍ أن يعلمَ خصمُك أن لديك حجةً قويةً، وأنك محاورٌ جيدٌ، وأن يأخذَ عنك انطباعًا طيبًا. (6)
أسأل الله - تعالى - التوفيق والسداد، إنه خير موفق ومعين.
----------------------------------------
* عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء
(1) حتى لا تكون فتنة لعمر عبيد حسنة، ص70-71.
(2) سورة النحل.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص404.
(5) المجلة العربية.
(6) أدب الحوار لسلمان بن فهد العودة، ص8
(7) انظر: أدب الحوار، ص18
23/5/1425
11/07/2004
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/313)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار !!
د.سعيد بن ناصر الغامدي *
عناوين فرعية:
- الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي).
- فرق بين من يتخذ الإسلام فرصة لتثبيت كمال الإسلام وبين من ينظر إليه بمنظار غربي أو يقيسه بمقياس بنيوي أو أركوني أو صفوي أو طرقي.
- يجب التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة.
- يحدث الخلل عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية.
- ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية.
- عند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار.
- الغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة.
- المطلوب هو ثقافة سوية(تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث) به، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً).
المتابع لمجريات الحوار الوطني يسمع كثيراً من الثناء والمدح، والتفاؤل وهذا ظاهرة صحية جيدة، لها آثارها الجيدة في تخفيف الاحتقان، وتفريغ الشحنات السلبية، بيد أن من المهم في تقديري - الالتفات إلى جوانب مهمة حتى يؤدي الحوار وما يليه من مشروعات نتائجه الإيجابية المتوخاة، يمكن الإشارة إلى جوانب مهمة، لا أدري هل ذكرت ونوقشت أو وضعت كضوابط ومعايير أم لا:
الجانب الأول: أحسب أن من الأهمية بمكان الاتفاق على معايير أساسية لتقييم الأقوال والأفعال والمواقف والمشروعات وأهم هذه المعايير في نظري أمران:
الأول:
معيار الحرص على حفظ حقيقة الإسلام وصورته - كما هي - من غير إضافات أهل " الإحداث"، ولا انتقاصات أهل " الحداثة" وأحلافهم، ولا تشويهات أهل الغلو، ولا تفلتتات أهل التفريط.
الثاني:(1/314)
الحرص على المصالح العامة للوطن حرصاً ينأى عن كل وسيلة تؤدي إلى ما يفسد هذه المصالح أو يضعفها أو يقللها.
وتحت مظلة هذين المعيارين يمكن أن يتحاور العقلاء والحكماء بعقل وحكمة بعيداً عن تصفية الحسابات وتنفيس الضغائن.
فإن حصل ذلك فسوف نجد البرهان القاطع على جودة عقول المتحاورين وسلامتها من نوازع الشبهات التي تشوه جمال دين الإسلام وروعة عقائده وأصوله وتشريعاته، ونجد البرهان أيضاً على سلامة قلوبهم من الحظوظ الذاتية والأنانية الشخصية أو الفكرية أو الفئوية، مع الإقرار بأن كل طرف من الأطراف له هدفه (السياسي) المعلن أو المضمر، بيد أنه يجب وفق المعيارين السابقين دمج المطالب السياسية الخاصة في التيار المصلحي العام القائم أصلا على الثابتين السابقين.
الجانب الثاني: من المستفيض تاريخياً أنه لن يستقيم السلوك الإنساني حتى يستقم (الفكر) أولاً، فالفكر المنحرف ينبني عليه سلوك منحرف، والتفجيرات دليل ذلك، والفكر المستقيم ينتج سلوكاً مستقيماً.
فإن صح المنطلق الفكري ـ للحوار أو غيره ـ صح العمل والتصرف والإجراء المتخذ والنتائج المتوخاه. فمن تعامل مع الحوار على أساس أنه فرصة لتثبيت حقائق الإسلام وتجلية كلياته وترسيخ أصوله وإظهار كمال عدله وكمال تضمنه مصلحة البشرية، فسيكون سلوكه مغايراً لسلوك من يرى الإسلام بمنظار غربي، أو يقيسه بمقياس (بنيوي) أو (أركوني) أو (صفوي) أو (طرقي).
وقل مثل ذلك عن مصلحة البلد ومنافع الناس.(1/315)
الجانب الثالث: الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي) فإن ذلك - إن حدث - سيؤدي في المستقبل إلى نار ذات (جو حار) وليس إلى (جو حوار) وقد تستفز هذه الأجندة الأغلبية التي ترى أن حقها قد هضم، لصالح آخرين، وقد يفسرون ذلك بأنه هجوم على (منابرهم) و (مناهجهم) واستخفاف (برموزهم وعلمائهم) وغير ذلك من مفردات، تتم ممارستها واقعيا تحت مظلة المتاح من فرص التعبير والحرية، ويخشى أن تتحول من وصفة دواء، إلى جرعة سم، وأن تصبح ملحاً يوضع على الجراح، فيكون الحال كمن أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً، ولا حاجة إلى التنبيه هنا إلى مزايدات متوقّعة تحاول أن تصف هذا التنبيه وأمثاله بالتحجر والخوف والتراجع، والجمود والطائفية والفئوية ومحاكمة النوايا، إلى آخر مفردات الردح المتداولة والمعهودة.
الجانب الرابع: التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة، فإن ذلك - وإن تستر بالمصلحة العامة والموضوعية التامة - سيقود حتماً إلى أزمات أشد ومشكلات أكبر، ومضاعفات، ربما أبشع مما نحن فيه الآن، والمعيار الصحيح لكل عمل صالح نافع هو مراعاة مصالح الأمة وتحصينها وتكثيرها واستدامتها، وليس مراعاة مصالح فئة محدودة أو طائفة معينة، أو الانزلاق إلى مستنقعات ضيّقي الأهداف.(1/316)
الجانب الخامس: يجب أن يدرك الجميع نسبة التوزيع الفكري والعقدي في هذه البلاد، حيث الأغلبية الكبيرة هم أهل السنة والجماعة، وهناك ثلاث طوائف عقدية ذات نسبة ضئيلة، كما أن هناك أفراد قلائل من أصحاب التوجهات الفكرية الحديثة (ليبراليون، بقايا القومية، واليسار، عصرانيون) ومن المعروف أن حقوق الأغلبية في كل مكان في الدنيا غير حقوق الأقليات، ونتاج الاستقراء الموضوعي الفاحص لاضطرا بات البلدان والمشاكل الداخلية فيها يشير إلى أن الخلل يحدث عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية، أو تسعى في النيل من مرتكزات ومنطلقات أكثرية الناس، أو يعلو صوتها الفئوي أو الطائفي وهيمنتها الإعلامية على صوت وحضور الأغلبية.
الجانب السادس: ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية، ولو على المدى البعيد، ويبرهن على استلاب وانخزال واستعارة خطيرة العاقبة.
الجانب السابع: لا يمكن بحال القبول في الحوار بمنطق "الثأر" فالثأر عادة جاهلية، وعند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار.
فعندما تحاول امرأة ما - مثلا - ممارسة شيء ما من السلوك الشخصي (الليبرالي) في أجواء الحوار ومناخاته تحت حجّة مقاومة الكبت، فهي تمارس "الثأر" من عادة اجتماعية ذات أصل ديني.
وقل مثل ذلك في التعاطي مع الأفكار والاتجاهات.
وقد لا تستطيع النية الحسنة أن تطفي نيران (الثأر) المتأججة في الألفاظ والسلوكيات.
ومن خير الحوار وأهله أن يلغي كلية مفهوم الثأر والانتقام لمخالفته للحوار أولاً، ولقدرته الهائلة على تأجيج ثأر مقابل.
الجانب الثامن: من الخطأ العظيم الاعتقاد بأن التخفيف من صيغ التديّن والتضييق على مفاهيم الإسلام وعلومه سبيل إلى مكافحة الإرهاب المستتر بالدين.
فإن هذا المسلك غير سوي ولا ذكي.(1/317)
فالغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة، في التوسط والاعتدال والتسامح والرفق والعدل والأناة وحقوق الإنسان وغيرها، وسوف يخطئ من يظن أن (تخفيفاً) لما يظنه (سمنة) إسلامية في المجتمع سيؤدي إلى استقرار.
لأن هذا المسلك المفتقر (للذكاء) سينشئ الإرهاب إنشاء، ويوقد نيرانه، ويمنح أصحابه الحجة القوية لمزيد من التطرف، ومزيد من العنف والدمار والشتات، تحت ذريعة أن الحوار ودعاته ورعاته إنما تصدو للدين نفسه تشذيباً وتقليصاً من خلال تقليل حظه في الإعلام والتعليم والثقافة، فحقيقة الصراع - حسب هذا المؤدي عندهم - ليس بين فئة معينة ودولة، بل بين الإسلام والدولة، فتعظم الفتنة ويشتد الخطر من حيث أردنا أن ندرأها.
ودرءاً للمقتنصين أقول بأن هذا وصف للحال والمآل وليس تسويغاً للباطل والضلال.
الجانب التاسع: الحذر من المعالجة الانتقائية.
فإذا أريد - مثلاً - معالجة الإرهاب - ثقافياً - فلابد من النظر الشمولي لأسبابه، وعدم قصرها في اتجاه واحد كالمناهج التعليمية التي حاول بعض التيارات تحميلها إثم ما حصل.
فأين الحديث عن " الإعلام" وما ينطوي عليه من ثقافات غير سوية حيث يوجد في إعلاميات عديدة، وبوضوح صارخ أحياناً، تلك المعطيات المتمثلة في: (الثقافة المهملة للدين، والمعادية له، أو المحذرة منه والمخوفة منه) ويوجد ـأحياناًـ (الثقافة المنحرفة باسم الدين، فضلاً عن الحضور القوي لثقافة الضياع والتيه اللهو، وثقافة العنف غير الديني، وثقافة التبعية والهزيمة والاستلاب، وثقافة الاستغراب).(1/318)
ولا يجترئ منصف على إنكار هذه الثقافات الإعلامية وآثارها الخطيرة في إيجاد أجيال هشة، وإيجاد براهين لأهل الغلو يتذرّعون بها لتسويغ غلوهم وعنفهم، وسيجدون من يصغي إليهم في حال قبول الطرح المناوئ للمناهج والسكوت عن الحمولات الهائلة للثقافة الإعلامية المنحازة في الجملة.
ومهما كان إعداد لقاءات الحوار وأعداد المتحاورين وقوة التوصيات، وسرعة الإجراءات فإنها لا تكفي وحدها في معالجة ظاهرة العنف، بل قد تكون في حال الانحياز ضد الصيغ الدينية في المناهج -والسكوت عن الصيغ الأخرى في الإعلام- سبباً في تفاقم المشكلة، أو نشوئها في أزمنة لاحقة بشكل أخطر مما هي عليه الآن.
وأعنى بكل هذا أن الاهتمام بالمعالجة الثقافيّة يستوجب (استراتيجية ثقافية) حقل نشاطها الذهن والتفكير والتصور، بصورة شمولية يمكن معها حل مشكلة (التطرف والتطرف المضاد) في أدوارها الأولى باعتبار أن التفكير والتصور هو الأساس الذي تنبثق منه المشاعر والسلوكيات، ولنا أن نتساءل:
كيف يمكن أن نقنع شاباً بجدوى المقترحات الموجهة نحو السمة الدينية في المناهج وهم يتصورون قصوراً في شمولية أو عمق هذه السمة؟ بل كيف يمكن أن نثبت لهم جودة المقترحات وهم يرون أنها ركزت على جانب ثقافي واحد بل على جزء من هذا الجانب، وأهملت أو تغاضت عن الجوانب الثقافية (الإعلامية خصوصاً) وهي الأكثر حضوراً والأقوى جذباً والأعمق تأثيراً.
فلنتصور أن بعض المفاهيم الإسلامية قلصت حظوظها في الثقافة والتعليم، وشذبت المناهج مما يتصور أنه سبب العنف والغلو، وترك الحال الثقافي في وجهه الإعلامي على ما هو عليه في غلو وتسارع وقوة تأثير، ماذا سيكون الحال عليه بعد عقد أو عقدين من الزمن على أبعد تقدير؟(1/319)
إن النظر العاقل الحصيف ليدرك أن المطلوب هو ثقافة سوية(تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث) به، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) وتحرراً فكرياً منضبط الاتجاه لا فوضوياً مدمراً، ومفاهيم دينية سوية تغسل العقول من لوثاث الغلو الديني والشهواني والأهوائي.
وبهذا تتم المعالجة الثقافية الشاملة التي لا يجرؤ عاقل ذو ضمير وعلم وعدل على إنكار وجوبها وحتمية العناية بها.
الجانب العاشر: التنبه من عمليات الاختطاف: فمع أن إحسان الظن ينبغي أن يكون أساساً ومنطلقاً، إلا أنه في الوقت ذاته يجب الحذر من اختطاف الحوار، وارتهان أجواء الانفتاح، وتوجيهها توجيها منحازاً (طائفياً، أو فكرياً فئوياً، أو سياسياً أو أمنياً) ومما يأسف له كثير من المتابعين تلك الممارسات الإعلامية القائمة على مبدأ اختطاف المشروعات، ومن أدواته:
- التركيز على بعض المشاجرات (الحوارية) في أروقة اللقاء.
- انتقائية المقابلات وانحيازها لمفاهيم فئة مسيطرة على الإعلام أساساً أو لها نصيب كبير منه.
- انحيازية المقالات والتحليلات الإعلامية نحو أفكار واتجاهات ومقاصد فئوية.
- اقتطاع أجزاء من الأبحاث المقدمة وإغفال أجزاء أخرى، بل أحياناً إهمال شبه كامل لأبحاث مخالفة لنسق فئة معينة.
- انتقاء فقرات معينة من التوصيات، وتوسيع حاشيتها، لأنها تخدم أغراضاً معينة لدى فئة محدودة.
- أخيراً بروز اللهجة الخطابية المتوشّحة بالفئوية من البعض في لقاء ولي العهد لاختطاف النتائج والتوصيات وتوجيهها توجيهاً منحازاً، وتكييفها تكييفاً إقصائياً ولَكْم المتحاورين - المتفقين على نتائج محددة - بقفازات الحوار والتفاهم، في (نسق مضمر أصله الهجاء وتفكرته تدمير الخصم عبر تصوير بصورة بشعة.. كتوظيف للقانون الثقافي النسقي قانون الرغبة والرغبة والرهبة) [انظر: كتاب النقد الثقافي د/ عبد الله الغذامي ص 162].(1/320)
إن مفاهيم الابتسار والاختزال والانحياز تشكل بؤرة (افتراق) و(فتنة) طائفية أو فئوية أو حزبية (والفتنة أكبر من القتل) ولا فكاك من ذلك إلا بإقرار فرص شبه متكافئة إعلامياً، ولا أقول فرص بحسب نسب الأغلبية والأقلية؛ لأن ذلك ـ بكل وضوح ـ لن يحدث في ظل هيمنة تيارات معينة على الإعلام، وعجز المقابل -رغم كثرته- عن التوغل.
ومن المهم جداً- تثبيت فرص التعامل الفكري والثقافي وجعلها واضحة سافرة مثل الشمس في جو من الصدق، وعلى قاعدة من العلم والعدل.
----------
* عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
http://saaid.net المصدر :
ـــــــــــــــ(1/321)
البلاغة والتأثير في الحوار الفكري مع الآخر
فايز بن عبد المجيد الغامدي(*)
يُعَدُّ الحوار - بمعناه الواسع - مع الآخر المنتمي لثقافة مختلفة ونائية من أصعب ما يواجه المفكر المسلم من مهام، بل هو من المعضلات الفكرية والبلاغية التي تواجه المفكرين المهتمين بالحوار الفكري بين الثقافات بوجه عام. تنبع هذه الصعوبة من محاولة المفكر المسلم الجمع بين شيئين مختلفين أو متناقضين؛ بين محاولة تقريب المفهومات والأفكار والقيم ودلالاتها السائدة في الثقافة العربية والإسلامية إلى القارئ أو المثقف الغربي والأمريكي، والذي ينتمي إلى ثقافة مختلفة بمفهوماتها الخاصة وأفكارها وقيمها، وهذا لا ينفي وجود قدر مشترك من التشابه - وليس التطابق - في بعض المفهومات والقيم ودلالاتها بين الثقافتين.
إن أحد أكبر العقبات والتحديات التي تواجه هذا النوع من الحوار «عبر الثقافي»، والتي تحدد بشكل كبير مدى تأثيره؛ تكمن في مدى اختراق الخطاب الموجه وانتشاره (الخطاب هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل جميع استخدامات اللغة) في الفضاء المعرفي الذي يملكه الآخر ويحيطه بثقافته ولغته وإيديولوجيته وطريقة تفكيره. إن أي اختراق معرفي ناجح هو بمثابة احتلال مساحة معرفية في فكر الثقافة المتلقية ووعيها، لكن هذا التأثير الخطير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى معرفة الكاتب المفكر بالآخر، ومراعاته لخصوصية القراء الفكرية والثقافية، ومحاولة محاكاة طرائق تفكيرهم قدر الإمكان، مع استخدام الأساليب البلاغية والجدلية المقبولة والمنتشرة في خطابهم الفكري بشقيه التحليلي والنقدي.
وسوف أتناول في هذا المقال - وبإيجاز - بعض الجوانب النظرية والعملية للحوار الفكري مع الآخر الغربي:(1/322)
القسم الأول: أبدأ به مستهلاً ببعض أهم مقومات الخطاب الفكري الغربي المعاصر، والتي منها الاعتماد على الجدل والمنطق الاستنتاجي، ومركزية المفهومات، وأهمية النظرية والتنظير في العلوم الإنسانية، واعتماد بُناها وأنظمتها المعرفية على التحليل والنقد.
أما القسم الثاني: فأناقش فيه بعض القضايا أو الجوانب المتعلقة بكتابة الحوار الفكري، وهي خيارات التأليف والترجمة وإعادة الصياغة.
أما القسم الثالث والأخير: فسوف أركز فيه على بعض المقترحات والحلول العملية والممكنة، والتي أرى أن تجمع بين الاستفادة من الأساليب الفكرية والبلاغية السائدة في الخطاب الفكري الغربي، وبين التفكير والنظرة الاستراتيجية لمستقبل حوار الثقافات الفكري، ومحاولة التقريب بينهما قدر الإمكان.
* أولاً: مقومات الخطاب الفكري الغربي:
إن من أهم ما يميز التفكير الغربي، أو الكتابة الفكرية الغربية: الالتزام بـ «الأسلوب الجدلي» المبني غالباً على «المنطق الاستنتاجي»، وليس المقصود هنا «منطق أرسطو» الاستنتاجي الذي شاع استخدامه في الجدل الفلسفي والبرهان العلمي قديماً، والذي يعتمد على الأقيسة المنطقية الصارمة المبنية على مقدمات قطعية أو يقينة مجردة ولكنها ملزمة، وتؤدي إلى نتائج ملزمة وإن كانت أحياناً غير منطقية، ولكن المقصود هو «الجدل الاستنتاجي» المبني على المقدمات العامة والشائعة أو المقبولة في سياقات خطابها المتعددة، والتي لا تلتزم بشكل معين متكرر دائماً، أو تؤدي إلى نهايات ملزمة كما هو الحال في المنطق الأرسطوي، بل تنطلق من «العام»؛ أي الاستهلال بفكرة أو حجة عامة واضحة تحدد الموضوع المراد طرحه، إلى «الخاص» والمحدَّد، مع دعم الفكرة أو الحجة الرئيسة بالبراهين والأدلة والأمثلة التفصيلية.(1/323)
وهنا تظهر أهمية (المقدمة الفكرية المنطقية العامة) واهتمام القراء الغربيين بها؛ سواء كانت على مستوى الفقرة أو المقال أو الكتاب؛ حيث تعد صياغتها بقوة ووضوح وتسلسل منطقي من أهم عوامل قبول المكتوب والتأثر به. أما بقية النص (الجزء التفصيلي والتحليلي)، فبالإضافة إلى غلبة الأسلوب الاستنتاجي عليه؛ فإنه عادة ما يحافظ أيضاً على مستوىً عال من القوة والوضوح والعمق، والتسلسل والترابط المنطقيين، مع الارتباط بالأفكار والحجج العامة المطروحة في المقدمة. أما الجدل الاستقرائي، والذي تكون فيه الحجة أو الفكرة الرئيسة مرجأة إلى النهاية، ومبنية على الحجج الجانبية أو الأمثلة والأدلة التفصيلية؛ فإنه يستخدم أحياناً في الكتابة الفكرية وبشكل محدود.(1/324)
وتُعَدُّ المفهومات المستقاة من الفكر الغربي ـ وخصوصاً الفلسفة ـ محور حركة الخطاب الفكري عند الغربيين، وهي ما ينظمه ويضبطه، وهي لبنات بناء النظام المعرفي والنظري في العلوم الإنسانية خاصة، ولها خصائص معرفية محددة ترتبط بغيرها من المفهومات في الحقل المعرفي الواحد، وفي المؤسسة العلمية أو الأكاديمية الواحدة، في سياقات ثقافية واجتماعية محددة، ومن ثم فإن لها أبعاداً تاريخية وإيديولوجية تنفي عنها صفة المطلق الزماني والمكاني؛ إذ إن هذه المفهومات والمصطلحات الفكرية ـ خاصة التي نشأت في الغرب، ثم صُدِّرت وشاعت في الخطاب الفكري العربي ـ تأتي مثقلة بتاريخ معرفي وثقافي خاص بها له دوافعه الإيديولوجية؛ مما يجعل معانيها ودلالاتها تختلف أو تتحول ولو بشكل جزئي باختلاف سياقات استخدامها الثقافية والتاريخية. وهذا لا يعني بالضرورة عدم الاستفادة من مفهومات الفكر الغربي واستخدامها فيما يخدم أهداف المسلمين الاستراتيجية على الصعيدين المحلي والعالمي؛ سواء تلك المفهومات العالمية التي تتشابه جزئياً مع المفهومات الإسلامية، مثل (حرية التعبير، أو رأس المال، أو السلطة الاجتماعية)، أو التي لا يوجد لها مقابل شائع في الفكر والثقافة الإسلامية، مثل مصطلح «ريْس» بالإنجليزية، ويعني (عِرق أو سلالة جماعة من البشر يتميزون بصفات خَلقية أو جسدية خاصة)، وهو أحد أهم مكونات الثقافة الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص. ولكن ينبغي أولاً معرفة المعاني والدلالات الدقيقة لهذه المفهومات، والوعي بتحولاتها وانعكاساتها التاريخية، وتاريخ تنقلاتها عبر الثقافات، ودوافعها وأهدافها، ثم استخدامها في الحوار الفكري مع الآخر بشكل يعكس هذا الوعي وهذه المعرفة، مع إبراز الفروق المهمة في دلالات المفهومات المستخدمة بين الثقافتين حسب الحاجة والمصلحة.(1/325)
وتشتمل الكتابة الفكرية في الغرب على الطروحات المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كالكتابة الفلسفية والتاريخية والنفسية والاجتماعية والسياسية، ونظريات اللغة والأدب والنقد، والدراسات الثقافية وغيرها. وأهم ما يميز الخطاب الفكري في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة إلى خلوِّه غالباً من الأسلوب السردي أو القصصي الذي يعتمد عليه الخطاب الأدبي، هو طغيان «الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي»، وهذا بدوره يختلف عن «الأسلوب الوصفي التوضيحي» الذي يطغى على الخطاب العلمي (أي في العلوم الطبيعية)، حتى العلوم الإنسانية التي تتبع غالباً منهجية البحث العلمي التجريبي المعتمدة غالباً على الاستقراء، مثل علوم التاريخ والنفس والاجتماع وغيرها؛ فإنها تعتمد في صياغتها وعرضها النظري على «الجدل الاستنتاجي والتحليلي»، ونتائجها أقل قطعية وموضوعية من نتائج العلوم الطبيعية التي تستخدم «المنهج التجريبي». والمقصود بالنقد هنا «النقد التحليلي» الذي لا ينفصل عن «التحليل المفهومي» أو (تحليل المفهومات)، بل يقويه ويكسبه هويته الخاصة به من حيث هوية الكاتب، وموقفه الذاتي المنبثق من ثقافته وفكره ورؤيته الذاتية.
وقد وصل أمر اعتناء الغربيين بالنقد أن خصصوا له حقولاً معرفية وأكاديمية مستقلة، مثل النقد الأدبي والثقافي والبلاغي، التي لها نظرياتها الخاصة بها، والتي تمتاز عن نظريات الحقول الأخرى في العلوم الإنسانية، فضلاً عن الطبيعية، باعترافها بأهمية النظرة الذاتية للناقد، والتجربة الشخصية للمؤلف والاعتماد عليهما. أما «تحليل المفهومات» فيقصد به تفكيكها، وتبسيطها، وتحديد العلاقات بينها وبين أجزائها؛ من تشابه واختلاف، وتضاد، وعموم وخصوص، وجزء وكل، وغير ذلك.(1/326)
والمهم هو إدراك أهمية الأساليب الجدلية والتحليلية والنقدية التي تقوم عليها العلوم الإنسانية، ودورها الرئيس في صياغة النظريات التي تكوِّن بنية الفكر الغربي الحديث ونظامه.
ومن الملاحظ أن التنظير في العلوم الإنسانية الغربية الآخذة في التداخل بشكل ملحوظ ومتسارع أيضاً؛ قد اتسع بشكل يجعل متابعة النظريات المستجدة في المجال الواحد، ومعرفة تاريخها وعلاقاتها المركبة مع النظريات الأخرى القريبة؛ من الصعوبة بمكان، وهذا بلا شك يُثقل كاهل المفكر المسلم المهتم بالحوار الفكري؛ إذ لا بد من الإلمام بالحد الأدنى من هذه النظريات التي تشكل جزءاً مهماً وأساسياً من نظام الآخر المعرفي، وغالباً ما يُعرف الكتاب الفكري الناجح والمؤثر في صفوف المثقفين والمتعلمين الغربيين بقوة طرحه النظري وكثافته، ومعرفة صاحبه العميقة بالنظريات المهمة في الموضوع المتناول. وليس المقصود بالتنظير هنا التجريد الذي لا روح فيه أو الإغراق في الغموض والتعقيد العقيم، وإنما التنظير المشتمل على التقعيد والتحليل والتفصيل للموضوع، والواعي بجوانبه التاريخية وارتباطاته الواقعية، والعلاقات المتشابكة بين النظريات وبين سياقاتها المتعددة، والعلاقات المقارنة بين النظريات نفسها.
ولعل عدم إدراك الكثيرين منا لأهمية التنظير أو البناء المعرفي في الحوار مع الآخر وتأثيره يرجع إلى ضعف التنظير في الفكر الإسلامي المعاصر بوجه عام، بالرغم من توفر الأصول الراسخة في العقيدة والتصور، هذا فضلاً عن ثراء الجانب المعرفي التاريخي للحضارة الإسلامية وتعدده، وهذا الضعف لا ينفك بطبيعة الحال عن مظاهر الضعف الأخرى التي تعاني منها الأمة في جوانب متعددة؛ أخلاقية وسياسية ومادية.
ومن أسباب الضعف التنظيري ومظاهره وجود اتجاهين رئيسين يمثلان فكرين وموقفين مختلفين من نظريات الآخر وفكره (وهذا لا يعني عدم وجود اتجاهات أخرى أقل انتشاراً):(1/327)
الاتجاه الأول: ينفي أصحاب الاتجاه الأول وجود أي مشكلة معرفية أو تنظيرية أصلاً، ويُرجعون الحل دائماً إلى الأصول النظرية والتاريخية للفكر الإسلامي دون فهم أو استنباط لمعانيها ودلالاتها وتطبيقاتها في الواقع المحلي والعالمي؛ ذلك الواقع المتجدد بتعقيداته وتشابك أجزائه، ودون إدراك الحاجة إلى إعادة النظر وتأمل المعرفة البشرية باتساعها وشمولها والاستفادة منها، أو يقفون عند الجهود التنظرية والفكرية لعلماء عصور الإسلام الذهبية ونتاجهم الفكري، بالرغم من أن أولئك لم يقفوا عند جهود من سبقوهم بل فهموها وطوروها ونقدوها.
أما الاتجاه الآخر: فهو نقيض الأول؛ إذ يرى أصحابه أن حل هذه المشكلة يكمن في نسخ نظريات الغرب في العلوم الإنسانية أو بعضها، وتطبيقها كما هي في العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي.
وكلا الفريقين كفى نفسه مشقة التفكير والتجديد والتطوير والمقارنة والنقد، مع اختلاف في الدوافع والأهداف، وكلاهما لم يقدم حلاً عملياً ومؤثراً لمشكلة الفراغ التنظيري في العلوم الإنسانية من جهة، والتشويه التنظيري الذي سببه النقل النظري غير الواعي وغير المسؤول مع الآخر، من جهة أخرى.
ومما يميز الكتابة الفكرية لدى الغربيين الاهتمام والالتزام بـ (وحدة الموضوع) المبني على أو المستخرج من المفهومات العامة؛ حيث يتناول الكتاب الفكري عادة موضوعاً واحداً يكون على شكل مفهوم رئيس أو عدة مفهومات رئيسة تنسج حولها مفهومات أخرى جانبية، وترتبط هذه المفهومات جميعاً بالمفهوم الرئيس بحجج فكرية وبأساليب تحليلية متنوعة؛ إذ يشكل المفهوم الرئيس الخط الفكري الذي ينتظم حجج الموضوع، وبالتالي مفهوماته من أوله إلى آخره، وتكون الحجة الرئيسية للموضوع ـ والمحتوية على المفهوم الرئيس عادة ـ على شكل حجة أو فكرة واضحة ومتكاملة، تأتي رداً على حجة أخرى مطروحة سلفاً أو مقابلاً لها (تضاد الأفكار والحجج هو محور بناء الموضوع).(1/328)
وهذا لا يعني الإفصاح دائماً عن الحجة أو الفكرة المضادة أو المقابلة، بل تكون على الأقل حاضرة ذهنياً أثناء الكتابة والمراجعة لأهميتها في بناء الحجة المطروحة وتوجيهها. ويقال الشيء نفسه عن الحجج الجانبية أو الفرعية، والتي بدورها تكوّن وتشكل الجانب الجدلي، ومن ثم التحليلي للموضوع.
وبالإضافة إلى الوحدة العامة للموضوع (موضوع الكاتب مثلاً)؛ هناك الوحدات المحلية: الفصل، والقسم، والفقرة، والأخيرة هي الأهم، والخلل فيها أظهر وأشد تأثيراً على القارئ، ومن علامات قوة الكتاب ونجاحه: إتقان كتابة الفقرة وقوتها، ووحدة فكرتها العامة مع الموضوع، والمواضيع الجانبية، وتسلسل أفكارها وحججها الجانبية، وترابط الفقرات بعضها مع بعض في القسم أو الفصل الواحد.
* ثانياً: الحوار الفكري بين التأليف والترجمة وإعادة الصياغة:
من الأفضل في حال الحوار مع الآخر استخدام لغته مباشرة دون اللجوء للترجمة، مع المعرفة العميقة بفكره وتاريخه وثقافته، ليس المعرفة النظرية فحسب، وإنما المعرفة المقترنة بكثرة ممارسة الكتابة التحليلية والنقدية بلغته، والتفكير بطريقته. فإن تعسر هذا ـ والحال غالباً كذلك ـ فالأفضل إعادة صياغة ما كُتب بالعربية، سواء كان مقالاً أو بياناً أو كتاباً، وليس ترجمته فقط؛ لكي يناسب أحوال المخاطبين وأفكارهم وثقافتهم، مع المحافظة على جوهر النص الأصلي ولبه. وليس بالضرورة أن تطال «إعادة الصياغة» جميع ما كُتب في النص الأصلي (أي جميع الجمل والعبارات والمفهومات)، ولكن تكون بالقدر المطلوب الذي يراه المترجم أو الكاتب، والذي لا يذهب بلب أفكار النص الأصلي ولا يشوّه النص الجديد أيضاً.(1/329)
وبسبب تشابه بنى اللغات البشرية، وتشابه طرائق التفكير ذات الطابع الكوني أو «عبر الثقافي»، وكذلك تداخل الثقافات واتصالها؛ فإن المترجم سيجد قدراً مشتركاً بين اللغتين والثقافتين والفكرين لا يحتاج فيه إلى إعادة الصياغة بالمعنى المقصود هنا، وإنما تكفي فيه الترجمة الجيدة بالمعنى المعروف.
وعادة ما يتفاوت الكتاب المفكرون في مدى قربهم أو بعدهم عن فكر اللغة أو الثقافة المقابلة الأخرى وأسلوبها (أي مقدار وجود القدر المشترك بين اللغتين والثقافتين)؛ وذلك حسب اختلاف تأهيلهم ومعرفتهم بالموضوع المطروح، ومعرفتهم بالآخر المخاطب وفكره وتاريخه وثقافته، واستحضار ما أمكن من ذلك أثناء الكتابة.
ومما يدخل في عملية «إعادة صياغة» المفهومات أو المصطلحات أو العبارات أو التراكيب أو الفقرات: التقديم والتأخير، والتبديل، والحذف والإضافة، ومراجعة العلاقات المتعددة بين المفهومات والاستنتاجات المنطقية الرئيسة العامة والفرعية التفصيلية، وإبراز بعض الجوانب المهمة التي اختصرها المفكر، إلى غير ذلك.
ويدخل في مراعاة خصوصية القراء الغربيين أيضاً استخدام المصطلحات والمفهومات المعروفة عندهم، ليس عن طريق نقل المصطلحات والمفهومات والعبارات والتراكيب الواردة في النص الأصلي أو العربي وترجمتها حرفياً، والذي غالباً ما يسبب اللبس والغموض في المعنى؛ ومن ثم تثبيط القارئ وصرفه عن الاستفادة أو التأثر بالمكتوب، أو الاكتفاء بترجمة معانيها فقط وفق ما يراه المترجم، وإنما عن طريق استخدام ما يقابلها في اللغة والثقافة الأخرى لكي يسهل تصورها وفهمها، مع إبراز الفروق الجوهرية في دلالات المفهومات والقيم الإيديولوجية بين الثقافتين؛ لكي يظهر تميز الفكر الإسلامي وأصالته وشموله وعمقه.(1/330)
أما المصطلحات أو المفهومات التي لا مقابل لها في اللغة والثقافة الأخرى فلا ينبغي أن يركّز عليها كثيراً، وإنما تترجم معانيها باختصار عند الحاجة (هذه هي الطريقة المثلى في الإيضاح والتبيين في مثل هذا المقام الذي لا يقصد منه بيان دلالات المصطلحات الشرعية بدقة، كما هو الحال في مخاطبة المسلمين الذين لا يتحدثون العربية).
ومن مفارقات الترجمة بين اللغتين والثقافتين المتباعدتين؛ أنه كلما حاول المترجم المحافظة على معالم النص الأصلي والاقتراب منه كان ذلك على حساب النص الآخر، وتسبب في حدوث التشويش والغموض أثناء القراءة، ومن ثم تثبيط القارئ عن إكمال قراءة النص والتفاعل معه والاستفادة منه.(1/331)
إن العلاقة التبادلية بين الكاتب والقارئ والتي تنشأ عن طريق النص تكون ـ أو تتكون ـ أثناء كتابة النص لا بعدها؛ إذ هي تشكل الخطاب وتحدد معالمه وأبعاده وجوانبه المتعددة؛ المعرفية والأسلوبية على حد سواء. بمعنى آخر: إن إيديولوجية القارئ ومعرفته الخاصة عن الموضوع، أو العامة عن المفكر والثقافة الأخرى، وأفكاره وقيمه؛ ينبغي أن تسهم بشكل كبير في صياغة النص ـ وخصوصاً النهائي ـ أثناء الكتابة. ولأن هذا الشرط البلاغي ينبغي توفره في الكتابة أحادية اللغة والثقافة؛ فإن الحاجة إليه في الحوار والتخاطب «عبر الثقافي» أشد والاهتمام به أولى. وهذا ما يجعل الكتابة الفكرية بالعربية (أي مخاطبة الآخر بلغة المتحدث) أولاً ثم ترجمتها (بالمعنى السائد للكلمة) إلى لغة المخاطب إخلالاً بهذا الشرط المهم في الغالب. والأولى أن يأخذ النص المكتوب بلغة المخاطبين ـ سواء أكُتب مباشرة أو صِيغ من النص الأصلي ـ جل العناية والمراجعة؛ حيث يجب أن يعامل النص المترجم خصوصاً كنص مستقل يخضع لقواعد لغته وفكره ومنطقهما، وليس للغة النص الأصلي وفكره (عادة تأتي هذه المرحلة من المراجعة النهائية الدقيقة المنبتة عن النص الأصلي، بعد مرحلة انتقالية من الترجمة يكون فيها النص المترجم أقرب إلى لغة النص الأصلي ومنطقه وفكره).
* ثالثاً: بعض الجوانب والمقترحات العملية:
الكتابة الفكرية بين الواقع والمأمول:(1/332)
قد تكون الترجمة الجيدة حلاً عملياً ومؤثراً بالنسبة للقراء المسلمين الذين لا يعرفون العربية، إلا أنها قد لا تكون الحل الأمثل في حال مخاطبة القراء المتعلمين أو المثقفين الغربيين بسبب الصعوبات والعقبات آنفة الذكر، لكن بسبب ندرة العلماء المفكرين المسلمين القادرين على الكتابة الفكرية بلغة الآخر مباشرة، وبشكل يقارع ما يكتب وينشر في الأوساط الفكرية الغربية؛ فإن عملية «إعادة الصياغة» تعد حلاً عملياً وأكثر يسراً؛ حيث يمكن أن يجتمع عالم أو مفكر مع كاتب جيد ذي معرفة واسعة بفكر الغرب وثقافته على تأليف كتاب فكري، ليس بالشكل المعهود بالضرورة ـ حيث يقوم الأول بكتابة الكتاب والانتهاء منه تماماً؛ وكأنه سوف يقدم للقراء العرب ـ وإنما بواسطة كتابة نسخة مصغرة منه مثلاً، أو كتابته على شكل رؤوس أقلام وعناصر مختصرة (أي تقديم اللب الفكري للموضوع) اختصاراً للوقت وحفظاً للجهد، على أن يتولى الكاتب المترجم الجهد الأكبر في الصياغة والمراجعة للنص الثاني، ويكون ذلك بالتشاور المستمر مع صاحب النص الأصلي.
وفي حال البحث عن نص أو كتاب فكري مناسب للترجمة (وإن كنت لا أؤيد هذا المسلك جيداً)؛ فينبغي التركيز على ما كتب في هذا العصر؛ إذ إنه غالباً ما يجمع بين أفكار السابقين وطرح المعاصرين وأسلوبهم وأفكارهم الجديدة أيضاً. والأفضل من ذلك أن يُنشأ نص جديد لهدف أو مقام محدد (أحداث الحادي عشر ـ مثلاً ـ) يستفاد فيه من علم السابقين وأفكارهم عن الموضوع ذاته ـ أو ما هو قريب منه ـ إن كانت موجودة، مع التركيز على فهم أفكار المعاصرين من الكتاب والمفكرين وأسلوبهم.
ومما يجعل ترجمة كتب علماء السلف مثلاً كما هي، وتقديمها للقراء الغربيين عملاً محدود الأثر؛ هو الاختلاف الشاسع بين السياقين التاريخيين والثقافيين، وما ينتج عنه من اختلافات في تفاصيل الموضوع، ونوعية القراء المستهدفين وطرق تفكيرهم، وما يرونه مهماً، وما يمكن أن يؤثر فيهم.(1/333)
وخلاصة الأمر وسره: أن تُستحدث حالات بلاغية أو كتابية جديدة تراعي جدة المواضيع والأحداث المتعلقة بها، وأهميتها، وصفات القراء المستهدفين الفكرية والثقافية ومميزاتهم.
الكتاب أم المقالة الإلكترونية:
ليس في الغرب شيء أقوى تأثيراً وأبعد أثراً من الكتاب الفكري المتقن، ومن بعده الرواية؛ فالكتاب الفكري لا يزال مركزياً في الثقافة الغربية، وهو يتبوأ المرتبة الأولى في تعليم الناس وتكوين أفكارهم وصياغتها، بل حتى معتقداتهم ومواقفهم؛ ولذا فهو يعد أحد أهم الخيارات الاستراتيجية في الحوار الفكري مع الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ فهو أبقى من غيره وأيسر تداولاً وأوسع انتشاراً. ومن ميزات الكتاب أيضاً (وهذا وارد جداً) أن يكون مادة علمية تقرر في المواد الدراسية الجامعية في مئات الجامعات على مر السنين (تأمل أثر ذلك!)، ولنتذكر أن الباحثين الجادين عن المعرفة والفكر في الغرب (وما أكثرهم) لا يبحثون عنها أو لا يجدونها في الغالب وراء شاشات التلفاز أو حتى في مواقع الإنترنت، وإنما في بطون الكتب أو في الدوريات العلمية الرصينة.
وبالرغم من أهمية القنوات الفضائية في الغرب، وخاصة في أمريكا، ودورها في صياغة وعي الجماهير وأفكارهم وآرائهم عن الثقافات الأخرى؛ بما في ذلك كثير من المتعلمين والمثقفين؛ فإن الكتاب يظل أقل تكلفة وأيسر جهداً وأهدأ اختراقاً (قارن مدى تنوع الطروحات الفكرية والسياسية والإيديولوجية الواسع في الكتب، ومدى ذلك في قنوات التلفاز). وهذا لا يعني إلغاء أو تهميش فكرة القناة الفكرية الموجهة بلغة أجنبية، وإنما ينبغي عدم إهمال خيار الكتاب الفكري على حسابها.(1/334)
أما المواقع الإلكترونية الغربية ذات التوجه الفكري في شبكة الإنترنت؛ فهي لا تزال محدودة العدد والانتشار إذا ما قورنت بمواقع الأعمال والترفيه والخدمات والأخبار وغيرها، ومعظم ما يكتب ويقرأ في المجال الفكري في تلك المواقع يقع على شكل مقالات، أو دراسات قصيرة نسبياً، أو منتديات حوارية غير محكمة، أو مراجعات للكتب، أو قوائم بمراجع المواضيع الفكرية المطروحة. أما الكتب الإلكترونية فلا تزال محدودة العدد مع أنها في ازدياد مستمر.
وينبغي أن تكون المواقع المعنية بالحوار مع الآخر ـ سواء كانت على شكل مقالات أو منتديات ـ مستقلة يراعى فيها ما ذكر آنفاً، وألا تختلط بمواضيع موجهة للمسلمين.
والخلاصة هي: أن مواقع الإنترنت الفكرية مهمة، ولكن يجب أن تتكئ على قاعدة صلبة ومؤسسية من الكتب، والدراسات الرصينة، والمفكرين.
أولوية الأسلوب الجدلي في الحوار الفكري:(1/335)
ينبغي الاهتمام بـ (الأسلوب الجدلي التحليلي والنقدي) المبني على المسلمات البشرية، والأسس العقلية، أو الحقائق الشائعة المقبولة في ثقافة القراء الغربيين ومجتمعاتهم، والتي بالتالي تخاطب وتؤثر في قطاع عريض من متعلميهم فضلاً عن المثقفين منهم أو المفكرين، والتي لا تتعارض في الوقت نفسه مع مسلمات الدين الإسلامي وثوابته. أما الانطلاق دائماً من مسلمات الدين الإسلامي وتقريرها أولاً، أو مهاجمة عقائدهم وأخلاقهم الخاصة بهم بأسلوب مباشر فقد يكون أسلوباً أقل إقناعاً، وذلك لعدم وجود الأسس الفكرية أو الفلسفية المشتركة مع القراء، أو الاعتماد على معلومات تفصيلية لا يعلمها ولا يهتم بها إلا المتخصصون، أو بسبب انتقاص الجانب الأخلاقي والديني الذي لا يتقبله كثير من القراء اتباعاً لهواهم أو انتصاراً لأنفسهم وثقافتهم. وهذا لا يعني إغفال أهمية النقد الموضوعي للآخر بجوانبه المتعددة وتأثيره، أو أهمية استخدام النقد الذاتي بشكل استراتيجي، والذي يضفي بدوره مصداقية وموضوعية للمفكر المسلم وموقفه وتحليله، لكن ينبغي التركيز على القضايا المعرفية والفكرية الكبرى والمفهومات العامة، وتقديمها كأسس أو مقدمات منطقية، ومن ثم مناقشة المسائل الدينية والأخلاقية وغيرها بأسلوب جدلي تحليلي ونقدي ضمن تلك المقدمات وليس العكس.(1/336)
ولتوضيح المقصود هنا؛ يمكن أن نقارن على سبيل المثال بين كتاب يتحدث عن الإسلام بشكل عام (أي على شكل مختصر لتعاليم الدين) بأسلوب وصفي أو توضيحي، وهذا يخرجه مباشرة من تصنيف الكتب أو الطروحات الفكرية، كما أسلفت في الفرق بين أنواع الخطابات البلاغية، ومن ثم يقل انتشاره وتأثيره بشكل كبير (لاحظ تركيز الجهود الدعوية في الكتابة والترجمة على هذا الجانب)، وبين كتاب يتناول جانباً أو موضوعاً رئيساً من الدين يكون هو المفهوم الرئيس (على سبيل المثال: الحرية الفردية؛ حيث يقابلها مثلاً مصلحة الجماعة والدولة، أو تضحيات النفس، ويقابلها حفظ النفس وإبقاؤها، أو العلاقة مع الآخر)، ومن ثم تربط به المفهومات الجانبية والأفكار الأخرى المكونة للموضوع، والتي تتناوله من جوانب متعددة: دينية، أو تاريخية، أو حضارية، أو اجتماعية، أو قيمية، أو ثقافية، أو سياسية.
الخطاب الفكري ليس تجريداً فقط:
ومن الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بالطرح المعرفي النظري أو التجريدي الذي يتجاهل واقع المسلمين العملي (وغيرهم، في حالة الدراسات المقارنة)، بل يجب مناقشة واقع المسلمين الفردي والاجتماعي بجوانبه المشرقة والمعتمة، مع التركيز على النواحي المشرقة التي تجسد أو تقرب من تعاليم الإسلام، وربط ذلك أو مقارنته بالأصول النظرية أو الأفكار. وكذا طرح القضايا المهمة والمؤثرة في حياة القراء والمتعلقة بقضايا الساعة، فالغربيون عموماً، والأمريكيون خصوصاً، يهتمون كثيراً بالجوانب الواقعية والحياتية لكل ما يطرح؛ سواء كان ذلك في شكل دراسات، أو جوانب ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية (يمكن الجمع بين هذه جميعاً أو التركيز على جانب دون الآخر بحسب الموضوع أو الحدث الداعي للكتابة).(1/337)
ومن اللافت للنظر أن الأمريكيين غالباً لا يفرقون بين الإسلام كنظام معرفي ونظري، وبين فهم المسلمين العملي وتطبيقهم له وممارساتهم، أو على أقل تقدير لا يهمهم هذا الفرق، ويتجاهلونه من الناحية العملية وإن اعترفوا بوجوده من الناحية النظرية، وهذا التوجه قد يرجع إلى عدة أسباب؛ منها أن معظمهم يعتقدون أن الأفعال والمعاملات والعلاقات البشرية الحسنة ـ بغضِّ النظر عن عقيدة صاحبها أو دينه ـ أهم بكثير من مجرد الاعتقاد والإيمان بالفضائل والمثل الإنسانية، خاصة إذا كانت هذه القيم لا ترى النور ولا تتجلى في أرض الواقع، وهذا بدوره يرجع إلى تأثير العلمانية وهيمنة البراجماتية كفلسفة وطريقة للحياة. ومن الأسباب أيضاً أن الأمريكيين غالباً ما يرون - بسبب تأثير ما يقرؤونه أو يشاهدونه عن الإسلام والمسلمين - أن أفعال المسلمين التي تؤثر فيهم وتحدد علاقتهم بالآخر هي تجسيد لمعتقدات الإسلام وتعاليمه، أو الإسلام كما يفهمه أولئك المسلمون على أقل تقدير.
وهذا الإشكال في الفهم والتصور لا ينبغي تجاهله من قبل المفكرين المسلمين؛ مما قد يزيد الأمر تعقيداً وغموضاً، بل إن التناول الصريح المتسم بالعمق والوضوح للقضايا الحساسة والغامضة والمعقدة يسهم إلى حد كبير في تجليتها، وفي تحسين صورة الإسلام والمسلمين ولو جزئياً.
التراكم المعرفي المضاد:(1/338)
وختاماً.. أود التركيز على مسألة (التراكم المعرفي المضاد) وأهميتها، فما يعرفه الغرب عن الإسلام لم يتكون في فترة قصيرة، بل تكوّن على مدى عقود بل قرون من التراكم المعرفي، والذي غالباً ما يفتقر إلى الدقة والموضوعية، بل يتعمد التشويه وتغييب الحقائق والمبالغة في أحيان كثيرة. ومما يلاحظ في هذا الشأن تنوع الخطابات التي كونت وصاغت هذا النظام المعرفي؛ بما في ذلك الكتب الفكرية بتنوعها (التاريخية والاجتماعية.. وغيرها)، والروايات الأدبية، والأفلام السينمائية، والبرامج الإخبارية، والصحف والمجلات.. وغيرها. ومما لا شك فيه أن هذا الزخم التشويهي الهائل لا يمكن تغييره في فترة وجيزة وبأساليب سحرية (هذا فضلاً عن إيصال رسالة الإسلام إلى من يجهلها تماماً، والأمران على أي حال مرتبطان؛ حيث العمل الدعوي الفكري الجاد يسهم في البناء المعرفي، وفي تعديل الصور المشوهة وتقويمها في الوقت نفسه)، بل لا بد من النظرة الاستراتيجية الواضحة، والعمل الفكري المتقن والمتسق مع هذه النظرة، مع الاهتمام بتنوع الطرح الفكري وتعدده وكثافته؛ في خطابات وقوالب ووسائل متعددة قدر الإمكان.
---------------
(*) باحث في مرحلة الدكتوراه، تخصص الأدب الإنجليزي، جامعة وسكانس، ماديسون، أمريكا.
المحرم 1424هـ * مارس 2003م
http://www.albayan-magazine.comالمصدر:
ـــــــــــــــ(1/339)
الحوار بين الأمهات والأبناء .. لغة نحتاج إليها دائماً
معمر الخليل
يلاحظ معظم الآباء والأمهات أن الطفل عندما يبلغ السنتين من عمره يبدأ في إحراز بعض المهارات اللغوية الجديدة، ويبدأ التعبير عن بعض احتياجاته عبر كلمات مبهمة في الغالب.
ومع مرور الأيام يبدأ الأطفال بتعلم لغة الآباء، والاحتفاظ بمفردات وتركيب جمل بسيطة، تعتبر خلال المرحلة الأولى من العمر أشكالاً مجردة، لا يعرف معناها، لكنها تشكل بالنسبة له رموزا لأشياء معينة.
وخلال الفترة اللاحقة يبدأ الطفل بتعلم الكلام وأشكال اللغة ومعاني المفردات، ويبدأ بالميل نحو إجراء حوارات مع الأهل أو مع شخوص وهمية، كأن يتكلم الطفل مع دمية، أو مع خيال أو فراغ، ويتخيل في ذهنه أنه يتكلم مع أشكال معينة من الأطفال أو الدمى التي تظهر على شاشات التلفزيون أو غيرها.
إن المرحلة اللاحقة التي يستخدم فيها الأهل طريقة التعامل الأساسية مع أبناءهم، تحدد لهم درجة قناعتهم بالحوار كشكل من أشكال التواصل مع الآخر، وتخبرهم إلى أي درجة يمكن الاستعانة بالحوار للوصول إلى فهم صحيح لفكرة ما، أو التعبير عن مشاعر وأحاسيس داخلية، أو الإقناع بالخطأ أو الصواب حول قضية معينة.
في الدول الغربية يجري الباحثون في مجال علم الاجتماع، بحوثاً ودراسات حول أشكال الحوار التي تنشأ بين الآباء والأبناء، مستمدين من هذه الدراسات نماذج تطبيقية على الأسر بشكل عام.
ومن حيث المنهجية، فإن الحوار هو أفضل الطرق للتفاهم بين الآباء والأبناء، أما من حيث الواقعية، فالضرب - ربما- يشكل أهم طريقة تربوية يمارسها الأهل مع أبنائهم. !!
الإشكالية التي يعاني منها الأطفال خلال سنوات لاحقة هي عدم قدرتهم على الحوار بشكل طبيعي وصريح مع الأهل، طالما أنهم اعتادوا شكلا آخر من أشكال التواصل.(1/340)
فالابن عندما يبلغ سن العاشرة مثلاًً، يحتاج الأهل لبدء نقاش معه حول كثير من الأمور التي تطرأ، ويحتاجون لأن يسمعوا من أبنائهم عن مشاكلهم ومعاناتهم وصداقاتهم، أين يذهبون؟ ومع من؟ وكيف يقضون أوقاتهم خارج المنزل؟
هذه الأسئلة قد لا تجد إجابات صريحة وحقيقية من الأبناء الذين كان أهلهم يتبعون معهم أسلوب الضرب والزجر.
فكيف يمكن لهم فجأة أن يبدؤوا حواراً طبيعياً مع ذويهم الذين اعتادوا الضرب كأسلوب وحيد أو أساسي على الأقل في التعامل معهم؟
فيما نجد الأبناء الذين اعتادوا إجراء حوارات مع آبائهم خلال فترة طفولتهم أقدر بكثير على فتح حوارات ومصارحات واسعة حول كل شيء مع الأهل، فهذا الشكل بالنسبة لهم يكون شكلاً مقبولاً ومناسباً ومعتاداً.
ومن هنا تأتي أهمية الحوار مع الأطفال في سن مبكرة، حتى لو كانت هذه الحوارات غير واقعية أو غير جدية، المهم أن يعتاد الطفل النقاش والحوار والصراحة، ويعتاد مناقشة والديه في كل شيء، فهذا التصرف سيخدم الآباء والأمهات بالتالي عندما يكبر الطفل، وعندما يصبح من الضروري محاورته لمعرفة أمور كثيرة، خوفاً عليه من الانحراف أو الفشل أو الانجرار وراء الأفكار الهدامة أو صحبة السوء أو غيرها من الأخلاق والتصرفات التي يتمنى الآباء أن لا يقع أبناؤهم فريسة لها.
والطفل خلال مراحل بدء إدراكه لما حوله، يمتلك الكثير من القضايا التي يمكن أن تربكه أو تخيفه، ويحتاج إلى محاورة أهله حولها. وهنا يجب أن يفتح الآباء والأمهات جسوراً دائمة للحوار مع أطفالهم في أي وقت، وفي أي موضوع كان.
وتوجد بعض النصائح الخاصة لإنشاء هذه الأشكال الرئيسة في إقامة وتدعيم جسور الحوار مع الأبناء، منها:(1/341)
ـ حاولي بدء حوار مع طفلك في سن مبكرة قدر المستطاع، وقبل أن يبدأ بالحاجة إلى هذه الحوارات، فهو عندما يكبر ويبدأ بالإدراك، سيعلم أن الحوار معك هو أفضل وسيلة للمعرفة، وأفضل من التجربة التي قد تؤدي به إلى إلقاء نفسه أمام سيارة، أو إدخال سلك في موصل كهربائي أو استخدام السكين على يده..
ـ تعتبر متابعة وسائل الإعلام (وخاصة التلفزيون) بداية جيدة لإجراء حوار مع الطفل، حول بعض المشاهد التي يراها، كالعنف والتدخين والسلبيات الأخرى، وسؤال واحد حول البرنامج الذي تتابعينه يجب أن يكون كفيلاً بالدخول إلى حوار طويل حول الكثير من القضايا.
خلق بيئة مفتوحة من الحوار، حيث يجب أن يحس طفلك بأنه يمكنه بدء حوار معك في أي وقت، وحل أي شيء، دون الخوف من العقاب بسبب هذا الحوار أو ذاك.
الاستماع الجيد إلى الأطفال، فمن ناحية: سيدرك طفلك أنك مهتمة بسماع ما يريد قوله، وهو ما ينمي لديه حب وفائدة الحوار. وفي نفس الوقت: استماعك الجيد له يجعلك تدركين تماماً ما يفكر فيه، ويساعدك بالتالي على تقديم معلومات تناسب طبيعة تفكيره وتناسب أيضاً مستوى هذا التفكير.
ـ حافظي على الصدق في الحوار، فالصدق ينمي الثقة لدى الطفل حول كلامك، وحول أهمية الحوار وفائدته، وتذكري أنه عندما لا يحصل الطفل منك على إجابة كاملة وصريحة، فإنه سيبحث بنفسه عن هذه الإجابة بالطرق المختلفة، كالتجربة الخطرة أو الأخذ برأي الآخرين أو تقليد الأطفال الآخرين أو تقليد مشاهد التلفزيون.
ـ إجراء محادثة ثانية، إذ يمكن لطفلك أن يمتص كميات قليلة من المعلومات في كل مرة تجرين معه حواراً؛ لذا فمن الصعب عليه فهم كل شيء خلال محادثة طويلة، لهذا دعي طفلك يقضي وقتاً قصيراً بعد الحوار، ثم اطلبي منه بعد ذلك أن يخبرك ماذا تعلم من الحوار الأخير، وماذا يتذكر من المعلومات التي قدمتها له.
ـ تذكري أن الصدق والصبر والمثابرة تأتي بأفضل النتائج، ولا تنسي الاحتساب في التربية والعمل، فكله مما سنسأل عنه يوم القيامة.
02/11/1425
14/12/2004
http://www.lahaonline.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/342)
كيف نرسخ أدب الحوار والنقد ؟
إن حاجتنا لأدب الحوار ليست حاجة نظرية تجريدية، فالأديب المسلم داعية والداعية الناجح يتمسك بأسباب النجاح، ولا يخالفها، ومثلنا الأعلى القرآن الكريم والتطبيق العملي لأدب الحوار في السنة المطهرة، والحديث عن آداب الحوار في القرآن الكريم والسنة المطهرة يحتاج إلى مؤلفات وكتب لا ندوات، ولكن ما لا يدرك كُله لا يترك جلّه!!
أهمية الحوار:
للحوار أهمية كبيرة فهو وسيلة التفاهم بين البشر على أن يكون الحوار حراً لا حدود تقف في طريقه إلا حدود الشرع.
أما عوائق الحوار فهي كثيرة ومنها: الخوف، الخجل، المجاملة، الثرثرة، الإطناب، اللف والدوران، التقعر، استخدام المصطلحات غير المفهومة مثل الإنجليزية، أو الفرنسية أو غيرها أمام محاور لا يفهم معانيها، رفع الصوت من غير موجب، الصراخ، التعصب، إظهار النفس، وعدم الرغبة في إظهار الحق.
ويقول الإمام الشافعي في هذا: ما حاورت أحداً إلا وتمنيت أن يكون الحق إلى جانبه.
أنواع الحوار:
أ- الحوار من حيث الشكل قسمان:
- حوار هادئ عقلاني مبدئي.
- حوار متشنج يعتمد على الصراخ.
ب- من حيث المضمون:
1- الحوار المتفتح، وعكسه المتزمت وهو القائم على المهاترة لا الرغبة في الفائدة.
2- حوار العلماء وحوار طلاب الشهرة وفرق كبير بينهما. وينتج من حوار العلماء فوائد عظيمة للناس لأنه يقوم على احترام الذات والآخرين وتقبل الرأي الآخر ما دام لا يمس الثوابت في العقيدة، والإدراك أنَّ للحوار هدفاً يراد تحقيقه بعكس حوار طلاب الشهرة الذين يريدون الانتصار للذات.
جـ- الحوار من منظور الأشخاص ومنه:
1- الحوار بين العاقل والجاهل فلا بد من حلم العاقل ليعلّمِ الجاهل.
2- الحوار بين الشيوخ والشباب، فينبغي مراعاة المراحل العمرية، واختلاف الأعراف، والعلاقة بين خبرة الحياة عند الشيوخ، وجدة علم الشباب.
3- الحوار بين المتخصصين وغير المتخصصين.(1/344)
4- الحوار بين الحاكم والمحكوم، وينبغي فيه احترام عقول الآخرين، واحترام قدر الحكام دون التنازل عن الموضوعية وإخلاص النصيحة بين الطرفين.
قواعد الحوار:
ينبغي أن يكون للحوار بين جانبين منطلقات مشتركة ليكون مجدياً، وأهمها:
1- الاعتماد على أسس مشتركة للحوار كالتحاكم إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة عند المؤمنين بهما، أو التحاكم إلى قواعد المنطق والقياس عند غيرهم.
2- التسليم ببدهيات المعرفة، وبدهيات السلوك، فكيف نتحاور مع من لا يرى في الصدق فضيلة، وفي الكذب رذيلة مثلاً؟!.
3- اللياقة، واحترام الحوار، وإن لم تحترم خصمك.
4- الرغبة في الوصول إلى الصواب والحق، لأن التفكير في الوصول إلى الغلبة يلقي بصاحبه في لجاجة الجدل العقيم.
للمحاور صفات أهمها:
1- علمه بما يحاور.
2- قدرته على التعبير.
3- حلمه وسعة صدره.
4- سرعة البديهة، واستحضار الشواهد، والذكاء، ويجمعها: -الحكمة-: العلم والفهم والتعبير، ومثال ذلك حكمة نبي الله إبراهيم - عليه السلام - في حوار النمرود إذ ألزمه الحجة: -قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر-.
آداب الحوار:
للحوار آداب كثيرة نقف عند أعظمها تأثيراً وفائدة للمتحاورين أو المستمعين من الجمهور:
1- احترام شخصية المحاور: وتعني ملاطفة المحاور، لنتجنب عداوته أو نخفف من حدتها، وألا نستهين بهد ابتداءً لأن الاستهانة تضعف الحجة وتثير الخصم. كذلك يجب الانتباه له، وعدم الانصراف عنه أثناء حديثه، وأن نفسح المجال له لإبداء رأيه.
2- المرونة في الحوار وعدم التشنج، فينبغي مقابلة الفكرة بفكرة تصححها أو تكملها، وقبول الاختلاف، والصبر على فكرة المحاور حتى لو اعتقدنا خطأها منذ البداية، وهذا يؤدي إلى التواضع وعدم الاستعلاء على الخصم وفكرته.
3- حسن الكلام:(1/345)
أ- التعبير بلغة بسيطة غير ملتبسة ولا غامضة، ومن أحسن الكلام ما يعبر عن حقيقة ما في قلبك دون ستر للحقيقة وبثوب لفظي لطيف.
ب- ومن حسن الكلام الرفق في الكلام: - فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى-.
جـ- التأدب في الخطاب: -.. وإذا قلتم فاعدلوا.. -وقولوا للناس حسناً-.
د- طرح اللغو، واللغو فضل الكلام وما لا طائل تحته، فلا يخوض المحاور فيما لا يثري المحاورة، قال - تعالى -: -والذين هم عن اللغو معرضون-، وفي الحديث الشريف: -طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه<. والابتعاد عما لا يفيد في الحوار يحفظ هيبة المحاور، ويحفظ وقته، وأوقات الآخرين.
هـ- ومن حسن الكلام في الحوار توضيح المضمون باستخدام ما يفهم من التعابير دون تقعّر أو تكلف، وفي الحديث الصحيح، -هلك المتنطعون< وكذلك: -إن أبغضكم إليّ وأبعدكم عني مجلساً الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون<.
4- الموضوعية في الحوار، ونعني بها اتباع المنهج العلمي، والحجة الصحيحة، وقبول الرأي الآخر إذا كان مقنعاً، والاعتراف للخصم بالسبق في بعض الجوانب التي لا يسع العاقل إنكارها، والتحاكم إلى المنطق السليم.
2- حسن الصمت والإصغاء في الحوار، والصمت إجراء إيجابي، ومن فوائده:
أ- أنه خطوة نحو الكلمة الصائبة لاختيارها.
ب- يزيد العلم ويعلم المرء الحلم.
جـ- الصمت بريد السلامة: -رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.
أما الإصغاء فهو أدب عظيم، وتقول العرب: رأس الأدب كُله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم.
معاول هدم جسور الحوار:
أما العوامل التي تحول دون تواصل الناس ومد جسور الحوار بينهم فهي:(1/346)
1- التعصب للآراء والمذاهب والأفكار والأشخاص: والتعصب ظاهرة قديمة، موجودة في مختلف المجتمعات البشرية، وفي مختلف مستوياتها، وهي ظاهرة تمثل انحرافاً مرضياً، حينما لا تكون ذات مضمون أخلاقي، كالانتصار للحق أو لدعاته. والتعصب ينشأ عن اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر الحق لنفسه. والمتعصب لا يفكر فيما يتعصب له، بل يقبله كما هو فحسب، لذا فلا يمكن لمتعصب أن يتواصل إلا مع من يردد نفس مقولاته.
2- المراء المذموم واللجاجة في الجدل، ومحاولة الانتصار للنفس ولو على ذبح الحقيقة: والجدل خلق مذموم، ينبغي للإنسان أن يبتعد عنه، وإذا اضطر إليه فيجب أن يكون بالتي هي أحسن - " وجادلهم بالتي هي أحسن " -النحل: 125- ومعنى ذلك أن يتجنب الإنسان الجدال العقيم والفاحش والبذيء، وإذا أراد أن يجادل فلا بد أن يجادل بالحسنى، وإذا وجد أن النقاش يقود إلى طريق مسدود، فينبغي أن يتوقف عنه لأنه يصير عند ذلك عبثاً لا خير فيه، فكما قال - - صلى الله عليه وسلم - -: -أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً< -رواه أبو داود بسند حسن -، - فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" رواه الترمذي وصححه.
وترك الجدل يتبعه أمران:
أولهما: أن نعترف بأخطائنا إن كنا مخطئين، والاعتراف بالخطأ فضيلة.
ثانيهما: أن نحترم آراء الآخرين.
3- التسرع في إصدار الأحكام، إذ إن التسرع في إصدار الأحكام دون روية، مع عدم وضوح الرؤية، يوقع في أغاليط وأخطاء.
ويدفع إلى التسرع عوامل عدة منها:
- الغرور بالنفس، والاعتداد بسرعة البديهة.
- الكسل الذهني وعدم الرغبة في إجهاد الفكر للتعرف على الحق.
- الانفعال النفسي، كالغضب والخوف والطمع وطيش الهوى.
- الحاجة الملحة ومدافعة الضرورة الطبيعية.
4- التفكير السطحي: الذي لا يغوص في أعماق المشكلات، ولا يدرك أثر العلاقات ببعضها، ولا يستوعب تأثير المتغيرات، بل يتوقف عند الأسباب الظاهرة للمشكلة، التي غالباً ما تكون أعراضاً للمشكلات وليست جواهرها.
http://www.al-forqan.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/347)
من أشكال الحوار
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الحوار لأهميته تكرر كثيراً في القرآن، فالحوار هو سبيل إيصال الدين، وتعليم الجاهلين، وإقناع المعارضين، ومعرفة ما عند الآخرين، وهو القدرة على التفاعل المعرفي والعاطفي والسلوكي مع الناس، وبه يسهل تبادل الخبرات والمفاهيم بين الأجيال.
فلا عجب أن امتلأت دفتا المصحف بعرض مواضيع تتعلق بالحوار.
ولعل المتأمل في آي القرآن الكريم يلحظ أن الحوار ورد ذكره على خمسة أضرب، وقد يكتنف الضرب الواحد مدح وذم باعتبارات مختلفة:
- فقد جاء في القرآن ذكر الحوار على وجه العموم؛ سواء أكان ذلك بذكر نص لفظ الحوار أو مشتقاته، أو بذكر وصفه وما جرى فيه من أقوال للمتحاورين.
- ويأتي كذلك بذكر المجادلة.
- ويأتي بذكر المخاصمة، وأصل المخاصمة المنازعة، فإذا جاءت في الحوار دلت على نوع خاص من الجدال، وهو الذي يتنازع الحقَ فيه أكثر من طرف.
- ويأتي بذكر المحاجة، وهي ضرب من المخاصمة، فالتنازع في المخاصمة قد تكون معه محاولة الإتيان ببرهان، أو لا تكون، كأن يكون التنازع بنحو رفع الصوت، أو مجرد الادعاء، فإن كان التنازع عن طريق الإتيان بالحجج الناصرة لقول أحد المتحاورين كانت المحاجة إذ كل واحد من المتحاورين ينازع الآخر البرهان أو الحجة، ويزعم أن الحق حيث حج أو قصد.
- ويأتي بذكر المماراة، وهي مجادلة ومنازعة وطعن في قول الآخر تزيينًا للقول وتصغيرًا للقائِل بخلافه، ومنه قول الله تعالى: "فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً" والمراد: لا تجادل فيهم على نحو التجهيل والتعنيف (تمار)، إلاّ جدلاً وفق ما أظهرنا لك كقولك لهم: لا، لم يكون أصحاب الكهف ثلاثة ولاخمسة، وهذا القول فيه معنى المراء اللغوي لكونه يتضمن تكذيباً وتجهيلاً لمدعي خلافه، وقد خرج عن أصل المراء المذموم؛ لأنه لا مجال لتكذيب القرآن أو التساهل في تقرير ما قرر.(1/349)
وكل هذه أقسام من أقسام الحوار وجميعها يحتاج إلى بسط وتفصيل وبحث لتعلم مواطن حمدها، ومواضع ذمها، ولعلي أقف اليوم مع المجادلة لأبين كيف تكون وجهاً من أوجه الحوار الهادئ، ومتى تكون ضرباً من الخصام الذي يذم أهله.
ومع التنبيه على أن أغلب ما تجيء المجادلة في النصوص الشرعية بمعنى المناقشة والخصام.
وأصل المجادلة من الجدل: وهو أصل واحد يفيد استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، كامتداد الخصومة ومراجعة الكلام(1).
ومن هنا نخلص إلى أن المجادلة على معنيين يقتضي جميعهما أصل المادة:
1- الاسترسال في النقاش، ومراجعة الكلام مطلقاً بغير خصومة.
2- الاسترسال في مراجعة الكلام لأجل المخاصمة أو الشقاق أو المخالفة، وهذا الإطلاق في القرآن هو الأكثر.
أما الإطلاق الأول: وهو أن تأتي المجادلة للاسترسال في النقاش (مراجعة الكلام)، فكما في قول الله تعالى: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" (المجادلة: من الآية1).
عبر بهذا اللفظ لا لكونها تطيل في الخصام وهو المعنى الذي غلب إطلاقه على الجدال، ولكن لكونها استرسلت في النقاش، وقد أورد ابن كثير في تفسير الآية:
"عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة فظاهر منها فأسقط في يديه، قال: ما أراك إلا قد حرمت علي، وقالت له مثل ذلك قال فانطلقي إلى رسول الله لى الله عليه وآله وسلمفأتت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فقال: يا خويلة ما أمرنا في التابعين بشيء فأنزل الله على رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -.
- فقال: "يا خويلة أبشري".
- قالت: خيراً.(1/350)
- قال: فقرأ عليها "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما"، إلى قوله تعالى: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا".
- قالت: وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري.
- قال: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين".
- قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره.
- قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
- قالت: من أين ما هي إلا أكلة إلى مثلها.
- قال: فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال: ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك.
وهذا إسناد جيد قوي وسياق غريب وقد روي عن أبي العالية نحو هذا...".
لهذا الاسترسال في النقاش والمراجعة، جاء التعبير القرآني: "تجادلك في زوجها"، ونسب المجادلة لها، لكون استرسالها في الكلام هو الذي سبب استرسال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الجواب وأنشأه. والله أعلم
وقد قرئ: "تحاورك" أي: تراجعك الكلام. وتحاولك، أي: تسائلك.
وهذا النوع من المجادلة لا ينهى عنه ولا يذم، طالماً أن الاسترسال في النقاش كان لمقتض صحيح.
أما الإطلاق الثاني: والذي يتضمن معنى المخالفة، أو المخاصمة، أو الشقاق، أو المحاجة، فهو الأكثر، وأمثلته أكثر من أن تحصر في هذا المقام ومنها:
"وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً" (النساء: 107).
أي لا تجادل فتخاصم(2) عن الذين يخونون أنفسهم..
"يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (النحل: 111).
أي تخاصم(3) وتحاج عن نفسها.
"وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: من الآية46).(1/351)
أي لا تحاجوا ولا تخاصموا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، ولهذا قال الطبري: قال ابن زيد في قول الله - عز وجل -: "لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ" (الشورى: من الآية15) لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(4).
والخلاصة أن المجادلة قسمان:
الأول: الاسترسال في النقاش أو مراجعة الكلام، والأصل في هذه الجواز طالما أن الاسترسال لمقتض صحيح.
الثاني: المخاصمة والمحاجة التي تنشأ عن شقاق ومخالفة، وهذه أكثر ما تطلق في القرآن للباطل، وتكون جدلاً مذموماً، ويجوز إطلاقها في الحق وهو قليل وتكون حينها جدلاً مشروعاً.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الجدال عن دينه وشرعه بالتي هي أحسن، وأن يثبت حجتنا، ويسدد ألسنتنا، ويهدي قلوبنا، ويسلل سخائم صدورنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 189.
(2) تفسير ابن جرير الطبري 5/270، والقرطبي 5/377.
(3) القرطبي 10/193، والطبري 14/185.
(4) تفسير الطبري 25/18.
11/1/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/352)
الحوار كأسلوب وإستراتجية للتدريس
أشرف أنور جرجس
مهارات استخدام الحوار في التدريس:
معنى الحوار: -
الحوار هو وسيلة من وسائل الاتصال بين الناس، وشكل من أشكال الكلام بين الأشخاص، إذ أن ليس كل ما بين الأفراد حوار.
هدف الحوار:
لكل حوار هدف وهو الوصول إلى نتيجة مرضية للطرفين، وتحديد الهدف يخضع لطبيعة المتحاورين إذ أن حوار الأطفال غير حوار المراهقين أو الراشدين، وبذلك فقد يكون الحوار لتصحيح بعض المفاهيم وتثبيت بعض الأفكار وقد يكون لتهذيب سلوك معين.
أهمية الحوار:
يعد الحوار من أحسن الوسائل الموصلة إلى الإقناع وتغيير الاتجاه الذي قد يدفع إلى تعديل السلوك إلى الحسن، لأن الحوار ترويض للنفوس على قبول النقد، واحترام آراء الآخرين، وتتجلّى أهميته في دعم النمو النفسي والتخفيف من مشاعر الكبت وتحرير النفس من الصراعات والمشاعر العدائية والمخاوف والقلق؛ فأهميته تكمن في أنّه وسيلة بنائية علاجية تساعد في حل كثير من المشكلات.
أهمية عمل الحوار مع الطلاب:
أسلوب الحوار في التدريس هو وسيلة هامة عزيزي المعلم لأسباب كثيرة وهي:
• إيجاد تفاعل بينك وبين الطلاب في الفصل
• يساعد علي عمل تواصل جيد بينك ومتبادل بينك وبين الطلاب
• يساعد علي خلق مناخ وبيئة تعلم مناسبة ومشجعة للتعلم داخل الفصل
• يساعد علي في معرفة مدي فهم الطلاب لما يتم تدريسه في الفصل
• يمكن أن يستخدم كوسيلة للتقويم مع طلابك
• أخرى
شروط الحوار الجيد: - أولا:
1- الحد الأدنى من الانسجام بين المشاركين/المشاركات من ناحية السن والبيئة والثقافة واللغة والحالة الاجتماعية
2- أن يكون العدد ما بين 6، 20 فردا حتى يستطيع أن يعبر كل فرد عن أفكاره ورأيه بارتياح.
3- يتطلب الحوار قيادة هدفها تنظيم وتنسيق الكلام والأفكار وتقديم الأفكار الجديدة ومشاركة الجميع في التعبير.
4- مراعاة مبدأ الندية (أي أن جميع الأشخاص متساويين في الفكر)
5- الإنصات الجيد للمشاركين(1/353)
6- عدم التمييز بين الطلاب وبعضهن البعض
ثانيا: خطوات عمل الحوار في التدريس \"
1- عرض الوسيلة /"مثل صورة مثل شعبي / أغنية /سؤال / مشهد تمثيلي.
2- تحديد المشكلة: - تحويل موضوع الحوار إلي مشكلة تهم الدارسات.
3- معرفة أسباب المشكلة(ثقافية- اجتماعية- اقتصادية- سياسية)
4- تحديد الآثار السلبية للمشكلة على الناس.
5- كيفية التخلص من المشكلة \"خبرات \" ولابد من التركيز هنا على الخبرات الحية وليس الآراء النظرية
6- محاولة إيجاد حلول عملية للمشكلة ومتابعتها فيما بعد.
يمكن أن يكون الحوار حول: موضوع ما في مادة دراسية مثلا مشكلة ما قضية معينة
دور المعلم في عملية الحوار: ثالثا:
• تحضير الوسيلة المناسبة.
• مساعدة الدارسات على المشاركة من خلال أسئلة النكش ويفضل أن تكون الأسئلة بسيطة/غير مركبة/واقعية/مرتبطة بالموضوع.
* إعطاء فرصة لمشاركة جميع الدارسات.
* اصطياد المشكلة التي تهم الأغلبية من الدارسات. *
* منظم وميسر للأفكار والخبرات
* مراعاة تسلسل الحوار للوصول الى تعميق الفكر واكتشاف الحلول العملية المناسبة.
رابعا: هدف الحوار في عملية التدريس: -
1- تبادل الخبرات.
2- فهم أعمق للواقع.
3- اكتساب منهج التفكير المنطقي.
4- محاولة إيجاد حلول عملية أو واقعية للمشكلات.
5- اكتشاف قدرات الطلاب -
6- كسر حاجز الخوف والخجل عند البعض.
7- تحرر من بعض العادات والتقاليد السلبية.
خامسا: كيف يمكن أن يكون الحوار مفيداً؟
* تحديد الهدف من الحوار وفهم موضوعه، والمحافظة عليه أثناء الحوار إذ أنّ من شأن ذلك حفظ الوقت والجهد وتعزيز احترام الطرف الآخر.(1/354)
* التهيؤ النفسي والعقلي والاستعداد لحسن العرض وضبط النفس، والاستماع والإصغاء والتواضع، وتقبّل الآخر، وعدم إفحامه أو تحقيره، والتهيؤ لخدمة الهدف المنشود بانتهاج الحوار الإيجابي البعيد عن الجدل وتحري العدل والصدق والأمانة والموضوعية في الطرح مع إظهار اللباقة والهدوء، وحضور البديهة، ودماثة الأخلاق، والمبادرة إلى قبول الحق عند قيام الدليل من المحاور الآخر.
* عدم إصدار أحكام على المتحاور أثناء الحوار حتى وإن كان مخطأً لكي لا يتحول الموقف إلى جدال عقيم لا فائدة منه.
* محاورة شخص واحد في كل مرّة ما أمكن ذلك دون الانشغال بغيره بغيرة أثناء الحوار حتى يلمس الاهتمام به فيغدو الحوار مثمراً ومحققاً لأهدافه.
* اختيار الظرف الزماني والمكاني ومراعاة الحال: على المحاور أن يختار الوقت والمكان المناسبين له ولمحاوره على حدٍّ سواء وبرضى تام. وعلى المحاور أن يراعي حالة محاوره أيضا؛ فيراعي الإرهاق والجوع ودرجة الحرارة، وضيق المكان والإضاءة والتهوية بحيث لا يكون الحوار سابقا لطعام والمحاور جائع، أو أن يكون الحوار سابقا لموعد الراحة والمحاور يفضّل النوم، أو يكون الحوار في وقت ضيق كدقائق ما قبل السفر، أو وقت عملٍ آخر، أو أثناء انشغال المحاور بشيء يحبّه أو في وقت راحته أو في زمن مرهق له. إن الحوار يجب أن يراعي مقتضى حال المحاورين من جميع الجوانب النفسية والاقتصادية والصحية والعمرية والعلمية ومراعاة الفروق الفردية والفئة العمرية مع الإيمان بأن الاختلاف في الطبيعة الإنسانية أمر وارد.
سادسا: قواعد جوهرية في كيفية الحوار:(1/355)
* الاستماع الإيجابي: وهي طريقة فعّالة في التشجيع على استمرارية الحوار بالإيجابية وهي تنمّي العلاقة بين المتحاورين. ويحتاج الاستماع الإيجابي إلى رغبة حقيقية في الاستماع تخدم الحوار، وفي ذلك تعلّم الصبر وضبط النفس، وعلاج الاندفاعية و تنقية القلب من الأنانية الفردية، والاستماع الإيجابي يؤدّي إلى فهم وجهة نظر الآخرين وتقديرها ويعطي مساحة أكبر في فهم الآخرين.
* حسن البيان: يحتاج المحاور إلى فصاحة غير معقّدة الألفاظ، وإلى بيان دون إطالة أو تكرار فتكون العبارات واضحة، ومدعومة بما يؤكّدها من الكلام والشواهد والأدلة والأرقام وضرب الأمثلة. ومن البيان تبسيط الفكرة وإيراد الاستشهادات الداعمة لاستثارة الاهتمام واستنطاق المشاعر مع تقديرها، ومواصلة الحوار حتّى يتحقق الهدف. ومن البيان أيضاً عدم السرعة في عرض الأفكار لأن ذلك يُعجِز الطرف الآخر فلا يستطيع التركيز والمتابعة، وكذا عدم البطء كي لا يمل. ومن البيان ترتيب الأفكار بحيث لا تزحمْ الأفكار في ذهن المحاور، فيضطرب إدراكه. وعلى المحاور ألا ينشغل بالفكرة اللاحقة حتّى ينهي الفكرة الأولى، وعليه ألا يظن أن أفكاره واضحة في ذهن محاوره كما هي واضحة في عقله هو. وعلى المحاور أن يعرف متى يتكلم ومتى ينصت ومتى يجيب بالإشارة، وعليه استخدام نبرة صوتٍ مريحة وهادئة، وعليه أن يتحكم في انفعالاته حتى لا تسقط على الصوت أثناء الحوار، وعليه أن يغضض من صوته وأن يتذكر دائما أن الحجة الواهية لا يدعمها أيُّ صوتٍ مهما علا؛ فالحجة القوية غنية بذاتها عن كل صوت. ولا بأس بشيءٍ من الطرفة والدعابة الكلامية والرواية النادرة التي تجذب المحاور، مع وزن الكلمة قبل النطق، وكذا الحذر من الاستطراد. ومن البيان ألا يتعجل المحاور الردّ قبل الفهم لما يقول محاوره تماماً.(1/356)
* يحتاج المحاور إلى الجاذبية، وتقديم التحية في بدء الحوار، وأن يبدأ بنقاط الاتفاق كالمسلمات والبديهيات، وليجعل البداية هادئة وسلسة، تقدر المشاعر عند الطرف الآخر، إنّ من شأن البدء بنقاط الاتفاق والبدء بالثناء على المحاور الآخر امتلاكَ قلبه وتقليص الفجوة وكسب الثقة بين الطرفين، وتبني جسرا من التفاهم يجعل الحوار إيجابيا متّصلا. أمّا البدء بنقاط الخلاف فستنسف الحوار نسفا مبكّراً.
* يحتاج المحاور إلى جعل فقرة الافتتاح مسترعية انتباه محاوره، وعليه أن يحاول أن يكون الحديث طبيعيا مبنيا على الفهم، وأن يعي الهدف المراد الوصول إلية من حوارهما
* على المحاور ألا يستخدم كلمة \" لا \" خاصة في بداية الحوار، ولا يستعمل ضمير المتكلم أنا، ولا عبارة \" يجب عليك القيام بكذا… \" ولا عبارة \" أنت مخطئ، و سأثبت ذلك
* على المحاور أن يستخدم الوسائل المعينة والأساليب الحسية والمعنوية التي تساعده على توصيل ما يريد كالشعر وضرب الأمثال والأرقام والأدلة والبراهين مع تلخيص الأفكار والتركيز على الأكثر أهمية.
* ضبط الانفعالات، فعلى المحاور أن يكون حكيما يراقب نفسه بنفس الدرجة من اليقظة والانتباه التي يراقب فيها محاوره، وعليه إعادة صياغة أفكار محاوره وتصوراته وقسمات وجهه ورسائل عينيه، وعليه ألا يغضب إذا لم يوافقه محاوره الرأي.
* عدم إعلان الخصومة على المحاور كي لا يحال الحوار إلى جدل وعداء.
* مخاطبة المحاور باسمه أو لقبه أو كنيته التي يحبّها، مع عدم المبالغة في ذلك.
* الإجابة بـ \" لا أدري \" أو \" لا أعلم \" إذا سئل المحاور عن مسألة لا يعرفها، وفي ذلك شجاعة نفسية بعدم التستر على الجهل الشخصي.
* الاعتراف بالخطأ وشكر المحاور الآخر على تنبيهه للمحاور الأول.(1/357)
* على المحاور التذكر في كل لحظة أنه يحاور وليس يجادل خصما، وأن يتذكر أن الحوار قد يكون أشد من موج البحر في يوم عاصف، فإن لم يكن ربّانا ماهرا للحوار يمنع الاستطراد ويتجنب تداخل الأفكار؛ غرقت سفينة الحوار في بحر النقاش والجدل العقيم.
* على المحاور ألا يضخّم جانبا واحدا من الحوار على حساب جوانب أخرى.
* على المحاور ألا يتعالى بكلمة أو بإشارة أو بنظرة.
سابعا: أسس إدارة الحوار *
إدارة الحوار فن ومهارة، وهو يتطلب الإفادة من التجارب الشخصية، حب التفاعل مع الآخرين، تقبل العادات والتقاليد، الإصغاء واحترام الآراء. وإدارة الحوار فن لا يقوم على الموهبة وحدها، بل يتطلب عملاً متوصلاً على الذات وممارسة يومية مع الآخرين.
ولنجاح جلسات الحوار، لا بد من توضيح بعض المفاتيح التقنية الأساسية ومن أهمها:
التمهيد للانتقال بالمشارك من مرحلة لأخرى، من خلال توفير أجواء مريحة وودية، مع شيء من المرح.
تزويد المشاركين بالمعلومات وبعناوين النقاش والنقاط المتعلقة بهم.
التأكيد على وجوب احترام قيم الآخرين وآرائهم.
التحفظ تجنباً لجرح مشاعر الآخرين.
طرح الأفكار والمعلومات المتناسبة مع استعداد المشاركين لمناقشتها ضمن المجموعة.
احترام حرية عدم الإجابة من قبل المشاركين على أي سؤال.
التريث عند الاستماع إلى آراء بعض المشاركين المخالفة لآرائه.
إبداء المرونة واستبعاد ردات الفعل والأحكام النهائية مع إحاطة الآخرين بالاهتمام وتتبع ردات فعلهم أثناء النقاش.
الحضور القوي، وما يقصد به لا يعني اعتماد اللغة لدى الحوار فحسب، بل اللجوء أيضاً إلى لغة الجسد والحركات مثلاً:
النظر مباشرة في عيون المشاركين والتركيز عند الإصغاء إليهم.
مواجهة المشارك وجهاً لوجه، عند إدارة الحوار.
الاستعانة بالابتسامة بما يعزز انفتاح المشاركين وثقتهم.
مشرف مكون التعليم المجتمعي
هيئة كير الدولية مصر مكتب المنيا
http://www.almualem.net المصدر :
ـــــــــــــــ(1/358)
المسلمون في روسيا .. جدل الحوار والانفصال
ما زال المسلمون في روسيا بعيدين عن إدراكنا بمسافات تجعلنا لا ندري الفرق بين داغستان وطاجيكستان، أو بين أذربيجان وتترستان. ويسهم كثير من المعالجات غير الناضجة في تكاتف الغموض والتشويش بحق شريحة كبرى من سكان العالم الإسلامي.
لا ينكر جلنا أن روسيا واحدة من تلك الدول المتميزة التي تتصل بالعالم الإسلامي بمعابر ثقافية وحضارية متنوعة، ناهيك عن الجسور العتيقة التي سارت عليها علاقاتها السياسية الساخنة مع العالم العربي والإسلامي على السواء. كما لا ينكر أحد أيضاً أيام التاريخ الروسي الطويل التي أنبتت عقيدة الغزو فيه تطوراً أيديولوجياً، بمرجعية مسيحية تارة وماركسية تارة أخرى، تلك العقيدة التي اختمرت بدوافع جيوسياسية في فكر الأمراء والقياصرة والرؤساء الروس، وما خرج من رحمها من عناد لترجمة مفاهيم السيطرة واستعمار الشعوب. ومن بين هذه الشعوب كان المسلمون في مرمى النيران.
قد يبدو من الخطأ الجسيم أن نحصر رؤيتنا لقضايا الشعوب الإسلامية في روسيا في خندق الرفض من بعد، ولن نكون مغالطين إذا قلنا إنه رغم الاختلافات الأيديولوجية الكبيرة التي تفرق العالم الإسلامي عن الغرب، إلا أن الأخير يظل هو المصدر الأساسي لمعرفتنا عن أحوال المسلمين في روسيا.
فرغم التطور الكبير في مفاهيم الاتصال الحديثة، ورغم إمكانات الدول العربية التي لا ينقصها الثراء، وروسيا التى لا تنقصها إمكانات القوة والتحالف، ما زلنا نتعاطى مع روسيا بفهمٍ أسير لتلك الإطلالة المؤدلجة ذات البعد التكتيكي التى نترجمها عن كريستيان ساينس مونيتور وتايمز وواشنطن بوسط ودراسات معهد بروكينجز.(1/359)
وباستثناء قلة من المصادر الإعلامية نجد جل اهتمام نوافذنا الإعلامية بمسلمي روسيا ذلك الاهتمام القابع في خندق القضية الشيشانية أشبه بالترمومتر الحراري الذي يؤشر على درجة سخونة القضية في الإعلام الغربي. وهذا الأخير يعنيه المباهاة بنقد انتهاكات حقوق الإنسان وتزييف الانتخابات وإعادة الإعمار. مع أن لدى هذا الإعلام مرونة فائقة في نسيان هذا النقد إذا رغب في مراودة روسيا عن تمسكها بموقف صلب لقضايا عالمية.
ومن المحزن أنه في الوقت الذي نجد فيه سفراء الدول الغربية يخرجون بأحاديث مباشرة ويقدمون رؤيتهم من الداخل الروسي يندر أن نتابع سفيراً عربياً أو مستشاراً ثقافياً ليقول لنا رؤيته. وبينما ينشغل المستشارون الثقافيون الغربيون بإلقاء محاضرات في الجامعات ومراكز الأبحاث الروسية، يؤكدون فيها ثوابت علاقاتهم ويطورون مناطق أخرى مهملة لا ندري في واقع الأمر هوية الدور الذي يشغله المستشارون الثقافيون العرب في موسكو! وقد تندهش إذا عرفت أن عدداً لا بأس به منهم يمد "الجسر" الثقافي لبلادهم دون أن يتكلم الروسية! ولنا أن نتخيل حينها أي مستوى لهذا الجسر المبني بلغة وسيطة كالإنجليزية أو العربية أحياناً!، ولنا كذلك أن نتوقع مستوى الصلات الثقافية التي سنصل إليها من خلال ذلك. تلك الصلات التي يمكن أن تجعل قلوبنا وأيدينا تصل إلى المسلمين في الداخل الروسي.(1/360)
عبر صفحات طويلة من التاريخ الحربي المفعم بمواجهات دامت لنحو ألف سنة، ارتسمت ملامح خريطة عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي بخروج ست دول إسلامية من عباءة الاتحاد السوفييتي وبقاء نحو 23 مليون مسلم ضمن حدود الاتحاد الروسي. وهذه الشعوب الإسلامية التى بقيت داخل حدود المعقل الروسي إما أن بعضها يسعى إلى الاستقلال ممتلكاً أو غير ممتلك لمقومات قيام الدولة أو يكتفي داخل حدود تلك القلعة المنيعة بالسعي إلى إحياء ثقافته التى تشوهت بثلاثية المسخ الحضاري الذي بدأ بالتنصير القيصري، مروراً بالمركسة الشيوعية، وانتهاء إلى العلمنة الفيدرالية.
تتكون روسيا مما يربو على 90 وحدة إدارية في صورة تنظيمات تأخذ شكلاً يسمى الفيدرالية، وتخضع فعلياً لسلطة مركزية تديرها العاصمة موسكو سواء كانت جمهوريات، أو أقاليم أو مناطق أو مقاطعات حكم ذاتي. وتعيش أغلبية المسلمين في روسيا في جمهوريات يحق لها من الناحية الدستورية لقانون الدولة الروسي (الاتحاد الروسي الفيدرالي) أن تسعى إلى الاستقلال إن رغبت. فلدى كل منها رئيس للجمهورية وبرلمان محلي وميزانية هي جزء من الميزانية الفيدرالية للدولة.
وتشير الخريطة المرفقة إلى الموقع الجغرافي للمسلمين في روسيا ونجدهم على هذه الخريطة يتركزون في منطقتين:
الأولى.. منطقة الفولغا والأورال في قلب روسيا، وذلك في ست جمهوريات هي تترستان وبشكيريا وتشوفاش وموردوفيا ومارى يل وأودمورت، إضافة إلى وجود المسلمين كذلك في وحدة إدارية كبرى هي إقليم أورنبيرج.
أما المنطقة الثانية فهي منطقة القوقاز الشمالي، وتشمل سبع جمهوريات هي داغستان والشيشان وأنجوشيا وقبردين بلقاريا وأوسيتيا الشمالية ألانيا وكارتشييف شيركيسيا والأديغة. وأما القوقاز الشمالي سوى قسم من القوقاز الكبير الذي يقع نصفه الجنوبي خارج حدود روسيا فتقتسمه ثلاث دول، واحدة منها إسلامية هي أذربيجان، والاثنتان الباقيتان مسيحيتان هما جورجيا وأرمينيا.(1/361)
وينتمي المسلمون في روسيا إلى عائلات عرقية لغوية متباينة من القوقازية الشمالية إلى الألطاية والهندو أوروبية. وتتشعب هذه العائلات في شجرة متباينة من 40 مجموعة عرقية تمثل لوحة فسيفسائية لا يجمعها رابط. ويكفي أن نعطي مثالاً لذلك جمهورية صغيرة مثل داغستان ينتمي السكان بها إلى 12 مجموعة (إثنو لغوية).
ولا يرجع تداخل القوميات إلى ظروف حضارية بقدر ما لعبت الأغراض السياسية في الحيلولة خاصة في العهد السوفييتي دون تكوين أغلبية عرقية في جمهورية من الجمهوريات لتفوّت الفرصة على مطالب انفصالها. ومن ثم فإن نسبة المسلمين فى عديد من جمهوريات الفولغا والأورال على سبيل المثال لا تزيد على 50 - 60 % حتى لا يتشكل ثقل أيديولوجي يستند إلى البعد الديموجرافي في الاستقلال.. ويوضح الجدول السابق معلومات أساسية عن مناطق تركز المسلمين في روسيا الموقعة على الخريطة المرفقة.
وكما تنقسم مناطق التركز الإسلامي في روسيا في موقعين منعزلين، تتباين أيضاً مقومات الجغرافيا السياسية للموقعين. فالمسلمون الروس في منطقة الفولغا الأورال أقرب إلى التعايش والاندماج مع مركب الدولة الروسية. فبالإضافة إلى تجربتهم التاريخية الدامية لنيل الاستقلال، هم على وعي كبير بأن خطورة الموقع الاستراتيجي الذي تقع فيه أراضيهم وما تحويه من ثروات حيوية كالنفط وقدرات اقتصادية كبرى كالصناعات الثقيلة والمتوسطة لا يمكن أن تسمح الآن ببلورة وحدة سياسية مستقلة عن روسيا تقطع بها جسدها في سيبيريا شرقاً عن روسيا الأوروبية غرباً، وعن عالم آسيا الجنوبية والوسطى جنوباً.(1/362)
أما المسلمون في القوقاز فكان لدى غالبيتهم المبررات الكافية لطلب الاستقلال، سواء كانت اقتصادية كالغني بالنفط، أو استراتيجية كالواجهات البحرية والوقوع على محاور الطرق الحيوية بين الشرق والغرب. وفوق كل هذا ذاكرة حاضرة لقرون من المعاناة المفزعة. وخطت الشيشان أخطر الخطوات للاستقلال، فقابلتها روسيا بما يتابعه الناس من عنف شديد ومذابح جماعبة وتشريد خارج الديار. وباستثناء الشيشان وجزئياً داغستان يبدو أن هناك قناعة لدى باقي الجمهوريات الإسلامية في القوقاز، بأن التجربة الدامية التي عاشها مليون إنسان بين قتل وتشريد لا يجب تكرارها، الآن على الأقل.
تلك الومضات السريعة التي أطلقتها السطور السابقة تبدو في حاجة إلى الإجابة على عديد من الأسئلة، وفي مقدمتها: كيف وصل الإسلام إلى روسيا؟ ما هوية الإسلام الروسي؟ وما المذاهب الفكرية التي تحكم تطوره؟ أي مستوى بلغته صناعة الإسلاموفوبيا في روسيا؟ هل عرفت روسيا صحوة إسلامية حقيقية؟ وما دوافعها ومستقبلها؟ وفي الأعداد المقبلة بإذن الله نحاول الإجابة على عديد من هذه الأسئلة.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/363)
الحوار من الضرورة إلى الثقافة
طارق الحسين
هناك أنواع من الناس لا يستطيعون العيش ولا التكاثر ولا البروز إلا في أجواء ملبدة بالأنواء، وفي أرضية موبوءة بالشتات والنزاع والشقاق والنكد، هؤلاء كالبكتيريا التي لا تدب فيها الحياة إلا بعناصر التعفن وموت الكيان، من أجل ذلك تراهم أكثر الناس هروباً من الحواروأشد الخلق معاناة من الوئام والتصالح، والتقاء بخصوم المدارس الإسلامية..إبان ازدهار الحضارة الإسلامية تبنت هذه الحضارة ثقافة الحوار وأشاعته بين الناس إلى حد كبير، ولولا الحوار لما عاش غير المسلمين بين أظهرنا معززين مكرمين، والحقيقة أن الحوار كظاهرة مرتبطة بشكل طردي مع الخط البياني للحضارة الإسلامية، وحالنا اليوم كحالنا في أيام التردي والنكوص إذ أن أغلبنا اليوم -وأنا آسف لهذا التعميم- لم يكن يرى الحوار حلاً للخلاف، ولم يدر بخلده أو ينشأ في ثقافته الحوار بشكله الطبيعي.كلٌّ سعى دهراً في اقتلاع مخالفه، واستخدم في ذلك شتى فنون الحرب الثقافية والإعلامية وطريقة الوشاية والتأليب.
من العيب جداً أن يبقى الحوار ضرورة ظرفية بل نريد أن يصبح سجية وطبيعة وثقافة تقف حاجزاً أمام الفتنة والإخلال، وأمام أعداء الأمة لئلا يفكروا يوماً أن يبادئونا من داخل أنفسنا، وأن يصبح الحوار قبل كل شيء ديناً وقربة إلى الله مع كل أهل الأرض.(1/364)
ونحن المسلمين أولى الخلق بهذا الخلق لأن الله أمر به من جهة وصبغ به الأنبياء من جهة أخرى، وأخبرنا - سبحانه - كيف رضي أن يحاور إبليس أكفر خلقه وأعصاهم وسمح له بأن يعبر عن وجهته، وأن ينافح عنها حتى يحق عليه العذاب بإقرار منه، ولتتضح خبيئة نفسه بلسانه وإن كانت لا تخفى على الله، ويوم قرر الله العقاب عليه وعلى أتباعه قرره لأنه إله عصاه عبده، أما نحن البشر فليس لنا أن نقرر أمام المخالفين إلا الحوار بالتي هي أحسن؛ لأننا لسنا أرباباً {قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ولأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} [سورة الحجر].
وإن كنت ترى أن هذا الحوار مليء بالتهديد فلأن إبليس جعل نفسه نداً لأوامر الله، وخرج عن أمره وكفر به وأعلن التحدي لربه.(1/365)
ولكن عندما تتأمل في الحوار الذي كان بين الله جل في علاه وملائكته - عليهم السلام - في مسألة خلق آدم {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ.... } إلى قوله - سبحانه -: {فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ}، عندما تتأمل تجد أن الحوار معبأ بالعبودية والخشية والاعتراف بالجهل والنقص أمام علم الله وكماله، وكان خطاب الله لملائكته خطاب تعليم لما أشكل عليهم ودعوة للتسليم دون أن يهددهم أو ينهاهم عن ذلك تبارك وتقدس.
يوم القيامة سيقف العبد بين يدي ربه مسؤولاً عن أعماله منافحاً عن نفسه مجادلاً عنها « عبدي أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا »،
« عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف تمرض وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان أما لو عدته لوجدتني عنده.... الجديث ». إلى غير ذلك.
وبهذا أمر الله أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أن يتحاوروا مع أقوامهم بكل طبقاتهم ورأينا في كتاب الله كيف تحاور نوح مع قومه، وكيف حاور إبراهيم قومه وحاور النمرود الذي قال أنا أحيي وأميت، وحاور موسى قومه وحاور فرعون وقارون وكذاك سائر الأنبياء مع أقوامهم في مواضع كثيرة من القرآن.(1/366)
ولقد علمنا نبينا - - صلى الله عليه وسلم - - أن الحوار النبوي ثقافة وليس ضرورة وقتية وليس أمراً عارضاً، لأن هذه سنة الله في خلقه، ولو شاء - سبحانه - لأمر بأمر فمن حاد عنه عذبه وأهلكه دون مهلة، والسيرة النبوية عامرة بالحوار والجدال بالتي هي أحسن كما أمر الله، منذ أن كان في مكة إلى أن قامت بينه وبين اليهود مناظرات مشهودة، ومع نصارى نجران حين انتقل إلى المدينة حتى مع أصحابه - رضي الله عنهم - ، أرأيت كيف كان يتحاور مع الأعراب الذين يسألونه عن الإسلام والصدقات؟ أرأيت كيف تحاور مع أصحابه إذا ما اختلفوا؟
وكيف كان حواره مع الذي جاء يستأذنه في الزنا؟
وأعظم من ذلك كله ما حدث في الحديبية مع مشركي مكة من حوار وقبول لما فيه خير الفريقين، إن حياته - - صلى الله عليه وسلم - - قائمة على أسس عالية متينة، والحوار واحد من هذه الأسس التي قامت عليها حياته الشريفة - - صلى الله عليه وسلم - -. إن الحوار صفة لا يحبها إلا الأقوياء، ولا ينفر عنها إلا المرتابون في أمرهم، والدليل على قوة منهجنا ومتانة مذهبنا الإسلامي أن الله حاور عباده وأمر رسله بالحوار ووجه إلى المؤمنين الأمر بالحوار، واقتحام ساحات الخصوم بالدليل والعقل والحجة دون أدنى وجل.
وإذا رأيت من يتحاور مع الآخرين بصدر رحب ونفس مطمئنة وهدوء وسكينة فاعلم أنه في ثقة من أمره وثبات ورسوخ، فإذا ما وجدته مستمتعاً بالحوار كالذي يمارس هواية أو رغبة فاعلم أنه حاز أعلى مقامات الثقة بالنفس.(1/367)
هل وصلنا إلى القناعة التي تقول بأن إقصاء الآخر أصبح مستحيلاً؟ هل آن الأوان؛ لأن نفتح الباب للحوار وإبداء الرأي؟ يجب أن تقام المؤتمرات المشتركة الثنائية والثلاثية والرباعية والمئوية لعرض الآراء وبيان الحق ووضع النقاط المشتركة. إن التعالي باسم الدين أو باسم الفكر أو الحضارة مهزلة يجب أن تتوقف ولينزل الجميع إلى الميدان ومن كان واثقا من نفسه ورأيه وفكره وثقافته فليترك الاختباء وراء الستور، ولتمتد الأيادي للمصافحة والتعاهد على اتباع الحق. لم تعد لغة التلاحي والتقاذف وأسلوب الإعدام الفكري والإلغاء والإقصاء تجدي في هذه الأيام، ولم تكن أساساً منهجاً للإسلام، ولا يزعم أحد أنه يرضاها وإن كانت تمارس خطأ من جميع الأطراف مع الأسف.
الحوار في الإسلام وفي جميع الرسالات قام أساساً بين فريقين أحدهما ينكر وجود الله فما بالك بما هو أدنى من ذلك؟
والحوار كلمة مأخوذة من التحاور التي مصدرها (حور) ومعنى التحاور أي التجاوب و(المحاورة) المجاوبة، أي تعطي جواباً وتأخذ جواباً فلا مكان للتلاحي والعنف، وعندما تخرج المجاوبة عن مدارها ونطاقها فإنها تعود إلى جلبة ومجالبة، وصخب ومصاخبة، وجنبة ومجانبة، ولا خير في الحوار بعد ذلك. وفي كتاب الله - عز وجل -: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال الأصفهاني في المفردات: " الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله، ومنه: الجديل " إلى أن قال: " ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه، وقيل الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة"، والظاهر أن الجدال لا يخرج عن الخصام والمنازعة ولهذا نهى الله عن الجدال في الحج: {لا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ}.(1/368)
وهنا لفته لطيفة فيها خفاء وهي أن الله أمر المؤمنين في قوله: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالصبر على أذى أهل الكتاب غير المحاربين؛ لأن المقصود بالذين ظلموا في الآية عند بعض المفسرين أي الذين حملوا السيف وآذوا المؤمنين أذى جسدياً، فإذا كانت المجادلة بين طرفين فإن المأمور بالحسنى يجب أن يحتمل من لم يجادل بالحسنى أي الطرف المقابل؛ لأن الجدال بالحسنى يدعو الطرف الآخر إلى الحسنى كذلك ويقربه إلى سماع الحق، ولو استعرضت أذى اليهود لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، في قولهم {راعنا} وفي تهديدهم له بعد معركة بدر، وفي محاولة تعجيزه بالسؤال، وفي قولهم له: (السام عليك يا محمد) وفي قول اليهود له: (أنتم قوم مطل يا بني عبد المطلب) وغيرها كثير، إذا علمت ذلك فسيتضح لك مدى الإحسان منه في جدال أهل الكتاب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. قال الإمام النسفي - رحمه الله -: " {إلا بالتي هي أحسن} بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال: {ادفع بالتي هي أحسن} ". إن صاحب المبدأ العالي والمقامات الرفيعة لا يحاور الخلق ويناظرهم ابتغاء الغلبة عليهم وإذلالهم، وإنما رحمة بهم ودلالة لهم على الحق والخير ، ولا يمنع ذلك من الإستظهار بكل ما يؤيد رأيه من أدلة الوحي المنزل والعقل المنوّر بنور الفيوضات الربانية، لكنه لا يبحث عن النصر شهوة وتعاظماً وإنما موافقة لمراد الله ودعوة للآخرين، على مذهب أنبياء الله أهل المقامات العليا {ويَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ... } {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}. وكما قال مؤمن آل فرعون: {ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وتَدْعُونَنِي إلَى(1/369)
النَّارِ}. وكما قال هود - عليه السلام -: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ولقد كاد يموت نبينا - - صلى الله عليه وسلم - - من شدة الحزن على قومه، وخوفاً عليهم من العذاب فقال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِين}، وقال - سبحانه -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً}..هذه أعلى المقامات في مقاصد الحوار ونيات المتحاورين، أما أعلى المقامات في طرائق الحوار فهي أن تتحاشى كل ما يعكر نفس خصمك، ويصيبه بحرج الصدر، ويشعره بالهزيمة والضعف أمامك؛ لأن ذلك أعظم دافع لردّ الحق.قال الله - سبحانه وتعالى -: {قلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.إن هاتين الآيتين مفتاحان لأعظم الأقفال التي تحجب القلوب، ولأشد المغاليق التي تعمي الأفئدة والعقول. عندما تقول لخصمك: واحد منا على هدى والآخر في ضلال، فإنك تفتح له باباً إلى الثقة بنفسه والتواضع لك في نفس الوقت فما يفيق إلا وأنوار الإيمان تدب في أوصال قلبه، وحين تقول له لن يسألك الله عن جريمتي ولن يسألني عن عملك فستقذفه بكتلة من الحياء منك، وستعطل بهذه الكلمة كل محركات الكبر والغطرسة والعناد في نفسه وتصنع له جواً من السكينة، ويهبط هو إليك من عليائه وشموخه.(1/370)
والوحي لم يغفل أنواع المجادلين وطرائق الجدال حسب الموقف والمصلحة وإعطاء الحكمة مسارها في التعامل مع النفسيات كل بحسب حاله ومآله، ولكن الأصل هو ما ذكرنا وأما ما سواه فضرورة يلجأ إليها عند الحاجة، فالله ينادي اليهود والنصارى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ } وينادي المشركين والكفار: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، ويقول عن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ويتغير الخطاب أحياناً حسب الحال ولكن الأصل هو الإحسان.
http://www.islameiat.com المصدر :
ـــــــــــــــ(1/371)
الحوار مع الآخر .. نظرة شرعية
عمر بن عبد الله السعدون
لقد كثر الكلام عن موضوع الحوار مع الآخر في هذه الأيام وعلى جميع الأصعدة، أو ما قد يسمى حوار الحضارات، فها هو الخلاف قائم بين التيارات الفكرية الغربية بين مؤيد للحوار مع الحضارات، وبين مؤيد صراع الحضارات وداعياً إلى الاتجاه إلى طريق نهاية التاريخ، ولا يستغرب هذا الاختلاف وهذا التضارب الفكري بين أمم يصنع فكرها النتاج العقلي البشري المحدود الذي لا يخلو دائماً من شطحات الفكر، وشذوذ الرأي، أو بشارات وعقائد دينية محرفة، تدعو إلى الصراع بل وتحفز إليه لتعين الظالم على ظلمه، وتحضه إليه، وما يحصل في فلسطين والعراق وغيرهما من بلاد المسلمين شر نموذج على ذلكم التوجه، وشدة عنصريته وقسوته، حتى إنه إذا تمكن أهلك الحرث والنسل، فأي إرهاب وترويع للغة الصراع والعنف وسفك الدماء أكثر من هذا، ثم بعد ذلك يتوجهون إلينا ليتهموننا بما فيهم، وقد صدق المثل العربي الأول: "رمتني بدائها وانسلت".وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إن مما أدرك من كلام النبوة الأول إذا لم تستح فاصنع ما تشاء".
فماذا يعني موضوع الحوار مع الآخر لنا أهل الإسلام، وهل الإسلام اهتم به أم أنه موضوع ثانوي لا قيمة له عندنا أم أنه ردود أفعال وقتية لندفع التهم عن أنفسنا.
وقبل الدخول في موضوع الحوار أحب أن أبين من هو الآخر بالنسبة لنا أهل الإسلام والسنة، لكي يصبح حديثنا عن معلوم لا جهالة تحفه، ولا نكارة تغطيه.
فالآخر بالنسبة لنا هو: كل من خالف عقيدتنا وفكرنا وقيمنا ومنهجنا المعتمد على الكتاب والسنة والتي تفهم بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.(1/372)
وبهذا يكون الآخر بالنسبة لنا هو كل من يدين بغير دين الإسلام، بالإضافة إلى الأفكار والتيارات والفرق الإسلامية المختلفة التي لا تعتمد على الكتاب والسنة، أو تفهمها بفهم يخالف فهم السلف الصالح، وهذه الفرق الإسلامية يكون بعدها وقربها منا بمدى قربها وبعدها من الكتاب والسنة.
وقد جاءت كلمة (الحوار) بلفظها في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
1- سورة الكهف: الآية (34): "وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا".
2- سورة الكهف الآية (37): "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا".
3-وسورة المجادلة الآية (1): "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ".
والحوار والمناظرة والجدال بالتي هي أحسن كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، كما قال تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". وقوله تعالى: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". بل إن القرآن الكريم مليء بالحوارات والمناظرات بين الرسل - عليهم السلام - وبين المخالفين لدعوة الأنبياء والمرسلين.
وإن مدة (القول) والتي وردت في مئات المواضع من القرآن العظيم ما هي إلا نماذج عملية وتطبيقية لهذه الحوارات، فالآخرون يطرحون تشكيكهم وشبهاتهم ونجدها تبدأ بلفظ و(قالوا) والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - مأمور من الله - جل وعلا - بالإجابة عليهم ورد شبههم بكلمة (قل) كما جاء ذلك في آيات كثيرة:(1/373)
منها قوله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا" (الفرقان: 21). ويقول الله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ" (الأنعام: 35) ويقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ: 46) وقوله تعالى: "قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" (البقرة: 139).
بل لقد قص الله علينا قصص الرسل - عليهم السلام - مع أقوامهم ودعوتهم وحواراتهم ما يعتبر تطبيقاً عملياً ومنهجاً يقتدى به في الحوار مع الآخر، فهذا نوح - عليه السلام - يدعو قومه ويحاورهم ويجادلهم تسعمائة وخمسين عاماً ويبذل قصارى جهده ليدخلهم في التوحيد وليزيل ما علق في أذهانهم من الشرك والانحراف كما قال تعالى: "قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا". (نوح 5 - 9).(1/374)
وهذا الخليل أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - في مناظرته الكبرى مع النمرود لتقرير التوحيد والدفاع عن جنابه برد الشبهات التي يلقيها المشركون كما قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة: 258).
وهذا محمد - - صلى الله عليه وسلم - - ومجادلة نصارى نجران له عن عيسى - عليه السلام - حتى قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فيما رواه الطبري بسنده عن عبد الله بن الحارث الزبيدي: إنه سمع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني! من شدة ما كانوا يمارون ويجادلون النبي - - صلى الله عليه وسلم - -. وها هي آية المباهلة نزلت لتكون حاسمة للحوار والمحاجة في عيسى - عليه السلام - بعد بيان الحق ونزول العلم فقال تعالى: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (آل عمران 61).(1/375)
هذه رؤيتنا أهل الإسلام لأهمية الحوار مع الآخر ومجادلتنا له بالحسنى وصبرنا على أقوال المخالفين حتى وان كان النقاش في الإيمان بالله، ونقارع الحجة بالحجة بهامات مرفوعة عزيزة، وأدب رفيع وثبات ورباط جأش؛ لأننا أهل الحق وحملة الرسالة العالمية التي يجب علينا أن نوصلها للناس كافة كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا"، أما ما شرع للمسلمين من قتال وجهاد عدوهم فلا تنافي بينه وبين الحوار والدعوة إلى الله بالكلمة والبيان، بل إن الأصل دعوة الناس بالكلمة والكلمة تسبق السيف، وما الجهاد إلا وسيلة للدعوة إلى الله لإزالة العقبات والطواغيت الذين يمنعون الناس من سماع كلمة الحق والتوحيد، فوجب قتالهم انتصاراً للمظلومين وتحريراً لأفكارهم، لكي يختاروا ما يقتنعون به، ولم يحفظ التأريخ القديم والحديث عن المسلمين على أنهم أكرهوا أحداً من الأمم المخالفة للدخول في الإسلام وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 356). وقوله تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، بل تم احتواؤهم والتعايش السلمي معهم بناء على أحكام أهل الذمة الشرعية، واقرأ ماذا قال ارنولد توينبي عن الفتح الإسلامي: "في القرن السابع الميلادي حرر العرب المسلمون سلسلة من الدول الشرقية من سطوة إغريقية رومانية مسيحية" وقال أيضاً: "... لم يكن الاختيار بين الإسلام أو القتل، ولكن بين الإسلام أو الجزية وتلك سياسة مستنيرة، أجمعت الآراء على امتداحها... ويمكن القول، إن هذه الغلات التي حصدت من حقل التبشير الإسلامي، كانت حصيلة حركة شعبية تلقائية، ولم تنجم قط عن ضغط سياسي".(1/376)
وربما أن الحوار أحد أساليب الدعوة إلى الله فإنه يجب أن نستعد لهذا الحوار، أولاً بوضوح الأهداف التي أبرزها: الدعوة إلى الله بعرض هذا الدين العظيم للناس، ثم إزالة الشبهات التي تثار على الإسلام وأهله في كل زمان ومكان وكشف زيفها، وتبديد ظلمتها، ونحذر من أن نغيب هذه الأهداف وغيرها عن مسيرة حواراتنا بسبب الأوضاع السياسية العالمية الضاغطة، فتغيب الأهداف ويصبح الحوار للحوار ولكي نثبت للآخر فقط أننا نحاور الآخر، ثم يجب علينا أن نقوم بإعداد كوادر علمية وفكرية متخصصة سواء كان ذلك من خلال معاهد أو دورات مكثفة، لتخرج لنا كوادر تستطيع ان توصل صوتنا للدنيا كما نريد ولا نقع تحت طائلة الاخفاقات والاجتهادات الفردية؛ لأن العالم متشبع بالأفكار والأديان والفلسفات ما يجعله مشغولاً عما نطرحه، وذلك لأن المخالفين مدججة أفكارهم بآلة إعلامية دعائية هائلة وقوة مادية تفوق أضعاف أضعاف ما نملك، وبهذا يتضح خطأ البعض منا عندما يراهن على إفلاس هذه الأفكار المنحرفة من كسب جموع الناس، وليس هذا لأنها على الحق وأنها تقدم للناس حلولاً ناجعة، بل لأنها تعرض عليهم صباح مساء وبأساليب براقة، وألوان زاهية فينقلب الحق باطلاً والباطل حقاً في أعين البسطاء، وتلك خسارة لا نتمناها والعياذ بالله.
12/5/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/377)
الحوار المتسامح : استدراك على قصور الاجتهاد
د. عبد الكريم بكار
استقر في الخبرة البشرية أن الحياة الاجتماعية لا تستقيم دون قيام كل واحد من الناس بتحديد المجال الخاص به والذي يجد فيه ذاته، ويدافع من خلال الدفاع عنه عن كيانه ومصالحه. وربما كان هذا المستخلص الثقافي نابعًا من مستخلص آخر، هو أن طبيعة اجتماع الناس بعضهم مع بعض، تولد التوترات والمنازعات بسبب اختلاف الأفهام والأمزجة والمصالح..
ومن هنا فإن رسم المجال الخاص على جميع الأصعدة والمستويات يساعد على توفير أساس لاحترام الحقوق والواجبات وتوضيح ما هو مجال للنفوذ الشخصي، وما هو من قبيل ما هو متاح للتداول والاستخدام العام.
ما لا يستطيع بنو آدم الفكاك منه هو (القصور الذاتي) الذي يطبع كل منجزاتهم، ويولد لهم بالتالي ما لا يحصى من الالتباسات والإشكالات. ومن هنا نشأت فكرة (الاستدراك) على الأعمال السابقة ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه في الكثير من الشؤون المختلفة.
أعمال البر والإحسان تشكل نوعًا من الاستدراك لقصور النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إنها كرة أخرى على صعيد استعادة أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية المنقوصة.
التسامح الذي يعني التساهل واللين في التعامل مع الآخرين وفي رؤية الأحداث والمواقف - هو الآخر يشكل نوعًا من الاستدراك، إنه استدراك على قصور نظم الدلالة والفهم والتفسير، واستدراك على قصور التعريفات وغموض المصطلحات واستدراك على القصور في تحديد المفاصل في كل الأشياء ذات الأوساط المتغيرة.(1/378)
من هذا المنطلق فإن التسامح لا يعبر عن النبل والكرم الذاتي بمقدار تعبيره عن الحاجة والضرورة. والمواقف التي ينقصها التسامح والتنازل والملاطفة، لا تفقد شيئًا كماليًا من قبيل الزخرفة، وإنما تفقد شيئًا بنيويًا، لا يشعر بالاستغناء عنه إلا من أصيب بقصر النظر وفجاجة الإدراك. إن الإحساس المترهل تجاه قضية التسامح نابع من الظن بأن التسامح عبارة عن تبرع نجود به في حالة التعامل مع أشخاص أشرار أو التعامل مع مواقف عدوانية أو مواقف تفتقر إلى اللباقة أو الكياسة الاجتماعية. وأعتقد أنه قد آن الأوان لتغيير هذه النظرة، والصيرورة إلى رؤية تجعل من التسامح أمارة على وضع الأمور في نصابها وعلى السير في الاتجاه الصحيح. ولعلي أقف مع مسألة التسامح الوقفات الآتية:
? لا نستطيع أن نتعلم (التسامح) من خلال قراءة كتاب أو سماع محاضرة. كما أن التسامح لا يشكل مجموعة مواد نضعها في مقدمة دستور ونحاول التقيد بها. إنه شيء أكبر من ذلك وأعمق. إن التسامح شيء يسري في أعماق نظم التفكير والتعبير السوي، وشيء نتعلمه بطريقة لا واعية من خلال العيش في بيئة ثقافية تنظر باحترام وتقدير إلى الظروف الصعبة التي يمر بها الآخرون، كما تأخذ بين الاعتبار طبيعة المشكلات التي تخترق نظم التواصل الاجتماعي ونظم إدراك الأشياء والتعبير عن الذات والحقوق والرغبات.
ومن هنا فإن التحدي الذي يواجهنا هو النجاح في تأسيس تقاليد ثقافية تجعل من التسامح أسلوب حياة.(1/379)
الإسلام حدد لنا المنطلقات وأرسى لنا القواعد التي تمكننا من العمل على هذا الصعيد بكفاءة، وذلك على مستوى الأحكام وعلى مستوى الآداب. ومن الآداب والتوجيهات والأحكام والتعليمات تتكون البيئة المتسامحة التي تتنفس فيها الأجيال الجديدة. على صعيد التوجيهات والآداب نجد العديد من النصوص التي تؤسس لأرضية مشتركة يقف عليها كل المسلمين سواء أكانوا من الملتزمين بتعاليم الإسلام أم كانوا من المفرطين ببعضها أو بكثير منها. ومن تلك النصوص قوله - سبحانه -: }ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير. جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير| (سورة فاطر: 33، 32). إن من زادت سيئاته على حسناته، ومن استوت سيئاته مع حسناته، ومن زادت حسناته على سيئاته - إن أولئك جميعًا ممن أورثهم الله الكتاب، واصطفاهم على غيرهم من الناس بما هداهم له من التوحيد والإيمان. وفي هذا من جمع كلمة المسلمين وقطع أسباب الخصام بينهم ما لا يخفى. ومن وجه آخر فإن القرآن الكريم يغني روح التسامح من خلال توجيه المسلم إلى التخلق بخلق الصفح ومقابلة السيئة بالحسنة، كما قال - سبحانه -: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (سورة فصلت: 34). إن دفع العدوان بالإحسان ومقابلة الإساءة بالحلم من الأمور الجوهرية في توليد المشاعر الجميلة، حيث يتحول المعادي إلى صديق حميم. ونجد في الحقيقة الكثير من الآداب والأخلاق التي تحول بين أبناء الأمة الواحدة وبين الانجرار إلى الاحتراب والاقتتال الداخلي، وذلك بسبب ما تشيعه من خلق التحمل والتنازل وتقدير مشاعر الآخرين وظروفهم وطريقة فهمهم للأشياء. ومن تلك الآداب والأخلاق:
- تحريم الغيبة والنميمة وشهادة الزور.
- إشاعة التحابب والتوادد بين الناس.(1/380)
- الإرشاد إلى التيسير والتبشير والابتعاد عن التنفير والعسير.
- الحث على كظم الغيظ ومعالجة الغضب.
- حفظ الحقوق المالية وتحريم أكل أموال الناس بالباطل.
- النهي عن الحسد والتجسس.
- الأمر بالرفق في الأمور كلها.
- النهي عن الغمز واللمز والسخرية.
- الأمر بإصلاح ذات البين عند وقوع خلاف.
- إشاعة الخير ومحاصرة الشر بالحكمة والموعظة الحسنة.
- التماس العذر للمخطئ، وحمل الكلام الذي لا يعجبنا على أحسن الوجوه.
- الأمر بالعدل عند الحكم.
إن التحلي بنصف هذه الآداب والامتثال للجوهري من هذه التوجيهات كاف لبناء أجواء التسامح والتعاطف والتآزر في المجتمعات الإسلامية، وهذا ما تدل عليه شواهد التاريخ ودلالات الحاضر.
أما على مستوى الأحكام فليس في شريعة الإسلام ما يشق اعتقاده أو عمله فالتكليف دائمًا ضمن الوسع والطاقة، وهناك مبدأ عام يسري في كل التكاليف، وهو رفع الحرج، كما أن وجود المشقة كثيرًا ما يكون سببًا في وجود الرخصة على ما هو معلوم ومشهور. وهناك إلى جانب هذا احتياط شديد في مسألة إقامة الحدود. ومبدأ الستر على المسلمين مبدأ واسع التطبيق، كما أن التوبة والاستغفار باب واسع من أبواب التسامح والسهولة.(1/381)
? إن كثيرًا من الأحداث التي تقع هنا وهناك، يفتقر إلى التسامح بسبب العزلة الشعورية القائمة بين أصحاب الأديان والمذاهب والاتجاهات المتباينة وبسبب وجود الشك وعدم الاطمئنان وعدم الثقة، مما يحول الناس المختلفين إلى كتل بشرية صلدة، ليس لها هم سوى الخصومة والغلبة ولي الذراع.. ومن هنا فإن القرآن قد وجه المسلمين إلى معاملة غير المسلمين بالبر والقسط والإحسان ما داموا لا يحاربون الإسلام، على نحو ما نجده في قوله - سبحانه -: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" (سورة الممتحنة: 7 - 9). ويقدم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - نموذجًا شديد الوضوح في التعامل مع أهل الكتاب، فقد أخرج البخاري أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام استلفه لأهله منه. وعند البخاري أيضًا أنه كان - - صلى الله عليه وسلم - - يزور غلامًا يهوديًا مرض في المدينة، وكان ذلك الغلام يخدم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وزاره مرة وقد مرض الغلام مرض الموت، فدعاه إلى الإسلام ليشفع له يوم القيامة. فنظر الفتى إلى والده، كأنه يستأذنه فقال له والده: أطع أبا القاسم. فأسلم الغلام قبل أن يموت، وفرح بذلك رسول الله فرحًا شديدًا، وتهلل وجهه كأنه البدر. وحين مرت جنازة ليهودي وقف رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ووقف معه الصحابة، ثم قال أحدهم - كما ذكر البخاري - إنها جنازة يهودي (مستكثرًا وقوفه لها ولاسيما أن اليهود حاولوا اغتياله ووقفوا مع قريش يوم الخندق... ) فرد - - صلى الله عليه وسلم - - على الصحابي قائلاً: أليست نفسًا؟!(1/382)
وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير، وهم يهود كان قد سكنوا المدينة. إن هذه المواقف وأمثالها تدل دلالة واضحة على أن الإسلام دين يؤسس للتعايش السلمي بين البشر، ويؤكد أسباب التفاهم ولاسيما بين أبناء الوطن الواحد ولو اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، فهناك شيء مشترك تجب المحافظة عليه، وهناك مسير مشترك يجب الاهتمام به.
? حين نقف موقفًا متسامحًا، فإننا نشعر أننا ضعفاء، ونشعر أننا نقف على أرض هشة، كما أننا نسمح للآخرين أن ينظروا إلى تسامحنا على أنه نوع من الضعف أو الخوف أو عدم الاهتمام. كما أن التسامح قد يؤدي إلى بروز الفرق الشاذة والأفكار المنحرفة، ويشجع بعض الناس على الخروج على الإجماع الثقافي إلى حد وجود مواقف تقترب من الخيانة للهوية. كل هذا متوقع الحدوث، بل كثيرًا ما يحدث. هذه المخاوف تشكل في الحقيقة حافزًا من أقوى الحوافز على عدم التسامح، وعلى الصيرورة إلى التشدد والحذر الزائد مع الذين نختلف معهم في أمور قد نظن أنها جوهرية. وأود في هذا السياق أن أوضح الأمور التالية:
- تدل تجربتنا التاريخية أنه لا بد أن يكون للتسامح حدود، فهناك دائمًا خطوط حمراء لا يصح تجاوزها. ولا يصح لمبدأ التسامح أن يتحول من مبدأ لنشر الوئام والتفاهم إلى أداة لإثارة الفتن وإعطاء المسوغ لأهل الغلو بالقيام بأعمال عنيفة وغير حكيمة. وأعتقد أن كل الأمم تتفهم مثل هذا المبدأ، وتعمل به. ولكن تجربتنا التاريخية تعلمنا شيئًا آخر، هو أن السلطة تملك دائمًا الإغراء باستخدام القوة في رسم الخطوط الحمراء عوضًا عن بناء القناعات عن طريق الحوار والجدل والتثاقف. وهذا في الحقيقة شكل من أشكال خيانة القوة للذين يملكونها.(1/383)
- نحن - وكذلك غيرنا - نعيش في وسط غير كامل. وحين يعيش الإنسان في وسط غير كامل، فليس من حقه انتظار الوصول إلى حلول كاملة. لن نستطيع من خلال التسامح تحقيق ما نصبو إليه من وحدة الكلمة، كما أننا لن نصل إلى ذلك عن طريق الضغط والإكراه. المقصّي والمنفي عن طريق القوة، يجد دائمًا الفرصة - ولو بعد حين - للظهور في صورة انفجار، يذهب بالصالح والطالح، ويضطر المجتمع بذلك لأن يبني توازناته، ويعيد ترتيب أوراقه من نقطة الصفر.
أما التسامح فإنه يمنحنا الفرصة لإصلاح الخلل على سبيل التدرج وفي إطار تبادلات ثقافية هادئة. حين يكون المرء على حق وعلى ثقة جيدة بتوجهه فإن تسامحه مع المخالفين يشكل دليلاً إضافيًا على صحة ما هو فيه، حيث يرى الناس آنذاك سقم الآراء التي تسامح معها. وقد كان (توما الأكويني) يقول: إن الكنيسة الكاثوليكية تستفيد فائدة حقيقية من ترك اليهود يمارسون شعائرهم لأن هذه الشعائر في نظره هي بمثابة شهادة حية على صحة الديانة المسيحية.
- لا يكتشف العقل البشري الأشياء إلا على سبيل التدرج، ولا تظهر حقيقة الشيء على نحو جيد إلا إذا اكتمل. والحقيقة الواحدة طبقات بعضها فوق بعض، وكلما ظننا أننا لامسنا آخر طبقة فيها برزت لنا طبقة جديدة، لتلقي علينا أسئلة جديدة. وفي كل حقيقة عنصر غيبي استأثر الله بعلمه.(1/384)
والقصور الذاتي لنظم الدلالة اللغوية، يجعل فهمنا لكثير من الأمور ظنيًا، وقابلاً للتغيير والتبديل. لهذه الأسباب - وأخرى غيرها - يكون من المنطق ومن الواقعية أن نحاول رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخرين، وأن نعدّ تعدد زوايا النظر شيئًا مشروعًا في كثير من الأحيان. كلما زادت درجة التعقيد في المعطيات كان من المنهجية أن نزيد في درجة المرونة خلال المعالجة والتنظير. ونحن اليوم متفقون على أن أوضاعنا ليست على ما يرام، وأن لدينا الكثير من المشكلات الملحة. كما أننا متفقون على ضرورة القيام بإصلاح شامل وجذري على العديد من الصعد، لكن لأسباب موضوعية لا نستطيع تحديد الأولويات الإصلاحية كما أننا لا نستطيع تقدير حجم رأس المال الأخلاقي والعلمي والاجتماعي الذي نملكه والذي نحتاج إليه في عملية الإصلاح. وقل نحوًا من ذلك في الأدوات والأساليب التي علينا أن نستخدمها في ذلك. هذا يعني أن التسامح تجاه الوجهات الإصلاحية المختلفة لا يكون شيئًا من قبيل الإحسان، وإنما من قبيل الضرورة. قد كان علماؤنا القدامى يقولون في التعبير عن هذا المعنى: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب». وبما أن المجال الفقهي غني بالنصوص التي تؤطر المعالجة الاجتهادية فإن مجال تعدد الصواب يكون معدومًا أو ضيقًا. أما في مجال الاجتهاد الحضاري والإصلاحي فإن الأمر واسع، فإذا اجتمع خمسة من التربويين لبلورة خطة لإصلاح الشأن التربوي، فسيكون في إمكان كل واحد منهم أن يقول: ما أراه صواب يحتمل الخطأ. وما يراه غيري صواب يحتمل الخطأ. وقد يكون الصواب في حقيقة الأمر مع شخص سادس أو سابع خارج المجموعة. وقد يكون موزعًا على الجميع. ولهذا فإن التشبث بالمواقف كما يفعل من يملك الحق القطعي الذي لا شبهة فيه - لا يستند إلى رؤية موضوعية ولا إلى أساس متين من حسن النظر.(1/385)
- من المهم دائمًا أن يعكس التعبير الذي نستخدمه في توضيح آرائنا ومذاهبنا طبيعية الظن والاحتمال الذي يخترق العمل الاجتهادي. وسنكون مطالبين ألا نندفع إلى استخدام تعبيرات تحمل درجة من القطع والوثوق، تأباها طبيعة المقدمات والمعطيات التي بنينا عليها رؤانا الإصلاحية. من المعروف في هذا السياق أن النصوص الشرعية في المجال السياسي قليلة جدًا إذا ما قورنت بما هو متوفر في مجال العبادات - مثلاً - مما يعني وجود أمداء واسعة للاجتهاد والاختلاف وتباين الطروحات. وهذا يملي علينا أن نستخدم التعبيرات التي توحي بوجود رؤى شخصية، وأن نبتعد عن التعبيرات التي يفهم منها أننا نتحدث عن حقائق مطلقة أو مسائل بدهية أو قطعية. وقد عتب الإمام الجويني في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم) على الماوردي فيما صنعه في كتابه (الأحكام السلطانية) حيث إنه لم يراع هذا المعنى في طريقة صياغته وعرضه لمسائل السياسة الشرعية في ذلك الكتاب. إنه - كما يقول الجويني - ساق الظنيات في مساق القطعيات. وفي هذا تحميل للأمور أكثر مما تتحمل، وهذه ملاحظة ذكية جدًا، وآمل أن ننتفع بها في مجالاتنا اليوم.
? يصعب علينا أن نقول إننا نملك فضيلة التسامح إذا لم نؤمن إيمانًا عميقًا بجدوى (الحوار) في تحسين رؤيتنا للأشياء. حين نعتقد أن في كل المسائل الغامضة نقاطًا مظلمة، تحتاج إلى إضاءة، وأننا من خلال قدراتنا العقلية والمعرفية الخاصة، لا نتمكن من إضاءة تلك النقاط، فإننا سنسعى إلى الحوار بوصفه الأداة الوحيدة لتوضيح الصورة الذهنية لمعظم الأشياء وقد قال أحدهم بحق: «إن الأفكار لا تنضج إلا إذا لاكتها ألسنة المناظرة».(1/386)
من خلال الحوار نمحص الفكرة بالفكرة والمقولة بالمقولة. ومن خلال الحوار نمنح الأفكار امتدادات جديدة، كما نحرم بعض الأفكار من امتدادات غير مشروعة. ينطوي الحوار على التسامح، لأنه ينطوي على اعتراف ضمني بالقصور، ويحدّ من غلواء الاعتداد بالذات. وهذا هو الذي يرسخ لدينا مشاعر الحاجة إلى الآخرين. وبمجرد توفر هذا الشعور يبدأ التنازل، وتبدأ حركة التأثير والتأثر. والشعور بالحاجة إلى الآخرين - من وجه آخر - يشكل شرطًا للاستفادة من الحوار. إن كل واحد منا مطالب بالإيمان بأن الحوار ليس شعارًا نرفعه، أو شيئًا تزيينيًا، نتجمل به، وإنما هو مصدر لتعبير الأفكار وتنمية الاتجاهات وإزالة الأوهام. سيكون الحوار مثمرًا إذا استطاع أن يوجد المزيد من الشك في أمور كنا ننظر إليها نظرة الموقن الجازم بما يرى وبما يذهب إليه. وإن الشك يولد بداية لامتلاك زمام المراجعة، في الوقت الذي يؤسس فيه للتسامح. ومن المفيد أن نتأمل في قول الله - تعالى -: }قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين| (سورة سبأ 24). من الواضح أن الآية تشتمل على توجيه للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - بأن يدعو الكفار إلى المحاورة من أجل اكتشاف الفريق المهتدي من الفريق الضال. إن النبي لا يشك، ولا يشك المؤمنون معه كذلك أن الحق معهم، لكن هذه الدعوة من باب التشجيع على مراجعة الكلام وإثارة النقاش. إنه تسامح شديد الوضوح يتيح درجة من التكافؤ بين الرسول المعصوم والمبلغ عن ربه وبين أقوام لم ينالوا من العلم إلا أقل القليل. وقد قال بعض النحويين إن (أو) في الآية للتشكيك. إنها تساعد على إيجاد جو من الشك يشجع المعرضين عن الإسلام على الانفتاح من جديد على الدعوة المقدمة إليهم من خلال الإيحاء باستعداد المسلمين للانفتاح على ما لدى مخالفيهم. وهذا مثل قول الواثق من حجته لخصمه: أحدنا على الحق، أو أحدنا كاذب مع أنه لا يشك أنه صادق(1/387)
وأنه على الحق، لكنه التحفيز على الحوار وإعادة النظر.
? يسيء المتصلب والرافض للتسامح إلى نفسه وإلى دعوته ومنهجه من حيث لا يدري، حيث إن ذلك يكون غالبًا في حالة التمكن والشعور بالسيطرة.
ومن الواضح أن المعارضة في معظم الدول هي التي تدعو إلى الحوار بوصفه الخيار الوحيد الذي قد يمكنها من تحقيق بعض المكاسب. لكن الذين يملكون النفوذ يرون في الحوار مدخلاً لخسارة أشياء لا يصح التنازل عنها أو التفريط بها.
وحين نقرأ التاريخ بعمق نجد أن المتصلب والمفتقر إلى روح التسامح، يمنح خصومه جاذبية، لا يستحقونها، ويجعل منهم أمناء على تحقيق مصالح قد لا يكونون من الناحية العملية أهلاً للنهوض لها. حين يكون الأقوياء جديين في تأملاتهم ومواقفهم من منافسيهم فإنهم يحققون مكاسب مادية، أو يوفرون لأنفسهم شعورًا بالقوة والتماسك، لكنهم يخسرون ما كان في الإمكان تحقيقه من فتوحات فكرية وروحية. وتخسر الدعوة التي يحملونها والأفكار التي يؤمنون جزءًا كبيرًا من تألقها وقدرتها على الإثارة.
قد بعث نبينا - عليه الصلاة والسلام - بالحنيفية السمحة. وقال: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة». وقال: «خير الدين أيسره». فهل يليق بنا أن نكون شيئًا غير ذلك؟
http://www.almarefah.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/388)
الحوار الإسلامي ... بين الدواعي والمعوقات
تحقيق أعده
محمد بن شاكر الشريف
خباب بن مروان الحمد
في عالمنا المعاصر ولأسباب كثيرة تهتم العديد من الدوائر بالحديث عن الحاجة إلى الحوار الإسلامي النصراني؛ أملا في التقريب بين الرسالتين، تمهيدا لتوحيد الأتباع في دين واحد يجمع بين الإسلام والنصرانية، وتجند لذلك هيئات ومؤسسات وتنفق في سبيل ذلك الكثير من الأموال، لإعداد البحوث والدراسات بحثا عما يدعونه من القواسم المشتركة تحت مسمى الإيمان بوجود إله خالق في مواجهة من ينكرون وجود الله، وذلك من خلال فعاليات كثيرة من المؤتمرات والندوات والبيانات المشتركة، ورغم ما يبذل من جهود ضخمة لإنجاح هذه المؤتمرات والندوات إلا أنها خائبة وخاسرة، لأنه لا يمكن حدوث تقارب حقيقي إلا إذا دخل الكفار في دين الله - تعالى -، وأما الخطوات التي يخطوها كلا الطرفين للالتقاء في منتصف الطريق كما يزعمون فإنها تبعد المسلم عن دينه حتى يكاد يخرج منه ولا تدخل الكافر في دين الإسلام، والذي ينبغي أن تتجه إليه الهمة والجهد الحقيقي هو التقريب والتوفيق بين العاملين لدعوة الإسلام، لأن المسلمين في حاجة حقيقية لمثل هذا الجهد في واقعنا المعاصر، نظرا لما تتعرض له أمتنا الإسلامية من هجمة صليبية شرسة، ثم هو جهد يبذل وينتج عنه ثمرة حقيقية، لأن عوامل نجاحها موجودة في الإسلام نفسه الذي يعمل له الدعاة، من هنا فكرت مجلة البيان في البحث في الحوار الإسلامي الإسلامي بين أطراف إسلامية تعمل لهذا الدين، تجمعها أطر عامة وكليات ثابتة، وإن حدث نوع من الاختلاف فيما دون ذلك، بغية إحداث تجانس أو تقارب فكري ومنهجي بين الجميع، ينتج عنه عمل يصب في صالح دعوة الإسلام، وقد تحصل لدينا العديد من المحاور والأسئلة التي تخدم هذا الحوار، والتي تدور حول جدوى البحث عن التقارب في ظل النصوص التي يفيد ظاهرها قدرية الاختلاف، وأهمية التقارب الفكري والمنهجي ومدى مساهمته(1/389)
في إحداث التجانس والتعاون والتكامل بين الحركات الإسلامية، وما القواسم المشتركة التي يعمل من خلالها التقارب الفكري، وما خطة العمل الناجحة التي يسير عليها التقارب بين الحركات الإسلامية، والضوابط التي ينبغي مراعاتها في ذلك، كما تطرقت المحاور إلى المعوقات سواء منها الداخلية النابعة من ذاتنا وبيئة العمل، أو الخارجية القادمة إلينا التي تقف في سبيل الحوار والتقارب، فجمعنا العديد من هذه الأسئلة وتوجهنا بها إلى جمهرة كبيرة من العلماء والدعاة في مختلف الأقطار الإسلامية فكان هذا التحقيق:
شارك في هذا التحقيق من أهل العلم والدعاة (بحسب الترتيب الهجائي) الشيخ أحمد فريد من مصر، الشيخ تيسير عمران من فلسطين، الشيخ حامد البيتاوي من فلسطين، الأستاذ حسن يوسف من فلسطين، الأستاذ جمال سلطان من مصر، الدكتور خالد الخالدي من فلسطين، الأستاذ خالد حسن من الجزائر، الشيخ رفاعي سرور من مصر، الدكتور سفر الحوالي من السعودية، الشيخ سليمان أبو نارو من السودان، الدكتور صلاح الخالدي من الأردن، الشيخ عبد الله الغنيمان من السعودية، الدكتور عبد الله وكيل الشيخ من السعودية، الدكتور عبد الرزاق مقري من الجزائر، الدكتور عثمان جمعة ضميرية من سوريا، الدكتور عمر الأشقر من الأردن، الدكتور كسال عبد السلام من الجزائر، الشيخ كمال الخطيب من فلسطين، الشيخ محمد حسان من مصر، الدكتور محمد العبدة من سوريا، الدكتور منير محمد الغضبان من سوريا، الدكتور همام سعيد من الأردن
جدوى البحث عن التقارب
البيان:
هناك من ظواهر النصوص ما يدل على قدرية الاختلاف فهل البحث عن التقارب يعد نوعا من الجري وراء ما لا يمكن إدراكه أو الحصول عليه، أم أن هذه النصوص لها تفسيرات بحيث تلتئم مع النصوص التي تحض على الاعتصام بحبل الله جميعا وعدم التفرق في الدين، بمعنى آخر نريد ضبط العلاقة بين النص القدري والنص التشريعي.
المشاركون:(1/390)
يقرر الشيخ الدكتور سفر الحوالي أن دفع القدر بالقدر من عقيدة أهل السنة والجماعة، والذي أخبرنا بالافتراق أمرنا بدفعه بالاجتماع وأرشد إلى أسبابه ووسائله، والفكرة نفسها يقررها الدكتور محمد العبدة فيقول: يجب أن توضح التفرقة بين القدر الكوني والقدر الشرعي فإذا كان التفرق واقعا فعلا كما جاء في الأحاديث فإننا مأمورون شرعا بالابتعاد عن التفرق ومأمورون بالتعاون على الخير، كما قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: نفر من قدر الله إلى قدر الله، والفكرة نفسها أيضا يدندن حولها الشيخ كمال الخطيب فيذكر أن علينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر الوحدة والتجمع والالتقاء والتقارب تماما مثلما ندفع قدر الداء بقدر الدواء، ويقول الدكتور همام سعيد: إذا كان الخلاف سنة من سنن الله - تعالى - في خلقه فإن الاتفاق والاتحاد والعمل على إزالة الخلاف وأسبابه فريضة لقوله - تعالى -: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويتطرق الشيخ أحمد فريد إلى قضية مهمة وهو أن القدر الكائن لا يحتج به على ترك المشروع المطلوب، فالواجب على ذلك السعي وراء التعاون وجمع الكلمة على الحق ولا يجوز ترك ما جاء به الأمر احتجاجا بالقدر وتسليما بالأمر الواقع، وبنحو مما تقدم يقرر الأستاذ خالد حسن أن التدافع سنة الله - تعالى - في الكون وعلينا أن ندفع قدر الاختلاف بقدر التقارب ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر الشرعي لأن الله - تعالى - لم يتعبدنا بما لا نطيق، ويرى الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الخلاف إذا كان في جوانب تدخل تحت الإرادة وإذا كان فيما لا ينبغي أن يكون فيه خلاف واختلاف فإن هذا ينبغي الدعوة إلى إزالته ورفع أسبابه ليعود الأمر إلى الاتفاق، وكذلك يري الدكتور عبد الرزاق مقري أن الاختلاف ظاهرة بشرية أي أنها حتمية لا فكاك منها، لكن التفرق مع ذلك مذموم، ما يعني العمل على دفعه، ويرى الدكتور صلاح الخالدي أن الخلاف قدري فلم يخلق الله الناس على نموذج(1/391)
واحد وإنما خلقهم متفاوتين، وكل إنسان نموذج خاص في عقله وفكره، و أن هذا الاختلاف إنما لضرورة تحقيق الخلافة في الأرض- وليس للتنازع والشقاق - فلا تعمر الأرض إلا بالتدافع والتزاحم بين هذه النماذج، لكن هذا التنوع والتدافع لا بد أن ينتج عنه الاختلاف بين الناس، فالاختلاف قدري لا بد أن يقع وهذه سنه الله التي لا تتخلف، ومع تأكيده على قدرية الاختلاف لكنه أيضا يؤكد على أن القرآن دعا المسلمين في آيات كثيرة إلى الاتفاق والتعاون ونهاهم عن التنازع والتفرق فالله الذي جعل الاختلاف قدريا بين المسلمين "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" هو نفسه الذي أمرهم بالاعتصام بحبله ودعاهم إلى التعاون والتنسيق "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويذهب الشيخ تيسير عمران إلى أنه لا يصح التذرع بقدرية الاختلاف لأن التذرع بالقدر شأن من لا يريد العمل، ويذكر أن النصوص تدعو إلى الوحدة وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأن المسلمين مكلفون دفع الاختلاف والفرقة والأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويرى الشيخ سليمان أبو نارو أن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية قد نص عليها الكتاب والسنة وتواترت في إجماع الأمة وقد توعد الله أهل التفرق بما توعد به أهل الكبائر، فلا وجه أن يكون الدعوة إلى التقارب دعوة إلى ما يستحيل وقوعه، فنحن مأمورون بأن ندفع قدره الكوني بقدره الشرعي جهد الطاقة والوسع، وقد بين أهل العلم أن النصوص الواردة في كل من الإرادة الكونية والإرادة الشرعية مجتمعة ومتسقة وأن الإرادة الكونية لا تعني سوى المشيئة المطلقة القائمة على العلم السابق وهي واقعه لا محالة، كما أن الإرادة الشرعية تعني ما يحبه الله - تعالى -ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح وبيان ما يبغضه وينهى عنه من الكفر والعصيان، ويذهب الشيخ عبد الله الغنيمان إلى أن الله - تعالى - خلق بني آدم متفاوتين في الأفكار والأفهام والاتجاهات والميول(1/392)
وكل ذلك من دواعي الاختلاف قال - تعالى -: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فهو يقرر بذلك قدرية الاختلاف، لكنه يبين أن أهل السعادة هم أهل الائتلاف فهم غير مختلفين، وأما أهل الشقاوة فهم أهل الفرقة والاختلاف، ثم يقرر أن الخلاف على ذلك قسمين: اختلاف على الرسل وما جاءوا به فهو المهلك لأهله، واختلاف من أجل تفاوت العلم والفهم، وهذا لا حرج فيه إذا لم يتخذ سبيلا للبغي والعدوان وجعل مسوغا للفرقة والمعاداة، وبهذا يثبت أن التقارب والتآلف أمر ممكن وقريب بل هو مأمور به وواجب ولا يمكن أن نؤمر ونكلف بالممتنع ولكن الوصول إليه يحتاج إلى جهد وعمل باستطاعة المسلم إدراكه وتحصيله، ويذكر الدكتور منير محمد الغضبان أن قدرية الاختلاف ليست بالنسبة للمؤمنين إنما بالنسبة للبشر بشكل عام "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" والاختلاف بين المؤمنين في الخط والمنهج هو خلل في التربية وليس قدرا مفروضا عليهم، والأصل أن يفيء المؤمنون عامة والدعاة خاصة إلى كلمة سواء، وإلى نحو من ذلك يذهب الأستاذ جمال سلطان حيث يذكر أن الخلاف ليس قدريا وإنما هو اجتهاد بشري تحكمه خبرات الواقع وزوايا النظر إلى الأحداث وأولويات التصور عند كل طرف، فهذه التي تسبب الخلاف بين تيارات العمل الإسلامي، ويرى الدكتور عمر الأشقر أن الخلاف الذي يذكره القرآن أنواع الأول: خلاف في أصل الدين كالخلاف مع اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والبهائيين وأضرابهم، والنوع الثاني: الخلاف القائم بين الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة والشيعة الذين أصلوا أصولا تجمعوا عليها خالفوا بها أهل السنة والجماعة، والنوع الثالث: الاختلاف في الأحكام وهو الخلاف المذهبي، والخلاف القائم اليوم بين الحركات الإسلامية ليس واحدا من هذه الثلاثة بل هو اختلاف رأي واختلاف منهج، ويمكن أن يكون(1/393)
من نوع الخلاف المقبول، ومن الممكن لهذا النوع أن يتراجع أو يزول لو تواصلت قيادات العمل الإسلامي فيما بينها وجلسوا للحوار متآخين متحابين،، وأما الشيخ رفاعي سرور فيرى أن الاختلاف ظاهرة فكرية، ولكن له حقيقية قدرية وهي أن الاختلاف عذاب، وأن العذاب يرفع بموجبات الرحمة، فتصبح موجبات الرحمة سببا لمعالجة الاختلاف، قال - تعالى -: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" ومن موجبات الرحمة الدعاء وذكر الله وقراءة القرآن ومدارسة العلم فهذا كله من أسباب رفع البلاء، وهذه ليست مسألة رقائق ولكنها حقيقة منهجية صحيحة مهمة جدا.
أهمية التقارب الفكري والمنهجي ودور الحوار في تفعيل ذلك:
البيان:
يتبين مما تفضل به الأخوة المشاركون أن الاختلاف بين الحركات الإسلامية - سواء قيل بقدريته أو عدمها - ليس مسوغا للتفرق والتشرذم، لأننا مأمورون باتباع الشرع الذي أمر بالجماعة ونهى عن التفرق، وهذا يعني إمكانية الاتفاق والالتقاء على كلمة سواء، وهو ما يجعلنا نبحث في توحد أو اتحاد هذه الحركات، لكن قد يكون اجتماع الحركات كلها في جماعة واحدة هدفا بعيد المنال في ظل ظروف الدعوة المعاصرة لأسباب كثيرة منها الداخلي ومنها الخارجي، لكن هذا لا يعني التقاعس عن محاولة الوصول إلى ذلك، ولا ينفي أيضا أهمية السعي لإحداث التقارب الفكري والمنهجي الذي يعد أحد أهم السبل التي تعين على الوحدة أو الاتحاد.
المشاركون:(1/394)
يقرر الدكتور عمر الأشقر أن الحوار مهم جدا لتحقيق التقارب والتجانس بين تلك الحركات ويضع لتحقيق ذلك قيدا مهما بقوله: إذا أحسنوا العرض والحوار والاستدلال والبيان، فبذلك تصقل الملكات وتوضح المشكلات ونتقدم خطوة إلى الأمام، ويؤكد الدكتور منير محمد الغضبان أننا لا نطمح إلى وحدة بين الحركات الإسلامية لكن يجب أن نطمح إلى اتحاد بينها، وطريقه هو البحث عن التقارب من خلال الحوار ثم التنسيق ثم الاتحاد، فالاتحاد يتميز عن الوحدة بأن فيه محافظة على الكيان الخارجي لأي تنظيم إسلامي، مع تنازله عن بعض خصوصياته للمصلحة الإسلامية العليا، ويؤكد أن هذا لن يتم بدون الحوار بين هذه الحركات، ويذكر الدكتور عثمان جمعة ضميرية أن الاتفاق الكامل والتقارب الفكري ووحدة الأمة والعاملين في الدعوة كل هذا مما تحسن الدعوة إليه وبذل الجهد في سبيله، فالنية لا بد أن تتجه أولا إلى تلك الوحدة وذلك الاتفاق، لكن الوحدة أو الاتحاد لا تعني أن يكون الجميع نسخة واحدة، وإنما يكفي اتفاقهم على قاسم مشترك أعظم يلتقون عليه فيكونوا أمة واحدة في الغاية والهدف وفي الفكر والشعور، وفي السمات المميزة لهم، وذلك يمكن الوصول إليه بتوحيد منهج التلقي حتى يعصمهم من التفرق والشتات بما ينشئ من تصورات ثابتة وبما يضع لهم من موازين وقيم لا تتأثر بزمان معين أو مكان محدد، ويبين الدكتور وكيل الشيخ أن الحوار مهم لأن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو في حاجة إلى أن يستنير برأي غيره، ويعدد فوائد الحوار بأنه مهم في اكتشاف الحق كما أنه مهم في اكتشاف فهم المخالف بما يعين على توجيهه أو تصحيحه، وهو مهم لإزالة أو تقليل كثير من صور البغي والعدوان بين المتخالفين، وهو مهم لرسم سياسة التعاون بين الهيئات والمؤسسات الإسلامية إذ به تتضح المناهج والقدرات ومجالات العمل فيتم التنسيق المثمر، ثم هو في النهاية صورة من صور النصيحة التي يجب أن يبذلها المسلمون لبعضهم، أما(1/395)
الدكتور همام سعيد فيوضح القضايا المهمة التي من شأنها أن تسهم بشكل فعال في إنجاح الحوار وهي الاعتراف بأن الخلاف سنة من سنن الله في خلقه، والاعتراف بأن العمل على الاتفاق فريضة من فرائض الدين لتحقيق مفهوم الأمة الواحدة، والرجوع إلى الأصول وعدم الجدل في الفروع، والانطلاق من نقاط الاتفاق لا نقاط الاختلاف، والانطلاق من المقاصد لا من الوسائل، ويلخص الشيخ كمال الخطيب أهمية الحوار بقوله من أجل اختصار المسافة بين صواب المصيب وخطأ المخطئ فليس من سبيل إلى ذلك إلا الحوار وتقليص نقاط التباين، مع تصحيح القصد بابتغاء وجه الله - تعالى -، ويرى الأستاذ جمال سلطان أن الحوار مطلب شرعي وهو المنوط به فهم كل من المتحاورين منطلقات الآخرين ومسوغات مواقفهم، وعندما يغيب الحوار تتحول الأمور إلى الهواجس والظنون والشكوك والتصدعات وهذا هو الخطر، فالحوار يزيل هذه الهواجس والظنون، لكن في المقابل لا ينبغي أن يتصور أحد أن الحوار لابد أن يتمخض عن وحدة في الصف الإسلامي، أو عن اتفاق كامل شامل بينهم، فالمطلوب من الحوار أن يتمخض عنه الالتقاء في مناهج العمل، وإن لم يتمخض عنه ذلك، فلن يخلو الحوار من الخير.(1/396)
ويذكر الشيخ أحمد فريد بأن الواجب على أهل العلم النصح للأمة والسعي إلى الاجتماع ونبذ الفرقة لأن الاجتماع سبيل النصر بينما الفرقة سبيل الفشل وذهاب القوة "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"ففي التقارب روح المودة وعود المخالف إلى الحق، ولا شك أن الحوار والنصح من أسباب الوصول إلى ذلك، ويقدم الدكتور كسال عبد السلام نظرته للحوار من أنه السبيل لتوسيع المدارك فيذكر أن مجال التقارب يكون أكبر كلَّما احتلت السعة في الفكر ثم في المنهج في مختلف التنظيمات مساحة أكبر وحيزاً أوسع يفضي إلى زوال العقبات والفواصل، وليس ثمَّة مجال إلى توسيع المدارك غير الحوار الفكري الصحيح، وقالبه السليم الموصول بخلق السعة في القلوب والنفوس حتى تصل المعاني إلى المدارك لتُفْحص، فيتقبل الطرفان منها ما يقوى ويرفضا ما يضْعُف، دون شعور بنقص ولا عقد، وتحررا من الالتزام بمنطق الغالب والمغلوب، ويشير الدكتور كسال إلى قضية مهمة وهو أن الرغبة في الوحدة أو التقارب لا ينبغي أن تكون بابا ينفذ منه من يريد الإخلال بالانسجام السلوكي في المجتمع الإسلامي ليكون الجري وراء الوحدة المظهرية هو أهم ما يُحرَص عليه، بينما يترك المضمون الذي هو الأساس في صلابة البناء العام، وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الحوار وضرورته من خلال أمرين: الأول اشتراك الجميع في توجه الأمر إليهم بطلب الحق والصواب والعمل به وهذا لا يتم على النحو المأمول إلا بالحوار، والثاني أنه ليس بمقدور المتصدر للرأي وصناعة القرار - مهما علا قدره - أن يوفق للصواب منفردا في كل حين وآن، وهذا ينطبق على المجوعة أو الجماعة أو التنظيم كما ينطبق على الفرد، لأن الجماعات والتنظيمات يغلب عليها التطابق والتماثل فيصير حوارها حوارا داخليا لا مشاركة فيه للغير، ما يدل على أهمية الحوار وضرورته في إشراك الغير في الرأي والنظر طلبا للحق ووصولا إلى الصواب، ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن التقارب(1/397)
الفكري والمنهجي هو سبيل الوحدة والتعاون بين الحركات الإسلامية، وان هذا التقارب ممكن أن يأتي من خلال الحوار الدائم، ويقترح لتحقيق ذلك أن يتم الاتفاق على منهج عام في تحليل الأحداث، وترتيب العلاقات بينهم والعلاقات مع غيرهم، وما الذي يجب تقديمه وما الذي يجب تأخيره؟، وما المفاسد التي يجب أن تدرأ أولا؟، وما المصالح التي تمنح الأولوية في السعي لتحقيقها؟، وما المساحات التي يجب التقارب فيها؟، وما القضايا التي لا بأس أن يختلفوا فيها؟، وهو مع ذلك يؤكد أن الاتفاق الكامل غير ممكن، فالاختلاف الفكري موجود داخل الجماعات، والحركات الواحدة، كما أن الاندماج أمر بعيد المنال، ويذكر أنه سعى في بداية الثمانينات لعدة سنوات مع عدد من الدعاة الأفاضل بهدف تحقيق الاتفاق الكامل والاندماج لكنه أدرك بالتجربة أن الهدف غير واقعي ولا بد من الاهتمام بالقواسم المشتركة، وأما الشيخ سليمان أبو نارو فمع أنه مقر بأن السعي والبحث عن التقارب والاجتماع فريضة شرعية، إلا أنه يريد أن يكون الهدف الأعلى والغاية القصوى الاجتماع والتوحيد وليس التقارب، ويعلل لذلك بقوله لأن جهد الإنسان قد لا يبلغ غايته فإذا جعلنا الغاية التقارب فأخشى أن تكون النتيجة البقاء على التفرقة، وإن العجز في الطموح يحكي شيئا من الضعف في الهمة والعزيمة في الأمر، إن الأمثل في أمرنا هذا الوحدة والاجتماع وليس التقارب، ولكن ضرورات الواقع المؤلم هي التي فرضت علينا الحديث عن التقارب، ويرى الدكتور محمد العبدة أن الحديث عن الوحدة والاتحاد وإن كان مطلوبا لكنه في الظروف الحالية التي تمر بها الحركة الإسلامية كلام مثالي والأولى من ذلك إذا أردنا أن نكون واقعيين أن يكون الكلام عن الحوار والتشاور والتقارب، ويضع القواعد التي يراها للإفادة من الحوار ومساعي التقارب فمن ذلك العودة إلى تفعيل دور العلماء في قيادة الأمة وتفعيل دور المؤسسات الثقافية والعلمية وإشاعة الحديث عن(1/398)
المصلحة العامة مصلحة الإسلام والمسلمين وتطهير القلوب من الحزبية والحسد وحب الرئاسة، وقريب من ذلك ما يذكره الشيخ تيسير عمران أن محاولة جمع الحركات الإسلامية في بوتقة فكرية واحدة ومنهج عمل واحد طمع في غير مطمع، لكن المأمول أن تجتمع هذه الحركات في إطار من التنسيق والتكامل والحوار، فإذا قام الحوار في جو من الاحترام المتبادل والنقاش العلمي والبحث عن الحق دون اتباع الهوى أو تعصب للرأي فإنه سيثمر بإذن الله - تعالى -، وعلى الدرب نفسه يقول الشيخ محمد حسان القول بدمج وتوحيد هذه الجماعات أو الحركات على منهج واحد طمع في غير مطمع وأمل تحول دونه حوائل وموانع شتى، وهنا لا بد من الحوار كخطوة عملية على طريق التقارب، وينظر الدكتور صلاح الخالدي إلى الموضوع من زاوية أخرى فيذكر قول الله - تعالى -: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله.. "الآية ويقول تدعو الآية أهل الكتاب إلى الالتقاء بالمسلمين والحوار معهم والانطلاق في ذلك من أسس ثلاثة عبادة الله وحده والإيمان به إلها وربا، وعدم الشرك به، وعدم اتخاذ غيره إلها وربا، فإن أعرضوا عن ذلك ثبت المسلمون على الحق، ويعطف على ذلك بقوله إذا كانت الآية تفتح باب الحوار بين المسلمين والكافرين فإن الالتقاء والحوار بين المسلمين أولى وإمكانية نجاحه أكبر، وكل ما حول الجماعات الإسلامية يوجب عليهم ذلك اللقاء والحوار، وينظر الشيخ حسن يوسف إلى أهمية التقارب بين الحركات من زاوية تحديات الواقع التي تجابه المسلمين فهو يذكر أن العاملين في دائرة العمل الإسلامي كلهم مستهدفون بقيادة أمريكا في حربها للإسلام تحت مسمى الحرب على الإرهاب، وليس أمام العاملين إلا أن يتكاتف الجميع كي يقفوا أمام هذه الهجمة الشرسة التي تسعى لسحق العمل الإسلامي، وإلا بقوا أشتاتا متفرقين حيث يسهل ضربهم وفي ذلك خسارة كبيرة للمشروع الإسلامي.
القواسم المشتركة:(1/399)
البيان: يكاد أن يكون هناك إجماع بين المشاركين على أهمية التقارب الفكري والمنهجي بين الحركات الإسلامية وعلى ضرورة إدارة الحوار بينها من أجل تعميق هذا التقارب وإزالة ما يعطله أو يعوقه، ولا شك أن من عوامل نجاح مثل تلك الحوارات أن تكون هناك قواسم مشتركة بين المتحاورين تصلح منطلقا للحوارات، منها ينطلقون وإليها يفيئون، فهل توجد مثل هذه القواسم التي تجمع بين الحركات الإسلامية؟.
المشاركون:
ينظر الشيخ حسن يوسف إلى أن القواسم المشتركة هي القضايا التي تتفق فيها الحركات الإسلامية لذلك يقرر أن القواسم المشتركة التي يمكن أن تأتلف حولها الحركات الإسلامية بحيث تكون طريقا للحوار البناء الذي يساهم في عملية التقارب المنهجي والفكري كثيرة جدا في حين أن أوجه الخلاف ضيقة جدا، ومن القواسم الكبرى المشتركة أن ربنا وإلهنا واحد، ورسولنا واحد وكتابنا واحد وهمنا واحد وعدونا واحد ومشروعنا مشروع واحد، وعلى المنهج نفسه يقول الدكتور صلاح الخالدي إنَّنا نعتقد جازمين أنَّ صور ومظاهر الاتفاق بين العاملين للإسلام كثيرة، وأنَّ القواسم المشتركة بينهم عديدة، وأنَّ مظاهر الاختلاف قليلة، ويعدد القواسم المشتركة بين الحركات الإسلامية فيذكر منها القرآن والسنة هما أساس منهج الدعوة والعمل والحركة، والاقتداء بالرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - في الدعوة والحركة والعمل والجهاد، وأن المرجع عند الاختلاف هو القرآن والسنة، وأن الرجال تعرف بالحق ووزن أفكارهم وأقوالهم بميزان الحق، وأن الهدف مشترك والعدو مشترك، وعن تلك القواسم يقول الدكتور عمر الأشقر الإسلام يجمعهم، وأصوله توحدهم، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، يعتمدون على الكتاب والسنة فيما يأخذون ويدعون، ثم يبين أنه لا ينبغي التوقف عند ذلك بل ينبغي أن يتقدموا خطوة إلى الأمام لتعميق أصول التلقي عند أهل السنة والجماعة وأصول الفقه للكتاب والسنة والأصول(1/400)
التي يقوم عليها العمل وأصول التآخي بين المسلمين والأصول الضابطة في التعامل بين الحركات، ويعدد الدكتور عبد الله وكيل الشيخ أهم القواسم المشتركة التي يمكن أن يتحقق بها التقارب فيذكر منها الاتفاق على أصول الدين الكلية في مجالات الدين المتعددة؛ و الاتفاق على الأدلة المتفق عليها بين أهل الاستنباط والفقه والاتفاق على التحاكم إلى أدلة الشرع حين الخلاف واعتبارها هي الفيصل في حل النزاع، واعتبار لغة العرب هي الأصل في فهم نصوص الشرع، وعدم الخروج على مدلولاتها لفهم الأدلة، ومن ثمَّ الحذر من الوقوع في التأويلات التي لا تقرها لغة الشريعة، ومراعاة مصلحة الأمة والاجتهاد في تحقيقها والاعتزاز بدين الإسلام، والإيمان بأنَّه المنهج الصالح المصلح للحياة وقصر الاستمداد عليه، مع الاطلاع على ما عند الناس من تجارب في شؤون الحياة مما يفيد في تطبيق النصوص الشرعية وتوسيع دائرة الأخذ بها، ولا يخرج الدكتور همام سعيد في نظرته للقواسم عن ما تقدم حيث يقرر أن القواسم المشتركة بين الإسلاميين أكثر من نقاط الاختلاف ومن هذه القواسم التي يشترك فيها الجميع أن الله - تعالى -ربنا، وأن محمدا - - صلى الله عليه وسلم - - رسوله إلى العالمين، وأن الإسلام حق وأن الدعوة إلى الله واجبة، وأن صلاحية الإسلام للعالم أجمع وللزمان كله، وأن الحكم بما أنزل الله - تعالى -فريضة محكمة من فرائض الدين، وأن الإمامة الكبرى فريضة من فرائض الدين، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الكفر والشرك فتنة عظمى لا خلاص منها إلا بقوة المسلمين وجهاد أعدائهم، ولا يخرج أيضا الدكتور خالد الخالدي في تعداده للقواسم عما تقدم غير أنه يؤكد على قاسم مشترك وهو كون الحركات الإسلامية تواجه عدوا مشتركا من الأنظمة العلمانية والقومية الفاسدة تستهدفهم جميعا وأن سجونهم لا تفرق بين أتباع هذه الحركات على تعدد انتماءاتهم، وكذلك العدو الخارجي هو قاسم مشترك حيث الصليبيين(1/401)
والشيوعيين واليهود يستهدفون الجميع ومن ثم ينبغي أن يكون هذا باعثا على الوحدة، ويؤكد على مسألة مهمة وهي أن الجماعات المطلوب تقاربها هي الجماعات ذات التقارب الكبير في العقيدة والمقتنعة أن تطبيق الإسلام في شئون الحياة كافة يؤدي إلى حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فهؤلاء هم المقصدون بموضوع التقارب وليس الجماعات الأخرى الخارجة، أما الأستاذ خالد حسن فإنه ينظر إلى القواسم المشتركة نظرة أخرى حيث يراها القضايا التي ينبغي أن تعتني بها الحركات الإسلامية وتوليها اهتمامها فيقول القاسم المشترك الأبرز هو المستقبل وكذا التحديات المشتركة والعمل على إقرار الحريات المشروعة وتحقيق الاستقلال الثاني استقلال الإرادة والقرار وقضايا التنمية ومواجهة الاجتياح الإمبريالي الظالم والاستفادة من الغارة على المجتمع الإسلامي وعلى المنهج نفسه يرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم القواسم الاتفاق العام على أولويات العمل الإسلامي والصبر على الاختلاف، والاهتمام بوحدة الأمة الإسلامية، والابتعاد عن الفتن التي أصبحت تتغذى منها التيارات المعادية للمشروع الإسلامي وثوابت وقيم المسلمين، والتعاون والعمل المشترك من أجل قضية فلسطين، وكذلك المشاريع والمؤسسات الإعلامية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية التي تسع الناس جميعا، ومن المنطلق نفسه يرى الدكتور عبد السلام كسال أن أهم القواسم التي يجب التزامها: أنه ينبغي اعتبار أن الوعاء الذي تصب فيه الجهود واحد انطلاقا من وحدة الهدف، وأن نجاح الغير نجاح للجميع لأن فيه تحقيقا للكفاية وإزالة لحرج الذي لم يؤد بعد بفعل القصور، كما أن إخفاقه زيادة في العبء، كما ينبغي التجرد من الأنانية لأن الفرد مهما عظمت قدرته إلا أنها تبقى محدودة، وكذلك الابتعاد عن حب الزعامة لأنها تعمي البصيرة عن إمكانات الآخرين ويكون من أسوأ نتائجها دفن طاقات لو أخرجت من تحت التراب لأثمرت بذرتها نتاجا(1/402)
كبيرا، إضافة إلى خفض الجناح ومعالجة مواطن الضعف في الآخر بدلا من إقصائه، وينظر الدكتور عثمان جمعة ضميرية إلى القواسم المشتركة أنها تشمل القضايا المتفق عليها أصلا بين الحركات والتي من أهمها المنهجية التي توحد أمة التوحيد وهي العقيدة وأصولها وما يتصل بها، والاتفاق على المصادر التي نستقي منها، كما أنها تشمل القضايا التي ينبغي أن يتفق عليها العاملون والتي من أهمها النظر إلى طبيعة عمل الدعاة وتوزيع مهامهم ومسئولياتهم والجهد الذي يقومون به فإن الساحة تتسع لجميع العاملين وما يعجز عنه بعضنا قد لا يُعْجِز الآخرين وعندئذ تنصب الجهود كلها لتحقيق هدف منشود وغاية واحدة، وينحو الأستاذ جمال سلطان هذا المنحى فيذكر أن القاسم الأعظم تحقيق المرجعية الشرعية بحيث يكون الحكم بكتاب الله - تعالى - وسنة نبيه المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - -، ومن القواسم أيضا إعادة روح النهضة والسبق والاستعلاء العلمي في مجالات العلوم والشئون التي تخلف فيها العالم الإسلامي، وأيضا إعادة العدل والحرية والحق والكرامة، كذلك تحقيق استقلالية العالم الإسلامي دولا وشعوبا في المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجوانب الثقافية والعلمية، ويكاد ينفرد الشيخ رفاعي سرور بعدم قناعته بفكرة البحث عن قواسم مشتركة حيث يقول هذه فكرة غير صحيحة بالمرة لأن المسألة ليست توافيق وتباديل، ويقدم رؤيته بأنه من خلال تصور الحركة الإسلامية أحدد العلاقة بين الاتجاهات الفكرية، يعني ممكن أكون أنا مثلا اتجاه كذا، وأتعامل معك كاتجاه كذا، تعاملا صحيحا محققا النتائج المطلوبة، وذلك يوصلنا للغاية، من خلال إطار سياسي.
خطة العمل من أجل التقارب:(1/403)
البيان: تبين مما تقدم أنه يوجد تصورين عن القواسم المشتركة أحدها أنها القضايا التي تتفق عليها معظم الحركات سواء في التصور النظري أو في التصرف العملي، والثاني أنها القضايا المهمة التي ينبغي أن يحدث بشأنها اتفاق بين الحركات، فالأولى تمثل الواقع الكائن بينما الثانية تمثل الواقع المأمول، وأياما كان الأمر، فإنه لا يوجد مسوغ شرعي لأحد في التباعد والتجافي وعدم الائتلاف مع إخوانه الباقين، ورغم العواطف المشحونة بأمل النجاح، فإن العواطف وحدها لا تغني عن وجود خطة واضحة يسار عليها لتحقيق المراد، إذ التقارب والحوار عمل، والعمل لكي ينجح ويحقق المراد منه لا بد له من خطة واضحة قابلة للتحقيق، وفق الإمكانات المتاحة، فما الخطة أو المنهج المناسب للسير عليه.
المشاركون:(1/404)
يقول الشيخ محمد حسان هذا سؤال عملي في غاية الأهمية والمنهج له ثلاثة جوانب لا تتجزأ ولا ينفصل منها جانب عن الآخر جانب إيماني وجانب علمي وجانب عملي، ففي الجانب الإيماني تكون الخطوة العملية الأولى تصحيح العقيدة والمنهج حتى لا ننحرف عن الإسلام وسيلة ونحن نتجه إليه غاية، وفي الجانب العلمي ينبغي التأصيل العلمي لقضية الخلاف وذلك بمراعاة عدة أصول الأصل الأول معرفة أنواع الخلاف والأصل الثاني معرفة أسباب الخلاف والأصل الثالث تحقيق أدب الخلاف، وأما الجانب العملي فيكون من خلال عدة أمور منها التقاء القادة والموجهين والعلماء المسئولين في الحركات للتدارس والنقاش، التعاون في بعض الأنشطة التربوية والدعوية، تكوين مجلس للشورى لفض النزاعات والخصومات والتقريب بين الأخوة والمتنازعين، منع كل جماعة لأبنائها من تناول مسائل الخلاف إلا لمن كان أهلا لذلك حتى لا تتسع هوة التفرق والتنازع، أما الأستاذ جمال سلطان فيرى أنه لا يوجد شيء نهائي في الأمر ولكن يوجد تأملات واجتهادات من واقع الخبرة ومن واقع ما تم من خلافات وجدل بين فصائل العمل الإسلامي ولكن هناك مفاتيح للحوار وأهمها إحسان الظن بين المسلمين، ويذكر الدكتور صلاح الخالدي بعض القواعد التي تعين على التقارب فيذكر منها وجوب شعور قادة الحركات الإسلامية بأهمية الحوار والتقارب وضرورته، جعله خطة استراتيجية للحركات الإسلامية تلتقي عليه كل فصائلها وأساليبها وأدبياتها وليس هبة عاجلة أو حماسة فاترة، تداعي مفكري الحركات الإسلامية إليه وتفكيرهم في استمراره وإنجاحه وتربية أفراد الحركات عليه، استمرار الحديث عن التقارب والتعاون والحوار في مختلف وسائل الإعلام لدى الحركات وعقد المنتديات وإعداد الأبحاث حوله، الوقوف أمام دعوات تعميق الفرقة بين الحركات الإسلامية والرد على أصحابها وتحذير الاتباع من الاستجابة لهم، ويتحدث الدكتور منير محمد الغضبان عن منهج السعي للتقارب بين(1/405)
العاملين للإسلام والدعاة إليه في عدة نقاط: الأولى القناعة بأنه لا يجوز شرعا تفرق العاملين للإسلام، وإن كان هذا لا ينفي مراعاة خصوصية العمل لاختلاف البيئة والقطر الذي تعمل فيه الحركة الإسلامية، بل إن التوازن في تفهم خصوصية إقليمية كل عمل إسلامي وتفهم وجوب العمل على التنسيق هو أهم عناصر منهج حوار التقارب، النقطة الثانية عدم احتكار العمل والحق والهدى عند فريق واحد بحيث ينظر إلى ما سواه على أنه ضلال أو انحراف والنقطة الثالثة فصل المبادئ عن الأشخاص، ويعلق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على طلب الخطة بقوله نعم هذا حق لا مرية فيه فإن التخطيط للأمر في غاية الأهمية ثم يضيف أن هذه الخطة لا يستقل برسمها فرد واحد أو مجموعة أفراد عاديين بل ينبغي أن تتجه لها جهود العلماء والدعاة والمفكرين وذلك كي تكون الخطة ناجحة قويمة، وعلى المنهج نفسه يقول الشيخ أحمد فريد تحديد خطة كاملة وشاملة للوصول لهذا الهدف يحتاج إلى حوار ومشاورة، ثم يذكر بعض المفاتيح في هذا الأمر فيشير إلى ضرورة الإخلاص ونبذ العصبية المقيتة وعدم تغليب المصالح الشخصية، كما يشير إلى أن ولاء هذه الحركات ينبغي أن يكون لإمام واحد متبع على كل حال وهو الرسول الأعظم محمد بن عبد الله - - صلى الله عليه وسلم - - وجماعة واحدة هي جماعة الصحابة رضي الله - تعالى -عنهم، كما يشير أيضا إلى عدم الغلو في مشايخ الدعوة كما يفعل متعصبة المقلدة الذين يقدمون كلام علمائهم على النصوص الشرعية، ثم يذكر بعض الخطوات العملية في ذلك فمنها: حث الدعاة على التواصل والتناصح في المناسبات، عمل ندوات يشترك فيها أكثر من داعية من عدة حركات على أن يكون موضوعها من الموضوعات التي لا تختلف فيها هذه الحركات وذلك بقصد الإيناس وكسر الحواجز، عمل دورات مكثفة للتقارب وتوحيد الفكر، عمل مؤتمر سنوي يدعى إليه وجهاء من الجماعات، عمل لجنة للتقارب بين أهل السنة وأهل السنة، فهذا أولى من البحث(1/406)
عن التقارب في خارج هذه الدائرة، إصدار نشرات أو مجلات متخصصة لهذا الغرض يكتب فيها كتاب من سائر الجماعات بقصد ترسيخ التقارب، الاتفاق على ميثاق العمل الدعوي الذي يشمل أدب الخلاف والإنصاف في التعامل مع الأفراد والجماعات، وأما الأستاذ خالد حسن فيرى أن مشاريعنا لا يمكنها أن تحقق أثرها المرجو ما لم نرسخ مفهوم القيادة الجماعية والذي يعني أن القيادة مؤسسة وتخصصات وتقاسم أدوار عن طريق المنهجية في الأداء القيادي الجماعي والذي يظهره دليل القيادة العملي، وعلى ذلك فإن الخطوة الأولى في خطة العمل هي فك الحصار عن العقل الذي فرضه الافتتان بالمشيخة ووصاية التنظيم، والخطة أو المخرج إنما يصطنع بعد ذلك اصطناعا وينضج بالمعاناة وإعمال العقل وإخضاب الرأي والمشاركة في الصواب، أما الانتظار حتى تصل إلينا الخطط الجاهزة المفصلة التي تأتي من القائد الفذ أو القائد الملهم أو رجل الملحمة فإن هذا قد ولى عهده وانقضى، ويشير الدكتور عمر الأشقر إلى نقطة مهمة وهي أن مجال عمل الجماعات غير متداخل، فكثير من الأعمال غير متضاربة أو متعارضة وإنما هي متنوعة، لكن الجهد الأكبر في الحوار ينبغي أن يبذل من أجل بلورة الأهداف المشتركة التي ينبغي التعاون فيها، ويقول: حبذا لو تشكل مجلس إسلامي أعلى تجتمع فيه قيادة الجماعات الإسلامية للتحاور والتشاور والتقارب فيما بينها، لتجاوز سوء الفهم القائم هنا وهناك، وللتخلص من الخلاف المفتعل والمتوهم، ولبلورة الأصول الجامعة للعمل الإسلامي، ولتخفيف غلواء المتشددين في النزاع، فإن لم نستطع بلوغ القمة في التوحد فلا أقل أن نكون أقرب إلى القمة بخطوة، ويرى الدكتور خالد الخالدي أن الخطة يمكن أن تتكون من: تشكيل لجنة أو هيئة مختصة مقتنعة بأهمية التقارب بهدف العمل على تحقيقه بين الإسلاميين، تتكون من العلماء والعاملين والدعاة الجادين الذين يحظون باحترام الجميع، ويراعى في هؤلاء الأعضاء أن تتنوع(1/407)
انتماءاتهم حسب تنوع الحركات الإسلامية، تنظيم مؤتمر سنوي يدعى إليه مندوب أو أكثر عن كل حركة، وينبغي لهذه اللجنة أن تبتعد عن تلقي الدعم من جهات رسمية وأن تكون نفقاتها من المتبرعين الذين يحرصون على التقارب، وأن تقوم بإقناع الإسلاميين بضرورة التقارب من خلال طرق متعددة كالمؤتمرات واستكتاب كتاب معروفين في مجال التقريب بين الحركات ونشر مقالاتهم وكتاباتهم، وأما الدكتور همام سعيد فيرى أن الخطة ينبغي أن تكون من مرحلتين الأولى الحوار والاتفاق بين الحركات ذات الأصل الواحد لحسم الجدل بينها والاتفاق على قواسم تصلح لحوار الآخرين، والثانية الحوار بين الأطراف التي تحسن الظن ببعضها حتى يؤدي الحوار إلى نتائج سليمة، وأما الأطراف التي تسيء الظن ببعضها فهذه تحتاج أولا إلى التعارف عن قرب في بعض المشاريع العلمية أو الاجتماعية لإزالة الشكوك وتحسين المناخ، ويقدم الدكتور كسال عبد السلام رؤيته بقوله: الهدف إذا لم يوجد له من يفكر فيه ثم يسعى له لن يجد له إلى النور طريقا، وينبغي على الدعاة أن تعي هذه الحقيقة وتسعى إلى تحقيقها وذلك باتباع جملة من الوسائل، ثم يذكر من هذه الوسائل: المبادرة، معرفة طبيعة الأطراف حتى يكون البناء بدل الهدم والجمع بدل التشتيت، التحرك باتجاه الأطراف المختلفة بطرح الفكرة والاستماع بغية الإثراء، جمع الأطراف المختلفة حول طاولة للحوار الثنائي أو المتعدد الأطراف، الانتهاء إلى جمع الأطراف جميعا في ندوة تؤسس للعمل المشترك توضع له أسس وأهداف ومراحل ووسائل، ويضع الدكتور عبد الرزاق مقري شروطا على الخطة بأن تأخذ بعين الاعتبار دراسة معطيات البيئة الداخلية من حيث القوة أو الضعف سواء بالنسبة للأمة أو الحركات الإسلامية، وكذلك معطيات البيئة الخارجية وما يميزها من تهديدات، على أن تتضمن هذه الرؤية أهدافا كبرى يسعى الجميع لتحقيقها، والتي يمكن تحديدها في ستة أمور: الفكرة الإسلامية من حيث خدمتها(1/408)
بالتعليم والدراسات والبحوث، القيادات والرموز من حيث الإعداد والتأهيل، التنظيم من حيث الابتعاد عن الارتجال والفوضى والاهتمام بالعمل المنظم مع ضرورة تطوير الأنماط التنظيمية القديمة، الجمهور من حيث الارتباط به وحل مشاكله وتربيته بواسطة العلم المنهجي، المؤسسات الحكومية من حيث إنهاء القطيعة الموجودة بين الحركات الإسلامية والمؤسسات الحكومية التي هي ملك الشعوب وليس الأنظمة.
ضوابط التقارب والتعاون:
البيان: جرى الحديث عن خطة أو منهج العمل الذي ينبغي اتباعه في سبيل إحداث التقارب بين الحركات الإسلامية المتعددة، لكن مع ذلك وبرغم النوايا الحسنة قد تبقى بعض القضايا العالقة التي لا تجتمع عليها الكلمة، وهذا يتطلب أن نحدد سقفا لتلك القضايا حتى نتفادى أمرين خطيرين: أولا تمييع القضايا جريا وراء البحث عن التقارب، ثانيا التضييق على إمكانية التقارب بزعم الثبات على المواقف، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الضوابط التي ينبغي مراعاتها أثناء العمل على التقارب بين الحركات الإسلامية.
المشاركون:(1/409)
يقول الأستاذ خالد حسن هذه المسألة لا يمكن حسمها نظريا وإنما تنضج وتتحدد نسبيا من خلال التواصل والاحتكاك والتفاعل، ويقول الدكتور كسال عبد السلام ما يجمع من أمور الدين أكثر بكثير مما يمكن أن يُختلف فيه ومن هذا الباب يمكن تحديد سقف هذه القضايا فيما يلي: بالنسبة للأهداف يمكن إجمالها في هدفين كبيرين: الارتقاء بالمجتمع إلى المستوى المنشود، وإيجاد البدائل الريادية من الرجال والبرامج، وبالنسبة للمبادئ يمكن جمعها في مسألتين: اعتماد الثابت من الدين، فتح مجال الاجتهاد في خصوصية البيئات والظروف بما لا يستلزم قراءة موحدة للقضايا الاجتهادية وبالنسبة للوسائل فبالإضافة للوسائل المشروعة كلها جعل التعاون بين التنظيمات والحركات من أهم الوسائل لترتيب البيت الإسلامي واعتماد القدرات الفكرية والبشرية والمادية لتحقيق الهدف المنشود، وبالنسبة للاستثناءات مراعاة الخصوصيات الموضوعية لكل طرف حفاظا على تصفية الأجواء ولبناء إطار من الثقة يقوي هذه الرابطة، أما الدكتور عبد الرزاق مقري فيرى أن أهم ضابط هو الأخوة وحسن الظن وأمن الدعوة الإسلامية وسلامة واستقرار الأمة الإسلامية والثبات على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المقاصد والقواعد الشرعية، ويشير الشيخ أحمد فريد إلى أهمية العامل الوجداني في تجاوز القضايا العالقة فيرى أنه بعد بذل الجهد في نشر معاني الأخوة والألفة وحرص كل جماعة على التقارب مع الأخرى ومحبة الخير لها فقد تزول هذه الاختلافات أو يظهر سبيل لحلها خاصة مع الإخلاص والدعاء والرجاء، ويري الشيخ كمال الخطيب أن السقف الذي يحدد التقارب والتعاون هو عدم الاختلاف في العقائد والأحكام والشرائع، أما الاختلاف في وسائل العمل والتركيز على جانب دون جانب آخر فلا ينبغي أن يحول دون إمكانية العمل المشترك والتقارب والتعاون، ويركز الشيخ سليمان أبو نارو على أن السقف الذي لا يضر بعده تفاوت في وجهات النظر هو(1/410)
الاجتماع على منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة، والذي لا سبيل إلى تجاوزه، وحينها لا يضر الخلاف في شيء من التفاصيل خاصة مع إعمال حسن الظن، ودوام التناصح، وانتهاج أحسن القول، مع الابتعاد عن أساليب الوصاية والحرص على تبعية البعض للبعض الآخر، ويذكر الدكتور همام سعيد أهم ضوابط التقارب والتعاون: التسليم بأننا لا يمكن أن نتفق على جميع نقاط الاختلاف، تكثيف برامج العمل في الجوانب المتفق عليها، طلب الهدى من الله - تعالى -، الالتزام بالآداب الشرعية في اجتناب الغيبة، والظن، والتجسس، ويربط الدكتور سفر الحوالي السقف بالقضية التي يجري فيها التباحث فيقول إن الثوابت والقطعيات تظل بدون تنازل ويظل هدف الاجتماع هو الذي يحدد الأولوية فإذا كان الاجتماع لمقاومة العدو فالمراعى هنا هو إحداث النكاية وتقديم ما يقوي الشوكة ويحقق النصر ونجتنب ما قد يشق الصف ويثير التنازع المفضي إلى الفشل وذهاب الريح كما ذكر الله - تعالى -، أما إذا كان الاجتماع لغرض الإصلاح الاجتماعي مثلا فيكون الاهتمام بثوابت الفضيلة والقيم وتجنب ما قد يفضي إلى الفساد والرذيلة، ويعدد الدكتور منير محمد الغضبان ضوابط التقارب فيذكر منها: التنازل عن الاعتداد بالذات وفهم الآخر وحسن الظن به والانطلاق من القاعدة الفقهية العظيمة التي تقول موقفي صواب يحتمل الخطأ وموقف أخي خطأ يحتما الصواب، وكذلك قاعدة نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه وذلك في داخل الصف الإسلامي، واعتبار العاملين للإسلام جميعا مدرسة تكاملية لا تنابذية، وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى السقف الذي لا ينبغي تجاوزه على أنه الثوابت الشرعية والتي سماها الأولون المعلوم من الدين بالضرورة ويستدرك على ذلك بقوله لكن لا ينبغي أن نوسع هذه الدائرة لأنها تمثل خطرا وتوسيعها ضد مصلحتنا ولن يكون مفيدا فالمعلوم من الدين بالضرورة والثوابت العقدية هي ثوابت العمل الإسلامي أما ما(1/411)
بعد ذلك من اجتهادات فكرية وعقلية ومنهجية فما دام أنها لم تصطدم بقواعد شرعية واضحة فلا بأس في ذلك.
منهج السلف الصالح ودوره في الحوار والتقارب الفكري والمنهجي:
البيان: سلفنا الصالح لهم مكانة عالية مرموقة وهم قمة سامقة في فهم الدين والعمل به، وما يمر بمجتمعات المسلمين اليوم من حيث الاختلاف والتنازع، قد مر بسلفنا الصالح شيء منه، إلا أنهم حرصوا على الوحدة والجماعة وحققوا ذلك، مما يجعل منهجهم في ذلك حريا بالاتباع
المشاركون:(1/412)
يقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية منهج السلف علماء الأمة - رحمهم الله - تعالى - تطبيق عملي لفهم صحيح سليم، فهم رغم ما قد يقع بينهم من خلاف في مسائل الفقه أو أمور الفروع ولأسباب كثيرة متعددة رغم هذا فإنهم كانوا يلتقون ويتحاورون ويتناقشون ويرد أحدهم على الأخر رأيه، دون عداوة أو بغضاء أو تشهير أو تهمة، وبنحو مما تقدم ينظر الشيخ أحمد فريد، وينظر الأستاذ خالد حسن إلى أهمية الممارسة السلفية التي تخلى عنها من جاء بعدهم فيقول يمكن القول إن أكثر المتحمسين للإصلاح وتحديات النهضة لم يلتفت إلى أهمية وحيوية المفهوم الجماعي للصواب الذي كان حاضرا بقوة في الممارسة التراثية (السلفية) في أوساط العلماء والنظار، إنه لا مناص من إحياء هذه الطريقة وإشاعة المفهوم الجماعي للصواب، ويرى الدكتور عبد السلام كسال أن المنهج الفكري السليم في الإسلام يقوم على قواعد ثابتة أساسها الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة المطهرة بحيث يتوافق مع ما كان عليه الصحابة الكرام دون ابتداع بالزيادة أو النقصان، ولكن بلا جمود يحول دون الاجتهاد في استيعاب الجديد من مسائل العصر، ويؤكد أن هذا المنهج برصيده الثري الحكم الفصل في حل كل خلاف وفي دفع كل عملية للتقريب، ويقول الدكتور عبد الرزاق مقري: سلفنا الصالح هم قدوتنا من حيث المعايير الأخلاقية والتربوية والمقاصد الشرعية، وأصول فهم الشريعة الإسلامية، وتجربتهم منهج نسير عليه، غير أن هذا المنهج نفسه هو الذي رسم لنا سبل التجديد والاجتهاد لنعيش زمانا غير الزمان الذي عاش فيه سلفنا، يثْبُت فيه الثابت ويتغير المتغير، ويشير الدكتور سفر الحوالي إلى مسألة مهمة قد تخفي على كثيرين وهي أن مذهب السلف ليس مذهبا فقهيا معينا ولا التزاما شكليا بل هو منهاج الاتباع المطلق لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - والحرص على أن تكون الأمة على ما كان عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه وقد ظهرت(1/413)
في القرون المفضلة نماذج تدل على رحابة هذا المنهج فقد كان منهم الفقيه والمفسر والمحدث واللغوي وأئمة التعبد والسلوك والجهاد وهذا المنهج أعظم خصائصه قيامه على الحقائق لا على الدعاوى والأسماء ويركز الشيخ كمال الخطيب على أن آخر هذه الأمة لن يصلحها إلا ما أصلح أولها، ومن هنا فإن أي حوار أو تقارب يتم عبر إدارة الظهر أو العقوق لسلفنا الصالح ومنهجهم الفقهي مصيره إلى الإخفاق، لذلك لا يمكن الحوار مع هذه الاتجاهات التي يظهر عقوقها لمنهج السلف بقصد التقارب الفكري معها، بل إنه يجب رفض هذا من أساسه، لأنه ليس فقط عقوق لمنهج السلف وإنما هدم أسس وتقويض أركان ذلك المنهج، هذا في الوقت الذي لا يمكن قبول حصر المنهج السلفي على اتساعه من اتجاهات أخرى في قالب واحد ولون واحد وآلية تفكير واحدة، ويرى الدكتور همام سعيد كما يرى إخوانه من أهل العلم أن منهج السلف هو حجر الأساس لأي تقارب ولكنه يضيف بأنه يلزم الوقوف على منهج السلف في مختلف المسائل وأن يسعنا ما وسع السلف من الاختلاف، ويقول الشيخ سليمان أبو نارو مكانة سلفنا الصالح في فهم الدين والعمل به والدعوة إليه ليست علية فحسب، بل لا سبيل لفهم الإسلام إلاَّ عن طريقهم إذ هم القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية من المعصوم - - صلى الله عليه وسلم - - وهم الفرقة الناجية المستمسكة بما كان عليه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مما يجعل منهجهم هو الأبصر والأقوى حجة
معوقات التقارب والتعاون:(1/414)
البيان: رغم ما تبين من الحديث عن التقارب وأهميته وقناعة الكثيرين بضرورة السعي لتحقيقه وبذل الجهد في سبيل ذلك وعدم اليأس والصبر على صعوبة الطريق، إضافة إلى الحماس الذي يبديه الكثيرون لهذه المسألة إلا أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن، فهناك الكثير من المعوقات التي تقف في سبيل تحقيق دعوة التقارب وهي في حاجة إلى إماطة اللثام عنها مع اقتراح آليات للتغلب عليها أو الحد من تأثيرها
المشاركون:
يرى الدكتور كسال عبد السلام أن المعوقات التي تعترض عملية التقارب تصنف إلى معوقات فكرية ونفسية وبيئية، أما المعوقات الفكرية فهي تختص بطريقة التلقي والتعلم من خلال المدارس أكثر من اختصاصها بالفوارق في القدرات الفكرية، تلك المدارس التي توجه إلى التعصب نحو فكر، أو قراءة تلغي غيرها، وكذلك التعلم الذاتي بغياب المعلم الذي قد ينتج عنه توجه يكون إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب، ولذلك فإن مراجعة سياسة التعليم والتلقين تظل مسألة أساسية وخطوة لا بد منها في طريق التقريب والوحدة، وأما المعوقات النفسية فإنها تعود إلى الأنانية الفردية والجماعية وحب السيادة والسلطة والزعامة والغرور، وهذه يمكن معالجتها عن طريق تبديل الأجواء النفسية والاحتكاك والتحرك والانتقال لاستيعاب الجديد والخروج من الفضاءات الاجتماعية والتعليمية الضيقة إلى فضاءات أوسع، وأما المعوقات البيئية فكالاختلافات الجغرافية والاختلافات التنظيمية والاختلافات الذاتية كاختلاف القدرة والاستطاعة البدنية والفكرية والتي لا يمكن أن يوجد في ظلها اتفاق في مسار تختلف فيه الهموم والقضايا وهذه يمكن معالجتها باعتماد أكبر قدر من الاستثناءات والاقتصار في مجال توحيد القراءة على الأساسي من الثوابت في أمور العقيدة والدين والحياة، ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم العوائق الاختلافات الفكرية التي لا تعالج إلا بالعلم أولا ثم بالتجربة ثانيا ثم بإرادة الحوار(1/415)
والاطلاع على تجارب الآخرين، ومن العوائق الأساسية اتباع الهوى وإرادة المحافظة على المصالح كالزعامة والمنافع المادية والمعنوية الفردية والجماعية، ومن العوائق أيضا قلة المهارة في إنجاز المشاريع المشتركة، ويرى الأستاذ خالد حسن أن التقارب ما عاد هما يشغل حيزا كبيرا في العقول ولا في الخطاب ولا في الحراك، وصار الكل يتطلع إلى الهيمنة وتوسيع الرقعة وفرض الوصاية مما شكل عائقا في حصول التقارب، ويعدد الدكتور(1/416)
عمر الأشقر المعوقات فيذكر منها تعميق الخلاف وتأصيله بهدف أن تتميز جماعته ويكون فيها رئيسا أو قائدا، وطبع اتباع هذه الجماعات أنفسهم بطابع الأفضلية التي تؤول بهم إلى العصبية حتى لا يروا على الحق غيرهم، الفهوم القاصرة والتصورات الخاطئة التي قرت في العقول وظن أصحابها أنها من الحق الأصيل، تصور بعض المسلمين أن هذه الجماعات العاملة للإسلام فرق مبتدعة مثل الخوارج والشيعة، ولا يخرج الدكتور محمد العبدة فيما ذكره عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية، وكذلك الشيخ منير محمد الغضبان، ويوسع الدكتور عثمان جمعة ضميرية مجال العوائق فلم تعد هي عنده العوائق الداخلية فقط بل قد انضم إليها عوائق من خارج الحدود، ففي المجال الداخلي يرصد العجلة وعدم التأني والصبر، وكذلك حظوظ النفس والتأثر بالهوى والريبة والشك في الآخرين، وأما الخارجية فيرصد منها الكيد الذي يبذل لتكريس فرقة المسلمين، وبذر بذور الفتنة وزرعها والعمل على تمزيق وحدة الأمة ووحدة العاملين، وللتغلب على ذلك يدعو إلى بذل جهد أكبر بعد الاعتماد على الله - تعالى - وصدق النية وسلامة الطريق والوعي الكامل بما يجري، ويتخذ الشيخ أحمد فريد المنحى نفسه حيث يرى أن المعوقات بعضها من داخل الصف المسلم وبعضها يأتي من خارج الصف المسلم، ويرصد في المعوقات الداخلية اعتناء بعض الحركات ببعض الشرائع في مقابل إهمال أو نسيان شرائع أخرى مما يهيج العداوة والبغضاء بينهم لاعتقاد كل حركة بتقصير الحركة الأخرى وهو مصداق لقوله - تعالى -: "فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" ويمكن معالجة هذا عن طريق إعادة الصياغة واهتمام كل الجماعات بالإسلام كله، وكذلك اغترار بعض الجماعات بعددها وقوتها، وأيضا حب الظهور، واحتكار بعض الجماعات لاسم السلفية ونظرتهم إلى بقية الجماعات على أنهم فرق نارية، وأما المعوقات الخارجية فتربص العلمانيين والمنافقين(1/417)
بالجماعات الإسلامية والتشهير بهم وإغراء الحكومات وتهييج الأنظمة عليهم، ويبين الشيخ كمال الخطيب أن ضغوطات الأنظمة الحاكمة والجهات الرسمية تجعل عددا من المدارس والحركات الإسلامية تفضل العمل المستقل بديلا عن التقارب مع بقية الفصائل بل إنها تسعى لدفع هذه التهمة عن نفسها، ثم إن هناك من الجماعات من يخشى من خطر الاحتواء من الآخرين أو التأثر بهم، فيفضل الاستقلال على التقارب والالتقاء مع الآخرين، وهذا كله من المعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق التقارب، وللدكتور خالد الخالدي إسهام مطول في ذلك فيذكر من المعوقات الداخلية التنافس وحب الظهور، قلة الوعي عند الكثيرين من أبناء الحركات الإسلامية، الخلافات الشخصية بين قادة الجماعات الإسلامية، تركيز بعض الجماعات على جوانب وإهمالها لجوانب أخرى، قلة الاهتمام بالجوانب السياسية المتعلقة بهموم المسلمين، وأما المعوقات الخارجية فيذكر منها خوف بعض الجماعات من اتهامها بالإرهاب أدى إلى ابتعادها عن قضايا الأمة الجوهرية، تلقي بعض الجماعات الدعم المادي من دول وحكومات يهمها إبعاد هذه الجماعات المرتبطة بها عن العمل السياسي والجهادي، قيام العدو بزرع العملاء بين الجماعات الإسلامية، ثم يعقب على ذلك بالخطوات المقترحة لمواجهة تلك العقبات فيذكر منها توحيد الخطاب الإعلامي الذي يستهدف أبناء الجماعات الإسلامية، التحذير المستمر من عواقب التباعد وأثر ذلك على ضعف الأمة، إبراز أسباب الهجمة على المسلمين وأن ذلك بسبب تمسكهم بعقيدتهم وإقامة حكم الله في الأرض، نشر وترويج المبادئ والمقالات والكتب والمحاضرات التي تدعو إلى التقارب وتحض عليه، توضيح مخاطر الحزبية وتربية الشباب المسلم على أن يكون ولاؤهم للإسلام قبل أن يكون للجماعة أو التنظيم، التذكير المستمر بخطورة وحرمة الغيبة، الاستشهاد بالتاريخ لبيان أن الوحدة كانت من عوامل الانتصار في المعارك الكبرى، التذكير بواقع الأمة السيئ(1/418)
وأنه نتاج التباعد والفرقة، ولا يخرج كلام كل من الدكتور همام سعيد والشيخ تيسير عمران فيما ذكراه عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية والخارجية وكيفية معالجتها، أما الأستاذ جمال سلطان فيضيف مسألة في غاية الأهمية والخطورة في المعوقات الخارجية حيث يبين ما تقوم به القوى الدولية الكارهة للإسلام من محاولة صناعة فكر إسلامي أو منهج إسلامي مستأنس أو مدجن بحيث ينفصل عن واقع الأمة وأصول الدين ويتماشى مع القوى الدولية التي تكيد للإسلام وأهله، ويضيف الشيخ حامد البتاوي في المعوقات الخارجية عدم سماح كثير من الأنظمة لأبناء الحركات الإسلامية بالالتقاء وتنظيم مؤتمراتهم من أجل التقارب
تنوع البيئات وتعدد الثقافات والخصوصيات المحلية وأثر على ذلك دعوة التقارب:
البيان: الحركة الإسلامية ليست محصورة في شارع أو حي أو مدينة أو دولة بل تمتد على طول العالم الإسلامي وعرضه ما يعني تباين البيئات واختلافها وتعدد الثقافات والخصوصيات، وهذه لها دور كبير في تربية الناس وتنشئتهم، وهو ما يلقي بظلاله وآثاره على دعوة التقارب، ويصبح من الأمور المهمة أن نعزل أو نقلل من أثر ذلك على خطة العمل للتقارب الفكري والمنهجي والحوار الإسلامي.
المشاركون:(1/419)
يقر الشيخ عبد الله الغنيمان بأثر البيئة ويقول بإمكانية تقليل أثرها بأمرين أحدهما عقلي وذلك ببيان أن ما يسعى إليه الإنسان للتخلص من البؤس والفقر والضيق والشدة كما أن الظفر بهناء العيش وسعادة البال لا يوجد إلا في طاعة الله وطاعة رسوله، والأمر الثاني شرعي وهو طاعة أوامر الله ورسوله التي تدعو إلى الاعتصام بحبل الله - تعالى - وتنهى عن التفرق والاختلاف، كقوله - تعالى -: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن تقليل أو عزل المؤثرات البيئية لا يتم عبر إهمال البيئة والثقافة بل باعتبارهما ولكن بترتيب القضايا وتثبيت الثابت منها، وأما ما اختصت به بيئة دون أخرى مع عدم مخالفته للثابت في شرع الله - تعالى - فلا مجال للخوض فيه، ولا مشاحة في قبوله، وأما ما لم يثبت فهو محل تصحيح، كما يمكن قبول الطرف الآخر بهيئته التي هو عليها شريطة ألا يضيق على الآخرين واسعا، ويذكر الدكتور عبد الرزاق مقري أن التطور الهائل في تدفق المعلومات والاتصال أوجد فرصة كبيرة وسهولة في التواصل مما يقلل من تأثير البيئة والثقافة المحلية، ويوافق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على أثر البيئة والثقافة المحلية ولعزل تأثيرها على التقارب أو تقليله يذكر أنه لا بد من صبر ومصابرة ومتابعة وتجرد، وكذلك معرفة طبائع من نحاورهم، ولا بد أن يشعر الجميع بصدق النية وحسن التوجه فإن هذا من أسباب القناعة والتعاون والاتفاق، ويرى الشيخ أحمد فريد أن تقليل تأثير البيئات والثقافات يكون بنشر الوعي والفكر السليم والاتفاق على أصول لا يتعداها الجميع في العمل بالكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، وعدم إحداث ما يخالف ما كان عليه الصحابة، ومع تفهم الدكتور محمد العبدة لأثر البيئة والثقافة لكنه ينبه على قضية خطيرة وهي الخوف من صبغ الإسلام بالصبغات المحلية فيصبح لدينا إسلام مغربي وإسلام مشرقي وإسلام مصري وإسلام خليجي والإسلام هو ما(1/420)
نزل على قلب محمد - - صلى الله عليه وسلم - - فينبغي على الدعاة ألا يسمحوا للتقاليد والعادات أن تؤثر على صفاء العقيدة، وخصوصيات بعض البلدان لا تعني أن لا نتفاهم ونتفهم ما عند الآخرين، ويوافق الشيخ تيسير عمران على أثر البيئة والثقافة الواضح على عقليات أبناء الحركة الإسلامية لذلك يرى أن الحكمة تقتضي أن نحترم خصوصية كل بيئة قدر الإمكان ما لم تتعارض مع قطعيات الدين التي يتفق عليها الجميع، وينبغي في بداية الحورات أن نُحَيِّد بعض القضايا ولو مؤقتا إلى أن تصلب الأرضيات المشتركة، ويرى الدكتور منير محمد الغضبان أننا في قضية أثر البيئة معذورون من جهة وملومون من جهة أخرى، أما العذر فلتراكم تباعد البيئات خلال القرون ولزوال الخلافة الإسلامية ولاحتلال الأقطار الإسلامية وما أوجد فيها من ثقافات تغريبية، وهذا يدفعنا إلى الاعتراف بخصوصية البيئات والثقافات المحلية، لكننا ملومون اليوم بعد تحول العالم إلى قرية كونية تجعل عملية الخلافات هذه مذللة من خلال الاتصالات، وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى أن اختلاف البيئات يؤثر في أولويات العمل واختياراته، فبعض الأمور التي تكون ملحة في بلاد الخليج العربي قد لا تكون ملحة في تونس والجزائر وهكذا، لكنه يؤكد على قضية مهمة وهي أنه لا ينبغي أن نتعنت في البحث عن إذابة هذه الاختلافات في اعتبار الأولويات لأنها فرز طبيعي لا بد من احترامه، والعمل وفق معطياته.
ألفاظ جذابة فما حقيقتها وما دورها في الحوار والتقارب:(1/421)
البيان: في الأيام القريبة المنصرمة بدأ يكثر تداول بعض الألفاظ وما زال، فكثر الحديث عن الآخر وعن الاعتراف به وتجاوز أحادية الفكرة، والتسامح الفكري والثقافي، وضرورة الانفتاح على ثقافات وأفكار وقناعات الآخرين إلى نهاية تلك المنظومة فهل تمثل هذه المنظومة عاملا من عوامل التقارب، أم أنها تعد معوقا من معوقات التقارب لكنها صيغت بلفظ جذاب؟ والشيء نفسه يقال عن لفظ التجديد الذي تحول إلى مصطلح يستبطن العديد من المصطلحات الأخرى كالعقلانية والتعددية والنسبية ذات المعاني والمضامين غير المحددة
المشاركون:
فيما يتعلق بالآخر(1/422)
يقول الدكتور عبد الرزاق مقري لقد سلمنا في بداية هذا التحقيق أن الاختلاف حتمية بشرية، فلنعش هذه الظاهرة في ظل تقوى الله، ونسيرها ضمن القواعد الشرعية التي تبدأ بالتسليم بأن المؤمنين مهما اختلفوا فهم إخوة في الله، ومهما اختلفوا فلا بد لهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن معرفة الخصوم من خلال نوافذ غير التي كان العاملون يحصرون أنفسهم فيها جعل الكثيرين يعيدون النظر لتبني فكر متوازن لا يجعل الناس جميعا في كفة واحدة، ويكشف الدكتور عثمان جمعة ضميرية اللثام عن هذه الدعوات ويقول إن التباس المفاهيم والمصطلحات أو وضعها في غير موضعها من أهم عوامل الافتراق وبعض هذه المصطلحات يمكن حملها على محمل صحيح وفيها ما هو خاطئ وغير صحيح فمثلا يصبح التسامح سببا للتفلت من الأحكام والتنازل عن الثوابت، والتسامح الفكري والثقافي دعوة للردة أحيانا وقبول الكفر والدعوة للانفتاح طريقا لضياع الشخصية المستقلة وعلى كل فلم يكن الهدف فيما يبدو من تلك المصطلحات هو الدعوة إلى اللقاء والتعاون وإنما الالتفاف على بعض المفاهيم والتشويش عليها باستغلال تلك المصطلحات، ويتوجس الشيخ سليمان أبو نارو من هذه المصطلحات شرا فيقول إن أصحاب هذه الشعارات والمصطلحات لا أعلم أنهم تجمعهم منظومة فكرية واحدة فهم خليط من شتات الفكر والرأي، ولا يجمعهم إلاّ موقفهم من الإسلام على نهجه الذي جاء به محمد - - صلى الله عليه وسلم - - ورضيه الله ديناً قيماً لهذه الأمَّة الإسلامية، فهم يبحثون عن كل وسيلة يفرغون بها هذا الدين من مضمونه ويحرفون أحكامه وشرائعه بهذه الأساليب الماكرة بعد أن عجزوا عن مواجهته مباشرة، فهم كاسحات ألغام يمهدون الطريق لمن هو مُعَدٌّ لإتمام المهمة، ويعقب على ذلك بقوله وبالقطع ليس لهؤلاء مدخل في تحقيق (التقارب الفكري وإثراء الحوار) إلاَّ إذا كان المقصود أنَّ الإحساس بخطر هذا الضجيج هذه الأمة وعلى(1/423)
حفظ دينها، سيدفع العاملين المخلصين للإسلام إلى سرعة الاجتماع والتعاون في سبيل دفع هذه الشرور المعلنة والخفية وسد الطريق أمام كل هذه الشراذم وحيلها ذات الوجوه المتعددة، وهذا ما ينبغي حصوله إن شاء الله - تعالى -، وينبه الدكتور سفر الحوالي في هذا الخصوص على قضية مهمة بقوله: من أهم ما يجب اجتنابه في القضايا العقدية والفكرية؛ المصطلحات المحدثة أو العامة وأحسب أن مصطلح الآخر منها فهو عام مجمل، وينبغي أن نحدد فنقول مثلاً: العدو الكافر أو الخارجي، ونقول أهل البدع أو أهل القبلة المخالفون، ثم نقول أخيراً: المخالفون في الاجتهاد والرأي وهكذا، ونحن لا نستحدث شيئاً جديداً فالأمة عرفت التفرق، وعرفت الغزو الخارجي بأنواعه، والأصول في التعامل مع ذلك مضبوطة، نعم نحن نحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والوعي وهذا يقتضي التحديد والدقة وليس التعميم، ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن استعمال هذا اللفظ في وقتنا المعاصر إنما هو خدعة من أجل استخدامه بدلا من لفظ اليهودي أو النصراني أو الكافر ويبين أن هذه انهزامية وأنه لا يستقيم إيمان عبد إلا بتكفير اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، ثم يعقب على ذلك بقوله والمقصود أن إهدار عقيدة الولاء والبراء ومحاولة تجميع الناس على أساس ما يزعمونه من التعايش السلمي إنما هي محاولة لإخراج المسلمين عن دينهم، ويعلق الشيخ أحمد فريد على ذلك بقوله إن كلمات الاعتراف بالآخر وحق الآخر ينبغي أن تؤخذ بجانب الاعتبار في الحوار الإسلامي الإسلامي في السعي للتقارب ولا ننصح بقبول كل هذه المصطلحات ولكن نميز بين ما يقبل منها وبين ما لا يقبل، ويفرق الشيخ كمال الخطيب بين الآخر الإسلامي الذي يرفع لواء العمل للإسلام وخدمته فهذا ينبغي السعي للتقارب والالتقاء معه حتى وإن وجدت اختلافات وتباينات معه في الفروع ما دامت الأصول متفق عليها، وبين الآخر المحارب للإسلام ودعاته وإن كان يحاول الظهور باسم الدين(1/424)
كالقاديانية مثلا، وعلى المنهج نفسه يفرق الدكتور همام سعيد بين آخر الإسلامي فلا بد من إزالة الوحشة بينهم سعيا وراء التقارب وأما الآخر المخالف في العقيدة فهؤلاء أنواع فمنهم الحربي الذي لا لقاء بيننا وبينه، ومنهم غير المحارب الذي يبقى في دائرة الدعوة والحوار لإقناعه بهذا الدين، ويرى الدكتور محمد العبدة أن المسألة تعتمد على من الآخر؟ هل هو في الكفار أم في المسلمين فكل واحد من هؤلاء له حكم وطريقة وموقف في الحوار وغير الحوار، ويرى الشيخ تيسير عمران أن المنظومة الفكرية التي تتحدث عن الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف يمكن أن تؤسس لحوار بين أصحاب الرؤى المختلفة وتفسح المجال لإثراء موضوعات البحث ويمكن أن تحقق شيئا من التقارب الفكري والثقافي، ويستدرك الشيخ على هذا الإطلاق فيقول لكنها في الوقت نفسه إن تركت دون ضوابط تجعل من ثوابت الأمة حاكما عليها وموجبا لها فإنها تقود إلى التشتت والانحراف، ويقلق الأستاذ جمال سلطان من بعض المصطلحات التي لها رموز أو التي يصعب تحديد مدلولها كمصطلح الآخر والانفتاح على الآخر والحوار مع الآخر ويتساءل من الآخر وما صفته؟ ثم يقول عندما أتحدث عن الاتحاد الأوربي فهذا يختلف عن الكيان الصهيوني فهذا آخر وهذا آخر، ولكن منطق الحوار ومسوغاته ومشروعيته تختلف حتما لاعتبارات كثيرة، ويعقب على ذلك بقوله فأنا أتعامل بحساسية وحذر مع مصطلح الآخر ولكن الحوار في حد ذاته مطلب نبيل.
وفيما يتعلق بالتجديد(1/425)
يتحدث الأستاذ خالد حسن عن الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في أي حركة تجديدية إصلاحية إسلامية حقيقية فيذكر من ذلك: أن يتحقق الإنتاج الفكري التجديدي بصفات العمل الشرعي حتى لا يحرم من التوفيق الرباني، واستعمال العلم بحيث لا يحدث انقطاع عن العمل وتُتَجاهَل قيمته الفعلية في توجيه النظر والرأي، والتوسل في النظر بمفاهيم عملية شرعية من خلال التمكن من العلم الشرعي فهما ودراية ومنهجية في التلقي والاستدلال، ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن مصطلح التجديد من المصطلحات الخطيرة التي يجب التنبيه إليها فمعانيه هلامية ولا يمكن الوقوف على حجم أو قياس أو معنى محدد له، حيث تظهر التصورات البدعية التي ترغب في التجرد من كل أساس يقوم عليه أمر الإسلام رغبة في إسلام غير الذي جاء به محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، إن أهم ما لدى المسلم عقيدته وإيمانه وهو مطالب منذ أيام الوحي بالتجديد فيه قراءة وتدبرا وهو من المسائل الثابتة، وقد كان التجديد للتقوية والتحلية فكيف الأمر بما حكمه حكم المتغير الذي وجب التجديد أن يكون تجديدا في ماهيته وليس في مواصفاته؟ هما في الخلاصة دعوتان صادقة وكاذبة والواجب الالتزام بالأولى والإعراض عن الثانية، ويقدم الدكتور عبد الرزاق مقري نظرة تحليلية متعمقة في هذه الظاهرة حيث يقول التجديد ظاهرة تفرضها الحتمية النصية والسيرورة التاريخية، فهذه الرسالة هي آخر الرسالات ولا بد أن تجيب عن احتياجات الناس في كل فترة من فترات التاريخ، وإذا اعتبرنا أن فترة التجديد السابقة التي كانت في بدايات القرن الماضي والتي كان الهدف الأساسي منها توعية المسلمين وإخراجهم من الذهول الحضاري الذي صاحب انهيار كيانهم السياسي واستعمار أوطانهم قد استنفدت أغراضها، فإننا في بداية قرن جديد والله - تعالى -يرسل لهذه الأمة من يجدد لها دينها كما جاء الوعد بذلك في الحديث الشريف، وقد بدأت صحوة إسلامية في العالم بأسره(1/426)
وتحقق الشعور بالانتماء وتأكدت إرادة التغيير وبدأت الصحوة منذ سنوات تراوح مكانها من حيث الفكر والممارسة ولم تستطع تحويل الطموحات إلى إنجازات عملية ثابتة ومستقرة، وهذا يحتاج إلى إضافات فكرية جديدة وممارسات شرعية في مختلف المجالات وهذا هو مجال التجديد والاجتهاد وما نراه من تجارب مثيرة للجدل في بعض الأحيان في المغرب والجزائر ومصر والسودان واليمن وتركيا وماليزيا وأندونيسيا هي بدايات التجديد وسيثبت منها الأصلح ويجازي الله - تعالى -الجميع، ويقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية الأصل أن عملية الإحياء والتجديد ترتكز على أصول شرعية ولها مفهومها وضوابطها وآثارها وهي علامة على حيوية هذا الدين وأبنائه في العودة إلى أصوله وتنقيته مما علق به أثناء التطبيق العملي، وقد شاعت الدعوة إلى التجديد في هذه الأيام لكن بمفهوم يختلف عن أصل معناه وعندئذ تنقلب الدعوة إلى وسيلة لتغيير الأصول والمناهج وتصبح أداة لنبذ الأحكام أو تغييرها بحجة التجديد وما هو بتجديد ولذا وجب التفريق بين هذين المنهجين، ويغدو التجديد في هذه الحالة عائقا أمام التقارب الفكري والثقافي إذ لا يلتقي المنهجان على أمور مشتركة أو ثوابت وضوابط متفق عليها بين الطرفين وذلك بعكس التعامل مع مصطلح التجديد بضوابطه الشرعية فإن ذلك يكون مدعاة للتعاون واللقاء، وأما الشيخ سليمان أبو نارو فيتكلم عن أصحاب منهج التجديد المعاصر كلام من خبر أصحابه واكتوى بنارهم فيقول هذا المصطلح (التجديد) بمفهومه المعاصر هو من قبيل المنظومة سالفة الذكر (الآخر)، والحديث عن التجديد تروِّج له المدرسة العصرانية والتي تربي رجالها في كنف رجال الاستشراق وأدعياء الحداثة والمعاصرة. وسعي هذه المدرسة بين الناس على هذا النمط يزيد من صعوبة التقارب والاجتماع ويجعل الحوار (حوار طرشان)كما يقولون حيث لا ثوابت ولا أرضية مشتركة بل إلغاء للثوابت وتحريف للمفاهيم وتشكيك في المسلمات، وقد كان(1/427)
لتساهل بعض التيارات وتعاطف بعض عناصرها مع هذا (الطابور الخامس) لاعتبارات تقديرية أعظم أسباب القوة والقبول لدى بعض الطيبين من العامة بل والخاصة، وقد تحولت أطروحات هذه المدرسة إلى الجسر الذي يتحرك فوقه اليوم الأعداء من يساريين وعلمانيين بل وجماعات تقارب الأديان وتعايشها وينبغي اعتبار هذه المدرسة في قائمة أكثر قوة الهدم في ساحتنا الإسلامية.
ويبدو الأستاذ جمال سلطان حذرا من استعمال مصطلح التجديد فيقول: يسري على مصطلح التجديد ما يسري على مصطلح الآخر فهو مصطلح ليس له أصل علمي في تراثنا العربي الإسلامي، وبالتالي لم يخضع للضبط العلمي والمنهجي بعكس مصطلح الاجتهاد، الذي صار له دلالة محددة وقواعد ومحددات شرعية وعلمية وموضوعية يمكن أن نتفهمها، أما مصطلح التجديد فعلى من يطلق لفظ المجدد؟ وما مواصفاته؟ وما التجديد؟ وهل هو وفق شرعية لا يخرج عنها؟ وكل هذه الأشياء تثير التساؤلات، ولذلك أنا دائماً حذر في بعض المصطلحات الجديدة وأعتقد أنَّ الغموض فيها يتيح لكل سيء نية أن يوظفها كيفما أراد دون أن يكون لها قيمة في حد ذاتها.
ويقول الدكتور محمد العبدة: قضية التجديد مطروحة في كل عصر فإنه مما يحث عليه الدين وقد بشر به الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - ولكن التجديد أو أي مشروع أو مفهوم لا يمكن أن يكون دون ضوابط وأسس صالحة، إنَّ ما يسمونه التجديد الذي شاع في هذه الأيام هو من النوع (المنفلت) من أي قيد والذي تتحكم فيه الأهواء ولكنهم يحيطونه باسم جديد وهو (التجديد) ومثل هذه الأمور لا تساعد أبداً على التقارب الفكري أو الحوار البناء.(1/428)
ويوضح الدكتور عمر الأشقر معنى التجديد المشروع فيقول التجديد ليس هو لأمر مفقود يحتاج على إيجاد ولكنه أمر موجود يحتاج على إعادة تأصيل وبيان، إن التجديد يعني فقه الإسلام في ضوء الحياة الإسلامية التي كان يحياها الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه، وليس هو باكتشاف منهج جديد لم يكن في الإسلام، إن التجديد يعني العودة إلى الإسلام في صفائه ونقائه بعيدا عن التحريف والتشديد والتطرف والمغالاة وليس بدعوة جديدة ومنهج جديد نحتاج أن يكشف عنه أصحاب العقول فيبتدع كل واحد منهجا ونصبح أمام تلال وجبال من المناهج والتصورات فنقع في الضلال،
ويبين الشيخ تيسير عمران بوضوح أن الحديث عن التجديد في الدين وأثره في التقارب الفكري لا يعني مطلقاً إعمال يد التغيير بالحذف أو الزيادة فيه، ولا يعني التنازل عن قيمه ومبادئه تحت دعوى العقلانية أو التعددية أو غيرها، وإنما يعني كما هو ثابت بالنص الصحيح " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" إنه تجديد لفكر الأمة بالاجتهاد، وإيمانها بالتربية، وفضائلها بالعمل، ومعالم شخصيتها بالعلم والمعرفة، ولا شك أنَّ لهذا التجديد إذا ما تحقق، أثره البالغ في إنجاح الحوار الإسلامي الإسلامي.
ويؤكد الدكتور صلاح الخالدي على أهمية الضوابط في التجديد فيقول: التجديد ليس منفتحاً مطلقاً، وإنَّما هو تجديد منضبط بضوابط، حتى لا يتحوَّل إلى تخريب وإفساد، ونحن نعيش حمَّى الدعوة إلى التجديد المطلق، وهذه الدعوة تأتينا من أعدائنا، وقد يردها بعض المغرضين أو المخدوعين في بلاد المسلمين، ومن أهمِّ الضوابط للتجديد:(1/429)
أ- التجديد ليس في الأسس والقواعد والثوابت والمقاصد، فهذه حدَّدها الإسلام وأثبتها، ومنع التغيير فيها والتبديل، وعد تغييرها إحداث وتحريف مردود، ينطبق عليه حديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ب- التجديد يكون في الأدوات والأساليب والوسائل، ويقوم على تحسينها وتجويدها، فالتجديد لا يكون في المضمون، ج- الاستعلاء على ضغوط الآخرين بتغيير الخطاب، والاحتكام إلى المرجعية العالمية الدولية، المتمثلة بمجلس الأمن أو قرارات الأمم المتحدة أو غير ذلك، وعدم الاستجابة لتلك الضغوط والدعوات المشبوهة، والتعامل معها على أساس قول الله ـ - عز وجل - ـ: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتونك عن بعض ما أنزل الله إليك... )، ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن دعوة التجديد الحداثية ينبغي أن تكون من الدوافع التي توجب على أهل الحق الاتفاق ونسيان الخلافات الجانبية أو الفروعية، وتقوية أنفسهم وتحصين شبابهم من تلك الدعوات التي يراد منها تمييع الدين وجعله مسايرا للديانات المحرفة،
من يحمل هم الحوار والتقارب الإسلامي:
البيان: كلما تجاوب المجتمع مع دعوة من الدعوات كان ذلك أنجح لها وأدعى إلى الاستفادة منها، وفي المجتمع قوى علمية فاعلة كثيرة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية ودور النشر ووسائل الإعلام فما طبيعة الدور المرتقب من تلك القوي وكيف تكون مساهمتها فيه، وهل يمكن أن تساعد تلك المؤسسات في الحوار المطلوب أم أن ذلك سوف يظل قدر الحركات الإسلامية وحدها.
المشاركون:(1/430)
يرى الشيخ سليمان أبو نارو أنَّ هذه المؤسسات، لم تقم في الأصل لخدمة الإسلام وإحيائه ولا لجمع العاملين له وتقوية صفهم، بل في غالب أمرها قامت لهدم الدين ومحاربته وتشويه صورته وتلبيس أمره وصرف الناس عنه في عقائده وقيمه ومفاهيمه والتشكيك في مسالمته وخاصة أنها أسست على أيدي الأعداء ووكلائهم وقد قيل: (إنك لا تجني من الشوك العنب)، لكنه يستثني ويقول: هذا في الأصل فإذا كانت هناك استثناءات تخرج عن هذا التعميم أو كان في الإمكان تأسيس مثل هذه المؤسسات على التقوى من أول يوم، فذلك من أعظم الواجبات اليوم، وربما يرى البعض أن هناك إمكانية لخدمة الإسلام والتوفيق بين أهله من خلالها من غير أن يمس ذلك نقاء الدين وسلامة منهجه، ويبدي الشيخ وجهة نظره في ذلك بقوله: إنَّ التجارب والوقائع في جملتها لا تدل على ذلك، ولكلٍّ فيما يحاول مذهب.(1/431)
ويتفق الشيخ حامد البيتاوي مع الرأي المتقدم فيقول هذه الوسائل الجامعات ووسائل الإعلام ممكن أن تلعب دورا ولكن هي غير معنية بهذا وخصوصاً أنَّ رؤساء الجامعات لهم عقول كبيرة ومفكرة ولكن قناعاتهم في غير هذا الاتجاه، وفي رأيي أنهم إذا أرادوا ذلك يستطيعون و يكون لهم دور فاعل لامتلاكهم القدرات، وينظر الدكتور منير محمد الغضبان بواقعية لحال هذه المؤسسات فيرى أن العمل على التقارب هو قدر الحركات الإسلامية ويوضح ذلك بقوله: في رأيي أن المشكلة تشمل قوى المجتمع نفسها فكثير منها لا يخضع لتوجيهات العاملين للإسلام ويحمل اتجاهاتهم، وقلما توجد الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية المستقلة لكنها مع ذلك تمثل الطبقة المتقدمة في الأمة وحاجتنا فيها إلى المنهج العلمي القائم على الأرقام والإحصاءات والاستبانات، ودور النشر تقذف كل يوم الآلاف من الصفحات وحيث لا تكون قائمة على المنهجية فقد تكون عبئا على عملية التقارب أكثر مما تكون عونا له، فالجامعات والكتب والمؤسسات الموجهة تفرز فكرا أحاديا يؤصل للخلاف أكثر مما يؤصل للتقارب، وتبقى المسئولية الكبرى في عملية التقارب في أعناق الواعين لأهميته وفي أعناق القيادات لهذه الحركات، إن الدعاة إلى الله - تعالى - حين يختلفون وينشرون خلافاتهم على الملأ إنما ينقلبون دعاة ضد الإسلام أمام الحائرين الباحثين عن الحقيقة مهما كان إخلاصهم لله - تعالى -، وإن اتفاقهم على ضعفهم وعجزهم خير من تفرقهم وتطرفهم فالتفرق يلتقي مع الكفر تحت راية واحدة "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"، ويربط الدكتور عثمان جمعة ضميرية بين دور هذه المؤسسات وبين استقلاليتها فيقول: عندما تتحرر هذه المؤسسات من الضغوط الخارجية والاستغلال يمكن أن يكون لها تأثير في الدعوة إلى الحوار والتعاون بما تقدمه من دراسات وبما تجمع بين جنباتها من خبرات(1/432)
ويباين الشيخ حسن يوسف الآراء المتقدمة بقوله: ما من شك أنَّ الجامعات ومؤسسات السلام الاجتماعي أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني لها دور كبير فهذه المؤسسات باستطاعتها أن يكون لها دور فاعل ومؤثر في تقريب وجهات النظر بين أطراف الحركات الإسلامية مع بعضها البعض خاصة إذا سلطت الأضواء على المخاطر المحدقة بالأمة وإذا ما سلطت على وجوب تلاحم المسلمين مع بعضهم البعض بجهود لا تبغي إلاَّ مرضاة الله ولأنه في التوحد خير وفيه بركة والله - سبحانه - حذرنا من التفرقة وقال "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين"، ويتفق الدكتور همَّام سعيد مع الشيخ حسن يوسف فيقول عن قوى المجتمع: لها دور فاعل في التقارب بأن تفتح أبوابها للجميع والتركيز على المصالح أكثر من الوسائل، والاهتمام بالأصول أكثر من الفروع، وإشراك الجميع في عمليات الدفع والممانعة، و بناء المشروع الفكري الذي يلتقي على هذه الأصول والمصالح، وبنحو مما تقدم يقول الشيخ تيسير عمران أيضا، ويبين الدكتور خالد الخالدي الآليات التي يمكن من خلالها أن تؤدي تلك المؤسسات دورها فيقول: ينبغي لهذه المؤسسات أن تلعب الدور الأكبر في تحقيق أهداف التقارب، ويمكن ذلك من خلال:
1- عقد المؤتمرات التي تدعو إلى الحوار والتقارب بين المسلمين، واستدعاء الطاقات الإسلامية ونشر الأبحاث خلال هذه المؤتمرات مما يؤدي إلى خلق رأي عام تجاه قضايا التقارب، ويشجع على تكرار هذه التجارب
2- دعوة أساتذة الجامعات إلى توضيح أهمية التقارب والوحدة باستمرار، حيث يقف يومياً آلاف الطلبة المسلمين المتحزبين كل إلى جماعته وكل يدعو إلى فرقته، ويمكن استغلال تجمعاتهم وبث روح الوحدة والقوة فيهم، والتشديد على مساوئ التحزب لجماعة إسلامية دون الأخرى.
3- منع أساتذة الجامعات من مهاجمة الجماعات الإسلامية لأن هذا يباعد من التقارب ويحقق الاختلال.(1/433)
4- نشر الكتب والأبحاث، واستكتاب الكتاب والمفكرين حول مواضيع التقارب والوحدة.
5- إبراز ما حل بالأمة من دمار نتيجة الاختلاف والنزاع، وأن الأوطان لن تتحرر إلا بالوحدة والتكاتف والابتعاد عن الفرقة.
6- تخصيص البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تسعى إلى التقريب، ومنع نشر كل ما يبث الفرقة بين المسلمين أو الجماعات الإسلامية.
7- التحذير من البرامج التي تبثها بعض القنوات الفضائية العربية والتي تسعى إلى إظهار سلبيات الحركات الإسلامية التي تقف بوجه الحكومات.
ويرى الأستاذ جمال سلطان أن هذه المؤسسات مختلفة في اتجاهاتها، لكن ينبغي لخيارات العمل الإسلامي أن تهتم بآليات التأثير في العصر الحديث، والاستفادة من هذه الأدوات والآليات من أجل تحقيق الإصلاح المنشود، فلا ينبغي إهمال هذه المؤسسات وخاصة المؤسسات الدينية العريقة بسبب بعض فترات الضعف التي تمر بها، بل يجب علينا أن نعمل على إصلاحها وإحياء دورها، ويخص الشيخ أحمد فريد المؤسسات الإسلامية بهذا الدور، فيقول: أرى أن من وظيفة المؤسسات الإسلامية كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث والمؤسسات العلمية أن تهتم بقضية الحوار فعندها وقت وجهد وباحثين، فتدرس ما يمكن قبوله من أفكار الجماعات وما لا يمكن قبوله، وتحدد من يمكن دعوته لمائدة الحوار ومن لا يمكن، إضافة إلى إعداد جداول للعمل على تقريب هذه الجماعات(1/434)
وللأستاذ خالد حسن نظرة متعمقة حيث يدعو إلى إنشاء المؤسسات التي نحتاجها إنشاء فهذه هي التي يعول عليها في تحقيق المراد، ويشرح فكرته بقوله: إن صناعة الوعي تستحق التفرغ وبناء المشروعات والمؤسسات، وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو تجميع الفاعلين والمؤثرين في الأمة أو من تجاوب منهم مع أصل الفكرة والمبادرة في إطار مناهض لتوجهات الهيمنة والسيطرة والنهب، يرصد الخطط ويرسم استراتيجية المواجهة الشاملة ويقود الطاقات الجماهيرية ويوجه القوى الحية في ظل هذا التربص بالأمة ومقدراتها، هل يعقل أن أمة بطولها وعرضها ومخزونها لا تملك مؤسسة مستقلة أو منتدى حرا أو مجمعا للدراسات والاستراتيجيات يجمع أهل الخبرة والمفكرين سواء في أمريكا أو غيرها من دول الغرب لرصد خطط الهيمنة ووضع التصورات المستقبلية؟، وأمام الفتوحات الأمريكية للقارات والتحكم في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب والفاعلين والقوى الحية في الأمة وهو رفع مستوى التحدي، ومواجهة استراتيجيات الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط ولكن أن نؤسس لوعينا ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها وتميط اللثام عن الاستراتيجيات وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة، إن أوقاتنا الراهنة لا يصح فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذارا إلى الله - تعالى -وبعدها يرجع كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد.(1/435)
وينظر الدكتور كسَّال عبد السلام إلى أهمية التخصص وقدرة المؤسسات على القيام به فيقول: إن البناء المراد إنجازه في المجتمع يتكون من شقين: الأول: يخص الفكرة والتنظيم الذي يمثِّلها في أرض الواقع، والشق الثاني: يخص جانب الأعمال، الذي لم يعد في الوقت الحاضر بتلك البساطة التي كان عليها قديماً، وباتساع هذا المجال صار الاختصاص في كل شيء ضرورة، وهذا الذي تقوم به مؤسسات المجتمع كلها، ولقد صار كل شق يستلزم تثمين الشق الآخر له، إن التزام جانب الدعوة المجرد يعني إبقاء الإسلام على هامش الحياة، ولذلك لا بد من الالتفات إلى هذه المؤسسات، وجعلها عوامل تقوية ودفع لدعوة التمكين للدين، وهو يمدها بأسباب القوة والنجاح وهي تدعمه بوسائل التمكين، ويضيف الدكتور عبد الرزاق مقري: إن قوى المجتمع لا يسيرها الخطاب العام الذي كان له الفضل الكبير في إنشاء الوعي والصحوة فلا بد من الاهتمام بالمؤسسات المجتمعية في مختلف المجالات فهي التي تثبت ولاء الجماهير وهي التي تطور المشروع الإسلامي وهي التي تحمي الدعوة وهي التي توظف الطاقات وتؤهل القيادات وهي التي تحقق الإنجازات وتفتح سبل النجاح بإذن الله - تعالى -
نسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لكل خير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
http://www.saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/436)
فرق الحوار بين الرجل والمرأة
سهير الغالي
إشراف أ. جاسم محمد المطوع
الحوار بين الزوجين هو مفتاح التفاهم والانسجام، الحوار هو القناة التي توصلنا إلى الآخر. فعندما نتحاور إنما نعبّر عن أنفسنا بكل خبراتنا الحياتية وبيئتنا الأسرية والتربوية، نعبّر عن جوهر شخصيتنا عن أفكارنا عن طموحاتنا...فالحوار ليس أداة تعبير "لغوي" فقط بل الحوار هو أداة التعبير الذاتي.
فكيف لزوجين يرمون إلى التفاهم والانسجام وتحقيق المودة والألفة من دون أن يُحسنا استخدام الحوار؟
لقد أصبح "الحوار" من أكثر المواضيع بحثاً، نظراً لأهمية الحوار في عملية الاتصال والتواصل الإنساني ونجاح هذه العلاقات. كما اعتبر انعدام الحوار بين الزوجين من الأسباب الأولى المباشرة المؤدية إلى الطلاق وفقا لما ورد في دراسات عديدة، نذكر منها:
الدراسة الإحصائية التي أعدتها "لجنة إصلاح ذات البين" في المحكمة الشرعية السنية في بيروتلبنان عام 2003 تبين فيها أن انعدام الحوار بين الزوجين هو السبب الرئيسي الثالث المؤدي إلى الطلاق.
وفي دراسة علمية أعدها الباحث الاجتماعي علي محمد أبو داهش، والذي عمل 18 سنة في مكاتب الاجتماع بالرياض والمتخصصة في حل المشكلات الاجتماعية وأهمها الطلاق، تحت إشراف مجموعة من الباحثين الاجتماعيين، أوضح أن أهم أسباب الطلاق المبكر هو عدم النضج، عدم التفاهم، وصمت الزوج. وأشار أبو داهش إلى أن مشكلة انطواء الأزواج وصمتهم في المنزل أصبحت من القضايا التي تخصص لها نقاشات في الندوات العالمية لما لها من تأثير سلبي على نفسية الزوجة و الحياة الزوجية عامة.(1/437)
وفي دراسة ثالثة (نُشرت في إحدى صفحات المواقع الإلكترونية) أقيمت على نحو مائة سيدة، اخترن كعينة عشوائية، بهدف الكشف عن أبرز المشكلات الزوجية التي تواجه أفراد العينة، تراوحت الإجابات بشكل عام ما بين الصور التالية: بقاء الزوج فترة طويلة خارج المنزل، الاختلاف المستمر في الآراء ووجهات النظر، رغبة الزوج في الانعزال عن الآخرين أو الاختلاط في المجتمع المحيط، انعدام الحوار! وعندما طُرح في هذه الدراسة ما هو الأسلوب الأمثل لحلّ هذه المشكلات الزوجية، تبين أن ما يزيد على (87%) من إجابات أفراد العينة يفضلن الحوار المباشر لحل أية مشكلات، وفسرن ذلك بأنه أقصر الطرق لحل أي خلاف ينشب. كما أشارت نسبة (4%) اللاتي قلن إنهن يلجأن لوسائل أخرى لحل الخلافات الزوجية أبرزها كتابة الرسائل المتبادلة التي توضح وجهة نظرهن في المشكلة المثارة.
بناء على ما سبق نستنتج أن تعلّم "الحوار" وممارسته في الحياة الزوجية والأسرية من أهم العوامل التي تحقق الانسجام والتفاهم الزوجي والاستقرار الأسري. لذلك سنتناول في هذا البحث المواضيع التالية:
المفاهيم الخاطئة لدى الزوجين المسببة لانقطاع الحوار أو لسوء ممارسته، ثم نشرح كيف ينظر كل من الزوجين إلى الحوار وما مقدار حاجته وأهميته بالنسبة له، وما هي الفروقات النفسية والفكرية في طريقة استخدام الحوار بين الزوجين، ثم نعرض بعض الإشكاليات حول الحوار وأهمّها: الرجل الصامت والمرأة الثرثارة، وكيف نعالج ذلك عند كل منهما. وفي الفقرة الأخيرة نفصّل في أساليب ناجحة في بناء الحوار الإيجابي والفعّال بين الزوجين.
أولاً: المفاهيم الخاطئة المعوّقة لعملية الحوار بين الزوجين:
يوجد العديد من المفاهيم الخاطئة التي يعتقد بها الأزواج تعيق عملية الحوار والتواصل بين الزوجين بشكل غير مباشر. ونذكر أبرزها:
أ- مفاهيم سلبية خاصة لدى الزوج:(1/438)
يفترض الزوج أن الزوجة تتصرف كما يتصرف هو من حيث أسلوب التفكير والمحادثة.
الاستهانة بشكوى الزوجة واعتبارها من أساليب الزوجة النكدية.
التعامل معها بلغة العقل وإغفال الجانب العاطفي وذلك مقياسًا لطبيعة الرجل وأسلوب حياته.
الاستخفاف باقتراحات الزوجة لحل المشاكل المطروحة نظرا لعدم الثقة بقدرتها على إيجاد الحلول المناسبة.
أن الزوج قد وفّى بكل مطالب الزوجة وأدى واجباته المالية من حيث السعي والعمل والإنفاق وهكذا يكون قد أدى دوره.
أن الزوجة بطبعها كثيرة الثرثرة فمن الأفضل عدم إعطائها الفرصة للتحدث والعمل على إيقافها عند اللزوم.
على الزوجة فقط أن تبادر لتحادث زوجها وتؤمن له الراحة النفسية.
لا يوجد وقت كافي للتحادث مع الزوجة نظرا لضغط الأعمال وضيق الأوقات وهي ستتفهّم ذلك.
ب - مفاهيم سلبية خاصة لدى الزوجة:
أن تقارن الزوجة تصرفات زوجها بتصرفاتها.
تتوقع من الزوج أن يقوم بما ترغب في أن يقوم به، لأنه يفكر بالأسلوب نفسه.
تعتمد أسلوب الاستفزاز لكي تخرجه من صمته وتدفعه للحوار.
تتوقع أن يبادرها في الحوار وأن يعبر لها عن مشاعره الرومانسية في كل حديث وساعة.
أن تعاند الزوجة آراء زوجها لاعتقادها أن الرجل لا يأتي إلا بهذه الطريقة.
أن الزوج عندما يصمت إنما يعبر عن غضبه عليها وعن فتور الحب بينهما.
إن الحديث عن المفاهيم الخاطئة لدى الأزواج ينقلنا لشرح ما يعنيه الحوار لكل من الزوجين، وهل يختلف معنى الحوار والحاجة إليه عند كل منهما وما هي الفروقات النفسية والفكرية في طريقة استخدام الحوار؟
ثانياً: الفروقات النفسية والفكرية في طريقة استخدام الحوار عند الزوج و الزوجة:
أ- عند الزوج:
• إن الرجل لا يتكلم إلا لهدف معيّن، فهو لا يقصد الحوار بذاته أي لأنه يريد أن يتكلم فقط، إنما يقصد الحوار لتحقيق غاية معيّنة مثال إثبات الذات، جلب المصالح، المناقشة والمنافسة، كسب العلاقات العامة..(1/439)
لذلك نرى الرجل يتكلم خارج المنزل أكثر من داخله، ويستعمل كل أسلحته خارجاً للفوز ولتحقيق أهدافه، ولهذا فهو يستهلك الكثير من الكلام ما يجعله يظهر بمظهر المتكلم والثرثار خارجاً، وعند عودته إلى المنزل نراه قليل الكلام لأنه بذل مجهوداً كبيراً في الخارج ولم تبقى لديه الطاقة التي تعينه.
• كذلك فإن المنزل بالنسبة لمعظم الرجال هو المكان الذي لا يتوجب عليه الكلام فيه، فهو قادم للراحة. فالراحة للرجل هي الابتعاد عن المنافسات والمناقشات الطويلة، الراحة بالنسبة للرجل هي عدم الكلام.
• كما أن الرجل لا يستخدم الحوار إلا إذا أراد أن يستفسر عن أمور معيّنة أو يتحقق من واقعة، ونادراً ما يتحدث الرجل عن مشاكله إلا إن كان يبحث عن حلّ عند خبير، لأن بنظره "طلب المساعدة عندما يكون باستطاعتك تنفيذ العمل هو علامة ضعف أو عجز".
• يجد الرجال صعوبة قصوى في التعبير عن مشاعرهم وقد يشعرون بأن كيانهم مهدد إن أفصحوا عن ذلك، وهذا ما يدفعهم للتعبير عن مشاعرهم بطرق أخرى مختلفة عن الحوار.
ب- عند الزوجة:
• تشعر النساء بقيمتهن الذاتية من خلال المشاعر ونوعية العلاقات التي تقيمها مع الآخرين. ويختبرن الاكتفاء الذاتي من خلال المشاركة والتواصل.. فإن الحوار والتواصل بالنسبة للمرأة هي حاجة ضرورية وملّحة، هي حاجة نفسية فإن لم تشبعها يحدث لديها اضطراب. وقد تلجأ المرأة إلى تصريف هذه الحاجة من خلال إقامة العلاقات الاجتماعية والمشاركة في جلسات حوارية مختلفة خارج المنزل، وبالرغم من أنه يلبي حاجة في نفسها إلا أن الزوجة لا يمكن أن تشعر بقيمتها الذاتية إلا من خلال إشباع حاجة الحوار لديها مع زوجها. فإن كان الزوج من النوع الذي لا يحاور زوجته أو لا يصغي لحديثها، فإن الزوجة تفسّر ذلك بأنه لا يحبها ولا يقدّرها، وهذا بالتالي يؤثر على نفسية الزوجة فتقوم بردات فعل تجاه الزوج مسيئة للعلاقة الزوجية.(1/440)
• كما أن الزوجة داخل المنزل تكثر الكلام وتتكلم في أمور شتى لأن المنزل هو المكان الأمثل الذي تشعر فيه بحرية الكلام وعدم خوفها من ملاحظات الآخرين، فتتكلم بأمور كثيرة مهمة وغير مهمة. الحياة بالنسبة للمرأة عبارة عن اتصال ودي ومحاولة خلق جو ملؤه المحبة والوئام، والكلام هو أفضل وسيلة، فتظهر أنها ثرثارة تختلق الكلام حتى ولو لم يكن هناك شيء مهم.
ج- لغة المرأة مختلفة عن لغة الرجل:
• لا يختلف الرجل عن المرأة بيولوجيا ونفسيا فقط، أيضا في طريقة استخدام اللغة. فعندما يتكلم الرجل يختار كلماته بدقة وواقعية، فهو كل كلمة ينطقها يقصدها ويعنيها بذاتها. لذلك نرى كلامه مرتباً متسلسلاً منطقياً، ويبتعد عن استخدام لغة العاطفة في حديثه. بينما المرأة عندما تتحدث تستخدم لغة العاطفة في كلامها. فغالبا ما نراها تستخدم هذه العبارة: " أنا أحسّ، أشعر.. " وعندما تتكلم المرأة فهي تطلق أحكاما عامةّ شمولية ولا تقصدها لذاتها إنما لتبالغ في التعبير عن شعورها أو ما يزعجها. مثال تقول للزوج " أنت بحياتك ما أخرجتني.. ألف مرّة قلت لك لا تفعل ذلك.. إنك لا تشعر بي أبدا.... " هذه العبارات يفهمها الرجل كما هي على الإطلاق وذلك لأنه يفهم كلامها من منظاره هو، أي يفهم هذه العبارات كلمة كلمة، وهذا ما يثير غضب الزوج. وقد نرى في هذه الحالة ردة فعل عنيفة له قائلا على سبيل المثال: " كيف لا! ألم نخرج في الأسبوع الماضي يوم كذا الساعة كذا... كلا لم تخبريني سوى ثلاث مرات.... لقد فعلت كذا لأعبر لك عن شعوري معك، ألا تذكرين موقف كذا في يوم وتاريخ قد فعلت لك وقمت وشاركتك مشاعرك... " وهذه الأمثلة الصغيرة كثيرا ما تتكرر في الحوار بين الزوجين، وهو حوار سلبي في حال استمر على هذا الحال. فإن الرجل هنا يحكم على حديث المرأة مقارنة باستخدامه الخاص للغة، كما أن المرأة لا تستوعب ردة فعل زوجها وتظن أنه يحاسبها على ما فعله لأجلها وهو يسرد لها هذه(1/441)
التفاصيل..
• اختلافات أخرى في اللغة: تلجأ المرأة لتعبّر عن معاناتها أو ما يؤلمها ويشغل بالها من خلال الحوار. فالمرأة تفكّر بصوت عال، وهي توجّه الحديث إلى زوجها لأنها تحتاج في هذه اللحظات إلى دعمه العاطفي والمعنوي، على سبيل المثال عندما تقول الزوجة: " آه إن رأسي يؤلمني.. كم تعبت اليوم في العمل لقد واجهت مشاكل كثيرة... لا أدري ماذا أفعل غدا مع هذا الموقف... إن والدتي مريضة ولدي التزامات كثيرة غدا كيف أوفق بين ذلك كلّه.. " تستخدم الزوجة هذه العبارات لتعبّر عن ما يجول في خاطرها من أفكار، وعن ما يختلج في صدرها من مشاعر، لكن ما يزيد من ألم الزوجة هو عدم تفّهم الزوج حاجتها للدعم النفسي والعاطفي وخاصة عندما يرد عليها بهذه العبارات:
" يمكنك أخذ مسكّن لوجع الرأس.. أتركي العمل أو خففي من وقت العمل... يمكنك فعل كذا وكذا في هذا الموقف... يمكنك الاعتذار عن بعض الالتزامات وإخبار والدتك بذلك.. " الرجل هنا يعتبر أن المرأة عندما تشتكي بهذه الطريقة لأنها عاجزة عن إيجاد الحلول وأنها تطرح عليه ذلك للمساعدة، وإن الرجل بطبيعته العملية يصغي لما تقول ويعتبر أنه المسئول عن إيجاد الحلّ لمساعدة زوجته في ذلك. لكن المرأة يغضبها ردّ الرجل وتتهمه في هذه الأوقات بأنه لا يتفهمها ولا يشعر معها، فبدل أن يخفّف عنها معاناتها يزيدها ألما فهي في هذه اللحظات تحتاج لأن يقول لها مثلا: " سلامتك حبيبتي.. يضمها، يقبلها.. ماذا حدث معك في العمل لماذا أنت تعبانة؟... آه يا زوجتي كم أنت حنونة وحسّاسة أنا فخور بك لأنك تحترمين والدتك وأنك إنسانة فاعلة في المجتمع.. تعالى نتحدث كيف يمكن أن نخرج مما تعانين.. " بهذه العبارات يمتلك الرجل المرأة ويشعرها بأنها محظوظة بهذا الزوج الذي يتفهمها ويقدّرها.. لهذا على الرجل أن يفهم هذا الاختلاف في التعبير، فالمرأة هنا لا تشتكي لعجز عن الحل إنما لتعبّر عن مشاعرها أو لأنها تفكّر بصوت عال..(1/442)
• ومن الاختلافات أيضاً، عندما تطلب المرأة شيئا أو تقترحه على زوجها قد يعتبر الرجل أنها تأمره، فالمرأة تقترح ليناقشها الزوج ولا يعني أنها تبت بهذا الموضوع. على عكس الرجل فعندما يطلب أو يقترح فغالبا ما يكون قد أخذ القرار بذلك..
• كذلك في حالة الحوار بين الزوجين تنتقل المرأة من موضوع إلى آخر مختلف، من دون أن تنهي الموضوع الذي بدأت به وقد تستدرك ذلك في آخر حديثها فتعود للموضوع الأول وتنهيه، وهكذا دواليك... وهذا يتعب الرجل فهو يحلل أثناء حديث الزوجة، يقول ما علاقة الموضوع الأول بالثالث أو هذه الحادثة مثلا، فيتضح له أنه لا علاقة! قد يتفاجأ من ذلك فهو بطبيعته تركيزي أي يناقش موضوعا موضوعا ولا يترك ملفات مفتوحة.. فكأن الرجل يستخدم طريقة عاموديه والمرأة تستخدم طريقة أفقية في الحديث..
هذه الاختلافات إن لم يعيها الزوجان قد تفجّر بركانا من الخلافات الزوجية، وتبدأ النيران بالاشتعال بمجرد أن يستخدمان الحوار النفسي السلبي، فما هو هذا الحوار؟
د- الحوار النفسي السلبي عند الزوجين:
الحوار النفسي السلبي هو الحوار الداخلي الذاتي، أي طريقة الحوار مع النفس فالحوار عند الإنسان ينقسم إلى حوار داخلي أي أفكارك التي تدور في بالك وما تحدثه لنفسك، وحوار خارجي هو التعبير اللغوي.
في موقف معيّن بين الزوجين على سبيل المثال، عندما يطلب الزوج من زوجته أن تسهر معه وقتا طويلا وترفض ذلك الزوجة لأنها تشعر بالتعب نتيجة أعمالها الشاقة في ذلك اليوم وتستأذن لتنام. هذا الموقف تختلف فيه ردات فعل الأزواج، وذلك وفقاً للحوار النفسي الذي يفعله الرجل. قد يحدّث الرجل نفسه في هذا الموقف " إنها لا تحترمني لا تقدّر رغباتي لقد احتجت بالتعب لتتهرب مني إنها تتعمد إغضابي لا تحبني إنها أنانية... " هنا استخدم الرجل الحوار النفسي السلبي (وكذلك الحال لو عكسنا المثال على المرأة) ودخل الرجل في دائرة الحوار النفسي وهي:(1/443)
فكرة سلبية تضخيم هذه الفكرة وإيجاد تفسيرات ذاتية لها توتر داخلي تصاعد التوتر غضب مشكلة مع الطرف الآخر.
لذلك نلاحظ في كثير من الأحيان أن الزوجين قد يطلبان الطلاق لأسباب ظاهريه بسيطة، إنما يكون الدافع من وراء ذلك هذا الحوار النفسي السلبي الذي لم يتعالج ولم يتم التحدث عنه وتفريغه. فهذا الرجل أو المرأة الذي دخل في هذه الدائرة يفتعل أي مشكلة مع زوجته ويضخمها عقابا لها، وفقا لما يعتقده من أفكار سلبية نحوها لا تمت بأي صلة للواقع إنما هي أفكار سلبية وهمية. وإن الإنسان (زوج أم زوجة) تكثر عنده هذه الحالات من الحوار في حال كان يعيش ظروف عدم الأمان وعدم الشعور بالأهمية والتقدير الذاتي. وأفضل نصيحة للذي يعاني من هذه الأفكار أن لا يأخذ الأمور مأخذاً شخصياً بل يفسّر الحدث بواقعيته. وأن يحارب هذه الأفكار السلبية بطرح أفكار نفسية إيجابية، فبدل أن يتهم الزوجة بأفكار سلبية معينة يمكن أن يستبدلها بأفكار إيجابية، يعني أن يخلق لها مبررات إيجابية ويضخم هذه الأفكار في نفسه بحيث أن يقتنع بها ويعامل زوجته على هذا الأساس الإيجابي، فلا بد من إلتماس الأعذار الإيجابية للطرف الآخر.
بعد الانتهاء من عرض لأبرز الفروقات بين الزوجين ننتقل لمعرفة أبرز ما تشتكي منه النساء والرجال في مسألة الحوار وهو: الرجل الصامت والمرأة الثرثارة.
ثالثاً: الرجل الصامت والمرأة الثرثارة:
أ- لماذا الرجل يصمت وكيف نعالج ذلك؟
بداية لابد من التفريق بين نوعين من صمت الرجل، الرجل الصامت دائماً أي من سماته الصمت داخل وخارج المنزل، والرجل الصامت مع زوجته أو داخل المنزل. النوع الأول من "الرجل الصامت دائماً" لا يدخل ضمن معالجتنا في هذا البحث: فهذا النوع يحتاج لاستشارة متخصصة لمعالجة ذلك.. أما النوع الثاني من الرجل الصامت داخل المنزل فهو ما نتحدث عنه في هذا البحث. لماذا يصمت الرجل في المنزل وكيف تتصرف الزوجة مع هذا الصمت؟(1/444)
1- عندما يواجه الرجل مشكلة أو مسألة معقدّة أو يمّر بظروف صعبة، فغالباً ما يلجأ الرجل إلى الصمت. وهنا يصمت الرجل لأنه يفكر بهدوء، يختلي بنفسه حتى يحلّ هذه المشكلة، الرجل يعتبر أنه المسئول عن حلّ مشاكله بنفسه ولا يحب أن يشاركه أحد في هذا التفكير. فنراه يصمت لساعات طويلة لحلّ مشكلة ما بنفسه، ومن بعد أن يجد لها حلاً يعود إلى الحوار والتواصل مع الآخرين.
كيف تتصرف الزوجة في هذه الحالة؟
من الخطأ أن تصرّ الزوجة على أن يتكلم الزوج عن ما يزعجه، فهذا يزيد من توتره لعدّم تفهّم زوجته حاجته النفسية للصمت والتفكير الذاتي. وهنا عندما تطرح عليه الأسئلة الزوجة مثلاً: " ما بالك هل أنت متضايق؟ ماذا يشغلك؟؟ " يردّ الزوج قائلاً: لا شيء.. تصرّ الزوجة: كيف لا شيء، هل تريد أن تخفي عني ذلك؟ " وقد تفكّر الزوجة أنها فعلت شيئاً أغضبه منها.. هذا الموقف قد يتضخم ويصبح مشكلة زوجية لأن الرجل لا يشعر باحترامه ولا إعطائه الثقة والفسحة للاستقلالية الذاتية، الزوج لا يحب أن يشعر بأنه محط رعاية دائمة للزوجة فهذا يشعره بالضعف. قد تستخدم الزوجة هنا طريقة أخرى في الحوار، مثال: ترّحب فيه وتلاطفه أولاً، من ثم إذا رأته دخل في دائرة الصمت تستطيع أن تطلب منه تحديد وقت مناسب للتحاور بينهما عندما ينتهي من تفكيره ويكون أكثر راحة، وتعبّر له أنها تحترم شعوره وتهتم لأمره، وتعطيه هذه الفسحة من الوقت دون لوم أو معاتبة.
2 - كما أن الرجل يصمت عندما يكون متعباً، ويحتاج فترة من الراحة للاستجمام واستعادة الطاقة. المرأة عندما تكون متعبة تعبّر بصوت عال وتتكلم بطلاقة عما يتعبها ثم عندما تخرج ما بداخلها ترتاح. لكن الرجل لا يستخدم هذا الأسلوب.
كيف تتصرف الزوجة في هذه الحالة؟(1/445)
لا تطلب المرأة من الرجل أن يعبّر عن ما بداخله عندما يكون متعباً ولا تستقبله من دخوله إلى المنزل بكمّ من الأسئلة: " كيف كان نهارك، ماذا فعلت، خبّرني.... آه لو تعلم ماذا فعل الأولاد.. فلان قال، حدث ذلك... " هذا يزيد من تعب الزوج، وقد يدفعه إلى الصمت أكثر للتهرّب من الحديث وللاستراحة.
هنا على الزوجة أن تعلم عند دخول الزوج إلى المنزل لا تستقبله بالأسئلة، بل تستقبله بالترحيب والملاطفة، وتحرص على أن تجهّز نفسها في كل يوم بطريقة مختلفة وجديدة لحسن استقباله (زينة عطور ترتبّ كلامها العاطفي تفاجئه بهدية أو موقف ما.. ) فذلك يسرّع من خروج الرجل من صمته، بل عندما يرى زوجته بهذه النفسية المرحة والمتفهمة فهو سرعان ما يستعيد نشاطه ويبادلها المشاعر والحوار. وكم جميل أن تهتّم الزوجة بتأمين الجو الهادئ لراحة زوجها من التعب مثال تجهّز حماما ساخنا، ترتب الغرفة بطريقة ناعمة، تجهّز طعاما يحبه، تفعل له أشياء يحبها يطلبها منها.. و تشعره بأنها تقدّر تعبه وتمدحه.. وتنتظر استعادة نشاطه للحديث معه.
3- انشغال تفكير الزوج لفترات طويلة في قضايا العمل ومسؤولياته، فهذا الانشغال الفكري يدفعه للصمت والانغلاق في دائرة واحدة من التفكير ألا وهو العمل واهتماماته.
كيف تتصرف الزوجة في هذه الحالة؟
تستطيع الزوجة أن تتحيّن الفرص والأوقات المناسبة للحديث معه ومناقشته في مشاكله واهتماماته. ولا بدّ للزوجة أن تتعلّم الأسلوب التشويقي والجذّاب لنقل الزوج من دائرة التفكير المغلقة إلى الحوار معها، ومن هذه الأساليب:
أن تتعلّم الزوجة هواية الزوج، أن تحبها وتشاركه فيها.
أن تختار المواضيع الشيّقة التي تجذب الزوج وتكون محور اهتمامه.
أن تتحدث بأسلوب تشويقي يتخلله طرح أسئلة مفتوحة، مثال: "هل تعلم ماذا حدث؟ ماذا تقول أنت؟ "، أن تدخل عنصر المفاجئة في حديثها، أن تدخل عنصر الفكاهة والمرح في الحوار.(1/446)
تعرض عليه مسألة معقدّة أو مشكلة ما وتطلب منه المساعدة في حلّها.
هذه الأسباب التي ذكرناها سابقاً لصمت الزوج هي أسباب طبيعية.
لكن يوجد أسباب أخرى تدفع الزوج للصمت منها:
سماع تعليق خاطئ واستهزاء من زوجته عندما يتحدث وفي كل مرة.
مقاطعته كثيرا عند الكلام.
إصدار الأحكام المسبقة على حديثه قبل الانتهاء من الكلام.
الاتهام المباشر واللوم والتهكّم أثناء الحديث معه.
تسخيف ما يطرحه من حديث أو يقترحه من حلول ومشاريع.
أن تشعره الزوجة أنها تفهم أكثر منه في الموضوع الذي يحاورها فيه أو أن تلجأ إلى تصحيح معلوماته أو تحقّره بذلك.
أن لا تبدي الزوجة اهتماماً لما يطرحه من حديث..
هنا يصمت الرجل غضبا أو دفاعاً عن نفسه أو للحفاظ على نفسه من الزوجة، وهذا الموقف له آثار سلبية على العلاقة الزوجية، ويجب على الزوجة أن تراجع نفسها، هل تقوم بمثل هذه التعبيرات أثناء حديث زوجها؟ وإلا فهي المسئولة عن صمت زوجها، وعليها أن تغيّر هذا الأسلوب الخاطئ في الحوار ليتغيّر حال الزوج معها. وأن تستبدل ذلك بتعابير المدح والتقدير والثناء، وتشعره بحاجتها إليه، وأن تعبّر له عن ثقتها فيه.
في حال لم تستطع الزوجة أن تخرج زوجها من صمته بعد تطبيق كل الأساليب المطروحة سابقاً، يمكنها إذا أن تصارحه بحاجتها للحوار معه وتضررها من صمته، وأن تناقش معه ما هي الوسائل المساعدة لكي يتخطوا هذه المشكلة.
ب- لماذا المرأة تثرثر وكيف يتصرف الزوج في هذه الحالة؟
1- سبق وذكرنا في هذا البحث عن حاجة المرأة الدائمة للحوار، وأنها عندما تتحدث فهي تتواصل مع الآخرين وبالتالي تشعر بقيمتها الذاتية.
كيف يتصرف الزوج في هذه الحالة؟(1/447)
هذه الثرثرة تعالج بالمصارحة والاتفاق بين الزوجين، قد يعبّر الزوج لها أنه باستطاعته أن يصغي إليها لفترة محددة وعندما يتعب يقول لها ذلك، ويستأذناها للمقاطعة والاستراحة على أساس أن يكملا الحديث في وقت لاحق. وقد يتفق معها على أن يدير الحوار، ويقسّما المواضيع المطروحة على أن ينهيا كل موضوع على حدة.
2- قد تكثر المرأة من الكلام في حالات أخرى، نذكر منها: يكون لديها وقت كبير تقضيه لوحدها، أن يكون عندها وقت فراغ كبير لا تستثمره في أعمال مفيدة.
كيف يتصرف الزوج في هذه الحالة؟
هنا يجب الاتفاق بين الزوجين على وسائل معينة للاستفادة من وقت الفراغ، أو كيف تخفف الزوجة من تمضية الوقت لوحدها، حيث يعد الزوج و الزوجة برنامجاً من النشاطات والأعمال المفيدة التي تساعد الزوجة على الاستفادة من وقتها وتفريغ طاقاتها. وقد يقترح الزوج على أن يتشاركا في أعمال واحدة مشتركة يحققان فيها المزيد من التواصل بينهما.
3 - تكثر الزوجة الكلام لأنها تشعر بعدم اهتمام الزوج لها وبعدم تقديرها، لأن الزوج لا يعطي لها الوقت الكافي لأن يجلسا مع بعض أو يخصصا وقتا بمفردهما. وتكثر الكلام لإثبات ذاتها لأنها مهمّشة بالنسبة للزوج..
كيف يتصرف الزوج في هذه الحالة؟
هنا على الرجل أن يتساءل كيف يتصرف مع زوجته؟ هل يقلل من شأنها؟ هل يهتّم بها حقاً؟ والعلاج المقترح لهذه الحالة أن يحرص الزوج على تخصيص وقت محدد للإصغاء للزوجة والسماح لها بالتعبير الحرّ عن ما يدور في خاطرها و ما تكن من مشاعر.. وقد ينظّم وقته على أن يحدد ساعات في الأسبوع للزوجة للإصغاء لها، أن يخرجا للتنزه معاً.. ومن المهم أن يعبّر لها الزوج عن تقديره لها في الأمور الصغيرة والكبيرة التي تقوم بها الزوجة لخدمته ولخدمة الأسرة، وأن يكافئها بالعطايا والهدايا المختلفة.(1/448)
في ختام هذا البحث لعلّ قائلا أن يقول في ظلّ هذه الفروقات المتناقضة بين الزوجين لا يمكن أن ينسجم الرجل و المرأة وأن يقيما علاقة زوجية ناجحة! هذا مفهوم خاطئ بل علينا أن نفهم هذه الفروقات وأن نتعلّم كيف نتعامل مع الطرف الآخر. ولنعلم أن هذه الفروقات لا يوجد فيها أفضلية أي لا يمكن أن نقول إن الرجل أفضل من المرأة في أمر ما أو المرأة أفضل منه بأمر آخر.. أو أن الرجل على صواب والمرأة على خطأ ونعمل هكذا على التفضيل ثم محاولة تغيير الآخر. هذه المفاهيم خاطئة ومدمّرة بل يجب علينا أن نقبل الآخر كما هو وأن نعمل على التكيّف وإيجاد السبل الناجحة لتحقيق التواصل الفعّال مع الطرف الآخر.
كيف نتعامل مع هذه الفروقات؟ وكيف نحقق هذا الانسجام؟ هذا ما ينقلنا لشرح عملية الحوار البناّء والناجح بين الزوجين.
رابعاً: عملية الحوار البناّء والناجح بين الزوجين.
حتى تنجح عملية الحوار بين الزوجين علينا أن نصحّح المفاهيم الخاطئة أولاً ثم نتعلم تقنية الحوار:
أ- تصحيح المفاهيم:
أن لا تضغط المرأة على زوجها ليتكلم، أن لا تصبح دائمة الشكوى من أنه لا يكلمها، أن لا تسيء تفسير موقفه من عدم الكلام، أن تتقبل صمته.
أن يتفهم الزوج حاجة الزوجة للكلام والشكوى، ويفهم حاجتها لأذن صاغية. أن يعرف كيف يستمع لها دون أن يعطي الحلول.
الصراحة التامة والمناقشة الهادئة الموضوعية.
احترام رغبات وخصوصيات الطرف الآخر.
عدم التصريح بالنقض وإظهار العيوب أثناء الحديث.
الامتداح والتقدير واستخدام الدعم العاطفي المتبادل أثناء الحديث.
أن يتفّهم الطرفان طريقة استخدام اللغة الخاصة بكل منها، وأن يفهم ما يقصده الطرف الآخر بمنظار المتكلم.
عدم المقاطعة والسخرية أو الاستهزاء أو استخدام عبارات الشتم واللوم أثناء الحديث.
عندما يتحول الحوار إلى شجار، الأفضل إنهاؤه والاتفاق على موعد لاحق للمناقشة.(1/449)
غيّر مكانك.. إذا لم يهدأ الغضب.. حاول أن تبتعد عن مكان النقاش حتى تهدأ الأمور ثم ليقبل أحدهما إلى الآخر وليقبّل رأسه.
عدم الاستعلاء أثناء الحديث وإبراز تقصير الآخر أو ضعف الآخر في النقاش أو الحوار.
ب- تقنية الحوار الناجح:
*ماذا نستعمل في الحوار؟
1- الأذن
2- اللسان
3- النظر
4- حركة اليدين
5- نبرة الصوت
6- اللمس
7- السكوت
8 - مكان الحوار
لذلك عندما نتحاور علينا أن ننظر بشمولية للمتحدث أن نصغي إليه ليس لحديثه فقط إنما نصغي للغة جسده، وإن حسن اختيار المكان للحوار والزمان لهما الأثر الكبير في تحقيق الانسجام بين الزوجين.
* كيف ينجح الحوار؟
1- الإصغاء، الإصغاء، الإصغاء للمتكلّم.
2- تقبّل كل ما يطرحه الآخر من دون تعليق على ذلك.
3- اطرح سؤالا مناسباً للإطلاع على كل الجوانب.
4- ابتعد عن استعمال " أنا " واستبدلها ب" نحن ".
5- تأكد من أن الطرف الآخر استطاع أن يعبر عن كل ما يعانيه بصراحة وحرية.
6- استخدم جمل المتكلم نفسها للتأكد من فهم قصده أو للاستفسار عن ما يعنيه.
7- لا تستعمل تعابير تدل على انعكاسات ذاتية لما تراه أنت مناسبا من الطروحات.
8- لا تسعى لتحقيق أهدافك أنت أو ما ترضاه.
9- إذا أصر الآخر على موقفه حاول أن تتفهم دوافعه وبين له إيجابية و سلبية قراراته.
10- اكسب دعمه لا تأمره، امنحه التقدير والثناء والعاطفة.
11- لا تعطي رأيك أو النصيحة إلا إذا سئلت وبعد أن تستوفي كل الجوانب.
12- أفضل نتائج للحوار هو أن يستنبط الطرف الآخر النتيجة المستحبة من ذاته هو لا أن تفرض عليه فرضاً.
يوجد وسائل كثيرة أخرى لتعلّم الحوار مثال:
قراءة كتب مختصة بذلك.
حضور الدورات التدريبية.
الحلقات الحوارية..... وليس المهم فقط أن نتعلم بل الأهم أن نمارسه ونصحح أخطاءنا في ذلك، ولا يلقي أحد اللوم على التربية! أو لا أستطيع أن أتغيّر، فهذا أنا!
إن أردت أن يتغير وضعك أو أن يتغير الطرف الآخر فابدأ أنت بنفسك أولاً، ففاقد الشيء لا يعطيه..
http://www.naseh.net المصدر:
ـــــــــــــــ(1/450)
أزمة الحوار الديني *
مراجعة : محمد سليمان
من الكتب التي أحدثت في الآونة الأخيرة ضجة وردوداً بين صفوف الإسلاميين كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) والجديد في كتاب الغزالي هو أنه خلاصة آراء له كان ينشرها هنا وهناك في كتبه القديمة والحديثة، مع زيادة في حدة اللهجة وعصبية وتشنج ربما كان يكتمه سابقاً.
ولخطورة الآراء التي طُرحت، أو بالأصح لخطورة المنهج التي طرحت فيه، فقد رُد عليه ردوداً علمية من أبرزها ما كتبه الشيخ سلمان العودة في (حوار هادئ مع الشيخ الغزالي) ونعرض في هذا المقال نقداً آخر يركز على ما وراء هذا الكتاب والجو الذي أُحيط به.
قدم الكاتب للموضوع بمدخل مهم جداً، وهو أن (الهم الداخلي) أصبح في السنوات الأخيرة أوْلى من (الوافد الخارجي)؛ فالتيارات العلمانية والقومية شهدت الهزائم التاريخية ولم يبقَ منهم إلا الفلول، وتحول بعضهم لمحاولة التلفيق بين العلمانية والإسلام.
من هنا تبدأ الخطورة، ومن هنا نبدأ بتلمُّس طرف الخيط كما يقال: (فقد أصبح الداخل الإسلامي خليطاً بفعل توافد جماعات من المفكرين والباحثين ممن يحملون تراثاً شخصياً علمانياً أو قومياً أو شيوعياً توافدهم إلى الساحة الإسلامية، واتجاههم إلى البحث ومخاطبة الجماهير تحت شعارات الإسلام) [1].
(وهذه النماذج الفكرية التي دلفت إلى (الداخل) الإسلامي، قد نجحت في إحداث بعض التأثير في توجهات وهموم بعض المفكرين والدعاة الإسلاميين) [2].
(وهذه النماذج لم تدخل عن إيمان راسخ أو إسلام صادق وإنما دخلوا على أساس أن الأرضية التي يمكن أن يكون لهم وجود على أساسها تحولت كلية نحو الإسلام) [3].(1/452)
هذه الفلول التي عاشت سابقاً في مناخ التكتيك السياسي رأت أن التحدي الأكبر لهم هو (كيفية إزاحة علماء الأمة ودعاتها ورموزها لكي يتبوؤا هم ريادة العمل الإسلامي، ولأنهم هم الممثلون (للعقلانية) و (للاستنارة) الدينية، وهذا التيار يلقى ترحيباً ودعماً من أجهزة ذات سلطان نافذ ومن تأمل المساحات الإعلامية المتاحة لهم يعلم ذلك) [4].
وأظن أن القارئ بدأ يدرك مَن هم المقصودون بهذا الكلام والذين تتاح لهم المساحات الواسعة من الإعلام، ولكن لا يزال عند المؤلف أشياء مهمة عن هذه الفلول، ففي سبيل تحقيق أهداف هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الإسلامى لابد من (كاسحات ألغام) تنظف لهم الطريق، فستعترضهم حصون علمية لا قِبَل لهم بها لضعف مقدرتهم العملية أو لافتقارهم إلى الرصيد الدعوي الجهادي.إذن ماذا يعملون، لابد من إحداث (خرق) في جدران القلعة، ولابد لمن يُحدث هذا الخرق أن يكون من الشخصيات ذات الاستقامة الدينية والتراث الدعوي الشخصي.
هذه الشخصيات هي التي يراد توريطها لتقوم بهذه المهمة، وهذا الصنيع يتم عبْر صياغة القضايا الفقهية والفكرية الإسلامية وحصرها ضمن إطار معين، ومن الأمثلة على ذلك (ما حدث في أوائل الثمانينات إذ قامت إحدى المجلات الثقافية الكويتية - ذات الطابع العلماني - بتنظيم ملف شهري عن (التطرف الديني) كان جل المشاركين فيه ممن يحملون عداوة للفكر الإسلامي، ثم فوجئ القراء المسلمون باسم أحد الدعاة الإسلاميين يتوسط المشاركين في الملف، لم يكن حديث الدكتور يوسف القرضاوي في هذا الملف هُجراً، ولكن المنبر الذي عرض من خلاله والتوقيت الذي صدر به الملف كل ذلك جعل من المقال (ورطة) استدعت من فضيلة الدكتور أن يعتذر عنها فيما بعد) [5].(1/453)
إن صاحب فكرة كتاب (السنة النبوية) هو (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) في واشنطن، الذي يصفه المؤلف بأنه أحد المؤسسات الإسلامية التي دلف إليها مؤخراً نفر من هذه الفلول الفكرية، فلماذا يوجهون الشيخ الغزالي إلى هذا البحث وهم يعلمون أن الشيخ لا يدخل - علمياً - تحت وصف (الفقيه) كما لا يدخل تحت وصف (المحدث).
إن مَن وجه الدعوة إلى الشيخ في هذه المواضيع إنما كان يبحث عن (كاسحة ألغام) تمهد له الطريق أمام أطروحات أكثر خطورة، وقد صرح الغزالي بأن هذا المنهج ليس منهجه الشخصى، بل شيء متفق عليه (وقد تدارست مع أُولي الألباب هذا الجو الفكري السائد واتفقت كلمتنا على ضرورة التعامل معه برفق واقتياده إلى الطريق المستقيم بأناة).
بعد هذا المدخل المهم، الذي نوافق فيه المؤلف على مجمل الصورة التي عرضها وخطورتها، ونعتقد أن الشيخ الغزالي كان عنده الاستعداد لمثل هذه الكتابات ولا يخلو الأمر من توريط.
بعد هذا ناقش المؤلف مضمون الكتاب وركز على منهج الغزالي في طرحه للمواضيع التي أثارها:
1- الفقه: لم يعالج الغزالي القضايا الفقهية بمنطق العلم والدليل وعرض أقوال العلماء واختيار أصحها وأقواها، بل ربما حسب ذوقه الشخصي، فعندما بحث موضوع الفن من موسيقى وغناء ونحت ومسرح... قال: (ما المنهج الذي أقدمه لهذه الأوساط الأوربية، هل أطلب إليهم إلغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلاً) ومعلوم أن الفتوى لا تتعلق بأهواء البشر وإنما بمستندها الشرعي، فهل نهدر قيمنا لإرضاء الذوق الغربي! وعندما تكلم على تحريم كل ذي ناب من السباع - كما ورد في الحديث - رد هذا الحديث بحجة أن الحديث لا ينسخ القرآن، وهذا تجاهل منه لمقررات أصول الفقه، والحديث لم ينسخ آية وإنما نسخ دلالة الآية، وهكذا عالج مسألة (الحجاب والنقاب) فعندما رجح بتقديره أن تغطية الوجه ليست واجبة، لم يحترم الرأي الآخر بل أراد مصادرته وأن من يقول به يسىء للإسلام.(1/454)
هذا الاستخفاف بالقضايا الفقهية و (الزي الإسلامي) شجع أمثال أحمد بهاء الدين على توبيخ المسلمين؛ لأنهم يبحثون: هل الربا حرام أم حلال بينما الأمريكيون يتابعون رحلات الفضاء! !
2 - ولعل أخطر ما في كتاب الغزالي هو تناوله للحديث النبوي بصورة تفتح الباب لا على مصراعيه للتجرؤ على السنة، فقد استبعد أحاديث لمجرد أنه لا يستسيغها، ودون أي قاعدة علمية، ولو كان الأمر إليه لحذف كثيراً من الأحاديث، وهكذا رد حديث موسى - عليه السلام - مع ملك الموت، وحديث: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وحديث: تحريم كل ذي ناب من السباع... الخ، بل وصل الأمر إلى الاستهزاء عندما قال: (كان أئمة الفقه الإسلامي يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب يعتمد على القرآن أولاً فإذا وجدوا في ركام (! ) المرويات ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع) فانظر إلى تعبير (ركام المرويات) وهل هذا مما يليق بالحديث عن أشرف المرسلين؟ !.
3 - يلاحظ أن الغزالي حريص على إبراز الإسلام أمام الغرب والشرق، وهذا الحرص سبّب له مزالق تهدر به القواعد العلمية.
ففي معرض تعليق الغزالي على منع شهادة المرأة في القصاص والحدود قال: (ولست أحب أن أوهن ديني أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند استناداً قوياً إلى النصوص القاطعة)، إن من الخطورة بمكان أن يُدخل عالم مسلم ما يسميه (القوانين العالمية) في موازناته الشرعية، وإلا فسيجرّ البحث عن ميراث المرأة، وشهادة المرأة.
4 - عَامَلَ الشيخ أبناء الصحوة الإسلامية الذين قال إنه سيقتادهم برفق! عاملهم بقسوة واستخفاف، وهذا ليس من المنهج القرآني في شيء ( أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) [الفتح: 29].(1/455)
وأخيراً فإن كتاب (أزمة الحوار الديني) على صغر حجمه إلا أنه عالج بصدق منهج الغزالي في التفكير وطريقة تناوله للموضوعات التي أثارها، والأهم من هذا هو اكتشافه التيار الذي يكمن وراء هذه الأطروحات، وأما معالجة القضايا التي طرحها الغزالي، فلا شك أنها تحتاج إلى كتابات مستقلة يوضح فيها منهج أهل السنة في ذلك، وهو نفسه منهج الفقهاء والمحدثين، ولا نفرق بينهما كما فعل الغزالي.
--------------
(*) - أزمة الحوار الدينى نقد كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) المؤلف: جمال سلطان الصادر عن مكتبة السنة، توزيع دار الصفا - القاهرة، الطبعة الأولى عام 1410هـ - 1990م.
(1) أزمة الحوار الديني، 8. (2) المصدر السابق، 9. (3) المصدر السابق، 9. (4) المصدر السابق، 11-12. (5) المصدر السابق، 18.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/456)
الحوار بين الأديان
أحمد بن حسين الفقيهي
الخطبة الأولى
عباد الله: في الآونة الأخيرة تعددت النداءات، وارتفعت الأصوات لتحقيق دعوة قديمة جديدة.
دعوة يراد من خلالها إيجاد لون من ألوان التلاقي والاتصال بين الإسلام وغيره من الأديان المحرفة والملل الوثنية، عبر ما يسمى بحوار الأديان.
فما حوار الأديان؟ وما حقيقته؟ وما هدفه؟ وما الموقف الشرعي منه؟
أيها المسلمون: إن مصطلح " الحوار بين الأديان " من المصطلحات الحادثة المجملة، وهو يتنوع بحسب أغراضه وأهدافه إلى عدة أنواع، والمنهج القويم في التعامل مع مثل هذه المصطلحات هو عدم نفي المعنى الصحيح بسبب استعماله من قبل بعض الناس في الباطل، بل نرد المعنى الباطل ونبرز المعنى الصحيح خاصة إذا علمنا أن هذا المصطلح يتعلق بأمر ضروري في دين الإسلام وهو (الدعوة إلى الله) ولأن في ظهور المعنى الصحيح تبين للحق وتصحيح لما حصل في هذا الموضوع من الخلط والتخبط بسبب البعد عن مفهومه الشرعي الصحيح.
عباد الله: لم تبدأ الحوارات بين الأديان بواقعها الحالي بمبادرة إسلامية، ولم ترسم أهدافها وخطتها في بلاد المسلمين، بل جاءت بطلب من الغرب بعد الدراسة العميقة لها عندهم وتحديد أهدافها وغاياتها من قبلهم.
بدأت الحوارات بين الأديان قبل ثلاثة عقود بمسمى "التقارب الإسلامي المسيحي" ثم لطفت فسميت "الحوار الإسلامي المسيحي" ثم وسعت بين يدي " اتفاقية أوسلو" للتطبيع مع اليهود، فصارت: "حوار الأديان" وربما "حوار الأديان الإبراهيمية"، ثم لم تزل تتسع في ظل الدعوة إلى العولمة لتصبح "حوار الحضارات" فتشمل الهندوسية، والبوذية، وسائر الملل الوثنية.
أيها المسلمون: الكفار من أهل الكتاب وغيرهم هم خصوم الماضي والحاضر، وهم يملكون اليوم الآلة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية، ومع ذلك تنطلق من مراجعهم الدينية والسياسية الدعوة إلى التقارب والحوار فما السر في ذلك؟(1/457)
عباد الله: لقد أخبرتنا الأيام بالعديد من البواعث التي دعت الغرب للحوار مع المسلمين ومن أبرز تلك البواعث ما يلي:
- باعث الصد عن سبيل الله:
لقد أرعب الكنائس الغربية في العصر الحديث انفتاح شعوبها على الإسلام، واعتناق ألوف منهم إياه، فرأوا أن لا جدوى من المواجهة، فهي أضعف من أن تقف أمام متانة العقيدة الإسلامية، فتفتقت عقولهم عن فكرة (التقريب والحوار) ليطفئوا روح التشوف لدى شعوبهم، ويقروا في قلوبهم أن الفروق بين الأديان فروقا شكلية، وكلها تؤدي إلى الله، فلا حاجة للتغيير، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا، حيث أخبرنا أن من صفاتهم السعي للصد عن سبيله فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران99]، وقال: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران72].
- الباعث الثاني للحوار بين الأديان هو الباعث التنصيري:
التنصير عباد الله يحتل موقعاً متميزاً في الديانة النصرانية، وحين تبنى النصارى خيار الحوار، لم يكن ذلك تخلياً منهم عن وظيفتهم الأصيلة، حيث صرح مجلس الكنائس العالمي أن الحوار وسيلة مفيدة للتنصير، لأنه وسيلة لكشف معتقدات وحاجيات الآخر، وهي نقطة البداية الشرعية للتنصير.
إنه في الوقت الذي يرتفع فيه نداء الحوار بين الأديان، تتزايد كثافة الحملة التنصيرية في العديد من الجهات وعلى رأسها قارة أفريقيا حيث رفع فاتيكان الكاثوليك الذي أقام مؤسسات الحوار مع المسلمين رفع شعار" أفريقيا نصرانية سنة 2000م " فلما أزف الموعد ولم يتحقق الوعد مد أجل هذا الطمع إلى 2025م.(1/458)
لقد تبين - أيها المسلمون - أن مفهوم الحوار الإسلامي المسيحي لدى الفاتيكان ملغوم ومحشو بالغايات التبشيرية والصليبية، وأنه إطار عام لتنفيذ مؤامرة التنصير خارج العالم المسيحي، فمتى يتعظ اللاهثون خلفه بذلك، وقد أخبرنا ربنا قبل أن تتبين الحقيقة على الواقع أن أهل الكتاب لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم فقال - سبحانه -: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة120].
- الباعث الثالث للحوار بين الأديان هو الباعث السياسي:
لقد كان من أكبر الدوافع التي صاحبت انطلاق الدعوة للتقريب والحوار بين الأديان، طغيان المد الشيوعي الملحد على العالم، وتهاوى معاقل النصرانية، فكانت تلك الخطوة بمثابة محاولة للوقوف أمام المد الشيوعي، خاصة في الشرق الأوسط، كما أن الحكومات الغربية تبنت الحوار والتقريب بين الأديان لتتمكن من دمج المهاجرين المسلمين في البلدان المجتمعات الغربية واتخاذهم ورقة ضغط على الحكومات الإسلامية لتعزيز نفوذ الأقليات النصرانية في البلدان الإسلامية، ومهاجمة مشروع الدول الإسلامية، وتطبيق الشريعة.
عباد الله: هناك الكثير والكثير من الأهداف والبواعث الخفية والظاهرة التي دعت الغرب للدعوة إلى حوار الأديان والتقريب بينها، وما ذكر هو أشهر تلك البواعث والأهداف وأعظمها أثراً.
أيها المسلمون: هناك ثلاث اتجاهات يجري الحوار الإسلامي النصراني المعاصر في مضمارها، وتنتظم تلك الاتجاهات هذا الكم من المؤتمرات والمنتديات، وتفصح عنها أدبيات ذلك الحوار وبياناته الختامية، وهي:
أولاً: اتجاه التقريب بين الأديان: وهو الاتجاه السائد، ويمثل معظم المحاولات العالمية والإقليمية والمحلية التي يتواضع عليها المتحاورون، ومن أبرز معالم هذا الاتجاه:
1 اعتقاد إيمان الطرف الآخر، وتسويغه، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو.(1/459)
2 الاعتراف بقيم الآخر، واحترام عقائده وشعائره، وعدم تخطئته أو تضليله أو تكفيره.
3 تجنب البحث في المسائل العقدية الفاصلة، للحفاظ على استمرار الحوار.
4 تجنب دعوة الآخر، وحسبان ذلك خيانة لأدب الحوار.
5 الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه، والتخلص من آثاره.
6 تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.
ثانياً: اتجاه التوحيد بين الأديان: وهو اتجاه يستصحب معظم الخصائص السابقة ويزيد عليها ما يلي:
1 اعتقاد صحة جميع المعتقدات، وصواب جميع صور العبادات.
2 الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس مشتركة.
ويمثل هذا الاتجاه غلاة الصوفية قديماً كابن عربي وغيره، وبعض المتمسلمين الأوربيين.
ثالثاً: اتجاه التلفيق بين الأديان: وهو اتجاه يهدف إلى تشكيل دين جديد ملفق من أديان وملل شتى، ودعوة الآخرين للانخلاع من أوضاعهم السابقة، واعتناق دين مهجن، ويمثل هذا الاتجاه قديماً (البهائية)، وحديثاً (المونية) التي يعتنقها أكثر من ثلاثة ملايين شخص في العالم، وتعقد مؤتمرات للحوار باسم (المجلس العالمي للأديان).
عباد الله: هذا هو تأريخ ما يسمى بالحوار بين الأديان، وهذه بواعثه وأهدافه، وهذه اتجاهاته في الوقت الحاضر، ويأتي السؤال عن نتائج تلك المؤتمرات والحوارات وماذا جنينا من ورائها؟
أيها المسلمون: إن المكاسب المزعومة للإسلام من خلال التطبيق المعاصر للحوار بين الأديان هي مكاسب وهمية ليس لها رصيد من الواقع.
فمع كثرة المؤتمرات واللقاءات المعقودة في هذا الشأن إلا أنها لم تفد شيئاً يذكر في مجال التقارب الحقيقي وبناء أعمال مؤسسية لهذا الغرض.(1/460)
لم يتوصل المسلمون المشاركون في هذه الحوارات بعد مفاوضات طويلة إلى الاعتراف من النصارى بان محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - نبياً من الأنبياء، وله رسالة صحيحة كغيره من الأنبياء، ويقول أحد المشاركين في هذه الحوارات بعد أن يئس منها: إن موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا إسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء.
وهذا التعامل من قبل النصارى أغضب بعض المشاركين بدرجة كبيرة في المؤتمرات الأخيرة إلى درجة تلويح بعضهم بمقاطعة هذه الحوارات العقيمة.
عباد الله: لقد وصل الحال والمخالفة لمنهج النبوة من قبل بعض المنهزمين من المسلمين المشاركين في هذه الحوارات أن وافقوا على مبدأ ترك الدعوة إلى الدين بين الطرفين، ولا شك أن الخاسر في هذا هو الطرف الإسلامي؛ لأن الأعداد المتكاثرة التي تدخل من النصارى في دين الإسلام لا تقارن بالذين ينسلخون من الإسلام إلى النصرانية، مع أن النصارى لم يلتزموا بهذا الشرط، فلا تزال إرساليات التنصير تجوب بلاد المسلمين طولاً وعرضاً.
أيها المسلمون: إن الكثير من المؤسسات والجهات الإسلامية القائمة بالحوار في العصر الحاضر قائمة على منهج مخالف للمنهج الرباني، ولعل من أبرز الأسباب أن الدعوة جاءت من النصارى وليست من المسلمين، ولهذا لا تناقش بيان الحق بالأدلة والبراهين المقبولة، بل أعرضت عن ذلك وأصبح الحوار عبارة عن تفاوض على القضايا المشتركة الذي يكون عادة بين الدول في المصالح الدنيوية المشتركة.
عباد الله: إن من القرائن التي تدل على فساد مقصد الغرب من هذه الحوارات ما ذكره أحد المشاركين أنه اكتشف أن الكنسية الأمريكية التي ترعى الحوار وتتفق عليه قد اتخذت من إحدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين " قاعدة " ومقراً لإدارة هذا الحوار.(1/461)
أيها المسلمون: خلاصة القول في الحوار الذي يجري الآن وبخاصة في السنوات الثلاثين الأخيرة بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب أنه فخ منصوب يجب الحذر منه، فنحن لم نساهم في وضع قواعد هذا الحوار وأهدافه وعناصره، كما لن نختار الأطراف التي نحاورها، وهنا يرد السؤال: لماذا بقينا نركض للحوار مع أوربا والغرب دون الحوار مع دول الحضارة الآسيوية.
إن مبررات الجغرافيا وحدها لا تفسر لنا هذا الانحياز للحوار مع الغرب، بقدر ما يفسرها اختيار الغرب لنا بسبب ماضيهم الاستعماري في بلداننا الإسلامية وطموحهم في استمرار سياستهم الاستعمارية، وهو ما يفسر أيضاً خضوعنا لهذا الإرث الاستعماري، فلا نختار الحوار الذي نريد، والطرف الذي نريد، والأهداف التي نريد، ويوم نفعل ذلك نستطيع أن نقول إننا امتلكنا زمام المبادرة، وتخلصنا من الماضي وكسبنا المستقبل {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
عباد الله: لا مزايدة علينا في أن دين الإسلام يحث على الحوار ويدعو إليه، ولقد تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة الدالة على أصالة الحوار في دين الإسلام، فهاهو القرآن الكريم يروى لنا حوار الرسل مع أقوامهم ومن ذلك: حوار نوح - عليه السلام - مع قومه: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود32]، وحوار إبراهيم مع قومه: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام80]، ونقل القرآن كذلك حوار الله - تعالى - مع الملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [البقرة30] بل صرح القرآن بحوار الله - تعالى - مع شر خلقه إبليس حين أبى السجود.(1/462)
ولقد امتثل المصطفى - - صلى الله عليه وسلم - - خلق الحوار في دعوته ومسيرته فحاور - - صلى الله عليه وسلم - - أهل الكتاب من يهود المدينة ونصارى نجران، وكاتب ملوك الأرض وأبرز مثال في ذلك كتابه إلى هرقل عظيم الروم.
أيها المسلمون: إن الحوار مع أصحاب الديانات الأخرى من أجل دعوتهم للدين الإسلامي الخاتم والناسخ لجميع الأديان السابقة، وإيضاح محاسن الإسلام لهم، وبيان ما هم عليه من باطل، واستنقاذهم من ظلمات الشرك والجهل، من أعظم ما يدعو إليه الإسلام، وهذا النوع من الحوار مطلوب شرعاً وعقلا، وعلى منواله نأمل أن تتجه مبادرات ولاة الأمر من علماء وأمراء.
عباد الله: صلوا وسلموا على من آمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة..
يا حي يا قيوم عافنا في أبداننا وأسماعنا وأبصارنا.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك وأفقر عبادك إليك..
اللهم أبرم لأمة محمد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك.
اللهم أكشف الضر عن إخواننا المحاصرين في غزة، اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا..
16/4/1429 هـ
http://www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=9220&Itemid=32
ـــــــــــــــ(1/463)
الحوار بين الأديان ... ( 2 - 2 )
عبد الرحيم بن صمايل السلمي
"... في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن حقيقة الحوار ومفهومه في القرآن، وفي هذه الحلقة سيتحدث الكاتب عن أقسام الحوار بين الأديان وحكم كل قسم... "
حكم الحوار بين الأديان
"الحوار بين الأديان" اسم عام يطلق على كل مخاطبة ومحاورة تتم بين طرفين أو أكثر من أهل الأديان والمؤمنين بها.
فكلمة "حوار" كلمة عامة تشمل كل ما يقع عليه معنى التجاوب والتراجع والتخاطب. ولا شك أن مطلق الكلام لا يصح الحكم عليه دون معرفة خصائصه المميزة.
والحوار من المصطلحات المجملة التي تحمل معناً حقاً ومعناً باطلاً فلا يصح الحكم عليه وهو بهذه الحالة من الإجمال والإبهام؛ بل لابد من الاستفصال عن المعنى المراد بدقة ثم النظر بعد ذلك في حكمه في ضوء النص الشرعي.
ومن خلال التتبع لأحوال الحوارات المتعددة بين الأديان تبيَن أنها على أنواع مختلفة، ولكل نوعٍ خصائصه المحدَّدة له والمميزة له عن غيره، مع أن جميع الأنواع يصح إطلاق اسم "الحوار بين الأديان" عليها. وعليه، فلابد من التبين عن نوع الحوارات المجملة والاستفصال عنها ومعرفة أهدافها وخصائصها قبل الخوض فيها أو الحكم عليها.
وبناء على ذلك فسأذكر كل نوعٍ على حدة، وأذكر الخصائص المميزة له باختصار ثم أُبين الحكم الشرعي على كل نوعٍ على حدة.
أولاً: حوار التعايش وحكمه:
تعريفه:
المقصود بحوار التعايش هو: الحوار الذي "يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب أو طوائف، وربما تكون أقليات دينيّة، ويُعنى بالقضايا المجتمعيّة كالإنماء، والاقتصاد، والسلام، وأوضاع المهجّرين، واللاجئين ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا اللون من الحوار: (الحوار العربي الأوروبي)، و (حوار الشمال والجنوب)" [1].
وقد يسمي البعض هذا النوع (التسامح). وهذا التعريف هو لمعنى التعايش بالمفهوم العام الذي يؤخذ من دلالة الكلمة دون ارتباطات بالمفاهيم اللاحقة.(1/464)
لكن هذه الكلمة (التعايش والتسامح) أخذت بعداً آخر غير المفهوم العام السابق وذلك عندما رفعه العالم الغربي كشعار مع العرب والمسلمين بعد حرب 6 أكتوبر (1 رمضان) وما تلاها من المقاطعة العربية في 17 أكتوبر بقرار من وزراء النفط العرب في الكويت الذي يقضي بفرض الحصار النفطي على أميركا وتخفيض مستوى الضخ حتى يتحقق الجلاء عن الأراضي العربية وتؤمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
فرفع الغرب هذا الشعار لتهدئة الوضع ووقف القتال وتخفيف حدة الضغوط العربية إلى حين ترتيب أوراقه وإعادة تنظيم أهدافه الاستراتيجية وقد تم ذلك وأصبح واضحاً للعيان أن جوار التعايش والتسامح ما هو إلا شعار لأهداف سياسية بحتة لا سيما بعد السيطرة الأمريكية على الخليج ومنافذ البلاد العربية والإسلامية بعد أزمة الخليج الثانية، وأصبح الأمر أشد وضوحاً بعد الاجتياح الإسرائيلي الأخير للضفة الغربية، وعندما طرح خيار الضغط بمنع النفط عن أميركا ولو لوقت محدد لم توافق عليه الدول العربية النفطية، لا لكونه يلحق الضرر بمصالحها بل لكونها غير قادرة عليه لضعف سيادتها أو زوالها عن النفط على أقل تقدير.
وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر وهاجت أمريكا ورفعت شعار (الحرب على الإرهاب) عاد العرب و المسلمين لرفع شعار التعايش والتسامح بنفس المفهوم الغربي السابق الذي رفع إبان حرب 6 أكتوبر وتداعياتها.
لقد أصبحت فكرة (التعايش والتسامح) دعوة فكرية تحمل في طياتها مضامين فكرية وثقافية وحضارية واجتماعية. وقد تبنى هذه الفكرة ونظر لها "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة" (ايسسكو)حيث أصدرت كتابا بعنوان "مفهوم التعايش في الإسلام" تأليف د. عباس الجراري.(1/465)
والتعايش والتسامح بهذا المفهوم عرفه (اليونسكو) في بيان له بأنه "احترام الآخرين وحرياتهم والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها... وهو تقدير التنوع الثقافي وهو الانفتاح على الأفكار والفلسفات الأخرى بدافع الإطلاع وعدم رفض ما هو غير معروف". وسيأتي مزيد توضيح لمفهومه إن شاء الله.
خصائصه:
سبق في التعريف أن التعايش له مفهومين متغايرين، أحدهما مأخوذ من المفهوم العام للكلمة والآخر مأخوذ من شعار خاص رفع في فترة من الفترات لأهداف سياسية ثم تطور إلى أن أصبح فكراً منظماً تقوم على تصديره بعض المؤسسات الكبرى (اليونسكو - والايسسكو) ثم عاد ليصبح شعاراً سياسياً للتخفيف من هيجان العالم الغربي بسبب أحداث11سبتمبر بنفس المضامين الفكرية.
وبناءً على هذا فلابد من تمييز خصائص النوع الأول عن النوع الثاني ثم بيان الحكم في كل واحدة على حدة. فخصائص (حوار التعايش) المميزة له عن غيره هي:
1- أنه حوار لا علاقة له بالدين.
2- أنه يقتصر على الحوار فيما يتعلق بالمعيشة البحتة بين أهل الأديان التي تفرضها طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الفطرية.
3- أنه لا يتضمن محبة أو ولاء أو اعترافاً بصحة دين الآخر أو تزكية له أو مدحاً بل هو قاصر على الأمور الدنيويّة وفي حدود الحاجة.
4- أن لا يتضمن شيئا من التنازل عن أمر من أمور الدين بحجة الترغيب لهم في الدخول في الإسلام أو أعطاء صورة حسنة عن الإسلام أو بأي تعليل آخر.
حكمه:
هذا النوع من الحوار - إذا لم يصاحبه ما يعكِّر على خصائصه السابقة أو يزيد فيها - فهو جائز لا إشكال فيه، وهو خاضع للسياسة الشرعية العملية التي يقدرها أهل الحل والعقد من أهل الخبرة والعلم والدين.(1/466)
وقد تفاوض رسول الله ? مع اليهود وعاهدهم، وصالح المشركين في الحديبية، وكذلك الصحابة الكرام تفاوضوا مع أهل الأديان المختلفة فيما يخص دنياهم ومعاشهم، ولا يزال هذا الأمر موضع اتفاق. وقد "زخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم في مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين" [2].
خصائص التعايش بالمفهوم المعاصر [3]:
لقد أعطي مصطلح (التعايش) بعدا آخر غير ما مضى من التوصيف وأخذ مفهوم التعايش الفكري وهو بهذا المعنى يندرج تحت التقارب الذي سيأتي الكلام عليه.
وحوار التعايش يكون في العادة بين الدول التي تمارس الحياة العملية بحكم الاتصال المادي بينها ولا مجال له بين الأديان إلا من هذه الزاوية وإنما ذكرناه في موضوع الحوار بين الأديان لأنه يدخل في العنوان العام بسبب عمومية لفظة (الحوار) ولأن البعض يخلط بينه وبين حوار التقارب.
ثم إن حوار التعايش أخذ مدلولاً آخر غير ما سبق ذكره في الخصائص العامة ليكون بذلك فكراً جديداً له خصائصه الفكرية المختلفة عن ما سبق ذكره. ويمكن تلخيص تلك الخصائص في النقاط التالية:
1- القول بحرية التدين وإنكار حد الردة في الإسلام باعتباره معارضاً لحرية اختيار الإنسان للدين الذي يقتنع به، وجعل القاسم المشترك بين كل الأديان البيان العالمي لحقوق الإنسان.
2- منع كل ألوان الاعتداء على الآخر وإنكار الحرب باسم الدين وتفسير الجهاد في الإسلام بأنه للدفاع عن النفس وإنكار جهاد الطلب.
3- منع الكراهة الدينية و الدعوة للإخاء الإنساني.
4- المطالبة بالحرية الدينية للأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية والتعامل معهم على أساس الوحدة الوطنية وليس على أساس المعتقد الديني، واقتراح الغرب الحل العلماني كأفضل حل لمشكلة الأقليات وان كان هذا لا يراه كل من يرى الحوار بهذا المفهوم.(1/467)
5- الإقرار بالأديان السماوية جميعا وتفسير هيمنة الإسلام عليها بأنه (مراقب) عليها فهو يرصد ما تتعرض له الديانات من انحراف عن الحق.
6- الاجتماع على تقوية الصلة بالله في النفوس، خاصة بعد طغيان المادية وتفشي قيمها المسيطرة على الشباب في العالم.
7- البعد عن العنف والإرهاب والتطرف الديني والتكفير والتدخل في خصوصيات الآخر الدينية وأن كل هذا مناف للاحترام الديني الذي يجب أن يكون بديلاً عن كل القيم السابقة.
حكمه:
من خلال الخصائص السابقة يتبين لنا أن التعايش تحول من تعايش مادي عن طريق المفاوضات بين الدول إلى تقارب ديني وحضاري بين الدول والشعوب. والخصائص السابقة تتضمن إنكار أمور معلومة في دين الإسلام وواضحة فيه، مثل: قضية إنكار الجهاد، والولاء والبراء، وحكم المرتد، والسماح للكافر بنشر كفره في المجتمعات الإسلامية باسم حقوق الأقليات، وكل هذا يعتبر إنكاره كفرٌ مخرج من الملة لأنه تكذيب للنصوص الشرعية الدالة عليه.
أما من تأوَّل بعض النصوص للوصول إلى قوله هذا فهو بحسب طريقته في التأول إن كانت شبهة وإشكالاً لها مسوِّغ في اللغة فهو ينفي عنه التكفير، ويصبح مثل عامة المبتدعة، الذين تأولوا وصاروا إلى مقالات مناقضة لصريح الكتاب والسنة ولم يكفرهم العلماء بذلك.
أما إن كان تأولاً بعيداً لا شبهة له في اللغة أو قول لبعض العلماء فهذا لا حجة في تأوله وغير معذور فيه. و بالجملة فهذا النوع من الحوار يعود إلى حوار التقارب الآتي ذكره.
ثانياً: حوار التقارب وحكمه:
تعريفه:(1/468)
"التقارب بين الأديان" لا يحمل مدلولاً اصطلاحياً محدداً، فلفظ "التقارب" أو "التقريب" مأخوذٌ من القرب، وهو أمرٌ نسبي يتفاوت في حقيقته وتطبيقاته فقد يقتصر على حدٍّ أدنى من المجاملات الشكلية، وقد يبالغ فيه إلى درجة الاندماج الكامل والوحدة التامة، وبين هذين مراتب متعددة وكلها داخلة في عموم اسم التقارب [4]. وهذا المفهوم أوسع نوع من أنواع الحوار بين الأديان، ولعله أشهر مفهوم له والذي تعقد له المؤتمرات المتعددة.
خصائصه:
ولعل الخصائص المميزة للتقارب الذي لا يصل إلى درجة الوحدة يمكن أن تجمل فيما يلي [5]:
1- اعتقاد "إيمان" الطرف الآخر، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو، أما القول بكفر الآخر فقد يصرح به البعض، وينفيه الأكثر.
2- الامتناع عن التلفيق بين عناصر الأديان، وتجنب البحث والمناقشة في المسائل العقدية الشائكة.
3- التعرف على الآخر كما يريد أن يُعرف.
4- نسيان الماضي التاريخي والتخلص من آثاره، والاعتذار عن أخطائه.
5- إبراز أوجه الاتفاق، وترك نقاط الاختلاف.
6- التعاون على تحقيق القيم المشتركة وهي تشمل ما يلي [6]:
أ - التعاون لصد الإلحاد في العقيدة.
ب - الوقوف ضد دعاة الإباحية.
ج- التعاون حول قضايا العدل والمستضعفين والشعوب المضطهدة والأوطان المحتلة، والفقر والمرض... إلخ.
7- الاعتراف بالآخر، واحترام عقائده وشعائره، وتبادل الزيارات والمجاملات في المناسبات الدينيّة المختلفة [7]، والمشاركة في عباداتهم أحياناً [8]، ويدخل في ذلك التأكيد على المحبة والمودة والإخاء والصداقة والثقة والاحترام المتبادل معهم.
8- البعد عن جعل الحوار دعوة مبطنة سواء للإسلام أو النصرانية.
ومن خلال ما سبق يتبين أن التقارب أمرٌ نسبي، فيمكن حصول التقارب إلى درجة الوحدة ويمكن الاكتفاء بالتفاهم العام القريب من حوار التعايش.
وقد ظهر لي أن دعاة التقريب نوعان:(1/469)
النوع الأول: تجتمع فيه الخصائص السابقة إلاَّ عدم تكفير اليهود والنصارى. ويمكن التمثيل لهذا النوع بالشيخ يوسف القرضاوي ولجنة الحوار في الأزهر.
النوع الثاني: تجتمع فيه الخصائص السابقة مع قوله بعدم تكفير اليهود والنصارى كما هو قول جمال الدين الأفغاني والدكتور محمد عمارة مثلاً.
حكمه:
حكم حوار التقارب يختلف بحسب نوع القرب، وقد سبق أن بينتُ أن دعاة التقريب على نوعين، والفارق بينهما هو تكفير اليهود والنصارى، فمن كفّرهم مع القول بالتقريب على نحو ما سبق فقوله بدعة مخالف لمنهج النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حواره مع أهل الكتاب، ومن لم يكفّرهم فقوله كفرٌ لأنه تكذيب لأمرٍ قطعي في القرآن والسنة، بغض النظر عن المعينين، لأن لهم شأن آخر فيما يتعلق بوجود الشروط وانتفاء الموانع وليس هذا مجال بحثنا هنا.
أما المودة والمحبة القلبية، فإن كانت لدينه فهي كفر أكبر بغير خلاف، وأما إن كانت المحبة القلبية لغير دينه بل لأمر دنيوي، ولم يقتض ذلك مظاهرته على المسلمين فهي من الكبائر ولا توصل للكفر الأكبر.
وسأدلل على أن "حوار التقريب" مخالف لأصول الدين ومناقض لمنهج الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - بشكل عام من خلال الوجوه التالية:(1/470)
الوجه الأول: أنه موالاة للكفار ومخالفة لعقيدة الولاء والبراء، يقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (الممتحنة: 1). ويقول - تعالى -: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... } (المجادلة: ). ويقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ... } (المائدة: من الآية51). والمودة والموالاة في "حوار التقريب" هو الشعار البارز الذي يردد في اللقاءات والبيانات المشتركة. ولعلي أكتفي بالنقل عن أفضل المشاركين في هذه الحوارات والمنظرين لها وهو الشيخ يوسف القرضاوي حيث يقول في بيان أهداف الحوار: "تنقية العلاقات من رواسب الروح العدائية التي خلفتها الصليبية قديماً، والاستعمارية حديثاً، وإشاعة معاني الإخاء والإنسانية والرحمة، وفتح صفحة جديدة لعلاقات أنقى وأصفى" [9].(1/471)
الوجه الثاني: أنه مخالفة لمنهج النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حوار الأديان، واتباع لغير سبيل المؤمنين، ومخالف لإجماع المسلمين. قال - تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115). ولا شك في أن "حوار التقريب" مناقض لهدي الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه وعلماء الإسلام فأصحاب التقارب يتركون نقاط الاختلاف، ولاسيما مسائل العقائد وهذه مناقضة لمنهج الدعوة النبوية، فإن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - دعا أهل الكتاب وغيرهم من أهل الأديان إلى تحقيق التوحيد ونبذ الشرك وجادلهم على ذلك، ولم يرد تركه لمخاطبتهم في العقائد والإعراض عن ذلك إلى قضايا مشتركة أخرى. فدعوة التقارب فيها تنكّب لطريق الأنبياء ومعاكسة له، وهذا من دلائل بطلانه.
الوجه الثالث: أنه إعراض وترك لبعض الأحكام الشرعية. يقول - تعالى -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك... } (المائدة: 49). وهذه الآية صريحة في ثلاثة أمور أثناء الحوار مع أهل الكتاب وهي:
1- دعوتهم والحكم بينهم بحكم الله، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب بالبعد عن نقاط الاختلاف وتنزيل الدين الحق منزلة الدين المحرف بحجة اعتبار الآخر واحترامه".
2- البعد عن مجاملتهم والتنزل معهم واتباع أهوائهم، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب في مشاركتهم لهم في أعيادهم وإثبات إيمانهم وتزكيتهم.
3- الحذر من فتنتهم عن بعض ما أنزل الله - تعالى -، وهذا أعرض عنه دعاة التقريب فانزلقوا في مخالفة بعض ما أنزل الله بحجة التقارب والحوار، ومن أمثلة ذلك:(1/472)
- الإعراض عن الولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله تحت مسمَّى "المحبة والاحترام المتبادل" و "الأخوة الإنسانية" و "نبذ التعصب".
- إلغاء أحكام أهل الذمة تحت مسمى "العدالة الاجتماعية" و "حقوق الإنسان".
- إبطال حد الردة، تمكين الكفار من الدعوة إلى دينهم وبناء معابدهم، ونشر كتبهم تحت مسمى "حرية التدين" و "التعددية الدينية" و "التعرف على الآخر".
- إلغاء الجهاد في سبيل الله وما يتبعه من أحكام مثل استرقاق الأسرى والغنائم تحت مسمَّى "السلم العالمي"، وفكرة الجهاد من أصلها لا تناسب الحوار بين الأديان بمعنى التقريب المزعوم. وغير ما تقدم من الأحكام الشرعية أعرضوا عنها بسبب الحوار والتقريب [1].
الوجه الرابع: أنه يتضمن المساواة بين الكافرين والمسلمين، يقول - تعالى -: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35). ويقول - تعالى -: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (صّ: 28). ودعوة التقريب في أساسها تقرر مبدأ المساواة الدينيّة، وهذا رفع لما وضعه الله، وتنزيل لما رفعه الله - تعالى -. فالتقارب يفترض المساواة بين الأديان وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة لأي منها، وهذا شك في الإيمان والإسلام وتوسط بين الأديان وهذا يقتضي ترك الجزم بصحة الحقائق المطلقة في الإسلام ونظرته إلى أهل الأديان الأخرى.
ثالثاً: حوار وحدة الأديان وحكمه:
تعريفه:(1/473)
وحدة الأديان هو "الاعتقاد بصحة جميع المعتقدات الدينيّة، وصواب جميع العبادات، وأنها طرق إلى غاية واحدة" [11]. ومن أبرز المنظرين لها في الوقت الحاضر "روجيه جارودي" تحت غطاء "الإبراهيميَّة" [12]، ومفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو [13]. وهما يتفقان في الدعوة إلى وحدة الأديان مع اختلافهما في منطلق ذلك، فالأول يدعو للوحدة من منطلق إنساني فهو يسعى لوحدة أديان الإنسانية ولكنه يرى أن المرحلة الأولى تبدأ بوحدة أديان الملل السماوية الثلاث، تحت مسمَّى (الإبراهيمية)، والثاني من منطلق صوفي وعلى فكرة صوفية وهي الوحدة والاتحاد، وهم الذين يرون العالم كله هو الإله وأن أفراده مثل موج البحر متعدد ولكنه من البحر نفسه، وبناءً على ذلك فكل الأديان صحيحة لأنها صادرة عن الإله - تعالى -الله عما يقولون علواً كبيراً. والأثر البالغ والكبير لهما هو من جهة مكانتهما وشهرتهما العالمية، فجارودي كان الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي الفرنسي بعد الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) وأحمد كفتارو هو المفتي العام لدولة سوريا وله علاقات غامضة بكثير من المؤسسات المشبوهة وقد نشطا بشكل كبير في بناء المؤسسات القائمة على هذه الأفكار الوحدويّة.
خصائصه:
وأبرز الخصائص الفكرية لهذا النوع من الحوار ما يلي:
1- ما سبق ذكره من خصائص لحوار التقارب.
2- اعتقاد صحة عقائد الأديان الأخرى وعباداتها، وأنها طرق موصلة إلى الله.
3- اعتبار الخصائص المميزة بين الأديان ظواهر وتقاليد تاريخيّة لشعب معين أو حقبة زمنية معينة أو اعتبارها أنواعاً مختلفة توصل إلى حقيقة واحدة.
4- العمل على المساواة بين كتاب المسلمين وعباداتهم ومساجدهم مع ما يقابلها عند أصحاب الأديان الأخرى. ومن ذلك [14].
- الدعوة إلى طباعة المصحف الشريف والتوراة والإنجيل في كتاب واحد بين دفتين.
- بناء مجمع لأماكن العبادة يضم مسجداً وكنيسة وكنيساً.(1/474)
- تبادل الزيارات بين عمار المساجد ومرتادي المعابد مما يزيل الجفوة ويولد المودة.
- إقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان سواء بابتداع صلاة يشترك فيها الجميع أو بأن يصلي كل واحد صلاة الآخر وغيرها من الشعائر التعبديّة.
حكمه:
ومن خلال الخصائص السابقة لهذا النوع من الحوار يتبين أنه كفر خالص وردة عن الدين لأمور كثيرة منها:
أولاً: أنه تكذيب للقرآن والسنة في إكفار اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان، وحصر الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام) فقط. يقول - تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85). ويقول - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19). ومن أصول العقائد الإيمانيّة الضرورية في دين الإسلام:
" اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام [15]، من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً وأنه عدو لنا، وأنه من أهل النار"[16]، قال - تعالى -: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة: 1). وقال - تعالى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} (المائدة: 73). ومن نواقض الإيمان القطعية تكفير من لم يكفر الكافر الأصلي كاليهود والنصارى وأهل الأديان؛ لأن عدم تكفيرهم تكذيب لخبر الله وخبر رسوله في كفرهم، ومعاندة لحكمه فيهم. ولا مجال للحديث التفصيلي عن أوجه كفر أهل الكتا وغيرهم.
ثانياً: أنه طعن في نبوة محمد - - صلى الله عليه وسلم - - من حيث شمولها وكفايتها وختمها لسائر النبوات [17].(1/475)
ثالثاً: أنه طعن في أصول الإسلام وجذوره الأساسية مثل شهادة ألا إله إلا الله التي تقتضي الكفر بالطاغوت الذي هو من أبرز شروطها كما قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله - عز وجل -). وهذا الحديث يدل على أن قول لا إله إلا الله وحده غير عاصم للدم والمال الذي هو علامة على ثبوت الإسلام ولا معرفة معناها مع لفظها ولا الإقرار بذلك بل لابد من الكفر بما يعبد من دون الله وهو الطاغوت، وكذلك طعن في شهادة أن محمداً رسول الله وقد تقدم.
وتأسيساً على ما سبق: "فإن الدعوة إلى (وحدة الأديان) إنْ صدرت من مسلمٍ فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله - عز وجل -، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناءً على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام، من قرآن وسنة وإجماع " [18].
رابعاً: حوار توحيد الأديان وحكمه:
تعريفه:
توحيد الأديان يقصد به "دمج جملة من الأديان والملل في دين واحد مستمد منها جميعاً، بحيث ينخلع أتباع تلك الأديان منها وينخرطون في الدين الملفق الجديد" [19]. والفرق بين هذا النوع والنوع السابق (وحدة الأديان) هو أن:
النوع الأول: فهو عبارة عن دين جديد مخلوط من عناصر الأديان مع الترك والخروج من الدين القديم والدخول في هذا الخليط الجديد.
أما النوع السابق: فلا زال كل واحد على دينه القديم لكن كل دين فهو صواب يوصل إلى المقصود مع إبداع إطار عام يبرر توجهات الأديان جميعاً. وأن الخلاف بينهما مثل الاختلاف بين الآراء الاجتهادية الصحيحة في الدين الواحد.
خصائصه:
ويميز علماء الأديان بين نوعين من أنواع الاندماج والتوحّد وهما:(1/476)
(1) الالتقاطية: وهي عملية دمج عناصر من الأديان دون إيجاد نسق منهجي بينها، ويُمثل لهذا النوع بالديانة "المونية" التي اخترعها المتبني الكوري الشمالي (صن مون) [2].
(2) التلفيقيّة: وهي عملية دمج بين عناصر من الأديان مع محاولة إيجاد نسق منهجي يربط بينها، ويمكن التمثيل بمحاولة الأب الأسباني (إيميليو غاليندور آغيلار) ومجموعته المسماة "كريسلام" [21].
حكمه:
والحكم على هذا النوع من الحوار واضح فهو دين آخر غير دين الإسلام، وهو كفر أكيد وهو ردة لمن فعله من المسلمين. وحيثيات ذلك واضحة، حيث أنه مناقض لأصل الدين وأساسه والإقرار لله - تعالى -بالتوحيد ولرسوله - - صلى الله عليه وسلم - - بالنبوة ولدين الإسلام بالانقياد والخضوع.
وكل ما سبق في الكلام على (وحدة الأديان) يمكن ذكره هنا مع وضوح الكفر في هذا النوع أكثر من النوع السابق.
وأخيرا: ماذا استفدتم من البابا يا دعاة الحوار؟!
فقد أعربت قيادات إسلامية بارزة!! على رأسها شيخ الجامع الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي والشيخ يوسف القرضاوي عن تقديرها لبابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني لما له من مواقف لا تنسى ضد الحرب على العراق، والجدار الفاصل بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفضه لوصف الإسلام بالإرهاب، إضافة لانفتاحه على أتباع الديانات السماوية الأخرى.
واعتبر شيخ الجامع الأزهر في تصريحات صحفية عقب الإعلان عن وفاة بابا الفاتيكان أن الراحل كان شريكا في نشر مبدأ الحوار بين أتباع مختلف الأديان، وقال: "لقد أيدنا البابا في الكثير من مواقفه لأنها كانت سديدة، خاصة موقفه تجاه الحرب الأمريكية البريطانية على العراق في مارس 23؛ حيث أعلن رفضه لهذه الحرب، ولذلك سنظل نشكره على مواقفه الحكيمة، ونأمل أن يسير من سيخلفه على نهجه العادل والسليم".(1/477)
وأضاف طنطاوي: "لقد رفض البابا الراحل بكل قوة وصف البعض للإسلام بالإرهاب، كما قام بزيارة الأزهر، واتفق معنا على أن الأديان السماوية كلها تدعو إلى نشر الأمان والرخاء بين الناس، وإلى التراحم ونصرة المظلوم، ولا علاقة لأي دين سماوي بأي صورة من صور العنف التي قد تصدر من البعض".
من جانبه وصف الشيخ يوسف القرضاوي -رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- البابا الراحل بأنه خصم للحرب.
وجاء في برقية عزاء بعث بها القرضاوي لوزير خارجية الفاتيكان أن البابا "كان من دعاة السلام وخصوم الحرب، وله مواقف لا تنسى ضد الحرب على العراق، وضد إقامة الجدار العازل في أرض الفلسطينيين، وغيرها من المواقف التي سجلها له التاريخ".
وقال محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري: "يتعين على خليفة البابا أن يواصل ما بدأه هذا البابا؛ لأن هذا سيسهم في السلام".
وهذا التفاعل الكبير الذي أبدته هذه القيادات الإسلامية تجعل القاري غير المتابع يظن أن الأمة فقدت بموت البابا كنزا ثريا وخيرا عظيما للأمة الإسلامية.
والكلام السابق يأتي في سياق الهزيمة النفسية التي يعيشها بعض المسلمين اليوم، والذي جعلهم يستجدون أعداءهم وخصومهم بعض التصريحات التخديرية التي ليس لها أي رصيد عملي مفيد في أرض الواقع.
علما أن التصريحات التي فرحت بها هذه القيادات!! تقابلها تصريحات وأعمال تحطم هذا البناء الهش على جرف هار.
فالبابا يوحنا بولس الثاني من أكثر بابوات روما تثور حوله الشبهات والشكوك، ولاسيما أنه من أصل يهودي، وبولندي الجنسية والمولد مما يشير إلى الدور اليهودي الذي شارك في دعمه وتنصيبه. ومن خلال تتبع الأعمال التي قام بها البابا في خدمة اليهود والصهيونية يدرك المتابع لضعف التفكير عند من أشاد به من المسلمين ودعاة حوار الأديان تلك اللعبة الكاثوليكية التي أراد بها هذا البابا اختراق حصون المسلمين وتخديرهم.
فمن أعماله:(1/478)
1- أحدث القول بتبرئة اليهود من دم المسيح في سنة 1965 بل وحرف نصا في الانجيل وطمسه لهذا الغرض.
2- الاعتراف بدولة اسرائيل في عام 1982 وأن لها حقا دينيا في احتلال فلسطين باعتبارها أرض الميعاد.
3- حث جميع الكاثوليك في العالم على نزع رواسب العداء القديم لليهود واعتباره عداء للسامية، خاصة وأن المسيح عبراني يشترك مع اليهود في النسب واللغة، وهي ما عرفت بوثيقة " العلاقات الكاثوليكية اليهودية ".
4- زيارته لكنيس يهودي في عام 1986 وتقديمه اعتذارا خطيا للتقصير المسيحي في مناصرة اليهود عند إبادة النازيين لهم في الهولوكست وهذا الاعتذار الخطي كان في عام 1998.
5- صمته المريب عن الاعتداءات الاسرائلية على كنيسة المهد في فلسطين ابان الانتفاضة.
6- الدعوة للحوار بين الأديان، والزيارات الكثيرة للبلاد الإسلامية مثل مصر والأردن وسوريا والسودان وغيرها تقليدا للمسيح حسب زعمه في الدعوة للنصرانية والتبشير بها.
7- إعادة العلاقات بين الفاتيكان والولايات المتحدة في عام 1984 وقد كانت العلاقات مقطوعة قبل ذلك وكان هذا الوقت إبان رئاسة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان وهذا يكذب دعوى الفاتيكان المتكررة من الوقوف ضد الليبرالية الجديدة لأنها ضد مصالح الفقراء والمحتاجين ففترة ريغان من أشد فترات النيوليبرالية حتى عرفت باسمه " الريجانية " تمييزا لها عن بقية الفترات للجمهوريين الذين هم بطبيعة الحال ملتزمون بالليبرالية الكلاسيكية وإن كانوا يسمون " محافظين " وهو خطأ تارخي ليس المجال هنا لبيان أسبابه.
هذه وغيرها كثير تدل على أن المكاسب المزعومة للإسلام من خلال فكرة " الحوار بين الأديان " هي مكاسب وهمية ليس لها رصيد واقعي.(1/479)
وهذا التخبط الذي يقع فيه دعاة الحوار بين الأديان سببه الأساسي البعد عن المنهج النبوي في الحوار مع أصحاب هذه العقائد المحرفة وذلك بدعوتهم إلى الحق ومجادلتهم بالتي هي أحسن ببيان الأدلة العظيمة على نبوة محمد - - صلى الله عليه وسلم - - وصحة الدين الذي جاء به وبيان موافقته للدين الأصلي الذي جاء به عيسى - عليه السلام - وكشف تحريفاتهم للتوراة والأنجيل إلى غير ذلك. ولكن لما ترك هؤلاء هذه المنهجية النبوية في الحوار مع أتباع الأديان المحرفة وقعوا في التخبط والسعي وراء السراب الذي لم ولن يحصلوا من وراءه بشي. ومن كذب على الله - تعالى -وأنبياءه وحرف كتبه فكذبه على غيره أولى وأحرى، وقد وصفهم الله - تعالى -بأنهم يشترون به ثمنا قليلا. يقول - تعالى -: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ".
فكيف يتصورون فيهم الصدق وقد كذبوا على الله؟!
وقد وصفهم الله - تعالى - بأنهم {يشترون الضلالة ويقولون هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} فلو خيروا بين دين الوثنية والإسلام لاختاروا الوثنية - وقد فعلوا ذلك - إمعانا في الغي وحسدا من عند أنفسهم.
ولو كان في الحوار مع هؤلاء فائدة بالطريقة التي ابتدعها بعض المنتسبين للعلم والدعوة لكان الأجدر بها الرسل الكرام وأتباعهم، وهذا ما نجزم بعدم سلوكهم لها مما يدل على عقمها وعدم تحقيقها للمصلحة المرجوة وعدم تحقيقها لرضا الرب - سبحانه وتعالى - وهذا ما يشهد به الواقع وتدل عليه الحقائق الثابتة التي نطق بها بعض المشاركين في هذه الحوارات كما فعل الدكتور محمد عمارة وغيره.
بل إن الدكتور يوسف القرضاوي في إحدى الحوارت التي رفض فيها النصارى بالاعتراف بنبوة محمد - - صلى الله عليه وسلم - - كأي نبي آخر غضب وهدد بعدم المشاركة في هذه الحوارات.(1/480)
وأعتقد أن جهود مؤسسات الحوار لو صرفت إلى الدعوة والمجادلة والمناقشة بالتي هي أحسن لكان لها ثمرات كبيرة في العلم والدعوة، ولنتفع بها أهل الكتاب أنفسهم قبل غيرهم ولكشفت كثيرا من الزيف الذي يقوم به القساوسة والكرادلة ويخدعون به عامة النصارى.
هذا فضلا عن الدعاة إلى الإسلام الذين يجتمع لديهم مادة علمية وعملية في مجادلة أهل الكتاب مما ينفع الأمة في مستقبلها كما حصل من نفع للكتاب العظيم " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " الذي يعتبر من أغنى الكتب إفادة في محاورة أهل الكتاب.
-----------------
الهوامش:
[1] دعوة التقريب بين الأديان 1 / 348.
[2] دعوة التقريب بين الأديان 1 / 348.
[3] انظر في هذا النوع: التعايش السلمي - هيوكتسكل -، دراسات في التسامح - ناجي البكري وآخرون -، تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - عبد اللطيف الحسين -، مفهوم التعايش في الإسلام - عباس الجراري-، المسلمون والأوربيون (نحو أسلوب أفضل للتعايش) - الخزندار-.
[4] انظر: دعوة التقريب بين الأديان 1 / 335. والحوار الإسلامي المسيحي ص/13، 43-44.
[5] المصدر السابق 1 / 336.
[6] انظر لقاء الشيخ يوسف القرضاوي حول (الحوار بين الأديان) في: قناة الجزيرة - برنامج الشريعة والحياة - الثلاثاء 19 / 8 / 14هـ، الموافق 6 / 11 / 21م.
[7] انظر: خطاب الشيخ يوسف القرضاوي في ندوة الحوار بين الأديان - موقع إسلام أون لاين. نت - نافذة الإسلام وقضايا العصر. ومقابلة مجلة ليلة القدر مع رئيس لجنة الحوار بين الأديان الشيخ فوزي الزفزاف. www.Lailatalqadr.com زاوية حوارات.
[8] الحوار مع أهل الكتاب ص / 124.
[9] أولويات الحركة الإسلامية في الرحلة القادمة ص / 176.
[10] انظر: دعوة التقريب بين الأديان 4 / 1448.
[11] دعوة التقريب بين الأديان 1 / 339.
[12] انظر: التحليل المفصل لنظرية جارودي ونقدها في دعوة التقريب بين الأديان 2 / 839 - 937.(1/481)
[13] انظر دراسة كاملة عنه في المصدر السابق 3 / 136.
[14] انظر: نظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ص / - 24، 96 - 13، ودعوة التقريب بين الأديان4 / 1465 - 1492.
[15] أي الإسلام الذي جاء به محمد - - صلى الله عليه وسلم - - في العقائد والشرائع وهو عبادة الله وحده لا شريك له بشريعة محمد - - صلى الله عليه وسلم - -.
[16] الإبطال لنظرية الخلط ص/ 93، وفتوى اللجنة الدائمة في (وحدة الأديان) برقم (1942) وتاريخ 25 / 1 / 1418هـ.
[17] انظر تفصيل ذلك في دعوة التقريب بين الأديان 4 / 1436.
[18] فتوى اللجنة الدائمة في (وحدة الأديان) برقم (1942)، وتاريخ 25 / 1 / 1418هـ.
[19] دعوة التقريب بين الأديان 1 / 343.
[20] انظر الموسوعة الميسرة.
[21] انظر: تفصيلاً كاملاً لهذه المجموعة في دعوة التقريب بين الأديان 3 / 939.
15-9-2005
http://www.alqlm.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/482)
أسس إدارة الحوار
إدارة الحوار فن ومهارة، وهو يتطلب الإفادة من التجارب الشخصية، حب التفاعل مع الآخرين، تقبل العادات والتقاليد، الإصغاء واحترام الآراء. وإدارة الحوار فن لا يقوم على الموهبة وحدها، بل يتطلب عملاً متوصلاً على الذات وممارسة يومية مع الآخرين.
ولنجاح جلسات الحوار، لا بد من توضيح بعض المفاتيح التقنية الأساسية ومن أهمها:
التمهيد للانتقال بالمشارك من مرحلة لأخرى، من خلال توفير أجواء مريحة وودية، مع شيء من المرح.
تزويد المشاركين بالمعلومات وبعناوين النقاش والنقاط المتعلقة بهم.
التأكيد على وجوب احترام قيم الآخرين وآرائهم.
التحفظ تجنباً لجرح مشاعر الآخرين.
طرح الأفكار والمعلومات المتناسبة مع استعداد المشاركين لمناقشتها ضمن المجموعة.
احترام حرية عدم الإجابة من قبل المشاركين على أي سؤال.
التريث عند الاستماع إلى آراء بعض المشاركين المخالفة لآرائه.
إبداء المرونة واستبعاد ردات الفعل والأحكام النهائية مع إحاطة الآخرين بالاهتمام وتتبع ردات فعلهم أثناء النقاش.
الحضور القوي، وما يقصد به لا يعني اعتماد اللغة لدى الحوار فحسب، بل اللجوء أيضاً إلى لغة الجسد والحركات مثلاً:
النظر مباشرة في عيون المشاركين والتركيز عند الإصغاء إليهم.
مواجهة المشارك وجهاً لوجه، عند إدارة الحوار.
الاستعانة بالابتسامة بما يعزز انفتاح المشاركين وثقتهم.
http://www.sst5.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/483)
القوة قبل الحوار
د. محمد زارع
بدأت تتعالى صيحات تنادي بالحوار مع الغرب بدلا من المظاهرات الاحتجاجية التي عمت بلاد المسلمين عقب حملات الإساءة والتطاول على رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - التي بدأتها دولة الدانمرك وتبعتها باقي الدول الأوروبية.. وبدأ البعض يقلل من أهمية المقاطعة.. ويطالب بعدم الاستمرار فيها بحجة أنها أدت الدور المطلوب منها كتنبيه وإنذار ... وقد تبنى هذا الرأي وتحمس له الداعية المعروف الأستاذ / عمرو خالد مع مجموعة من العلماء.. وأعلنوا عزمهم على عقد سلسلة من المؤتمرات داخل البلاد الأوروبية تستهدف التعريف برسالة الإسلام والنبي الخاتم - عليه الصلاة والسلام - أملا في عدم تكرار هذه الإساءات بعد ذلك ... والواقع أن هؤلاء لا يجهلون.. لكنهم يتجاهلون.. ويجحدون الحق رغم علمهم به.. ويعرفون طريق الهدى.. لكنهم لا يهتدون (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم.. وعلى أبصارهم غشاوة.. ولهم عذاب عظيم) 6 7 من سورة البقرة (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس.. لهم قلوب لا يفقهون بها.. ولهم أعين لا يبصرون بها.. ولهم آذان لا يسمعون بها.. أولئك كالأنعام.. بل هم أضل.. أولئك هم الغافلون) 179 من سورة الأعراف (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى.. لن يضروا الله شيئا.. وسيحبط أعمالهم) 32 من سورة محمد .. وليس معنى ذلك أن نكف عن دعوتهم أو تبيان الحق لهم.. فنحن مكلفون بذلك بغض النظر عن النتائج أو الاستجابة (ليس عليك هداهم.. ولكن الله يهدي من يشاء) 272 من سورة البقرة (وما علينا إلا البلاغ المبين) 17 من سورة يس. .. كما أننا لا نضع هؤلاء المسيئين الذين يتعمدون إشعال الضغائن والأحقاد وينفخون في أتون الحرب دائما.. لا نضعهم مع عامة الناس سواء.. لأن كثيرا منهم لا يرتضي هذه الأفعال ولا يقرها.. بل إن(1/484)
عددا منهم لا بأس به يعتنق الإسلام حين تصفو نفسه وترقى فطرته.. ويستجيب لنور الله وهدايته (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم.. وبئس المصير * هم درجات عند الله.. والله بصير بما يعملون) 162 163 من سورة آل عمران .. ولكننا نعني الجاحدين المعاندين منهم.. إذ لا يجوز لنا أن نتعامل معهم بطراوة أو رخاوة أولين.. ولا يليق معهم سوى الغلظة في القول والعمل (وليجدوا فيكم غلظة) 123 من سورة التوبة (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين.. واغلظ عليهم) 73 من سورة التوبة، 9 من سورة التحريم .. كيف نتحاور مع قوم سفهاء يتخذون الفحش نهجا والبذاءة مسلكا.. يحتقرون غيرهم.. ويتنصلون من كل فضيلة.. ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة .. كيف نتحاور مع أناس يتخذون حكامنا مطايا كي يستعينوا بهم على التسلط والبغي والقمع والبطش والتعسف والطغيان حتى تظل شعوبنا في دائرة التخلف والقهر والتبعية .. وليس صحيحا أن الموعظة الحسنة هي الوسيلة الوحيدة للدعوة الإسلامية.. أو هي الرد المناسب على كل المواقف بما فيها السباب والتطاول .. ولنا في رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - القدوة والأسوة الحسنة.. فقد عاش حياته كلها ومعه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم- في جهاد مستمر.. لا يفرغون من غزوة إلا استعدوا لغزوة أخرى ليحرروا العالم كله من سطوة الرق والطغيان.. وقد دانت الدنيا لهم بكل القيم النبيلة والنماذج الراقية.. لأنهم واجهوا الطواغيت.. ولم يهادنوا الباطل ولم يداهنوه .. العالم الإسلامي اليوم يعاني من ضعف سياسي واقتصادي وإنتاجي بسبب حكامه العملاء.. وليس له إلا أن يترسم خطى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ويتبع منهجه (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) 31 من سورة آل عمران.. وقد أمرنا أن نكون أقوياء.. نأكل من عمل أيدينا.. ولا نظل عالة على غيرنا في المأكل أو المشرب أو الدواء أو السلاح.. عندئذ فقط نستطيع أن(1/485)
نتحاور من موقع القوة.. أما إذا لم نتخلص من هذا الضعف والوهن الذي أصابنا فلن يكون الحوار مجديا.. ولن يصغي إلينا أحد
..فلنأخذ بأسباب القوة..ولنحطم كل الأغلال التي تقيد حركتنا وتعرقل مسيرتنا.. حتى يصدق انتماؤنا لرسولنا الكريم - - صلى الله عليه وسلم - - ونستحق الانضواء تحت لوائه.
* drmohzaree2002@hotmail.com
http://al-shaab.org المصدر:
ـــــــــــــــ(1/486)
حوار .. على فعاليات الحوار
إيمان بنت عبد الله العقيل
توقفت طويلاً أمام هذه المقولة الجميلة للإمام الشافعي، ونحن نعيش في ظل أجواء حوارية، وحالة حراك فكري وثقافي واجتماعي تشمل جميع أطياف المجتمع، وحول كل قضاياه المصيرية، يقول الشافعي ''ما حاورني أحد فقبل الحق مني إلا عظم في عيني، وما رد الحق أحد إلا سقط من عيني''..
إننا أمام منعطف تاريخي صعب وظروف قد تكون أكبر من الإمكانات المتاحة، ولا يستطيع أن يتحمل تبعاتها جهة واحدة، ولكن مهما كبرت هذه التحديات وعظم شأنها، فإن إرادة الشعوب وقدرتها على التحدي ستكونان -بإذن الله - حتما فوق التحديات، وأكبر من الصعاب. ولذلك جاء الحوار ليشمل الجميع، ويضع أمامنا كل القضايا لنتجادل ونتناقش في أجواء مجتمعية صحية، قائمة على المودة والرحمة والالتزام بثوابت المجتمع ومعتقداته ومواريثه وركائزه الثابتة والتحلي بأدب الحوار من تجرد وإخلاص وإعلاء شأن الحجة وإحسان الظن والمقاربة لا المباعدة في أجواء أخوية ودية.. وتابعنا أربعة لقاءات وطنية للحوار الوطني، طرقت قضايا مهمة وحساسة وكان فيها الحوار على مستوى راق من الالتزام والموضوعية.
وها نحن على أبواب اللقاء الخامس للحوار الفكري الذي سيعقد في أبها تحت عنوان ''نحن والآخر رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية''.. فإذا كنا نحاول بلورة رؤية ''رؤية وطنية'' للحوار مع الآخر، فالأجدى أن نتفق على رؤية مشتركة للتحاور مع بعضنا البعض، ولا يحاول ''البعض'' سحب البساط من تحت أقدام الآخر، أو محاولة إلغاء تمثيله في الفعاليات الحوارية التي تنظم هنا أو هناك، أو اعتماد أسلوب ''المفاجأة'' أو ''المباغتة'' في الإعداد والتنظيم ودعوات المشاركة..(1/487)
ولعل ما حدث في ندوة ''المرأة والحوار الوطني''التي نظمتها مكتبة الملك عبد العزيز مثال على ذلك، فقد أراد البعض الاتجاه بالندوة مشاركة ومضمونا في اتجاه أحادي النظرة وتبني رؤية أحادية الجانب وتغليب طرف على حساب أطراف أخرى لها حضورها الفعال وثقلها المجتمعي بل هناك من حاول الخروج بتوصيات لرفعها للجهات المختصة على أنها تعبر عن رؤية المرأة السعودية للحوار مع الآخر على الرغم من عدم العدالة في التمثيل من جميع أطياف المرأة السعودية..
إن الشفافية أمر مطلوب الآن سواء في الحوارات أو الفعاليات و''الاعتراف بالآخر'' أمر لابد وأن يوطن في النفوس ويمارس عن قناعة ولا يجوز لأحد مهما كان أن يستأثر بهذه الفعاليات.
لقد انتهت عقلية الإقصاء والإبعاد والتعتيم على الآخرين بسبب قناعات فكرية أو رؤى مغايرة فنحن نعيش في مجتمع مفتوح يتحاور ويتناقش ويتجادل بالتي هي أحسن وهناك مساحات واسعة لهذا الحوار والخلاف، خلاف تنوع في الفروع والجزئيات لا خلاف تضاد في الأصول والكليات، وسفينة المجتمع يقودها الجميع ويشارك فيها الطيف السعودي كله ولا يقتصر على فئة أو مجموعة وأعتقد أننا جميعا مسلمون بهذا..
http://islameiat.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/488)
هل الحوار الإسلامي العلماني مستحيل؟
د. ليلى بيومي
17 ربيع الأول 1427هـ الموافق له 15 أبريل 2006م
- د. فؤاد زكريا: 3 شروط مبدئية للحوار مع الإسلاميين.
- د. رضا محرم: بل 13 شرطاً للدخول معهم في حوار.
- د. عمارة: على العلمانيين أن يعلنوا: هل يثقون بالقرآن أما لا؟
- د. محمد يحيى: العلمانيون أنفسهم يقولون بامتلاك الحقيقة المطلقة.
التيار الإسلامي هو التيار الشرعي والأصيل في حياتنا السياسية والاجتماعية، والثقافية والفكرية، ولكن لظروف الاستعمار والتحديث وغيرها نشأ التيار العلماني، وهو تيار لا يمكن تجاهله، فهو المتحكم في حياتنا الثقافية، والفكرية، والسياسية أيضاً.
ومجتمعاتنا قد انقسمت بالفعل إلى نصفين: نصف إسلامي، ونصف علماني، وأصبحت تفكر برأسين رأس إسلامي، ورأس علماني، وفي ذلك خطورة فائقة، واستنزاف شديد لقدراتنا وطاقاتنا، فهل يمكن لنا - كما نجري المفاوضات، ونبرم المعاهدات مع اليهود وغيرهم - أن نتحاور ونتفاوض مع أنفسنا؟ وهل هناك من إمكانية لحدوث حوار إسلامي علماني يتفق على ثوابت وطنية لا تتغير، ويضيق الخلاف بين الطرفين لمصلحة مجتمعاتنا وأمتنا؟ في هذه السطور نجري مواجهة بين الطرفين يمثل الطرف العلماني د. فؤاد زكريا، ود. محمد رضا محرم، ويمثل الطرف الإسلامي د. محمد عمارة، ود. محمد يحيي.
ثلاثة أمور تمنع الحوار مع الإسلاميين:
يقول المفكر العلماني المعروف د. فؤاد ذكريا: إنني من خلال دراستي ومعرفتي بالحركات السياسية الإسلامية منذ ظهورها أقطع بأن في تكوينها شيء ضد الحوار من حيث المبدأ لثلاثة أسباب رئيسية:(1/489)
السبب الأول: أن هذه الحركات تؤمن أنها تمتلك حقيقة مطلقة، ومن يؤمن بذلك لا يصلح للدخول في حوار، لأنه يتصور نفسه لديه كل الحقائق، وغيره لا يملكها، ومن هنا تأتي تسميات مثل: حزب الله والفرقة الناجية.. الخ، وهي تسميات تدل على أنهم الجماعة المختارة التي لها وضع خاص، والآخرون حثالة وكفرة، وهذا يقف حائلاً أساسياً ضد مبدأ الحوار.
والسبب الثاني: أن الحوار عملية عقلانية في الأساس، وقبل أن ندخل الحوار نتفق على أن نحكم العقل، أما الطرف الإسلامي فيلجأ إلى سلطة النص، ويحتكم إليها، ولا يحتكم إلى العقل والمنطق، والاحتكام إلى النص وسط جماعات تؤمن بقدسية النص معناه أننا لن نتحاور، لأن أحد الأطراف يحتمي بالنص، ويحرج الطرف الآخر ويوقعه في مأزق.
والسبب الثالث: هو اللجوء إلى العنف سواء العنف المعنوي متمثلاً في تصفية الخلافات بقوة السلاح، وهنا أذكركم بما حدث في الجزائر، حيث قتل مئات الضحايا من الصحفيين والمفكرين والفنانين لأنهم كانوا ذوي فكر مختلف عن الجماعات الإسلامية هناك، أو كان العنف معنوياً عبر تكفير الناس وخاصة المبدعين والمفكرين، وإثارة المجتمع عليهم.
وهكذا فإن على تيار الإسلام السياسي أن يستأصل من داخله عناصر أساسية فيه لكي يصبح الحوار معه ممكناً، لقد قتلوا فرج فودة الذي دخل حواراً مع رموزهم وهزمهم، وطلقوا امرأة نصر أبو زيد منه لأنه كتب كتاباً لا يعجبهم، رغم أن تأثير الكتاب محدود؛ فلن يقرأه أكثر من مائتي قارئ، لقد جعلوه يهرب، وتحتضنه أوروبا وتليفزيونات العالم كل يوم تستضيفه قناة عالمية تكره الإسلام.
بل 13 شرطاً للدخول في حوار مع الإسلاميين:(1/490)
ويقول د. محمد رضا محرم الكاتب العلماني، والأستاذ بكلية الهندسة جامعة الأزهر: إن هناك أموراً مبدئية يجب تقريرها في البداية، وهي أننا نبحث في التلاقي على أرضية السياسة، وليس على أرضية الدين، فالدين إذا كان مصدراً لأيديولوجية وتوجه فهو يخص مجموعة فقط، وعليه فإن المجموعات التي تستقي من بعض الصبغات لتوجهاتها السياسية فعليها أن تسلم بعلاقة بين ثلاثة أبعاد هي: الثقافة والأيديولوجية ثم الدين والفكر الديني.
والثقافة أوسع من الدين والفكر الديني، وما الدين والفكر الديني إلا مكون من مكونات الثقافة، وهو ملزم لمن ينتسبون إليه وغير ملزم للآخرين، كما أن الدين يختلف عن الفكر الديني، فالدين هو المقدس الذي جاء من عند الله، وهو إذا كان من المتشابه واختلفت فيه الأفهام سقطت عنه قداسته، وبناء عليه يجب أن نقبل فكر الآخرين، ومن أجل الحوار مع الحركات الإسلامية فإنه للبدء معها فيه فإنه مطلوب منها أمرين:
الأول: هدم، والثاني: بناء.
وبالنسبة للهدم فيجب على هذه الحركات أن تسقط ثنائية الإيمان والكفر، وحزب الله وحزب الشيطان، ويجب عليها أيضاً أن تتخلى عن فكرة الدين الغالب في مقابلة أديان مقهورة، فدول أوروبا وأمريكا العلمانية تعتز بدينها، ومستعدة أن تقاتل دفاعاً عنه، ولو لم تكن ملتزمة به، كما يجب التخلي عن فكرة الفرقة الناجية داخل الدين الواحد، وأيضاً فإن فكرة المرجعية الواحدة تصادر الحرية والديمقراطية، وهي فكرة صدرها الاتجاه الماركسي التائب إلى الحركات الإسلامية، ويجب عليهم أيضاً التخلي عن قضية المخادعة بالديمقراطية، وهنا نشير إلى أن المتحدث الرسمي لجبهة الإنقاذ في الجزائر قال يوم الانتخابات: 'فليهنأ الديمقراطيون بديمقراطيتهم فتلك كانت آخر الديمقراطيات'، وعليهم أيضاً التخلي عن الغرق في الجزئيات، وترك المشترك العام الذي هو سياسي وليس دينياً.(1/491)
أما بالنسبة لعملية البناء التي يجب على الحركات الإسلامية القيام بها قبل الدخول معها في حوار فإن عليهم أن يقبلوا بالآخر بمعايير الديمقراطية المعاصرة، وحقوق الإنسان، والتسليم بالتعددية، والإقلاع عن مقولة المرجعية الواحدة، والإيمان بتعدد المرجعيات، كما أن عليهم أن يؤمنوا بتداول السلطة، وأن تداولها أقدس من الوصول إليها.
كما يجب عليهم أن يؤمنوا بالاحتكام إلى السياسة وليس إلى المقدس، والاحتكام إلى الدستور وليس إلى الكتاب المقدس، والاحتكام إلى القانون لا إلى الفقه، وهذه مأساة لأن د. نصر أبو زيد حوسب بالفقه ولم يحاسب بالقانون، وحاكمه فقيه ولم يحاكمه قاض.
ثم على الحركات الإسلامية التخلي عن فكرة [الذين يلونكم] أي قتال البلاد المجاورة حتى تتم السيطرة على العالم كله، فهذا كلام يخص طرف معين، أما أن نطلقها لتكون حرباً دائمة على جميع الناس داخل المجتمع وخارجه فهذه كارثة، لأن سلامنا من سلام العالم، ثم عليهم الإيمان بمبدأ 'السيف في الغمد' وليس لجارنا المواطن أو للدول الأخرى، فالعنف لا محل له، والإرهاب مدان، والدعوة سياسة بالحكمة، ثم أخيراً يكون بيننا البرنامج وليس المعتقد أو الأيديولوجية.
على العلمانيين أن يكونوا أكثر وضوحاً:
كان ما سبق هو رأى رموز العلمانية في الحوار مع الإسلاميين، فوضعوا له الشروط الصعبة القاسية، والآن يأتي الدور على الرموز الإسلامية لتقول كلمتها:
يقول د. محمد عمارة: إننا نرحب بالحوار مع العلمانيين فوراً وبلا وضع شروط مثل التي يضعونها.
لكن علينا أولاً أن نفند كلامهم، فبالنسبة لامتلاك الحقيقة المطلقة التي يتهمون بها الإسلاميين فإن هناك فارقاً بين أن أؤمن بأن ما لدي من الدين هو الحقيقة المطلقة، وبين أن أؤمن بأن ما أدرك وأعقل من هذه الحقيقة الدينية المطلقة هو أمر نسبي، إن الدين في حد ذاته مطلق، ومن لا يؤمن بذلك فهو جاهل لا يعرف معنى كلمة دين.(1/492)
لكن العقل البشري كملكة إنسانية نسبي الإدراك، ولذلك فما يقوله المسلم سواء في الفكر الديني أو السياسي إنما هو اجتهادات بشرية غير ملزمة للآخر، وإذا كان العلمانيون يتهمون الإسلاميين بذلك فإنهم يتهمون أنفسهم أيضاً لأنهم مقتنعون تماماً بما في رؤوسهم من أفكار ترفض الدين، ويعتقدون أنها هي الحقيقة المطلقة.
أما بخصوص قضية الاحتكام إلى النص فإن كل تيارات الفكر دينية كانت أو لا دينية تحتكم إلى نصوص، والمعيار في التمييز بينها هو مدى الجمود، والتقليد أو الاجتهاد، والتجديد إزاء النصوص، فهناك إسلاميون من أهل الجمود، وهناك يساريون من أهل الجمود، وهناك مجتهدون ومتطرفون من كل التيارات.
إن النص عندنا يعني القرآن، وتصديقه إيمان، وإنكاره كفر، قد نتفق مع العلمانيين لو كانت المسألة تتعلق بترجيح تفسير على آخر، والاجتهاد في إطار النصوص المعتمدة، فهنا تأخذ القضية بعداً مقبولاً، أما إذا كان المقصود تنحية القرآن تماماً فهذا كفر صريح، بل أقبح درجات الكفر على الإطلاق، إن الإسلام له حدود لابد أن يلتزم بها الإنسان ليكون مسلماً وإلا خرج من دائرة الإسلام، فالخمر حرام، ومن قال بعكس ذلك فليس بمسلم، وأداء الصلاة فرض ومن قال بغير ذلك ليس بمسلم...الخ.
وكل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر، ولابد أن يكون هناك كفر وإيمان بل ونفاق أيضاً، إن العلمانيين يريدون منا إسقاط ثنائية الإيمان والكفر، وحزب الله وحزب الشيطان؛ لكي يكون الدين شيئاً هلامياً لا معنى له، فليفعلوا هم ما يريدون لكننا نؤمن بثوابت ديننا، ونحكم على المؤمن بالإيمان، وعلى الكافر بكفره الظاهر سواء أسعد ذلك العلمانيين أو أغضبهم.(1/493)
إن مشكلة هؤلاء العلمانيين أنهم يعتقدون أن النص ضد العقل، وهذه مشكلتهم وليست مشكلتنا نحن، فمن عظمة الإسلام أن صريح المعقول فيه يوافق صحيح المنقول من أدلة الشرع، إن أتباع أي دين يؤمنون بصحة معتقداتهم، والذي يعتنق فكرة أو مذهب أو دين ولا يؤمن بصحته فهو منافق، وإذا سألنا أتباع أية ديانة أخرى فسوف نجد أنهم يؤمنون بصحة ما يعتقدون، ويبطلون ما يعتقد الآخرون، ولكن الإسلام يختلف عن الآخرين، فالعقائد الأساسية في الإسلام بسيطة، وتلتقي فيها أدلة العقل مع النصوص وهي ثلاثة: عبادة الإله الواحد، ثم الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، ثم الإيمان بالجزاء والدار الآخرة، ونحن في هذه الأمور نمتلك الحقيقة المطلقة، ومن يشك في واحدة من هذه الأمور فهو كافر.
أما فيما يتعلق بالأحكام الفرعية التي ليست قطعية الثبوت ولا قطعية الدلالة وهي موضوع اجتهاد المجتهدين؛ فالمسلمون لا يدعون فيها امتلاك الحقيقة المطلقة، وفيما عدا الأصول والمبادئ الكلية للشريعة فالأمور اجتهادية وقابلة للاختلاف.
أما بخصوص سلطة الاحتكام إلى النص فنحن مأمورون شرعاً بذلك قال - تعالى-: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)).
وعلى العلمانيين أن يكونوا أكثر وضوحاً، وأكثر شجاعة وجرأة، ويقولوا لنا: هل هم مسلمون فعلاً، ويؤمنون بالقرآن، وبهذه النصوص التي لا تعجبهم أم لا؟.
هنا سوف يأخذ الكلام معهم وضعاً آخر، إن النص نفسه يأمرنا بتحكيم العقل، واستشارته في غير الأصول والمبادئ الكلية القطعية، والمذاهب الإسلامية تعتمد على النظر العقلي إلى جانب الدليل الشرعي.
العلمانيون أنفسهم يؤمنون بامتلاك الحقيقة المطلقة:(1/494)
أما المفكر الإسلامي د. محمد يحيى فيقول: إن العلمانيين أنفسهم يقولون بامتلاك الحقيقة المطلقة، فأي علماني سواء كان ماركسياً أو ليبرالياً أو قومياً سوف نجده يقول مذهبي هو الحق المطلق، وما عداه باطل ورجعي، ومخالف لحقوق الإنسان، والدليل على ذلك أن هذه المذاهب حينما حكمت في بلاد عربية وغير عربية تصرفت وكأنها تحتكر الحقيقة المطلقة، ومن يقول بغير ما تقول تنهيه من الوجود، وقد رأينا هذا في الاتحاد السوفيتي السابق، وفي البلاد التي عانت من الشيوعية، كذلك رأينا هذا الأمر تمارسه الأحزاب العربية القومية التي وصلت إلى الحكم حيث اضطهدت الآخر الفكري وقهرته، وما ذلك إلا أنها تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فلابد أن يؤمن بها كل الناس وإلا واجهوا مصيرهم المحتوم.
إننا إذا كنا نتحدث عن القيم العليا الحاكمة للوجود فإن هذه الأمور بطبيعتها لا تحتمل إلا الحقيقة المطلقة، والجميع يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، فلماذا اتهام الإسلاميين دون غيرهم بذلك؟.
أما إذا كنا نتحدث عن أمور الحياة المختلفة، وتدبير المعايش، وتنظيم قوانين تحكم حياة الناس مثل: قانون المرور، والمباني...الخ، فالإسلاميون لم يقولوا بامتلاك الحقيقة المطلقة في ذلك.
إن اليهود والنصارى يقولون بامتلاك الحقيقة المطلقة في شأن قيم الوجود العليا، وكذلك الشيوعيون، فلماذا اتهام الإسلاميين فقط بذلك؟.
وعن إسقاط المرجعية الواحدة، والإيمان بتعدد المرجعيات يقول د. محمد يحيى: إن المرجعية معناها مجموعة من المبادئ المتسقة فيما بينها يمكن العودة إليها، واستمداد المبادئ والقيم منها.(1/495)
والعلمانيون يطالبوننا بتعدد المرجعيات في الوقت الذي لا يوجد عندهم تعدد مرجعيات، فالعلماني الليبرالي لديه مرجعية واحدة هي الإيمان بالحياة النيابية التي ينتج عنها سلطة تشريع وحكم، ثم مراعاة مجموعة من حقوق الإنسان، ولو كانوا صادقين في تعدد المرجعيات لآمنوا بمرجعيتنا الإسلامية كإحدى هذه المرجعيات، وهي تفرض عليهم بدورها أموراً معينة، لكنهم يأتون إلى المرجعية الإسلامية ويرفضونها، كذلك فإن الماركسي مرجعيته الأساسية هي الفكر المادي، وعدم وجود إله، وهدم الإيمان بالغيبيات، وإنما الإيمان بالقيم المادية التي تحكم الكون، ودعاة القومية العربية مرجعيتهم الأساسية تحقيق مصالح الشعب العربي أياً كانت وهي عادة مصالح مادية، وهكذا فإن العلمانية على تعدد فصائلها لا تؤمن بتعدد المرجعيات.
وعن مطلب العلمانيين بتخلي الإسلاميين عن مقولة الدين الغالب، والفرقة الناجية يقول د. محمد يحيى: إنه إذا كان المقصود أن هذا الدين الغالب يتم التبشير به من خلال الدعوة إليه فهذا شيء لا ننكره، بل هو من صلب الإسلام الذي هو رسالة عالمية، كما أن الأديان والمذاهب العالمية تقوم بالتبشير والدعوة لمبادئها، أما إذا كان المقصود بالدين الغالب أنه الدين الذي يقمع الآخرين، ويتخذهم عبيداً، فالإسلام آخر دين يمكن اتهامه بذلك لأنه أعظم من حمى حقوق الآخرين وحافظ عليها، والأقليات الدينية في البلاد الإسلامية أحسن الأقليات حظاً في العالم.(1/496)
أما مفهوم الفرقة الناجية فهو مفهوم عام يقصد الالتزام بقواعد الدين وكلياته، والبعد عن الابتداع والتحريف، وليست هناك جماعة إسلامية تقول إنها الفرقة الناجية بصرف النظر عن الغلاة المرفوضين من داخل الصف الإسلامي نفسه، ومقولة الفرقة الناجية موجودة في كل الأديان، ففي المسيحية كانت هناك ثلاث فرق، بل يمكن القول أنها ليست فرقاً بل أديان مختلفة تماماً، وكذلك في اليهودية هناك دينان رئيسيان، وما أكثر تعدد مذاهب الماركسية، أما الإسلام فإن الاختلاف في إطاره بقى محكوماً بمبادئ عامة وكليات لم يتجاوزها.
http://www.islammemo.cc:المصدر
ـــــــــــــــ(1/497)
تحقيق التعاون لنشر ثقافة الحوار
د. عثمان أبو زيد
مؤتمر مكة المكرمة:
تحقيق التعاون لنشر ثقافة الحوار
عقدت رابطة العالم الإسلامي مؤتمر مكة المكرمة الخامس برعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز آل سعود أمير منطقة مكة المكرمة بعنوان: (الحوار الحضاري والثقافي أهدافه ومجالاته)، وذلك في الفترة من الرابع إلى السادس من شهر ذي القعدة 1425هـ التي توافقها الفترة من الخامس عشر للسابع عشر من شهر يناير 2005م.
وكان معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي قد استهل أعمال الندوة بالتصريح لوسائل الإعلام، مبيناً أن الرابطة اختارت موضوع الحوار بين الحضارات والثقافات، إيماناً منها بأن الحوار حاجة إنسانية، ووسيلة مهمة للتفاهم والتعايش بين الأمم.
وقال معاليه: إن الحوار من أهم الوسائل لحل النزاعات وإحلال السلم، خاصة في ظل التوتر الذي يشهده العالم في الوقت الحاضر، وما يرافق ذلك من محاولات التشويه للحضارة والثقافة الإسلامية.
وأضاف: إن الأمة الإسلامية تدعو إلى الحوار انطلاقاً من أهمية موقعها في البناء الحضاري الإنساني، ورغبة منها في الإسهام بإيجاد عالم يسوده الأمن والسلام، ويحترم الخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم.
وحدد مؤتمر مكة المكرمة الخامس أهدافه في تحقيق الآتي:
> دعم التفاهم والسلام بين المسلمين وغيرهم من أبناء الحضارات الأخرى.
> توحيد الجهود الإنسانية في مواجهة التحديات التي تواجه البشرية، وخاصة النزاعات والحروب والتدهور الأخلاقي وتهديد السلم العالمي.
> حل الخلافات وتقريب وجهات النظر بين الحضارات والثقافات البشرية.
> التصدي للجوانب السلبية في العولمة.
> احترام التنوع الحضاري والثقافي الإنساني.
> إبراز قيم التسامح والتعايش في الحضارة الإسلامية.(1/498)
والواقع أن الحوار لا يستغنى عنه أحد، فعن طريقه يتوصل الناس إلى صياغة إجابات مناسبة للمشكلات التي تدور بينهم.
ويتم التفاهم بين طرفين مختلفين عن طريق المناقشة والتفاوض، على أساس من الاعتراف المتبادل والانفتاح على الآخر بسماحة وبإرادة مشتركة لتبادل الآراء والإذعان للحقيقة.
إن كثيراً من النزاعات ودورات العنف إنما تنشأ من عدم معرفة الناس بعضهم ببعض، وتبادلهم الحذر وسوء الفهم والمخاوف مع أنهم لو جلسوا إلى بعضهم وتحاوروا، لأبعدوا شبح العنف والتدمير، فالعنف يبدأ عندما يتعطل الحوار. الذين يضيقون بالحوار هم أصحاب التعصب المقيت وناقصو الفكر والأخلاق، عندما يعجزون عن مواصلة الحوار بالحجة والبرهان، يلجأون إلى ما لجأ إليه فرعون: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} سورة طه، آية60. وعندما أذعن سحرة فرعون وآمنوا برب هارون وموسى كان جواب فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} سورة طه، 71. إن لنا في قصص الأنبياء - عليهم السلام -، وفي سيرة المصطفى [، عبرة لأولي الأبصار.
النموذج الفرعوني قائم وماثل في هذا العالم دون شك، فهناك من يظن أنه فوق الناس جميعاً بما أوتي من قوة السلاح أو المال، فهو يستعين بالآخرين ويستخف بهم، ويرى أنهم أقل من أن يكونوا طرفاً في حوار.
هذا هو الكبر والخيلاء الذي إذا مس قلب امريء جعله غير قادر على أن يبصر أو يفهم أو يسمع. لنتذكر قول الله - تعالى -: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) الأعراف، 146.(1/499)
ولعل أكبر تشويه يتعرض له العالم الإسلامي اليوم هو تصويره على أنه محضن الإرهاب والعنف وأن القيم السائدة فيه مناقضة لقيم الحرية والمساواة، وأن أي اتجاه للعالم الإسلامي نحو الحوار والتفاهم إنما هو بسبب تعرضه للأفكار العصرية وقيم الغرب.
هذه دعاوى سياسية لا أساس لها من الحقيقة، يرددها الإعلام الدولي الذي يتخذه البعض مطية للمبارزة الكلامية والمراء وذريعة للعنف والتباغض.
المسلمون عندهم من أصول الحوار في كتاب الله الكريم وفي سيرة رسولهم ما يهديهم إلى سواء السبيل، فهم يقدمون للعالم نموذجاً راقياً في إصلاح الواقع والتعامل السليم مع مشكلات الحياة.
ذلك ما أراد مؤتمر مكة المكرمة أن يؤكده وهو يتخذ لنفسه مكاناً بين منابر الحوار الوطني والإسلامي والدولي.
http://www.themwl.org المصدر:
ـــــــــــــــ(1/500)
مستقبل الحوار بين الحضارات والثقافات
د. مصطفى تسيريتش
رئيس العلماء والمفتي العام في دولة البوسنة والهرسك
عجلة الحضارة الإسلامية:
من الممكن أن ننظر إلى الحضارة الإسلاميّة على أنها عجلة تدور حول محور الرسالة الإلهيّة المستمرّة، وذلك منذ عهد آدم أبي البشر إلى زمن خاتم الأنبياء محمد - - صلى الله عليه وسلم - -. إن هذا المحور الإلهيّ للحضارة الإسلاميّة مستمر دون أدنى تغيير، لأنّه يمتلك ذات المعنى للروح الحيّة، ولأنه يمثل نفس المنطق للحقيقة المطلقة. إن هذا المحور يتمتع بنظام يجعله قادرا على تحريك عجلة الحضارة الإسلاميّة في مختلف الاتّجاهات، مع بقائها غير بعيدة عنه.
وكما هو معلوم فإن سرعة دوران حافة العجلة تكون أكبر من سرعة دوران مركزها. ومحور الحضارة الإسلاميّة إن هو إلا هبة إلهيّة تكشف عن نفسها من خلال استمرارية الحياة والتّاريخ، وعجلة الحضارة الإسلاميّة أيضا هبةٌ إلهيّة، لكنّ حركتها تعتمد على اتّجاه البشر وسرعتهم في الحركة.
فالسّؤال إذن: إلى أين ستتجه عجلة الحضارة الإسلاميّة? وبأي سرعة سوف تسير?
حرّيّة الرّوح وقوّة العقل
قبل الإجابة عن هذين السّؤالين، اسمحوا لي أن أقول إن الحضارة شيء أوسع من حالة الرخاء المدنيّة. إنني أعتقد أن الحضارة مجهودٌ تقدمه الروح البشريّة لكي تحقق توازنا بين ذكريات الماضي وأشواق المستقبل، ولكي تعبر عن مفهوم الحياة، و تقدم طبيعة الرّوح البشريّة في آمالها ومخاوفها.
في الحقيقة، الحضارة هي حالة للعقل البشري يسميها ابن خلدون (العصبيّة)، أي الولع بحياة إنسانية رقيقة تتطور من مرحلة لأخرى بغرض تحقيق ذاتها عبر التّاريخ. ومن أكثر قوى الولع بالحياة البشرية أهمية، حرّيّة الرّوح البشريّة، وقوّة العقل البشريّ.
الاستمرارية والتّغيير في الحياة والتاريخ(2/1)
إن وصف الحضارة "بالإسلاميّة" ينبغي أن يقودنا إلى مفهوم التعايش بين الاستمرارية والتّغيير في كل من التّاريخ والحياة. وأنا أعتقد أن هذا التعايش يمثل النّقطة الحاسمة التي حددت مسار الحضارة الإسلاميّة في الماضي، أي قدرتها على فهم الاستمرارية الضرورية للتراث، مع إمكانية تغيير التاريخ. وهو على ما أرى - في هذا التّحدّي المستمر والمتمثل بتثمين استمرارية التراث وقبول التغييرات في التّاريخ - اختبار حقيقيّ لمستقبل الحضارة الإسلاميّة، سواء في ثباتها الرّوحيّ أو في إبداعها الفكريّ. وفي الحقيقة، فإن فكرة التعايش بين الاستمرارية والتّغيير هي الفكرة الرّئيسيّة التي مكنت الحضارة الإسلاميّة من تحقيق ذلك النجاح غير المسبوق في تاريخ العالم. وتكمن قوّة هذه الفكرة في مفهومَيّ إيجابية التّاريخ (التصديق)، ونشأة الإنسان الخالي من الذّنب (البراءة).
التّاريخ الإيجابي (تصديق لا تجديد)
إن التاريخ الإيجابي يمثل أكثر البراهين حجة على أن القرآن الكريم يمثل ذروة الرسالة الإلهية الشاملة، وأن محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - هو رسول الله للعالمين. وبعبارة أخرى، فإن القرآن لم يأت فجأة، ولم ينكر ما سبقه من أحكام تجلب الخير لبني البشر، ولم يبدأ رسالته من الصفر:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَامًا ورَحْمَةً وهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانَا عَرَبِيَّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وبُشْرَى للمُحْسِنيِن. (الأحقاف: 12 الَم. اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا َبيْنَ يَدَيْهِ وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ. آل عمران 1- 3.(2/2)
إذن، فالنبيّ محمد - - صلى الله عليه وسلم - - ليس أول الرسل، وإنما خاتم أنبياء الله ورسله. والتاريخ لم يبدأ برسالة محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، ولم ينته التاريخ بموته: وَ مَا مُحَمَّدٌ إلاَّ َرسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهُ الرُسُلُ أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىَ أعْقَابِكُمْ) آل عمران 144.
كما أن محمدا - - صلى الله عليه وسلم - - لم يكن ثوريًّا متمرّدًا يلغي كل شيء جاء قبله. إن اللّه - سبحانه وتعالى - أرسل محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - رسولا، (مصدّقا لما بين يديه)، أي مؤكدا على كلّ الأمور الصحيحة التي سبقته، وكذلك أرسله الله - تعالى -لتعليم الناس كيف يتجنبون الأمور السّيّئة في الحياة و التّاريخ، والتي خَبِرَتْها القرون الأولى من الشعوب والأمم.
"كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَاِلَيْهِ مَتَابِ" الرعد: 30.
التاريخ الشامل:
لقد أثرى مفهوم التّاريخ الشامل المسلمين بفكرة الأسلوب الشّامل في التعامل مع التّاريخ كوحدة متكاملة، وتبعا لذلك، فقد حرّر هذا المفهومُ التّاريخَ الإسلاميَّ من أن تستأثر به فئة واحدة. إنه من الطبيعي للمسلمين أن يضطلعوا بدورهم الهامّ كورَثة للتّاريخ بجدية كبيرة، لكنهم وهم يؤدون هذا الدورَ لم ينكروا دور الآخرين أبدًا، ولا سيما دور أهلِ الكتاب، من اليهود والنصارى.
القرآن الكريم والنقد:
لا بد للمسلم، أثناء تلاوته للقرآن الكريم، من أن يُحِس بوجود أهل الكتاب في كلّ صفحة منه تقريبا. كما أنّ اليهود والنصارى لا يمكنهم أن يقرؤوا أيّ كتاب ذي قيمة عن تاريخ العالم، دون أن يتعرفوا على وجود المسلمين في كافة ميادين الحياة البشريّة.(2/3)
ومن المؤكد أن القرآن ينتقد بعض اليهود والنصارى، ولكنّه يفعل نفس الشيء مع بعض المسلمين أيضًا. وباعتقادي، فإن المسؤوليّة الأخلاقيّة تفرض على المسلمين عدم اتخاذ نقد القرآن الكريم للآخرين وسيلة لتغطية عيوب المسلمين أنفسِهم، وبما أنّ القرآن الكريم، بصفته كلام اللّه - تعالى -، فريد في تقدير وتثمين صلاح أتباع الدّيانات الأخرى، ولا سيما اليهود والنصارى، فيجب على المسلمين أن يطبقوا روح التسامح في وسطٍ من تعدّد الأديان، وما أكثر ما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى، فيقول الله - عز وجل -: "إِنَّ الّذيِنَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنوُنَ" البقرة 62.
التعدّد الدّينيّ:
إنه من السذاجة بمكان أن يحكم أحدنا بعدم وجود اختلافات بين الإسلام والدّيانات الأخرى، ولا سيما اليهوديّة والنصرانية. وليس المقصود هنا فكرةً غامضةً عن الإطراء والتملُّق الهزيل، أو الدّعاية الدّينيّة الرّخيصة، بل إن المقصودَ هو قناعةٌ صادقة تقوم على أساس أهمّ مصدرٍ إسلاميٍّ يعلّم المسلمين كيفية التصرف مع التّعدّديّة الدّينيّة من جهة، وكيف يقدِّرون حقيقة أن هذا العالم غير مكوّن من دين واحد أو أمة واحدة فقط، لأنّه لو أراد اللّه - سبحانه وتعالى - للعالم أن يكون كذلك لفعل، ولكن قضت إرادته وحكمته أن يكون البشر في هذا العالم متعددين في دياناتهم وأممهم، فيتنافسون فيما بينهم في فعل الخير.
التنافس في فعل الخير:(2/4)
إن فكرة التنافس في فعل الخير، تتعلق بشكل خاصّ، بهذه الدّيانات السماوية الثّلاث: اليهوديّة، والمسيحيّة والإسلام، وسبب ذلك لا يعود فقط إلى تراثهم السماوي المتشابه، بل يعود أيضًا إلى تراثهم في التفاعل التاريخيّ الفريد الذي لا يمكن التغاضي عنه فيما مضى، وفي مسؤوليّتهم التّاريخيّة التي لا يمكن تَجَاهُلها في المستقبل. وبالرغم من أنني أرى الأمل معقودا على عدم إمكانية إغفال الدور التّاريخيّ لليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، لكنّني أيضًا، أشعر بنوع من الخوف. وبالرغم من صمت الإحسان في أغلب الأحيان، فإن أملي يستند إلى طيبة القلب عند الغالبية المخلصة من اليهود والنصارى والمسلمين، الذين يبحثون عن سلامتهم في هذا التشابه الدّيني بدلاً من النزاع.
التّشابه والاختلافات
من المؤسف كثيرا، أن نجد بين أبناء هذه الديانات الثلاث أقلّيّة عالية الصوت جدًّا ترى في تشابه اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام سّببا وجيها جدا لإثارة النّزاعات بدلاً من السّلام. وغالبا ما يقودنا هذا الموقف إلى استنتاج أنّ التّشابه يثير النّزاع، بينما يجلب الاختلافُ الاحترامَ المتبادل. وليس غريبا علينا تاريخ النقاش الحاد بين المجموعات الدينية المتشابهة، ذلك النقاش الذي كثيرًا ما تحوّل إلى نزاع شديد العنف. وما تزال في مخيلتي صور بعض النزاعات التاريخية بين السنّة والشّيعة داخل الدّين الإسلامي، والنّزاعات بين الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية، وأنا متأكّد من وجود أمثلة كهذه في اليهوديّة أيضًا.(2/5)
إن منطق النّزاع بين المتشابهين، مهما كان شكله، يكمن في المفهوم الخاطئ القائل: لكي أحافظ على نقاء ديني، فلا بد من إبراز الاختلاف العميق عند الآخر ممن يشبهني، لكن وفي نفس الوقت، فإن اختلافه معي أمر لا يمكن التسامح معه. وفي رأيي، فإن المسألة الحقيقيّة للعلاقة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام تتمثل اليوم في تشابه جذورهم الروحية، لا في اختلافها، وفي أملهم لا في خوف بعضهم من بعض، وفي حبّهم لا في كره بعضهم بعضا، وفي عدلهم بين بعضهم البعض لا في ظلم بعضهم بعضا.
التّفاعل الثقافيّ:
أظنني غير مضطرٍ للتذكير بأن الحقبة العظيمة للحضارة الإسلاميّة كانت في الوقت الذي تفاعلت فيه تلك الحضارة مع الحضارات الأخرى. إن فكرة العزلة غريبة على الحضارة الإسلاميّة، لأنّ النبيّ محمدا - - صلى الله عليه وسلم - - أُرْسِلَ إلى الناس كافّة، ولذلك فهو الشّاهد على العالم كله من حيث إنه جلب إليه الرّحمة بَدَلَ الشقاء (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين).
فمن الواضح إذن، أنّ المسلمين في الماضي كانوا قد عرفوا كيف يتفاعلون مع الآخرين، الذين كانوا يشبهونهم ويختلفون عنهم في معتقداتهم وفي توقعاتهم من الحياة والتاريخ. لقد كان المسلمون يهتدون بالإيمان القويّ (بالتصديق) بدلاً من (التكفير) والإدانة، وبالإيمان (بالمشاركة والمساهمة) بدلاً من الإيمان (بالتفرد). إضافة إلى ذلك، فقد عرف المسلمون كيف يقدّرون التجارب المختلفة داخل صفوفهم، واضعين نصب أعينهم الطريق الواحد نحو مجد الحضارة الإسلاميّة باعتبارها إنجازا مشتركا للأمة كلها.
توازن الذكريات(2/6)
بما أننا لسنا أبناء اللحظة، فيجب علينا أن نكون قادرين على خلق التوازن بين ذكرى الماضي الفائت، وذكرى المستقبل القادم. وأنا أرى أنّ صعوبة حاضر المسلمين تكمن في عدم قدرتهم على خلق هذا التوازن بين ذكرى الماضي الفائت وذكرى المستقبل القادم. وبعبارة أخرى، يجد المسلمون، من جهة أولى، صعوبة في تحرير أنفسهم من الشعور بالذنب بسبب بعض الأحداث التّاريخيّة السّابقة، وفي مواجهة تحديات المستقبل بروحانيّة نضرة وعقلانية مبدعة، من جهة ثانية.
إننا ولدنا أحراراً
هل يجب علي أن أُذَكِّر أن فكرة أصل الإنسان الخالي من عقدة الذّنب؟ البراءة) هي إحدى أهمّ أفكار ما يسمّى بالعصريّة، والتي قادت العالم نحو تحقيق التقدّم الفكريّ والروحيّ، أي إلى الإنسانيّة والنهضة? إن الشعار القائل: "نحن وُلِدْنَا جميعًا أحرارا، والناس كلهم سواسية أمام اللّه"، يمثل ردّ فعلٍ على فكرة أن الناس جميعا يولدون وهم يحملون على كاهلهم وزر خطأ أبيهم آدم، وأنّ بعضهم يولدون أسيادا، بينما يولد بعضهم الآخر عبيدا. لقد احتاجت أوروبا قرونا طويلة، وخاضت حروبا دموية كثيرة لكي تتغلب على هاتين الفكرتين العامّتين: فكرة الذّنب المحتوم، وفكرة العبوديّة المقدّرة.
إنني أعتقد أن أحد أسباب تقدم العالم الإسلامي على باقي أجزاء العالم يكمن في حقيقة أن الإسلام قد حرّر البشريّة من عقدة الذنب، ورسخ مبدأ تساوي الفرص للجميع لِيُظهروا جدارتهم التّاريخيّة.
القلق الثقافي(2/7)
إن الأزمة الحاليّة للحضارة الإسلاميّة قد تُرَى في نقص الثّقة بالنّفس الذي جاء نتيجةً للقلق الثّقافيّ الذي ترافق مع زمن فقدان الإيمان بالتحرر من الذّنب والإيمان بتساوي فرص النجاح في الحياة والتاريخ. وبالتّالي، فإن أجيالا متلاحقة من المسلمين فقدوا الجرأة الرّوحيّة والإبداع الفكريّ. وبدلاً من ذلك فإننا نرى عندهم نوعا من الخجل الرّوحيّ الذي يقود الحضارة الإسلاميّة نحو العزلة، كما نرى اقتباسا فكريّا يوشك أن يفضي بالحضارة الإسلاميّة إلى الذوبان والانصهار.
وهنا تكمن الإجابة الممكنة عن السّؤال: هل ستمضي عجلة الحضارة الإسلاميّة قُدُما? أو هل يجب لها الانطلاق من هنا? هل ستسير نحو العزلة أو الذوبان والانصهار? أم أنها ستسير نحو التّفاعل والتّعاون?
ليس العزلة أو الانصهار والذوبان، بل التعاون الحضاري
إن الحضارة الإسلاميّة لم تُصْنَع للعزلة أو للانصهار والذوبان، بل إنها صُنِعَت للتّفاعل والتّعاون. ولكي تمضي الحضارة الإسلامية في هذا الاتّجاه، ينبغي لها أن ترفض فكرة الذّنب التّاريخيّ. لقد فُرِض في هذه الأيّام على المسلمين الإحساسُ بوجوب أن يقوم الجيل الحاليّ من الشباب بتصحيح كافة أخطاء الأجيال السّابقة، قبل أن يفكّر في تصحيح المستقبل القريب والبعيد للأمة.
بعبارة أخرى، ينبغي للجيل المعاصر أن يتمسّك تمسكاً قوياً بالإيمان بالتحرر من أخطاء الماضي، وبذلك يتحمل المسؤوليّة عن مستقبل العالم، ليس بالسير على طريق الانعزال أو الانصهار والذوبان، وإنما بالسير على طريق التّفاعل الثّقافيّ المتساوي والتعاون الحضاري. إن الأرضية المتوسطة للتفاعل التّاريخيّ والتّعاون العقلاني، هي الطريق الصحيح للحضارة الإسلامية كي تخرج من ضيق العزلة وخطر الانصهار.
آن أوان التفاعل الثالث(2/8)
بعد أن جرّبت الحضارة الإسلامية التّفاعل في صدر الإسلام، ومن ثم في زمن التأثير الإسلاميّ العظيم في التغيير الفكريّ والرّوحيّ في الغرب. فقد آن الأوان لها للتفاعل التّاريخيّ الثّالث مع باقي العالم، ولا سيما مع العالم الغربيّ. ولكن الوضع اليوم يختلف نوعًا ما عن سابقيه، لأنّ الغرب لا يشعر بالحاجة لتعلّم أي شيء من الشّرق، كما اعتاد أن يكون حاله في السابق.
بل على العكس من ذلك، فإن الغرب يعتقد بوجوب أن يقلِّدَهُ الشّرق في كل الأمور، حتّى في السلوك الأخلاقيّ الغريب، والمخالف للحشمة الإنسانيّة والإنتاج (التناسل) الإنساني. ولكن ينبغي ألا يثني هذا الوضع عزيمة المسلمين عن التّفاعل مع الغرب، بسبب ما يوجد من اتكال متبادل ودّائم بين العالَمين - الشّرق والغرب ــ ذلك الاتكال الذي لم يبدأ بالأمس، ولن ينتهي في الغد.
دعني الآن أطرح السؤال الثّاني: بأي سرعة سوف تنطلق عجلة الحضارة الإسلاميّة? هل بسرعة مركزها? أم بسرعة حافتها?
المركز والحافة
لكن، وقبل كل شيء، هل يوجد مركز للإسلام ? نعم، هناك مركز للإسلام، ولكنّه ليس مركزا جغرافيّا متماسكا، أو منتَجا اقتصاديا، أو تأثيرا سياسيا على التطور العالمي، بقدر ما هو هوية عالمية، وتوجّه في الزمان والمكان نحو الكعبة؟ قبلة المسلمين؟ وتضامن بين عامة المسلمين في مختلف أرجاء العالم يقوم على الإيمان. وستبقى هذه الميزات المعنوية لفكرة مركز الإسلام قويّةً لأنّ رسالة القرآن قويّة في شموليتها ومصداقيّتها في إنقاذ البشرية.
إذن، فالعبرة هنا، ليست في النِعَمِ الواضحة التي تجود بها السماء، بل في حسن أو سوء استخدام البشر لتلك النعم. فكما يقول ريشارد بولييه (Richard Buliet):(2/9)
؟ لا يمكن لأحد أن ينكر عصر السعادة في عهد النّبيّ محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، ولا يمكن لأحد أن ينكر أمجاد الخلافة، أو عَظَمَةَ العثمانيين، أو التأثير التحويلي لأوروبّا الحديثة...وإن الخلفاء والسّلاطين ــ أو على الأقلّ بعضهم - يستحقّون تلك الشهرة المنسوبة إليهم... وفوق كلّ شيء، فإن سيرة رسول الله محمد - - صلى الله عليه وسلم - - والرعيل الأول من الصحابة والتابعين كانت العامل الأساسي في تحديد الهويّة الإسلاميّة على مدى أربعة عشر قرنا".
ويواصل قائلا:
إن النظر من المركز يطرح أسئلة كثيرة جدًّا لا أجوبة عنها. من أين كلّ هؤلاء المسلمين? لماذا نجحوا في تطوير مثل هذه الثقافة أو الحضارة المترابطة، بينما كانت أوروبّا ــ رغم تجانسها المسيحيّ ــ متفككة ومختلفة إلى هذا الحد الكبير?
إن النظرة من المركز تبدي التاريخ الإسلاميّ وكأنه ينمو من نواة واحدة، أو من بقعة حبر منتشرة في جميع الاتجاهات وعليها بطاقة ــ الخلافةـ. لكنّ ما هو الشيء - عدا هذه البطاقة السياسية - الذي يجعل الإسلام مجتمعا? ولماذا تماسكه السّياسيّ الذي تبخر بعد قرنين من الزمان لا يعود من جديد?
إن النظرة من الحافّة تظهر احتمال طرحِ مثلَ هذه الأسئلة. إن الأمر يبدأ من حقيقةِ أن معظم المسلمين خارج شبه الجزيرة العربيّة لا ينحدرون من أصول عربية... لقد تعلم معظمهم الإسلام بعد أن دخلوا في المجتمع المسلم، وليس قبل ذلك؛ وإن ما تعلّموه لم يكن أبدا يفترض سمة متجانسةً، وبالرغم من ذلك فإنه منذ القرن الرّابع عشر كانت هناك رغبة قويّة نحو التّجانس المعياريّ. "(2/10)
إضافة إلى ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر الدور المركزيّ للعرب والفرس والأتراك في الاتجاه السّائد لتاريخ الحضارة الإسلاميّة. لكنّ لا يمكن لأحد أيضا أن يتجاهل حقيقة أن حِمْلَ الحضارة الإسلاميّة الثّقيل في القرنين الآخرين قد ألقي على كاهل العرب، وأنه منذ فترة قصيرة فقط بدأت حوافّ العالم الإسلامي وأطرافه في التجمع وإبراز بعض علامات الاحتشاد حول المركز منتظرة منه أن يجيء بمبادرة لتقوية الروابط داخل الأمة على المستوى العالميّ.
يجب على المركز أن يتحرك بسرعة أكبر
لقد كاد صبر أطراف العالم الإسلام ينفَد وهي تنتظر من المركز اتخاذ خطوة عملية، هذا إذا كان المركز مدركًا فعلاً أنه مركز العالم الإسلامي اليوم، وذلك فيما يتعلق بترجمة الثراء الروحي الفريد للإسلام الذي يمكن أن يُرَى في وحدة العقيدة، ووحدة الهدف، ووحدة العبادة، ووحدة القدر. إن أطراف العالم الإسلامي لا يمكنها أن تفهم هذا البطء في حركة المركز نحو معالجة الكثير من القضايا المعاصرة التي تقف عقبة أمام التطور الأخلاقي والسياسي والاقتصادي للأمة بأسرها. إنّه من الصعب أن تُبيِّن لأجيال الإنترنت سبب فشل المسلمين في تحديد موعد موحد ليوم عيدهم مقدّمًا؛ كما يصعب أيضا أن تبيّن للعقلانيين أن سياسة المسلمين العالميّة مازالت قائمة على أساس القاعدة القائلة بضرورة أن يخسر أحد أعضاء الأمة لكي ينجوَ عضو آخر؛ كما يصعب على النّاس المحترمين أن يؤمنوا بأن المسلمين لا يملكون استراتيجيّة للاقتصاد العالميّ يمكنهم بها تقليل الفقر وزيادة التّعلّم بين المسلمين الذين ما زالوا يعانون ــ حسب كافة المعايير ــ من هذين المرَضَيْن الاجتماعيّين أكثر من معاناة أيّة جماعة دينيّة أخرى في العالم.
البحث عن التآلف(2/11)
إنني أعتقد أنّه ليس أمام المسلمين اليوم خيار دون إدراكهم أن مستقبلهم يعتمد على قدرتهم في تحقيق التآلف بين ذاكرتهم الماضية والتّاريخ المستقبليّ، مما ينجم عنه تعاون داخليّ لجميع جوانب النِّعَم الرّوحيّة الغنيّة والثمار الفكريّة، وكذلك تفاعل خارجيّ لكافة إمكانيّات تقدُّمِ الحياة البشريّة التي تقدم المعرفة البشريّة الإيجابية للفرد وللمجتمع.
احترام الذّات والثقة المتبادلة
إلى جانب ذلك، يجب على المسلمين اليوم أن يصلوا إلى نقطة احترام أنفسهم، لكي يحظوا باحترام الآخرين لهم، ويجب عليهم أن يعرفوا أن العالم اليوم يقوم على أساس الثّقة المتبادلة التي يحتاج بناؤها وقتا أكثر بكثير من الوقت اللازم لهدمها.
خمسة أمور غير مفهومة عن الإسلام في الغرب
أوّلا: القرآن الكريم ــ الناس في الغرب لا يريدون أو لا يستطيعون أن يفهموا أن القران الكريم عند كافة المسلمين الكلام المنزّل من عند الله غير قابل للتغيير والتبديل "اِنّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمََا هُوَ بِالهَزْلِ؟.
ثانيا: الشريعة ــ الغرب لا يدرك أن الشريعة الإسلامية للمسلمين هي التشريع الديني والدنيوي في نفس الوقت. ولعل سوء الفهم للشريعة الإسلامية في الغرب يأتي بسبب سوء التجربة الغربيّة التاريخيّة مع الكنيسة الكاثولكيّة التي كانت تطبق القانون الكنيسي بدعوى أنه القانون الإلهي على طريقة سيّئة.(2/12)
ثالثا؟ محمد رسول الله ــ الغرب المسيحي واليهود فيه كما يشهد ستيفان شوارتز Stephe Schwartz: "لا يقبلون محمدا على أنه رسول أرسله الله بدين يخافون منه. اليهود ينكرون بأن عيسى - عليه السلام - هو المسيح، ولكن الكثيرين منهم يقبلونه على أنه معلم ديني كبير. وهم لا يظهرون حتى ولو نذرا يسيرا من هذا الاحترام تجاه محمد، بل على العكس من ذلك، فإن ذلك الرسول العربي يُعامَل بالسخرية والازدراء، بحيث أن اليهود يتجاهلونه والنصارى يذكرونه بالتجريح والذمّ. إن معظم الغربيين يعتبرون الإسلام عقيدة كريهة عدوانية تعصبية متعطشة للدماء، وغير المسلمين يظهرون محمدا على أنه ضالٌّ وشرس ومخادع. وبهذه الآراء المسبقة المشوهة أبدع اليهود تصورات سيئة عن المسلمين في العالم. وبنفس الأسلوب نجد النصارى المتعصبين ينشرون الأضاليل عن أن الله الذي يعبده محمد ليس نفس الإله الذي يؤمن به اليهود والنصارى".
رابعا: الجهاد ــ إنّ الغرب يفهم من كلمة الجهاد شيئا واحدا فقط: العنف والإرهاب والحرب ضد الغرب ومؤسساته السياسيّة والاقتصاديّة. ومهما يحاول بعض المسلمين أنْ يبيّنوا أنَّ لكلمة الجهاد معاني نبيلة لتربية النفس الإنسانيّة، فالغرب لا يريد أن يستمع إلى تلك البيانات، بل يردّ عليها بكلمته المشهورة ألا وهي كلمة الصليبيّة (crusade) والتي يفسّرها الغرب بأنّها تعني الحريّة والديموقراطيّة، ولكنها بالنسبة للمسلمين تعني شيئا واحدا فقط ألا وهو الحرب ضد الإسلام والمسلمين.(2/13)
خامسا: وضع المرأة ــ الغرب لا يفهم أن المرأة عند المسلمين حَرَمٌ بمعنى أن لها ذاتها وشخصيتها الإنسانيتين. نعم، هناك بعض الناس من المسلمين الذين يعاملون النساء معاملة سيئة ولكن هذا ليس ناجما عن تعاليم الإسلام، بل هو بالعكس بسبب عدم تطبيقهم لتعاليم الإسلام: فالعفة، والحياء الذي هو نصف الإيمان، والحجاب والإنفاق على النساء ومعاملتهن بالمعروف، وإنقاذ البنات من الوأد (وإذا الموؤودة سئلت باي ذنب قتلت)، كل هذا جاء مع الإسلام، حين لم يكن الغرب يُذكر وحين كانت المرأة فيه تذكر بالسوء ليلا ونهارا.
خمسة أمور غير مفهومة عن الغرب في الشرق
اوّلا: الحريّة ــ الشرق، الذي نعني به هنا العالم الإسلامي عموما، لا يرفض فكرة الحرية كمبدأ نحو التقدم البشري والتاريخي، ولكن الشرق لا يفهم الحرية على أنها اتجاه نحو الشر مثل الخمر والمخدرات والشذوذ الجنسي والإباحية وغير ذلك من الشرور الاجتماعية التي تسعى بعض الدوائر في الغرب إلى تبريرها باسم الحرية، بل إن الشرق ــ انطلاقا من القيم الشرقية السامية والعريقة ــ يفهم الحرية بمعنى "حرية اختيار الخير بدلا من أي شر".
ثانيا: الديموقراطيّة ــ الشرق ما زال يتردد في قبول النظام الديموقراطي القائم على أسس شرعية السلطة التي تبنى على حق المواطنين بالتصويت، فالشرق لا يريد أن يفهم أن الشعوب المسلمة قد بلغت درجة من النضج تمكنها من حُسن اختيار ممثليها الذين سيقودونها نحو مجتمع أصلح وعدل اجتماعي أفلح. وجدير بالذكر هنا ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المشهور (السياسة الشرعية) حين قال: سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قويٌ فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى? فقال: أمّا الفاجر القويّ، فقوّته للمسلمين، و فجوره على نفسه، و أمّا الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القويّ الفاجر (ص: 17).(2/14)
ثالثا: المؤسّسة ــ الشرق لا يفهم أهمية المؤسسات في الغرب، وما يزال الشرق يستند في كبريات قضاياه السياسية والاجتماعية وحتى الدينية إلى الأفراد، بعيدا عن المؤسسات التي تضمن له استمرارية الحياة والتاريخ، وانتقال المسؤوليات السياسية والاجتماعية بصورة سلمية، وكما يقال: لا يمكن تحقيق الخير في التاريخ البشري بدون إنسان صالح، ولكن لا يمكن للخير أن يبقى دوما في التاريخ إلا بالمؤسسات.
رابعا: حقوق الإنسان ــ لا حاجة لي هنا أن أذَكّر بأن الغرب يستخدم دعوى الدفاع عن حقوق الإنسان ذريعة للتدخل المباشر في شؤون الشرق سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولكن هذه الحقيقة المرة عن تعامل الغرب مع الشرق باسم الدفاع عن حقوق الإنسان لا تعفي الشرق من مسؤوليته عن تلاعبه بحقوق الإنسان في الشرق، بل يجب على الشرق أن يبادر برعاية حقوق الإنسان، لا ليبرئ نفسه أمام الغرب، بل ليطبق ما أمر به الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم وفي سنة رسوله الأمين من احترام لحقوق الإنسان لأنها أولا وآخرا حقوق الله الذي خلق الإنس والجن لا لشيء إلا ليعبدوه، إذ يقول - سبحانه وتعالى -؟ وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}، فجوهر معنى حقوق الإنسان هو أن يكون الإنسان حرا في عبادته لله وأن لا يكون عبدا في تقديسه لمخلوقات الله.(2/15)
خامسا: السياسة ــ إن المسلمين لا يفهمون سياسة الغرب تجاه المسلمين عموما، وتجاه القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ومن المؤكد أن السياسة باعتبارها تعبيرا عن تفوق البعض تكنولوجيا وعسكريا، يمكنها أن تهدد بخرق حقوق الآخرين من المتخلفين تكنولوجيا والعاجزين عسكريا عن مقاومة الظلم والاضطهاد. ومن المؤسف أنه إذا أضيفت إلى ذلك الأفكارُ الدينية المسبقة المصحوبة بسوء النيات والتصورات الثقافية الخاطئة عن قوم ما، فإن سياسة المتفوق لا تمتلك أعينا ترى بها حقوق المُسْتَضْعَفِ، وفي تلك الحالة تسود قاعدة المتكبر السياسية حيث الغاية تبرر الوسيلةَ دون الالتفات إلى معاناة المستضعف، وهنا يسود الهدف السياسي الذي يتألف من مصلحة المتفوق بالسيطرة على ثروات المستضعف المعنوية والمادية. وهذا ما لا يفهمه المسلمون من غايات سياسة الغرب: حيث إن غاياته السياسية والعسكرية والثقافية والدينية تبرر استخدام كل أنواع الوسائل بما فيها تعذيب السجناء وقتل الأسرى.
وفي الختام نود أن نقول إنه لا جدوى من أن ينتظر المسلمون الغرب حتى يفهمهم ويفهم قيمهم الدينية والسياسية والاقتصادية، بل ينبغي على المسلمين أن يؤمنوا بالله إيمانا صادقا، لأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يقرر مصير التاريخ البشري رغم كل ما يدبره الغرب أو الشرق. فلذلك يجب عليهم ويحق لهم أن يقتبسوا من الغرب كل ما ينسجم مع المجتمع المسلم في الأمور الخمسة السابقة الذكر، ألا وهي الحرية والديمقراطية والمؤسسية وحقوق الإنسان والسياسة.
http://www.themwl.org المصدر:
ـــــــــــــــ(2/16)
الحوار الناجح ضرورة وليس ترفا تربويا
أ. سحر شعير
إذا كانت أفكار الأولاد تختلف عن أفكار آبائهم فكيف يلتقون معاً حتى تتم التربية حسب أصولها الصحيحة التي لابد فيها من مساحة كبيرة للحوار؟
ثم من سيتحمل مسئولية إنشاء الحوار الهادئ البنّاء الأولاد أم الآباء؟
خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار الصعوبة التي يجدها الطفل - غالباً - في استيعاب وهضم أفكار الكبار، تماماً كما يجد صعوبة في حمل مقدار الوزن الذي يستطيع والده أن يحمله.
ثم إن الأولاد غير مؤهلين لكي ينهلوا من أفكار آبائهم؛ لأن قدرات الآباء غير متكافئة مع قدرات الأولاد، فالأب مثلاً يستطيع أن يحمل حمولة ابنه جسمياً وفكرياً بينما الابن لا يستطيع أن يحمل حمولة أبيه، كالطالب بالصفوف الثانوية قادر على استيعاب المنهج الابتدائي بسهولة بينما العكس غير وارد.
من هنا نجد أن الواقع يفرض نزول كل أب إلى مستوى أبنائه حتى يلتقي معهم، وحتى تثمر جهود الآباء في تحقيق التقارب وسهولة الالتقاء بأبنائهم في حوار ناجح يتطلب ذلك إلقاء الضوء على بعض الخطوات المهمة التي يجب مراعاتها وصولاً إلى هذا الهدف، مثل:
1- النزول بالفهم والحوار إلى مستوى الأولاد، مع بذل جهود متواصلة لرفع كفاءة التفكير لديهم واستيعاب الحياة بصورة تدريجية.
2- احترام مشاعر وأفكار الأولاد مهما كانت متواضعة والانطلاق منها إلى تنميتها وتحسين اتجاهها.
3- تقدير رغبات الأولاد وهواياتهم والحرص على مشاركتهم في أنشطتهم وأحاديثهم وأفكارهم.
4- الاهتمام الشديد ببناء جسور الثقة المتبادلة بين الآباء والأبناء التي تعتمد على غرس انطباع إيجابي عندهم يفضي إلى تعريفهم حجم المحبة والعواطف التي يكنها لهم آباؤهم، فلابد أن يحس الأولاد بأننا نحبهم ونسعى لمساعدتهم ونضحي من أجلهم.(2/17)
5- حسن الإصغاء للأبناء وحسن الاستماع لمشاكلهم لأن ذلك يتيح للآباء معرفة المعوقات التي تحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم ومن ثمَّ نستطيع مساعدتهم بطريقة سهلة وواضحة.
6- إن معالجة مشاكل الأبناء بطريقة سليمة تقتضي ألا يغفل الآباء أن كل إنسان معرض للخطأ ووضوح ذلك أثناء الحوار، وذلك حتى لا يمتنع الأبناء عن نقل مشاكلهم إلى الأهل ثم يتعرضون لمشاكل أكبر أو للضياع، بل يتم مناقشة المشكلة التي يتعرض لها الابن بشكل موضوعي هادئ يتيح له قبول والاعتراف بمواطن خطأه وبالتالي تجنب الوقوع فيها مرة أخرى.
7- يجب ألا نلوم الأبناء على أخطائهم في نفس موقف المصارحة حتى لا نخسر صدقهم وصراحتهم في المستقبل، بل علينا الانتظار لوقت آخر ويكون ذلك بأسلوب غير مباشر.
8- تهيئة الأبناء - من خلال الأساليب السابقة - لحل مشاكلهم المتوقع تعرضهم لها مستقبلاً في ظل تعريفهم بأسس الحماية والوقاية.
9- عدم التقليل من قدرات الأبناء وشأنهم أو مقارنتهم بمن هم أفضل منهم في جانب معين، لأن هذا الأسلوب يزرع في نفوسهم الكراهية والبعد ويولد النفور ويغلق الأبواب التي يسعى الآباء إلى فتحها معهم.
10- إشعار الأبناء بأهميتهم ومنحهم الثقة بأنفسهم من خلال إسناد بعض الأعمال والمسئوليات لهم بما يتناسب مع أعمارهم وإمكانياتهم، مع استشارتهم في بعض التحسينات المنزلية أو المفاضلة بين عدة طلبات للمنزل، ثم عدم التقليل من جهود الأبناء لمجرد تواضع المردود عن المتوقع منهم لأن ذلك قد يخلق تراجعاً في عطائهم وينمي فيهم الخمول والإحباط مستقبلاً.
11- الاهتمام بالموضوعات والأحاديث التي يحبها الأبناء ويسعدون بها وتناولها بين الحين والآخر، إن ذلك يجعلهم يشعرون بمشاركة الأهل لهم في كل شيء، وأنهم يريدون إسعادهم وإدخال السرور على نفوسهم.(2/18)
12- يراعى أثناء الجلسات العائلية والمناقشات أن تُقَابل اقتراحات الأبناء وآراؤهم باحترام وقبول طالما أنها لا تخل بالأخلاق ولا تنافي تعاليم الإسلام.
وأخيراً...
فلنعلم أن أعمال الأبناء وأفكارهم وقدراتهم مهما كانت متقدمة فلن تسير على نهج أفكار الكبار أو ربما لا تدخل في مجال اهتماماتهم ونظرتهم للحياة لوجود فارق زمني وثقافي ومكتسبات مختلفة وموروثات متنوعة تجعل الاتفاق على كل شيء أمر صعب.
وإذا كان الآباء يعرفون جيداً كيف يجاملون أصدقاءهم وينصتون إليهم ويحترمون أحاديثهم التي تتناول أشياء وموضوعات قد لا يعرفونها أو لا يحبونها، وقد يتظاهرون بالاهتمام والتفاعل إكراماً لمحدثهم، وربما بادروا بالحديث حول تلك الموضوعات لإشعار محدثهم بحجم الاهتمام به، أفلا نتفق على أن أبناءنا أوْلى بهذا النوع من الرعاية؟
نعم إنهم أحق وأولى بالاهتمام والرعاية والاحترام لأحاديثهم وأفكارهم وهواياتهم التي غالباً ما تدور حول دراستهم وآرائهم الاجتماعية والرياضية وأمانيهم للأيام القادمة.
إننا بذلك نستطيع أن ندخل إلى عقولهم ونسكن قلوبهم الخضراء الصغيرة بسهولة ويسر، ونكون قد بنينا جسور الالتقاء معهم لنقودهم إلى ما فيه خيرهم ورشادهم في الدنيا والآخرة.
http://www.lahaonline.com المصدر:
ـــــــــــــــ(2/19)
التقريب بين المذاهب والأديان حيلة الأقوياء حلم الضعفاء
أن يتداعى قوم مختلفون في وجهات النظر إلى مؤتمر أو اجتماع ليدلي كل بوجهة نظره أمام الآخر، ويوضح جوانب من فكره، قد تكون خافية على الآخرين، لتكون صورة الفكر الذي يحمله واضحة أمام الناس لا لبس فيها ولا غموض؛ فهذا لا مانع منه، ولا بأس فيه.
حيث إن هذا لا يعدو أن يكون تجلية للحق المنشود، وإزالة لأوهام قد تعلق في أذهان الآخرين بفعل مؤثرات شتى سابقة.
ولكن الذي ينعم النظر في كنه ما يسمى بدعوات التقريب بين النحل و الأديان، ويستبطن حقيقتها سيجد أن هذه الدعوات - إن لم تكن ترمي إلى عكس ما تدعو إليه - فهي على الأقل مشبوهة مدخولة.
وحتى يقام الدليل على هذه الدعوى فلابد من تحليل الأجواء التي تنبعث منها هذه الدعوات، ومن نظرة في حالة من يدعو إليها، ومن ينتدب للمشاركة فيها، ومن دراسة جدوى هذه الدعوات سواء في صفوف من تعقد باسمهم؛ أو الجهة التي تنظم وتشجع مثل هذه التظاهرات.
لو تتبعنا الظروف والأجواء التي تنشط فيها دعوات التقريب لسهل علينا أن نرى أن الداعين إليها والذين يرجون قطف ثمرتها يعيشون في " مأزق " وتحيط بهم (أزمة)، ويظنون أن دعوتهم قد تخرجهم من هذا المأزق وتنتشلهم من هذه الأزمة.(2/20)
فما هو المأزق عند دعاة التقارب الإسلامي المسيحي مثلاً؟ إن دعوات التقارب والحوار الإسلامي المسيحي كلها تقريبًا نشأت في الجانب المسيحي، ومع أن هذا الجانب هو الغالب غلبة مادية؛ لكن من السهل إدراك الأزمة التي يعيشها من يمثلونه، فقد وجدوا أن قرونًا طويلة من الصراع والصدام مع الإسلام لم تحل مشاكلهم معه، ولم يلمحوا أن حملة العقيدة الإسلامية يمكن أن يلينوا على العسف والقهر، ولم تبدُ عليهم آثار من تعب المصاولة في حلبات التذويب أو التشويه، بل يفاجأ هؤلاء - وهم في عنفوان تسلطهم المادي وهيمنتهم - بالإسلام الذي عملوا على تجريده من كل قوة، وسخروا لحرب أهله كل أنواع الأسلحة، فنهبوا مقدراتهم، وضربوا وحدتهم، وبثوا بينهم كل سموم العصبيات، وتجاهلوا ثقافتهم، وأبرزوا عيوبهم، وكبتوا محاسنهم، بل أظهروا محاسنهم في ثوب العيوب، وضربوا بين شعوبهم وبين الإسلام بالأسداد، على الرغم من ادعائهم حرية الفكر يفاجئون بهذا الإسلام لا زال حياً له نفس يعلو وجسم يتحرك.
فكيف السبيل وما العمل؟ ! هنا يلبسون جلد الحَمَل، ويقدمون أنفسهم على أنهم يريدون أن يفهموا الإسلام فقد اكتشفوا كثيرًا من النقاط الإيجابية فيه وفي أهله، ومن الخسارة أن تضيع الجهود في الحروب والصراعات، ولابد من اكتشاف نقاط الالتقاء، وتضييق الفوارق، فتجوز الخدعة على بعض مفكري المسلمين، فيكتبون البحوث التي غالبًا ما تكون مملوءة بالنفاق والتشويه والتمييع.
ومما له دلالة يحسن التوقف عندها أن الداعين لمثل هذه الندوات تجمعهم صفة واحدة وهى خدمة المفاهيم الغربية، فهم إما أن يكونوا من السفراء السابقين في الدول الإسلامية، أو من الذين يدرسون الإسلام في بعض الجامعات الغربية التي تقدم خدماتها لوزارات الخارجية هناك، أو من رجال الكنيسة الذين يقومون بمهام التنصير في البلاد الإسلامية.(2/21)
أما فيما يتعلق بالجانب الإسلامي فإن الذين ينتدبون للمشاركة غالباً ما يكونون إما من المفتين الرسميين، أو أصحاب مناصب لها شبهة تعلق بدين الإسلام من الذين ترسلهم دولهم كي يدفعوا عنها تهمة التعصب والانغلاق، ويبرزوا بالنيابة عنها وجه الإسلام المتطور! أما من حيث النظر في نتائج دعوات التقارب وندوات الحوار فإنها لا تؤدي إلى شيء مما يسمى التقارب أو تضييق شقة الخلاف، ولا تعطي أي نتيجة عملية على هذا الصعيد، اللهم إلا تحقيق أهداف الأذكياء من الداعين إليها، كجمع المعلومات عن المسلمين، وتسجيل الشهادات التنازلية التي يقيدونها عندهم كسابقة يستشهدون بها فيما يستقبلون من أحداث ومشاكل مع المسلمين، فتكون هذه الشهادات زيادة في رصيدهم الذي يستخدمونه لشق الصفوف وزيادة الهوة بين إسلاميين: إسلام هو الإسلام، وإسلام آخر متطور يجتهدون في إحلاله محل الإسلام الشَّموس الذي ضاقت بهم السبل والحيل في تأهيله وترويضه.
وتبقى وراء ذلك الخلافات كما هي، وهذا أمر طبيعي، فالقفز فوق الخلافات العقائدية لا يحلها ولا يذيبها، وتجاهل قرون متطاولة من العداء والصراع ذر للرماد في العيون، واستهانة بتاريخ كل من الإسلام والمسيحية، فضلاً عن أنه من المستحيل التبرؤ من أي تاريخ إلا بالتبرؤ أولاً من العقيدة التي انبثق منها وعنها ذلك التاريخ.
وقل مثل ذلك في ما يطرح من دعوات لإزالة الخلاف السني- الشيعي، فهي دعوات كثيرًا ما تنبثق من الجانب الذي يواجه طريقاً مسدودًا، وتهدف إلى تسويق أصوله لتكون مقبولة عند الطرف الآخر، هذا مع ملاحظة التساهل إلى درجة السطحية والغفلة - إن لم نقل الغباء - عند من يختارون ناطقين باسم أهل السنة، والمداورة والإيهام والعناد الذي لا يخفيه لحن القول عند محاوري الشيعة.(2/22)
على أن المثير فيما يتعلق بالحوار السني - الشيعي هو الجهل المطبق الذي يلف الداعين إلى ذلك، لا الجهل فيما ينبغي أن يكون عليه تصور المسلم في هذا العصر، بل الجهل بحقيقة عقيدة الآخر وأسسها، والنظر إلى الخلاف على أنه لا يعدو خلافًا على قضايا فرعية، أو على أمور أخرى عفّى عليها الزمن، فماذا عسانا أن نقول فيمن يطرح - كمنطلقات لإزالة الخلاف -ما يلي: * نحن والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن للتشريع.
*وأنه لا يمكن طرح مسألة الإمامة كمشروع معاصر.
*وأن مشكلة المهدي المنتظر ليست من الأهمية بمكان.
إلى غير ذلك مما يعكس عقيدته وفكره هو، ونظرته إلى سلبيات العقيدة الأخرى.
كيف يقال إن السنة والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع؟ أية سنة؟ ! هل يعتد أحد الطرفين بما يسميه الآخر سنة؟ ! وترك البحث في الخلافات وإثارتها يرضى به أهل السنة، ولكن هل هناك عاقل يظن أن الشيعة ترضى به؟ إذن؛ لانهار أساس مكين من أسس عقيدتها، فلو وقع ظلم على شيعي من أي جهة حتى لو كانت يهودية أو مسيحية سرعان ما يتناخى القوم بـ " يالثارات علي والحسين! " ولا حاجة للقول أن التشيع - كما آل معناه في هذا العصر - يقوم على جملة أركان منها: البراءة واللعن، البراءة ممن، ولعن من؟ ! وكيف يمكن التخلي عن فكرة الإمامة؟ أليست أصلاً من أصول الدين عند الشيعة تعادل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؟ والمنطق الإيماني يقول: إن الإيمان بهذه الأمور كل لا يتجزأ، وإن كل الأصول الشيعية تنبع من مشكلة الإمامة وإليها تعود، وكذلك قضية المهدي المنتظر، لو ترك القوم الاعتقاد بالمهدي لانهار ركن " الرجعة " وما ينبني عليه ويتفرع منه - وهو كثير- عندهم..(2/23)
ليس من مقصود هذه الكلمة أن تستقصي الأصول التي يخالف فيها الشيعة أهل السنة، ولكن الهدف هو إظهار أن مقولة التقريب أسطورة من الأساطير، لو أنتجت نتائجها المنطقية لجعلت كل طرف يتخلى عما هو أساسي في عقيدته، ولتشكل من ذلك فريق ثالث لا هو سني ولا هو شيعي، فهل يمكن تصور وجود هذا الفريق في المجتمع الإسلامي؟ نعم، إنه فريق " الإلحاد "، وإلا فالمشاهد أن قضية التقريب بين المذاهب لا تروج إلا في صفوف أهل السنة، نظرًا للكثرة العددية والانفتاح الذي يعيشون فيه - إن لم نقل التسيب- والتعصب والخوف من الآخر لم يوجد إلا في صفوف الطوائف الأخرى سواء على صعيدها الشعبي أو الرسمي.
وأمامنا تجارب من الماضي والحاضر على سبيل المثال لا الحصر.
فدار التقريب التي كانت يشرف عليها مرجع إيراني هو العلامة (القمي) كانت في مصر، في حين أنه لم يكن لهذه الدار ولو فرع واحد في أي جزء من إيران، وقد يقال، من باب التذاكي والشطارة: إن حكومة إيران على أيام سيء الذكر الشاه السابق لم تكن إسلامية، ولكن نقول: هل تغير الحال على عهد طيبي الذكر حكام إيران الحاليين؟ إن الدستور الإيراني منَّ على أهل السنة حين اعترف بهم وجعلهم على سوية واحدة وفي مرتبة اليهود والنصارى والبهائيين والزرادشتين، هذا في الوقت الذي لا نلحظ فيه هذا التفريق بين المسلمين أنفسهم ولا بينهم وبين غيرهم في الماضي والحاضر في أي دستور آخر غير الدستور الآنف الذكر.
وبعد...
فإن هذا الكلام لا يتوجه إلى أصحاب الأهواء والأغراض، وإنما يتجه إلى الذين تسوءهم حال المسلمين وما هم عليه من الفرقة والضعف والتخلف الذي نرى أن أسبابه ترجع بالدرجة الأولى إلى الجهل بعدة أمور:
* الجهل بحقيقة ما هم عليه من دين، وخلطهم بين الأصل والفرع والواجب والمسنون.
*الجهل بأعداء هذا الدين وتاريخهم ونفسياتهم ودوافعهم التي تحركهم.(2/24)
*الجهل بالماضي كيف وقع، وبالحاضر كيف يسير، وعدم القدرة على ربط كل حدث بالآخر ربط الأسباب بالنتائج، حتى طمع فينا كل طامع، ونعق بين ظهرانينا كل ناعق.
إن بدعة التقريب والتقارب شأنها شأن البدع جميعًا، تقدم نفسها على أنها خدمة للحق والحقيقة، وجهد في سبيل الله، ولكنها - علم ذلك مبتدعوها والمدندنون لها أو لم يعلموا - جهد في سبيل الشيطان.
ـــــــــــــــ(2/25)
حوار المفاهيم
مع الشيخ عبد المجيد الريمي
الحوار أسلوب من أساليب التواصل البشري الراقي.. حيث تتلاقح العقول، وتنضج الأفكار.
من هذا المنطلق نفتح نافذة مع الشيخ الداعية عبد المجيد الريمي، أحد أشهر العلماء والدعاة المعروفين في اليمن، نطرح من خلالها أبرز قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، وأبرز هموم الدعوة.. من خلال الحوار والنقاش.
علماً بأننا سنهتم بالمفاهيم والأفكار والنظريات باعتبارها معقل التأثير على ذواتنا وسلوكياتنا وملامح حياتنا، وقبل البدء بطرح الأسئلة على الشيخ نقدم له الشكر على استضافته لنا، وتقبله للمشاركة في هذه النافذة.
الشيخ عبد المجيد، نرحب بكم، ونبدأ معكم في هذه النافذة الحوارية بالسؤال حول مفهوم بدأ يبرز في الساحة وأثار الكثير من الجدل، وتردد مصطلحه على الأسماع، وتتساءل الكثير عنه؛ ألا وهو مفهوم "السلفية"، وأنتم رمز من رموز هذا المفهوم، فما هي "السلفية"، وهل لها أصل في وجهة النظر الإسلامية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
أولاً: أشكركم على هذا اللقاء، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى تبيين ما التبس على الناس من المفاهيم المغلوطة التي يحتاجون إلى معرفة وجه الحق فيها.
وثانياً: أريد أن أقدم بمقدمة قبل الجواب على هذا السؤال بمثابة التأصيل لجواز مثل هذه الألقاب فأقول:
إذا تأمل الإنسان فيما يراه على وجه هذه البسيطة من التجمعات البشرية وغيرها من أنواع المخلوقات من حيوان ونبات يجد أنه قد أطلق عليها ألقاباً وقد تميزت بشعار تعرف به وخاصة الألقاب التي ترجع إلى وصف أو دين أو مذهب أو لون أو بلد أو قبيلة أو شعب من الشعوب.(2/26)
ولا غرابة في ذلك لأنه يرجع إلى ضرورة التعارف بين هذه التجمعات والتمايز بين هذه المسميات، وصدق الله القائل: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)).
فمما يطلق من الألقاب مثل لقب البشرية نسبة إلى آدم أبي البشر، والإنسانية نسبة إلى هذا الإنسان، والأمة العربية نسبة إلى هذا الجنس الذي يتكلم هذه اللغة، وأطلق العرب على الأمم التي لا تنطق بلسانهم لقب العجم نسبة إلى العجمة التي في لسانهم وغير ذلك كثير.
وكذلك ألقاب النسبة إلى القارات مثل الإفريقي، والآسيوي، والأوربي، وكذلك النسبة إلى البلدان كاليمني، والشامي، والحجازي، والنجدي، والمصري، والعراقي، وغير ذلك كثير بعدد البلدان.
وكذلك ألقاب النسبة إلى الدين مثل المسلمين نسبة إلى دين الإسلام، ومثل اليهود نسبة إلى يهوذا، أو نسبة إلى "قولهم إنا هدنا إليك"، ومثل النصارى نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة أو نسبة إلى قولهم "نحن أنصار الله"، والبوذية نسبة إلى بوذا، والبهائية نسبة إلى بهاء الدين وغير ذلك.
وكذلك النسبة إلى مذهب اعتقادي مثل الأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، أو الماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي، وكذلك ألقاب الخوارج كالحرورية نسبة إلى حروراء البلد التي خرجوا منها، والأباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض زعيم منهم، وفرق الشيعة كثيرة جداً كالإثناء عشرية نسبة إلى قولهم بوجود إثنا عشر إماماً معصوماً، وكالباطنية نسبة إلى القول بأن النص القرآني له ظاهر وباطن وغير ذلك من فرق الشيعة، ويقال في النسبة إلى التشيع بشكل عام شيعي.
وكذلك النسبة إلى مذهب فقهي كالشافعية نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والمالكية نسبة إلى الإمام مالك، والحنيفية نسبة إلى الإمام أبي حنيفة، والحنابلة نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل، والزيدية نسبة إلى الإمام زيد بن علي.(2/27)
وكذلك النسبة إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والاشتراكية الماركسية أو اللينينية، وكذلك الأحزاب القومية كالبعثية والنسبة إليها بعثي، أو النظريات كالدارونية نسبة إلى داروين وغير ذلك، والمقصود إنما هو المثال وليس الحصر.
وكذلك النسبة إلى الزعماء الثوريين المعاصرين مثل الناصريين نسبة إلى جمال عبد الناصر، والعفالقة نسبة إلى ميشيل عفلق النصراني مؤسس حزب البعث وغير ذلك.
ويأتي في خضم هذه النسب والانتماءات نسبة السني إلى مذهب أهل السنة، والسلفي نسبة إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والأثرى نسبة إلى أتباع الأثر، وفي كتب التراجم مجموعة يلقبون بهذا اللقب مثل المحدث زين الدين عبد الرحيم العراقي صاحب ألفية مصطلح الحديث الذي يقول في أولها:
يقول راجي ربه المقتدر عبد الرحيم الحسين الأثري
ومن ذلك النسبة إلى الوظائف والمهن كالبقال والجزار والعطار والسمان والحجام والخياط والبزاز ووو..الخ.
إذا تبين لك هذا فإن هذه الألقاب يختلف حكمها باختلاف مدلولها، فمنها ما النسبة إليها فرض مثل النسبة إلى الإسلام، ومثل النسبة إلى السلف إذا قصد بذلك مذاهبهم في الاعتقاد، أعني مجرد اختيار مذهبهم، ولا يلزم أن يكون مجرد اللقب شعاراً ملازماً في كل حال إذا حصل المضمون.
ومنها ما النسبة إليها كفر وحرام كاليهودية، والنصرانية، والشيوعية، وما اشتق منها من المذاهب الاشتراكية المخالفة لشريعة الإسلام، ولهذا قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: ( من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال )(يعني قال هو يهودي أو نصراني ليفعلن كذا وكذا).(2/28)
ومنها ما النسبة إليها بدعة لا تجوز كالخوارج والإثنا عشرية، ومنها ما النسبة إليها مباحة إذا قصد بها مجرد التعريف ولم يقصد بها التفاخر كالنسبة إلى المذاهب الفقهية المعروفة، أو إلى العرب، أو البلدان فيقال شافعي وحنبلي وعربي ويمني ونجدي، وكذلك النسبة إلى المهن التي لم يكرهها شرع ولا عرف سليم كالبزار والخياط، ومنها ما النسبة إليها مكروه لبعض الناس دون بعض كالمهن المحتقرة الخارمة للمروءة.
إذا تبين لك هذا وظهر لك كل ما حولنا من هذه الألقاب والمسميات فما الذي حرَّم على السلفيين فقط هذه النسبة الشريفة وأباح للآخرين أن ينتموا إلى ما يشاءون من هذه الفرق والأحزاب ولله در القائل:
أحرام على بلابلة الدوح حلال للطير من كل جنس
وخاصة إذا عرفنا أن حقيقة هذا المذهب هو النظر فيما استجد من العقائد والتصورات والطرائق التربوية والشعائر التعبدية وعرض ذلك على الوضع الذي كان عليه في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى المعروفين، فإن وجد فيهم وقالوا به واعتقدوه فهو من الدين، وإن لم يوجد أو وجد ورفضوه رفضناه لأن ما لم يكن ديناً لهم فلا يجوز أن يكون ديناً لنا، أما المستجدات من الأمور الراجعة إلى المصالح الدنيوية فلا يشترط أن يكون للناس فيها سلف.
لقد كان منطق العلم والإنصاف يقتضي أن تتوجه الجهود للتنفير عن الألقاب التي ترجع إلى دين كفري، أو مذهب إلحادي، أو عقيدة بدعية لما يترتب على ذلك الانتماء من مخاطر على عقيدة المسلمين وعلى وحدة صفوفهم بسبب اختلاف العقائد والأفكار، أما أن يرحب بتلك الألقاب، وتطبَّع النفوس والألسنة والأقلام على تقبلها، وتحارب الألقاب التي تهدف إلى تعميق الفهم الأصيل للإسلام وإرجاع الأمة إلى ما كان عليه الرعيل الأول من المناهج والاعتقاد فهذا شيء عجيب.
وأريد في هذا المقال أن أوضح أكثر في الاستدلال على مشروعية هذه النسبة فأقول:(2/29)
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإذا أردنا أن نحكم على مذهب أو عقيدة أو لقب فلا بد أن نتصور مفهومه عند أهله أولاً، ثم ننظر في الكتاب والسنة لنلتمس حكم الله فيه من الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الندب أو الإباحة، فمثلاً إذا أردنا أن نصدر حكماً على المذهب الاشتراكي أو الشيوعي كمذهب إلحادي فلا بد من معرفة ماهيته، ثم ننظر في حكم الله فيه، وهكذا إذا أردنا أن نحكم على الخوارج مثلاً كمذهب يزعم أهله أنه إسلامي فلا بد من تصور مذهبهم، ثم الحكم عليه بما يستحقه شرعاً وهكذا سائر الفرق.
وإذا نظرنا في التعريف السابق لمدلول لقب السلف أو السلفية فلا يبدو لي أن هناك مانعاً شرعياً يمنع من هذا اللقب لسلامة مدلوله من المحاذير الشرعية، بل ولتضمنه مقصداً من المقاصد الشرعية العظيمة ألا وهو أنه يفرض على أصحابه تصور هذا الدين كما كان في صورته الأولى، ورفض الزيادة عليه والنقص، وما أظن أن أحداً يعترض على هذا المقصد من حيث الجملة.
وهنا أمور حصل الاتفاق فيها وينبني عليها الكلام في صحة هذه النسبة من عدمها، وبيان ذلك أن المسلمين أو على الأقل الحركات الإسلامية متفقون على أن أحوال الأمة الإسلامية اليوم أحوال مزرية ومتدهورة في كل المناحي، وعلى أنها قد تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فنهبوا ثرواتها، وغيروا ثقافتها، وفرقوا صفوفها، وجمدوا نشاطها، وجعلوها في المؤخرة.
ومتفقون على أن سبب ذلك هو البعد عن الدين، وأن هذا البعد يتمثل إما في رفض التحاكم إلى هذا الدين، ورد مسائل النزاع إليه، واعتماد مصادر أخرى مغايرة، وإما إلى سوء فهم في تصورنا لقضايا متعددة منه، ومتفقون على أن الحل والمخرج لنا مما نحن فيه هو التمسك بديننا، ورجوعنا إليه.(2/30)
ومتفقون - باستثناء الروافض - على أن الصحابة والتابعين هم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لتمثيل هذا الدين، وما منا من أحد إلا إذا أراد أن يشيد بأمجاد هذه الأمة، وتاريخها المشرق، وإنجازاتها الحضارية؛ فإنه لا يجد ما يقوله إذا لم يكن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، ومن سار على منهاجهم؛ موضع استشهاده وإشادته، فهم الصفحة المشرقة المحتوية على كل الأمثلة التي نفاخر بها الأمم سواءً من ناحية سلامة المعتقد والتصور والفكر الذي أقاموا به تلك الحضارة وشادوا عليه بنيانها، أو من ناحية العدل وقيم التعامل مع مختلف الأمم التي وجدت نفسها تحت حكمه وقيادته.
وبعد هذا الاتفاق على أحوال الأمة، وعلى ضرورة الرجوع إلى الدين، واعتباره العنصر الرئيس في إحيائها؛ فقد قام كل فريق من هذه الأمة - من المهتمين بالدعوة إلى الله - بما يراه واجباً في دعوته لأمته، وأخذه بيدها لإرجاعها إلى دينها، فترافقوا في سيرهم، وتفارقوا في مناهجهم ومفاهيمهم لهذا الدين.
فمنهم من يرى أن المنهج الواجب الاتباع هو ما عليه الموروث الصوفي من الاستنجاد بالموتى، والاستغاثة بهم، والاشتغال بإحياء الموالد والأناشيد الدينية، وإحياء طرائق الفرق الصوفية السلوكية كالشاذلية، والرفاعية، والقادرية وغيرها، والدعوة إلى التقليد المذهبي والجمود الفقهي وغير ذلك، مدعين أن الحل لما تعيشه الأمة من الناحية الفكرية والسلوكية هو هذا المنهج الذي هم عليه، وأن هذا هو الدين الذي أمرنا الله باتباعه واعتناقه.
فإذا عرضنا هذه المنطلقات على ما كان عليه الصحابة فإننا لا نجدها في سلوكياتهم وعباداتهم وأعمالهم، بل نجد أحوالهم ضد هذه الأوضاع والطرائق.(2/31)
وفريق آخر يرى أن الدين هو ما قاله الأئمة المعصومون - في زعمه - وما فهموه منه وهو مذهب يقوم على تقديس أهل البيت، وطلب الشفاعة منهم، والاستغاثة بهم في الملمات، وقد وصفوهم وصفاً يخرجهم عن الطبيعة البشرية، ويقوم دينهم هذا على الطعن في الصحابة، وتكفير معظمهم، ويقومون بأعمال جاهلية تشوه جمال الإسلام وصفائه مثل: ضربهم لأنفسهم بالسلاسل، وتفجير الدماء من مواضع عديدة من أجسامهم ورؤوس أطفالهم؛ متقربين إلى الله بذلك، زاعمين أن هذا هو دين الله الحق الذي تجب دعوة الأمم إليه، وأنه هو الدين المعني بقوله تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).
ومعلوم براءة الدين الإسلامي، وبراءة السلف الصالح - وعلى رأسهم الإمام علي رضي الله عنه، وعن أهل بيته - من هذه الأوضاع كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب - كما يقال -.
وأتى فريق آخر فزعم أن الدعوة إلى الله والرجوع إليه يكمن في سلوك المناهج الفلسفية، والطرائق الكلامية، والمحارات العقلية في الدفاع عن العقائد الدينية، والأحكام الشرعية، أمام الهجمات الفكرية الصليبية والاستشراقية، وأن النصوص الشرعية لا تكفي في هذا الباب، لأن القضية عقلية، والنصوص الشرعية مساعدة فقط لا يعتمد عليها، ولا تنفرد بالتأصيل لهذه القضايا، وأعادوا دعوة أسلافهم إلى تلك المناهج جذعة ممن أطلق عليهم لقب أهل الكلام مع علمهم بمخالفة السلف الصالح لها، وتحذيرهم منها.
وفريق آخر أذهلته الحضارة الغربية بوسائلها المادية، وطرائقها السياسية والاجتماعية، ومظاهرها المدنية، بل ومناهجها الفكرية؛ فصار مجنوناً بها يهذي في كل الأوقات بالإشادة بها، داعياً إليها، ساعياً إلى التوفيق بينها وبين خصائص الحضارة الإسلامية بطرق ملتوية، وتأويلات فاسدة، متألماً من تخلف الأمة عن ذلك الركب، وصار يركب الصعب والذلول في طرق التوفيق، فأتى بما أضحك منه العقلاء.(2/32)
هذا بالإضافة إلى التوجهات الأخرى (غير الحركات الإسلامية) التي استدبرت مكة والمدينة، واستقبلت بوجهها إلى أثينا وواشنطن، ولندن وباريس وموسكو مثل: مناهج الأحزاب العلمانية القومية منها والوطنية، والديمقراطية منها والاشتراكية، والتي تشعبت بها السبل، وتفرقت بها الطرق، فلم تزد الأمة إلا خبالاً، ولم تجن الأمة منها إلا مزيداً من التفرق والتشرذم، والعداء والتربص بعضها ببعض.
فأمام هذه التوجهات برمتها فما ذنب من يتبنى في دعوته لأمته الإسلامية طريقة سلفها الصالح في الاعتقادات والعبادات والسلوك، وطرائق التفكير والحكم على الأشياء، معتمداً على كتاب الله وسنة رسوله، مستقبلاً بوجهه وفكره مكة والمدينة مهبط الوحي، رافضاً الإقتداء بماركس ولينين وإنجلز وغيرهم من مفكري اليهود والنصارى قديماً وحديثاً، داعياً أمته إلى التمسك بهذا الدين في العقيدة والشريعة، ولا يمنع من الاقتباس من هذه الحضارات العلوم الإدارية، والاستفادة من تكنولوجيا العلوم المختلفة، والثورات المعلوماتية، والسباق في الإحاطة بهذه العلوم، والمشاركة في الإبداع فيها، والإتيان بجديدها العربي والإسلامي، لأن هذه العلوم الآلية لا تختلف باختلاف الثقافات والأديان والعقائد، فهذه التكنولوجيات هي في لندن وواشنطن وباريس وبرلين النصرانية، وكانت في موسكو الشيوعية سابقاً، وهي في الصين الشيوعية حالياً، وهي في اليابان الوثنية، وماليزيا والباكستان الإسلامية، والهند المتعددة في ثقافتها وعقائدها، فليس بين ديننا وبين التقدم الصناعي ووسائل القوة والترفيه والتيسير المعيشي على الناس أي عداوة إن لم يكن يوجبه.(2/33)
الدعوة السلفية في أصلها دعوة للعودة إلى الإسلام في صورته الأولى الخالية من الشوائب البدعية، وقد اتفق أهل الإسلام بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وهذا يعني أن الدعوة السلفية كذلك، لأنها هي الإسلام نفسه بدون زيادة ولا نقصان، والقول بأنها لا تتعامل مع "روح العصر" هو في حقيقته طعن مستتر للإسلام نفسه بأنه لا يتعامل مع روح العصر، هذا أولاً.
ثانياً: هذه الشبهة يوردها العلمانيون على الإسلام ذاته - بشكل عام -، ويوردونها على الحركات الإسلامية كلها بأنها رجعية ومتخلفة، وقد اتفق الجميع على تضليلهم وتبديعهم بهذا القول، وهذا الحكم يسري على من رمى الدعوة السلفية بذلك، لأنه ترديد لما يقوله أعداء الإسلام من اليهود والنصارى في الإسلام، وهو جهل فضيع بالإسلام وتعاليمه وأحكامه المتعددة والشاملة لجوانب الحياة كلها.
ثالثا: لفظة الرجعية لفظ مجمل يحتمل معاني عديدة منها حق ومنها باطل، وهو مصطلح كان رائجاً في أواسط القرن الماضي حين كانت الأحزاب الشيوعية والقومية التقدمية تهرج به في وجه البعث الإسلامي، والحركات الإسلامية التجديدية، وخاضت معها معارك ضارية فكرية وعسكرية، فأين تلك الأحزاب الآن؟ لقد أصبحت خبر كان، وأثراً بعد عين، أما الحركات الإسلامية ولله الحمد فلا تزداد على مرور الأيام إلا قوة وانتشاراً، لأنها تربط حاضرها بماضيها، وحركتها بأصولها، وتتعامل مع العصر انطلاقاً من ثوابتها (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).(2/34)
رابعاً: ليس الرجعية كلها مذمومة لأن من مدلولها اللفظي التي تحاربه "الأحزاب التقدمية" الرجوع إلى الماضي، والاستفادة مما سبق من تجارب الأمة الإسلامية في أجيالها الأولى، والعودة إلى قيم الأمة وأخلاقها وثوابتها، وثقافتها وأصولها الحضارية، وهذه مبادئ لا يجوز التخلي عنها، ولا التنكر لها، وتسميتها رجعية للتنفير عنها لا يغير من حقيقتها شيئاً، فأهلاً وسهلاً بالرجعية إذا كان هذا مدلولها، لأنها زادنا الروحي والفكري والأخلاقي والشعائري، ولأنه لا مكانة لنا بين الأمم إذا تخلينا عنها، بل سنصبح أمة ممسوخة مقطوعة لا ماضي لها ولا تاريخ.
خامساً: لا يستطيع من يرمي الدعوة السلفية بالرجعية أن يعمم هذا اللقب على كل رجوع إلى الماضي، وكل نظرة إلى الخلف، وكل توقف في مستجد؛ إذا كان يستحق التوقف عنده، فيرمي من يوحد الله أو يصلي أو يحج أو يصوم رمضان، أو أراد أن يقرأ القرآن، أو يدرس أحكام الشريعة الإسلامية بأنه رجعي!! وهذه أحكام وأركان لا بد من الرجوع فيها إلى الماضي، وإلى الرعيل الأول لمعرفة كيف نزلت تلك الأحكام، وكيف طبقها السلف، وكيف نطبقها اليوم، ومن تجرأ على رمي أحد بذلك فقد خرج من الإسلام، إذن فقد اتفقنا على قدر مشترك من الرجوع والرجعية.
فنحن نقول: يجب الرجوع في هذا الأمر وغيره إلى كل ما أوجب الله ورسوله، الرجوع إليه في أمور الدين بجوانبه المتعددة من عقيدة وعبادة، وسياسة وأخلاق، وأحكام اجتماعية واقتصادية، وأحكام السلم والحرب، وهم يتحكمون في هذه القضايا بأهوائهم، يأخذون ما يشتهون، ويتركون ما لا يشتهون بحجة العصرنة والتحديث!!
سادساً: هذا الاصطلاح "روح العصر" فيه إجمال، فما هو المقصود بروح العصر الذي رفضته الدعوة السلفية ولم تتعامل معه؟! أهو روح العصر الإيماني والتعبدي، أم الفكري والعلمي، أم الفني والثقافي، أم الاقتصادي والصناعي، أم العسكري والسياسي، أم ماذا؟(2/35)
فإن كان المقصود من هذا كله ما يخالف الإسلام في نصوصه وأحكامه، وما يخالف فهم السلف الصالح لهذا الدين؛ فما العيب في رفضها لذلك؟! وهل أصبحت المحامد عيوباً!!
وليس هذا من خصائص الدعوة السلفية، إذ كل التجمعات الفكرية والأيديولوجيات المعاصرة قد تعاملت مع مستجدات العصر الفكرية والثقافية انطلاقاً من مبادئها، فقبلت أشياء ورفضت أشياء، فالعلم اليوم يعج بالأفكار المتعارضة والمتناقضة التي لا يمكن الأخذ بها كلها، ولهذا ابتدع لهم شياطينهم فكرة القبول بالرأي والرأي الآخر من أجل أن يعيشوا ويتعايشوا مع بعض.
سابعاً: المستجدات الدنيوية التي تخدم الإنسان وترفهه وتيسر عليه ما يصعب من أمور الحياة، وتقدم له وسائل الاتصال والنقل، والتعليم والعمران، والغذاء والدواء وغير ذلك ليست هي موضوع الصراع بين الدعوة السلفية وبين ما خالفها من الدعوات والأفكار المستوردة، لأن هذه الوسائل ليست فكراً ولا أيديولوجيات، فهي بيد الشيوعي والرأسمالي والوثني والمسلم على حد سواء، ولكن الجاهلين يريدوا أن يمرروا القضايا الفكرية مع الوسائل المادية، موهميننا بأننا لن نتأهل لاستعمالها إلا إذا اعتنقنا الاشتراكية، وتبنينا الديمقراطية، وتشبعنا بالقومية، وأكلنا الأموال الربوية، واستمعنا الأغاني الغرامية والوطنية، وشاهدنا الأفلام الخلاعية، وشربنا المشروبات "الروحية!" وتركنا الصلاة، وحلقنا اللحى، وصرنا شيعاً وأحزاباً، وهذا من تلبيسهم وهزيمتهم الروحية والإيمانية.(2/36)
ثامناً: السلفية والسلفيون موجودون في كل مكان في العالم، فهم في العالم المتقدم "الصناعي - الأول"، وفي العالم "المتخلف - الثالث"، وفي العالم الثاني، كما تسمى، وهم متعايشون مع جميع الأوضاع الصناعية والتكنولوجية، ويتفاعلون مع كل التقنيات المتجددة، فلا العالم الصناعي رفضهم، أو عجز عن التعامل معهم لأجل عقيدتهم، أو لكونهم لا يفهمون تكنولوجيته وتقنيته، ولا هم الذين تسببوا في تخلف العالم الثالث، أو شجعوا على تخلفه، أو أفتوا ببقائه في التخلف، وحرموا عليه وسائل العيش والرفاهية والتقدم، فرمي الدعوة السلفية بهذه الترهات رمي للكلام على عواهنه بلا وعي، ولا تقوى، ولا علم.
تاسعاً: المرفوض من المستجدات هو المذاهب الكفرية، والقوانين التشريعية الوضعية العلمانية، والتبرج والاختلاط والخلاعة والإباحية، والتبعية الفكرية والاقتصادية والثقافية، والأوضاع الحزبية التي أوهت القوى، وفرقت الصف، وزرعت الأحقاد، وفتحت الباب للمستعمر للتسلل إلى عقيدة المجتمع الإسلامي وأخلاقه وقيمه، وهذه أشياء ضارة يرفضها كل ذي عقل سليم، وغير جائز أن يقال: إن الحياة لا تكون حياة والتقدم لا يكون تقدماً والتطور العلمي لا يكون تطوراً إلا بهذه الأفكار الهدامة، والمذاهب الإلحادية.
عاشراً: وأخيراً، قد يكون البعض ممن ينتمي إلى هذا المنهج بسوء فهمه، وقلة علمه؛ يعطي صورة غير حقيقية عن هذه الدعوة، فهذا شأنه وشأن عموم المسلمين اليوم الذين لا يمثلون الصورة الحقيقية للإسلام مع انتسابهم جميعاً إليه، فهل نرفض الإسلام من أجل إساءة فهم بعض المسلمين للإسلام؟! كما يراد أن يرفض المنهج السلفي من أجل إساءة بعض منتسبيه إليه.(2/37)
ثم أيها المتقدمون المعادون للدعوة السلفية، دعونا من هؤلاء الذين تصفونهم بالرجعيين المتخلفين المتطرفين، هل أغنيتم عن الأمة شيئاً؟ هل رفعتم عنها الذلة التي تعيشها؟ ألستم اليوم تفتحون مصانعكم العسكرية للتفتيش المهين المذل؟ ألستم من ينادي بالسلام مع المغتصبين اليهود ومن وراءهم؟ ألستم اليوم معه يداً بيد في محاربة ما أسميتموه بالتطرف الإسلامي؟ فكنتم حربته التي يطعن بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولسانه الذي ينطق به، وعقله الذي يفكر به!! أليس من يذهب اليوم إلى المستعمر لدعوته إلى بلداننا ليسلموا له مقاليد الأمور، ويطلقوا يديه في الثروات والتحكم في القرار من أجل أن يمنحهم الديمقراطية؛ هم الذين يرفعون شعار التقدم والتحديث؟! أو يرفع شعار البدعة والضلالة؟! أليس العدو الحقيقي الأكبر "للشيطان الأكبر" واليهود المعتدون؛ الذي يحاربه الغرب الصهيوني باسم التطرف، وعدم القبول بالآخر هو هذا المنهج السلفي العظيم صاحب مبدأ الولاء والبراء.
مواصلة للحوار حول ما يثار من اعتراضات وشبهات على هذا المنهج العظيم - منهج السلف الصالح، منهج أهل السنة والجماعة - ومنها وصف الدعوة السلفية بأنها تثير الخلاف والفرقة، وتعيش في جو الصراعات والردود، وأنها بعيدة عن البناء والتوحد، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: يجب التسليم بأن المفارقة لأهل الباطل والرد عليهم أصل من أصول الإسلام، لأن القرآن والسنة مملوءان بالرد على المخالف، والإنكار والتشنيع عليه، بحيث يقطع الواقف على ذلك ببداهة هذا الأمر.
ثانياً: ويجب التسليم كذلك بأن الوحدة والألفة والأخوة والاجتماع أصل آخر عظيم من أصول الإسلام، وثابت من ثوابت منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة.(2/38)
ثالثاً: يجب أن يعلم كذلك أن من أصول أهل السنة والجماعة الأخذ بالأصول كلها والثوابت جميعها، والتوفيق بين الأدلة على وجه يعمل بها كلها، وأن لا يكون شيء منها مهجوراً، وهذا من أعظم الأصول التي أكرم الله بها أهل السنة ووفقهم لها بحيث تستقيم طريقتهم، وتتآلف أصولهم، وتوزن أحكامهم على المخالف بميزان العدل والقوة معاً.
رابعاً: إذا فهم هذا فإنه يجب إعمال أصل المفارقة، والرد على المخالفات، ويجب في نفس الوقت إعمال الأصل الآخر وهو الحرص على الوحدة والائتلاف، ولا يجوز تدمير أحدهما بالآخر، وهذا يحتاج إلى فقه التنزيل من وجوه عديدة منها:
1) الحفاظ على التصور الشامل لكلا الأصلين عند التطبيق والانطلاق منهما معاً حتى لا يطغى أحدهما على الآخر إما بتغليب المفارقة والوحشة من المخالف، أو بتغليب جانب العقل المعيشي وأخلاقية المداهنة والمجاملة على حساب الدين والمبدأ.
2) عند التأمل في هذين الأصلين يظهر في كل أصل منهما عند التزاحم مسائل تندرج في قائمة الأصول التي قد لا تقبل التنازل لحساب المسألة الأصلية الأخرى، وبعضها قد يقبل ويظهر أيضاً في كلا الأصلين مسائل فرعية يمكن أن تتنازل إحداهما للأخرى، وكذلك مسائل الأصول حين تتعارض مع مسائل الفروع فيحتاج المجتهد إلى الموازنة في التعامل مع تزاحم هذه الأصول مع الفروع، ومع بعضها البعض، وتقديم الأهم فالأهم، والأعظم فالأعظم، ولو على حساب فوات ما هو أدنى، لأن هذه هي قاعدة تزاحم المصالح والمفاسد كما بينها المحققون من أمثال العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم، وليس المراد الإسقاط الدائم والإلغاء التام لهذه الأصول والفروع من قبل بعضها البعض فإن هذا لا يجوز في أصل ولا فرع، وإنما المراد أيهما يقدم في التطبيق عند التزاحم والآخر ينتظر به حتى الوقت المناسب له.(2/39)
3) ليست هذه الأصول على أهميتها وثباتها أصولاً لا تقبل إلا الصرامة في التنفيذ الجاف في كل حال وفي كل مكان؛ بل تطبيقها خاضع للقوة والضعف من كلا الجانبين الراد والمردود عليه، والمنكر والمنكر عليه، وحال المخالف من كونه متقبلاً أو معانداً، عالماً أو جاهلاً، مؤدباً أو سفيهاً، قاصداً للحق أو مثيراً للشغب، ينفع معه اللين أو يناسب له التغليظ، وهذا الاختلاف في التنزيل والتطبيق يرجع إلى البصيرة في الدعوة التي أمر الله بها في قوله تعالى: (( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ))، وهذه البصيرة تشمل الشدة والتشنيع على المخالف في الموقع المناسب كما قال تعالى: (( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ))، وقال (( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً))، وفي المقام الآخر (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))، وقال تعالى: (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ))، وقال في بيان اعتبار حال المخالف (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ))، فجعل للظالم منهم حكماً ولغير الظالم حكماً آخر، وقال تعالى: (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً )).
والخلاصة: أن مثل هذه الأمور ترجع إلى أصل عظيم من أصول أهل السنة وهو:
هل يمكن أن يجتمع في الشخص الواحد ما يحب من أجله وما يبغض من أجله، فيحب من جهة ويبغض من جهة، ويوالى من جهة ويعادى من جهة، مع التزام العدل له وعليه؟!!(2/40)
قال أهل السنة نعم يمكن ذلك، والدليل على ذلك قوله - - صلى الله عليه وسلم - - للذي لعن شارب الخمر بعد أن أقيم عليه الحد: ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )، فجعله محباً لله ورسوله من جهة ما يعرف عنه من محافظته على شعائر الإسلام، ومناصرته للرسول، وحبه له، وولائه لأهل الإسلام، وأقام عليه الحد والتعزير من جهة ارتكابه لتلك المعصية، إذا علم هذا فإنه يقال على هذه الشبهة ليس إثارة الخلاف والفرقة والعيش في جو الصراعات مع المخالف مذموماً دائماً، ولا هو من المعايب بإطلاق، لأنه لو كان كذلك لكان تبني الخلاف من قبل المسلمين مع الكفار مذموماً، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، فإن الخلاف معهم مطلوب شرعاً ما داموا على كفرهم، وهو واقع كوناً لا مفر منه ولا يمكن رفعه ولو اجتمع من بين أقطارها، لأن الخلاف معهم فارق ظاهر بين الهداية والضلالة، وبين المهتدين والضالين قال تعالى: (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ))، فمدحهم لمخالفتهم لأهل الباطل، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: (خالفوا المشركين ) وهذا أمر بالمخالفة العامة إلا ما كان من الأمور المشتركة الدنيوية التي ليست من خصائص المخالفين (المشركين)، وجاء في الحديث (ومحمد فرْق بين الناس، وفي لفظ فرَّق بين الناس)، وقد قال المشركون عنه أنه أتى بدين يفرق به بين الوالد وولده، وقال تعالى مبيناً أن هذا أمر كوني لا يتصور رفعه: (( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ))، وهذا محمول على المخالفة في الأصول، فيدخل فيه الخلاف مع الكفار، وأهل البدع كل بحسبه.(2/41)
فإن قيل المراد إثارة الخلاف والفرقة بين المسلمين!! قيل: وإن كان الخلاف بين المسلمين مذموماً في الجملة لكن ليس إثارة الخلاف بين المسلمين مذموماً دائماً، فإن المخالف من المسلمين قد يكون مرتكباً لظلم، أو لفسق، أو لبدعة، أو لمنكر من المنكرات، وقد يكون من المتنفذين المستكبرين الذين تتجمع حولهم عصابات المصالح والمنافع، فالواجب ردعه وزجره، وحشد الناس وتحريضهم عليه، وإثارة الخلاف معه وضده، والأخذ علي يده بالقوة والغلظة، إذا كان لا ينفع معه من الأساليب إلا ذلك حتى يقف عند حده، والتجمعات الحزبية المعاصرة، وغير الحزبية - الشرعية منها، وغير الشرعي - من أصرح الأمثلة على ذلك، إذ لولا مسائل الخلاف التي بينهم والتي لا يمكن أن يتنازلوا لبعضهم بعضاً فيها لما وجدت تلك التجمعات أصلاً، ولكانوا فريقاً واحداً، والواقع أن كل فريق يرى أن من أعظم الوسائل التي تجمع الناس عليه وتقنعهم بأفكاره ورؤاه وسيلة التنفير عن المخالف له، وبيان مزالقه وأخطائه، وأنه يجب عليه شرعاً أن يحذر من تلك الأخطاء احتساباً وابتغاءً لوجه الله، وصيانة للأمة وللبلاد من تلك التجاوزات والأخطاء.(2/42)
وأيضاً ليس إثارة الخلاف بين المسلمين سمة السلفيين وحدهم، أو الدعوة السلفية وحدها، إذ ما من دعوة ولا فرقة إلا ولها خصائص تميزت بها وفارقت غيرها فيها، وخالفت من أجلها، وهذه فرق المسلمين على البسيطة كلها تصرح بمخالفتها لغيرها، وبمخالفتها لبعضها البعض، فالمعتزلة يخالفون أهل السنة في مسائل، والشيعة يخالفونهم أيضاً في مسائل، ويظهرون مخالفتهم لهم، ويثيرون الخلاف إلى حد اعتباره مصيرياً، وأحسنهم من يريد أن يُعترف به، ويَعترف بالآخرين، وكذلك الحركات الإصلاحية المعاصرة ما منها فرقة ولا حركة إلا ولها ملاحظتها على الأخرى، بحيث يصبح توجيه اللوم على فئة واحدة منها فقط وتحميلها مسؤولية إثارة الخلافات بين المسلمين تعنتاً فكرياً، وظلماً اجتماعياً لا يجوز السكوت عنه.
إذ لا يلتفت إلى هذه الشبهة ولا كرامة، ولكن ينبغي أن يُنصح السلفيون وغير السلفيين عموماً بأن يقدروا المسائل قدرها، ويتحلوا بالعلم الراسخ، والأخلاق الجمة، والأسلوب الحكيم، والرحمة الشاملة، والبعد عن الهوى والعصبية بغير حق، والحرص على حصول الإنكار مع الحفاظ على البناء والتوحد، والاجتماع مع بعضهم ومع غيرهم، ومراعاة المصالح والمفاسد في مسائل الخلاف، وأما الخلاف فلا بد منه، والشدة أحياناً لا غنى عنها، وإن كان الرفق هو الأصل.
ومما يثار من الشبهات على الدعوة السلفية قول البعض عنها: الدعوة السلفية أو السلفيون يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، وأن الحق معهم مطلقاً، ويفسقون ويبدعون ويضللون ويكفرون من سواهم.
والجواب عنها من وجوه:(2/43)
أولاً: مما لا شك فيه أن المعارف والمعلومات الذهنية والفكرية - عقدية أو غيرها - تنقسم إلى قسمين: حق وباطل، ومعروف ومنكر، ولا يمكن إنكار هذه الحقيقة، فالله حق وما عبد من دونه فهو باطل، والمتمسك بهذه الحقيقة له الحق الكامل أن يدعي امتلاك الحقيقة وأن من خالفه فيها أنه على باطل صراح، وكذلك القرآن الكريم حق وما عارضه فهو باطل، وكذلك محمد - - صلى الله عليه وسلم - - حق ومن ادعى النبوة بعده فهو على باطل، وهكذا يقال في كثير من القطعيات الدينية والدنيوية.
ثانياً: هذه الشبهة متلقفة من قبل الأحزاب العلمانية، وقد ذكرها الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي في كتابه " الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها "(ج1/ص53)، حيث ذكر عدة أصول عقدية لهم منها زعمهم: أن ليس هناك حقائق مطلقة، وأنه يجب إعادة النظر في كل شيء، والقضاء على الفكر الثابت، والزعم بأن كل شيء متحول، وأن أي فكرة أو قضية لها سمة الثبوت فهي تخلف ومهانة.
ثالثاً: لماذا توجه هذه الشبهة إلى الدعوة السلفية والسلفيين فقط، وكل من ذهب إلى رأي أو مذهب يرى أن ما ذهب إليه هو الحقيقة، فالفرق الإسلامية كل طائفة تدعي أن ما اختارته من المذاهب والآراء هو الحق، وهم يعبرون عن ذلك دائماً فيقولون مثلاً: ومذهب أهل الحق، وقال أهل الحق، وذهب المحققون، والذي اختاره المحققون... إلى غير ذلك من العبارات التي تدل على أن صاحبها جازماً بما ذهب إليه، معتقداً بطلان ما خالفه.(2/44)
بل حتى أهل الملل والأديان الأخرى يرون الأمر كذلك، فاليهود يرون أن ما هم عليه هو الحقيقة، والنصارى كذلك، والشيوعيون هم الذين قالوا بحتمية انتصار المذهب الشيوعي، والقوميون لا يزالون يرددون حتمية الحل القومي، والعلمانيون يرون أن الحقيقة التي لا ريب فيها هي العلمانية اللادينية، حتى رفعوا شعار (العلمانية هي الحل) في مقابل شعار (الإسلام هو الحل) الذي يرفعه الإسلاميون، وأمريكا وعملائها في المنطقة يرون حتمية الحل الديمقراطي، وأن الديمقراطية هي الخيار الوحيد والأفضل، وأنها إن كانت سيئة فغيرها أسوأ منها، وهذا تفضيل لهذا المنهج الغربي الوارد على الإسلام الذي ارتضاه الله لنا ديناً، وأتم علينا به النعمة، وأخبر أن من ابتغى غيره فإنه في الآخرة من الخاسرين.
رابعاً: نسأل من يروج هذه الشبهة ضد الدعوة السلفية فنقول له: هل لديك ميزان محدد منضبط يمكن من خلاله أن نعرف الحقيقة، وهل القرآن والسنة الصحيحة حقائق معترف بها لديك، وهل هناك حقائق في هذا الوجود أم أن الأمور كلها نسبية، فما يراه هذا حقاً قد يراه غيره باطلاً، ولا يوجد حقيقة عند أحد، وهل هناك حقائق مشتركة بين الناس اتفقوا عليها أم لا يوجد أي حقيقة، وهل قولك على السلفيين أنهم يدعون أنهم يدعون امتلاك الحقيقة هو أيضاً قول يدعي امتلاك الحقيقة أم هو وهم وبهت لا أساس له، فإن جزم بشيء من هذه الأمور وجهنا إليه هذا الاتهام الذي يتهم به الدعوة السلفية وهو ادعاء امتلاك الحقيقة، فما كان جوابه في هذا يمكن أن يكون جواباً لنا، وإن أنكر الحقائق فليس أهلاً للكلام معه.(2/45)
خامساً: مثل هذه المقالة يصلح أن تقال بين أصحاب المنهج الحق الواحد المتفقين على أصول دينهم وثوابته، وإنما خلافاتهم فيما لا نص فيه، أو فيه نص مختلف في صحته، أو مختلف في دلالته لاحتماله لغة أو شرعاً معنى غير المعنى الذي ذهب إليه أحد المختلفين، أما بين المناهج المختلفة مثل: الإسلام، واليهودية، أو النصرانية، أو غيرهما من الملل كالعلمانية، وكذلك منهج أهل السنة ومنهج من خالفهم من أصحاب المقالات والبدع من الروافض والخوارج والمشبهة والمعطلة والباطنية والدروز، فاستعمال مثل هذه العبارة تلبيس وتشكيك في مسلمات أهل الإسلام، واعتقاد أهل السنة، وفهمهم للنصوص، وتجويز أن يكون الحق عند غيرهم، وأن يكونوا على خطأ، وهذا ممنوع.
سادساً: هناك أيضاً محذور آخر يترتب على هذه المقالة ألا وهو ضعف موقف الإسلاميين إذا سلموا بها فيما بينهم وبين العلمانيين من الخلاف، حيث يستطيل عليهم العلمانيون حين يواجهونهم بها قائلين: لماذا تحتكرون الحقيقة؟ لماذا تدعون امتلاك الحقيقة؟ نحن نرى أن النص مقدس، ولكن فهمكم ليس مقدساً، وليس لكم أن تدعوا احتكار الحقيقة!! فتتعرض المسلمات الدينية للاهتزاز والتشكيك، وتعارض النصوص بالأهواء، وهذه مفسدة واضحة.
سابعاً: إن منع الإنسان من أن يعتقد ما يراه حقاً جازماً بذلك، ودعوته إلى أن يشك فيما يعتقده حقيقة، وأن الآراء والمذاهب الأخرى هي أيضاً حق، هذا تكليف له بما لا يطاق، لأنه جمع بين الشيء وضده، وإلزام له بخلاف قناعته الفكرية، وأنه يجب عليه أن يعتقد أن ما ذهب إليه هو حق وهو باطل أيضاً في نفس الوقت، لأن غيره يراه أنه باطل، ويجب عليه أن لا يدعي امتلاك الحقيقة وكفى بهذا سفسطة ولعباً بالعقول، وسخرية بها.(2/46)
ثامناً: ليست المشكلة أن أعتقد في مسألة - مما يجوز فيه الخلاف لاختلاف وجهات النظر - خلاف ما ذهب إليه غيري، وأن أجزم بفساد رأيه، لأن هذا أمر لا مفر منه، ولا يستطيع الناس كلهم أن يتجاوزوه، وإلا لفسدت خصائصهم، وما تتميز به شخصية كل واحد منهم، وسوف يكونون نسخة واحدة من الببغاوات التي تكرر نفس المقال، وتردد نفس الشعار، ولكن المشكلة في رأيي هي في تجاوز أحد المختلفين لحدود المسألة المختلف فيها، وحكمها، ونوع أدلتها، وقوة الحجة عند المخالف، وسلوك طريق التعصب الذي يدفع إلى تجاهل قوة حجته، والسلوك العصبي الذي يسود عند الاختلاف، والمجادلة في الحق بعد تبينه بنوع من الشغب والمكابرة، وهذه الحالة تؤدي إلى أمرين اثنين كلاهما قبيح لا يليق بأحد أن يتصف بشيء منهما:
أحدهما: تكبير القضية المختلف فيها، وهي في الحقيقة صغيرة.
والآخر: تصغير القضية المختلف فيها وهي في الحقيقة كبيرة، ثم يترتب على ذلك إصدار الأحكام الجائرة التي لا تمثل الحقيقة، ولا تعبر عن طبائع الأمور كما هي.
تاسعاً: أما قضية التكفير لمن كفره الله ورسوله من المخالفين المرتكبين لما يوجب الكفر فهو حقيقة قطعية في القرآن والسنة لا يجوز التنازل عنها، وإن كان يجب التثبت في تنزيل الحكم لمن كان حاله يفرض ذلك، كأن يكون أصلاً من المسلمين فارتكب ما يوجب ردته فلابد حينئذ من توفر الشروط وانتفاء الموانع، أما من كان أصله الكفر مثل اليهود والنصارى فلا يجوز التوقف في تكفيرهم، ومن توقف فقد كذَّب بالقطعي من القرآن والسنة لفظاً ومعنى، وسيلحقه ولا ريب معرة مخالفة الحكم القطعي، ولا يلومن إلا نفسه.(2/47)
عاشراً: أما دعوى أن السلفية تكفر المخالف بما لا يوجب كفره شرعاً فتهمة باطلة، وأما تبديع المخالف بما ارتكبه من البدع فشيء متبادل عند كل الفرق، إذ كل الفرق المختلفة ترى أن ما أتت به الفرقة الأخرى يعتبر بدعة، فلماذا الإنكار على السلفيين فقط، فإن كانت البدعة غير مكفرة فيجب إنكارها بدون التورط في التكفير، لأن البدعة لا يجوز السكوت عنها عند الجميع، والعبرة بمن الكتاب والسنة في جانبه، ويشهدان له، وعند الله تجتمع الخصوم.
ومما يثار من الشبهات على هذه الدعوة قول البعض عنها أنها دعوة محدودة الأهداف لا تتجاوز كونها مدرسة علمية، تدرس بعض العلوم النافعة كعلم الحديث، وتعمل على نشر التراث، وليست تملك مشروعاً تغييرياً يتناول جوانب الحياة المختلفة، ولا تملك برنامجاً سياسياً وو... الخ.
والجواب عن هذه الشبهة وبالله - تعالى- التوفيق من وجوه عديدة منها:
أولاً: هذه شهادة من المخالف بأن هذه الدعوة توجه اهتمامها إلى العلم، وبالذات العلم النبوي الشريف، وهي شهادة يعتز بها حملة هذا المنهج لأنه كما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء، فقد علم الخاص والعام عناية هذه الدعوة بهذا العلم الشريف، وهذا العلم لا يقدر أحد أن يتهمه بأنه ليس شمولياً وليس منهجاً تغييرياً، لأنه علم السنة النبوية التي هي ثانية المصادر التشريعية، ومن اتهم علم الحديث والسنة بالقصور فقد وقع في العظائم.
إذاً فمنهجهم هو السنة، وهو منهج كامل وشامل لكافة نواحي الحياة، ففي السنة أنواع القواعد والأصول والمنطلقات العقيدة والعبادية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والدعوية والجهادية والاجتماعية، وفيها بيان الحقوق كلها حقوق الحاكم والمحكوم، وحقوق المرأة والطفل، والآباء والأبناء، والجيران والأقارب، والعلماء والقادة، والمسلم وغير المسلم، والحيوان والنبات، والجن والإنس والملائكة، وسكان الأرض وسكان السماء، وفيها قبل ذلك كله حق الله وحق أنبيائه ورسله.(2/48)
ثانياً: المخالف لهذه الدعوة يعترض في الحقيقة على الأولوية الدعوية بشكل عام، فمشائخ وعلماء الدعوة السلفية يرون توجيه الهم الأكبر نحو تثقيف الأمة الإسلامية، والبيان لأبنائها عن ماهية الإسلام وحقيقته، وعن التصور الصحيح عنه: عقيدة وشريعة، وسلوكاً وأخلاقاً، وسياسة واقتصاداً، حتى يكون هناك تصور كامل منبثق من الإسلام من أجل الدعوة منه وإليه، حتى لا ينسب أحد منهم إليه ما ليس منه، وحتى يكون على بصيرة فيما هو من المعروف وما هو من المنكر.
أما المخالف فله اهتماماته، فقد حدد له غايات معينة يركب في الوصول إليها الصعب والذلول، ويحاول أن يحشد كل الطاقات للوصول إلى ذلك الهدف، ويسلك طرقاً محلية ومستوردة، ويلتزم لوازم تجعله غارقاً في وحل الأفكار المستوردة التي نصبت له ليسلك عليها، فيصبح ويمسي وهو يفكر كيف يوفق بين المناهج المستوردة وبين شرائع الإسلام، ويأتي بالعجائب في هذه المحاولة التوفيقية، وكلما جاءت آبدة من هناك انبرى يبهرج ويقول هذا هو الإسلام بعينه، أو يقول الإسلام قد سبق إلى هذا، أو يمكن تخريج هذا؛ حتى يتوافق مع الشريعة الإسلامية زاعماً أن هذا هو المنهج المرن الذي تتصف به الشريعة.
والحقيقة أن الأصل الشرعي ليس هو منهج التوفيق بل الشريعة بجميع فروعها وأصولها تهدف أساساً إلى إيجاد الحواجز الفكرية والعقدية بين الشريعة وأهواء البشر، بل بينها وبين الأديان السماوية المنسوخة والمحرفة، فمن أصر على تلك الشرائع المنسوخة أو المحرفة ورفض الشرع الناسخ فهو كافر.(2/49)
والحقيقة أيضاً التي يقررها القرآن أن التوفيق بين الإسلام وشرائعه وبين المناهج الأرضية ليس هو منهج المسلم الصادق وإنما هو من فعل المنافقين - صان الله كل داعية وكل مسلم عن صفاتهم - كما قال الله - تعالى-: ((وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً))، وقد بينا في مقال سابق أن المرفوض إنما هو تلك الأفكار التي تشكل عقلية الإنسان ونظرته إلى الكون والإنسان والحياة بكافة جوانبها، والتي تستمد من المناهج الأرضية وليس ما يتعلق بالعلوم الصناعية المختلفة والعلوم الإدارية والتكنولوجية.
ثالثاً: كل الدعوات الكبيرة المعاصرة وعلى رأسها دعوة الإمام المجدد - أقول مجدد وإن كره البعض هذا الوصف - حسن البنا بدأت في أول أمرها بمنطقات دعوية محدودة، ولم تكن الاهتمامات السياسية والبرامج الشمولية من أوائل أعمالها، بل بدأت بأمور محصورة، وبأفراد محدودين للغاية لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ثم صارت إلى ما صارت إليه ولم يكن ذلك عيباً في الرؤية، أو خللاً في التفكير، وإنما كان العمل على قدر الطاقة، فمن وضع هذه الشبهة على السلفيين يحتاج إلى الجواب على هذا الإيراد بل يحتاج إلى الجواب عن دعوة الإسلام نفسه في أول أمره وبداية منشئه، إذ كانت له اهتمامات في تلك الفترة - فترة الضعف والغربة - تختلف عن اهتماماته في نهاية المطاف.(2/50)
رابعاً: ليس المطلوب - وفي هذا الوقت بالذات - أن يكون للدعاة مطلقاً برنامج سياسي، أي برنامج ولو بالتلفيق من برامج الأحزاب الموجودة، ولو بالتسول والشحت من موائد البرامج السياسية لأصحاب المناهج الديمقراطية؛ لأن الأمر لو كان كذلك فليس في ذلك أي جديد، وليس فيه ما يفرح به، وإنما المهم ما جديدك الإسلامي، وما رؤيتك الإسلامية، وما هي السياسة الشرعية التي تنطلق منها لتخالف المنطلقات العلمانية، وما برنامجك ومنطلقاتك في العلاقات الدولية، وما الذي يميزك عن الأحزاب التي ملأت الشوارع والأسواق، وصكت الآذان بالميكرفونات والأبواق، وغطت الأجواء بالمنشورات والأوراق، فهل عندك شيء تفاخر به؟ أم أنك نسخة مصورة من الديمقراطية المزورة.
خامساً: العدل في هذه المسألة هو التوجه إلى أصل المنهج السلفي: هل له رؤية في هذا المجال؟ هل له اهتمامات سياسية وبرامج تغييرية؟ وليس التوجه إلى الاهتمامات الآنية، والواجبات الحالية؛ لحملة هذا المنهج، لأنه قد يكون لهم اجتهادات وأولويات يرونها مناسبة للزمان والمكان تختلف عن اجتهادات الآخرين واهتماماتهم، ولكل وجهة هو موليها، ومن المعلوم أن الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام في صورته الأولى الخالية من الشوائب والبدع، وهي ولا شك مشتملة على كل ما يحتاجه البشر ديناً ودنيا.(2/51)
وليت شعري هذا المعترض على السلفيين بأنهم ليس لهم برنامج سياسي من أين أخذ منهجه وبرنامجه السياسي، فإنه إن كان برنامجه إسلامياً محضاً فالإسلام حق الجميع، والكل ينهل منه، والذي فتح عليه حتى وصل إلى ذلك البرنامج سيفتح على الآخرين بمثله أو أحسن منه، فإن عجز السلفيون عن ذلك فقد يستفيدون منه، ويأخذون عنه في ذلك لأن القضية قضية علم تحتاجه الأمة في هذا المجال؛ فلا مانع من أن تستفيد الأمة - ومن ضمنها السلفيون - مما تنتجه وتستنبطه قرائح بعض أفرادها، وسنأخذ منهم ما احتجنا إليه، داعين لهم بالمثوبة من الله، مثوبة من دل على خير وإن كان مستورداً أو ملفقاً، فهل التبعية الفكرية للأجنبي موضع افتخار وتطاول على الآخرين، وهل بضاعتهم الفكرية مما يجوز الترويج لها في بلاد الإسلام حتى يقال: هؤلاء السلفيون ما هو برنامجهم السياسي؟
سادساً: من كانت مرجعيته الكتاب والسنة والتراث الفقهي العظيم لهذه الأمة على مدى تاريخها الطويل، وعلى مختلف العصور واختلاف البيئات والأمكنة والأحوال؛ أيعجز عن إخراج برنامج سياسي متى ما شاء، يحدد فيه منطلقاته الفكرية والتشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الجوانب؟ كلا والله.
سابعاً: هناك فرق - في تصوري - بين الرؤية السياسية والبرنامج السياسي، فقد تكون الجماعة أو الفرد يمتلك رؤية سياسية وليس له برنامج سياسي، لأن البرنامج السياسي يفرضه واقع معين يستوجب الخروج إلى الناس به بقصد التفاف الناس حوله، أما الرؤية السياسية فهي حسب الطلب، فقد تحولها إلى برنامج عملي متى ما شئت، وقد تظل أفكاراً ومفاهيم مخزونة في مجموعة الرؤية المتكاملة لمختلف جوانب الحياة، فالسلفيون يملكون الرؤية السياسية التي هي أصل ومنطلق البرنامج السياسي.(2/52)
ثامناً: مرت فترة على الحركة الإسلامية في اليمن لم تكن تمتلك برنامجاً سياسياً يخصها، ولم تكن ظاهرة في تكتل بارز للناس تحت شعار معين، وكانت دعوة تستهوي الكثير من أبناء هذا البلد، وقد التحق بها الكثير منهم، فهل كان الملتحقون بها مخطئين في ذلك لأن الدعوة والجماعة التي كانت تحتضنهم في تلك الفترة لم تكن تمتلك برنامجاً سياسياً بل لم تكن حزباً سياسياً من الأصل.
تاسعاً: وعلى افتراض أن السلفيين لا يمتلكون برنامجاً سياسياً فهل العمل السياسي فرض عين أم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين، فمن قام به فله الأجر من الله، وعلى السلفيين القيام بما يقدرون عليه من بقيه الواجبات الأخرى - وما أكثرها -،داعين لإخوانهم الدعاة الآخرين أصحاب البرنامج السياسي بالنجاح والتوفيق.
عاشراً: على القول بأن الحركة الإسلامية قد قامت بما عليها من الإصلاح السياسي الدستوري، وحولت الدستور من دستور علماني كما كان يقال إلى دستور إسلامي؛ فإن صح هذا التقدير فعلى أصول أهل السنة فلا داعي أصلاً لبرنامج سياسي من أساسه لأن البرنامج السياسي هو تفصيل رؤية الحزب السياسي الذي ينافس الحاكم، ويحاول إخراجه من موقع الحكم إلى موقع المعارضة، وهذا لا يجوز على أصول الدعوة السلفية لأنه من باب منازعة الأمر أهله، وهو ممنوع لديهم.
ـــــــــــــــ(2/53)
الاجتماع ضرورة شرعية
أمين جعفر
ليس بخافٍ على كل ذي بصيرة أن من أهم عوامل خروج المسلمين مما هم فيه من الذل والهوان وتسلط الأعداء هو اجتماع كلمتهم على الحق، وائتلاف قلوبهم على الإيمان، وتوحد صفوفهم على التوحيد، وهذا الأمر - ألا وهو الاجتماع والائتلاف - عوضاً عن كونه ضرورة شرعية؛ فهو مطلب ملح إزاء هذا الواقع المرير الذي تكالب علينا فيه أعداؤنا من يهود ونصارى ومشركين، وسامونا سوء العذاب، في سلسلة من الأحداث المتعاقبة والمتسارعة، كي تكون الأمة في مستوى هذه الأحداث، وقادرة على ردع العدوان، ودفع صيال المعتدين.
والنصوص الشرعية متضافرة من الكتاب والسنة في الأمر بهذا الأصل العظيم، وتثبيت هذه القاعدة الكبرى، ويكفي من ذلك أن نعلم أن من أبرز خصائص الجيل الأول - جيل الصحابة - تحقيق هذا المعلم: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"، "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم".
بل جيل النصر والتمكين - الطائفة المنصورة - من أجلى خصائصه الاجتماع على الحق "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم".
إن الاجتماع الذي تصبو إليه الأمة، وينشده المصلحون، اجتماع أساسه العلم بالحق، فالعلم وحده هو سبيل الاجتماع، لأن العلم فرقان بين الحق والباطل، ومميز بين الأصيل والدخيل، فيمحو الخلاف أو يضبطه بضوابطه الشرعية.(2/54)
ولا نريد بالعلم هنا المعرفة المجردة، وإنما مرادنا العلم النافع الذي يورث الإيمان والخشية كما قال الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فالعلم المذكور بالصفة السالفة هو الذي يكون أصحابه على بصيرة بالحق وانقياد له، ودعوة إليه، واجتماع عليه: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون".
وعليه فإن قادة هذا الاجتماع، ورؤوس هذا الائتلاف هم العلماء، أولوا الأمر حقاً، وهم الجماعة، وهم الإجماع، وهم رأس الطائفة المنصورة، وكبراء الفرقة الناجية، وباجتماعهم تجتمع الأمة، وباختلافهم تختلف القلوب، فتحدث الفرقة، ويقع الشقاق والتصدع في الأمة، ولا نعني بالاجتماع الإجماع وأن تكون أقوال العلماء وآراؤهم واجتهاداتهم متفقة غير مختلفة فإن هذا ما كان ولن يكون إلا في قضايا محددة ومحدودة، ولكننا نعني باجتماع العلماء وحدة أصولهم على منهج أهل السنة والجماعة، وائتلاف قلوبهم على الأخوة الإيمانية، وتكامل جهودهم في نصرة قضايا الأمة الإسلامية.(2/55)
إن العلم والعلماء هما مادة هذا الاجتماع، وعنصره القوي، ولا يظن ظان أننا نقصد الأمة بجميع صنوفها، واختلاف قدراتها، وتعدد ملكاتها ومواهبها على العلم والعلماء فحسب، ولكنَّما العلماء هم قلب الأمة النابض، وعقلها المدبر، وباجتماعهم يتحد تفكير الأمة، وتتوحد مشاعرها، والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - ضرب لنا مثلاً عظيماً لهذه الأمة حين قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فهذه الأمة جسد واحد يجب على أبنائها أن يعيشوا جميع قضاياها - قضاياهم - بروح الجسد الواحد، وكل جسد له قلب وأركان، وسمع وبصر ولسان، وهذه الأعضاء وغيرها لابد أن تخدم هذا الجسد الواحد.
ومما لا شك فيه أن من أدوى أدواءنا، وأعظم مشاكلنا؛ أننا نعيش بروح العضو الواحد لا بروح الجسد الواحد، والسبب الرئيس في هذا أننا لم نفهم الإسلام بحقيقته الشمولية، فانغلقت كل فئة منا على جزء من الدين، وشعيرة من شعائره، فوالت وعادت على هذا الجزء، وأحبت وأبغضت على تلكم الشعيرة، والإسلام دين شامل كامل كما قال الله تعالى:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" فلا يحق لنا بحال من الأحوال أن نشطر الدين إلى أشطار وأجزاء ثم ننحصر في جزء من أجزائه أو شطر منه، ونجعل الدين هو هذا الجزء فحسب، أو ذلك الشطر فقط، ثم ننقسم إلى فئات وطوائف لكل منه شريعة، ولكل طائفة فريضة، نوالي ونعادي، ونحب ونبغض على ما اختصت به، غير أن هذا لا يعني أن يمنع بعض الناس من أن يختص بجانب من الدين أو قضية منه فيبرع فيها ويبدع، فإن أبوب الجنة ثمانية، والناس قدرات ومواهب، وأبواب الخير والبر رزق يقسمه الله بين الناس كما يشاء.(2/56)
فلا بد إذن من إدراك حقيقة الإسلام بين الشمول والتخصص كما ندرك أن الجسد الواحد ليس كله يدا فقط، أو عيناً فحسب أو لساناً، أو فؤاداً، ولكن من كل ما ذكر يكون الجسد الواحد.
وإن مما يجدر ذكره حقيقة يجب أن تبقى ماثلةً نصب أعيننا وهي أن هذا الجسد لن ينتصر على أعداءه إلا إذا كان صالحاً: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، ولن يكون صالحاً إلا إذا صلحت قلوب وأفئدة أبنائه "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
فحياة القلب وإيمانه، واستقامة إرادته، وصلاح عمله وحركته أصل كل خير، وبها يصلح القلب، ومن ثم يصلح الجسد، فإذا استقامت القلوب على الإيمان والتقوى والعمل الصالح ألف الله بينها، واجتمعت على نصرة كتاب ربها، وسنة نبيها - - صلى الله عليه وسلم - - فأتاها نصر الله: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"، وإذا أتاها نصر الله فلا غالب لها "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، وأما إذا أبت هذه القلوب إلا أن يغان عليها، وتظلم بالران، أو تموت فذلك مادة كل شر وفساد، وبه يحل الذل والصغار على الأمة، ومن ثم الفرقة والشتات، وحينها يصدق فينا قول الله - عز وجل -:"بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".
ـــــــــــــــ(2/57)
قواعد في التعامل مع المخالف
د. هاني بن عبد الله الجبير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - - صلى الله عليه وسلم - - تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن رباط القرابة والنسب على متانته وقوّته، وعلى ما يترتب عليه من واجبات وحقوق لهو أضعف من رباط الإيمان بين أهله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71) فالمؤمن ينظر للمؤمن نظراته لأخيه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)
ويوضح نبينا - عليه الصلاة والسلام - حال أهل الإيمان فيشبههم بالجسد الواحد: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمّى والسَّهَر). متفق عليه.
وترجمة ذلك موجود في أفعال سلف الأمة، فقد نقل أن الرجل منهم إذا رأى أخاه يبكي بكى لبكائه ثم يسأله بعد ذلك عما أبكاه. يقول حذيفه العدوى: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيتة فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه، آه. فأشار إلىَّ ابن عمي: أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه، آه، فأشار هشام أن أنطلق إليه، فجئت فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.(2/58)
والأخوة الإيمانية جزء أصيل من عقيدة الإيمان، ورتبة عالية من رتب الإسلام؛ ولذا كان جزاء هذه المحبة في الدنيا حلاوة يجدها المؤمن في قلبه تفوق كل لذة، وفي الآخرة يدخله الرحمن ظلاً ظليلاً. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). متفق عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال: (إن الله - تعالى -يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) أخرجه مسلم. قال ابن تيميه: (جعل الله عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعلهم إخوة، وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم - سبحانه - بالائتلاف و نهاهم عن الافتراق والاختلاف، فكيف يجوز مع هذه لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادى طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله - تعالى -) مجموع الفتاوى 3/419.
ومن تأمل أحكام الشرع وجد مظاهر كثيرة تؤكد على أهمية الاتفاق والاجتماع، وتقضي على الفرقة والشتات فجمعت الناس في أنساكهم وصيامهم وصلاتهم أن يشرعوا فيها في وقت واحد ويختموها في وقت واحد وشرع الاصطفاف للصلاة والتواص، ونهى عن تفويت الجماعة في الصلوات إلى مظاهر من تأملها وتشبع بها انقادت تطبيقاته لمسائل الاجتهاد على هذا النحو وقد اختار الشافعي - رحمه الله - أن من فاتته الصلاة في مسجد له إمام راتب أن يصلي منفرداً أو لايصلي في المسجد جماعة ثانية لما فيها من تفرق الكلمة والاختلاف. الأم 1/136.(2/59)
قال الشيخ أحمد شاكر معلقاً على ذلك: والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ينبئ عن نظر ثاقب وفهم دقيق، وعقل درّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأوّل مقصد للإسلام وأجلّه وأخطره: توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم على غاية واحدة: هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية...وهذا الشيء لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين والغوص على درره والسمو إلى مداركه) تعليق على سنن الترمذي 1/431.
الدعوة للاتفاق ليست إلغاء للخلاف:(2/60)
فالافتراق وصف مذموم في الشرع قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159)وقد نهى الله - تعالى -عنه نهياً مطلقاً كما قال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: من الآية 103))وقال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: من الآية 13) أما الاختلاف فإنه قد يكون رحمة، وأهله معذورون: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرٍ عظيم من خفاء الحكم ولهذا صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الاختلاف فقال أحمد: سَمّه كتاب السَّعَة، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه.، لما في ظهوره من الشدة عليه) مجموع الفتاوى 14/159. وقد وقع الخلاف بين السابقين من أفضل قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين ولم يوجب افتراقاً، ولذا لم يكن مذموماً ونقل الشاطبي جملة مما اختلف فيه أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مما هو من محالّ الاجتهاد ثم قال: (وغير ذلك مما اختلفوا فيه، وكانوا مع ذلك أهل مودة وتناصح وأخوه الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، وظهرت العداوات وتحزب أهلها، فصاروا شيعاً، دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه) الاعتصام 2/231.(2/61)
وضابط التفرق أنه: تشتتت الشمل والكلمة. وهو بهذا يشل حركة المجتمع ويضعف المسلمين، ويمكن أعدائهم منهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها... وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا أصلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب) مجموع الفتاوى 3/421. أما الخلاف فإنه لا يذم متى كان في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد وإبداء الرأي وهو مالا يعارض قاطعاً من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. سواء من مسائل العلم أو أوضاع الدعوة وأحوال العمل.
مع أن نبذا التفرق حتى ولو كان على خلاف سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وارد إذا كن لقائله نوع تأويل كما حصل لابن مسعود - رضي الله عنه - لما أتم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الصلاة بمنى أربع ركعات خلافاً لما كان عليه رسول الله ل وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فاسترجع ابن مسعود وقال: صليت مع رسول الله بأبي بكر وعمر بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ثم صلى أربعاً فقبل له: عتبت على عثمان ثم صليت مع أربعاً، فقال: الخلاف شر. أخرجه البخاري مختصراً وهذا اللفظ لأبي داوود في سننه بسند صحيح، رقم 1960.
ويلخص ابن القيم المعنى الذي نريده بقوله: (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا إذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتخرب، وكل من المختلفين قده طاعة الله ورسوله، لم يقر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية.(2/62)
ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكن يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يفر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي رنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة). الصواعق المرسلة 2/519
وسائل تؤدي للاتفاق:
ولتحصيل اجتماع الكلمة ووحدة الصف والاتفاق وسائل يمكن استلهامها من النصوص الشرعية والأقوال السلفية منها:
أولاً / الإنصاف مع المخالف:
فإن الاختلاف في الرأي لا يمكن أن يكون مؤدياً إلى فتنة، أو مورثاً لفرقة إلا إذا صاحبة بغي أو هوى كما قال - تعالى -: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) (آل عمران: 19).
والله - تعالى -مع أمه بعدم موالاة الكفار قال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة: 8). قال ابن تيمية: (وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمور به، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم) (منهاج السنة النبوية 5/127).
وإذا أنصف الإنسان حمله إنصافه على أن يعرف قدر الخطأ، فلا يعطيه أكبر من حقه، كما لا ينسى سابقة قائله، وظروفه التي حملته على فعله، ولا يغيبن عنك فعل حاطب بن أبي بلتعة وكيف أن عقوبته منع من ترتبها عليه مشهده العظيم يوم بدر، قال ابن القيم: (من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره ويعفى عنه ما لا يعفى من غيره فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين وكما قيل:(2/63)
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد***جاءت محاسنه بألف شيع) (مفتاح دار السعادة 1/177)
وكذلك قد يكون العالم أو الداعية أو الأمير غير قائم بشيء من أحكام الشرع لعذر، فمن أنصف عذره، وقد ضرب ابن تيمية أمثلة لهذا فذكر النجاشي وأنه لم يعمل بكثير من شرائع الإسلام كالهجرة والجهاد والحج، كما أنه لم يحكم قومه بالقرآن لعدم استطاعته وذكر مزمن آل فرعون ويوسف الصديق - عليه السلام - مع أهل مصر، ثم قال: (وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكن ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (الفتاوى 19/218).
ومن أراد أن يتصور كيفية مراعاة الحال فليتأمل حديث الذي فقد دابته وهو في صحراء، فلما أيقن بالهلاك وجدها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح(متفق عليه). فلم يؤاخذ مراعاة للظرف الذي ألمّ به حال تكلمه.
ثانياً / مراعاة المصالح والمفاسد:
إن من قواعد الشريعة تحمل أدنى المفسد يكن لدرء أعلاهما، وقد كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يرى بمكة أكبر المنكرات وأكبر الأصنام ولا يغيرها وترك المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.(2/64)
والتعامل مع كل من مخالف منوط بهذه القاعدة، فلا يسوغ الرد عليه إذا ترتب على ذلك مفسدة أكبر. وقد نهى الله - تعالى -عن سب آلهة المشركين لما ترتب على ذلك مفسدة أعظم من ملحة سبها، قال - تعالى -: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام: 108). قال ابن القيم: (إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله) (أعلام الموقعين 3/4). وفي امتناع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - عن هدم الكعبة شاهد ظاهر لهذا.
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: (إذا لم يحصل النور لصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقى الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية) (الفتاوى 10/364). ولا يمكن تبين المالح والفاسد وحقائقها إلا لمشارك في الحال، أما الناظر من بعيد فإنه لا يتصور ذلك على وجهه.
ومراعاة المصالح والمفاسد يتضمن ملاحظة الوقت الذي يعيشه الإنسان، وهل سيتعلق بكلامه أهل الفساد ليكون ذريعة لمآرب سيئة وهل سيُفهم على وجهه أم لا. وذلك كله مبني على قاعدة كبرى، وهي أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها وإنما قصدت المصالح المترتبة عليها(انظر المواقعات 2/385).
ثالثاً / معرفة لغة المتكلم وحقيقة رأيه:
فإذا جهل الإنسان حقيقة قول المتكلم ومقصده من اصطلاحاته حمله غير مقصوده، ولذا قال ابن تيمية: (وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم) (الفتاوى 6/303).(2/65)
وقال السبكي: (كثيراً ما رأيت من يسمع لفظةً فيفهمها على غير وجهها فيغير على الكاتب والمؤلف ومن عاشره واستن بسنته.. مع أن المؤلف لم يرد ذلك على الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل) (قاعدة في الجرح والتعديل 93).
ولما ذكر العلماء القوادم في باب القياس جعلوا منها استعمال اللفظ الغامض وطالبوا المتكلم بإظهار المراد منه ليمكن إبطاله أو التسليم به.
لعل من هذا الباب ما نُقل أن الإمام أحمد قال: ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا.
وقد طبق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الضابط لما تناول قول الجنيد: التوحيد إفراد القدم من الحديث... فقال: (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسناً وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة... وهذا حق صحيح وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه). (الاستقامة 1 / 92).
رابعاً: التثبت:
فالاستعجال في إصدار الأحكام تصرف يوقع صاحبه للزلل والخطأ، ولذا جاء الشرع بالأمر بالتثبت والتبيّن كما قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء: من الآية 94)والمراد بالتبيّن: التعرّف والتبصر والأناة وعدم العجلة حتى يتضح الأمر ويظهر، وهذا يحصل في النقل والمنقول. فأما النقل فبالتحقق من صدق الناقل وسلامته ولذا قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - -: (بئس مطية الرجل زعموا). (سنن أبي داود 4972؛ مسند أحمد 4 / 119؛ بسند صحيح).(2/66)
قال الخطابي: (إنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم - - صلى الله عليه وسلم - - من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة). (معالم السنن 4 / 130) ولعلماء الرواية تقدير رائق في عدم قبول رواية المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل كقول بعضهم حدثني الثقة أو من لا أتهم. (انظر تدريب الراوي 205)..
ولذا قال ابن تيمية: (من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمّ القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب). (منهاج السنة 2 / 413)..
وأما المنقول فلا بد أن يتثبت الناقد أن المنقول لا وجه له في الصحّة يقتضي قبوله وهذا ما سبق في فهم كلام المتكلم وحقيقة مراده.
خامساً: التخلص من سلطة الأتباع:
فعصا الأتباع مرفوعة على متبوعهم كلما خالف رغبتهم، أو عدل عن تقرير أبواه، أو فتوى أخذ بها، والمتبوع يخشى منهم الإنكار عليه والانفضاض من حوله والتشنيع عليه، وهذه العصا تصد المتبوعين عن التآلف مع من سبق أن كان بينهم نوع خلاف والله المستعان.
سادساً لزوم آداب الشرع:
فإن في سلوك الأدب تخلصاً من آثار الخلاف السيئة ومنعاً لتضخمها وهذه الآداب كثيرة، منها:
1- إحسان الظن بالمخالف فقد أمرنا الله بذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(سور ة الحجرات آية 12)، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً). (الدر المنثور للسيوطي 6 / 99).
2-ومنها الخضوع للحق ولو نطق به الخصم كما قال الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته. (قواعد الأحكام 2 / 176).(2/67)
وشاهد هذا من المأثور قبول أبي هريرة لخبر الشيطان الكذوب وما روى النسائي أن حبراً قال للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون والكعبة فأمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة.
3-الستر على المخطي فقد حث النبي - - صلى الله عليه وسلم - - على الستر فقال: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه. ومن هذا أن يبين الخطأ دون التعرض لشخص المخطئ وهذا نهج أثري منقول في قول المصطفى في كثير من الأحوال، ما بال أقوام.
سابعاً: البحث في وسائل لتجاوز الافتراق:
فإذا الاتفاق عمل وليس قول ومن اجتهد لبلوغه مع حسن القصد تيسر له أمره، كما قال - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69)، وهذه وسائل مقترحة يمكن بتفعيلها تجاوز الفرقة، منها: إيجاد مرجعية تحكم في الخلاف وتفصل فيه ولابد لهذه المرجعية أن تكون سليمة الماضي، نظيفة السجلات حتى تكسب الاحترام والقبول.
وكذلك كثرة اللقاءات بين الأطياف المختلفة لتفعيل الود وكسر الحواجز المصطنعة بينهم بالمؤتمرات والندوات والحوارات والزيارات ونحوها.
ومنها: نشر الكلام عن أدب الخلاف وطريقة التعامل مع المخالف سواء عبر الكتابات والمشافهات، أو من خلال وسائل الإعلام، أو طريقة عملية في تربية النشئ في محاضن الدعوة والتعليم.
****
وبعد، فما سبق ملامح يسيرة وحول بعض الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع الواسع ولكم تمنيت أن اتسع الوقت وطال المجال ليربي الإنسان في مقولة ويزيد منقوله. ونحن إذ نتناول هذا الموضوع لنرى ما تعانيه الأمة من فرقة واختلاف بين أطيافها فهذا عرض لها أن تنبذ فرقتها في هذا الوقت العصيب، فهل هي واعية لما يراد لها جميعاً، أم ستقول حين يعدى عليها: أكلت يوم أكل الثور الأحمر؟.
ـــــــــــــــ(2/68)
الحوار من الضرورة إلى الثقافة
طارق الحسين
هناك أنواع من الناس لا يستطيعون العيش ولا التكاثر ولا البروز إلا في أجواء ملبدة بالأنواء، وفي أرضية موبوءة بالشتات والنزاع والشقاق والنكد، هؤلاء كالبكتيريا التي لا تدب فيها الحياة إلا بعناصر التعفن وموت الكيان، من أجل ذلك تراهم أكثر الناس هروباً من الحواروأشد الخلق معاناة من الوئام والتصالح، والتقاء بخصوم المدارس الإسلامية..إبان ازدهار الحضارة الإسلامية تبنت هذه الحضارة ثقافة الحوار وأشاعته بين الناس إلى حد كبير، ولولا الحوار لما عاش غير المسلمين بين أظهرنا معززين مكرمين، والحقيقة أن الحوار كظاهرة مرتبطة بشكل طردي مع الخط البياني للحضارة الإسلامية، وحالنا اليوم كحالنا في أيام التردي والنكوص إذ أن أغلبنا اليوم -وأنا آسف لهذا التعميم- لم يكن يرى الحوار حلاً للخلاف، ولم يدر بخلده أو ينشأ في ثقافته الحوار بشكله الطبيعي.كلٌّ سعى دهراً في اقتلاع مخالفه، واستخدم في ذلك شتى فنون الحرب الثقافية والإعلامية وطريقة الوشاية والتأليب.
من العيب جداً أن يبقى الحوار ضرورة ظرفية بل نريد أن يصبح سجية وطبيعة وثقافة تقف حاجزاً أمام الفتنة والإخلال، وأمام أعداء الأمة لئلا يفكروا يوماً أن يبادئونا من داخل أنفسنا، وأن يصبح الحوار قبل كل شيء ديناً وقربة إلى الله مع كل أهل الأرض.(2/69)
ونحن المسلمين أولى الخلق بهذا الخلق لأن الله أمر به من جهة وصبغ به الأنبياء من جهة أخرى، وأخبرنا - سبحانه - كيف رضي أن يحاور إبليس أكفر خلقه وأعصاهم وسمح له بأن يعبر عن وجهته، وأن ينافح عنها حتى يحق عليه العذاب بإقرار منه، ولتتضح خبيئة نفسه بلسانه وإن كانت لا تخفى على الله، ويوم قرر الله العقاب عليه وعلى أتباعه قرره لأنه إله عصاه عبده، أما نحن البشر فليس لنا أن نقرر أمام المخالفين إلا الحوار بالتي هي أحسن؛ لأننا لسنا أرباباً {قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ولأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} [سورة الحجر].
وإن كنت ترى أن هذا الحوار مليء بالتهديد فلأن إبليس جعل نفسه نداً لأوامر الله، وخرج عن أمره وكفر به وأعلن التحدي لربه.(2/70)
ولكن عندما تتأمل في الحوار الذي كان بين الله جل في علاه وملائكته - عليهم السلام - في مسألة خلق آدم {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ.... } إلى قوله - سبحانه -: {فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ}، عندما تتأمل تجد أن الحوار معبأ بالعبودية والخشية والاعتراف بالجهل والنقص أمام علم الله وكماله، وكان خطاب الله لملائكته خطاب تعليم لما أشكل عليهم ودعوة للتسليم دون أن يهددهم أو ينهاهم عن ذلك تبارك وتقدس.
يوم القيامة سيقف العبد بين يدي ربه مسؤولاً عن أعماله منافحاً عن نفسه مجادلاً عنها « عبدي أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا »،
« عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف تمرض وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان أما لو عدته لوجدتني عنده.... الجديث ». إلى غير ذلك.
وبهذا أمر الله أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أن يتحاوروا مع أقوامهم بكل طبقاتهم ورأينا في كتاب الله كيف تحاور نوح مع قومه، وكيف حاور إبراهيم قومه وحاور النمرود الذي قال أنا أحيي وأميت، وحاور موسى قومه وحاور فرعون وقارون وكذاك سائر الأنبياء مع أقوامهم في مواضع كثيرة من القرآن.(2/71)
ولقد علمنا نبينا - - صلى الله عليه وسلم - - أن الحوار النبوي ثقافة وليس ضرورة وقتية وليس أمراً عارضاً، لأن هذه سنة الله في خلقه، ولو شاء - سبحانه - لأمر بأمر فمن حاد عنه عذبه وأهلكه دون مهلة، والسيرة النبوية عامرة بالحوار والجدال بالتي هي أحسن كما أمر الله، منذ أن كان في مكة إلى أن قامت بينه وبين اليهود مناظرات مشهودة، ومع نصارى نجران حين انتقل إلى المدينة حتى مع أصحابه - رضي الله عنهم - ، أرأيت كيف كان يتحاور مع الأعراب الذين يسألونه عن الإسلام والصدقات؟ أرأيت كيف تحاور مع أصحابه إذا ما اختلفوا؟
وكيف كان حواره مع الذي جاء يستأذنه في الزنا؟
وأعظم من ذلك كله ما حدث في الحديبية مع مشركي مكة من حوار وقبول لما فيه خير الفريقين، إن حياته - - صلى الله عليه وسلم - - قائمة على أسس عالية متينة، والحوار واحد من هذه الأسس التي قامت عليها حياته الشريفة - - صلى الله عليه وسلم - -. إن الحوار صفة لا يحبها إلا الأقوياء، ولا ينفر عنها إلا المرتابون في أمرهم، والدليل على قوة منهجنا ومتانة مذهبنا الإسلامي أن الله حاور عباده وأمر رسله بالحوار ووجه إلى المؤمنين الأمر بالحوار، واقتحام ساحات الخصوم بالدليل والعقل والحجة دون أدنى وجل.
وإذا رأيت من يتحاور مع الآخرين بصدر رحب ونفس مطمئنة وهدوء وسكينة فاعلم أنه في ثقة من أمره وثبات ورسوخ، فإذا ما وجدته مستمتعاً بالحوار كالذي يمارس هواية أو رغبة فاعلم أنه حاز أعلى مقامات الثقة بالنفس.(2/72)
هل وصلنا إلى القناعة التي تقول بأن إقصاء الآخر أصبح مستحيلاً؟ هل آن الأوان؛ لأن نفتح الباب للحوار وإبداء الرأي؟ يجب أن تقام المؤتمرات المشتركة الثنائية والثلاثية والرباعية والمئوية لعرض الآراء وبيان الحق ووضع النقاط المشتركة. إن التعالي باسم الدين أو باسم الفكر أو الحضارة مهزلة يجب أن تتوقف ولينزل الجميع إلى الميدان ومن كان واثقا من نفسه ورأيه وفكره وثقافته فليترك الاختباء وراء الستور، ولتمتد الأيادي للمصافحة والتعاهد على اتباع الحق. لم تعد لغة التلاحي والتقاذف وأسلوب الإعدام الفكري والإلغاء والإقصاء تجدي في هذه الأيام، ولم تكن أساساً منهجاً للإسلام، ولا يزعم أحد أنه يرضاها وإن كانت تمارس خطأ من جميع الأطراف مع الأسف.
الحوار في الإسلام وفي جميع الرسالات قام أساساً بين فريقين أحدهما ينكر وجود الله فما بالك بما هو أدنى من ذلك؟
والحوار كلمة مأخوذة من التحاور التي مصدرها (حور) ومعنى التحاور أي التجاوب و(المحاورة) المجاوبة، أي تعطي جواباً وتأخذ جواباً فلا مكان للتلاحي والعنف، وعندما تخرج المجاوبة عن مدارها ونطاقها فإنها تعود إلى جلبة ومجالبة، وصخب ومصاخبة، وجنبة ومجانبة، ولا خير في الحوار بعد ذلك. وفي كتاب الله - عز وجل -: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال الأصفهاني في المفردات: " الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله، ومنه: الجديل " إلى أن قال: " ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه، وقيل الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة"، والظاهر أن الجدال لا يخرج عن الخصام والمنازعة ولهذا نهى الله عن الجدال في الحج: {لا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ}.(2/73)
وهنا لفته لطيفة فيها خفاء وهي أن الله أمر المؤمنين في قوله: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالصبر على أذى أهل الكتاب غير المحاربين؛ لأن المقصود بالذين ظلموا في الآية عند بعض المفسرين أي الذين حملوا السيف وآذوا المؤمنين أذى جسدياً، فإذا كانت المجادلة بين طرفين فإن المأمور بالحسنى يجب أن يحتمل من لم يجادل بالحسنى أي الطرف المقابل؛ لأن الجدال بالحسنى يدعو الطرف الآخر إلى الحسنى كذلك ويقربه إلى سماع الحق، ولو استعرضت أذى اليهود لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، في قولهم {راعنا} وفي تهديدهم له بعد معركة بدر، وفي محاولة تعجيزه بالسؤال، وفي قولهم له: (السام عليك يا محمد) وفي قول اليهود له: (أنتم قوم مطل يا بني عبد المطلب) وغيرها كثير، إذا علمت ذلك فسيتضح لك مدى الإحسان منه في جدال أهل الكتاب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. قال الإمام النسفي - رحمه الله -: " {إلا بالتي هي أحسن} بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال: {ادفع بالتي هي أحسن} ". إن صاحب المبدأ العالي والمقامات الرفيعة لا يحاور الخلق ويناظرهم ابتغاء الغلبة عليهم وإذلالهم، وإنما رحمة بهم ودلالة لهم على الحق والخير ، ولا يمنع ذلك من الإستظهار بكل ما يؤيد رأيه من أدلة الوحي المنزل والعقل المنوّر بنور الفيوضات الربانية، لكنه لا يبحث عن النصر شهوة وتعاظماً وإنما موافقة لمراد الله ودعوة للآخرين، على مذهب أنبياء الله أهل المقامات العليا {ويَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ... } {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}. وكما قال مؤمن آل فرعون: {ويَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وتَدْعُونَنِي إلَى(2/74)
النَّارِ}. وكما قال هود - عليه السلام -: {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ولقد كاد يموت نبينا - - صلى الله عليه وسلم - - من شدة الحزن على قومه، وخوفاً عليهم من العذاب فقال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِين}، وقال - سبحانه -: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً}..
هذه أعلى المقامات في مقاصد الحوار ونيات المتحاورين، أما أعلى المقامات في طرائق الحوار فهي أن تتحاشى كل ما يعكر نفس خصمك، ويصيبه بحرج الصدر، ويشعره بالهزيمة والضعف أمامك؛ لأن ذلك أعظم دافع لردّ الحق.قال الله - سبحانه وتعالى -: {قلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.(2/75)
إن هاتين الآيتين مفتاحان لأعظم الأقفال التي تحجب القلوب، ولأشد المغاليق التي تعمي الأفئدة والعقول. عندما تقول لخصمك: واحد منا على هدى والآخر في ضلال، فإنك تفتح له باباً إلى الثقة بنفسه والتواضع لك في نفس الوقت فما يفيق إلا وأنوار الإيمان تدب في أوصال قلبه، وحين تقول له لن يسألك الله عن جريمتي ولن يسألني عن عملك فستقذفه بكتلة من الحياء منك، وستعطل بهذه الكلمة كل محركات الكبر والغطرسة والعناد في نفسه وتصنع له جواً من السكينة، ويهبط هو إليك من عليائه وشموخه.والوحي لم يغفل أنواع المجادلين وطرائق الجدال حسب الموقف والمصلحة وإعطاء الحكمة مسارها في التعامل مع النفسيات كل بحسب حاله ومآله، ولكن الأصل هو ما ذكرنا وأما ما سواه فضرورة يلجأ إليها عند الحاجة، فالله ينادي اليهود والنصارى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ } وينادي المشركين والكفار: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، ويقول عن فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ويتغير الخطاب أحياناً حسب الحال ولكن الأصل هو الإحسان.
- - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
آداب الاختلاف
أدب الاختلاف
الشيخ /عبد الله بن بيه
وزير العدل الموريتاني سابقاً
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز-جدة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد
فهذه ورقة عن أدب الاختلاف مقدمة إلى المؤتمر لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة جمادى الآخرة 1422هـ. تشتمل هذه الورقة على مقدمة عن معنى الاختلاف والخلاف ،والباعث على تقديم هذه الورقة ، نتعرض فيها للعناوين التالية :-
1 - تأصيل الألفة والجماعة .
2- تأصيل الاختلاف بين أهل الحق وتسويغه .
3- أقوال العلماء في الاختلاف.
4- آداب الاختلاف .
5- أسباب الاختلاف .
- خاتمة .
مقدمة:(2/76)
الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد ورد فعل الاختلاف كثيراً في القرآن الكريم قتا تعالى:{ فاختلف الأحزاب من بينهم } (مريم) ،وقال تعالى:{ يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }(البقرة) ،وقال تعالى:{ و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات }(البقرة) ،وقال تعالى:{ وما اختلفتم فيه من شيء... } (الجاثية).
أما الخلاف فهو مصدر من خالف إذا عارضه ،قال تعالى:{ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } (هود) ،وقال تعالى:{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره }(النور).
وجاء بصيغة المصدر قال تعالى{ لا يلبثون خلافك إلا قليلاً } (الإسراء) ،وقال تعالى{ وأرجلهم من خلاف} (المائدة).
والاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى { فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها } (فاطر).
وأما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك وينصب الاختلاف غالباً على الرأي اختلف فلان مع فلان في كذا والخلاف ينصب على الشخص.
ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة بل قد يدل على بداية الحوار فإن ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه وقال : الخلاف شر.
قد يدل الخلاف على القطيعة.
هذا الإيحاءات والظلال جعلتنا نفضل كلمة الاختلاف التي قد تكون مقدمة للتفاهم والتكامل على كلمة الخلاف وإن كان العلماء يستعملون كلتا الكلمتين لتأدية نفس المعنى باعتبارهما من المترادف فتتعاوران وتتعاقبان .
الكلمات ذات العلاقة :
هناك كلمات قوية في دلالتها على اشتداد الخلاف كالنزاع والشقاق وهو الوقوف في شق أي في جانب يقابل ويضاد الجانب الآخر.
الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان إذ الإرادة بالضرورة يؤديان إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.(2/77)
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول : "وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بغضهم على بغض وعدوانه" ( إعلام الموقعين)
فإن الشقاق يمكن تفاديه بالحوار الذي من شأنه أن يقدم البدائل العديدة لتجنب مأزق الاصطدام في زاوية الشقاق.
ونحن في ورقتنا هذه إنما نبحث عن البدائل انطلاقاً من الشريعة الإسلامية نصوصاً ومقاصد وأصولاً وفروعاً وتطبيقات بنماذج تاريخية .
الباعث : إن الباعث على هذه الورقة هو ملاحظة لا تعزب عن بال أحد بل لا تغرب عن حواسه تتمثل في اختلاف كثير تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام { وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً } .
وهو اختلاف انتشر في الأمة أفقيًا وعمودياً في كل الفئات وعلى مختلف المستويات. تعددت أسبابه وتنوعت ألوانه واستعلمت فيه كل الوسائل من تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه وما شئت من مصدر على وزن تفعيل.
وأستعمل فيه الخصوم كل أدوات الدفاع والهجوم وضاقت بالحياد فيه الأرض بما رحبت فالكل متهم والكل براء وأعجز داء الأمة الدواء فحضر الشهود إلا شاهد العقل واستحضرت الحجج إلا حجة الإنصاف ( وما أبرئ نفسي ).
ونحن هنا لا نحاول إصدار فتاوى في مسائل الاختلاف ولا تحضير بلسم سحري يبرء الأوصاب لأن ذلك ليس في مقدورنا ولا في طاقتنا فقد نتكلف شططاً ونكلفكم عناء وعنتا لو حاولنا ذلك ، وقد يكون من المفارقات أن أطلب من الآخرين التواضع والنسبية في الحكم ، وفي الوقت نفسه أصدر أحكامه باتة في قضاياهم.
إن محاولتنا تعنى بحثاً عن كيفية تعقيل أو عقلنة جدلنا وتنظيم اختلافاتنا وترتيب درجات سلم أولوياتنا وتحسين نياتنا وإرادتنا على ضوء ما يستخلص من نصوص شرعية حاكمة وآثار عن السلف شارحة وممارسات رشيدة هادية. إذ من شأن ذلك أن يقلل من الخلاف أو ينزع فتيل ناره لتصبح بردًا وسلاماً.(2/78)
يقول العلامة ابن القيم : " فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس والتحري وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية لأنه إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريقة المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافًا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة ) (الصواعق المرسلة ج 2 ص 519 )
كيف نجعل اختلافنا من هذا النوع الذي أشار إليه ابن القيم ؟ فإذا ذلك غرضنا فلننتقل إلى تأصيل أهمية الألفة وإصلاح ذات البين.
تأصيل الألفة والاعتصام بحبل الجماعة :
إنه من المعلوم ضرورة من الذين قال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}،{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.قوتكم وجماعتكم ونصركم.
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيانات}،{أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه مقرونة بنواه عن التفرق والنزاع مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية معينة وهنا فشل الأمة وعجزها عن القيام بوظيفتها في هداية البشر والخلافة الراشدة في الأرض { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }.
وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك خير بيان ، وهو المبين للذكر المبلغ للوحي في نواه صريحة " لا تقاطعوا وتدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً "
إصلاح ذات البين :(2/79)
{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ،{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ذات بينهما } ، { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } وحديث " ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى " أخرجه مسلم من حديث أنس وفي حديث أبي هريرة " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا " وخرج أحمد وأبوداود والترمذي من حديث أبي الدرداء عنه عليه السلام { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة { والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا }.
وفي ثاني خطبة له بالمدينة بعد الهجرة كما يروى ابن إسحاق دعا إلى حب الله تعالى قائلاً : أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم " ثم دعا المسلمين إلى الحب فيما بينهم قائلاً : وتحابوا بروح الله بينكم "
استخلص العلماء رحمهم الله تعالى من ذلك أن الجماعة والألفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع.
عبر عنه خير تعبير ابن تيمية حيث يقول : "الاعتصام بالجماعة والألفة أصل من أصول الدين والفرع المتنازع من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع"( 22 ص 254 ).وهو كلام صحيح فيه فقه وبصر بأحكام الشرع ولقد اعتذر نبي الله هارون لأخيه موسى عليهما السلام- في عدم اتباعه له عندما عبد بنو إسرائيل العجل بالمحافظة على وحدة بني إسرائيل فلو تفرقوا لحملتني مسئولية ذلك:{ يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }.
تسويغ الاختلاف :(2/80)
إن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع ، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فإنه لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الفكري ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب ، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف الحميد { وشاورهم في الأمر } فكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيروا أصحابه ويستمع إلى آرائهم وتختلف وجهات نظرهم في تقرير المضي في حملة بدر ونتائج المعركة وكان الاختلاف من الموقف من الأسرى.
فعندما استشار في المضي فدماً لنزال المشركين بعد أن تبين كثرة جيوشهم بالنسبة للمسلمين وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصت إليهم وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه وما تعصب منهم أحد ولا تحزب بل كان الحق غايتهم والمصلحة رائدهم.
وقد يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاً من المختلفين على رأيه الخاص ، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح.
كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها العض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحداً منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم . وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود
إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقاً لاجتهادهم.
وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.
وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة وحول جمع القرآن الكريم ورجوع عمر إلى قل علي مسألة المنكوحة في العدة
وتارة يبقى الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض.
قصة عمر مع ربيعة بن عياش
قصة الأرض الخراجية
قصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى(2/81)
وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير.
وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار.
واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.
ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها.
وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج - رأى الديكة تصيح فصاح - معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الاجتهاد ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.
وموضوعات الخلاف كثيرة جداً ولكنها تحسم بالتراضي إما بالرجوع إلى رأي البعض ، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء أخوته من الصحابة واعترافه أمام الملأ وتأصيله القاعدة الذهبية وهي : " أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد " وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.
أقوال العلماء في الاختلاف :-
يقول الحافظ بن رجب : (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.(2/82)
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. )
انتهى كلام الحافظ وهم كلام في غاية الفضل.
قال الشافعي : " ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة "
وقال : "ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته" - قواعد الأحكام
رفض مالك حمل الناس على الموطأ !
قال مالك للخليفة العباسي - حينما أرد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه - لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه : أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
كان الذهبي مثل العالم المتفتح المنصف .(2/83)
فقد قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى : "أنه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة " وقال عنه : "وعني بالسنة وجمع فيها وناظر الخصوم وكفرهم وكان صاحب حزبية وتحرق على الأشعرية فرموه بالتجسيم ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس."
اعتبر الذهبي ذلك حزبية.
وقال الذهبي عن القاضي أبي بكر بن العربي : "لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط وبالغ في الاستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد فرحمهما الله وغفر لهما".
وكان الذهبي يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف. ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً : " ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي ".
ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.
وقال عنهم : "وفي الجملة فداود بن علي بصير بالفقه عالم بالقرآن حافظ للأثر رأس المعرفة من أوعية العلم له ذكاء خارق وفيه دين متين وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق".
ويقول الذهبي :"ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج بغير إنزال وأشباه ذلك ولا يجوز تقليدهم في ذلك ".
وقال : " كل فرقة تتعجب من الأخرى ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة ".
ويقول ابن تيمية : " وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا علن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله ".(2/84)
وقال أيضاً : " الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع ". ( الفتاوى 22 - 254 )
المعاداة بين المختلفين في الاجتهاد اتباع للهوى :
يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة حين يكون الاتباع للهوى وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياساً لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه فقال : ( فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في في شيء وأنها التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير الآية وهي قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ).
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالى موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفة بأنه من أهل التفرق والاختلاف ( الفتاوى 7- 349 )
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفاً قائلاً : " لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب ".
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال الخلاف شر. ( الفتاوى 22 - 407 )(2/85)
رأي النووي في الطائفة المتصورة : " ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض في أقطار الأرض ".
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لا ح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما عملت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
قال أحمد: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفان في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا ".
آداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها ليعذر بعضهم بعضاً :-
1- العذر بالجهل !
يقول ابن تيمية : وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرا ( 11-411 )
وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فيقول صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم من النار. ثلاثاً " رواه الحاكم
وقد وقع في الديار الشيوعية وأيام سقوط الأندلس أشياء من هذا القبيل والله المستعان.
2 - العذر بالاجتهاد :(2/86)
يقول ابن تيمية أعذار الأئمة في الاجتهاد فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمدا فلا بد له من عذر في تركه مضيفا : وجميع الأعذار ثلاثة أصناف أحدها : عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ ( 20- 232 )
وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر : ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ( جامع بيان العلم وفضله )
ويقول ابن تيمية : وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور 19 - 262 )
ويقول ابن القيم : فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال.
3- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلدا. ( إعلام الموقعين 3 - 365 )
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئاً مختلفاً في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا ( قواعد الأحكام 1-109 ) قال إمام الحرمين : ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين ( الإرشاد ص 312 )
4- الرفق في التعامل :-
والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم عليه الصلاة والسلام قائلاً : لا تزمروه - أي لا تقطعوا بوله - وأتبعوه ذنوبا من ماء وقال للرجل إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات.(2/87)
وحديث خوات بن جبير رضي الله عنه حين راءاه مع نسوة فقال ماذا تبغي هاهنا قال التمس بعيراً لي شاردا . ثم حسن إسلامه وخلصت توبته فمازحه عليه الصلاة والسلام قائلا : ماذا فعل بعيرك الشارد قال : قيده الإسلام يا رسول الله .
وحديث الأعرابي الذي أعطاه فقال له أحسنت عليك فقال كلاما غير لائق فهم به الصحابة فنهاهم عليه الصلاة والسلام وأدخله في البيت فأعطاه ثم خرج به وقال هل أحسنت فقال أحسنت علي وفعلت وفعلت فضحك عليه الصلاة والسلام وضرب مثلاً بصاحب الراحلة الشاردة.
5- أن لا يتكلم بغير علم قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } لا بد من الإحاطة بما في المسألة قبل أن تخالف .
قل للذي يدعى علما ومعرفة *** علمت شيئا وغابت عنك أشياء
فالعلم ذو كثرة في الصحف منتشر *** وأنت يا خل لم تستكمل الصحفا
6- أدب مراعاة المصالح الشرعية في الإنكار فإذا كان النهي سيؤدي إلى مفسدة أكبر أو سيضيع مصلحة أعظم فلا نهي ولا أمر ويفصل ابن تيمية ذلك في الفتاوى (20/58)
ولو كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه ( 14/472)
فحيث كانت المفسدة للأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجبا وفعل محرما إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم . الاستقامة (2/211)
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليه آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً إذ الإنسان ظلوم جهول (26/142)
ولكن ما هي أسباب هذا الاختلاف؟(2/88)
إنها أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وإلى اللغة وضوحا وجلاء وغموضا وخفاء كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها .
كما يرجع الاختلاف إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص ومقاصد الأحكام كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كما يرجع الاختلاف إلى الأعراف المعتبرة وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.
وفي الختام
فإنه لا بد من إحياء روح التسامح في الأمة فتتجنب التباغض وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم
ولا بد من تأكيد أدب الاختلاف وتجنب سلبيات الخلاف .
-لا بد من التأكيد على أن للاختلاف أسباباً موضوعية مشروعة ووجيهة يجب إبرازها واستثمارها لرأب الصدع وإصلاح ذات البين.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المصدر : موقع الإسلام اليوم
ـــــــــــــــ(2/89)
الهوى وأثره في الخلاف
لفضيلة الشيخ : عبدالله الغنيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، يقول - تعالى - في محكم تنزيله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [سورة آل عمران ، الآية :102 ] .
ويقول - جل ثناؤه :- { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } . [سورة النساء الآية : 1 ]
وقال عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيمًا } [سورة الأحزاب ، الآية 70 ] .
وبعد
نتقدم للقراء الكرام بهذه النصيحة القيمة المباركة، من فضيلة شيخنا وأستاذنا الشيخ عبدالله بن محمد الغنيمان .. أستاذ الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على ساكنها صلوات ربي وتسليمه ، في موضوع يشغل بال كل مسلم، وكل طالب علم على الخصوص، ألا وهو موضوع الأهواء والمنازعات والخلافات التي تحدث بين آونة وأخرى بين فئات من المسلمين، وما ينتج عن هذه الخلافات من العدوان والظلم والتجني من بعض من ينتسبون للعلم .
وكان هذا الموضوع في أصله عبارة عن محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ عبدالله الغنيمان، بعنوان : "الهوي وأثره في الخلاف " .(2/90)
وقد عالج فضيلته هذه المسائل وجزئياتها بأسلوب علمي منهجي رصين، جمع بين الأصالة في حشد النصوص والآثار، وبين الرصانة والموضوعية في عرض المسائل، بأسلوب واضح، وسياق سلس، وبروح العالم الناصح المشفق، مقتفيا نهج السلف الصالح في العرض والاستدلال والمناقشة، بعيدا عن التكلف والعمق والتميع الذي وقع فيه كثير من الكتاب الإسلاميين المحدثين، وأنصح كل طالب علم ومن تصدى للدعوة بصفة خاصة أن يقرأ هذا الكتاب بتمتعن وروية فسيجد فيه بغيته - إن شاء الله - .
وفق الله الجميع للسداد والرشاد وجزى الله شيخنا خير الجزاء، وأحسن له في الدنيا والاخرة .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وآله وصحبه وسلم .
وكتبه : ناصر بن عبدالكريم العقل
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين .
إن من أعظم دواعي الضلال وأسباب الهلاك اتباع الهوى، فإنه يهوي بصاحبه إلى المهالك حتى يورده النار .
قال الشاطبي: " سمى الهوى هوى، لأنه يهوي بصاحبه إلى النار " . وروي هذا عن الشعبي .
وقال ابن عباس : ما ذكر الله - عز وجل - الهوى في كتابه إلا ذمه !!
" وأصل الضلال : اتباع الظن والهوى، كما قال تعالى فيمن ذمهم : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [سورة النجم الآية :23 ] .
وهذا وصف للكفار فكل من له نصيب من هذا الوصف فله نصيب من متابعة الكفار بقدر ذلك النصيب .
وقال - تعالى - في حق نبيه، صلى الله عليه وسلم، { والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحى يوحى } [سورة النجم الآيات1-4]
فنزهه عن الضلال والغواية، الذين هما : الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعمل الحق، والغاوي الذي يتبع هواه .
وأخبر أنه لا ينطق عن هوى النفس، بل هو وحى أوحاه الله إليه. فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوي " .(2/91)
ومتبع الهوى لا بد أن يضل، سواء عن علم أو عن جهل، فإنه كثيراً ما يترك العلم اتباعاً لهواه، ولا بد أن يظلم إما بالقول أو بالفعل، لأن هواه قد أعماه .
ولهذا حذر السلف عن مجالسة من هذه صفته، كما قال أبو قلابة : " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون " .
وقال أيضا: "لا تجالسوا أهل الأهواء فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه لبسوا عليكم ما تعرفون " . يعني أن مجلس صاحب الهوى لا يسلم من الشر . فإما أن يتابع صاحب الهوى على هواه وباطله، أو يدخل عليه شبهة في دينه الذي يعرف أنه حق .
وقال ابن عباس : " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب " .
وقال ابراهيم النخعي : " لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين " .
وقال مجاهد : " لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب " .
يعني أنهم يعدون من قرب منهم، كما أن من قارب الأجرب جرب .
وقال محمد بن علي : " لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله " .
يقصد قوله - تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } [ سورة النساء ، الآية : 140 ] .
وقال مصعب بن سعد : " لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين إما أن يفتنك فتتابعه ! وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه " !!
وقال يونس بن عبيد : " أوصيكم بثلاث : لا تمكنن سمعك من صاحب هوى ، ولا تخل بامرأة ليست لك بمحرم ، ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه ".(2/92)
وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني : " يا أيوب احفظ عني أربعاً : لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا " .
وقال أبو الجوزاء: "لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء". وقد دخلوا في هذه الآية : {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور }. [سورة آل عمران ، الآية :119] .
وقد دل على هذا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدجال، فإنه قال : " من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " .
والمتعين على العبد - ولا سيما المبتدئ والشاب - أن يبتعد عن الشبه والجدال في الدين، فإن ذلك يجر الى الردى .
قال ابن بطة : قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، :" من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات " .
قال : هذا قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فلا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينة في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء فيقول : أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا عليهم .
وذكر أن محمد بن السائب كان من أهل السنة، فقال : نذهب نسمع من هؤلاء فما رجع حتى أخذ بها وعلقت في قلبه . أ . هـ ومثله كثير .(2/93)
والهوى : كل ما خالف الحق، وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال والأفعال والمقاصد، فالهوى ميل النفس إلى الشهوة، ثم يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية !!
فميل النفس إلى الثناء ومدح الناس وتعظيمهم إياه وطلب الرفعة عليهم في رئاسة أو صفة هو الهوى .
وقد ذم الله اليهود لاتباعهم لأهوائهم، حيث قادهم ذلك إلى تبديل شرع الله والكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الوحي .
وسبب ذلك اتباعهم لأهوائهم، قال تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتهم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [سورة البقرة الآية 87] . وقال تعالى : { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } [ المائدة ، الآية : 70]
فاتباع الهوى هو أصل الضلال والكفر، ومعلوم أن ذلك يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن اتباع الهوى ما يوصل إلى ما ذكر، ومنه ما هو أقل من ذلك، وكل من خالف الحق لا يخرج عن اتباعه للهوى أو الاعتماد على الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [سورة النجم ، الآية :23] . فإن كان يعتقد أن قوله صحيحاً وله فيه حجة يتمسك بها فغايته اتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا وتكون حجته شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، فإذا ميز الحق فيها عن الباطل زال الاشتباه .
ومما يجب أن يعلم أن الله - تعالى - لم يقص علينا في القرآن الكريم قصص السابقين إلا لنعتبر بها لما فينا من الحاجة إلى ذلك، ولما فيه من المصلحة، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا ما يقع لنا وما يكون فينا على ما وقع من السابقين وحصل لهم من جراء ذلك .(2/94)
ولولا أن في نفوس كثير من الناس أو أكثرهم ما كان في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه بقول أو فعل أو سجية كامنة في النفس تنتظر الخروج، ولكن الواقع مثل ما قال الله تعالى : {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ سورة البقرة ، الآية 118] وقوله تعالى : {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [ سورة الذاريات الآية :52 ] وقال تعالى : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } [سورة فصلت ، الآية :43] وقوله : { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } [ سورة التوبة الآية :30 ] ، أي قولهم يماثل قول من سبقهم بالكفر ويشابهه .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " . والقذة : ريشة السهم، وهي ما يشبه رصاصة البندقية (اليوم)، فكل واحدة تكون مساوية للأخرى، فالمعنى أنكم تكونون مثلهم بأفعالهم سواء بسواء .
وفي الحديث الآخر : " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله ، كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك " .
بمعنى الأول تماما . وكثير من الناس يدعو إلى أن يكون شريكا لله تعالى في طاعة الأمر واتباعه، بل والتعظيم ! وإن كان لا يستطيع أن يصرح بذلك، ولكن هذا كامن في نفسه، وهذا غاية الظلم والجهل، وكل نفس - إلا ما شاء الله - فيها على الأقل شعبة من ذلك، إن لم يعن الله العبد ويهديه، وإلا ظهر ذلك من نفسه ووقع فيما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب قدرته وسلطانه .
قال بعض السلف : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر .(2/95)
والعاقل إذا تعرف على أحوال النفس، ونظر في أخبار الناس، وجد أن كل واحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلوا بحسب حاله وقدرته، فالنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها . فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه ! فمعبوده ما يريده ويهواه … كما قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عيه وكيلا } [سورة الفرقان ، الآية : 43 ] . فمن وافق هواه واستمع لأقواله واتبعه صار صديقا له مقربا منه، وإن كان عاصيا لله تعالى بل ربما وإن كان مشركا كافرا، ومن لم يوافقه فيما يهواه كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين . والتفاوت في هذا بين الناس كبير، فكثيرمن المسلمين يطلبون طاعتهم في غيرهم، وإن كان في طاعتهم معصية لله تعالى ، فمن أطاعهم في ذلك كان أحب إليهم وأعز عندهم ممن أطاع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وكثير من الناس يكون في نفسه حب الرئاسة كامن لا يشعر به، ويخفى عليه، فضلا عن غيره، وعند المقتضيات تظهر هذه الكوامن؛ ولهذا سميت هذه الشهوات الخفية .
قال شداد بن أوس : " يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني : ما الشهوة الخفية ؟ قال : حب الرئاسة، فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها " .(2/96)
* ومن علامات ذلك محبة من يعظمه بقبول قوله أو الاستماع له أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أطوع لله وأتقى ، وهذا يوجد كثيرا حتى في أهل العلم !! فتجد بعض أهل العلم يحب من يعظمه ويطيعه دون أن يعظم من هو نظيره في العلم أو أفضل منه، وإن كانا على منهج واحد، وإنما يتم بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر طاعة لله، وربما أبغض من يشاركه في العلم والاتباع حسدًا وبغيًا .. كفعل اليهود لما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى : كفروا به وأبغضوه . قال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } [ سورة البقرة ، الآية :91] .(2/97)
ثم قد يحصل ممن هذا وصفه ظلم وعدوان لمن خالفه في هواه، أو ربما لمن قام ببعض ما يجب عليه لله من نشر علم أو دعوة الى الله تعالى ، فيقف في وجهه صادا عن الحق أو ملبسا الحق بالباطل كفعل علماء اليهود، كما قال تعالى عنهم: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [سورة آل عمران الآية :71] . ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المكروهة المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله ابتغاء التفرقة وابتغاء الفتنة، وهو في ذلك يزعم أنه مصلح ودافع للفساد، كما قال الله عن فرعون : {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [سورة غافر الآية : 26 ] فهو يزعم أنه هو المصلح والمحافظ على الدين الحارس له من التغيير والتبديل، وأما موسى فإنه ممن يسعى لتغيير الدين والفساد في الأرض !! وهكذا تقلب الحقائق لدى أهل الأهواء ومبتغي العلو في الأرض فيصبح المفسد مصلحا والمصلح حقا لديهم مفسدا، والكفر بالله ومنازعته سلطانه : دينا يجب أن يحمى ويصان، ودين الله يعتبر تغييراً للدين وتبديلا للحق ، فتجد هؤلاء يصنفون الناس حسب أهوائهم . فهذا إخواني وذلك سلفى والآخر تبليغي، والثاني سروري أو اخونجي !! وهكذا أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وليست في دين المسلمين، بل هي من دين الجاهلية ومدعاة للعصبية والتفرقة !!
وإن كان اسم "السلفي" قد وردت به الآثار، والمقصود به من اتبع طريقة الصحابة، ومن اقتدى بهم، ومع ذلك فإذا استخدم للتعصب والتحيز إلى فريق معين فإنه يكون ممقوتا في الشرع .(2/98)
فقد جاء في السيرة في أحد مغازي النبى - صلى الله عليه وسلم - " أنه اقتتل غلامان : غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار فنادى المهاجر يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذا ، دعوى أهل الجاهلية ؟! دعوها فإنها منتنة " . مع أن هذين الإسمين [المهاجرين والأنصار] جاء بهما القرآن، وهما محبوبان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولما استخدما لنوع من العصبية صار ذلك من فعل الجاهلية، وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الدعوى منتنة لأنها تدعو إلى التفرق والتفكك .
وقريب من هذا ما حصل لسلمان يوم أحد، لما رمى أحد المشركين ، قال خذها وأنا الفارسي، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : قل وأنا الرجل المسلم .
ومثله ما ذكره شيخ الإسلام يرحمه الله تعالى ، قال : روينا عن معاوية بن أبي سفيان : أنه سأل ابن عباس : أأنت على ملة علي أو على ملة عثمان ؟ فقال : لست على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : "وكذلك كان كل من السلف يقولون : كل هذه الأهواء في النار . ويقول أحدهم : ما أبالي أي النعمتين أعظم : أن هداني الله للإسلام أو أن جنبني هذه الأهواء " .(2/99)
فلا يجوز التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله، مثل أن يقال للرجل : أنت شكيلي أو قرفندي ، فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلى ولا قرفندي !! بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين المؤمنين عباد الله ، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء ولا يوالى عليها ويعادي بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان . أ هـ .
والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصا لله متجرداً للحق، وغالباً على نفسه بالمجاهدة عن اتباع الهوى وما تميل إليه من حظوظها الدنيوية، كحب الثناء والظهور وكثرة الأتباع، أو ما هو أسوأ من هذا كله، وهو الحصول على شيء من حطام الدنيا .
* ومن نظر في كثير من الخلافات بين الجماعات والأفراد ، سواء كان ذلك في مسائل العلم أو في مجال التوجيه والعمل، وجد ظاهرها في طلب العدل والإنصاف، أو الصواب وترك الانحراف، وحقيقتها حب عبادة النفس واتباع الهوى، أو أغراض سيئة دنيئة، وقد علم أن الهوى يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله، وقد ترجع إلى أمور شخصية أو تطلعات معينة دنيئة، وإن غلفت بالغيرة على الدين وإرادة إظهار الحق، والواقع خلاف ذلك .
ومن هذه صفته فهو ومن نحى نحوه المعني بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة وعبد القطيفة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط . تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " .(2/100)
فهو عبد لهذه الأشياء لأن عمله من أجلها، ولها يرضا ويسخط، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط". وهذا يدل على أن صاحب الهوى يعبد هواه كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } [سورة الجاثية ، الآية 23 ] . وفي حديث أبي هريرة الذي في الصحيح في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : " الأول من تعلم علما ليقال : هو عالم قارئ، والآخر من قاتل ليقال هو جريء شجاع، والثالث : من تصدق ليقال هو جواد كريم " . فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم وطلب الجاه عندهم وتعظيمهم لهم، لم يقصدوا بفعلهم وجه الله وإن كانت صور أعمالهم حسنة في الظاهر .
وفي الحديث الآخر : " من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار " .
فمباهات العلماء أن يظهر لهم أنه يعرف ما يعرفون، ويدرك ما لا يدركون من المعاني والاستنباطات، وأنه يستطيع أن يرد عليهم، ويبين أنهم يخطئون .
وأما مماراة السفهاء فهو مجادلتهم ومجاراتهم في السفه .
وأما صرف وجوه الناس إليه فالمراد به طلب ثنائهم ومدحهم له، وتعريفهم بأنه عالم، فهو بعمله هذا يتقرب إلى النار .
وفي الحديث الآخر : " من طلب علما مما يبتغي به وجه الله تعالى لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة . وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة " .
ومقابله ما قاله أبو عثمان النيسابوري : " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة " لأن الله يقول : {وإن تطيعوه تهتدوا} [سورة النور الآية:54] .(2/101)
فاتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف : " شر إله عبد في الأرض الهوى " ! فهو يضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه شيعا يتعصب كل واحد لرأيه ويعادي من خالفه، ولو كان الحق معه واضحا لأن الحق ليس مطلوبه !! وبذلك يذلوا وتذهب ريحهم، ويفشلوا أمام كل عمل أرادوه، لأنهم صاروا متفرقين تتحكم فيهم الأهواء، ولذلك تجد هؤلاء كلما علم أحدهم أن من يخالفه قد تكلم في مسألة أو موضوع تجده يبادر إلى الرد عليه بدون تأمل في قوله وتلمس لوجه الصواب، بل يعمى عن هذا المقصد، ويبذل جهده في تضليل مخالفه، وتفنيد رأيه بكل ما يستطيع، ولو برأي تافه وتعسف بغيض، مع أن الذي يوجبه الإسلام هو محادثة المخالف والاطلاع على دلائله، ووزنها بميزان الكتاب والسنة . ثم يكون ذلك هو المنهي للنزاع، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [سورة النساء ، الآية 65 ] فنفى الإيمان عمن لم يحكم الكتاب والسنة فيما يختلف فيه هو وغيره، ثم يسلم لحكمهما وينقاد له بدون تبرم أو ضيق صدر بذلك . بل لا بد من الرضا به والتسليم له مطلقا وإلا لا يكون مؤمناً .
وقال تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [سورة النساء الآية 59] فأوجب رد كل ما حصل فيه نزاع إلى الله والرسول لأن قوله : { في شيء } نكرة تعم كل ما أحدث نزاعاً وإن قل، وبين أن الرد إليهما هو مقتضى الإيمان، فإذا لم يرد النزاع إلى الله والرسول فمفهوم ذلك انتفاء الإيمان عمن فعل ذلك . وهذا المفهوم قد صرح به منطوقا في الآية السابقة . والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته .. وذلك بإجماع العلماء .(2/102)
وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [سورة النور الآية: 63]. أي فليحذر من لم يتبع الرسول في أقواله وأعماله ظاهراً وباطنا أن يطبع الله على قلبه ويزين له سوء عمله فيراه حسنا فيزداد شرا على شر أو يصيبه الله بعقاب عاجل مؤلم لا يتخلص منه مع ما أعد له في الآخرة من النكال والإهانة.
قال ابن كثير :" أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطنا : {أن تصيبهم فتنة} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة . {أو يصيبهم عذاب أليم} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك . ثم ذكر الحديث الذي في الصحيحين : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما مثلى ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يقعن فيها فجعل الرجل يزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ". ووجه ذكر هذا الحديث تفسيراً لهذه الآية ظاهر وهو أن من خالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى بنفسه في النار فليحذر الإنسان أن يزين له الشيطان أو هواه اتباع من خالف الشرع محسنا ظنه به فيعض على يديه يوم يحصل ما في الصدور .
وكل هذا .. المقصود منه حسم النزاع وإنهاؤه ليحصل الوئام والاتفاق، فإن هذا من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية . وقد قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [سورة آل عمران الآية 102]، وقال تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [سورة آل عمران الآية 107 ]. وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، [سورة الأنفال الآية :1] . وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا}، [ سورة الروم الآيتان 31،32 ] وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [سورة الأنعام الآية :159 ].(2/103)
أمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وأن لا يموتوا إلا وهم مستسلمين لأمره منقادين لطاعته مبتعدين عن معصيته . فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .
وأمرهم أن يعتصموا بدينه عن التنازع والاختلاف والتفرق الذي يدعو إلى التعادي والتقاطع ثم الفشل والضعف وتسلط الأعداء ! وأن يشكروا الله على ما من به عليهم من نعمة الاجتماع على دينه أخوة متحابين، وأمرهم أن يكونوا دعاة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم نهاهم عن التفرق بعدما أعلمهم ضرره وما يترتب عليه من العداء والتباغض، ثم التدابر والتقاتل، كما حدث لمن قبلنا الذين يجب أن نعتبر بهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، فمن فعل ذلك سوف يسود وجهه عند ملاقاة ربه وتيقنه بالجزاء العادل، وذلك يوم تبيض وجوه أهل الحق والوفاق الذين اعتصموا بكتاب الله عن التفرق والاختلاف، فعروفوا الحق واجتمعوا عليه، وعرفوا قبح الباطل وسوء عاقبة أهله فابتعدوا عنه، وكل هذا يدل صراحة على وجوب الاجتماع والائتلاف، ويحرم التفرق والاختلاف بجميع صوره . فمن أوجد ثغرة يخرج منها عن هذا الاجتماع يكون محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مفارقا لأمره، وهذا شأن أهل الضلال والأهواء .(2/104)
أما أهل العلم فإنهم يختلفون في بعض مسائل العلم وهم متحابون مجتمعون على الحق، معتصمون بحبل الله، كما كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختلفون في بعض أحكام الشرع ولا يدعوهم ذلك إلى التفرق وأن يكونوا شيعا كل فريق يعادي الآخر، كما يحصل اليوم لكثير ممن يزعم أنه من أهل العلم وذلك لأنهم اعتصموا بحبل الله جميعا كما أمر الله تعالى، وإنما كان اختلافهم في الاستنباط وإعمال الفكر في نصوص الشرع وكلياته فيما لم يجدوا فيه نصا فحمدوا وأجروا على ذلك.. مثل اختلافهم في إرث الجد مع الأخوة، وفي جواز بيع أمهات الأولاد، وفي المشركة، وفي الطلاق قبل النكاح، وفي مسائل في البيوع، وغير ذلك كثير كل واحد يخالف الآخر، ومع ذلك كانوا متوادين متناصحين، رابطة الأخوة الإسلامية قوية بينهم .
قال الشاطبي : كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمرالدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير الآية، وهي قوله تعالى : {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [ سورة الأنعام الآية 159]. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [سورة آل عمران الآية 103 ]. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين " أ . هـ .(2/105)
والتفسير الذي أشار إليه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر به قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} [سورة الأنعام الآية 159] هو ما ذكره عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله عليه وسلم : يا عائشة : " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " هم أصحاب الأهواء، وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ! يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ! وأنا بريء منهم وهم مني براء !!(2/106)
وقال الشاطبي أيضا : " ينبغي أن تذكر أوصاف أهل البدع ولا يعينون بأعيانهم لئلا يكون ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله، حيث قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [سورة آل عمران الآية : 103]، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [سورة الأنفال الآية 1 ]، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [ سورة الروم الآيتان 31،32] وفي الحديث : (لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين، والشريعة طافحة بهذا المعنى" أ هـ . يعنى أن من قواعد الشرع ومن مقتضيات الإيمان والاعتصام بكتاب الله : الوحدة على الحق والاتفاق عليه، وأن ترك الاهتداء بهذا الدين يورث الاختلاف والشقاق، كما قال تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق} [سورة البقرة الآية : 137] فالله تعالى أوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، فعليه نجتمع وبه نعتصم .. لا بأوضاع زائفة، ولا بمذاهب مخترعة، ولا بجنسيات يعتز بها، ولا بسياسات باطلة مبنية على غير الحق والهدى ! ونهانا عن التفرق والتفكك والانفصام بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في ذلك من زوال الوحدة التي هي مناط العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلوا على الباطل، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الأعداء ومكائدهم .(2/107)
* وقد جاء النهي عن التفرق مصحوبا بالوعيد الشديد لفظاعة أمره، وسوء عاقبته . كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [ سورة آل عمران الآيتان :105،106]. لأن الاختلاف بعد مجيء البينات خروج على أمر الله الذي يجب أن يكون جامعا للناس موحدا لصفوفهم، فإذا فهم قول الله واتبع وحسنت المقاصد صار عاصما من الاختلاف والتفرق، داع للاتفاق والاجتماع على طاعة الله ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يتضمن التعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للمسلمين عامة وخاصة، ولهذا جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا هو الدين كما في حديث تميم الداري، قال : الدين النصيحة قالها ثلاثا ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
ومما يؤسف له أن هذا الأمر المهم لم يوله طلبة العلم في أيامنا هذه ما يستحقه من الاهتمام والاعتناء به، مع وجود كثير ممن نصب نفسه للتوجيه والتدريس ويغلب عليه حب الظهور واتباع أهواء النفوس مع الجهل الكثير في المسائل العلمية المهمة، فصار من ثمار ذلك هذه الحالات التي يعيشها الشباب اليوم من التحزبات والاشتغال بالقيل والقال، وإطلاق الألسنة تلوك وتلفظ في أعراض الناس، ولا سيما المشايخ والدعاة الى الله، بل توجه إليهم سهام النقد والتجريح بلا جريمة، بل جعلوا المحاسن مساوئ !(2/108)
وقد استمعت لكلام أحد هؤلاء نقل كلاما لأحد الدعاة يثني فيه على العلماء ويقول : " إنهم يقومون بأعمال كثيرة ويتحملون أعباء عظيمة، فيجب أن لا نحملهم ما لا يطيقون، ويجب علينا أن نساعدهم ونعاونهم ونكمل النقص الذي يحصل لهم " .. ثم يجعل هذا الكلام محلا للانتقاد ويقول :" وهذا هو تنقص المشايخ والعلماء وعدم تقديرهم " .. إلى آخر هذيانه الذي هو أشبه بهذيان المحموم : فما أدري ماذا يريد هذا الناقد الغيور على المشايخ ؟ هل يريد أن يجعلوا في عداد الرسل معصومين كما تقوله الرافضة أو أنه لم يجد شيئا يتعلق به إلا أن يلبس على الناس بأن هؤلاء الدعاة قد خرجوا عن الحق فصاروا يرمون أهله بالتنقص والازدراء ؟ ! .
* أقول : من نتائج أفعال هؤلاء تبلبلت أفكار كثير من الشباب .
* فمنهم من ضل طريق الهدى ، وصار يتبع ما يرسمه له هؤلاء النقدة الذين وقفوا في طريق الدعوة يصدون عن سبيل الله .
* ومنهم من صار لديه بسبب هؤلاء النقدة فجوة عظيمة بينه وبين العلماء، ووحشة كبيرة فابتعد عنهم.
* ومنهم من جعل يصنف الناس حسب حصيلته مما يسمع من هؤلاء بأن فلانا : من الإخوان، لأنه يكلم فلانا من الإخوان أو يزوره أو يجلس معه، وأن فلانا من السروريين، وفلانا من النفعيين وهكذا .
والعجب أنهم بهذا يزعمون أنهم يطبقون منهج الجرح والتعديل. وقد اتخذوا في هذا رؤساء جهالاً فضلوا وأضلوا .
فعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي هؤلاء المساكين أرباع المتعلمين أو أعشارهم .
وفي الحديث الصحيح : " لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم " يعني خير لك من الدنيا، فكذلك من ضل بسببه رجل واحد فعليه وزر عظيم . وقد قال الله تعالى بعدما ذكر قصة قتل ابن آدم لأخيه : {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} [سورة المائدة ، الآية :32 ].(2/109)
وإضلال الإنسان في دينه أعظم من قتله بكثير، والكلام في مسائل الدين يجب أن يكون بدليل من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأن يقصد به وجه الله، وألا يكون ضرورة أكبر من نفعه، والا يكون الحامل عليه الحسد لمعين واتباع الهوى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : " ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال قال تعالى : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [سورة المائدة الآية :8 ]. وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس ؟! فهو أحق أن لا يظلم ، بل يعدل عليه " .
وقال : " والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم. والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، والعدل من المعروف الذي أمر الله به وهو الحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر .
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه الأمور الاعتقادية أو العملية . قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} [سورة البقرة الآية 213]. وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [سورة الشورى الآية :10] .(2/110)
فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة، فهو كافر ! وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة ولا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه " .
والله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه، وبدينه، وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة ، فإن القرآن الكريم يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعاً إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله، وفي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " .
والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين الأحياء منهم والأموات، وحرم دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع : " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" .
وقد قال الله تعالى : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} . [سورة الأحزاب ، الآية :58 ] فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية .(2/111)
ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وإن حصل له بفعله مصيبة .
وقال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} [سورة الحجرات ، الآية : 5 ] وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره .. قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول . قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " .
فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته، ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم وتعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته، وإن كان فيه ذلك فقد اغتابه، ولكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين .
فالأول : كقول المشتكي المظلوم : فلان ضربني، وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك . قال تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [ سورة النساء ، الآية : 148 ] .
وأما الحاجة : فمثل استفتاء هند بنت عتبة . قالت : يا رسول الله " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وابنى ما يكفيني بالمعروف ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجاه . فلم ينكر عليه قولها ذلك، وهو من جنس قول المظلوم .
وأما النصيحة : فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها . قالت : خطبني أبو جهم ومعاوية . فقال : " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " . وفي لفظ : " يضرب النساء ولكن انكحي أسامة " . فذكر ما تحتاج إليه، وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله، والنصيحة مأمور بها، ولو لم يشاوره كما مر في حديث تميم .(2/112)
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم .
وكذلك بيان غلط من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية .
فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق .
أما إذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان فذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة " . وفي الصحيحين أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" . وفيهما عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } [ سور الحجرات ، الآية : 11 ] .
فنهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، واللمز هو العيب والطعن .(2/113)
وقوله تعالى: {ولا تلمزا أنفسكم}، أي لا يلمز بعضكم بعضا . وعلى المسلم أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما يقوله ويفعله، وألا يكون بقوله وفعله طالبا الرئاسة لنفسه أو لطائفته، أو تنقص غيره وحسده. وأن يفعل ذلك لطلب السمعة والرياء، فإنه بذلك يحبط عمله، وإذا كان علمه صالحا وخاليا من الشوائب المفسدة في المبدأ. ولكن لما رد عليه قوله أو أذى من أجل ما هو لله تعالى فنسب إلى الخطأ والغرض الفاسد عند ذلك طلب الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان وزين له ذلك فيكون مبدأ علمه لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يقع لأصحاب الاختلافات إذا كان كل واحد منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة ، فيقعوا في الهوى وطلب الانتصار لجاههم ورئاستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا، لا يغضبون عليه لله، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيقضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، فتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله فيتشبهون بالكفار الذين لا يطلبون إلا أهوائهم فتنشأ الفتن بين الناس.
وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والعبادة كلها له والاستعانة به، والخوف منه والرجاء له والعطاء والمنع له، وهذا لا يكون إلا بمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، وطاعته طاعة الله، ومعاداته معاداة الله، ومعصيته معصية لله تعالى .(2/114)
وصاحب الهوى يعميه هواه ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله، ولا يطلب ذلك، فلا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يهواه ويريده، ويغضب إذا خولف هواه، ويكون مع ذلك عنده شبهة دين وعلم، أو أنه يعمل على اتباع السنة ونصرة الدين والواقع خلاف ذلك .
ولو قدر أن الذي معه هو الحق المحض ولكنه قصده الانتصار لنفسه ولغرضه، ولم يقصد أن يكون الدين كله لله وكلمة الله هي العليا بل قصده الحمية لنفسه ولطائفته أو قصده الرياء ليعظم ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا، أو لغرض من أمور الدنيا لم يكن لله ولا في سبيله، فكيف إذا كان مثل غيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا .
والاختلاف إذا كان في ملة واحدة فكله مذموم، لأنه يؤدي إلى التنازع والتفرق، والدين يأمر بالاجتماع والإتلاف . قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [سورة البقرة : الآية : 176] . وقال : {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [ سورة يونس ، الآية : 19 ] فذمهم على الاختلاف، وأما إذا كان الاختلاف بين أهل الإيمان والكفر كقوله تعالى : {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [سورة البقرة ، الآية : 253] فهذا مطلوب لأن فيه تمييز الحق من الباطل، ومزاولة الباطل والبعد عنه .
وإذا حصل خلاف بين أهل الدين يجب أن يقصد به طاعة الله وتنقية الحق من الباطل في نفوس الناس .. رحمة بهم وإحسانا إليهم وطلبا لرضى الله تعالى، حتى إذا رد على أهل البدع الظاهرة مثل الرافضة وغيرهم يجب أن يقصد بذلك بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا غلط في بيان بدعة أو ذمها أو معصية يجب أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا والقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام .(2/115)
والله أعلم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
محاولة لعلاج ظاهرة التنازع والتشرذم
كلمات في الاجتماع: -------
(1)
ما غلا قوم في شيء، إلا وظهر غلو آخرين في ضده..
الغلو في تقديس الأشخاص، يقابله الغلو في رفض الأشخاص..
أيهما سبب غلو الآخر؟..
كلاهما...
والحل في التوسط، والعدل، والانصاف...
قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا..}..
وقال: {ولايجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}..
وفي الأثر:
(أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما، وأبغض بغيضك هونا، عسى أن يكون حبيبك يوما ما)..
________________________________________
(2)
لا بد من التريث وعدم الاستعجال في الحكم على الآخرين، خاصة أولئك الذين عرف عنهم اتباع منهج السلف والدعوة إليه..
فمن الذي لا يخطيء، ولو كان من أهل السنة والجماعة؟..
فلو أن كل من أخطأ هجر، وحذر منه، وشهر به، لما سلم أحد، حتى الهاجر والمحذر والمشهر، لن يسلم، لأنه لن يسلم من الخطأ..
والنتيجة: تمزيق الأمة ظلما وعدوانا..
إنما السبيل المناصحة بالتي هي أحسن، بالقول اللين، والصبر في تبليغ النصيحة، وإظهار المحبة والشفقة والحرص وصدق الإخوة..
هذا إن كان خطأ مجمعا عليه عند أهل السنة، أما وجهات النظر، والمسائل القابلة للاجتهاد، فهذه لا تنبغي أن تكون سببا في الخلاف أصلا..
لذا من المهم معرفة ما يسوغ وما لايسوغ فيه الخلاف...
فبعض الناس جاء إلى مسائل يسوغ فيها الخلاف، فجعلها موطن ولاء وبراء.. وهذا جهل ..
ومن المهم معرفة ما الخطأ والصواب..
فبعض الناس جاء إلى ما هو صواب، فجعله خطأ، وما هو خطأ، جعله صوابا.. وهذا جهل..
ومن الجهل أن ينجر المرء وراء الجهل..
________________________________________
(3)(2/116)
الاجتماع يكون مع كل من يتبنى، علما وعملا، الكتاب والسنة ومنهج السلف، فمثل هؤلاء يجب عليهم ألا يختلفوا، والله تعالى يقول مخاطبا هؤلاء: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}...
فإذا ظهر من بعضهم خطأ فالواجب النصح والبيان والصبر..
وعلى من أنكر على أحد شيئا، أن يحمل رأيه إليه، ويبينه له، ويسمع منه الجواب، ولا يأخذ الجواب من وسائط، ولا يأخذ الخبر والحكم من وسائط، لأن الوسائط كثيرا ما تفتقد إلى الدقة في النقل، فتزيد وتنقص أشياء تكون سببا لتكبير الخلاف والفجوة...
وليس الخبر كالمعاينة.. وإنما آفة الأخبار رواتها..
________________________________________
(4)
بعض الفئات لاهم لها إلا تضخيم الأخطاء، وتحميل الكلام لايحتمل من المعنى، إما جهلا بمواقع الكلام والأدلة الشرعية، أو رغبة في سوء..
لذا فعلى الحصيف الحريص على الجماعة أن لا ينجر وراء هذه الفئات، بل يفحص كل تهمة ونقد يصدر منها تجاه غيرها، حتى لا يشاركهم في العدوان على بريء.. لينظر هل الكلام يحتمل ما حمّل أم لا؟..
وهنا من المفيد سؤال أهل العلم، خاصة أولئك الذين عرف عنهم الحياد، أي عدم المشاركة في الخلافات الناشبة بين بعض الفئات، فالخارج عن الخلاف أكثر إصابة للحق من الواقع فيه..
وليعلم أن التعصب لفئة يعمي البصيرة... فلا تدرك الحق، ولو ظهر كالشمس، لأن العقل منصرف عن الفهم والإدراك، وكم من الخلافات كان مصيرها الحل، لو أن النفوس سليمة، خالية من التعصب، لكن لما لم تكن كذلك، حصل الخلاف وتضخيم الاخطاء والنبذ والبراء..
________________________________________
(5)
الحق فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما أمر به، وليس فيما يراه فلان وفلان..
فليس مقياس الغيرة على الدين وشعائره الكتابة فيما يراه بعضهم مهما، على الوجه الذي يرضيهم..(2/117)
إنما المقياس: اتباع الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل به، والدعوة إليه..
________________________________________
(6)
أخي...
ليس لك مع من ترى أنك تخالفهم إلا الكلمة الطيبة، فبوسعهم أن يمطروك تهما، وأن يستبيحوا لأنفسهم ما تستبيحه أنت منهم.. لكن هذا لن يجدي شيئا، فلن تقنعهم بشي..
إنما سبيل الذي يغار على دين الله تعالى، ويهمه أمر الأمة أن يدعو إلى سبيل الله ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يقول القول اللين، وأن يخاطب إخوانه بالتي هي أحسن..
أتدري لماذا؟..
إن للخطاب الحسن، القائم على التماس العذر وحسن الظن أثرا حسنا:
- فهو دال على أن صاحبه متبع لهدي القرآن، حين أمر موسى عليه السلام أن يخاطب فرعون بالقول اللين..
- وهو دال على أنه متبع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يخاطب من يدعوهم بأحسن عبارة..
- وهو دال على اتباع السلف، الذين لن يخالفوا بحال طريقة القرآن، ولا منهج النبوة..
- ثم هو الكفيل بهدم الفجوات بين المتخالفين، فالخطاب الحسن يحمل على حسن الاستماع وفهم كل خصم كلامه خصمه، فينفذ كلامهما إلى القلب، فربما لم يكونا مختلفين أصلا، وربما اهتدى المخطيء منهما..
كل ذلك بالخطاب الحسن..
أما إذا صار الخطاب عنيفا، التهم فيها مقدمة، واستباحة العرض هو الشعار، فلا ترجو إلا القطيعة والهجر وتصلب المواقف، والعناد، وكل تأخذه العزة بالإثم، حتى لو بان الحق لأحدهما، فلن ينجر إليه، ولن يقبل منه، لا لشيء إلا لأنه جاء من غير طريقه القويم.. ولأن الشيطان قد نزغ.. والله يقول: { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}..
{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا}..(2/118)
فأهل الحق، ومن يرنو إلى الحق، ويخضع له، أولى بأن يتبعوا منهج القرآن في الخطاب، ولو كان الخصم ضالا مضلا، فكيف إذا كان أخاً، يبتغي الحق، ويحبه..؟؟
فاتقوا الله يا أولي الألباب...
وفقني الله وإياكم...أبو سارة
ـــــــــــــــ(2/119)
إدارة الخلاف
سلمان بن فهد العودة
لإدارة الخلاف ضوابط وهو علم أصبح يدرس اليوم , وتمتلئ رفوف المكتبات بالمطبوع والمترجم والقديم والجديد من مصنفاته ؛ وهذه رؤوس مسائله :
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه"[الشورى:10]، " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"[النساء:59].
أ- القرآن الكريم "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"[الإسراء:9] .
ب- السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً"[الأحزاب:21].
ثانياً: الحوار؛ والحوار لا يكون إلا بين مختلفين، والله سبحانه أمر بالمجادلة بالتي هي أحسن حتى مع أهل الكتاب "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ "[العنكبوت:46] حتى المخالف في الأصول يهودياً أو نصرانياً أو بدعياً؛ فإنه يمكن محاورته بل يجب على القادرين محاورته بالتي هي أحسن، والله تعالى ذكر في القرآن الكريم ما دار بين ربنا -تبارك وتعالى- في خطابه لإبليس: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"[صّ:75-76].
وللحوار آداب يجب تعلمها وتلقينها.
الحوار بين الجماعات الإسلامية والأحزاب.
الحوار بين الدول.
الحوار بين الشعوب، ومنح الناس فرصة التعبير عن آرائهم في الهواء الطلق؛ فإنه في الهواء الطلق تموت الأفكار المنحرفة، والشمس تقتل الجراثيم، و في النهاية لا يصح إلا الصحيح.(2/120)
وبالحوار يمكن تحويل المتوحشين والمتشاكسين إلى مجتمع هادئ آمن "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"[آل عمران:159].
إن المناظرة الهادئة العلمية من أساليب الوصول إلى الحق، والتقريب بين المختلفين، أما هذه المناظرات التي تُعقد في القنوات الفضائية سواء دارت حول قضايا سياسية، أو قضايا عقدية، أو قضايا فكرية أو غيرها؛ فإن منها ما يتصف بالهدوء والليونة، وطول النفس، والواقعية والاعتدال، وهذه جيدة إذ تربي على الاستماع، وعلى النظر وتقبل الرأي الآخر، لكن ثمت ألوان من المناظرات يقصد بها حشد الأتباع، وتتميز بكثير من المغالطات والقفز فوق النتائج، وعدم الوصول إلى نقاط محددة، فتأخذه من أوقات الناس، وتستنزف من جهودهم الشيء الكثير، إضافة إلى أنها تزيد الناس لجاجة وتعصباً وبغضاً فيما بينهم، فلا هي تقرب بين المختلفين، ولا هي تكشف باطلاً، ولا تنصر حقاً، وربما يكون قصاراها في الغالب أن تكون لوناً من الإثارة الإعلامية.
ثالثاً: الشورى؛ وهو مما أمر الله به " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ"[آل عمران:159] "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"[الشورى:38]، لقد شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي غيرها، وإن ترسيخ مبدأ الشورى في الأسرة وفي المدرسة وفي الدولة، ومشاركة الناس في رسم مصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم هو من الضرورات التي لا مناص منها اليوم، وعلى الأخص ما يتعلق بالشباب؛ فإن ثمت ضرورة لاحتوائهم والقرب منهم، وتحسس آلامهم وآمالهم والاستماع إلى مشكلاتهم، وألا نحملهم على رأينا وعقلنا، وألا نستخف بهم.
إن إشعارهم بالأهمية ضرورة قصوى في مثل هذه الظروف، والاستماع إليهم واجب أيضاً، وإسماعهم الحق مجرداً صريحاً بلا مواربة ولا مجاملة هو من الواجبات أيضاً .(2/121)
رابعاً: تفعيل دائرة المتفق عليه؛ وهذه قاعدة رشيد رضا الشهيرة (قاعدة المنار) كان يقول -رحمه الله-: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
وهذه الكلمة ينتقدها كثيرون ويجلبون حولها، لكن لو نظر إليها الإنسان باعتدال؛ لوجد أنها قاعدة صحيحة.
إننا لا نتكلم بالضرورة الآن عن أعدائنا في الأصول، المخالفين لنا في قواعد الشريعة، وإنما نتكلم في داخل دائرة أتباع القرآن وأتباع السنة.
وقد أشار ابن تيمية -رحمه الله- في غير ما موضع إلى أن إسلام الكفار حتى لو تحقق على أيدي بعض أهل البدع خير من بقائهم على الكفر، وأن توبة الفجار حتى لو كان بسبب حديث ضعيف خير من بقائهم على ما كانوا عليه من الفجور، وأن الصلاة خلف المبتدع؛ خير من ترك الجماعة.
وهذه المسألة مسألة تفعيل دائرة المتفق عليه، تخضع للمصلحة والاجتهاد والنظر وتغير الأحوال، وما أجدر المسلمين اليوم ـ وهم في حال ضعفهم، وتراجع دورهم العالمي، وتسلط أعدائهم عليهم، واحتلال كثير من بلادهم ـ إلى العناية بهذه المسألة!
خامساً: تشجيع الاجتهاد، وتوفير المناخ الملائم لخصوبة العقول ونموها وإبداعها.
إن جو الحرية الشرعية؛ هو المكان الذي تزدهر فيه الأفكار الصحيحة، أما حين يكون على الإنسان أن يفكر ألف مرة ومرة قبل أن يقول ما يراه؛ لأنه سوف يواجه تهماً وتشنيعاً وأذى ومصادرة؛ فإن الإبداع حينئذ يموت، ونحن نتحدث عن الإبداع، لا عن الابتداع، هذا الإبداع في أمر الدنيا المسكوت عنه، وأما الابتداع فهو في أمر الدين المحض المنصوص، وما قصة ابن عباس عنا ببعيد لقد جلبه عمر رضي الله عنه وأجلسه مع كبار المهاجرين فاستغربوا ذلك، فسألهم عن سورة الفتح كما ذكر ذلك الإمام أحمد في فضائل الصحابة، فلم يجيبوا بشيء؛ فقال ابن عباس رضي الله عنه ما أراه إلا أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّنه له.(2/122)
سادساً:ومن ذلك -أيضاً- تشجيع النقد البناء والمراجعة الهادفة للأوضاع سواء كانت أوضاعاً سياسية تتعلق بالدول، أو أوضاعاً اجتماعية تتعلق بالموروثات عند الناس، أو أوضاعاً دعوية تتعلق بمقررات الدعاة وأنماط عملهم وأساليبهم.
مراجعة هذه الأساليب والأوضاع بهدوء وتجرد وتدرج، فليس ما نحن فيه الآن أفضل الأوضاع على أي صعيد، بحيث نقول: إن ما نحن فيه شاف كاف وليس عليه مزيد، بل نحن جميعاً معترفون بأن أوضاعنا بحاجة إلى تصحيح، وأول خطوات التصحيح هو النقد العلمي الهادف البناء.
إن الكثيرين قد يظنون أن التسلط وأن الديكتاتورية، سواء كانت سياسية بمصادرة آراء الناس وحجبها ومنعهم من الكلام، أو كانت علمية بفرض رأي واحد ومنع الناس من خلافه، يظنون أنها توحد الناس، والواقع أنها لا توحدهم، بل ربما خانتهم أحوج ما يكونون إليها؛ لأنك تجد أن الناس قد ينفتحون كما يقع اليوم انفتاحاً علمياً وسياسياً ضخماً هائلاً دون أن يكونوا تهيئوا لذلك واستعدوا له؛ فيصعب عليهم التكيف والتعامل مع هذه الأوضاع الجديدة بمسئولية .
سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو من سمات المؤمنين " بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر"[التوبة:71] وينبغي أن يكون مُدارًا بين العلماء وطلبة العلم والدعاة والخاصة والعامة، لكن هنا نقاط:
- لا إنكار في مسائل الاجتهاد التي يختلف فيها العلماء؛ فهذه المسائل لا ينكر فيها أحد على أحد, الكل مجتهد، ولكل مجتهد منهم نصيب وإن كان المصيب واحداً، وفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف.
- كثير من مسائل الخلاف ربما يكون القول الراجح فيها واضحاً أو الدليل واضحاً؛ فهنا لا بأس بالتعليم والإرشاد أو شيء من الإنكار إذا اقتضاه الموقف .
- لا ينكر مقلدٌ على مقلد، فإذا كان الإنسان مقلداً لغيره من العلماء أو المذاهب؛ فإنه لا يحق له أن ينكر على مقلد آخر.(2/123)
- عدم الإنكار لا يعني عدم النصيحة؛ والنصيحة لا تكون بطبيعة الحال في المسائل العلمية المحضة، كما كان الشافعي -رحمه الله- يقول في كتاب الأم وغيره: إنني لا أقول لرجل خالفني في مسألة علمية فقهيه تُب إلى الله تعالى من هذه المسألة؛ لأن التوبة إنما تكون من الذنوب، وهذا الإنسان هو بين أجر وأجرين.
- مراعاة فقه المصالح في إنكار المنكر؛ فمدار الإنكار على تحقيق المصلحة ودرأ المفسدة.
- مراعاة التدرج في الإنكار؛ فإن نقل الناس عما هم عليه شاق وصعب وشديد، ثم إذا لم يكن للأمر والنهي جدوى ولا مصلحة لم يكن واجباً على الإنسان أن يأمر وينهى؛ كما ذكر ذلك العز بن عبد السلام ورجحه، وذكره أيضاً الشيخ الشنقيطي في تفسيره، في تفسير قوله تعالى: "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى"[الأعلى:9]، ورجحه غير واحد من أهل العلم.
- الموادعة والمتاركة "وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا"[الأعراف:87]. وفي السيرة والفقه أبواب كثيرة كلها ينبغي استعمالها؛ فهناك أبواب للهدنة، وأبواب للصلح، وأبواب للموادعة، وأبواب للعهد وأبواب لغير ذلك مما ينبغي على الإنسان أن يتأمل ما يكون مناسباً للحال والمقام منه؛ فقد يحتاج الناس في كثير من الأحيان إلى أن يتعايشوا فيما بينهم بهدوء وموادعة ومتاركة بعيداً عن إدارة الحرب والصراع.
- الوضوح والمكاشفة، وعدم التعتيم أو التقليل من شأن الخلاف؛ فإن البعض ربما بدوافع عاطفية يحاولون أن يتجاوزوا الخلاف أو يقللوا من شأنه، مع أنه موجود ولا أشبه هذا إلا بالمريض الذي يذهب إلى المستشفى؛ فيتم تزوير التقارير والبيانات ونتائج الفحوص والأشعة ليقولوا: إن هذا الإنسان صحيح، بينما الأمراض تفتك ببدنه.(2/124)
إن من الوضوح والمكاشفة أن نتصارح في الخلافات التي توجد بيننا، لكنّ هذه المصارحة تكون سبيلاً إلى تجاوزها وإلى القضاء على الجوانب السلبية فيها.
- الفهم الصحيح وتجاوز مشكلات الاتصال؛ فإن كثيراً من الخلافات ربما تكون بسبب إشاعة مغرضة، أو بسبب قول لم يتثبت منه صاحبه، أو بسبب انطباع سيئ لم يكن مبنياً على علم صحيح إلى غير ذلك من الأشياء التي توغر صدور المؤمنين بعضهم على بعض، دون أن تكون مبنية على فهم صحيح للآخر، وقد تفهم هذا الإنسان من خلال كتاب أو موقف معين؛ بينما الحقيقة قد تكون أوسع وأبعد من ذلك.
إن المختلفين أحوج ما يكونون إلى أن يفهم بعضهم بعضاً بشكل صحيح، بعيداً عن ردود الأفعال والظنون والتصورات التي لا رصيد لها من الأدلة والحجج والواقع.
- وأخيراً الاستفادة من علم الإدارة الحديث ودراساته المتخصصة؛ فثمت كتب كثيرة في إدارة الخلاف بين الأفراد والجماعات والشركات وغيرها وهل يمكن الاستفادة منها، وبالمناسبة فثمت كتاب جميل ومفيد وجامع اسمه: فقه الاختلاف قواعد التعامل مع المخالفين بالإنصاف إعداد محمود محمد الخازندار؛ وهذا الكتاب جمع عدداً طيباً من الأخلاق والآداب التي ينبغي مراعاتها بين لمختلفين
المصدر : موقع الإسلام اليوم
ـــــــــــــــ(2/125)
أخلاقيات الخلاف
سلمان بن فهد العودة
للخلاف آداب وأخلاق يجمل الاتصاف بها والوقوف عليها للأخذ بها، من أبرزها :
أولاً: عدم التثريب بين المختلفين؛ فلستَ بأصدق إيماناً بالضرورة، ولا أوسعَ علماً، ولا أرجحَ عقلاً ممن تختلف معه، ولهذا قال يحيى بن سعيد: ما برح المستفتون يسألون، فيجيب هذا بالتحريم، وهذا بالإباحة، فلا يعتقد الْمُبيحُ أن الْمُحَرِّمَ هلك، ولا يعتقد الْمُحَرِّمُ أن المبيحَ هلك.
وكان الإمام أحمد يقول: ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء؛ فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا.
كتب أحدهم رأياً في مسألة من المسائل الفقهية ونشرها؛ فقال له أحد المناقشين: لماذا تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها العلماء من قبلك؟!
قال له: لقد بحثوها وأوسعوها بحثاً.
قال له: إذاً فلماذا تبحثها وقد بحثوها، ألا يكفيك بحثهم عما فعلت.
إن أفهام الرجال ليست وحياً، والمدارس الفقهية، أو الدعوية ليست هي الإسلام، وإن كانت تنتسب إليه وترجع إليه.(2/126)
وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ( وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ).
لاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي رجلاً من أصحابه اختاره لقيادة الجيش، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر بين أظهُرهم، ويقول له: لا تنزل الناس على ذمة الله وذمة رسوله، ولا على حكم الله وحكم رسوله؛ لأنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله وحكم رسوله أم لا ، ولقد سمعت بأذني غير مرة من يتكلم بمسألة قصارى ما يُقال فيها: إنها اجتهادية؛ فيقول: أنا لا أتكلم من قِبل نفسي أنا لا أقول برأي، وإنما هذا منهج الله، هذا حكم الله، و أقول: سبحان الله؛ فهل الآخرون يأخذون من التوراة، أو الإنجيل؟ كلا؛ بل الجميع يدورون على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن يكون المعنى قابلاً لأكثر من اجتهاد، وأكثر من محمل، وأكثر من رأي.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص إن الله حرم هذا وأوجب هذا، أو هذا حكم الله.(2/127)
ويقول ابن تيميه -رحمه الله-:ولكن كَثِيرًا من النَّاسِ يَنْسُبُونَ ما يقولونه إلى الشَّرْعِ وليس من الشَّرْعِ ; بل يقولون ذلك إما جَهْلاً وَإما غَلَطًا وَإما عَمْدًا وَافْتِرَاءً.
إنه لا وصاية على الناس ولا إلزام بمذهب معين، وقد عرض المنصور على إمام دار الهجرة مالك بن أنس أن يعمم كتاب الموطأ على الأمصار، وأن يُلزم الناس بالأخذ به، فنهاه عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وعملوا بذلك، ودانوا به من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
وهذا من فقه هذا الإمام وتقواه؛ فإن كثيراً من المختلفين لو استطاع أحدهم أن يستميل إليه السلطان ليتقوى به على خصومه؛ لفعل.
وقد وقع هذا كثيراً في التاريخ والواقع؛ فإن كثيراً من المختلفين من المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، ربما استنصروا بالسلطان على خصومهم وأعدائهم؛ فأبعدوهم وآذوهم.
ثانياً: الإنصاف كما قال عمار رضي الله عنه في صحيح البخاري: ( ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ : الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ ).
والإنصاف خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف، والإنصاف ضرورة، وله قواعد منها:
1. أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين؛ فمن ثبت له أصل الإسلام لا يخرج من الإسلام ويحكم بكفره إلا بيقين، ومن ثبتت له السنة لا يخرج منها إلا بيقين، وهكذا من ثبت له شيء؛ فإنه لا يُنزع منه إلا بيقين.(2/128)
2. الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر؛ أي لو أنك حكمت لشخص بالإسلام بناءً على ظاهر الحال، حتى لو كان من المنافقين مثلاً أو ليس كذلك؛ فإن هذا أهون من أن تتسرع وتحكم على شخص بالكفر، ويكون ليس كذلك؛ فتقع في الوعيد ( وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ). أي رجع عليه .
3. في مسائل الاجتهاد لا تأثيم ولا هجران، وهذا ذكره ابن تيمية -رحمه الله- وهذا مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون تأثيماً لكل من اجتهد في المسائل كلها من غير تفريق بين الأصول والفروع، فمن استفرغ وسعه في معرفة مراد الله عز وجل ، وكان أهلاً لذلك، فإنه لا يأثم بهذا الاجتهاد بل هو بين أجر وأجرين، فلا تأثيم في مسائل الاجتهاد، ولا ينبغي أن يكون ثمت تهاجر بين المؤمنين.
4. التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، حتى لو كان من طائفة، أو كان من أصحاب قولٍ، يصح أن يوصف أنه كفر، وها هو الإمام أحمد -رحمه الله- كان يُكفّر الجهمية، ويكفر من يقول القرآن مخلوق، ومع ذلك لم يكفر أحداً منهم بعينه، لا المأمون ولا سواه، بل كان يدعو له، ويستغفر له، ويجعله في حِلٍ مما صنع فيه .
5. الأخذ بالظاهر، والله يتولى السرائر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ) .(2/129)
6. تسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، ولقد اتفق أهل السنة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، بل عامة المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، يقول ابن رجب -رحمه الله-: أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيره، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم فكان ماذا؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم، وحُسن مقصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه.
والعجيب أن كثيراً من الناس قد يتحفظون ويتورعون عن أكل الحرام -مثلاً-، أو عن شرب الخمر، أو عن مشاهدة الصور العارية والمحرمة، ولكن يصعب عليه كف لسانه؛ فتجده يَفْرِي في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، ولهذا قرر العلماء أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله.
قال الذهبي -رحمه الله-: ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس.(2/130)
سأل أحمد بن حنبل -رحمه الله- بعض الطلبة من أين أقبلتم؟ قالوا: جئنا من عند أبي كُريب، وكان أبو كُريب ينالُ من الإمام أحمد، وينتقده في مسائل؛ فقال نِعم الرجل الصالح! خذوا عنه وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك! قال أيُّ شيء حيلتي فيه، إنه رجلٌ قد ابتُلي بي. وحدث الأعمش عن زِرّ بن حُبيش وأبي وائل، وكان زر بن حُبيش علوياً؛ يميل إلى علي بن أبي طالب، وكان أبو وائل عثمانياً، وكانوا أشد شيء تحاباً وتوادّاً في ذات الله عز وجل، وما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا، ولم يُحدث أبو وائل بحضرة زر؛ لأنه كان أكبر منه سناً، ولهذا قال الذهبي -رحمه الله-: وهو يترجم لأبي محمد بن حزم صاحب الْمُحلى وشيخ الظاهرية، قال: ولي ميل لأبي محمد بن حزم؛ لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع- لاحظ قوله: وأقطع- بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه.
إن من الإنصاف أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبتدعاً، بل حتى لو كان كافراً. ولذلك استنكر ابن تيمية -رحمه الله- على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين؛ بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت، وقال -رحمه الله-: لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره: إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع؛ فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه.(2/131)
وهكذا تلوح لك في هذه النصوص؛ أمارات الإنصاف والعدل، حتى مع الخصوم المباعدين، فضلاً عن الإخوة المتحابين.
ثالثاً : استعمال الصبر والرفق والمداراة، واحتمال الأذى ومقابلة السيئة بالحسنة، كما أمر الله -تبارك وتعالى- في ذلك في غير ما موضع من كتابه "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[فصلت:34]، وبهذا استمال النبي - صلى الله عليه وسلم - قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت واستقادت وقبلت الحق؛ فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل؛ من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظيمٍ"[فصلت:35] .
كُنَّا مِنَ الدِّينِ قَبْلَ اليَومِ فِي سِعَةٍ *** حَتَّى بُلِينَا بِأَصْحَابِ الْمَقَايِيسِ
قَومٌ إِذَا اجْتَمَعُوا صاحوا كأنهم *** ثَعَالِبٌ ضَبَحَتْ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ
فسمع أبو حنيفة بذلك؛ فأرسل له هدية، وكانت هذه الهدية رشوة، لكنها رشوة بطريقة شرعية صحيحة؛ فلما قبض الهدية قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَوْماً قَايَسُونَا *** بِآبِدَةٍ مِنَ الفُتْيَا طَرِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَحِيحٍ *** مُصِيبٍ مِنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَاهَا *** وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَحِيفَهْ(2/132)
ومن ذلك: ألا تكثر العتاب والمحاسبة، وفي صحيح البخاري (باب من لم يواجه الناس بالعتاب) وذكر فيه حديث عائشة قَالَت صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ : ( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ أَصْنَعُهُ ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً ). ومن ذلك عدم الانتقام والتشفي، والانتصار للنفس.
رابعاً: عدم التعصب للمذهب أو الطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب؛ ولهذا قيل: " حُبكَ الشيء يعْمِي وَيُصِمُّ " ، إن المتعصب أعمى، لا يعرف أعلى الوادي من أسفله، ولا يستطيع أن يميز الحق من الباطل، وقد يتحول المتعصب بنفس الحرارة ونفس القوة من محب إلى مبغض؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، ويروى مرفوعاً، والموقوف أصح: [ أَحبِب حَبِيبَكَ هَوْنًا ما عَسَى أَنْ يَكُونَ بغيضك يوماً ما وَأَبْغضْ بغيضك هَونا ما عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يوماً مَا].
وقد يكون الغلو أحياناً، أو المبالغة، أو التعصب لأقوام؛ هم أشد ما يكونون بعداً عن ذلك وكراهية له، ولكنهم قد يُبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم، فهذا الإمام محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على الإمام أحمد لما مات في بغداد؛ فقال حقٌ على أهل كل بيت في بغداد أن يقيموا مناحة على موت الإمام أحمد؛ فقال الذهبي -رحمه الله-: إن النيسابوري تكلم بمقتضى الحزن، لا بمقتضى الشرع، وإلا فإن النياحة منهيٌ عنها في الشريعة.
وقال بعضهم: في خُراسان يظنون أن الإمام أحمد من الملائكة، ليس من البشر.
وقال آخر: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة.
قال الذهبي: هذا غلو لا ينبغي.(2/133)
وقال محمد بن مصعب لسوط ضربه أحمد أكرم من أيام بشر الحافي كلها؛ فقال الذهبي -رحمه الله- بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما هو عند الله تعالى والله أعلم بذلك.
لقد كان الإمام أحمد -رحمه الله- رجلاً متواضعاً، بعيداً عن التكلف، ولكنَّ هذه الأشياء قد تخرج من أقوام في حالة انفعال في حزن أو غيره، وبكل حال فهي أقوال مرذولة ينبغي اطراحها والرد عليها وإنكارها، كما فعل الذهبي وغيره.
وصلتني ورقة من الإنترنت مكتوب فيها: ابن باز هو الجماعة، وإن شئت فالألباني.
نقول بملء أفواهنا: ابن باز -رحمة الله تعالى عليه- من أئمة المسلمين، ولكن من الصعب أن تُختصر الأمة في رجل لا في ابن باز، ولا الألباني، ولا ابن عثيمين، ولا في هذا ولا في ذاك؛ فإن هذه الأمة جعل الله فيها من الخير الكثير، وتنوع المواهب والقدرات والعلوم الكثير الطيب المبارك، واعتبار شخص واحد هو الجماعة، وأنه يتعين على الناس اتباعه، والأخذ عنه أمر مردود حتى بمقياس هؤلاء الأئمة؛ فإن الشيخ ابن باز -رحمه الله- لما كان مفتياً لهذه المملكة كان لا يرى رأيه ملزماً للناس، ويرى أن قوله مثل قول غيره من العلماء، يمكن أخذه بالدليل، ويمكن رده بالدليل، فلا تطلب من الناس أكثر مما يرى الشيخ نفسه، فمن الوفاء له أن تلتزم بهذا الأدب.
والتعصب يورث أحياناً نقيض ذلك، يورث ازدراء الآخرين ممن لا يدخلون معه في عصبيته، كما يروى عن بعض فقهاء الكوفة مثلاً أنه حج ونزل بالحجاز ولقي علماءها: عطاء وطاووس وسعيد بن جبير وغيرهم، فلما رجع إلى الكوفة قال: يا أهل الكوفة! أبشروا فوالله لأنتم أهل فقه الزمان كله، لفقهاء الحجاز كلهم عطاء وطاووس وسعيد مثل صبيانكم بل مثل صبيان صبيانكم.
ولا أدري ما المراد بصبيان صبيانكم؛ يعني صبيانكم أفقه منهم.
وقال أحدهم عن ابن الجوزي وهو يعدد مثالبه وأخطاءه فيما يزعم قال: ما رأيت أحداً يوثق بعلمه ودينه وعقله راضياً عنه.(2/134)
فعلق الذهبي -رحمه الله- بقوله: إذا رضي الله عنه فلا اعتبار بهؤلاء.
إنك كثيراً ما تسمع التقليل من شأن فلان؛ لأنه ليس على مذهبنا, ليس على طريقتنا, ليس من جماعتنا، فلان لا علم عنده, فلان ليس بشيء.
قال أبو نُعيم عن رجل بلغه أنه يدرس الحديث قال: ماله وللحديث هو بالتوراة أعلم.
وهنا نقول: ربما يدرس المسلم التوراة ليعلم حقها من باطلها ومنسوخها وصحيحها ومُحرفها ويرد على أهل الكتاب، لكن لا ينبغي أن يُحال بين أحد وبين قراءة السنة النبوية، أو يُقال هو بالتوراة أعلم على سبيل الوقيعة به أو النيل منه، أو الازدراء والتنقص.
المصدر : موقع الإسلام اليوم
ـــــــــــــــ(2/135)
كيف نختلف
سلمان بن فهد العودة
جرت عادة الكتَّاب والمتحدثين أن يضعوا نتائج البحث في آخر أبحاثهم وكتاباتهم؛ بينما نحن الآن نقدم بذكر النتائج التي توصل إليها كثيرون من خلال تجارب مُرّة، ومحاولات عديدة تمثلت عصارتها في هذين البيتين :
بَحَثْتُ عَن الأَدْيَانِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا *** وَجُبْتُ بِلادَ اللهِ غَرْباً وَمَشْرِقَا
فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلامِ أَدْعَى لأُلْفَةٍ *** ولا مِثْلَ أَهْلِيهِ أَشَدَّ تَفَرُّقَا
هل تمتلك أمة من الأمم في الأرض كلها هذا التراث، الذي نمتلكه نحن من القرآن الكريم، وحديث النبي العظيم، والتاريخ الإسلامي الذي يرشدنا إلى أهمية الاتحاد واجتماع الكلمة؛ ليرقى بذلك ليكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانياً تضمَّنه القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً عملياً لحياة الصحابة والتابعين؟!
بينما تجد واقع المسلمين يُنبئ عن قدر كبير من الاختلاف، والتباعد، والتطاحن حول قضايا، ربما تكون مفهومة أحياناً، وغير مفهومة في كثير من الأحيان.
كلنا نتحدث بهدوء عن أخلاقيات الاختلاف، وقد نضع نظريات جميلة من الناحية اللفظية، لكنَّ القليل منا هم أولئك الذين يستطيعون أن يطبقوا هذه النظريات، ويحولوها إلى واقع في سلوكهم العملي، وفي علاقاتهم مع الآخرين حينما يختلفون معهم، ولعل السر في ذلك أننا نلتمس من الآخرين أن يلتزموا بأخلاقيات الخلاف حينما يختلفون معنا، لكننا لا نلتمس من أنفسنا الالتزام بهذه الأخلاقيات حينما نختلف معهم.
إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته.
أما أنه عبادة؛ فلأنه طاعة لله ورسوله واتباع لسنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وأما أن يتحول إلى عادة؛ فحين يتربى المرء عليه، ويصبح سجية وطبعاً لا يتكلفه، ولا يشق عليه.(2/136)
أهمية أدب الخلاف
الجميع بحاجة إلى مراعاة أدب الخلاف وأخلاقيات الحوار
* يحتاج إليه الحاكم؛ ليحفظ حقوق رعيته، حتى ممن يختلفون معه؛ كما حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقوق الناس كلهم؛ فحفظ حقوق المخالفين بالمدينة من اليهود والمنافقين، أما أصحابه فلا تسأل عن صبره وصفحه وتجاوزه وإنصافه من نفسه عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الحق لطالبه، وكما حفظ أصحابه العهد من بعده، فهذا علي بن أبي طالب حينما انشق عنه الخوارج في مواجهة عسكرية أضرت بالتاريخ والخلافة والفتح الإسلامي ـ يتحدث عنهم ويقول:إخواننا بغوا علينا، ويرفض أن يصفهم بكفر أو غير ذلك، ثم يحفظ لهم حقوقهم ما لم يحملوا السلاح ويُخيفوا السبيل، ويستحلوا الدم الحرام.
* يحتاج إليه العالِم ليحفظ حقوق الطلاب، ويعدل بينهم ويُحسن الظن بأسئلتهم وإشكالاتهم واعتراضاتهم، ويفتح لهم صدره، ويربيهم على المسؤولية المستقلة، وليس على الذوبان في شخصية الشيخ ليخرج لنا سادة نبلاء نجباء، وليس مقلدين أتباعاً ضعفاء.
* يحتاج إليه الأب تحبُباً إلى قلوب ولده، وعذراً لهم فيما خالفوه فيه، وإدراكاً أنهم صغار قوم كبار آخرين، فليس المطلوب أن يكون الولد أو أن تكون البنت صورة طبق الأصل عن الوالد، أو الأبوين، بل للولد بصمته الخاصة في فكره وعقله، كما له بصمته في يده، أو في كلمته، أو في عينه، أو في بنانه، أو في نبرة صوته.
* نعم! نحن نتحدث، ويجب أن نتحدث عن أدب الخلاف، لكن نحتاج إلى وضع آليات لإدارة الخلاف، الذي يقع بيننا ولابد أن يقع .
ساحات الحوار
عصرنا عصر انفتاح، تكسرت فيه الحدود والسدود، وتحطمت الحواجز، يحكى عن بشر بن مروان- وكان يُظنُّ به شيء من الغفلة- أنه ضاع له صقر في المدينة؛ فأمر بإغلاق أبوابها لئلا يذهب الصقر، ونسي أنه يطير في الفضاء.(2/137)
نحن اليوم في عصر الفضاء، وفي عصر الإنترنت، حتى الحكومات أدركت أن أسلوب المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان، ومقابلة الحجة بالحجة.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، من الآراء والتوجهات والأقاويل، مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مُجدياً تسفيه الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم، ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر بالفكر، فالتناسب بين الداء والدواء ضروريٌ حتى يتقبل الجسم العلاج، وينتفع به.
لقد أصبح الإنترنت وساحات الحوار ـ وهي كثيرة جداً تعد بالمئات باللغة العربية، فضلا عن التعليقات في كل مواقع الإنترنت ـ مرآةً تكشف الخلل الكبير في آلية الحوار، وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المؤمنين والمسلمين، وأهل العلم، وأهل الدعوة، وأهل السنة، وهي دائرة واسعة جداً ، سواءً فيما يتعلق بالدين وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة وإدراكها وتحقيقها، أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات في هذا الحوار الإلكتروني كثيرة، منها:
1) إن لم تكن معي فأنت ضدي، أو بمعنى آخر إما صفر أو مائة في المائة؛ فهناك المفاصلة بل والمقاصلة، بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو التفاوت ـ حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة ـ نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من أن نكون أصدقاء أوفياء.
2) الخلط بين الموضوع والشخص؛ فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة، أو مسألة إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان أو ذاك، وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من الطعون غير المحققة.(2/138)
3) تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي, وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم أنه لو كان النجاح والفلاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء أولى بالنجاح فيه، وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء، وفي المثل: العربة الفارغة أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة الملأى.
4) القعقعة اللفظية؛ التي نحقق بها أوهام الانتصارات الكاسحة على أعدائنا، ونحرك بها مسيرة التنمية والإصلاح لمجتمعاتنا زعماً وظناً، وقد تسمع من يقول لك: كتب فلان مقالاً قوياً، فتنتظر من هذا المقال أن يكون مقالاً عميقاً، أبدع فيه وأنتج، وخرج بنتيجة جيدة، أو أحصى الموضوع من جوانبه؛ فإذا بك تجده مقالاً مشحوناً بالألفاظ الحادة والعبارات الجارحة ، التي فيها الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معه؛ فهذا سر قوة هذا المقال عند بعضهم.
5) الأحادية، وأعني بها: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" بحيث يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى، ولا قرآناً يُتلى، ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو رأي قصاراه أن يكون صواباً.
6) القطعية؛ وأعني بها قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب،
7) ثم هناك التسطيح والتبسيط، فالأشياء التي لا نفهمها أو يشق علينا فهمها، أو تحتاج إلى روية وتأمل وتدبر، هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة، بينما الأشياء البسيطة السطحية السهلة الفهم يُخيل إلينا أن فيها الحق والصواب، وأنها الموافقة للكتاب، وهكذا ما تجده في القنوات الفضائية، فكم من برامج الحوارات التي تُدار, ويتناطح فيها أقوامٌ من كافة الاتجاهات والمذاهب والمشارب؛ فتجد الصخب واللجاج، وانتفاخ الأوداج، والصفاقة والإحراج، وخذ إليك بعض الأمثلة التي وقفت عليها هنا أو هناك:(2/139)
* فلانٌ لا كرامة له عند الله تعالى، وعند كل موحدٍ لله العظيم.
فانظر الجراءة على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الصالحين، وأن تتحول أذواقنا، أو مشاعرنا السلبية تجاه هذا الشخص الذي لا نحبه أو لا نحترمه إلى الحكم على منزلته عند الله وعند أولياءه.
* فلان مات؛ فإلى جهنم وبئس المصير .
وقد تُقال هذه الكلمة في حق إمام عظيم، أو شيخ فاضل، أو داعية صادق، أو مؤمن نحسبه والله حسيبه، ولكنَّ الذين لا يفقهون يتجرءون ويطلقون ألسنتهم ولا يتورعون.
* فلانٌ منحرف في العقيدة مفتون في نفسه، وقد يكون أصفى من القائل عقيدة، وأصدق منه مذهباً، وأقوم بالكتاب والسنة.
* فلان من المنافقين، وكأن صاحبنا أخذ من حذيفة بن اليمان؛ بل كأنه تلقى من جبريل الأمين، وهذا كله يقتضي تزكية النفس، والثناء عليها بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فيقول عن نفسه: إنه من الناجين، ومن المؤمنين الصادقين، ومن المخلصين، وإنه أغير على دين الله وأنصح لعباده، وماذا تتوقع أن يكون الحوار إذا اعتقد كل طرف أن ما هو عليه صواب قطعي، وأن ما عليه خصمه خطأ قطعي؟(2/140)
وقد تكون المسألة كلها محل نظر وتردد، وليس فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى في حالة القطع حينما يكون ما تقوله صواباً قطعاً، وما يقوله الآخر خطأً قطعاً؛ فإن من الحكمة أن تبدأ الدعوة والحوار بدائرة المتفق عليه، كما علمنا ربنا عز وجل: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[آل عمران:64]، بل علمنا الله -تبارك وتعالى- أعظم من هذا في قوله سبحانه وتعالى : "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ"[سبأ25:24] ؛ فانظر كيف عبر بلفظ الإجرام "لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا"، أما ما يعمله الآخرون فقال: "وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وهذا من باب التنزل للخصم كما يُقال، وقال الله سبحانه وتعالى: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً"[الإسراء:84].
إن هدوء الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته هو الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن يتغلب على باطلهم.
لقد أصبحنا مسخرة للشعوب والخلق والأمم؛ خاصة ونحن في عصر صار العالم فيه كله قرية صغيرة بل غرفة واحدة يسمع فيها القاصي كلام الداني، وهذا الجدل المحتدم العقيم بيننا في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، ولا تُثمر، ولا تغني ، ولا تنفع ولا تدفع، ولا تقيم دنيا ولا تصلح آخرَة.(2/141)
إن هذا الجدل على مرأى ومسمع من أعدائنا وخصومنا في القريب والبعيد، ولعلهم يقولون لنا: اتفقوا أولاً على الدين الذي تقدمونه لنا، والتصور والفكر الذي تطرحونه، ثم تعالوا لدعوتنا، ولقد كُتب لي يوماً من الأيام أن نشرت مقالاً بعنوان: (بيني وبين ابن جبرين) ، وكان يتعلق بقضايا مما يثور ويدور فيها الخلاف بين بعض أهل السنة وبعض أهل الدعوة، وكنت أظن أن صدى هذا المقال لا يتجاوز حدود رفاقنا وأصحابنا ومن حولنا؛ فإذا بي استقبل ردود فعل من أمريكيين وأمريكيات من غير المسلمين ولا العرب، وإذا بهم يقرءون السطور وما وراء السطور، ويعلقون تعليقات تدل على دقة متابعتهم، وشدة اهتمامهم، ومعرفتهم بكثير من القضايا، ربما أكثر مما يعرفها بعض المتخصصين فيها.
المصدر : موقع الإسلام اليوم
ـــــــــــــــ(2/142)
أدب الخلاف
د. منقذ بن محمود السقار
أولاً: معنى الخلاف وأنواعه:
1- الخلاف والاختلاف بمعنى واحد يشير إلى عدم الاتفاق على مسألة ما يقول الفيروز أبادي في تعريف الاختلاف: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله. [بصائر ذوي التمييز 2/562].
2- أنواع الخلاف:
الخلاف المذموم، وهو الخلاف الذي خالف فيه المشركون والكفار الحق، فخلافهم له مذموم، وخلافنا لهم ممدوح، ومنه قول الله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ} [الحج:19]. وهذا الخلاف منشؤه الهوى والتقليد الأعمى للموروثات الفاسدة خلاف غير السائغ، وهو الخلاف الذي يكون بين المنتسبين للإسلام في قطعيات العقيدة والفقه (الأصول)، وهو فرع من الخلاف المذموم، لكنه يكون بين المسلمين. ومنه خلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين، وقد يصل في بعض صوره إلى الكفر.
والمخالفون فيه خالفوا جمهور المسلمين في أصول المسائل التي يقوم عليها المعتقد والأحكام، فأصولهم فاسدة، ومن ذلك تقديم العقل على النقل، أو القول بعصمة الأولياء أو أئمة أهل البيت، أو ترك الاحتجاج بالسنة.
وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه، ومن ذلك: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119]. قال الرازي: المراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال. {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران :103].
{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ} [آل عمران:105].
ومن الخلاف الذي لا يسوغ خلاف الجاهل للعالم، أو بالجملة خلاف من لا يملك أهلية الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية، فليس من الخلاف المعتبر اجتهاد من ليس له بأهل.(2/143)
وفيه قصة الرجل الذي أصابته جنابة في سفر وقد شج فأمره بعضهم بالاغتسال فمات فقال صلى الله عليه وسلم: ((قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال)) [رواه أبو داود ح326]. قال ابن تيمية: "أخطأوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم" [رفع الملام ص 48].
وفي الاجتهاد من غير أهلية يقول صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضي في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل علم فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل، ورجل علم الحق وقضى بخلافه)) [أبو داود ح3573 وابن ماجه ح2351، والترمذي ح1322].
الخلاف السائغ، ويكون في فروع العقيدة والفقه. ومنه خلاف المذاهب الفقهية، وخلاف الدعاة على بعض الوسائل الحديثة للدعوة، وكذلك فروع العقيدة كرؤية الرسول ربه ليلة المعراج، وكنه المعراج بنبينا، هل هو بالروح أم بالجسد.
وهذا النوع من الخلاف هو محل بحثنا، وهو أيضاً على مراتب بعضها دون بعض:
أ ) الخلاف الشاذ:
ومن صوره إباحة ربا الفضل: إذ لم يحرمه طائفة من التابعين.
ومنه إباحة إتيان النساء في المحاش فقد أجازه بعض فضلاء المدنيين.
ومنه إباحة أفاضل الكوفيين شرب غير نبيذ العنب.
ومنه تحليل نكاح المتعة حيث أباحه بعض المكيين. [رفع الملام ص64-65]
وجميع صور هذا الخلاف قام الدليل القوي والصريح على خلافها، وإنما وقع من وقع في الخلاف لعدم معرفته بدليل المسألة أو تأوله البعيد له.
ب ) الخلاف الضعيف:
ومن صوره قتل المسلم بالكافر، وإيجاب الأضحية.
ت ) الخلاف القوي:
ومن صوره وقوع طلاق الثلاث، ميراث الجد مع الإخوة.
ثانياً: التفريق بين الخلاف السائغ وغيره:
ثمة أمور يفترق فيها الخلاف الذي سوغه العلماء عن الخلاف الذي قبحه العلماء وذموه غاية الذم، ومنها:(2/144)
1- أنه (أي السائغ) لا يكون في المسائل الأصولية في الدين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة. مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصريحة على إثباتها.
يبين الشاطبي الفرق بين الخلاف المسوغ وغيره " وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف" [الاعتصام 2/168].
2- أن الخلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها كعلو الله وكلامه جل وعلا، فإن وقع خلاف من مجتهد في مثل هذا فهو اجتهاد يعذر فيه لكنا لا نسوغه، يقول ابن تيمية: "وقوع الغلط في مثل هذا - يعني علو الله على خلقه - يوجب ما نقوله دائماً: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه .. نوع تقصير فهو ذنب .. فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل (الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه" [الاستقامة 1/163].
ويقول ابن تيمية: "من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع" [الفتاوى: 4/172-173].
ويقول الذهبي: "ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور" [سير أعلام النبلاء 19/322].
ويقول محمد بن عبد الوهاب: "ثم اعلموا وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعاً فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد" [الدرر السنية 1/43].(2/145)
قال ابن تيمية: (وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغياً، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر) [الاستقامة 1/73].
3- أن يكون هذا القول صادراً عن الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله، وعليه فلا كرامة لمن صدر في رأيه عن العقل المجانب للشرع أو عن الرؤى المنامية ولا لمن صدر عن الهوى أو العصبية، قال الشاطبي: "الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه".
والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي .. فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق الذي أنزله..." [الموافقات:4/167]
ثالثاً: هل يكون الخلاف في بعض مسائل الاعتقاد سائغاً؟
الخلاف في مسائل الاعتقاد كالخلاف في مسائل الفقه منه ما يسوغ ،وهو ما يتعلق بفروع المسائل التي لم يرد دليل قطعي الدلالة على وجه من وجوهها.
ومنه مالا يسوغ، وهو ما يتعلق بالمسائل الأصولية التي دلت عليها الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة. فالخلاف في بعض المسائل الفرعية لا يجيز الحكم بهلكة الآخرين وبطلان أعمالهم.
قال شيخ الإسلام" فمن كان من المؤمنين مجتهداً فى طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام.
وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.(2/146)
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول (أي العقيدة) وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع (أي الفقه) فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع.
وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطىء فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟
فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا؟ وفى أن عثمان أفضل من علي أم على أفضل؟ وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق" [مجموع الفتاوى23/346].
ويقول: "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يُرى لقوله: {لا تدركه الابصار} ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى:51]. نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]. بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح .. أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل.(2/147)
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به .. وكالذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)). وكثير من الناس لا يعلم ذلك إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط" [مجموع الفتاوى 20/33-36].
ويقول عن خلاف الصحابة في بعض مسائل الاعتقاد الفرعية: "وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا،ً ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه.
وهل يقال له: مصيب أو مخطىء؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم فى نفس الأمر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ" [مجموع الفتاوى 19/122].
رابعاً: أسباب وقوع الخلاف:
لسائل أن يسأل: لماذا يختلف المسلمون والعلماء منهم، وهم جميعاً يصدرون من الكتاب والسنة؟
وفي الإجابة نقول: للخلاف بين المسلمين أسباب أهمها:
- اختلاف العلماء في حجية بعض المصادر الفقهية أو اختلافهم في رتبة الاحتجاج بها كما في خلاف الفقهاء في حجية القراءات الشاذة والحديث المرسل والاستحسان وشرع من قبلنا وإجماع أهل المدينة.
- اختلافهم في فهم النصوص. كما في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [المائدة:6]. ففسرها الجمهور بأنها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.(2/148)
- الاختلاف في فهم علة الحكم كما في الخلاف في مشروعية القيام للجنازة هل هو للمؤمن أم للكافر؟ وهل يقام تعظيماً للملائكة أم لهول الموت؟ أم أنه خاص بالكافر حتى لا تعلو جنازة الكافر رأس المسلم؟
- الجهل بالدليل لعدم بلوغه، مثاله: خفي على عمر حكم دخول أرض الطاعون، بل وعلى كثير من الصحابة، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
- عدم الوثوق بصحة الدليل الذي عند الآخرين، فقد يضعف العالم المخالف الحديث في حين يصححه الآخرون، لاختلاف العلماء في تعديل أحد الرواة، أو لعلة يراها في السند أو المتن تجعل الرواية شاذة أو لغير ذلك من أسباب رد الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.
ومن ذلك قصة عمر مع فاطمة بنت قيس حين رد حديثها بقوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) [مسلم ح1480].
- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)) [أحمد ح25828، أبو داودح2193 وابن ماجه ح2046]. فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم بالإكراه، وآخرون بالغضب، وآخرون بغياب العقل بثورة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطلاق.
ومثله قد وقع من الصحابة عام الخندق كما في الصحيحين عندما قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) [البخاري ح946، ومسلم ح1770]. فتمسك بعضهم بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك الآخرون بمفهوم النص والمراد منه، وهو الإسراع فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: (ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - واحداً منهم).
خامساً: آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف:
ثمة آداب ينبغي على علماء المسلمين وعامتهم مراعاتها والقيام بحق المخالف فيها، ومنها:(2/149)
1- إحسان الظن بالعلماء وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان له - وقد يكون هو المخطئ -، وعليه فلا يعتقد هلكتهم في خلافهم له ،بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر)) [البخاري ح7352، ومسلم ح1716].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: ((قد فعلت)) [مسلم ح126] [الفتاوى 19286].
ومنه قول علي رضي الله عنه لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: (إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. [رواه الحاكم ح5613، والبيهقي في السنن ح16491].
قال يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" [جامع بيان العلم 2/80].
ويقول الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: "كان يرى القدر نسأل الله العفو .. ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه .. إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام 7/271].(2/150)
وفي المتأولين في خلاف شاذ (من أحل نكاح المتعة أو ربا الفضل) يقول ابن تيمية في تحقق النصوص الشرعية التي جاءت بالوعيد لمن صنع ذلك، "فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أخرى.." [رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص66].
أن لا يؤدي الخلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة" [الفتاوى: 4/172-173].
ويقول "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" [الاستقامة 1/31].
ويقول يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة".
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" [سير أعلام النبلاء 10/16-17].
وقال محمد بن أحمد الفنجار:" كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب" [سير أعلام النبلاء10/630].
وصدق الشاعر حين قال:
في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن الصدور
أن لا يُنكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه أو المحاورة معه للخروج من الخلاف والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ.
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. [الفقيه والمتفقه 2/69].(2/151)
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" [مجموع الفتاوى20/207].
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) [البيهقي في السنن ح5225].
العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية:(2/152)
الخلاف شر، وينبغي على المسلمين العمل على رفعه، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، فقولنا بأن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسالة. ولأجل هذا دونت مئات الكتب التي تتحدث في مواطن الاختلاف وموارد النزاع.
وفي الحوار ينبغي على المسلم أن يتواضع لإخوانه، وأن يلتزم طلب الحق في حواره معهم كما علمنا الله بقوله في مجادلتنا للكافرين {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]. وينبغي أن يكون جداله معهم بالتي هي أحسن فقد قال الله في جدال أهل الكتاب {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال في حق غيرهم {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال القرطبي: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه.
ثم قال: فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي" [الجامع لأحكام القرآن 2/16]. وكلام القرطبي لا يمنع ولا يرفع ما ذكره العلماء في هجر المبتدع أو الفاسق، فذلك أيضاً من وسائل الدعوة التي قد تردع عن الفسق والبدعة.
سادساً : صور من اختلاف السلف تبرز أدبهم رحمة الله عليهم:(2/153)
- قال النبي لأصحابه يوم بنى قريظة: ((لا يصلين أحد العصر إلا فى بني قريظة)) فأدركتهم العصر فى الطريق فقال قوم لا نصلى إلا فى بنى قريظة وفاتتهم العصر. وقال قوم :لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق ((فلم يعب واحداً من الطائفتين))، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر. قال شيخ الإسلام:" وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام" [مجموع الفتاوى 24/172].
- ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما على كثرة التشابه بين منهجهما الفقهي أوصل ابن القيم المسائل التي اختلفوا فيها إلى مائة مسألة منها:
ابن مسعود كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق وعكسه عمر.
اختلفا في الرجل زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا ويخالفه عمر. [إعلام الموقعين 2/237].
ومع ذلك انظر ثناءها على بعضهما.يقول عمر عن ابن مسعود: (كنيف ملئ فقهاً أو علماً آثرت به أهل القادسية) [سير أعلام النبلاء 1/491]. ويقول ابن مسعود عن عمر: (كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن) [المستدرك ح4522].
- واختلف الصحابة في توريث الإخوة مع وجود الجد، فكان زيد وعلي وابن مسعود لا يرونه، وأما ابن عباس فيخالفهم ويقول: (ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً) وقال: (لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [مصنف عبد الرزاق ح19024].
ورغم هذه الثقة العارمة برأيه فإنه ذات يوم رأى زيداً على دابته فأخذ بخطامها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا - صلى الله عليه وسلم - [تقبيل اليد، أبو بكر المقري ص 95].(2/154)
ولما دفن زيد قال ابن عباس: (هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير) [البيهقي في السنن 6/211، الحاكم ح5810].
- ووقع بين الصحابة خلاف أوقع بينهم قتلاً وقتالاً، لكنه لم يمنع من ورود بعض صور محمودة منها:
1- خلو قلوبهم من الغل، ومنه قول مروان بن الحكم (ما رأيت أحداً أكرم غلبة من علي، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل وناد منادٍ: ولا يذفف (يجهز) على جريح) [رواه البيهقي في السنن ح16523].
2- ونال أحدهم من عائشة رضي الله عنها يوم الجمل وسمعه عمار فقال: (اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة) [الترمذي ح3888].
3- ولما قتل ابن خيري رجلاً وجده مع زوجته، رفع الأمر إلى معاوية فأشكل ذلك عليه فكتب إلى أبي موسى أن يسأل له علياً فكتب إليه علي بالجواب. [الموطأ ح1447].
4- ولما وصف ضرار بن حمزة الكناني علياً بين يدي معاوية: بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه:كذا كان أبو الحسن رحمه الله. [الاستيعاب 4/1697].
- رغم الخلاف الشديد بين أهل الرأي والحديث يقول شعبة عند وفاة أبي حنيفة (لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته). ويقول الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" [سير أعلام النبلاء 6/403]
- وكذا قيل لأحمد: إن كان الإمام خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب. [الفتاوى 20/364].(2/155)
- صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة الصبح فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة رحمهما الله [طبقات الحنفية 1/433]. قال القرطبي: "كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد" [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 23/375].
- ويتحدث الذهبي عن ابن خزيمة وتأوله حديث الصورة فيقول: "فليُعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا" [سير أعلام النبلاء 14/374].
- يقول الذهبي في ترجمة قتادة :"وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" [سير أعلام النبلاء 5/271 ].
- يقول الإمام أحمد بن حنبل: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً" [سير أعلام النبلاء 11/371].
ويقول: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" [سير أعلام النبلاء 14/40].
ويقول الذهبي في تعليقه على اختلاف الناس في أبي حامد الغزالي بين مادح وذام: "مازال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الأمور" [سير أعلام 19/322].
ـــــــــــــــ(2/156)
الفرق بين الاختلاف والافتراق
أ.د. ناصر بن عبد الكريم العقل
الفرق بين الافتراق والاختلاف أمر مهم جداً،وينبغي أن يُعنى به أهل العلم؛لأن كثيراً من الناس خاصة بعض الدعاة وبعض طلاب العلم الذين لم يكتمل فقههم في الدين،لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق،ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف أحكام الافتراق،وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق،ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟
من هنا كان لا بد من ذكر بعض الفروق بين الاختلاف والافتراق،وسأذكر خمسة فروق على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
الفرق الأول: أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف،بل هو من ثمار الخلاف،إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق،وقد لا يصل،فالافتراق اختلاف وزيادة،لكن ليس كل اختلاف افتراقا،وينبني على هذا الفرق الثاني.
الفرق الثاني: وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقا، بل كل افتراق اختلاف ، فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم على المخالف فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة.
الفرق الثالث: أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى ، أي أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها،والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع ، أو استقرت منهجا عمليا لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل ، من خالف فيه فهو مفترق،أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف.(2/158)
فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد في الرأي ، ويقبل الاجتهاد ، ويحتمل ذلك كله ، وتكون له مسوغات عند قائله،أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول ، وذلك في أمور الاجتهادات والفرعيات ، ويكون في بعض الأصول التي يعذر فيها بالعوارض عند المعتبرين من أئمة الدين،والفرعيات أحيانا قد تكون في: بعض مسائل العقيدة التي يتفق على أصولها،ويختلف على جزئياتها ، كإجماع الأمة على وقوع الإسراء والمعراج،واختلافهم وتنازعهم في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه فيه،هل كانت عينية ، أو قلبية؟
الفرق الرابع : أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحرياً للحق ، والمصيب أكثر أجراً،وقد يحمد المخطئ على الاجتهاد أيضاً ، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله،بينما الافتراق لا يكون عن اجتهاد،ولا عن حسن نية ، وصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم وآثم على كل حال،ومن هنا فهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى،أو تقليد مذموم،أو جهل مطبق.
الفرق الخامس: أن الافتراق يتعلق به الوعيد وكله شذوذ وهلكة ، أم الاختلاف فليس كذلك،مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد ، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل بالدليل ولم تقم عليه بالحجة ، أو عن إكراه يعذر به قد لا يطلع عليه أحد ، أو عن تأول،ولا يتبن ذلك إلا بعد إقامة الحجة.
أ.د. ناصر بن عبدالكريم العقل. -قضايا عقدية معاصرة(12)-.
نقله ناصر الكاتب
شبكة الفجر الإسلامية
ـــــــــــــــ(2/159)
نهي الأسلاف عن الخلاف
البلسم الشافي
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة والسلام على نبينا الأمين محمد ابن عبد الله , وعلى آله الطاهرين ,وصحبه والتابعين.
وبعد:
يقول الله جل في علاه وتبارك في عالي سماه في كتابه الكريم ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) [هود118]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلام ( فإنه من يعش منكم ، فسيرى اختلافاً كثيرا)
[رواه أحمد (( المسند)) 4/126 وصححه ابن حجر]
فمن خلال هذه النصوص ، يتبين لنا ، أن الخلاف أمرٌ محتوم
فا الخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمةٍ بالغة ، حتى يتميز المُتبع من المبتدع
فهو إذاً كالكفر باعتبار إرادةِ الله ِ له كوناً فاللهُ لا يحبه ، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية
قال الإمام ابن حزم رحمه الله : وقد نصَّ ـ تعالى ـ على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه ـ تعالى ـ لم يرضَ به، وإنما أراده ـ تعالى ـ إرادة كونٍ ، كما ارادَ الكُفر وسائر المعاصي . إ.هـ. [ الإحكام في أُصول الأحكام (( 5/64)) ]
الخلاف من أوصاف المبتدعة
يقول الله تعالى ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ) [ الأنعام :159]
قال البغوي رحمه الله : هم أهلُ البدع والأهواء [ شرح السنة 1/210]
وقال الشاطبي رحمه الله : الفُرقةُ من أخس أوصاف المبتدعة [ الاعتصام1/113]
وقال أبو الُظفر السمعاني رحمه الله : إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع ، رأيتهم متفرقين مختلفين . [الحجة في بيان المحجة 2/225]
الخلاف آفةُ الذنوب
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما توادَّ اثنان في الله ، ثم يُفرق بينهما ، إلا بذنبٍ يُحدثُهُ أحدهما ) [ رواه البخاري في الأدب المفرد (( 401)) وصححه الألباني في الصحيحة 637]
وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل جماعة ، وإن تفرقة دُورُهم وأبدانهم ، وأهل معصِيِتِهِ أهل فرقة وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم . [ رواه الطبري في تفسيره ((12/85))]
الخلاف شرٌّ(2/160)
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : الخلاف شرٌّ . رواه أبو داود كتاب المناسك (( 1960))
ويقول المُزني عند قوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات )
فذم الله الاختلاف ، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، فلو كان الاختلاف من دينِهِ ما ذمه . [ جامع بيان العلم وفضله (( 2/910)) ]
وقال علي ـ رضي الله عنه ـ : اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكرهُ الاختلاف ، حتى يكون الناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي [ رواه البخاري في مناقب علي 3707]
وقال الطحاوي : ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفُرقة زَيغاً وعذاباً [ متن الطحاويه ]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن الجماعة رحمةٌ ، والفُرقة عذابٌ . مجموع الفتاوى 3/421
تخريج حديث (( اختلاف أمتي رحمة )).
قال السُبكي : ليس بمعروف عند المُحدثين ، ولم أقف له على سندٍ صحيح ، ولا ضعيف
ولا موضوع [ فيض القدير 1/212]
وقال ابن حزم : وأما الحديث المذكور ، فباطلٌ مكذوب من توليدِ أهل الفسق . [ الإحكام من أصول الأحكام 5/61]
قال القاسمي : ذكر بعض المفسيرين هنا ما روي من حديث (( اختلاف أُمتي رحمة ))
ولا يُعرف له سندٌ صحيح ، ورواه الطبراني والبيهقي في المدخل بسندٍ ضعيف ، عن ابن عباس . [ محاسن التأويل 4/928]
والحديث الذي اشار إليه القاسمي ، هو في المدخل 152 وإسنادُهُ ساقطٌ بالمرة ، فيه ثلاث علل:
الأولى: سليمان بن اب كريمة ، ضعفهُ ابو حاتم الرازي.
الثانية: جُويبرٌن متروك الحديث ، كما قال النسائي والدارقطني.
الثالثة: الانقطاع بين الضحاك وابن عباس.
وفي الجملة ، ليس في الأدلة من الكتاب والسنة ما يدل على أن الخلاف رحمة ، وإذا كان اختلاف أمتي رحمةً ، فهل يكون اجتمعها عذاباً.
------------------
(1)…أصل هذه الرسالة محاضرة ألقيت في 12/5/1412هـ، وهي الدرس الخامس والأربعون ضمن سلسلة الدروس العملية العامة.(2/161)
(2)…أخرجه مسلم (2589) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)…أخرجه البخاري (1) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4)…أخرجه أحمد (3772) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/302) وقال: فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، والظاهر أنه مرسل، ورجاله ثقات اهـ. قلت: فيه أبو محمد صاحب ابن مسعود لم يوثقه إلا ابن حبان.
(5)…أَخرِم: أنقص.
(6)…أَركُد: أطيل.
(7)…أخرجه البخاري (755) واللفظ له، ومسلم (453) من حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه.
(8)…أخرجه مسلم (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9)…أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(10)…أخرجه الترمذي (2511) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(11)…أخرجه مسلم (2162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12)…أخرجه أحمد (8799)، ومالك (1863) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده صحيح.
(13)…أخرجه مسلم (55).
(14)…أخرجه الترمذي (1929) وأبو داود (4882) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناد أبي داود إسناد حسن.
(15)…أخرجه البخاري (1563) عن مروان بن الحكم.
(16)…أخرجه أحمد عن أبي الطفيل (2210)، والبيهقي في الكبرى بنحوه (9023)، وأورده الهيثمي في المجمع (3/240) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(17)…أخرجه الترمذي (2383)، وقد أورده معلقًا بصيغة التمريض، وأخرجه ابن أبي شيبة بنحوه في المصنف (34459) بإسنادٍ فيه مجهول.
(18)…أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/52) بإسناد حسن.
(19)…أخرجه مسلم (2750) من حديث حنظلة بن الربيع الأُسَيِّدِي رضي الله عنه. والمعافسة: المداعبة والممارسة، والضيعات: المعايش من مال أو حرفة أو صناعة (انظر لسان العرب 6/144).
(20)…صفة الصفوة (3/248).
(21)…صفة الصفوة (3/248).
(22)…حلية الأولياء (3/18)، وتهذيب الكمال (32/524) في ترجمة يونس بن عبيد.(2/162)
(23)…أخرجه البخاري في الصحيح تعليقًا (1/26)، وأخرجه متصلاً في التاريخ الكبير (5/137) في ترجمة عبد الله بن أبي مليكة، وكذلك أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (688) .
(24)…صفة الصفوة (3/271) وأخرجه أبو نعيم في الحلية بنحوه (2/348).
(25)…أخرجه مسلم (2642) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(26)…أخرجه أحمد (13049)، والترمذي (2499)، وابن ماجة (4251) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة.
(27)…أخرجه البخاري (6070) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(28)…أخرجه البخاري (2441) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(29)…أخرجه البخاري (3444)، ومسلم (2368) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(30)…الحديث السابق.
(31)…أخرجه البخاري (3510) ومسلم (1062) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(32)…الحديث السابق.
(33)…أخرجه البخاري (4250)، ومسلم بنحوه (2426) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(34)…ذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات من قول أبي بكر (2/480)، ورواه البيهقي في الشعب (4876) عن محمد بن زياد عن بعض السلف.
(35)…أخرجه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(36)…أخرجه الدارمي (675) عن أبي عتبة الخوَّاص, وأخرجه ابن سعد في الطبقات (2/293) عن سفيان بن عيينة بلفظ " أن عمر قال: أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي" وفي أسانيده انقطاع.
(37)…لم نقف عليه بهذه اللفظة، ولكن أخرج البخاري في التاريخ الكبير (1825) في ترجمة النعمان بن بشير أن عمر رضي الله عنه قال يومًا في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار: "أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر ما كنتم فاعلين؟" فسكتوا فعاد مرتين أو ثلاثًا قال بشير بن سعد: "لو فعلت قومناك تقويم القدح" قال عمر: "أنتم إذن أنتم".
(38)…أخرجه البخاري (11367)، ومسلم (949) من حديث أنس رضي الله عنه.(2/163)
(39)…لم نقف عليه، والظاهر أنه ليس بحديث، وإنما هو من الحكم السائرة.
(40)…أخرجه ابن ماجة (150) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وإسناده حسن.
(41)…تاريخ دمشق ابن عساكر (10/442).
(42)…أخرجه أحمد (16316)، والبخاري في الأدب المفرد (211)، أبو داود (4773)، والبيهقي (1007)، والضياء في المختارة (447) من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال العظيم آبادي في عون المعبود (13/112): إسناده صحيح.اهـ
(43)…أخرجه مسلم (3002) من حديث المقداد رضي الله عنه.
(44)…أخرجه البخاري (2662) ومسلم (3000) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(45)…أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(46)…أخرجه البخاري (3409)، ومسلم بنحوه (2625) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(47)…أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/355) من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/203) من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما. قال الحافظ العراقي: أسانيده كلها ضعيفة، انظر فيض القدير للمناوي (8083).
(48)…أخرجه البخاري (5144)، ومسلم (2536) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(49)…أخرجه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد. اهـ وأخرجه أحمد (19776)، وأبو داود (4846) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه, قال المنذري: سعيد بن عبد الله بن جريج مولى أبي برزة بصري، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، قال ابن معين ما سمعت أحداً روى عنه إلا الأعمش.اهـ، وأخرجه ابن ماجة (2546) رضي الله عنه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقد صحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (2063)، وصحيح الجامع الصغير (6287).
ـــــــــــــــ(2/164)
أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة
م. عبد اللطيف البريجاوي
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)).
((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))
ما زلنا نبحث عن وسائل متعددة لإصلاح الأسرة المسلمة هذه الأسرة التي هي مفتاح الهزائم ومفتاح الانتصارات.. فبقدر ما تكون قريبة من الإسلام فإنها تكون سعيدة منتجة وبقدر ما تكون بعيدة عن الإسلام تكون شقية متفرقة.
نذكر اليوم:
تعليم الأولاد أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة:
يشكو كثير من الآباء الشجار المتكرر بين أولادهم، وأنه ما إن يخرج من البيت حتى يسمع صوت أولاده قد وصل إلى الشارع ويسمع صوت زوجته وهي تصيح عليهم، وربما يرى الشجار بينهم بأم عينه فلا يعلم كيف يوفق بينهم وكيف يجمعهم وكيف يزيل الشقاق بينهم؟!
إن هذا الشجار الذي يقع في البيت المسلم إنما هو صورة مصغرة لما يقع في المجتمع المسلم بين الأفراد وبين الدول.فإذا كان الله قد وصف المؤمنين بأنهم إخوة فقال - تعالى -: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " (10) الحجرات.
فهذا يعني أنهم يعيشون في بيت واحد لكنه كبير بعض الشيء وهو المجتمع بأكمله، ومع هذا الوصف الذي وصفه الله للمؤمنين بأنهم أخوة لكن كثيرا منهم لم يحققوا هذه الأخوة على واقع الأرض بل استبدلوها حقدا وحسدا حتى صار شعار العالم الإسلامي:
نقذف نشتم نتشاجر نحسد نبغض نتفاخر وكل منا يتهم الآخر(2/165)
إن المشاجرة بين الأبناء في البيت الواحد مشكلة كبيرة جدا قد تؤدي في بعض الأحيان إلى التفكير السلبي بأن يؤذي الأخ أخاه ويكيد له كيدا وقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - كيف كاد أخوة يوسف لأخيهم حتى أنهم باشروا العمل وألقوه في غياهب الجب قال - تعالى -: " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون "(15) يوسف.
لذلك كان لزاما على الآباء أن يتعلموا كيف ينقلون أبناءهم من هذه الحالة السلبية إلى حالة أخرى أقل سلبية وأكثر إيجابية وهذا يكمن في أساليب كثيرة منها تعليم الأولاد أدب الاختلاف واحترام الآخر وهو موضوع مهم جدا في العلاقات الأسرية والاجتماعية.
ومعنى أدب الاختلاف ببساطة: أن أحترم الذي أمامي بما يقول ويطرح ويفكر وأن أنطلق في محاورته من نقاط الاتفاق لا من نقاط الخلاف.
لذلك كان الفقهاء يقولون كلامنا صواب يحتمل الخطأ. تأكيدا منهم على قبول الرأي الآخر واحترامه.
إن أدب الاختلاف عبادة لله - سبحانه - لأنه طاعة لله وطاعة للرسول الكريم - عليه السلام - وليس هناك أوضح دلالة من الآيات والأحاديث في ذلك.
فلا بد أن نعلم أولادنا منذ صغرهم أدب الاختلاف وإقناعهم بأننا لا يمكن أن نسوق العالم كله لأفكارنا دون أن نعطي للطرف الآخر إبداء ما عنده وحرية التفكر والتصرف، والتركيز على هذا الأدب ضمانة أكيدة لأسرة متماسكة فالذي يخالفني في الرأي هو أخي واستيعاب هذا الخلاف عبادة لأن النبي - عليه السلام - كان يستمع تماما إلى ما يقوله المشركون ثم بعد ذلك يعرض عليهم الإسلام ويناقشهم ويحاورهم دون حديات جازمة.
إننا بتعليم أولادنا هذا الأدب نجتنب نقطتين مهمتين:
الأحادية: فينشأ الطفل وهو يعلم أن كلامه ليس نهائيا إنما قابل للمناقشة والحوار ولا بد له من تقبل الآخر.
تجنب الصراخ والشجار: فالذي يظن أنه ضعيف بفكرة يستعيض عنها بالصراخ وربما القوة العضلية.(2/166)
إن الاختلاف هو سنة الله في عباده لكن يجب أن نعلم أن الاختلاف شيء والتنافر شيء آخر، لذلك لابد أن نعلم أولادنا كيف نختلف والأدب الضابط لذلك.
ويجب أن نعلم أيضا أن الشجار والتنافر بين الأولاد في البيت له أسباب عديدة ومن هذه الأسباب:
1 - الغيرة والتفضيل بين الأولاد.
2 - انشغال الآباء عن أولادهم.
3 - شجار الأبوين أمام أولادهم.
4 - عدم وجود برنامج للأولاد يشغلهم عن الخلافات التافهة.
وبمعرفة هذه الأسباب ومعالجتها يمكن أن ينشأ الأولاد على درجة عالية من الوعي في هذه الأمور.
ولعل أبرز النتائج التي يمكن تحصيلها من تعليم الأولاد هذا الأدب هي:
1 التماسك الأسري.
2 القدرة على المحاورة والمناقشة.
3 تقبل الآخر.
4 توسيع الآفاق وتمحيص الأفكار كما قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: إني رأيت مناقشة الرجال تمحيصا لأفكارهم.
http://saaid.net بتصرف من:
ـــــــــــــــ(2/167)
أسباب الاختلاف وتطوره
أسباب الاختلاف من عهد النبوة حتى عهد الفقهاء:
إذا سلمنا أن الاختلاف في القضايا الفكرية - التي منها القضايا الفقهية - أمر طبيعي، لما فطر عليه الناس من تباين في عقولهم وأفهامهم ومداركهم، وجب أن نقر بأن الاختلاف في عهد النبوة والخلافة الراشدة بين عديد من الصحابة كان أمراً واقعاً تشهد له جملة من الأحداث، وليس في نقيه ما يخدم هذا الدين، كما أننا لا نرى في بيانه مساساً بمثالية هذه الدعوة، وصدق نية أولئك الرجال الذين كانوا يختلفون، بل يمكن أن نقول: إن في ذكر هذه الاختلافات بياناً لواقعية هذا الدين، فهو يتعامل مع الناس على أنهم بشر، تتنازعهم عوامل مختلفة مما فطر الله - تعالى - خلقه عليه، ولكن الذي تطمئن إليه النفس المؤمنة أن ذلك الاختلاف لم ينشأ عن ضعف في العقيدة، أو شك في صدق ما يدعو إليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بل كان تحري الحق والرغبة في إصابة قصد الشارع من الأحكام بغية جميع المختلفين.
ولما كان الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - مصدر تلك الأحكام لم يكن عمر الخلاف يمتد لأطول من الطريق المؤدية إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وقد رأينا من خلال الأحداث التي مرت أن أسباب الاختلاف في مجموعها، لم تكن تخرج عن تباين في فهم النص لأسباب لغوية أو اجتهادية، وذلك في تفسير ما بين أيديهم من كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -، ولم تكن هذه الأسباب لتخفي وراءها أية نوايا تحاول إنماء بذرة الخلاف التي كان المنافقون يحرصون على تعهدها.
لذلك سرعان ما كانت هذه الاختلافات تضمحل بلقاء الرسول - - صلى الله عليه وسلم - -، أو الاحتكام إلى نص أدركه بعضهم وغاب عن الآخرين، لأن غاية ذي الفطرة السليمة نشدان الحق حيثما وجد.(2/168)
من الطبيعي أن تنتقل بعض الأسباب الموضوعية للاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف في كل عصر، ولكن هناك أموراً كانت تستجد على الساحة الإسلامية، نتجت عنها أسباب وعوامل تذكي روح الاختلاف.
فمنذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -تعرضت الأمصار الإسلامية لهزات عنيفة أفرزت بعض الأحداث التي أدخلت إلى دائرة الاختلاف أموراً كانت خارجها، ربما أدت إلى انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خوف الوضع والدس، كما أشرنا من قبل.
وظهرت مدرستا الكوفة والبصرة كبيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعددت الفرق المختلفة، كالخوارج والشيعة والمرجئة(106)، وظهرت المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع.
وتعددت المناهج العقلية والفكرية بتعدد تلك الفرق، وأصبح لكل فرقة منطلقات وقواعد تنطلق منها في تعاملها مع نصوص الشارع، وفي تفسيرها للمصادر الشرعية، وفي مواقفها من القضايا المختلفة التي استجدت، وبدأت الحاجة تظهر إلى وضع الضوابط والقيود، وتحديد المناهج وطرق استنباط أحكام الوقائع من الوحي الإلهي، وتحديد ما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز.
ولعل من فضل الله - تعالى - أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف، وذلك لأن "الفقه " عبارة عن معرفة الفقيه حكم الواقعة من دليل من الأدلة التفصيلية الجزئية التي نصبها الشارع للدلالة على أحكامه من آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وقد يصيب الفقيه حكم الشارع، أو يوافقه، وقد لا يوافق ذلك، ولكنه في الحالتين غير مطالب بأكثر من أن يبذل أقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول إلى حكم، فإن لم يكن ما وصل إليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون إليه في حقيقته وغاياته وآثاره، ولذلك كان الاختلاف أمراً مشروعاً وذلك لتوفر أمرين فيه:(2/169)
الأول: أن لكل من المختلفين دليلاً يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط، ولم يعتبر أصلاً.
الثاني: ألاّ يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل، فإن كان ذلك بطل منذ البداية، ولم يسع لأحد القول به بحال، وبهذين الأمرين يغير "الاختلاف " "الخلاف ".
فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر العقلي والاجتهاد، وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب.
أما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين أو أحدهما، وهو مظهر من مظاهر التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت إلى الموضوعية.
أسباب الاختلافات الفقهية في عصر الفقهاء:
حرص الفقهاء الذين أجمعت الأمة على الأخذ بمذاهبهم، على التزام الشرطين السابقين، وقد اختلف الناس في تحديد أسباب الاختلافات الفقهية في هذا العصر اختلافاً بيِّناً: فمن مكثر في ذكر هذه الأسباب إلى مقتصد فيها، ومع ذلك فإن من الممكن إعادة
هذه الأسباب إلى الأمور التالية:
1- أسباب تعود إلى اللغة:
وذلك كأن يرد في كلام الشارع لفظ مشترك، وهو ما وضع لمعان متعددة ومختلفة، كلفظة "عين " التي تستعمل في الباصرة والجارية، وفي الذهب الخالص، وفي الرقيب، وغيرها من المعاني.
فإذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة، تساوت المعاني التي وضعت لها - في احتمال كون كل منها مراداً - فيختلف المجتهدون في حمل ذلك اللفظ على أي من معانيه التي وضع لها، أو عليها كلها.
فقد اختلف الفقهاء في مراد الشارع من لفظ "القرء " في قوله - تعالى -: ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ )) (البقرة: 228). فلفظ "القرء " مشترك بين الطهر والحيض، فاختلف الفقهاء في عدة المطلقة أتكون بالحيض أم بالأطهار؟ فذهب الحجازيون - منهم - إلى أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وذهب العراقيون إلى أنها ثلاث حيض (107).(2/170)
وأحياناً يكون للفظ استعمالان: حقيقي، ومجازي، فيختلفون في أيهما استعمل اللفظ في ذلك النص من نصوص الشارع.
وقد اختلف العلماء بادئ ذي بدء في جواز وقوع المجاز في لفظ الشارع، بأثبته الأكثرون، ونفاه الأقلون، كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وشيخ الإسلام ابن تيمية.
والذين نفوه استدلوا بأن المجاز هو إطلاق اللفظ على غير ما وضع له - في الأصل - كإطلاق لفظ "الأسد " وإرادة الرجل الشجاع، ونصوص الشارع جاءت لبيان الأحكام الشرعية وإطلاق اللفظ وإرادة غير ما وضع له مناف للبيان المقصود، ولسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، فإن جماهير العلماء قد ذهبوا إلى ورود المجاز في لفظ الشارع، واعتبر ابن قدامة وغيره من الأصوليين إنكار وقوعه في نصوص الشارع نوعاً من المكابرة (108).
وعلى هذا فقد يختلف العلماء في فهم المراد من كلام الشارع، إذا ورد بتركيب متردد بين الحقيقة والمجاز، أو ورد لفظ مفرد يحتمل الأمرين فيحمله بعضهم على المعنى الحقيقي، ويحمله آخرون على المعنى المجازي وذلك كلفظ:الميزان" فحقيقته تلك الأداة التي يزن الناس بها الأشياء.
ويطلق على "العدل" مجازاً. قال - تعالى -:(2/171)
((وَالسَّماءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ الْمِيزَانَ، ألاّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان َ)) (الرحمن:7-9). فالميزان في الأولى والثانية استعمل في "العدل" كما في قوله - تعالى -: ((لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالْبَيِّناَتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْط ِ)) (الحديد:25)، وفي الثالثة أريد به المعنى الحسي، وهو الأداة التي توزن بها الأشياء(109). كما يقال للعروض "ميزان الشعر" وللنحو "ميزان الكلام " (110). ومثله لفظ "السلسلة " وغيرها. وأحياناً يكون المجاز في التركيب كما في قوله - تعالى -: ((يا تَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشا ً)) (الأعراف: 26) فمن المعلوم أن اللباس لا ينزل من السماء وهو لباس، ولا الريش كذلك، ولكن الله - تعالى - أنزل المطر وأنبت النبات وخلق الحيوان وكساه الصوف والشعر والوبر، وأنبت القطن والكتان ليتخذ منه اللباس، فأسند إلى المسبب وهو اللباس بدلاً من السبب وهو الماء الذي جعل الله - تعالى - منه كل شيء حي. ومن المعروف أن صيغة "افعل " للأمر و"لا تفعل " للنهي، ومطلق الأمر يفيد الوجوب، ومطلق النهي يفيد التحريم، ذلك هو الاستعمال الحقيقي لكل من الصيغتين، ولكن قد ترد كل منهما لمعان غير المعنى الذي وضعت له أولاً.
فقد يرد الأمر للندب مثل قوله - تعالى -: ((فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )) (النور:33).
والإرشاد نحو قوله - تعالى -:((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ… )) أو قوله: ((إذا تَدَايِنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسمًّى فَاكْتُبُوه ُ)) (البقرة: 282) والتهديد نحو قوله - تعالى -: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ )) (فصلت:40) وغير ذلك (111).(2/172)
وكذلك النهي قد يرد لغير التحريم، كالكراهة والتحقير في نحو قوله - تعالى -: ((لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ )) (الحجر:88).
والإرشاد كما في قوله - تعالى -: ((لا تسْأَلوُا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )) (المائدة:101) وغيرها (112).
كما أن الأمر قد يرد بصيغة الخبر، وكذلك النهي قد يرد أيضاَ بصيغة الخبر والنفي، وكل ذلك له آثار في اختلاف الفقهاء، وفي طرائقهم، وفي استنباط الأحكام الشرعية من النصوص؛ وأحياناً تختلف مذاهب العلماء في فهم النص لاختلاف أحوال كلمة واردة فيه، وإن لم يختلف معناها، كاختلافهم في قوله - تعالى -: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) (البقرة:282 ) حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بها صدور الضرر من الكاتب والشهيد وذلك بأن يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ويشهد الشاهد بخلاف الواقع، ودليل هؤلاء قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيدُ )).
وذهب آخرون إلى أن المراد وقوع الضرر عليهما، كأن يمنعا من أشغالهما، ويكلَّفا الكتابة والشهادة في وقت لا يلائمهما، ودليل من ذهب إلى هذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) فلما كانت اللفظة مدغمة في لغة تميم، احتمل بناء الفعل المعلوم، وبناؤه للمجهول، فحدث هذا الاختلاف، وإن كان فك الإدغام لغة أهل الحجاز(113).
والمتتبع لهذا النوع من أسباب الاختلاف، يجد أمثلة كثيرة عليه في الكلمات المفردة، وفي التراكيب المختلفة وأنواعها، وما يعرض لها من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وإجمال وبيان، وغير ذلك… ولعل فيما ذكرنا ما ينبه إلى ما أغفلنا مما يمكن الاطلاع عليه في مظانه (114).
2- أسباب تعود إلى رواية السنن:
وهذا النوع من الأسباب متعدد الجوانب، مختلف الآثار، وإليه ترجع معظم الاختلافات الفقهية التي وقعت لعلماء السلف.(2/173)
فأحياناً لا يصل الحديث إلى مجتهد ما، فيفتي بمقتضى ظاهر آية أو حديث آخر، أو بقياس على مسألة سبق فيها من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قضاء، أو بمقتضى استصحاب للحال السابقة(115)، أو بمقتضى أن الأصل البراءة وعدم التكليف(116)، أو بموجب أي وجه معتبر من وجوه الاجتهاد.
وقد يصل - في الواقعة موضع البحث - إلى مجتهد آخر حديث، فيفتي بمقتضاه فتختلف فتياهما.
وأحياناً يصل الحديث إلى المجتهد، ولكنه يرى فيه علة تمنع من العمل بمقتضاه، كاعتقاده عدم صحة إسناده إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لوجود مجهول أو متهم، أو سيئ الحفظ في سلسلة إسناده، أو لانقطاعه أو إرساله، أو لكونه يشترط في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً لا يشترطها غيره، فيعمل أحدهما بالحديث، لأن له طريقاً صحيحاً متصلاً عده، ولا يعمل الآخر بمقتضاه لعلَّة من العلل المذكورة، فتختلف الأقوال.
وقد تختلف أقوال العلماء لاختلاف آرائهم في معاني الحديث ودلالته، وذلك كاختلاف أقوالهم في مسائل: "المزابنة " (117) و"المخابرة "(118) و "المحاقلة " (119) و "الملامسة "(120)و"المنابذة "(121) و "الغرر "(122) لاختلافهم في تفسيرها.
وقد يصل الحديث لبعضهم من طريق بلفظ، ويصل لمجتهد آخر بلفظ مغير وذلك كأن يُسقط أحدهما من الحديث لفظاً لا يتم المعنى إلا به، أو يتغير معنى الحديث بسقوطه.
وقد يصل الحديث إلى أحد المجتهدين مقترناً بسبب وروده، فيحسن فهم المراد منه، ويصل إلى آخر من غير سبب وروده، فيختلف فهمه له.
وقد يسمع راو بعض الحديث، ويسمع الآخر الحديث كاملاً. وقد ينقل الحديث من كتاب بلفظ مصحّف أو متغير، ويبني عليه، وينقله آخر بلفظ لم يدخله شيء من ذلك فتختلف الأقوال بناء على ذلك، وقد يصح الحديث عند المجتهد ولكنه يعتقد أنه معارض بما هو أصح منه أو أقوى، فيرجح الأقوى، أو لا يتضح له أقوى الدليلين، فيتوقف عن الأخذ بكل منهما، حتى يظهر له مرجح.(2/174)
وقد يعثر مجتهد على ناسخ للحديث، أو مخصص لعامه، أو مقيد لمطلقه ولا يطلع مجتهد آخر على شيء من ذلك، فتختلف مذاهبهما (123).
3- أسباب تعود إلى القواعد الأصولية وضوابط الاستنباط:
علم أصول الفقه هو: "معرفة أدلة الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ".
فهذا العلم عبارة عن: مجموع القواعد والضوابط التي وضعها المجتهدون لضبط عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من الأدلة التفصيلية؛ فيحدد المجتهدون في مناهجهم الأصولية الأدلة التي تستقى منها الأحكام، ويستدلون لحجية كل منها، ويبيِّنون جميع العوارض الذاتية لتلك الأدلة لتتضح طرائق استفادة الأحكام منها، ويحددون طرق استفادة الحكم الشرعي من كل دليل من تلك الأدلة، والخطوات التي يسلكونها منذ البداية حتى الوصول إلى الحكم الشرعي.
وهذه القواعد والضوابط اختلفت مذاهب المجتهدين فيها: فنجم عن الاختلاف فيها اختلاف في المذاهب الفقهية التي يذهب كل منهم إليها، فبعض الأئمة يذهب إلى أن فتوى الصحابي إذا اشتهرت ولم يكن لها مخالف - من الصحابة أنفسهم - حجة، لأن الثقة بعدالة الصحابة تشعر بأن الصحابي ما أفتى بما أفتى به إلاّ بناءً على دليل، أو فهم في دليل، أو سماع من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لم يشتهر ولم يصل إلينا.
وبعضهم لا يرى عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لا فيما يراه، فتختلف مذاهب الفقهاء بناء على ذلك.
وبعض المجتهدين يأخذ بـ"المصالح المرسلة " أي: تلك الأمور التي لم يوجد في الشرع ما يدل على اعتبارها بذاتها، كما لم يوجد فيه ما يدل على إلغائها بذاتها، فهي مرسلة مطلقة عن الإلغاء والاعتبار، فإذا أدرك المجتهد في تلك الأمور ما يحقق مصلحة، قال بمقتضى تلك المصلحة باعتبار أن الشارع ما شرع الأحكام إلاّ لتحقيق مصالح العباد.(2/175)
وهناك أمور أخرى - من هذا النوع - اختلف المجتهدون فيها، وتعرف في كتب أصول الفقه بـ"الأدلة المختلف فيها " كـ"سد الذرائع " و"الاستحسان " و "الاستصحاب " و " الأخذ بالأحوط " و "الأخذ بالأثقل " و "العرف " و "العادة " وغيرها.
كما أن هناك اختلافاً في بعض الأمور المتعلقة بدلالات النصوص، وطرق تلك الدلالات، وما يحتج به منها، وعن كل ذلك نشأت اختلافات فقهية في كثير من الفروع.
تلك هي أهم وأبرز الأسباب التي ترجع إليها الاختلافات الفقهية نبهنا إليها بإيجاز، ومن أراد الاستقصاء ومعرفة كل تلك الأسباب، أو جلها مع أمثلتها، فليرجع إلى الكتب التي أُلِّفت لمعالجة هذا الأمر قديماً وحديثاً(124).
http://www.islamweb.net المصدر:
ـــــــــــــــ(2/176)
تاريخ الاختلاف وتطوره
اختلاف الصحابة في عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -:
لم يكن في عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف بالمعنى الذي ذكرناه، ذلك لأن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - مرجع الجميع باتفاق، و مردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة؛ فإذا اختلف الصحابة - رضوان الله عليهم - في شيء ردوه إليه - عليه الصلاة و السلام - فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل بهم من الأمور ما لا يستطيعون رده إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لبعدهم عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلافهم في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - وتطبيقه على ما نابهم من أحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصاً فتختلف اجتهاداتهم... هؤلاء ذا عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإما أن يقرهم على ذلك فيصبح جزءاً من سنته - - صلى الله عليه وسلم - -، وإما أن يبين لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه - - صلى الله عليه وسلم - -، ويأخذون به، ويرتفع الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
(أ) ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي: ديار بني قريظة.(2/177)
وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -، فلم يعنف واحداً منهم (9). وظاهر من هذا الحديث الشريف أن الصحابة - رضوان الله عليهم - انقسموا إلى فريقين في موقفهم من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة) أو بما يسميه أصوليو الحنفية ب "عبارة النص ". وفريق استنبط من النص معنى خصَّصه به.
وتصويب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.
فالمسلم إذن: له أن يأخذ بظاهر النص، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص، ويمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده، وكان مؤهلاً لهذا النوع من الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة - رضوان الله عليهم - فهموا أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إنما أراد أن يأمرهم بالمبالغة في الإسراع، ولذلك اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بالصلاة في بني قريظة، ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم - رحمه الله - أورد اختلاف الفقهاء في تصويب أن من الفريقين، وبيان الأفضل من فعل كل منهما، فمن قائل: إن الأفضل فعل من صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: ومن قائل: إن الأفضل فعل من أخرها ليصليها في بني قريظة... (10).
قلت: وما دام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لم يعنف واحداً منهما، فكان على الفقهاء - رحمهم الله - أن يسعهم ذلك من سنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وألا يخوضوا في أمر قد تولى - عليه الصلاة و السلام - حسمه والانتهاء منه.(2/178)
(ب) ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل (11) فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي ((وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)) [النساء: 29]. فضحك رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ولم يقل شيئاً) (12).
التأويل وأنواعه:
لسنا بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وبعده، بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط لشتى المعاني منه، فذلك أمر يطول، وتقصر دونه المجلدات فضلاً عن هذا البحث، ذلك لأنهم - رضوان الله عليهم - قد فهموا من تلك الوقائع أن هذا الدين يسر، وأن الشرع متَّسع للطريقتين ومقرُّ للمنهجين...
والمجتهدون الحذقة، والفقهاء المهرة هم الذين يجتهدون في بيان ما يحقِّق كليّات الشريعة، ويوصِّل إلى مقاصدها، فأحياناً يكون ذلك بالأخذ بظاهر اللفظ، وأحياناً يكون بالأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، وهو ما يعرف بالتأويل، ولعل من المفيد أن نلقي الضوء على هذا الموضوع، مستعرضين بإيجاز أنواع التأويل وضوابطه...
يأتي التأويل من الأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، ويكون عبارة عن:
1 تأويل قريب:
وهو ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له، مثل: اعتبار التصدق بمال اليتيم، أو التبرع به لغيره، أو إتلافه مساوياً لأكله، أو أولى بالتحريم الذي دل عليه قوله - تعالى -: ((إنَّ الذين يأْكُلون أمْوال اليتامى ظُلماً إنَّما يأكُلون في بُطونِهِمْ ناراً…)) [النساء: 10].(2/179)
ومنه: اعتبار التبول في إناء ثم صب البول في الماء الراكد مساوياً للتبول المباشر فيه، الذي ورد النهي عنه بقوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه "(13). باعتبار أن كلا المعملين مؤد لتلوث الماء، وإثارة الوسوسة.
2 تأويل بعيد:
وهو ما يحتاج لمعرفته والوصول إليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله، وذلك كاستنباط ابن عباس - رضي الله عنهما -، أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله - تعالى -: ((وَحَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)) [الأحقاف: 15] مع قوله - تعالى -: ((والوالِداتُ يُرْضِعْن أولادهُنَّ حَوْلينِ كامِلينِ لِمَنْ أراد أن يُتمّ الرّضاعة)) [البقرة: 233].
وكاستدلال الإمام الشافعي على كون الإجماع حجة بقوله - تعالى -: ((وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُولِّهِ مَا تَولّى ونُصْلِهِ جهنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرا ً)) [النساء: 115].
وكذلك استدلال الأصوليين بقوله - تعالى -: ((فَاعْتِبِرُوا يَا أولِي الأبْصَار ِ)) [الحشر: 2].. على حجية القياس، وكونه دليلاً شرعياً. فهذه استنتاجات وإن بدت يسيرة، يتعذر الوصول إليها ما لم يكن الإنسان جوال الفكر، ثاقب النظر، كما تحتاج إلى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.
3 تأويل مستبعد:
وهو ما لا يحتمله اللفظ، وليس لدى المُؤَوِّل على تأويله أي نوع من أنواع الدلالة، وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله - تعالى -: ((وَعَلاَماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدون)) [النحل: 16] بأن النجم هو رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، والعلامات هم الأئمة. وكتفسير بعضهم قوله - تعالى -: ((وَمَا تُغْنِي الآياتُ والنُّذُر عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُون)) [يونس: 101 بأن الآيات هم الأئمة، والنذر هم الأنبياء.(2/180)
وكتفسير آخرين قوله - تعالى -: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيم)) [النبأ: 12] بالإمام علي - رضي الله عنه -، وأنه هو النبأ العظيم(14).
ضوابط التأويل:
ويتبين مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالإضافة إلى القدرة على التدبر والتأمل إلى ما يدل عليه ويلجئ إليه، وإلاّ فإن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب التأويل إلاّ في الأمور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال للاجتهاد فيها، فإن الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها، وما قد تدل عليه من كيفيات هو الأسلم دائماً، وهو موقف السلف - رضوان الله عليهم -.
وعند الاضطرار إلى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله، ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة، وتساعد عليها كليَّاتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على ظاهره أو تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله - تعالى -: ((فَاعْتَبِرُوا يا أولي الأَبْصَارِ)) [الحشر: 2 ].
إن ابن عباس - رضي الله عنهما - عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:
• فوجه تعرفه العرب بكلامها.
• ووجه لا يعذر أحد بجهالته.
• ووجه يعلمه العلماء.
• ووجه لا يعلمه إلا الله.
وعلى ذلك، فإن التأويل، وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه، قد ظهرت الصلة الوثقى بينه وبين التفسير؛ فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله - تعالى -: ((وَما يعْلمُ تأوِيلَهُ إلاّ اللهُ، والرَّاسِخُون في العِلْمِ يقولون آمَنَّا به)) [آل عمران: 7].
فقد ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بالتأويل هنا التفسير والبيان ومنهم: الطبري الذي نقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من السلف.(2/181)
كذلك ورد في دعاء رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لابن عباس - رضي الله عنهما -: "اللهم فقِّهه في الدين، وعلمه التأويل" استعمل التأويل بمعنى التفسير والبيان، وإن كان بعض العلماء، كالراغب الأصفهاني في مفرداته، قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه إلى أن التفسير أكثر ما يستعمل في بيان الألفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان المعاني والجُمل.
كما أشار كذلك إلى أن التأويل يغلب إطلاقه على استنباط المعاني من نصوص الكتاب والسنة، أما التفسير فيتناول استنباط المعاني منها ومن غيرها.
ولعل هذه الصلة الوثقى بين الاصطلاحين في استعمال الكتاب والسنة لهما خاصة، تبيح لنا استعارة الضوابط التي وضعها أهل الاختصاص للتفسير كضوابط للتأويل كذلك.
إن مما لا شك فيه أنه قد وردت في كتاب الله أمور قد استأثر الله - تعالى - بعلمها، كمعرفة حقائق الأسماء والصفات، وتفاصيل الغيب ونحو ذلك... كما أن هناك أموراً أخرى أطلع عليها نبيه - - صلى الله عليه وسلم - - واختصه بمعرفتها... ولا شك أن مثل هذه الأمور، ليس لأحد أن يخوض فيها بتفسير أو تأويل.. بل عليه أن يلزم حدود ما ورد فيها في كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -.
وهناك قسم ثالث: وهو عبارة عن العلوم التي علمها الله لنبيه - - صلى الله عليه وسلم - - مما أودع في كتابه، وأمر نبيه - - صلى الله عليه وسلم - - بتعليمها وبيانها. وهذا القسم يشتمل على نوعين:
الأول:
وهو ما لا يجوز الخوض فيه إلاّ بطريق السمع، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيره.
الثاني:
ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال، وهذا أيضاً لأهل الاختصاص فيه موقفان:
(أ) فقسم منه اختلفوا في جواز تأويله، كآيات الأسماء والصفات. ومذهب السلف: منع التأويل، وهو الصحيح.
(ب) وقسم اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهو المسمى ب "الفقه ".(2/182)
هذا وقد وضع العلماء للتأويل والتفسير شروطاً منها:
أولاً: ألاَّ يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب القواعد اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ.
ثانياً: ألاَّ يناقض نصاً قرآنياً.
ثالثاً: ألاَّ يخالف قاعدة شرعية مجمعاً عليها بين العلماء والأئمة.
رابعاً: وجوب مراعاة الغرض الذي سيق النص له من خلال سبب النزول أو الورود.
أما أنواع التأويل الباطلة والمردودة، فيمكن إدراجها ضمن الأقسام التالية:
الأول: التأويل والتفسير الصادران عن غير المؤهل لذلك ممن ليس لديه تحصيل علمي كاف في اللغة والنحو، وبقية لوازم التأويل.
الثاني: تأويل المتشابهات بدون سند صحيح.
الثالث: التأويلات التي من شأنه أن تقرر مذاهب فاسدة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة، أو لما أجمع عليه المسلمون.
الرابع: التأويل مع القطع بأن مراد الشارع ذلك، دون دليل.
الخامس: التأويل القائم على الهوى، كتأويلات الباطنية وأمثالهم.
وهذه التأويلات المردودة كلها تندرج تحت ما سبق أن ذكرناه من التأويل المستبعد.
أهل الاجتهاد من الصحابة:
ونظراً لأهمية الاجتهاد وخطورته، وما يترتب عليه من آثار، لم يكن يمارسه من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إلاّ الأكفاء القادرون.
وحين يمارسه غيرهم فيخطئ، كان - عليه الصلاة و السلام - ينكر ذلك ولا يقر أحداً عليه.(2/183)
* وأخرج أبو داود والدار قطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أُخبر بذلك، فقال - عليه الصلاة و السلام -: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب شك من راوي الحديث على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده... " (15) فالرسول - عليه الصلاة و السلام - لم يعذر المفتين هنا من أصحابه، بل عنَّفهم وعاب عليهم أنهم أفتوا بغير علم، واعتبرهم بمثابة القتلة لأخيهم، وأوضح أن الواجب على من كان مثلهم في "العيِّ" أي الجهل والتحيُّر السؤال لا المسارعة إلى الفتوى ولو بغير علم، والذي نبه إليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - حول ضرورة السؤال هو ما ورد في القرآن العظيم نفسه في قوله - تعالى -: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون)) [النحل: 43].
* وأخرج الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والطبراني عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -، فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "أقال: لا إله إلاّ اله وقتلته؟! " قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلاّ الله يوم القيامة؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (16).(2/184)
ففي الحديث الأول أنكر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على الصحابة أخذهم بعموم الأدلة الدالة على وجوب استعمال الماء لواجده بغض النظر عن حالته، فهم لم ينتبهوا إلى قوله - تعالى -: ((وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلمْ تجِدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّبا ً)) [المائدة: 6] ولم يسألوا وهم ليسوا من أهل النظر.
وأما حديث أسامة فيفهم منه كأنه - رضي الله عنه - تأول قول الله - تعالى -: ((...فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لمَّا رأَوْا بَأْسَناَ...)) [غافر: 85]، واعتبر الآية نافية للنفع في الدنيا والآخرة وأنها عامة في الحالين وليست خاصة بالآخرة، كما هو ظاهر من الآية الكريمة، ولعل ذلك ما جعل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يعنفه.
تلك بعض فتاوى الصحابة - رضوان الله عليهم - التي لم يقرهم عليها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - (17).
لقد كان الناس يستفتونه - عليه الصلاة و السلام - في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها(18)، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله، ويرى الفعل المغاير فينكره، ويستعلم منه أصحابه - رضوان الله عليهم - ذلك، ويرويه بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزوا ذلك إلى التنازع والشقاق، وتراشق الاتهامات وتبادل الطعون لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله - تعالى -، والى رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي ظلالاً على أخوَّتهم.
تحذير النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أصحابه من الاختلاف:(2/185)
كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها، لذلك كان - عليه الصلاة و السلام - يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " (19). وكان كرام الصحابة - رضوان الله عليهم - يرون أن الخلاف لا يأتي بخير كما في قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الخلاف شر ".
لذلك كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يجتث بذرة الخلاف قبل ن تتنامى... عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: هَجَّرت إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما هلك من كان قببكم باختلافه في الكتاب "(20).
وعن النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية سمعتُ من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقال: "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا " (21).
فهنا يعلم الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - الصحابة ومن يأتي بعدهم عواقب الاختلاف ويحذرهم منه.(2/186)
وكان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يُعلم الصحابة - رضوان الله عليهم - أدباً هاماً من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول في الحديث الصحيح: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (22) فيندبهم - عليه الصلاة و السلام - للقيام عن القرآن العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف القراءة، أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة حتى تهدأ النفوس والقلوب والخواطر، وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة والشقاق، أما إذا ائتلفت القلوب، وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم، فعليهم أن يواصلوا القراءة والتدبر والتفكير في آيات لكتاب. ونرى كذلك أن القرآن الكريم كان أحياناً يتولى التنبيه على "أدب الاختلاف " حين يقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم -، فعن عبد الله بن الزبير قال: "كاد الخيِّرانِ أن يهلكا أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -.. رفعا أصواتهم عند النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حين قدم ليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع بن معبد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله - تعالى -: ((يا أيُّها الذين آمنوا لا تَرْفعُوا أصواتكم فوقَ صوتِ النّبي...الآية)) قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بعد هذه الآية حتى يستفهمه (23).
معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة:
نستطيع على ضوء ما سبق أن نلخص معالم "أدب الاختلاف " في هذا العصر بما يلي:
(1) كان الصحابة - رضوان الله عليه - يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا يكثرون من المسائل والتفريعات (24)، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال هدي الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - ؛ ومعالجة الأمر الواقع عادة لا تتيح فرصة كبيرة للجدل فضلاً عن التنازع والشقاق.(2/187)
(2) إذا وقع الاختلاف رغم محاولات تحاشية سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - وسرعان ما يرتفع الخلاف.
(3) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.
(4) تصويب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - للمختلفين في كثير من الأمور التي تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما هب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه، والبعد عن التعصب للرأي.
(5) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين، حيث لا يهم أيُّ منهما أن تظهر الحقيقة على لسانه، أو على لسان أخيه.
(6) التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم، وتجنّب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر.
(7) تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث، مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع المخالف لقبوله، أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.
تلك هي أبرز معالم "أدب الاختلاف " التي يمكن إيرادها.. استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.
الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:
حاول بعض الكتاب على الساحة الإسلامية، أن يصوروا جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزاً فحسب، بل هو جيل يستحيل تكراره، وفي هذا من الإساءة للإسلام ما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - بعد عصر الصحابة ضرب من المستحيل، يجب ألاّ تتسامى نحوه الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل الشريعة السمحاء.(2/188)
إن الصحابة - رضوان الله عليهم - أمة صنعها كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -، وكتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي أي مكان إذا اتخذا منهجاً وسبيلاً، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة يتعاملون، سيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الأول إنما هو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - -، وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعاً لظروف معينة، وأن زماننا هذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح.
إن أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه - عليه الصلاة و السلام -، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
إن أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه - عليه الصلاة و السلام -، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
1 اختلافهم في وفاته - عليه الصلاة و السلام -:(2/189)
فقد كان أول اختلاف بينهم، بعد وفاته - عليه الصلاة و السلام -، حول حقيقة وفاته - - صلى الله عليه وسلم - -، فإن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصر على أن رسول الله لم يمت، واعتبر القول بوفاته إرجافاً من المنافقين توعدهم عليهم، حتى جاء أبو بكر - رضي الله عنه - وقرأ على الناس قوله - تعالى -: ((وَمَا مُحمَّدٌ إلاّ رسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلبْتُمْ على أعْقَابِكُم، وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ فَلَنْ يضُرَّ الله شيئاً، وسيجْزي الله الشاكرين)) [آل عمران: 144]، وقوله - تعالى -: ((إنَّكَ مَيِّتُ وإنَّهُم ميِّتُون)) [الزمر: 30]. فسقط السيف من يد عمر، وخر إلى الأرض، واستيقن فراق رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر "كأني، والله، لم أكن قرأتها قط "(25).
ويروي ابن عباس - رضي الله عنهما - عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه قال له في خلافته:
"يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم.
قال: فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك إلاّ أني كنتُ أقرأ هذه الآية: ((وكذلك جعلناكُم أمَّةً وسطاً لِتَكُونوا شُهداء على الناسِ ويَكُون الرَّسولُ عليكمُ شهيداً)) [البقرة: 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت (26). فكأنه - رضي الله عنه - قد اجتهد في معنى الآيات الكريمة، وفهم أن المراد منها: الشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي بقاء رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، إلى آخر أيامها. "
2 اختلافهم في دفنه - عليه الصلاة و السلام -:(2/190)
ثم اختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، فقال قائل: "ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إني سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول: "ما قبض نبي إلاّ دفن حيث يقبض " فرفع فراش رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - الذي توفي عليه، فحفر له تحته "(27).
فهذان أمران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
3 اختلافهم في خلافة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -:
فقد اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي المهاجرين أم في الأنصار؟ أتكون لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بصفته حاكماً وإماماً للمسلمين أن تنقص عنها وتختلف؟!
http://www.islamweb.net المصدر:
ـــــــــــــــ(2/191)
في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها
الاختلاف والخلاف وعلم الخلاف:
الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من "الضد " لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال - تعالى -:
((فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم…)) [مريم: 37]
((وَلا يزَالُون مُخْتلِفين)) [هود: 118]
((إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف)) [الذاريات: 8]
((إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون)) [يونس: 93].
وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف " يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.
وأما ما يعرف لدى أهل الاختصاص بـ "علم الخلاف " فهو علم يمكِّن من حفظ الأشياء التي استنبطها إمام من الأئمة، وهدم ما خالفها دون الاستناد إلى دليل مخصوص، إذ لو استند إلى الدليل، واستدل به لأصبح مجتهداً وأصولياً، والمفروض في الخلاف ألاّ يكون باحثاً عن أحوال أدلة الفقه، بل حسبه أن يكون متمسكاً بقول إمامه لوجود مقتضيات الحكم - إجمالاً - عند إمامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم، كما يكون قول إمامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل إليه إمامه كذلك.
الجدل و "علم الجدل":
إذا اشتد اعتداد أحد المخالفين أو كليهما بما هو عليه من قول أو رأي أو موقف، وحاول الدفاع عنه، وإقناع الآخرين به، أو حملهم عليه سميت تلك المحاولة بالجدل.
فالجدل في اللغة "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة " مأخوذ من "جدلت الحبل " إذا فتلته وأحكمت فتله، فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه.
وأما "علم الجدل " فهو: علم يقوم على مقابلة الأدلة لإظهار أرجح الأقوال الفقهية(4).(2/192)
وعرَّفه بعض العلماء بأنه "علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد ولو باطلاً وهدم أي وضع يراد ولو حقا ً" (5).
ويظهر في هذا التعريف أثر المعنى اللغوي للجدل، لأنه - على هذا - علم لا يتعلق بأدلة معينة، بل هو قدرة أو ملكة يؤتاها الشخص ولو لم يحط بشيء من الكتاب والسنة ونحوهما.
الشقاق:
فإذا اشتدت خصومة المتجادلين، وآثر كل منهما الغلبة بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بنما تفاهم أن اتفاق سميت تلك الحالة بـ "الشقاق" و "الشقاق" أصله: أن يكون كل واحد في شق من الأرض أي نصف أو جانب منها، فكأن أرضاً واحدة لا تتسع لهما معاً، وفي التنزيل ((وَإنْ خِفْتُم شِقاق بيْنِهِما)) [النساء: 35] أي خلافاً حاداً يعقبه نزاع يجعل كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه، ومثله قوله - تعالى - ((فَإِنّما هُمْ فِي شِقاق ٍ)) [البقرة: 137].
المقبول والمردود من الاختلاف:
قضت مشيئة الله - تعالى - خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله - تعالى -، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله - تعالى - كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن أعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له ((وَلوْ شاء ربُّك لجَعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولا يزالون مُخْتلِفين إلاّ مَنْ رَحِم ربُّك ولذلِك خَلقهم)) [هود: 118-119].
http: //www.islamweb.net المصدر:
ـــــــــــــــ(2/193)
في معالم الاختلاف بين الأئمة وآدابه
لقد اختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم؛ وهم جميعاً على الهدى ما دام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو شهوة أو رغبة في الشقاق، فقد كان الواحد منهم يبذل جهده وما في وسعه ولا هدف له إلاّ إصابة الحق وإرضاء الله جل شأنه، ولذلك فإن أهل العلم في سائر الأعصار كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ما داموا مؤهلين، فيصوبون المصيب، ويستغفرون للمخطئ، ويحسنون الظن بالجميع، ويسلمون بقضاء القضاة على أي مذهب كانوا، ويعمل القضاة بخلاف مذاهبهم عند الحاجة من غير إحساس بالحرج أو انطواء على قول بعينه، فالكل يستقي من ذلك النبع وإن اختلفت الدلائل، وكثيراً ما يصدّون اختياراتهم بنحو قولهم: "هذا أحوط " أو "أحسن " أو "هذا ما ينبغي " أو "نكره هذا " أو "لا يعجبني " فلا تضييق ولا اتهام، ولا حجر على رأي له من النص مستند، بل يسر وسهولة وانفتاح على الناس لتيسير أمورهم.
لقد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت فيها، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء، والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضاً للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو ما مسته النار مساً مباشراً، ومنهم من لا يرى في ذلك بأساً.
إن هذا كله لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض، كما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سراً ولا جهراً، وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصار الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء.(2/194)
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلى خلفه؟ فقال: "كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب "(125). وصلى الشافعي - رحمه الله - الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة - رحمه الله - فلم يقنت - والقنوت عنده سنة مؤكدة - فقيل له في ذلك، فقال: "أخالفه وأنا في حضرته " وقال أيضاً: "ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق "(126).
وكان مالك - رحمه الله - أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة رضوان الله عليهم أجمعين، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، وقد حدّث وأفتى رضي الله عنه ، وألّف كتابه "الموطأ" الذي توخى فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وأجاد، وقد اعتبر "الموطأ " ثمرة جهد الإمام مالك لمدة أربعين عاماً، وهو أول كتاب في الحديث والفقه ظهر في الإسلام ، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالماً من معاصريه من علماء الحجاز، ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار، وحمْل الناس على الفقه الذي فيه حسماً للخلاف كان الإمام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم… فقال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله " (127).
فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره.(2/195)
رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك:
ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظراً لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:
"… سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو أما بعد: عافانا الله وإيّاك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه … ثم يقول: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك - إن شاء الله - تعالى - ووقع مني بالموقع الذي نحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له ".(2/196)
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته مورداً أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك - رحمهما الله - تعالى - حول حجية عمل أهل المدينة مبيناً أن كثيراً من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه - - صلى الله عليه وسلم - - ، وبيّن أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: "ومع ذلك - حمد الله - عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله وغفر له وزاه بأحسن ما عمله " ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر - والقضاء بشاهد ويمين - ومؤخر الصداق لا يقبض إلاّ عند الفراق - وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء… وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة "… وقد تركت أشياء كثيرة من أشابه هذا، وأنا أحب توفيق الله إيّاك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله " (128).(2/197)
إن هناك كثيراً من المناظرات العلمية الدقيقة المليئة بأدب الاختلاف حفلت بها تب التراجم والتاريخ والمناظرات ونحوها، ولا يكاد المرء يفتقد "أدب الاختلاف " بين أهل العلم إلاّ بعد شيوع التقليد وما رافقه من تعصب وتعثر في سلوك أهل العلم، نظراتهم إلى العلم نفسه، ولا سيما بعد أن خلت الساحة من أمثال العلماء الذين يقول فيهم الإمام الغزالي: "وكان قد سبق من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا " فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، وحل محل هذا الرعيل المبارك طلاب الدنيا بالدين، وحل الذي هو أدنى مكان الذي خير، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشر أبوا بطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلاّ من وفقه الله - تعالى - في كل عصر من علماء دين الله "(129).
لقد صوّر الإمام الغزالي - رحمه الله - واقع العلماء بعد أن غدت الدنيا مطلبهم، وصار الدين الطريق الوحيد الموصل إلى أبواب الولاة، كما أصبحت الرغبة في كسب ودّهم هي التي تدفع فئات ممن تزيوا بزي العلماء إلى طلب العلم.(2/198)
إن الإمام مالكاً عليه - رحمة الله - يقول: "لا يؤخذ هذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به " (130). وقال أيضاَ: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عند هذه الأساطين (وأشار إلى مسجد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -) فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال كان أميناً، إلاَّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه " (131).
ورجال تلك صفاتهم لم يكن ليقع بينهم كبير اختلاف، وإن وقع فمن أجل الحق، ولن يدس الهوى أنفه في خلاف لا يدعو إليه غير الحق… وحتى نؤصل الآداب التي سار على نهجها كرام علمائنا، فنجعل منهم لنا القدوة الصالحة، وتكون خلالهم الكريمة تلك مثلاً نحتذي به، نقدم نماذج من أدب الاختلاف بين كبار الأئمة من السلف الصالح رضوا الله عليهم.
أبو حنيفة ومالك:
مرّ معنا في استعراضنا لمذهب الأئمة الاختلاف الكبير بين أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله -، وتباين الأسس التي يعتمدها كل منهما فيما يخص مذهبه؛ ولكن هذا لم يمنع، رغم فارق السن التي بينهما، أن يجلّ الواحد منهما صاحبه، وأن يكون معه على جانب كبير من الأدب مع اختلاف مناحيهما في الفقه… أخرج القاضي عياض في "المدارك " قال: قال الليث بن سعد: لقيت مالكاً في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك. قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري. قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك (يشير إلى مالك) فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام.. (132).
محمد بن الحسن ومالك:(2/199)
يعتبر محمد بن الحسن من أبرز أصحاب أبي حنيفة، وهو مدوِّن مذهبه، رحل إلى مالك ولازمه ثلاث سنين، وسمع منه الموطأ، ويتذاكر الإمامان محمد بن الحسن والشافعي يوماً، فيقول محمد: صاحبنا (يريد أبا حنيفة) أعلم من صاحبكم (أي مالك) وما كان لصاحبنا أن يسكت وما كان لصاحبكم أن يتكلم - كأنه يستثير الإمام الشافعي بذلك - فيقول الإمام الشافعي:
نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: مالك أو أبو حنيفة؟ فيقول محمد: مالك، ولكن صاحبنا أقيس. يقول الشافعي: قلت نعم، ومالك أعلم بكتاب الله من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام، فيسكت الإمام محمد بن الحسن (133).
الشافعي ومحمد بن الحسن:
يقول الإمام الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يوماً، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر، وتتقطع أزراره.. (134).
ويقول محمد بن الحسن: إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي، فقيل له: فلم؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع… (135).
تلك هي بعض نماذج أدب الاختلاف، من آداب علماء الأمة، نستنبط منها: أن خلف الأمة في قرون الخير كان يسير حذو السلف، والكل ستقي من أدب النبوة، ولم يكن أدب السلف الصالح يقتصر على تجنب التجريح والتشنيع، بل كان من الآداب الشائعة في ذلك الجيل من العلماء التثبت في أخذ العلم واجتناب الخوض فيما لا علم لهم به، والحرص على تجنب الفتيا خوفاً من الوقوع في الخطأ. قال صاحب القوت: وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -) مائة وعشرين من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلاّ ودّ أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر حتى ترجع إلى الذي سأل عنها أول مرة… (136).(2/200)
وقد ارتفع هؤلاء الرجال فوق مشاعر الإحساس بالغضاضة، فقد يتوقف أحدهم أمام مسألة، وذكر أن قومه أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال مالك: فأخبر الذي أرسلك أني لا علم لي بها. قال الرجل: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علّمه الله، قالت الملائكة:
((لا عِلْمَ إلاّ ماَ عَلَّمْتَنَا)) (البقرة: 32).
وروي عن مالك أيضاً أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أدري ".
وعن خالد بن خداش قال: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة فسألته عنها فما أجابني منها إلاّ في خمس مسائل.
وكان لبن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم قول (لا أدري) أصيبت مقاتله.
وروي عن مالك، عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول (لا أدري) حتى يكون ذلك في أيديهم أصلاً يفزعون إليه، فإذا سئل أحد عما لا يدري قال: لا أدري.
وقال أبو عمر بن عبد البر (توفي سنة 463): صح عن أبي الدرداء أنه قال: لا أدري نصف العلم.
مالك وابن عيينة:
كان ابن عيينة (137) قرين مالك ونداً له، يقول الإمام الشافعي: "ومالك وابن عيينة القرينان، ولولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز (138)" ومع ذلك فقد روي: أن ابن عيينة ذكر مرة حديثاً فقيل له: إن مالكاً يخالفك في هذا الحديث، فقال القائل، أتقرنني بمالك؟ ما أنا ومالك إلاّ كما قال جرير:
ولبن اللبون إذا ما لزّ في قرن ***لم يستطع صولة البزل القناعيس
ويروى لسفيان بن عيينة قول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -:
(يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة) فيقال لسفيان: من هو؟ فيقول: إنه مالك بن أنس. ويقول: "كان لا يبلغ من الحديث إلاّ صحيحاً، ولا يحمل الحديث إلاّ عن ثقاة الناس، وما أرى المدينة إلاّ ستخرب بعد موت مالك بن أنس " (139).
مالك والشافعي:(2/201)
يقول الإمام الشافعي: مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد آمن علي من مالك بن أنس… (140) وكان يقول: إذا جاءك الحديث من مالك فشد به يديك، كان مالك بن أنس إذا شك في الحديث طرحه كله (141).
أحمد بن حنبل ومالك:
عن أبي زرعة الدمشقي قال: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرواية، فقال: مالك أكبر في قلتي. قال: قلت فمالك والأوزاعي إذا اختلفا؟ فقال: مالك أحب إليّ، وإن كان الأوزاعي من الأئمة، قيل له: وإبراهيم (أي النخعي) فكأنه كان يرى أن إبراهيم لا ينبغي أن يقرن بمالك لأنه ليس من أهل الحديث، فقال: هذا ضعه مع أهل زمانه. وسئل عن رجل يريد أن يحفظ حديث رجل واحد - بعينه- قيل له: حديث من ترى له؟ قال: يحفظ حديث مالك(141).
آراء بعض العلماء في أبي حنيفة:
كان شعبة بن الحجاج أميراً للمؤمنين في الحديث(142)، وأبو حنيفة من أهل الرأي بالمكانة التي عرفنا، ورغم تباين منهجيهما فقد كان شعبة كثير التقدير لأبن حنيفة، تجمع بينهما مودة ومراسلة، وكان يوثِّق أبا حنيفة، ويطلب إليه أن يحدِّث، ولما بلغه نبأ موته قال: لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله عليه وعلينا برحمته (143).
وسأل رجل يحيى بن سعيد القطان عن أبي حنيفة فقال: ما يتزين عند الله بغير ما يعلمه الله - عز وجل - ، فإنا - والله - إذا استحسنا من قوله الشيء أخذنا به.
وهكذا لم يكن الاختلاف وتباين الآراء يمنع أحداً من الأخذ بما يراه حسناً عند صاحبه، وذكر فضله في هذا ونسبة قوله إليه.
وعن عبد الله بن المبارك روايات كثيرة في الثناء على أبي حنيفة: فقد كان يذكر عنه كل خير، ويزكيه، ويأخذ من قوله، ويثني عليه، ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده، وحاول بعض جلسائه يوماً أن يغمز أبا حنيفة فقال له: اسكت، والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلاً ونبلاً.(2/202)
ونقل عن الشافعي أنه قال: سئل مالك يوماً عن عثمان البتيِّ، فقال: كان رجلاً مقارباً، وسئل عن ابن أبي شبرمة فقال: كان رجلاً مقارباً، قيل: فأبو حنيفة: قال: لو جاء إلى أساطينكم هذه (يعني سواري المسجد) فقايسكم على أنها خشب، لظننتم أنها خشب (144) إشارة إلى براعته في القياس، أما الإمام الشافعي فما أكثر ما روي عنه قوله: … الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة (145).
ولم تكن مجالس هؤلاء الرجال ليذكر فيها إلاّ الخير، ومن حاول تجاوز الآداب التي تجب مراعاتها مع أئمة هذه الأئمة هذه الأمة رد إلى الصواب، وحيل بينه وبين مس أحد بما يكره، فقد سئل الفضل بن موسى السيناني(146): ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ قال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئاً فحسدوه (147).
هذه بعض الأقوال التي نقلت عي أئمة في الحديث كانوا مخالفين للإمام أبي حنيفة في معظم ما ذهب إليه، ولكن مخالفتهم له لم تمنعهم من الإشادة به، والثناء عليه، وذكره بما هو أهل له من الخير، ذلك لثقتهم بأن الخلاف بينهم وبينه لم يك وليد الهوى، ولا الرغبة في الاستعلاء، بل كان نشدان الحق ضالة الجميع - رحمهم الله -، ولولا هذه الأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة لاندثر فقه الكثير من علماء سلفنا الصالح، وما كانوا يذبون عن أحد إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ في ظله.
آراء بعض العلماء في الشافعي:
كان ابن عيينة - وهو من هو في مكانته - إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا. وكثيراً ما كان يقول إذا رآه: هذا أفضل فتيان زمانه. وحين بلغه نبأ وفاة الشافعي قال: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.(2/203)
وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: أنا أدعو الله للشافعي حتى في صلاتي. وكان عبد الله بن عبد الحكم وولده على مذهب الإمام مالك، ولكن هذا لم يمنع عبد الله بن الحكم من أن يوصي ولده محمداً بلزوم الإمام الشافعي حيث قال له: الزم هذا الشيخ (يعني الشافعي) فما رأيت أحداً أبصر بأصول العلم - أو قال: أصول الفقه - منه. ويبدو أن الولد قد أخذ بنصيحة أبيه حيث يقول: لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد، وبه عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس - رحمه الله - فقد كان صاحب سنة وأثر، وفضل وخير، مع لسان فصيح، وعقل صحيح رصين (148).
بين الإمام أحمد والشافعي:
عن عبد الله بن الإمام أحمد قال، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني: كان الشافعي - رحمه الله - كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟. وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر (149).
وعن أبي حميد بن أحمد البصري قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث. فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه يقول الشافعي وحجته أثبت شيء فيه. (ثم قال: أي أحمد) قلت للشافعي: ما تقول في مسألة كذا وكذا فأجاب فيها، فقلت: من أين قلت؟ هل فيه حديث أو كتاب؟ قال: بلى فنزع في ذلك حديثاً للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهو حديث نص (150).
وكان أحمد - رحمه الله - يقول: إذا سئلت في مسألة لا أعرف فيها خبراً فلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش (151).(2/204)
وعن داود بن علي الأصبهاني قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعل حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله… فأراني الشافعي.
كان ذلك رأي أحمد بن حنبل في الشافعي، ولا غرو في أن يكون التلميذ معجباً بأستاذه معترفاً له بالفضل، ولكن الشافعي نفسه لم يمنع تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني إن يكن كوفياً أو بصرياً أو شامياً، أذهب إليه إذا كان صحيحا ً(152).
وكان الشافعي حين يحدث عن أحمد لا يسميه (تعظيماً له) بل يقول: "حدثنا الثقة من أصحابنا أو أنبأنا الثقة أو أخبرنا الثقة " (153).
وبعد: فتلك لمحات خاطفة (154) توضح لنا بعض ما كان عليه أسلافنا من أدب جم، وخلق عال لا ينال منه الاختلاف، ولا يؤثر فيه تباين الاجتهادات، وتلك آداب الرجال الذين تخرجوا في المدرسة المحمدية، فما عاد للهوى عليهم من سلطان؛ وكتب التراجم والطبقات والمناقب والتاريخ حافلة بما لا يحصى من المواقف النبيلة، والمناظرات الطريفة بين كبا الأئمة والتي كان الأدب سداها، والخلق الإسلامي الرفيع لحمتها، وحري بنا ونحن نعيش الشتات في كل أمورنا أن نعود إلى فيء تلك الدوحة المباركة، ونلتقي على الآداب الكريمة التي خلفها لنا سلفنا الصالح إن كنّا جادين في السعي لاستئناف الحياة الإسلامية الفاضلة.(2/205)
ونحن لا ننكر أن هناك مواقف لم تلتزم فيها هذه الآداب، أو خلت من تلك السمات الخيرة التي ذكرناها، ولكنها كانت مواقف من أولئك المقلدين أو المتأخرين الذين أشربوا روح التعصب، ومردوا على التقليد، ولم يدركوا حقيقة الروح العلمية العالية الكامنة وراء أسباب اختلاف الفقهاء، ولم يلهموا تلك الآداب الرفيعة التي كانت وليدة النية الصادقة في تحري الحق، وإصابة الهدف الذي رمى إليه الشارع الحكيم، ويبدو أنهم كانوا من أولئك الذين قال فيهم الإمام الغزالي:
فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم.
والمطلوب سيد نفسه لا ينزع إلا عن الحق، والطالب باع نفسه فلا يشدو إلاّ بما يطيب لشاريه، فحولوا الاختلاف الذي كان نعمة أثرت الفقه الإسلامي وأثبتت واقعية هذا الدين ورعايته لمصالح الناس إلى عذاب أليم، وصار عاملاً من أخطر عوامل الفرقة والتناحر بين المسلمين.. بل تحول إلى نقمة بددت الكثير من طاقات الأمة فيما لا جدوى منه، وشغلتها بما لا ينبغي أن تنشغل به.
والاختلاف الذي تعرضنا لبعض جوانبه في الصفحات السابقة وألمحنا إلى ما كان في رجاله من آداب رفيعة هو الاختلاف الذي وضع فيه الكاتبون كتبهم في "أسباب اختلاف الفقهاء " قديماً وحديثاً، أما الخلاف الذي تلا تلك القرون الخيرة فهو خلاف من نوع آخر، كما أن له أسباباً أخرى مختلفة.
http: //www.islamweb.net المصدر:
ـــــــــــــــ(2/206)
الاختلاف في الدين
الاختلاف في مجالات نشاط الإنساني يؤدي إلى إقامة الحياة السعيدة، لكن الخلاف في مجالات الدين المختلفة سبب لتعاسة الإنسان، وفساد أمره وتشتت شأنه، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن الاختلاف في إطار الديانة مذموم من حيث الجملة قال - تعالى -: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء {الأنعام: 159}.
أ- الاختلاف في القرآن الكريم:
الاختلاف المذكور في القرآن الكريم على ضربين:
الضرب الأول: اختلاف تُذم فيه كلا الطائفتين المختلفتين كما قال - سبحانه -: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد {البقرة: 176}، وقال - تعالى -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}، وقال - تعالى -: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات {آل عمران: 105}.
وترجع أسباب الاختلاف المذموم بين طائفتين إلى فساد النية، لأن الدافع إليه هو البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ويرجع أيضًا إلى جهل كل من المختلفين بالأمر المتنازع فيه، أو الجهل بالدليل القاطع للنزاع، أو جهل كل من المختلفين بما عند صاحبه من الحق سواء كان ذلك في الحكم أو الدليل، هذا إذا كان عالمًا بما عنده من الحق حكمًا ودليلا، وقد بين الله - تعالى - أن أصل الشر كله الجهل والظلم، قال - تعالى -: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا {الأحزاب: 72}.(2/207)
الضرب الثاني: هو ما حمد الله فيه إحدى الطائفتين؛ وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما قال - سبحانه وتعالى-: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا {البقرة: 253} فحمد إحدى الطائفتين ووصفهم بالإيمان، وذم الأخرى ووصفها بالكفر، هذا وأكثر الخلاف المؤدي إلى الأهواء والبدع في الأمة المحمدية هو من النوع الأول، سبب ذلك أن كلا من الطائفتين المتنازعتين لا تعترف بما عند الأخرى من الحق ولا تعدل في حكمها لها وعليها.
ب: الاختلاف في السنة النبوية:
ويتبين ذلك من عدة أمور:
أولا: إخباره - - صلى الله عليه وسلم - - عن افتراق هذه الأمة كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" {رواه أبو داود كتاب السنَّة (38) والترمذي كتاب الفتن (34)}
ثانيا: إخباره بانتشار الأهواء وتبني بعض الأمة نشرها والدفاع عنها، كما قال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - - صلى الله عليه وسلم - -؛ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به" {رواه أحمد في المسند (4-105) وأبو داود في كتاب السنّة (38}(2/208)
ثالثا: إخباره باتباع هذه الأمة أهل الكتاب في أهوائهم كما في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" {رواه الترمذي كتاب الإيمان (8)}
رابعا: نصه على من معه الحق من طوائف الافتراق كما في الحديث الآنف الذكر.
خامسا: أنه نهى عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما عند الآخر، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: "كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" {رواه البخاري كتاب الخصومات(1)، فضائل (27)، أنبياء (54)}
فدل الحديث على تحريم مثل هذا الاختلاف وأن يكون لنا عبرة فيمن قبلنا حيث اختلفوا بمثل ذلك.
سادسًا: الاختلاف في السنة النبوية على نوعين:
النوع الأول: اختلاف تنوع: كالاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد ونحو ذلك وهذا النوع من الاختلاف يأتي على وجوه منها:
أن يكون القولان أو الفعلان مشروعين كالقراءات ومن ذلك ما تقدم من اختلاف الأنواع، ومنها ما يكون الاختلاف القولي في اللفظ دون المعنى، ومنها ما يكون كل واحد من الأقوال غير الآخر لكن لا تنافي بينهما وهما قولان صحيحان، ومنها ما يكون في طريقتين مشروعتين لكن كل واحد قد سلك واحدة منهما. وهذا النوع من الاختلاف ليس مذموما لكن إن اقترن به البغي والظلم مع الجهل صار مذموما.(2/209)
النوع الثاني: اختلاف تضاد: وهو أن يتنافى القولان من كل وجه وهو يكون في الأصول والفروع، وهذا لا يكون إلا على قول جمهور العلماء من أن المصيب في الكل واحد وهو الراجح، وأما على قول من يقول كل مجتهد مصيب فهو عنده من قبيل اختلاف التنوع، أما هذا النوع من الاختلاف أي التضاد فهو أكثر أنواع الاختلاف وأعظمها خطرًا؛ وذلك كالاختلاف في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك في باب الأصول والاختلاف بالتبديع وعدمه في باب الفروع، هذا وقد جاءت السنة بإقرار اختلاف التنوع كما في إقراره - - صلى الله عليه وسلم - - للصحابة على اجتهادهم في فهم قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" {متفق عليه، رواه البخاري كتاب (64) باب (49)، مسلم كتاب (5) ح (209)}
فمنهم من أخرها أخذًا بهذا الحديث ومنهم من أخذ بأحاديث الوقت مخصصًا لهذا الحديث.
وجاءت السنة بذم اختلاف التضاد كما في حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن ابن عمر أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال: "إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب" {رواه مسلم كتاب العلم ح(2)}
أسباب الاختلاف في الدين
ويمكن أن نتلمس أسباب الخلاف من خلال نصوص الكتاب والسنة وهي كما يلي:
أولا: بغي الخلق بعضهم على بعض وظلم بعضهم لبعض كما قال - سبحانه -: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {آل عمران: 19}.
واستحلال الدماء من أخطر النتائج التي تترتب على الظلم والبغي، ولذا فقد شرع الله ما يمنع البغي والظلم من الإصلاح فقال - سبحانه -: فأصلحوا بين أخويكم {الحجرات: 10} وأوجب على الأمة المحمدية رد الظلم فقال - سبحانه -: فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين {الحجرات: 9} فأمر بالعدل الذي هو ضد الظلم والبغي.(2/210)
ثانيا: اتباع الهوى الذي يتضمن اتباع ما تهواه النفوس والطبائع وترك ما يأمر به الشرع من العدل والإحسان كما قال - تعالى -: ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله {الأنعام: 153} فجمع السبل لكثرتها ووحد سبيله لأنه واحد كما قال - تعالى -: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه واتباع الهوى من أكبر الأسباب في رد الحق والتكبر عليه والإقامة على الباطل والتشبث به كما قال - سبحانه -: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم {الجاثية: 23}.
وقال أبو العالية: (وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء)، ومن هنا حذر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - من أتباع الهوى فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". {أخرجه بن أبي عاصم في السنة (1-12) والبغوي في شرح السنة (1-212) من طريق نعيم بن حماد وأشار ابن رجب الحنبلي لانقطاع سنده في كتاب (جامع العلوم والحكيم) ح (41) فهو ضعيف}
ثالثا: اتباع وساوس الشيطان، والشيطان عدو لبني آدم كما أخبر الله بذلك بقوله: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر: 6} وهو لا يألوا جهدًا في إضلالهم كما قال - سبحانه -: إنه عدو مضل مبين {القصص: 15}، وحذرنا الله من اتباع طرقه ووساوسه فقال: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين {البقرة: 208} وأوضح لنا أن التفرق والاختلاف ما هو إلا حبيلة من حبائله قال - تعالى -: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون {المائدة: 91}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم" {رواه أحمد في مسنده}.(2/211)
رابعا: اتباع المتشابه: وهو ما لا يعلم معناه إلا الله، وترك المحكم الواضح البين، فقد روى الآجري بسنده عن سعيد بن جبير في قوله - عز وجل -: وأخر متشابهات {آل عمران: 7}، قال: أما المتشابهات فهي: آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن، كل فرقة يقرأون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى.
وقد حذر الله هذه الأمة من اتباع المتشابهات، فقال - تعالى -: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {آل عمران: 7}.
وسبيل أهل الحق: الإيمان بالمتشابه ورده إلى المحكم، فقد روى الآجري بسنده عن ابن عباس قال عن الخوارج: (يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به).
خامسا: الجهل بالدين، فإن في العلم نجاة وفي الجهل هلكة قال - تعالى -: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون {الزمر: 9}.
والعلم لن يضل السبيل أبدا لأن العلم النافع هو الطريق الصحيح لحفظ الإسلام، قال - تعالى -: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم {النساء: 83}.
سادسا: إطلاق الألفاظ المشتركة والمجملة المحتملة للحق والباطل وأكثر ما جرى بين الأمة من الاختلاف والفرقة هو بسببها بدءًا بانشقاق الخوارج والشيعة بقولهم: (لا حكم إلا لله) وانتهاء بذلك الكم الهائل من الفرق بسبب تلك المصطلحات التي عجت بها كتب العقائد كالافتقار والتركيب والبعض والجزء والجهة والحيز والحد ونحوها مما لا يمكن حصره.(2/212)
سابعا: الابتداع في الدين بأن يشرع ما لم يشرعه الله لعباده أصلا وهيئة، كما قال - سبحانه -: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله {الشورى: 21}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" {سنن أبي داود كتاب السنة باب (5)}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" {متفق عليه رواه البخاري كتاب الصلح باب (5)، مسلم الأقضية ح(17)}.
والناظر في أكثر ما جرى من الانقسام في جسم الأمة المحمدية يجده من هذا القبيل.
ثامنا: الغلو في الدين كما قال - سبحانه -: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق {النساء: 171}، وقال - - صلى الله عليه وسلم - -: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" {رواه أحمد في مسند (1-215) وابن ماجه كتاب المناسك (25) ح(29-30)}.
تاسعا: متابعة الأمم السابقة من اليهود والنصارى وسواهم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - - صلى الله عليه وسلم - -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". {سنن الترمذي كتاب الفتن باب (18)، وابن ماجه كتاب الفتن باب (17)}
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مِثْلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة"، قيل من هي يا رسول الله؟ قال - عليه الصلاة والسلام -: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" {سنن الترمذي كتاب الإيمان (38) باب (18)}.(2/213)
عاشرا: الثقافات الوافدة نتيجة لترجمة علوم الأمم الأخرى كاليونانية والهندية وهي ثقافات وثنية، وقد بدأت ترجمتها في أواخر عهد بني أمية في المائة الثانية من الهجرة حيث كان خالد بن يزيد بن معاوية شغوفا بعلوم الأوائل وفلسفتهم ثم زادت حركة الترجمة بعد توقف في خلافة المأمون حيث أرسل لملوك البلدان من يجلب ما عندهم من مخطوطات العلوم والفنون ليجلبوا له كتب الفلسفة التي اتفقوا على جلبها إلى العالم الإسلامي حتى يفسدوا عليه عقائده ويولدوا الفرقة فيه من داخله وهو نتيجة طبيعية لتلك المناظرات الفلسفية والمعارضات العقدية.
حادي عشر: كيد أعداء الإسلام والذين أظهروا الإسلام قصدًا لِفَتِّ قوته وتقويض دوْلته وزرع الخلافات بين أهله واتخذوا من الحركات الباطنية والسرية طريقا لنشر أباطيلهم ولقد كان لبعضهم من المكانة والمنزلة ما يسر له ذلك مثل ابن المقفع المجوسي والبرامكة عُباد النار ممن كانت لهم صولة وجولة في أيام غيبة الوعي الإسلامي ومن أعظمهم أثرًا وأكثرهم خطرًا الوزير ابن العلقمي الرافضي والباطني والنصير الطوسي اللذان عن طريقهما قضي على حضارة الإسلام في المشرق عندما هيأوا للتتار طريق الدخول على المسلمين وتحطيم دولتهم والقضاء على معارفهم، مما كان سببًا في نشر الفرقة بين المسلمين.
ثاني عشر: التأويل الذي به استحلت الأموال والأنفس والفروج وغُيِّر وجه الدين عن طريق التأويل الباطني والصوفي والكلامي.
ثالث عشر: الجدل والخصومة في الدين.
رباع عشر: العصبية للآراء والمذاهب.
والله من وراء القصد.
http://www.altawhed.com المصدر:
ـــــــــــــــ(2/214)
قراءة في فكر ابن تيمية : حتى لا يكون الاختلاف لعنة
تحسين إبراهيم الدوسكي
أحد الدعاة إلى الله من الذين قضوا نحبهم - نسأل الله له الجنة والمغفرة - مقولة فيها شيء من الحكمة مفادها: أنه ينبغي علينا أن نتعاون فيما اتفقنا عليه وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه - إن كان مما يجوز فيه الاختلاف ولاشك - سوى أن هذه القاعدة لم تبق على ظاهر معناها، فمن ناحية: فهمها البعض على أنها دعوة إلى ضم كل من هب ودب بغض النظر عن نوعيته، ومن ناحية أخرى أضحت القاعدة ولاسيما الشطر الثاني منها في كثير من الأحيان ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكفر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه! أو على أقل تقدير: يتهم بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه!.(2/215)
ولعلك - أيها القارئ الكريم - ستسأل عن السبب الذي يكمن وراء ذلك فأقول مستعيناً بالله: إن بعضاً من الدعاة طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكلت نفوسهم وبعدت عليهم الشقة فظنوا أنه بالتقائهم مع الجاهلية في منتصف الطريق يمكنهم الانتصار عليها، وبذلك يوفرون على أنفسهم عناء الطريق والتضحيات التي ستكون أكثر كلما كان الدرب أطول، وتم الالتقاء فعلاً... تحت مبررات شتى وحجج متنوعة خلاصتها أنها العجز عن مواصلة المسير الشاق في ظل الطواغيت المقنعة! واستمع قليلاً إلى سيد قطب - رحمه الله - لتعلم عظمة من لا يعرف المداهنة ولا المهادنة، أنه يقول: "إن الإسلام لا يمكن أن يلتقي مع الجاهلية لا في منتصف الطريق وفي أول الطريق، إن طبيعته ليست من طبيعتها، ومن ثم فإن طريقه ليس عن طريقها، ليس هنالك من طريق مشترك ولو في خطوة واحدة بين الإسلام والجاهلية، ولا بين التصور الإسلامي والتصورات الجاهلية، وكذلك يبدو مثل هذا الاقتراح وليست له صورة عملية يمكن أن يتخذها! وفضلاً على كونه وهماً فإنه هزيمة في أول الطريق... والهزيمة على هذا النحو ومنذ أول الطريق لا يمكن أن تنشئ نصراً في أية مرحلة من مراحل الطريق، وأولى للذين يريدون أن يتصالحوا مع الواقع الجاهلي أو مع التصور الجاهلي وأن يلتقوا معه في منتصف الطريق كخطوة للوصول إلى النصر في النهاية أن يستسلموا للجاهلية منذ اللحظة الأولى، وأن يكفوا عن المحاولة أصلاً وألا يحسبوا على الإسلام محاولة هازلة فاشلة كهذه المحاولة!... " [1]
وهكذا ضاع الهدف، وبضياعه ابتليت الأمة بالاختلاف والتنازع، وتحقق فيها قول الحق - تعالى -: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وبالتالي انقلبت القاعدة السالفة رأساً على عقب فلم نعد نتعاون فيما اتفقنا عليه ولا يعذر أحدنا صاحبه في ما اختلفنا فيه، مع أننا جميعاً لازلنا نلهج بأصل القاعدة صباح مساء.(2/216)
ابتلينا بالاختلاف الذي هو نقمة فأردنا أن نخدع أنفسنا بأنه اختلاف رحمة.. اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، و (ليعمل كل داخل الإطار الذي اختاره لنفسه حتى تصل السفينة إلى بر الأمان) أصبحت نوعاً من المهدئات التي اعتدنا على تعاطيها كلما ألم بنا صداع التنازع! وإن كنا نعلم سلفاً أننا بعملنا هذا (أو مقولتنا هذه) إنما نكرس التحزبات والتكتلات ونزيدها عمقاً ونساعد على إنماء الشجرة الملعونة في القرآن والسنة: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً).
والاختلاف على نوعين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية - الذي كان ولا يزال شجى في حلوق المبتدعة والمنحرفين - فقال - رحمه الله -: "الاختلاف في كتاب الله نوعان: أحدهما يذم فيه المختلفين كلهم كقوله: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) وقوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، والثاني: يمدح المؤمنين ويذم الكافرين، كقوله: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد). [2]
فإذا آمنا ببعض الحق الذي معنا وكفرنا بالحق الذي مع خصومنا وزدنا في الحق باطلاً فنكون قد وقعنا في الاختلاف المذموم الذي وقع فيه من حذرنا الله من التشبه بهم كقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) ونظرة سريعة في حال الأمة اليوم تنبئك - بعد أن تملأ نفسك حسرة - أنها قد اختلفت وتنازعت حتى في عقيدتها في ربها! كل مجموعة أمة برأسها، وكل شرذمة جماعة بذاتها، ولو سئلت عن رأيها في الجماعات الأخرى لقالت بملء فيها: هي باطلة... ما نشأت إلا حباً في الزعامة وتقلد المناصب لدى القائمين عليها! والممتنع عن مبايعتهم فهو مفارق للجماعة ولا يأكل الذئب إلا من الغنم القاسية!.(2/217)