أدب الخطاب عند الأنبياء –عليهم السلام- من منظور قرآني
(موسى -عليه السلام- نموذجاً)
د. عودة عبد عودة عبد الله (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد ...
الأنبياء والرسل هم أكمل الناس أدباً في الخطاب، ذلك أنّ الكلمة الطيبة تمثّل أساساً متيناً قامت عليه الرسالات السماوية. وقد جاء التوجيه الإلهي للأنبياء منذ اللحظة الأولى، بضرورة مراعاة الأدب في خطاب الناس، ومواجهتهم بالقول الليّن البعيد عن العنف والعصبية، لعلّ ذلك يكون سبيلاً لامتلاك زمام قلوبهم، وتليين مواقفهم، وجذبهم نحو الصف المؤمن.
ويحاول هذا البحث تسليط الضوء على المنهج القرآني في الحديث عن أدب الخطاب عند الأنبياء، للوقوف على الملامح الأدبية في هذا الخطاب، بغرض الحصول على نموذج يُقتدَى به في حياتنا اليومية.
وقد عالج البحث هذا الموضوع في اتجاهين:
الأول: تحليل التوجيهات القرآنية التي تحث على الالتزام بأدب الخطاب بوجه عام، وأدب الخطاب عند الأنبياء بوجهٍ خاص.
الثاني: الوقوف مع نموذج تطبيقي، هو أدب موسى -عليه السلام- في خطابه مع قومه، بغرض استلهام الدروس والعبر.
المبحث الأول
أدب الخطاب في القرآن الكريم
أولاً: أهمية أدب الخطاب وفضله
__________
(1) د. عودة عبد عودة عبد الله (قسم أصول الدين – كلية الشريعة – جامعة النجاح الوطنية – فلسطين)(1/1)
الأدب هو "الظَرْفُ وحُسْن التناول" (1) . وقيل: هو حُسْنُ الخُلُق بحسب قواعد الظرف والملاحظة في الكلام أو السلوك. يُقال: تأدّب الغلام في كلامه مع أبيه؛ أي تحاشى الكلامَ الخارج عن حدود الأدب (2) .
وإذا كان الأدب خُلُقاً عاماً يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل ما يكون في الخطاب. رُوي في ذلك عن عبد الملك بن مروان أنه قال: "ما الناسُ إلى شيءٍ مِنَ الأدب أحوجُ منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام، ويتعاطَوْن البيان، ويتهادَوْن الحكمة، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، فإنّ الكلام قاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو الظُلَم. حاجةُ الناسِ إلى موادّه حاجُتُهم إلى موادّ الأغذية" (3) .
ونُقل في هذا المعنى أنّ أحد الحكماء قال موصياً ابنه: يا بنيّ إنما الإنسان حديث، فإن استطعت أنْ تكون حديثاً حسناً فافعل (4) .
والخطاب هو واسطة التفاهم والتعارف بين الناس، والإنسان مدنيٌّ بطبعه، لا يمكن أن يعيش منعزلاً عن الآخرين، ولا يستغني عن إقامة العلاقات معهم ومحادثتهم في شؤون الحياة. والخطاب هو الذي يحدد معالم شخصية الإنسان، ويكشف عن مكنوناتها، والساكت مجهول الهوية، فإذا تكلّم عبَّر عن نفسه، وأبان عن شخصيته.
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، (بيروت:دار صادر)، ج1، ص206. الفيرززآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1403هـ/ 1983م)، ج1، ص36.
(2) انظر: الكرمي، حسن سعيد: الهادي إلى لغة العرب، (بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 1411هـ/1991م)، ج1، ص48.
(3) ابن منقذ، الأمير أسامة: لباب الآداب، تحقيق: أحمد محمد شاكر، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ/1991م)، ص ص (228_ 229).
(4) انظر: الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ/1991م)، ج1، ص160.(1/2)
وكائن ترى من صامتٍ لك مُعْجِبِ ... زيادتُهُ أَوْ نقصُهُ في التكَلُّمِ
لسانُ الفتى نِصْفٌ ونِصْفٌ فؤادُهُ ... فَلَمْ يبقَ إلا صورةُ اللحم والدَّمِ (1)
لذا فإن الكلمات التي ينطق بها العبد تسطّر وتكتب عليه، ويراها في صحائفه يوم القيامة. قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) . فالقرآن الكريم يُقرّر مبدأ محاسبة الإنسان على كلّ قولٍ ينطق به.
يقول الجاحظ: "لا شيء أعجب مِنْ أنّ المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأنّ صاحبها مسؤول عنها، ومحاسب على ما خُوِّل منها. أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجته، ووضعها مواضع النفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظة لفظة، وصرفها عن أضدادها" (3) .
ويبين لنا القرآن الكريم في موضع آخر، أنّ الكلام الطيب يقع أجره وثوابه على الله، فكما أنّ الإنسان يُعاقَب عل سوء كلامه، فإنه يُثاب على أدبه فيه.قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (4) .
ولا شكّ أنّ استشعار هذا المعنى في النفس له أثر في تقويم السلوك، مما ينعكس على الطريقة التي نُخاطب بها الآخرين، وبالتالي على علاقتنا معهم، الأمر الذي يُسهم في بناء علاقاتٍ إنسانية على أسسٍ من التفاهم والتضامن.
ثانياً: التوجيه القرآني نحو أدب الخطاب
__________
(1) ابن أبي سلمى، زهير: ديوان زهير بن أبي سلمى، (بيروت: دار صادر)، ص ص (88- 89).
(2) سورة ق: الآية 18 .
(3) الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج1، ص160.
(4) سورة فاطر: الآية 10 .(1/3)
عُنيَ القرآن الكريم بأدب الخطاب، فالناظر في سوره وآياته، يجده شديد الحرص على الأسلوب الذي يُؤدَّى به الكلام، والطريقة التي يُطرح بها، ويجد أنَّه كثيراً ما يُوجِّه نحو الكلمة الطيبة والقول الحَسَن في مناسبات شتَّى.
قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (1) .
فالكلمة الطيبة نفحة روحانية تصل ما بين القلوب وتربطها برباط المودّة والتآلف. أما الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتفريق، يعمل تخريباً في أوصال المجتمع فيهدّ كيانه. والكلمة الطيبة تزهر في النفس لتتفتّح بأجمل أزهار الخير والحب التي يعبق شذاها فوّاحاً في كلّ زمان ومكان. والكلمة الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بُؤَرٍ نفسية عفنة (2) .
وقال تعالى: { وقلْ لعبادي يقولوا التي هيَ أحسن إنّ الشيطانَ ينزغُ بينهم إنّ الشيطان كانَ للإنسانِ عَدواً مُبيناً } (3) . وقال: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} (4) .
والحُسْن: "عبارة عن كلّ مُبهج مرغوب فيه" (5) .
__________
(1) سورة إبراهيم: الآيات (24_ 27).
(2) آقبيق، غازي صبحي: آيات قرآنية: ومضات من القرآن الكريم، (دمشق: دار الفكر)، ج2، ص99.
(3) سورة الإسراء: الآية 53.
(4) سورة البقرة: الآية 83.
(5) الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد: مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة)، ص 118.(1/4)
قال ابن كثير : "يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاورتهم، الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إنْ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدو آدم وذريته، من حين امتنع من السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بيّنة" (1) .
ففي الآية كما يقول القرطبي: "حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أنْ يكون قوله للناس ليّناً، ووجهه منبسطاً طَلِقَاً، مع البَرّ والفاجر والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أنْ يتكلم معه بكلام يظنّ أنه يرضي مذهبه" (2) .
وعليه فإن الآية تشير إلى مبدأ مهم في أدب الخطاب، لتكوين العلاقات الطيبة مع الآخرين، بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل هي الأساس في بناء تلك العلاقات، وتكون عناوين إنسانية في انفتاح الإنسان على الآخر. لأن القول الحسن في اللفظ والمعنى يفتح القلب، وينعش الروح، ويقوّي الروابط بين الناس (3) .
ثالثاً: أدب الخطاب عند الأنبياء عليهم السلام
__________
(1) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر: تفسير القرآن العظيم، (بيروت: دار الفكر، 1401هـ)، ج3، ص46.
(2) القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ)، ج2، ص16.
(3) انظر: فضل الله، محمد حسين: تفسير من وحي القرآن، (بيروت: دار الملاك، ط2، 1419هـ/1998م)، ج2، ص ص(114_ 115).(1/5)
الأنبياء والرسل هم أكملُ الناس أدباً في الخطاب، وقد وصف الله تعالى نبيه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (1) . ويبيّن لنا القرآن الكريم أنّ أدب الرسول صلى الله عليه وسلم في كلامه، كان سبباً في تجميع القلوب وتوحيد الصفوف. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (2) .
"والفظّ: الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْب}؛ أي لو كنتَ سيئَ الكلام قاسيَ القلب عليهم، لا نفضوا عنك وتركوك، ولكنّ الله جمعهم عليك وألانَ جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم" (3) .
فالآية الكريمة تشير إلى الرحمة التي ألقاها الله في قلب رسوله، وتُثني على أخلاقه السامية وقيادته الحكيمة، فعلى الرغم من عدم اتفاق أصحابه معه في بعض المواقف، إلا أنه وَسِعَهم بخُلُقه الكريم، وقلبه الرحيم، ولم يخاطبهم بالقسوة والشدّة بل باللين والرحمة، ولذلك اجتمعت القلوب حول دعوته، وتوحّدت تحت قيادته.
فليس من العسير إيراد المعارف ولا بذل النصيحة، ولكن العسير تخيّر أسلوب العرض لضمان النتائج، فكم من نفوسٍ أعرضت عن كلمة الحق، ولم يكن إعراضها ناشئاً عن طعنٍ في صحتها أو شكٍ في وضوحها؛ بل إنّ السبب الذي أدّى إلى نفورها، هو الأسلوب الذي غلب عليه الجمود والفظاظة، ونأى عن الرفق واللين، فنفرت منه القلوب، وأعرضت عنه.
__________
(1) سورة القلم: الآية 4.
(2) سورة آل عمران: الآية 159.
(3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، ص421.(1/6)
فالمطلوب من الداعية أنْ يكون رحيماً بعباد الله، لأنّ التراحم بين الناس يشدّ بعضهم إلى بعض، ويَخلق بينهم جوّاً من الألفة والترابط، ويزرع في أعماقهم غيرة على المصلحة العامة، مما يجعلهم أهلاً للمشورة وإبداء الرأي في سياسة الأمة بهدف الوصول إلى الحل السديد.
ومن هنا جاءت التوجيهات القرآنية إلى أنبياء الله في غاية الوضوح، بضرورة التأدب في الخطاب مع الناس. قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
فالموعظة تكون حسَنَةً ما دام صاحبها ملتزماً أدب الكلام، متجنباً ما يُؤذي من الألفاظ النابية، والعبارات السيئة. مع الحفاظ التام على الحقيقة، والبعد عن الرياء والمداهنة. والحقيقة واحدة، بَيْدَ أنها تقع على لسان من يسيء التعبير عنها فينفّر الناس منها، أو تقع على لسان واعظ حسن الموعظة، فيجمع القلوب حولها (2) . وفي ذلك يقول الشاعر:
في زُخرف القولِ تزيينٌ لباطلهِ ... والحقُّ قد يَعتريه سوءُ تعبيرِ
تقولُ هذا مجاجُ النحلِ تَمدحُهُ ... وإنْ ذَممتَ تقلْ قيءُ الزنابيرِ
مدْحاً وذمَّاً وما جاوَزْتَ وصفَهُما ... حُسنُ البيانِ يُري الظلماءَ كالنورِ (3)
__________
(1) سورة النحل: الآية 125.
(2) انظر: الطويل، السيد رزق: الدعوة في الإسلام عقيدة ومنهج، (دون معلومات نشر)، ص92.
(3) الأبيات لابن الخل البغدادي. انظر: ابن خلكان، أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، (بيروت: دار الثقافة، د.ط، 1968م)، ج1، ص33.(1/7)
والحقيقة أن القرآن الكريم أرشدنا إلى حُسن الموعظة من خلال الدعوة إلى استخدام القول اللين، وهو القول المتسم بالرفق، الذي يتجنب فيه صاحبه الغلظة والفظاظة، وقسوة العبارة، ولا سيَّما في مواجهة عِلية القوم وذوي المكانة فيهم، فلا يحقرهم، ولا يُسفّه من شأنهم، وبهذا الأسلوب يمتلك زمام قلوبهم، ويضع فيها ما يريد من آراء وأفكار (1) .
أحْسِنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبهم ... فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وإنْ أساءَ مُسيءٌ فليكن لكَ في ... عُروضِ زَلَّتِهِ صفْحٌ وغُفرانُ (2)
__________
(1) انظر: ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير، (بيروت: مؤسسة التاريخ، ط1، 1420هـ/2000م)، ج16، ص124.
(2) البيتان لأبي الفتح البستي. انظر: السبكي، أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناجي، (الجيزة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط2، 1992م)، ج5، ص295.(1/8)
وعلى الرغم من عدم استجابة المشركين للنبي عليه السلام، وعلى الرغم من المشقَّة التي لحقت بالنبي الكريم، حتى أنه توجه إلى الله بقوله: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاء قَوْمٌ لا يُؤْمِنُون} (1) . فإن الله يدعو نبيه إلى أنْ لا يملَّ أو يتعب وأن لا يحيد عن الالتزام بأدب الخطاب مهما كان من الطرف الآخر. قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (2) . فالله يدعو نبيه إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح. وأنهم كلما قالوا فحشاً وهجراً، قال لهم سلاماً ومغفرة، كما يقول سبحانه في وصف عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (3) . وكما يقول جلّ شأنه لنبيه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (4) ، (5) .
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما أثمره القول اللين من نجاح دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتأثيرها في الناس. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (6) . فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فظَّاً؛ أي سيئ الخُلُق خشن الكلام، ولم يكن غليظ القلب؛ أي قاسيه وشديده (7) . بل كان صلى الله عليه وسلم رفيقاً داعياً إلى الرفق، فقال: »مَنْ يُحرم الرِّفقَ يُحرم الخير« (8) .
__________
(1) سورة الزخرف: الآية 88.
(2) سورة الزخرف: الآية 89.
(3) سورة الفرقان: الآية 63.
(4) سورة الأعراف: الآية 199.
(5) انظر: الخطيب، عبد الكريم: التفسير القرآني للقرآن، (د.م: دار الفكر العربي، د.ط، د.ت)، ج7، ص176.
(6) سورة آل عمران: الآية 159.
(7) انظر: القاسمي، محمد جمال الدين: محاسن التأويل، تحقيق: محمد باسل عيون السود، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ/1997م)، ج2، ص447.
(8) مسلم: الجامع الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب رقم 23، حديث رقم 2592، ج4، ص2003.(1/9)
وبهذا بَعث اللهُ موسى وهارون -عليهما السلام- إلى فرعون. قال تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) .
وموسى –عليه السلام- هو صَفيُّ الله من خلقه، وفرعون هو من هو في الطغيان والجبروت؛ فهو القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} (2) ، والقائل: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (3) . ومع ذلك يأمر الله موسى وأخاه أن يقولا له (قولاً ليناً). وبين الله لنا في النص علّة ذلك، وهي {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. فإن القول اللين والكلمة الطيبة مظنة التأثير على السامع حتى يستجيب فيتذكر قلبه ويخشى الله.
ذُكرَ في هذا السياق أنَّ أحد الوعاظ وعظ المأمون فأغلظ عليه وعنفه، فقال له: يا رجل ارفق، فقد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني، فأمره بالرفق، بقوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4) .
وفي توجيه موسى عليه السلام لمخاطبة فرعون بالقول اللين، حثٌّ على الأخذ بالأسلوب الحسن في الدعوة، وتنبيهٌ على أنَّ الداعية ينبغي أن يمتلئ صدره بالأمل، فيطرد فلول اليأس من نفسه. وبين الأمل في استجابة المدعو، والأسلوب المتَّبع في الدعوة ارتباط وثيق، فإنَّ الداعية عندما ييأس من استجابة شخص قد يشتد ويقسو عليه، أما إذا كان يتراءى له بريق من الأمل، فإن هذا يدفعه إلى التلطف في الكلام والدعوة (5) .
__________
(1) سورة طه: الآيات (42- 44).
(2) سورة النازعات: الآية 24.
(3) سورة القصص: الآية 38.
(4) انظر: الرفاعي، أحمد بن علي بن ثابت: البرهان المؤيد، تحقيق: عبد الغني نكه مي، (بيروت: دار الكتاب النفيس، ط1، 1408هـ)، ص105.
(5) انظر: الصباغ، محمد بن لطفي: خواطر في الدعوة إلى الله، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1411هـ/1990م)، ص209.(1/10)
وبالنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أنه ضرب أروع الأمثلة في حُسن الخطاب ولين الكلام، ومن ذلك:
* أنه صلى الله عليه وسلم كان بالموسم بمنى، يعرض نفسه على القبائل، فجاء إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: »يا بني عبد الله، إنَّ الله عز وجل قد أَحْسَنَ اسمَ أبيكم« (1) ، يريد أنْ يتلطف لهم بالخطاب.
* ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم التي تدلّ على رفقه، ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّام (2) عليكم، قالت عائشة: ففهمْتُها، فقلت: وعليكم السَّام واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »مهلاً يا عائشة، إنَّ الله يحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه«. فقلت: يا رسول، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »قد قلتُ: وعليكم« (3) .
* ومن لينه ورفقه أيضاً، موقفه من الأعرابي الذي بال في المسجد، فقام الصحابة إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا تُزْرِمُوه« (4) ، ثم دعا بدلوٍ من ماء، فصُبَّ عليه (5) .
__________
(1) ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري: السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ)، ج2، ص271. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ)، ج1، ص556.
(2) السام: الموت. ابن منظور: لسان العرب، ج12، ص313.
(3) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الأدب، باب رقم 35، حديث رقم 5678، ج5، ص2242.
(4) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، (بيروت: مكتبة لبنان، طبعة جديدة، 1415هـ/1995م)، ص114.
(5) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب الأدب، باب رقم 35، حديث رقم 5679، ج5، ص2242.(1/11)
فقد كان صلى الله عليه وسلم يُدرك أن الكلمة اللينة العذبة، تسري في أعماق النفوس، كما تسري جرعة الماء البارد في أوصال الجسد الظامئ، وأنها تتلطف بالنفوس حتى تأسرها أسراً رفيقاً، فتأخذ بزمامها، وتجذبها إليها، وهي راضية مطمئنة.
ولكن مما تجدر الإشارة إليه هنا، أنه قد يضطر الإنسان في بعض الأحيان إلى التعامل بشدَّة، واتخاذ القرار الأكثر حزماً من أجل مصلحةٍ يقدّرها، ولا يكون ذلك متنافياً مع الأدب والرحمة. يقول الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقسُ أحياناً على مَنْ يرحَمِ (1)
وفي ذلك يقول الرازي: "اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يُفضِ إلى إهمال حق من حقوق الله، فأما إذا أدى إلى ذلك، لم يجزْ. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) ، وقال سبحانه للمؤمنين في إقامة حدّ الزنا: {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (3) " (4) .
المبحث الثاني
مقتطفات من أدب الخطاب عند موسى عليه السلام
مثّل موسى -عليه السلام- نموذجاً رائعاً في أدب الخطاب، وهو قبل أن يضرب لنا هذا المثل في خطابه مع الناس، فقد ضربه في خطابه مع الله تعالى. قال تعالى عن موسى عليه السلام: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (5) .
__________
(1) النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق: الباز العريني، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1412هـ/1992م)، ج، ص1714.
(2) سورة التوبة: الآية 73.
(3) سورة النور: الآية 2.
(4) الرازي، فخر الدين محمد بن محمد: مفاتيح الغيب، (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط، د.ت)، ج4، ص529.
(5) سورة القصص: الآية 24.(1/12)
فموسى عليه السلام بعد هذا العناء الطويل بسبب رحلة الخروج من مصر، وبعد ما قام به من السَقي للفتاتين، يَأْوي إلى ظلِّ شجرةٍ ثم يتوجَّه إلى الله تعالى بقوله: «ربِّ إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير». وهذا الكلام من موسى عليه السلام، كما يقول الرازي: "يدل على الحاجة، إمَّا إلى الطعام أو إلى غيره" (1) . إلا أنَّ معظم المفسرين حملوا هذه الحاجة على أنها حاجة إلى الطعام، استناداً لما روي عن ابن عباس، أنَّ موسى عليه السلام ما سأل إلا الطعام. وعن الضحاك: أنه مكث سبعة أيام لم يذقْ فيها طعاماً إلا بقل الأرض (2) .
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ موسى عليه السلام، لم يخاطب ربَّه قائلاً: أطعمني. بل إنه "تعرَّض لسؤال ما يَطْعَمَهُ، بقوله: «إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير» ،ولم يُصَرِّح بالسؤال" (3) . وهذا من أدب موسى عليه السلام مع ربه.
أما فيما يتعلق بالأسلوب الأدبي الذي سلكه موسى عليه السلام في خطابه مع الناس، فسنعرض هنا لثلاثة مواقف تمثل ثلاثة اتجاهات مختلفة:
أولاً: أدب موسى –عليه السلام- في خطاب فرعون
__________
(1) الرازي: مفاتيح الغيب، ج12، ص268.
(2) انظر: الرازي: مفاتيح الغيب، ج12، ص268. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص270. الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، د.ط، د.ت)، ج3، ص174.
(3) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.(1/13)
يُمثِّل أدب الخطاب الأساس المتين الذي قامت عليه دعوة موسى عليه السلام، فقد كان التوجيه الإلهي لموسى عليه السلام منذ اللحظة الأولى بضرورة مراعاة الأدب في خطاب فرعون، ومواجهته بالقول اللين البعيد عن العنف والعصبية، لعل ذلك يكون سبيلاً لتليين موقفه وجذبه نحو الصف المؤمن. وهذا ما يُسجِّله القرآن الكريم في قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) . وفي سورة أخرى يُوجِّه القرآن الكريم موسى عليه السلام إلى الطريقة ذاتها في خطاب فرعون. قال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (2) .
قوله: {هَل لَّكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} أسلوبٌ من أساليب اللطف والأدب في الدعوة، يوجه اللهُ إليه نبيَّه موسى كَي يسلكه في مخاطبة فرعون.
قال الآلوسي: "وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطّف في الدعوة والاستنزال عن العتوّ، وهذا ضَربُ تفصيلٍ لقوله تعالى: «فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» " (3) .
وفي الاستفهام -كما يقول النسفي- معنى العَرْض، الذي هو طلب الفعل من المخاطب برفق ولين. وهو كقول الرجل لضيفه: هل لك إلى أنْ تنزل بنا (4) .
__________
(1) سورة طه: الآيات (42- 47).
(2) سورة النازعات: الآيات (16- 19).
(3) الألوسي، أبو الفضل محمود: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ط، د.ت)، ج30، ص29.
(4) انظر: النسفي، عبد الله بن أحمد: مدارك التنزيل، (دون معلومات نشر)، ج4، ص 314.(1/14)
وهكذا فقد كان الخط الذي رسمه الله لأسلوب موسى في الدعوة، هو استخدام الكلمة في إطار المحبة، بالأسلوب الهادئ والقول اللين، بغرض أنْ يفتح ذلك قلب فرعون على دعوة الحق، فتذكِّره بالله من خلال نعمه وآياته، وتخوِّفه من عذابه. وبغض النظر عن نجاح هذا الأسلوب مع فرعون أو فشله، إلا أنه يبقى النهج الأمثل في الدعوة والاتصال بالآخرين .
وقد التزم موسى عله السلام بهذا التوجيه الرباني، ويحدثنا القرآن الكريم عن خطاب موسى لفرعون، فيقول: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (1) .
وأوَّل ما يلفت نظرنا في هذا الخطاب أنَّ موسى عليه السلام نادى فرعون بأحبِّ الأسماء إليه، فقال: يا فرعون. وهو الاسم الذي يُشعر فرعون بالقوة والعظمة وعدم الانتقاص من مكانته، وفي ذلك مدارة له، ومراعاة لنفسيته. ونرى هذا الأسلوب بعينه ماثلاً في منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يخاطب الزعماء بمثل قوله: »إلى هرقل عظيم الروم« (2) . وليس في ذلك تنازل عن المبادئ، ولكنه الأدب في الخطاب، والذوق في التعامل مع الآخرين.
وبعد هذا النداء يشرع موسى في بيان المهمة التي جاء من أجلها، وهي أنه رسولٌ من رب العالمين. ويُلحظ هنا أنَّ موسى عله السلام يستخدم لفظ "الرب" الدال على معنى الرحمة والتربية، دون لفظ "الله" الدال على القوة والعظمة والمهابة.
ولنأخذ على سبيل المثال مقطعاً من الحوار الذي دار بين موسى وفرعون:
__________
(1) سورة الأعراف: الآيتان (104، 105).
(2) البخاري: الجامع الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب رقم 6، حديث رقم 7، ج1، ص 9 .(1/15)
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} (1) .
بدأ فرعون حواره بالاستفهام عن حقيقة رب العالمين، الذي قال له موسى بأنه رسولٌ مِنْ عنده، فقال بأسلوب المتنكر للقول من أساسه، والمتهكم على القول والقائل: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي: أيُّ شيءٍ هو؟. قال الشوكاني: "جاء في الاستفهام بـ (ما) التي يُستفهم بها عن المجهول ويُطلب بها تعيين الجنس، فلما قال فرعون ذلك، قال موسى: «رب السماوات والأرض وما بينهما» فعيَّن له ما أراد بالعالمين، وترك جواب ما سأل عنه فرعون، لأنه سأله عن جنس رب العالمين، ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدل على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الرب ولا ربّ غيره" (2) .
ولما سمع فرعون هذا الجواب التفت إلى ملأه وقال لهم متعجباً ساخراً: {ألا تسمعون} إنَّ جوابه يخالف سؤالي، سألته عن حقيقة ربه وذاته، فأجابني بما يزعم أنه ربُّ السماوات والأرض وما بينهما.
__________
(1) سورة الشعراء: الآيات (23- 33).
(2) الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: فتح القدير، (بيروت: دار الفكر، د.ط، د.ت)، ج4، ص 97 .(1/16)
ولما رأى موسى تعجُّب فرعون من إجابته بسبب نسبة الألوهية إلى غيره، أجابه إجابة أخرى هي أقرب إلى التأمّل، وأوضح للناظر {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} يعني: هو الذي خلقكم وخلق آباءكم الأقدمين، وهو الذي أماتهم وسوف يميتكم مثلهم، فهل أنت تستطيع مثل ذلك يا فرعون؟ فقال فرعون لمن حوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون} لأنه يجيبني بخلاف ما سألته.
ثم استمر موسى في إجاباته موجهاً أنظار فرعون وقومه إلى التفكّر فيما يشاهدونه كل يوم في مشرق الشمس ومغربها، وفي حركتها على هذا النظام الثابت الذي تنتظم به حياة المخلوقات. {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.
ولما عجز فرعون عن الحوار بالمنطق والحكمة، عاد إلى عناده وكبريائه، فلجأ إلى العنف والتهديد، وأقسم على موسى ليجعلنَّه من المسجونين إن اتخذ إلهاً غيره. {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
ولمَّا رآه موسى على هذا الحال، عَرَضَ عليه أنْ ينظر إلى معجزته الدالَّة على صدقه. فقال فرعون بأسلوب الشاك في صدقه أصلاً: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ولم يجادله موسى في ذلك، لكنه وبشكلٍ مباشر –كما نفهم من الفاء الدالة على الترتيب مع التعقيب-: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}.(1/17)
ولما بهره سلطان المعجزة لجأ إلى الملأ حوله ليستعين بهم على إبطالها، فقال لهم: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (1) . فأشاروا عليه بأن يجمع السحرة ثم يتفقون مع موسى على يوم معين يتبارون فيه، فاجتمعوا في وقت الضحى من يوم الزينة، وألقوا حبالهم وعصيهم، وخيِّل إلى الناظرين أنها حيَّات تسعى، فألقى موسى عصاه فإذا هي تبتلع ما يصنعون. وحينما رأى السحرة هذا المشهد بُهتوا جميعاً، وأيقنوا أنَّ مِثله لا يأتي بالسحر، ولم يتمالكوا أنفسهم، فخروا ساجدين، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
ولكن فرعون ظلَّ على عناده واستبداده برأيه، وخالف مستشاريه وسحرته، فانقلب ضدهم، وتوعدهم بالعذاب المبين، فلم يأبهوا له، ولم يبالوا به، و {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) ، (4) .
نستنتج في نهاية هذا المقطع المختار، أنه وعلى الرغم من جبروت فرعون، واستهزائه بكل الأفكار المطروحة، إلا أنَّ موسى عليه السلام كان واعياً لكل الأساليب التي حاول فرعون استخدامها في سبيل إبعاد الحوار عن هدفه الأساسي وفكرته الأصلية، فكان موسى دائماً يرجع إلى الفكرة من جديد، بأسلوب حكيم يتميز باللباقة والذكاء.
__________
(1) سورة الشعراء: الآيتان (34، 35).
(2) سورة الشعراء: الآية 47.
(3) سورة الشعراء: الآيتان (50، 51).
(4) انظر تفسير هذه الآيات في: البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء: معالم التنزيل، تحقيق: خالد العك ومروان سوار، (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1407هـ/1987م)، ج3، ص ص(384- 386). الشوكاني: فتح القدير، ج4، ص ص(97- 99). الحسيني، خلف محمد: الحوار والجدال في القرآن الكريم، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1395هـ/1975م)، ص ص(23- 24).(1/18)
ثانياً: أدب موسى –عليه السلام- في خطاب قومه
المواقف الحوارية بين موسى وقومه كثيرة جداً، ولكننا سنختار واحداً منها، وهو الموقف الذي يتعلق بقصة البقرة. قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة: الآيات (67- 73).(1/19)
وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، وملخّصها أنَّ رجلاً من بني إسرائيل قتل عمَّه ووضعه في محلّة لسبطٍ من أسباط بني إسرائيل غير سبطه، ثم اتهمهم بأنهم قتلوه، وطالبهم بديته، فردّوا التهمة عن أنفسهم، وصار كل من ولي الدم والمتهمين يتدافعون الأمر فيما بينهم، ثم طلبوا من موسى أنْ يسألَ ربَّه البيان، فأمرهم أنْ يذبحوا بقرة، فكان منهم ما كان مما ذكرته الآيات (1) .
وتكشف لنا هذه القصة عن كثير من السِّمات الخُلُقية لبني إسرائيل، وتُبرز على وجه الخصوص سوء أدبهم مع نبيهم ومع الله تعالى. وفيما يلي بيان ذلك:
أجاب موسى قومَه على طلبهم ببيان القاتل قائلاً: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}. وفي هذا التعبير بهذه الصيغة ما يكفي لأن يدفعهم إلى الاستجابة والتنفيذ، فنبيهم الذي هو زعيمهم ومخلصهم من العذاب المهين بفضل الله تعالى ورحمته، يبيّن لهم ما عليهم أن يفعلوه وينبئهم أنَّ هذا الأمر ليس صادراً منه شخصياً، إنما هو أمر الله الذي يسير موسى على هداه. فماذا كان جواب القوم؟ لقد كان سفاهة وسوء أدب، واتهاماً لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم، فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}. وهل يمكن لإنسان موصول القلب بالله فضلاً عن أن يكون نبياً مرسلاً أن يتخذ اسم الله مادة مزاح وسخرية بين الناس؟!
ولم يجد موسى ما يرد به على هذه السفاهة إلا أنْ يستعيذ بالله وأن يردّهم برفق إلى مراعاة الأدب الواجب مع الله تعالى، وذلك بأسلوب التعريض والتلميح، وأن يبين لهم أنَّ ما ظنوه لا يليق إلا بجاهل بقدر الله لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:
{قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
__________
(1) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص446. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، ص109. البيضاوي: أنوار التنزيل، تحقيق: عبد القادر عرفات حسونة، (بيروت: دار الفكر، د.ط، 1416هـ/1996م)، ج1، ص238.(1/20)
وذكر الآلوسي أنَّ في نفي موسى للجهل عن نفسه، نفيٌ لملزومه الذي اتُهم به وهو الاستهزاء، وذلك عن طريق الكناية. وأن الاستعاذة بالله من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه. (1)
وكان في هذا التوجيه ما يكفي ليثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم وينفذوا أمر نبيهم، ولكنهم كعادتهم يلجأون إلى المماطلة والتلكؤ، فيسألون أسئلة لا حاجة إليها:
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ}
إنهم بهذا السؤال وبهذه الصيغة يكشفون عن أنفسهم التي يساورها الشك أن يكون موسى هازئاً غير جاد فيما طلب منهم. وفي قولهم: "ادع لنا ربك" من سوء الأدب ما لا يخفى، فكأنما هو ربه وحده وليس رب الجميع، وكأن المسألة لا تعنيهم هم وإنما تعني موسى وربه. وفي سؤالهم عن ماهية البقرة بقولهم: "ما هي" سوء أدب آخر، فالسؤال في هذا المقام يشير إلى إنكارهم واستهزائهم. فهي ليست إلا بقرة، وقد قال لهم نبيهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة أو سمة.
ثم يسلك موسى في الإجابة طريقاً غير طريق السؤال. فقد كان بالإمكان أنْ يبين لهم انحرافهم بصيغة السؤال، ولكن أدبه يمنعه من ذلك، وهو لا يريد أنْ يدخل معهم في جدلٍ شكليّ لا طائل وراءه، فآثر أنْ يجيبهم كما ينبغي أنْ يكون المعلم المربي، ومن ثم أبان لهم عن ربه صفة البقرة المطلوبة: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}. إنها ليست عجوزاً ولا شابة. وسط بين هذا وذاك (2) .
ونلحظ هنا أنَّ موسى دائماً يسند القول إلى الله عز وجل، وذلك لأنَّ هذا أدْعى لتحقق الاستجابة من طرفهم. وصيغة المضارع في (يقول) تدل على استحضار الصورة (3) .
__________
(1) انظر: الآلوسي: روح المعاني، ج1، ص 286 .
(2) انظر: قطب، سيد: في ظلال القرآن، (بيروت/القاهرة: دار الشروق، ط11، 1405هـ/1985م)، ج1، ص ص(77- 79).
(3) انظر: الآلوسي: روح المعاني، ج1، ص 288 .(1/21)
ثم يُعقِّب على هذا البيان الموجز بنصيحة آمرة، فيقول: {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} ولقد كان هذا كفاية لمن يريد الالتزام. فقد وجههم نحو الأدب الواجب في السؤال والتلقي، وحثّهم على أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم متوسطة السن، فيخلِّصوا بها ذمتهم، وينفذوا بذبحها أمر ربهم، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق.
ولكنهم راحوا يسألون مرة أخرى وبنفس الأسلوب: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} وهم هذه المرة يسألون عن لون البقرة، فجاءهم البيان التفصيلي: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} وهكذا ضيَّقوا على أنفسهم دائرة الاختيار. لقد كانوا في سعة من الأمر فأصبحوا مكلَّفين أنْ يبحثوا عن بقرة متوسطة العمر، لا هي عجوز و لا هي صغيرة، ثم لا بدَّ أنْ تكون صفراء، وأنْ تكون الصُفرة فيها فاقعة، ثم بعد هذا وذاك ليست هزيلة ولا شوهاء، بل تسرُّ الناظرين.
ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا وكأنهم بتلكئهم يريدون أنْ يتحللوا من التكليف لكن بأسلوب التوائي خبيث. فمضوا في طريقهم يعقِّدون الأمور ويشددون على أنفسهم فشدد الله عليهم. وقد عادوا مرة أخرى يسألون عن الماهية ويعتذرون هذه المرة بأن الأمر مُشْكِل عليهم. {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لأول مرة يقرنون السؤال بمشيئة الله، وكأنهم استشعروا لجاجتهم وأنَّ الموضوع قد أخذ أكثر مما يستحق، ولا فائدة من التلكؤ، ولن يعفيهم ذلك من التكليف.
وجاءهم الجواب بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، فضاقت دائرة الاختيار المتاحة لهم، وكانوا في سعة منها وفي غنى عنها: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا}.(1/22)
وتكاملت بذلك أوصاف البقرة ولا مجال للمزيد، فهي بقرة متوسطة العمر، صفراء فاقع لونها، فارهة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع، ولا بد مع ذلك أنْ تكون خالصة اللون لا عيب فيها ولا تشوبها علامة ما. فلم يكن بُدٌّ أنْ يقولوا: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}. وكأنَّ كل ما مضى لم يكن حقاً، أو أنهم لم يستبينوا أنَّ ما جاءهم به هو الحق إلا في هذه اللحظة.
وصيغة "الآن، بالمد، على الاستفهام التقريري، إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له" (1) . {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} (2) .
يتبين لنا من خلال هذه المحاورة، أنَّ موسى عليه السلام كان يجيب على تساؤلات قومه في أدب وحكمة، بينما يردون عليه بكل سخرية واستهزاء، ويتمادون في السؤال عن أشياء لا داعي لها. والحقيقة أنَّ سوء الأدب أمرٌ متأصِّل في الشخصية اليهودية، وهم أبعد الناس عن الأدب مع الله. ومَنْ لم يتأدب مع الله فكيف له أنْ يتأدب مع خَلْقِه؟
ثالثاً: أدب موسى –عليه السلام- في خطاب الخضر
يُمثِّل هذا النموذج حواراً بين طرفين، أحدهما معلِّم وهو الخضر عليه السلام، والثاني متعلِّم وهو موسى عليه السلام. وقصة هذا الحوار وردت في سورة الكهف، في قوله تعالى:
__________
(1) الآلوسي: روح المعاني، ج1، ص292.
(2) انظر تفسير آيات قصة البقرة في: قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج1، ص ص(77- 79). ندا، محمد محمود: من القصص الحق، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م)، ص ص(377- 380).(1/23)
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (1) .
__________
(1) سورة الكهف: الآيات (65- 77).(1/24)
والمدقق في الخطاب الذي دار بين موسى والخضر عليهما السلام، يجد أنه يُمثِّل قمَّة الأدب من قِبَل الطرفين. فموسى يبدأ خطابه بأسلوب وديع يعبر عن روح التواضع للعلم والعلماء، دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلِّم. وهذا الأدب نجده ماثلاً في هذه الكلمات الهادئة المتعطشة للعلم، التي خاطب بها موسى هذا العبد الصالح. حيث بدأ طلبه في أسلوب من الأدب والاستئذان، علَّ هذا الطلب يجد قبولاً لدى الخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}.
وإذا تأملنا هذه الكلمات التي تَوَسَّل بها موسى إلى أستاذه، فإننا نجد فيها الكثير من الإشارات الدالة على الذوق والأدب، ومن ذلك:
1. لفظ (لَهُ)
وهذا اللفظ يدل على أنَّ الخطاب مُوَجَّه من موسى إلى الخضر مباشرة. ولو كان التعبير دون ذِكر (له)، لكان هناك احتمال ولو ضعيف أنه أرسل إليه خادمه مثلاً، ولكن التعبير على هذه الصورة يفيد أنه ذهب إليه وطلب منه ذلك بنفسه. وهذا ما يقتضيه خُلُق طلب العلم، وذلك بأنْ تكون الصلة بين الطالب ومُعلِّمه مباشرة، وأن يتواضع طالب العلم مهما تكن منزلته (1) .
2. أسلوب الاستفهام
__________
(1) انظر: حفني، عبد الحليم: أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1985م)، ص150.(1/25)
قال موسى للخضر مستفهماً: «هل أتبعك؟» وفي هذا السؤال –كما يقول الشوكاني-: "ملاطفة ومبالغة في حُسن الأدب، لأنه استأذنه في أنْ يكون تابعاً له على أنْ يُعلِّمه مما علَّمه الله من العلم" (1) . وكأنَّ موسى يقول له: هل تسمح لي وتأذن أنْ أكون تابعاً لك، على شرط أنْ تعلمني مما عُلِّمته من العلم النافع المرشد للصلاح والصواب؟ والفرق شاسعٌ بين هذا الأسلوب، وبين أنْ يقول للخضر مثلاً: إني أريد أنْ تعلمني بعضاً مما تعلم. لخلو هذا الأسلوب من حُسن العرض والتلطّف والاستئذان والاستفهام والتبعية التي تدل على تواضع المتعلِّم للمعلم.
3. لفظ (أَتَّبِعُكَ)
وهذا اللفظ يتضمن أقصى معاني الخضوع النفسي، وكأنه يقول له: قبل كل شيء أريد أنْ أكون تابعاً لك، فهل تقبل؟ والتبعية هنا إشارة إلى ثقة الطالب في معلمه، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، لأن انعدام ثقة الطالب بعلم أستاذه معناه انعدام الاستفادة.
قال القرطبي: "هذه الآية دليل على أنَّ المتعلِّم تَبَعٌ للعالم وإنْ تفاوتت المراتب، ولا يُظنّ أنَّ في تعلُّم موسى من الخضر ما يدل على أنَّ الخضر كان أفضل منه، فقد يشذُّ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فَضَّله الله، فالخضر إنْ كان وليَّاً فموسى أفضل منه لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإنْ كان نبياً فموسى فَضَلَه بالرسالة" (2) .
4. لفظ (مِمَّا عُلِّمْتَ)
لفظ (مما) يتكون من جزئين. (من) وهي حرف جر يدل على التبعيض. و (ما) اسم موصول بمعنى الذي. والمعنى: على أنْ تُعلمني بعض ما لديك من العلم. فموسى عليه السلام يتلطَّف في طلبه، وكأنه يقول: يكفيني منك بعضٌ من العلم، وهذا البعض تحدد قَدْرَه وكميته أنتَ كما تريد (3) .
__________
(1) الشوكاني: فتح القدير، ج3، ص299.
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص17.
(3) انظر: حفني، عبد الحليم: أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، ص152 .(1/26)
وهكذا فإنَّ كلَّ كلمة تَفوَّه بها موسى عليه السلام، جاءت مصوغةً في قالبٍ من اللطف والأدب والحكمة. فكيف كان رد الخضر على هذا الأدب؟
لقد كان ردُّه رداً على الأدب بمثله، فردَّ بأسلوب رائع أظهر من خلاله صعوبة اتباع موسى له، وعدم استطاعته الصبر معه، وأيَّد تلك الصعوبة وعدم الصبر باستفهام تعجبي، فقال: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}. ويستوقفنا في هذا الرد عدة أمور، أهمها (1) :
1. أنه لم يرفض تعليم موسى، وهكذا خُلُق العلماء في عدم الضنِّ بما لديهم من علم، ولكنه يرى أنَّ هناك سبباً يجعل استمراره في التعلُّم صعباً. وكأنه يقول له: لستُ أرفض أنْ أعلِّّمك، ولكن هناك ما يمنع، وهو أنك لن تستطيع الصبر على آثار هذا العلم الغريب.
2. حينما نفى عن موسى القدرة على الصبر، بيَّن سبب ذلك بأسلوب مهذب دقيق، ذلك أنه لم ينفِ عنه الصبر على الإطلاق، وإنما نفاه في حالة معينة، هي صحبته له، وهذا ما يدل عليه لفظ (معي) الذي انصبَّ النفي عليه في قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} بمعنى: أنَّ الخضر لا ينفي عنه صفة الصبر، وإنما ينفي قدرته على الصبر في حالة معينة، هي صحبته له مع ما يرى منه من أفعال، أما في غير هذه الصحبة فلا ينفي عنه شيئاً. وفي لفظ (تستطيع) شيء من التماس العذر لموسى في عدم مقدرته على الصبر، وكأنه يقاوم ويحاول أنْ يصبر ولكنه لا يستطيع لوجود ما يدفعه إلى ذلك.
__________
(1) انظر: المرجع السابق، ص ص(153- 154).(1/27)
3. اللجوء إلى أسلوب التعليل: حيث يبين الخضر لموسى عليه السلام السبب الذي يجعله لن يتمكن من الصبر. وهو أنه سيكون هناك أمور غير مُرضية بالنسبة له، وهي مجهولة الأسباب والدوافع في ظاهرها. لذا قال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}. قال البيضاوي: "أي، وكيف تصبر وأنت نبي، على ما أتولَّى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم يُحط بها خُبرك؟" (1) .
وهنا ردَّ موسى على الخضر عليهما السلام بقوله: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}. ونجد في مضمون هذا الجواب ما يلي (2) :
1. وَعْدٌ من موسى بتحقيق ما يطلبه الخضر وهو الصبر، وقد كان موسى دقيقاً في هذا الوعد، فلم يؤكِّد له مقدرته على الصبر، وإنما ساقه مساق التوقع بلفظ (ستجدني).
2. قَرَنَ موسى فعل المستقبل بمشيئة الله، فقال: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا} وهذا من الأدب مع الله تعالى.
3. وعْدٌ من موسى للخضر عليهما السلام بتحقيق ما وعده به منذ البداية وهو التبعية، لذلك ينفي أنْ يصدر منه أيُّ عصيانٍ للخضر، فيقول: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.
وبعد أنْ سمع الخضر محاورة موسى له، واستعانته بمشيئة الله، واستجابته لطاعته، لم يسعه إلا أنْ يقبل طلبه، ولكنه شَرَطَ عليه ألا يسأله عن شيء يفعله حتى يكون البيان من طرفه: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}.
__________
(1) البيضاوي: أنوار التنزيل، ج3، ص511.
(2) انظر: حفني، عبد الحليم: أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، ص ص (155- 156).(1/28)
ثم انطلقا معاً حتى مرَّت بهما سفينة فركبا فيها، وكانت المفاجأة إقدام الخضر على خرق السفينة، فدُهش موسى لهذا الفعل، ولم يستطع السكوت والصبر على ذلك، فقال معترضاً بأسلوب استفهامي تعجبي: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} وعلى الرغم من الاعتراض على فعل الخضر، إلا أنَّ اعتراضه جاء بصورة مؤدبة، لأنه جاء بصيغة الاستفهام والتعجب، لا بصيغة الاتهام، والفرق بين الأسلوبين واضح.
فأجابه الخضر إجابة لينة ليس فيها إلا تذكيره بما سبق أن أكده له حين قال: {ألم أقل إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} وكان يمكن أن يهمله ولا يجيبه، أو أنْ يردَّ عليه ردّاً جافاً، ولكنه لم يفعل. ولذلك بادر موسى بالاعتذار لمعلمه بسبب نسيانه نصيحته السابقة، ورجاه ألا يرهقه عسراً بالمؤاخذة على النسيان {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}.
وبعد الانتهاء من هذا الموقف أبصر الخضر غلاماً يلعب على الساحل فقتله، ففزع موسى من هذا الفعل فزعاً شديداً، ولم يستطع الصبر والسكوت عليه، فراجع الخضر واعترض عليه مرة ثانية، وقال له بأسلوب أدبي مبدوء باستفهام إنكاريّ تعجبيّ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} ولم يعنِّف الخضر موسى ولم يؤنِّبه على اعتراضه عليه مرة ثانية، بل كرر له تذكيره بما سبق من نُصحه فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} وزيادة (لك) في هذه المرة تُشعر بعتابه لموسى على ترك وصيته وعلى تكرير الاعتراض والمحاورة والذي كاد أنْ يصل إلى الجدال والخصام. وبعد ذلك استحيى موسى من الخضر وحَكَم على نفسه بأنه لو سأل مرَّة ثالثة فلا يصاحبه في رحلته هذه: {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}.(1/29)
ثم انطلقا معاً يواصلان رحلتهما حتى إذا أتيا أهل قرية، طافا بها واستطعما أهلها، وكان الجوع قد بلغ منهما مبلغه. فأبوا أنْ يضيِّفوهما، فوجدا في القرية حائطاً يريد أنْ ينقض ويسقط، فأقامه الخضر وعدَّل ميله. ولما رأى موسى إصلاح الخضر للحائط الذي كان آيلاً للسقوط، دون أنْ يطلب أجراً على ذلك العمل من أصحاب الحائط وهما في أشد الحاجة إلى الطعام، لم يستطع السكوت، فقال للخضر: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}.
ونَلحظ أنَّ هذا الاعتراض من موسى كان في غاية اللطف والذوق، فإنه قد بدأه بلفظ (لو)، ولكن الخضر اضطر لتنفيذ وعده السابق وهو قوله: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}. فكانت تلك هي لحظة الفراق بينهما، ولكنَّ الخضر لم يترك موسى حائراً غير عالم بأسرار أفعاله الثلاثة التي اعترض على فعلها وسأله عن أسبابها، شأنه في ذلك شأن المعلِّم الحريص على تَعلُّم تلميذه، فقال له: {هذا فراقُ بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (1) أي سأخبرك بمآل ما فعلتُ، وسأبين لك الأسباب التي خفيتْ عليك (2) .
ثم بدأ الخضر يُفسِّر لموسى ما حدث، عودة منه إلى الأسلوب التعليلي الذي يمثل جانباً مهماً من جوانب أدب الكلام، فقال:
__________
(1) سورة الكهف: الآية 78.
(2) انظر تفسير هذه الآيات في: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج3، ص ص(93- 99). الحسيني، محمد: الحوار والجدال في القرآن الكريم، ص ص(42- 44).(1/30)
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (1) .
وهكذا يُسدل الستار على هذه القصة التي لمسنا من خلالها هذه الخطوط العريضة، التي تصلح أن تكون منهجاً يُحتذى في أدب الخطاب بين المتحاورين بشكل عام، وبين العلماء وطلابهم بشكل خاص.
خاتمة
يجدر بنا في نهاية هذا البحث أنْ نلخّص أهم النقاط التي تم التوصّل إليها:
1. عُنيَ القرآن الكريم بأدب الخطاب، باعتباره ضرورة إنسانية ومدخلاً إلى القلوب المقفلة، ووجّه الأنبياء إلى ضرورة الالتزام بالأدب في مخاطبتهم لأقوامهم، لأن ذلك هوخير سبيل للإصلاح والتغيير.
2. رسل الله وأنبياؤه هم أكمل الناس أدباً في خطابهم مع الله أولاً، وفي خطابهم مع خلقه ثانياً.
3. من مواقف أدب الخطاب في قصة موسى عليه السلام، المواقف الحوارية لموسى مع فرعون ومع قومه ومع الخضر. فعلى الرغم من جبروت فرعون إلا أن موسى كان يخاطبه بالقول اللين، التزاماً بالتوجيه القرآني بذلك. وعلى الرغم مما واجهه به قومُه من المماطلة وكثرة الأسئلة، إلا أنه كان يقابل كلَّ ذلك بحلم وسعة صدر. أما موقفه مع الخضر عليه السلام فيمثل الأدب المتبادل من الطرفين.
__________
(1) سورة الكهف: الآيات (79- 82).(1/31)
4. ضرب لنا موسى –عليه السلام- مثلاً يُقتدى به في حياتنا اليومية.
قائمة المراجع
1. ابن أبي سلمى، زهير: ديوان زهير بن أبي سلمى، (بيروت: دار صادر).
2. ابن خلكان، أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، (بيروت: دار الثقافة، د.ط، 1968م).
3. ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير، (بيروت: مؤسسة التاريخ، ط1، 1420هـ/2000م).
4. ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر: تفسير القرآن العظيم، (بيروت: دار الفكر، 1401هـ).
5. ابن منظور: لسان العرب، (بيروت:دار صادر).
6. ابن منقذ، الأمير أسامة: لباب الآداب، تحقيق: أحمد محمد شاكر، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ/1991م).
7. ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري: السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ).
8. آقبيق، غازي صبحي: آيات قرآنية: ومضات من القرآن الكريم، (دمشق: دار الفكر).
9. الألوسي، أبو الفضل محمود: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ط، د.ت).
10. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: الجامع الصحيح، تحقيق: مصطفى البغا، (بيروت: دار ابن كثير/اليمامة، ط3، 1407هـ/1987م).
11. البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء: معالم التنزيل، تحقيق: خالد العك ومروان سوار، (بيروت: دار المعرفة، ط2، 1407هـ/1987م).
12. البيضاوي: أنوار التنزيل، تحقيق: عبد القادر عرفات حسونة، (بيروت: دار الفكر، د.ط، 1416هـ/1996م).
13. الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، د.ط، د.ت).
14. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، (بيروت: دار الجيل، ط1، 1411هـ/1991م).(1/32)
15. الحسيني، خلف محمد: الحوار والجدال في القرآن الكريم، (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1395هـ/1975م).
16. حفني، عبد الحليم: أسلوب المحاورة في القرآن الكريم، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1985م).
17. الخطيب، عبد الكريم: التفسير القرآني للقرآن، (د.م: دار الفكر العربي، د.ط، د.ت).
18. الرازي، فخر الدين محمد بن محمد: مفاتيح الغيب، (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ط، د.ت).
19. الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، (بيروت: مكتبة لبنان، طبعة جديدة، 1415هـ/1995م).
20. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد: مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة).
21. الرفاعي، أحمد بن علي بن ثابت: البرهان المؤيد، تحقيق: عبد الغني نكه مي، (بيروت: دار الكتاب النفيس، ط1، 1408هـ).
22. السبكي، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناجي، (الجيزة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط2، 1992م).
23. الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: فتح القدير، (بيروت: دار الفكر، د.ط، د.ت).
24. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ).
25. الطويل، السيد رزق: الدعوة في الإسلام عقيدة ومنهج، (دون معلومات نشر).
26. فضل الله، محمد حسين: تفسير من وحي القرآن، (بيروت: دار الملاك، ط2، 1419هـ/1998م).
27. الفيرززآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1403هـ/ 1983م).
28. القاسمي، محمد جمال الدين: محاسن التأويل، تحقيق: محمد باسل عيون السود، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ/1997م).
29. القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، (القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372هـ).(1/33)
30. قطب، سيد: في ظلال القرآن، (بيروت/القاهرة: دار الشروق، ط11، 1405هـ/1985م).
31. الكرمي، حسن سعيد: الهادي إلى لغة العرب، (بيروت: دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 1411هـ/1991م).
32. مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري: الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ط، د.ت).
33. ندا، محمد محمود: من القصص الحق، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م).
34. النسفي، عبد الله بن أحمد: مدارك التنزيل، (دون معلومات نشر).
35. النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق: الباز العريني، (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1412هـ/1992م).(1/34)