بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد العروبة التي عرفناها من قديم، وآزرنا نهضتها يوم قامت، واستبشرنا بجامعتها يوم ولدت، شيء آخر غير العروبة التي نسمع الآن "لفظها" من بعض الساسة والكتاب، فنسمع له رنينًا كرنين النقد الزائف. أجل هناك عروبة ذات دلالة غريبة، ومعنى مزور، ومفهوم مجلوب من الخارج، ليست له علاقة بواقعنا ولا بتاريخنا. ومن حق أي عربي أصيل، ومن حق أي مسلم مخلص أن ينفر من هذا التدليس، وأن يعد القومية العربية بهذا التفسير الجديد حركة التفاف ماكرة خبيثة للقضاء على شخصيتنا وتاريخنا وإيماننا... ومصالحنا القريبة والبعيدة. إن المحاولات ناشطة للإجهاز على الإسلام، تارة بتسويغ الارتداد عنه عقيدة وشريعة، وتارة بإحلال "العروبة" مكانه بعد تجريدها من أربطة الإيمان ووشائج التاريخ؛ ليكون مفهومًا فارغًا ميتًا.. ثم افتعال يقظة عربية يلتف حولها المخدوعون، ومن ثم نفقد كل ما ربحناه في معارك التحرير خلال القرن الأخير... وتتقلص ظلال الإسلام فى سكون. أهذه هي القومية العربية التي يطن النداء بها في الآذان؟ إنني- كأي مسلم يحب العربية وأهلها- أجزع من هذا الانحراف الثقافي والسياسي، وألفت الأنظار إلى خطورة الفوضى الفكرية والاجتماعية التي أحدثها البعثيون والقوميون بهذا المسلك، وأثر ذلك كله في تضليل الأجيال التي كتب عليها ألا تسمع غير هذه الصيحات الكذوب . قرأت جملة من المقالات، والكتب التي تعرضت لموضوع "القومية العربية" وشعرت بالسخط على الطريقة المريبة التي عولج بها هذا الموضوع، بل شعرت بأن
ص _004(1/1)
من حق المؤمنين الصادقين أن يجفلوا من هذه المقالات والكتب، وأن يرفضوا بقوة كل ما جاء بها من آراء وأحكام. ذلك أن هؤلاء الناس أبرزوا "القومية العربية" على أنها وليد أجنبي احتضنته بيئات نافرة من الإسلام، أو مبغضة له، وأن هذا الوليد يستمد نماءه من الثقافات الدخيلة، وتتسع دائرته على أنقاض مواريثنا الروحية والخلقية، وتقاليدنا الاجتماعية والقانونية، وأوضاعنا الاقتصادية والسياسية. وتفسير القومية العربية على هذا الأساس نعده نحن استجابة صريحة للغزو الاستعماري بكل ما يحمله في طواياه من أحقاد وأطماع. ونرى الوقوف في وجهه ضرورة يمليها الإخلاص للعرب، والحماس لحاضرهم ومستقبلهم، والدفاع عن كيانهم المادي والمعنوي. ولقد عجبنا أشد العجب لمؤلف يقول: (وكان أول من بشر برسالة القومية بين العرب هم أبناء "الرعايا" أي المسيحيون الذين وجدوا في القومية أداة صالحة ليس فقط للتخلص من السيادة العثمانية، بل للخروج كذلك من حدود الدائرة الإسلامية إلى وسط أرحب حيث يستطيع المسلمون وغير المسلمين من العرب أن يذيبوا أنفسهم فى ولاء شامل. ويقول: كانت حملة " نابليون بونابرت " على مصر والشام من عوامل ضعف (الجامعة الإسلامية العثمانية) وظهور (القومية العربية). قدم الفرنسيون مزودين بمدنيتهم الحديثة التي تقوم على العلم والاختراع والحرية والمبادئ الديمقراطية، وتقابلوا بهذا كله مع مدنية الأتراك فكانت الغلبة للمدنية الحديثة. ويقول: أيقظ "نابليون " الشعور القومي العربي، وبعث فكرة استقلال العرب عن العثمانيين. ويقول: عملت الحملة الفرنسية على نهضة الثقافة العربية، ثم أكملت هذا العمل العظيم الجمعيات التبشيرية المسيحية، ونتج عن هذا كله اهتمام العرب بتراثهم القومي، مما أدى إلى بعث القومية العربية!! ويقول: وقد وجدت اللغة العربية موئلاً في المدارس الأجنبية والمدارس المسيحية الطائفية، وانتشر تعليمها بين المسيحيين أكثر من انتشارها بين(1/2)
المسلمين) . ص _005
هذا التفكير المغشوش الهازل هو معنى القومية العربية عند بعض المؤلفين والصحافيين ، الذين تطفلوا على موائد البحث العلمي، وأقحموا أنفسهم فى ميادين لا ناقة لهم فيها ولا جمل. إن القومية العربية داخل هذا الإطار الأجنبي في مبناه ومعناه شيء غريب على نفوسنا وعقولنا، دخيل على ماضينا وحاضرنا، خطير على ديننا ودنيانا. وهي - بهذا المفهوم المبتدع - جسر يعبر عليه الاستعمار الغربي والشرقي ليعيث فسادًا في أرجاء حياتنا كلها. وحسبه أن يستمكن من إقصاء الإسلام عن مجال التربية النفسية والتنظيم الاجتماعي، وأن يملأ الفراغ الفكري والروحي الناشئ عن هذا الإقصاء. بمبادئ مبهمة، وشهوات مزوقة. وصيحات مجنونة، وفوضى ليس لها آخر. إن العروبة التي قبلنا من سنين جامعتها. وارتضينا من قرون لغتها ودينها. وولدنا في بيئتها وغذينا من ثقافتها. هذه العروبة التي نحسها في ظاهرنا وباطننا، وآلامنا وآمالنا.. شيء يناقض كل المناقضة الأكاذيب المترادفة التي جاءتنا في هذا العصر مقترنة باسم القومية العربية، أو التي زحمت المفهوم الأجوف لهذا العنوان المحدث. الغل على الإسلام، والحرص على تنحيته جانبًا مع فسح الطريق لكل فكرة أخرى قصد مشترك لهؤلاء الكتاب الذين يتظاهرون بحب العرب وبعث مجدهم. والله يعلم أي شر يصيب العروبة لو انتصروا. إنها ستسقط حين ينجحون، وتستخفي حين يظهرون، وأي عروبة تبقى بعد انتزاع الإسلام منها. إنها ستبقى دعوة بلا تاريخ، ورسالة بلا مبادئ تشرف، أو مستقبل ينصف . ص _006(1/3)
واسمع إلى هذا الكلام في محاولة فصل العروبة عن الإسلام . (هناك اتجاه خاطئ وشائع، للأسف يسجن الثقافة العربية في عمامة الشريعة الإسلامية، صحيح أن الإسلام قد لعب- ولا يزال- دورًا بناء في الثقافة العربية، إلا أنه ليس إلا عنصرًا واحدًا وسمة مميزة، ونقطة رئيسية من نقط انطلاق الثقافة العربية إلى الأعماق العربية من ناحية، وإلى الآفاق الإنسانية من ناحية أخرى). هذا كاتب يسخر من ارتباط الثقافة العربية بالشريعة الإسلامية، ويريد إفهامنا أن للقومية العربية ينابيع كثيرة فوارة بالمعرفة، وأن الإسلام أحد هذه الينابيع وحسب.. ونحن نستغرب هذا الكلام؛ لأن الإسلام هو الذي صنع الأمة العربية جسمًا وروحًا، ولأن الأمة العربية قبل هذا الدين كانت جملة قبائل تحيا في جاهلية طامسة، لا تعرف من الثقافة الإنسانية قليلاً ولا كثيرًا. ومع ذلك فالكاتب الجريء يحدثنا عن ثقافة عربية انطلقت إلى الأعماق العربية، وإلى الآفاق الإنسانية فيقول: (والأعماق العربية هي هذا المحيط الواسع من الموج البشري المتلاطم الذي عاش- ولا يزال- حياة متصلة على الأرض العربية، ومجزأة وموحدة. ونسجت منه الظروف والأحداث التاريخية وما فتئت تنسج تكوينًا نفسيًّا وتراثًا مشتركًا ولغة عربية واحدة، ومصالح اقتصادية آخذة في التبلور. أما الآفاق الإنسانية فهي هذه الثروة العامة التي تبادلت معها الثقافة العربية عمليات الأخذ والعطاء، فقد أخذت الثقافة العربية عن الآفاق الإنسانية العديد من ثقافات الحضارات التي سبقتها كاليونان والرومان. فعرف العرب منذ فجر نهضتهم سقراط وأفلاطون أرسطو. كما أعطت الثقافة العربية الآفاق الإنسانية نتاجها العلمي المتوهج من خلال فلاسفتها وعلمائها أمثال يعقوب الكندي وابن خلدون وابن سينا وابن رشد وغيرهم من الذين مهدوا السبيل لعصر النهضة الأوروبية. فمنتسكيو مثلاً بروح شرائعه امتداد متطور لابن خلدون. وديكارت فيلسوف حكيم العقل نما من خلال(1/4)
قراءات ابن سينا وابن رشد وهكذا . ص _007
وظاهر أن الكاتب يصف بهذا الكلام الحضارة الإسلامية لا غير. فالرسالة التي نمت بها الأمة العربية حتى وسعت أجيالاً هائلة من البشر، وعمرت أرضًا رحبة في القارات الثلاث هي الرسالة الإسلامية. والثقافة التي جعلت العرب يشرفون على فلسفة اليونان، وقوانين الرومان، ويصقلون هذه، وتلك، ويضفون عليهما من رقيهم العقلي ما يجعلهم مشاعل وضاءة في القرون الوسطى.. هي الثقافة الإسلامية. ولولا الإسلام لبقي العرب الأولون قبائل تائهة في صحراء الجزيرة، ولما سجل لهم التاريخ إلا سطورًا تافهة في زاوية مهجورة من صحائفه.. فلماذا يقال في معرض الاستهزاء: إنه لا يجوز حبس الثقافة العربية في عمامة الشريعة الإسلامية؟ هل نحبسها في الحانات التي كان يسكر فيها امرؤ القيس أو في أذناب الخيل التي كان يمتطيها عنتر بن شداد؟؟ لماذا كل هذه الضغائن على الإسلام؟ والحق أن هذا الكلام- إن أجدى شيئًا - فهو حجب العروبة الصحيحة عن أذهان بنيها وتضليلهم وسط متاهات تتخطفهم فيها زبانية الاستعمار. والمتربصون بأمتنا الجريحة إيقاظ لمآربهم منها، فهم كلما خلخلوا لبنة من الكيان المعنوي لأمتنا سدوا مسدها ببديل من التقاليد الزاحفة مع غارة الاستعمار على تراثنا الروحي والمادي كله. وسوف يصلون على مر الزمن أو هم وصلوا إلى أمرين: أولهما: تعطيل الإسلام عن أداء وظائفه النفسية والاجتماعية بعدما أفرغت منه نفوس الأفراد وصفوف الأمة، وأضحى كلمات مأثورة لا صلة لها بالحياة والأحياء، وحل محله الولاء لتراب الوطن حينًا أو لعصبية الجنس حينًا آخر. والآخر: تعويق الإسلام أن يكون رباطًا عامًّا فعالاً بين أبنائه في المشارق والمغارب وإيثار الصبغة الجنسية عليه، حتى تصبح الكلمة لها في المشكلات السياسية والمؤثرات العالمية. والإسلام هو الضحية في كلتا الحالتين. أتريد أن تعرف من الكاسب؟ إنه من الخير أن نسوق أولاً نماذج لتفكير البعث(1/5)
العربي أو القوميين العرب في هذين الأمرين لتعرف الجواب . ص _008
يقول الدكتور عبد الرحمن البزاز : (آن لنا أن نعالج أمرين آخرين هما: خطر المزج بين القومية والدين في العلاقات الدولية الراهنة كما نبصرها اليوم في صلات دول العالم. وثانيهما توضيح المثالين اللذين كثيرًا ما يردان لتبرير مزج الدين بالقومية، وهما إسرائيل وباكستان. فلننظر إلى الأمر الأول، ولنفكر بمصيرنا نحن العرب لو التزمنا بهذا الرأي الذي يسوي بين القومية والدين، أو بالرأي الأكثر تطرقًا وهو الذي ينكر القومية من حيث الأساس ويقيم الدين وحده مقام القومية، سنخرج إذن توًّا نحوًا من عشر سكان مصر، ونحوًا من خمس سكان سورية، ونحوًا من نصف سكان لبنان من القومية العربية، وسنخرج أيضًا نسبة لا يستهان بها من العراقيين والفلسطينيين والأردنيين والسودانيين، كما سنخرج عددًا عظيمًا من العرب المهاجرين في الأمريكتين أو إفريقية أو في القارات الأخرى، ممن لا يزالون يتحسسون قوميتهم العربية، ويحتفظون بلغتهم العربية، إنهم سيصبحون جميعًا خارج نطاق الأمة العربية، وخارج نطاق القومية العربية؛ لأنهم سيفتقرون إلى عنصر أساسي، أو العنصر الوحيد الأساسي في رأي البعض للقومية، وهو الدين الإسلامي. وحين نفقد هذه الملايين العديدة ستفرض هذه النظرية علينا اعتبار الهندي المسلم، والصيني المسلم، والروسي المسلم، والفليبيني المسلم، وكل مسلم في آسيا أو إفريقية أو أوروبا أو أي جزء آخر من أجزاء المعمورة إخوة للعربي المسلم في العراق أو في مصر أو في سورية أو في غيرها من الأقطار العربية، لا إخوة بالمعنى الروحي العام- إذ أنهم في واقع الحال جميعًا إخوة - ولكن إخوة بالمعنى القومي الذي يوجب أن يكون لأبناء القومية الواحدة مصير سياسي واحد، ومصلحة قومية نهائية واحدة، وتفترض قيام ترابط وتضامن اجتماعي وسياسي بين أبناء هذه القومية الواحدة). وواضح أن الدكتور البزاز يريد- في حقل(1/6)
السياسة العالمية- أن يقسم الأمة الإسلامية الكبرى قسمين: مسلمين أعاجم يلتحقون بأقوامهم ويواجهون مستقبلهم السياسي والاجتماعي وحدهم، ومسلمين عربًا ينضوون تحت لواء قوميتهم الخاصة ويشقون طريقهم في الحياة مع إخوانهم من اليهود والنصارى العرب. وهذا التفكير الهائل لم تعرفه الجماعة الإسلامية منذ خلقت إلى اليوم . ص _009
وهو تهديم بعيد المدى للكيان الإسلامي كما يبينه القرآن الكريم وتقيمه السنة المطهرة، وهذا التفكير قرة عين الصليبية المغيرة وما واكبها من دعوات حمراء أو بيضاء تحاول الفتك بالإسلام وأمته. وسيجد القارئ ردودًا مفصلة- في هذا الكتاب- على ما انطوى عليه هذا التفكير من شبهات، وإن كنا نسارع إلى إيضاح أن العوائق أمام الجامعة العربية المبتغاة لا تقل- إن لم تزد- عن العوائق أمام الجامعة الإسلامية. وأن غير العرب في نطاق القومية المزعومة أكثر من غير المسلمين . وأن مركز الذين لا يدينون بالإسلام- في أي تجمع إسلامي- وطيد يغبط عليه أصحابه فلا خوف عليهم قط. وأن خلق هذه العوائق هو من تأثر كتابنا للأسف بالغزو التبشيري دون بصر ما بالواقع الذي سجلته القرون. إن المقصود ألا تقوم للإسلام دولة تحمل رسالته وتتبنى شعائره وشرائعه.. والحملة على قيام هذه الدولة في الصعيد العالمي تقارنها حملة أخرى على قيمة الإسلام ذاته داخل كل دولة مستقلة وفق التشكيل الحديث للرقعة العربية. فقد كان من مقتضيات هذه القومية الحديثة إبعاد الشريعة الإسلامية عن الحكم وإبعاد التعاليم الإسلامية عامة عن الحياة، مع ترك الأبواب مفتوحة للقوانين والتعاليم الأخرى. وعندما نتدبر النقول التي سقناها في صدر هذه المقدمة - وهي صورة التفكير السائد- نجد كل شيء أعد لخنق الإسلام، ثم مواراته الثرى، أو إبقاء صورة شائهة لرفاته الخلو من الحياة. وعندما تنضب مشاعر الإعزاز للتعاليم المبعدة والشرائع المهدرة تنشأ علاقات احترام جبري نحو ما حل محلها من(1/7)
تقاليد وقوانين . ص _010
وذاك سر انحناء كثير من أصحاب الأقلام والألسنة أمام النزعات الوافدة، وإن كانت وليدة نحل أخرى تريد أن تقوم على أنقاض الدين المهزوم- أعنى الإسلام.. وإلا فما معنى هذا الربط المفتعل بين القومية العربية والتبشير المسيحي، والغزو الفرنسي مع الإصرار البادي على نبذ الإسلام ظهريًّا، وحسم كل علاقة قريبة أو بعيدة به؟ وإني لأعجب من توقح نفر من الكتاب على الإسلام وانكماشهم أمام أي دين آخر ولو كان الوثنية البرهمية، أو الوثنية البوذية. إن هؤلاء الكتاب الهازلين يغضون من مواقف رجل مثل جمال الدين الأفغاني له آلاؤه على النهضات الحديثة في ربوع الشرق أجمع، ولا يستحون من إبراز اسم نكرة لخائن انضم إلى الفرنسيين وساعد على استبقائهم في مصر، ورحل معهم لما طردوا من هذه البلاد؛ لأنه كان يعلم يقينًا أن القتل جزاء أمثاله. فترى مؤلف القومية العربية يقول: " وكما ظهرت فكرة إجلاء الفرنسيين ظهرت فكرة الاستقلال حتى عن تركيا، فتكون وفد مصر بزعامة المعلم " يعقوب حنا " ، وغادر البلاد للمطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية. ورغم أن المعلم " يعقوب " نفسه كان ممن مالأ الفرنسيين، وكون الفرق التي تعمل بزعامته تحت إمرتهم، إلا أنه وضع مشروعًا للاستقلال عن تركيا. وهي فكرة جديدة تستحق التسجيل " . ما الذي يستحق التسجيل في هذه الفكرة ؟ أن يمالئ المحتل الكفور رجل من أبناء مصر، مهما كانت نحلته، وأن يؤلف عصابات تستبقيه في ربوع هذا الوادي المحروب، ليضرب القاهرة بالقنابل ويدخل الجامع الأزهر بالخيل؟ أهذا المسلك يستحق التنويه، فيدفن ما يطوي عليه من خيانة وغدر على حين تطوى صحائف الأبطال من قادة العروبة الحقيقيين، ورجالات الإسلام الكبار؟ إن ذلك ما دعانا لإخراج هذا الكتاب في حقيقة المجتمع العربي، وبيان الدعائم العتيدة التي تنهض عليها العروبة، وتعتز بها أمة العرب في القديم والحديث. محمد الغزالي ص _011(1/8)
لماذا ننوه بالعروبة ونعلي منارها ؟ ص _012
العروبة وعاء الإسلام: في تاريخ الأمة فترتان متميزتان منفصلتان أتم الانفصال. فترة ما قبل الإسلام. وفترة ما بعد الإسلام. وبين هاتين الفترتين خط عليه ظلال من بقايا ليل مدبر. ولمعات من مطالع نهار مقبل. خط يشبه ما يعترض الأفق قبل انفجار الضوء وزحف الشروق. هذا الخط الفاصل يضع الخاتمة لعهد عاشه العرب كأي جنس من أجناس البشر. ويضع الفاتحة لعهد يعتبر ولادة جديدة لهذا الجنس، وإبرازا له في أنحاء الوجود... ذلك أنه بظهور الإسلام، وباختيار العرب حملة له، واختيار لغتهم لسانًا للوحي الأعلى، وانتهاء صلة السماء بالأرض في هذه الرسالة الخاتمة، بهذا كله أصبح للعروبة شأن آخر، شأن ضمن لها الكرامة والخلود. وسواء أكان العرب هم الجنس السامي كله، كما يميل إلى ذلك بعض الباحثين، أم هم قبيل محدود منه. وسواء أكانوا منتشرين أصلاً بين المحيط الأطلسي والخليج الفارسي، أم كانت جزيرة العرب هي وطنهم الواسع. فإن الطور الذي دخل فيه العرب باحتضانهم الإسلام قد أنشأهم خلقًا آخر، وأدخلهم التاريخ من أبواب شتى، لا من باب واحد. ثم استحكمت الوشائج بين العرب وهذا الإسلام ، فأصبح يعرف بهم ويعرفون به، لا يغض من ذلك أن بقية ضئيلة من العرب ظلوا على ديانتهم الأولى هودًا أو نصارى. نعم اقترنت العروبة والإسلام من أمد بعيد، في حضارة واحدة وتاريخ مشترك، وشعر العالم كله بهذا الرباط القوي الجامع، فهو إذا تصور الإسلام لا يستطيع أن ينسى العرب الذين آمنوا به وطوفوا أرجاء العالمين برسالته. وهو إذا تصور العروبة لا يستطيع أن ينسى الدين الذي أعلى شأنها، وخلد أدبها، وجمع من شتاتها دولة قدمت للإنسانية أزكى المثل وأرجح القيم. إن الإسلام لا ينفك عن العروبة أبدًا، ذلك أن القرآن الكريم قد اختارت الأقدار له لغة معينة ينزل بها، وتكون وعاء لهداياته، وهي العربية . قال الله سبحانه وتعالى: (وإنه لتنزيل رب(1/9)
العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين) . ص _013
وقال: (إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون ، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم). وأي قرآن يترجم إلى لسان آخر فهو قرآن على المجاز لا على الحقيقة؛ إذ هو تفسير أجنبي للوحي العربي، أو نقل لما تيسر من معاني القرآن نفسه إلى اللغات الأخرى… أما القرآن نفسه أصل الإسلام ومعجزة نبيه وسياج دعوته فإن الأسلوب العربي بخصائصه الثابتة جزء لا ينفصم عن جوهره، ولا يمكن التجاوز عنه بتة. ومقتضى هذا، أن العرب أدنى الناس إلى فقه الرسالة وإدراك مراميها، ولعل ذلك معنى الآية: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا). سواء كان الحكم بمعنى الحكمة أو بمعنى السلطة. يقول الأستاذ الزيات: إن المسلمين اعتقدوا بحق أن لغتهم- العربية- جزء من حقيقة الإسلام لأنها كانت ترجمانًا لوحي الله، ولغة لكتابه، ومعجزة لرسوله، ولسانًا لدعوته. ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشاره، وخلدها القرآن بخلوده. فالقرآن لا يسمى قرآنًا إلا فيها، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها. لذلك سارعوا إلى تعلمها والتكلم بها والتأليف فيها، والتعصب لها، والدفاع عنها، والدعوة إليها، حتى حلت محل الفارسية في العراق، والرومية في الشام، والقبطية في مصر، والبربرية في المغرب. وأصبحت في عصر بني العباس- وهو عصرها الذهبي- لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة في أكثر الدنيا القديمة. وأصبح المسلم على اختلاف جنسه ينتقل من قطر إلى قطر في عالمه الإسلامي، كما ينتقل من بلد إلى بلد في وطنه الأصلي. لا يجد مشقة في التفاهم، ولا صعوبة في التعامل، ولا شدة في المعيشة. ثم شغل المسلمون ـ عربهم وعجمهم ـ بالقرآن وفرغوا له. فكان دعاءهم في المسجد، ونظامهم في البيت، ومنهاجهم في العمل، ودستورهم في الحكومة. فسرى هديه منهم مسرى الروح، وجرى وحيه فيهم مجرى الطبع، وأثر في ألسنتهم(1/10)
وأفئدتهم وأنظمتهم تأثيرًا لم يؤثره كتاب سماوي آخر في أهله . ص _014
ومن هنا كانت ثقافة الإسلام قائمة على ركنين أساسيين: الدين بعلومه المختلفة. واللغة بفنونها المعروفة. وهذان الركنان يشد أحدهما الآخر ويمسكه. فالإسلام بغير العربية يستعجم ويضمحل. والعربية من غير الإسلام تنكمش وتزول. ولا أعني بالعرب دمًا مخصوصًا، بل أعني كل متحدث بالعربية، منتسب لأمتها، معتنق لرسالتها، أو مسالم لهذه الرسالة، غير مشاق لأهلها، ولا متول لأعدائها. فمن أعوزته هذه المواهب، ولو ولد في بطحاء مكة؛ فليس بأهل للعروبة. ومن استجمعها من الزنوج فهو عربي أصيل لا يعيبه لون ولا يؤخره جنس. روى الحافظ بن عساكر قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل (يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ) فما بال هذا وهذا؟ ـ مشيرًا إلى غير العرب من الجالسين)ـ ؟ فقام إليه معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بمقاله. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مغضبًا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم قائلاً: " يا أيها الناس إن الرب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي " . ليست العروبة إذن تعصبًا جنسيًّا لدم من الدماء، أو لون من الألوان. كما أنها ليست تعصبًا ضد دين أو مذهب، فإن الإسلام يعتمد في قيامه وبقائه على الحرية المطلقة، وهو يكافح لمنع الفتنة والإكراه والاستبداد ... ولا يحارب ألبتة لنصرة عقيدة أو إرغام أحد على اعتناقها. وقد مات النبي العربي ودرعه مرهونة عند تاجر يهودي كان يحيا في المدينة آمنًا على نفسه ودمه وعرضه، بل بلغ من أمانه العجيب أن طلب من سيد العرب ص _015(1/11)
رهنًا كي يسلفه ما يشاء ... ولم ير الرسول العربي في ذلك غضاضة مع اختلاف الدين، وضعف اليهود، وسبقهم القديم بالعدوان. وقد شاء الله أن تكون مصر موئل الإسلام والعروبة، وحصنهما السامي منذ أجيال بعيدة. ولن ينسى التاريخ مواقف البطولة التي وقفها أجدادنا عندما كادت حضارة العالم تزول، ومدنيته تطمس، بعدما انطلق التتار من الشرق، والصليبيون من الغرب، يدمرون أمامهم كل شيء، ويخربون كل ما شادت الإنسانية من فضائل ومعالم، ويطوون تحت أقدامهم العواصم الزاهرة والمدائن العامرة. إن أجدادنا في هذه الفترة العصيبة هم وحدهم الذين انتصبوا أمام المردة المنطلقين، واستطاعوا أن يكسروا السيل الجائح وأن يردوه على أعقابه، فانهزم الهمج المقبلون من الشرق، وأدبر القراصنة الهاجمون من الغرب. وبقيت حضارة العالم آمنة في ربوعها، ووديعة احتفظ بها الأسلاف للأخلاف. وقيادة المسلمين لا يصلح لها إلا العرب، وما ينبغي أن ينازعهم عليها أحد. فإن الإسلام يقوم على دعامتين جليلتين، هما الكتاب الكريم، والسنة المطهرة... والكتاب الكريم- كما رأينا - نزل بلغة العرب، والرسول عربي الحياة والتراث... وما يفقه حقيقة الوحي، ومنهج الرسالة إلا خبير بأدب العروبة، راسخ القدم في بيانها، ذواقة لطبيعة البلاغة العربية، بصير بدلالات الكلام القريبة والبعيدة، وبمعانيه الأصلية والثانوية.. يستطيع كل امرئ أن يكون مسلمًا عاديًّا، ولكن لا يستطيع أن يكون فقيهًا في الإسلام، أو أمينًا على دعوته، أو موجهًا لسياسته إلا امرؤ عربي... ولا نعني بالعروبة هنا الجنس، بل نعني اللسان... لا نعني النسب القريب أو البعيد، ولا الدم النقي أو المختلط، بل نعني العرب جميعًا سواء الصريح الأصل أو المستعرب الذي كان ينتمي إلى أي جنس آخر في أي قارة من قارات الدنيا . ص _016(1/12)
فما دام انسلخ من جلدته الأولى، ودخل في هذه الأمة الجديدة مذيبًا نفسه في كيانها، مندمجًا بأفكاره، ومشاعره فيها؛ أصبح منها دون نكير ولا غرابة… ونحن نرى أبا حنيفة فقيهًا عربيًّا، وصلاح الدين قائدًا عربيًّا، وسيبويه، والزمخشري، والرازي، علماء عربًا!. والألوف المؤلفة من الرجال الذين خدموا الإسلام في شتى آفاق السياسة والثقافة والأدب والتشريع مهما كانت منابتهم الأولى هم عرب، لا يفترقون في قليل أو كثير عن العرب الأصلاء من بيت النبوة نفسه... وفي عصرنا هذا نلمح دولة تعد من أضخم دول الأرض، إن لم تكن أسناها وأقواها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. إنه في بوتقة هذه الدولة الناشئة من قرابة ثلاثة قرون فحسب نشأت جنسيات جديدة من أخلاط بشرية بعيدة المناسب والدين واللغة. ومع ذلك فهذه الجنسية الأمريكية الجديدة تفردت بخصائصها ووجهتها، وأصبحت وطنًا واحدًا لشعب واحد. إن هذا مثل صغير للعمل الضخم الهائل الذي صهر الإسلام به شتى الأجناس والألوان في دين واحد ولغة واحدة، فأصبحت هذه الأمة بتكوينها الجديد طورًا آخر للعروبة بعدما اتسعت دائرتها وتحددت وظيفتها في العالم. ونرى لزامًا علينا هنا أن نقول: إن هذا الشرف المتاح للعروبة لم يجئها من نسبها الأرضي، بل جاءها من رسالتها السماوية. فإن أجناس البشر لا يرجح بعضها البعض الآخر بشيء. وما يظنه جنس ما من أنه أرقى من جنس آخر: محض هراء.. ونحن العرب ما نعطي أنفسنا الحق في قيادة روحية أو سياسية لأحد من الناس إلا لأن الله اصطفى لغتنا للحق الذي أوحاه، وبعث منا النبي الذي ارتضاه. ويوم نفخر بأننا عرب وحسب؛ فإننا نسقط عن المكانة التي رشحنا لها، ونعطي الآخرين الحق في الابتعاد عنا، ونخون بذلك الأمانة التي وكلها الله إلينا . إن مطالبتنا بحق العروبة في قيادة العالم الإسلامي كله، وبحقها في إرشاد الجنس البشري أجمع يعود إلى تلك المواريث المقدسة التي آلت إلينا، فخلدنا بها، وسمت(1/13)
بسموها مكانتنا ... ص _017
والأخوة الإسلامية التي تجمع بين مختلف الأجناس الداخلة في الإسلام لا تخدش هذا المبدأ، فإن للقيادة في أي ميدان خواص لابد أن تتوفر لذويها. وقيادة المسلمين من خواصها الأولى، عروبة الشعور والتفكير واللغة والآراء. يقول الأستاذ عمر بهاء الأميري من محاضرة له بالأزهر: " إن تميز العرب هذا مقيد بقيود القرآن والسنة التي تحفظ لكل مقامه، وتعطى كل ذي حق حقه، بل إن هذا التميز ما كان للعرب إلا بالإضافة إلى الإسلام الذي أشرق أول ما أشرق في صميم بلادهم، وتنزل وحيه على رسول منهم، حمل عبئه وأوذي في سبيله، وبذل له من ذات نفسه، وخاطب - أول ما خاطب قومه العرب -، رباهم عليه حتى خالط نفوسهم، وامتزج بمشاعرهم وانطبعت بطابعه حياتهم كلها. تذوقوا هديه ببصيرة وعقل، فجعلوه لهم ناموسًا واستجابوا لأمر الله الذي شرفهم بالقوامة عليه، فنشروه في الآفاق دستورًا إنسانيًّا عاقًّا. لقد انخلعوا في سبيله من ملكيتهم لأنفسهم ونذروها لله، وجندوا رجولتهم كلها، وخصائصهم كلها، وطاقاتهم كلها. وساروا بمعادن نفوسهم التي صهرها أتون الصحراء، وصاغها الإسلام على أبدع نظام، وصقلتها صحبة الرسول وقيادته.. كافحوا ينقذون البشر من عبودية البشر. وانطلقوا يعاملون الناس بالرفق ويدعونهم إلى النجاة. واستفادوا من تراث الحضارات دون استعلاء، وسبكوه في قوالب الفلسفة العربية الإسلامية الخيرة النيرة، ليقدموه للإنسانية الضالة المعذبة، علاجًا شافيًا، ونورًا هاديًا، ودرعًا واقيًا... إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألحق المسلمين الصادقين بالعرب فقال على ما روى ابن كثير عن معاذ بن جبل: " ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان". ووضح ذلك بحديث شريف آخر رواه الحافظ بن عساكر بسنده عن مالك. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي ". بل ذهب إلى أبعد من(1/14)
ذلك فألحق أهل السابقة والجهاد من المسلمين غير العرب ببيت النبوة فقال: " سلمان منا أهل البيت، وبلال منا أهل البيت، وصهيب منا أهل البيت ". ولهذا طابت نفوس المسلمين بهذه القيادة العربية العادلة، التي لا ترى فضلاً لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والتي لا يمكن أن يدوم للإسلام حكم صحيح وشمل جامع إلا بها . ص _018
فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع القومية العربية المحكمة الشاملة، العاقلة العاملة، موضع الحياة الفعالة، والحكم العادل البناء.. وقد تأسست بذلك حضارة إنسانية فذة، جمعت في كيانها الخالد مادة الحضارات السالفة، وروح الديانات والرسالات السابقة، وصفوة الأهداف السامية والمثل العليا المتفق عليها بين الأم. كل ذلك بصدر رحب، وتطلع إيجابي، وتوليد بارع، وسع آفاق المعارف الإنسانية، وارتقى بالوجدان البشري العام، وربط الإنسان بخالقه دون وسيط،. ونفذ بروحه الشفاف إلى ما وراء الطبيعة، وحكم في مادتها يسخرها بالعلم لسعادة البشر، ووضعه في سائر تصرفاته أمام تبعاته الهائلة المقدسة وجهًا لوجه أمام الله الخلاق العظيم. وحسب ذلك من وازع رهيب ينظم العلائق بين الراعي والرعية، بين الحكام والمحكومين، بين العرب وغير العرب من إخوانهم المسلمين، بين المسلمين وسواهم من المواطنين. والتفسير الصحيح للقومية العربية يقرره الحاضر فيقول: القومية واقع تاريخي، ووجود جغرافي، وحقيقة إنسانية. فالعالم معمور بأقوام هنا وأقوام هناك، فهو مكون من شعوب وقبائل- وبلغة العصر- مكون من قوميات متعددة متميزة. يقول الله تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" ويقول جل جلاله : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ومن نواميس الطبيعة البديهية التي ترددها الأمثال السائرة أن أشبه الشيء منجذب إليه، وأن الجنس يألفه الجنس، فمن نتيجة التفاعل(1/15)
الاجتماعي، والاصطفاء والتمركز عبر العصور؛ تكونت الأقوام المختلفة، وتكونت قومياتها . ص _019
فالقومية هي إذن (الواقع التاريخي واللغوي والثقافي والجغرافي العام لقوم من الأقوام) . وأما الدين فهو رسالة وهداية تعالج الحياة، وترسم للناس سبيل الرشاد، وتتجه بهم نحو الأفضل. وقد أراد الله للقوميات التي تسير في طريقها السوي أن تتعارف- في المعنى الواسع للتعارف الذي يقتضي حسن الصلة، والنظر في خصائص كل قوم ومميزاتهم، وتبادل المنافع وإعمار الكون وتحري المصلحة العامة - حيث تتحقق التقوى- وهي إرادة الخير للناس كافة فيما يرضى الله. وهكذا نجد الصلة التي شرعها القرآن بين الأقوام، ورسم خطوطها الله- والتي تعارف العصر على دعوتها بالقومية- صلة غير عنصرية؛ لأن كل الأقوام ناس، والناس من ذكر وأنثى. وليست انعزالية لأنها ( لتعارفوا) وليست تعصبًا وأنانية لأن " أكرمكم عند الله أتقاكم " ! وفي ضوء هذا الفهم قد يكون تحديد جغرافية العالم على أساس القوميات الواعية هو الطريق الطبيعي الأفضل لسعادة الإنسانية وخيرها وإبداعها. ويكون تنافس القوميات إذ ذاك لتحقيق إنسانية أكمل، وحياة أهنأ، لا حربًا لكسب مناطق النفوذ، وسعيًا وراء استعباد قوم لقوم، واستلاب خيراتهم وثرواتهم، لتجر قومية ما ذيول الهوان والحرمان، وترفل قومية أخرى بحلل الترف والسرف، والأشر والبطر. والأخوة الإسلامية التي تجمع بين مختلف الأجناس الداخلة في الإسلام لا تخدش هذا المبدأ، فإن للقيادة في أي ميدان خصائص لابد أن تتوفر لذويها. وقيادة المسلمين من خواصها الأولى عروبة الشعور والتفكير واللغة والآراء. وقد حاول ناس من الترك والفرس وأشباههم أن يقودوا الإسلام مع بقائهم على تركيتهم وفارسيتهم، أو مع ارتداء لباس العروبة على جلدة فارسية وتركية، فكانت هذه المحاولات سبب بلبلة علمية وسياسية لا يزال الإسلام يتعثر إلى اليوم في عقابيلها. وعجز هؤلاء الأعاجم عن القيادة(1/16)
الصحيحة لا يرجع إلى دخل في إيمانهم؛ فإن حبهم للإسلام مكين، وولاءهم له ظاهر. بيد أن العاطفة الحارة لا تغني عن الفهم الحصيف والبصر النافذ . يحكى أن تركيًّا نام في فراشه على عادته كل يوم، ثم تذكر بغتة أنه وضع ص _020
المصحف في نافذة عند قدميه، فنهض مذعورًا وانتضى سيفه، ووقف إلى جوار النافذة وهو يهتف: مصحف شريف..!! لكن هذه العاطفة النبيلة تجاه المصحف لم تمكن الأتراك من غرس الإسلام على أسس صحيحة في شرق أوروبا، ولا من استبقائه صحيحًا في بلاده نفسها. - وأنت تعرف أن عمر لما فتح بيت المقدس أبى أن يصلي في كنيستها مخافة أن يتخذ المسلمون مصلاه مسجدًا. أما محمد الفاتح فعندما دخل القسطنطينية، حول كنيستها الكبرى (أيا صوفيا) إلى مسجد جامع. وقد يعتذر البعض للسلطان التركي بأن مسلكه كان على مبدإ المعاملة بالمثل. ولسنا بصدد مناقشة هذه السياسة. ولكنا نريد أن نؤكد الحقيقة التي نقررها هنا: وهي أن العرب وحدهم هم بيئة القيادة الصحيحة للمسلمين، وأن على الحكومة الإسلامية أن تحافظ على خصائص هذه البيئة، إذا أرادت أن تبقى ينابيع الإسلام صافية لا يشوبها كدر، وأن تبقى دعايته مجدية لا يعتريها عوج. الحرص على بقاء الإسلام نقي الجوهر، قريب المأخذ، مستجمعًا أسباب القبول التي أتى بها من عند الله هو السر في جعل قيادته عربية واضحة العروبة. فإن الأعجمين قد يدركون مظاهره وحدها، وقد تدق عليهم حكمة التشريع في أغلب الأحكام، فيتشددون حيث يمكن التيسير، أو يشتطون حيث ينبغي الوقوف... وقد ثار النزاع قديمًا بين بيوت عربية خالصة وبيوت مستعربة من أصول شتى، وسجل التاريخ بعضًا من أدوار هذا الصراع في تنازع بين العرب والفرس، أو في النزعات الشعوبية الأخرى، وسنفرد لذلك الموضوع فصلاً خاصًّا. ولكن الذي نسارع إلى بيان خطره، ونراه شديد اللصوق ببحثنا هذا هو انفراد الترك بقيادة العالم الإسلامي أحقابًا طوالاً، مع حرصهم الشديد على بقائهم(1/17)
كما هم ... ونحن نكره التحامل، ونرفض تجريد جنس ما من فضائله، ونحفظ للترك مواقف أحسنوا بها إلى أنفسهم ودينهم . بيد أننا نذكر آسفين أن فترة القيادة التركية للإسلام كانت وبالاً على الإسلام وأمته الكبيرة، وأن العرب والعجم والهنود والسودان في ظل هذا الحكم المغلق جمدوا ص _021
جمود الموت، وإن العلل التي أصابت المسلمين في القارات القديمة كلها، وطوت أعلامهم، ونشرت الجهالة في ربوعها وغلقت أبواب المدارس، وطوت مجالس البحث، وقضت على مظاهر العمران.. هذه العلل بدت واستفحلت في ظل الترك. ثم سقط العالم الإسلامي بقضه وقضيضه في قبضة الاستعمار نتيجة الركود التام الذي أماته ماديًّا وأدبيًّا طول هذا العهد الأشأم. ونحن- وقد وعينا تجارب الماضي- نحب أن نبني النهضة الإسلامية على دعائم عربية خالصة، وأن نتيح للأمة أداء واجبها العتيد ورسالتها الكبرى. وبذلك يستعيد العرب أمجادهم، وتتهيأ للإسلام- بهم- قيادة أحكم وأبصر. والربط بين العروبة والإسلام قضية بديهية، وللأستاذ إسماعيل مظهر كلام في هذا الرباط من الخير أن نثبته. فإن هذا الأديب بدأ صدر شبابه داعية لمذهب النشوء والارتقاء، وكانت مجلته " العصور" تخاصم الدين كله، وتصرف الشباب عنه بإلحاح. ثم شاء الله أن يعود صاحبها إلى الإسلام، وأن يتعرف على ربه تعرف الباحث اليقظ، ولم يجد الرجل عسرًا في أن يلمح الصلة بين العروبة والإسلام، فكتب يقول تحت عنوان " الإسلام والقومية العربية ": " ينبغي لكل مسلم أن يكون في دخيلة نفسه عربيًّا روحًا وعقلاً، مثله الأعلى آداب العرب وآداب الإسلام، سياسته الدنيوية سياسة العرب وسياسة الإسلام .. وإنما أقرن الكلام في العروبة بالإسلام؛ لأن الثابت الذي لا لجاج معه ولا ريب بداخله، أن القرآن حين نزل بلغة العرب، فقد نزل بأخلاقهم وصفاتهم الروحية العليا، فالعربي النصراني مسلم بصفاته العربية، والمسلم الهندي أو الفارسي عربي بما في الإسلام من روح(1/18)
العرب. ص _022
ليس في مستطاعنا أن نفصل الإسلام عن العروبة أو نفصل العروبة عن الإسلام، فإن الرابطة التي تربطهما رابطة طبيعية كالرابطة بين نظام الأجرام السماوية وقوة الجاذبية. وإنما كان الواجب علينا أن ندرك الوضع الإسلامي الصحيح من حيت إنه دين جعل من أجل الإنسان، ولم يجعل الإنسان من أجله، ومن هنا ندرك أن الإسلام أنزل لصلاح البشر جميعًا، وإنه من ناحية أنه دين فهو عقائد يتقيد بها المسلم، وأما من حيث إنه أخلاق ومعاملات؛ فهو يعم الناس أجمعين. فالمسلم ينبغي له أن يعتقد أن حريته مساوية في القيمة لحرية غيره، وأن استقلاله مساوٍ في القيمة لاستقلال غيره من غير تفرقة بين الناس على اختلاف عقائدهم ونحلهم. وأي شيء يطلب من دين أو شريعة أكثر من هذا؟ على هذه الصورة ندرك من الإسلام أنه دين تطور، ما دام من مقتضياته أن يتابع الفطرة، ويتمشى مع أرقى الأنظمة الاجتماعية، بما فيه من روح المرونة والطواعية لحاجات البشر على مختلف العصور. فالإسلام مثلاً لا يعادي الاشتراكية بل قد يدعو إليها، ويستجيب لها إذا أصبح النظام الاشتراكي صالحًا لنظام المجتمع البشري، ولكنه إلى جانب هذا يحترم حرية الفرد والكرامة الإنسانية ولا يدعو إلى حرب الطبقات، وما يجر إلى حرب الطبقات من نظريات لم يقرها إسلام ولا اعترف بها كأمر واقع. أما الأسس الإنسانية التي نطلبها للقومية العربية فأرى أنها مكفولة بمبادئ الإسلام منظورًا إليه من الزاوية التي شرحتها قبلاً، وأعتقد أنها الحق وأنها الواقع. ومع ما في الكلام من ثغرات، سببها أن القائل اهتدى إلى الإسلام آخر عمره بعد أن كان ماديًّا صرفًا فقد قبلناه على إغماض لحرصه الظاهر على ربط العروبة بالإسلام . ص _023
خصائص العروبة التي رشحتها لاحتضان الرسالة الخاتمة ص _024(1/19)
اصطفى الله العرب لأداء رسالته العظمى، وتبليغها للناس ما بقيت الحياة والأحياء، ومنحهم بهذا الاصطفاء فضلاً غير منكور. ونحن عندما نتأمل في أحوال هذه الأمة عند ترشيحها للبعثة نجدها أحق من غيرها بوراثة الكتاب الكريم والقيام على هداياته. وقد كان العرب يأنسون من أنفسهم نقاء المعدن وصفاء الطبيعة، ويرمقون غيرهم من أتباع الديانات والحضارات الأخرى، فلا يرون لديهم ما يبعث على الإعجاب أو الاحترام، أفكان هذا الشعور غرورًا لا يستند إلى واقع ؟ سنرى حقيقة ذلك في هذا الفصل من كتابنا.... والذي نؤكده الآن أن العرب كانوا يرون أنفسهم أقوم طباعًا وأنفذ أفكارًا، وأعصى على الضيم. وأنأى عن الدنية. وأقدر على عظائم الأمور ونيل الأمجاد ... وقد نوه الله - جل شأنه - بذلك الاعتداد العربي، فقال يستثير الهمم لحمل رسالته : " وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها" . وقال يوبخهم على تراخيهم في الإجابة ومكرهم بالداعية: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ، استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" . وهذه الآيات واضحة الدلالة في أن العرب كانوا يعتبرون كفتهم أرجح في ميزان المواهب والملكات من اليهود والنصارى والمجوس. أو بتعبير آخر من الروم والفرس ومن دخل في سلطانهم أو خرج عنهم . ص _025(1/20)
ويصور الجاحظ نظرة العرب إلى أنفسهم فيقول: للعرب من صدق الحس، وصواب الحدس، وجودة النظر، وصحة الرأي ما لا يعرف لغيرهم. ولهم العزم الذي لا يشبهه عزم، والصبر الذي لا يشبهه صبر. والجود والأنفة والحمية التي لا يدانيهم أحد فيها، ولا يتعلق بها رومي ولا هندي ولا فارسي. وفيهم أيضًا خصلة لا تصاب إلا فيهم. وذلك أن سفلة كل جيل، وغفلة كل صنف إذا اشتد تشاجرهم وطالت ملاحاتهم، وكثر مزاحهم، وشاعت الدعاية بينهم؛ وجدتهم يخرجون إلى ذكر الحرمات، وشتيمة الأمهات. واللفظ السيئ والسفه الفاحش. ولست بسامع من هذا حرفًا في البادية. لا في صغيرهم ولا في كبيرهم. ولا جاهلهم ولا عالمهم. وليس في الأرض صبيان في عقول الرجال غير صبيانهم. وكل شيء تقوله العرب هو سهل عليها أو كطبيعة فيها، وكل شيء تقوله العجم فهو تكلف واستكراه ".... والعرب شعب ذكي قوي، وقد استجمعوا على عهد البعثة كل الخلال التي تنجح بها رسالة عظمى. بل إن ما تتطلبه دعوة ضخمة كدعوة الإسلام لم يكن يتوفر إلا في هذه الجزيرة التي عبأتها الأقدار بشتى القوى والمواهب. ولنتحدث عن أولى هذه المرشحات. ا- الناحية النفسية: بلغت قوة الفرد مداها بين العرب، وشعر كل ساكن في هذه الصحراء أن له من العزة وتمام الشخصية ما يجعله إنسانًا يفرض نفسه على ما حوله، ويأخذ امتداده المطلق في كل ناحية. وقد جعلهم هذا الشعور أصحاب حساسية شديدة بأنفسهم. وبما عليهم من واجبات وما لهم من حقوق، وربما وصلوا في تلك العاطفة إلى حد التطرف على نحو ما قال شاعرهم : لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس؟ خالهم إياه يعنونا ص _026(1/21)
أو كما قال الآخر: إذا القوم قالوا: من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وهذه الخصلة تجعل صاحبها رجل صدق ووفاء، إذا قال كلمة وقف عندها، فلم يغلبه نسيان، ولم تزله رهبة، والدعوات تقوم أول ما تقوم على أمثال هؤلاء الرجال.. والبيئة العربية طبعت أبناءها على إلف الصعاب، وقلة المبالاة بالشدائد، ومواجهة الموت ببسالة ورضا، أو برغبة وابتسام، إنهم لا يعبدون الحياة أو يقبلونها على أي أحوالها. كلا. إما لانت لهم أو بانوا عنها. ولن يقبلوها على ضيم أو حرمان. ومما يصور هذه القدرة على استقبال الموت قول دريد : أبى الموت إلا آل صمة إنهم أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر فإنا للحم السيف غير نكيرة ونلحمه حينًا وليس بذي نكر قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر وقول الآخر: شددنا شدة فقتلت منهم ثلاثة فتية وقتلت "قينا" وشدوا شدة أخرى فجروا بأرجل مثلهم ورموا "جوينا" وكان أخي جوين ذا حفاظ وكل القتل للفتيان زينا وتعود التضحية بالنفس مؤهل للسيادة، وباب إلى امتلاك الحياة كما قيل: " اطلب الموت توهب لك الحياة " . والرسالة التي تقوم أول عهدها على كفاح الطغاة، ولقاء كيدهم وسخطهم؛ أحوج ما تكون إلى هذه الخليقة. كما كان العربي شجاعًا كان كريمًا مسماحًا. يتهيأ لمقابلة أضيافه وهو متهلل الأسارير، وطيب النفس . ص _027(1/22)
فقام أبوضيف كريم كأنه وقد جد من فرط الفكاهة مازح إلى جذم مال قد نهكنا سوامه وأعراضنا فيه بواق صحائح والكرم طبيعة عمت العرب، وشاعت في أغنيائهم وفقرائهم: نصبوا بمدرجة الطريق قدورهم يتسابقون إلى قرى الضيفان ويكاد موقدهم يجود بنفسه حب القرى حطبًا على النيران وبذل المال مع الاستعداد لبذل النفس عند أول نداء ضمان وثيق لنجاح أية نهضة. ومن خلائق العرب غيرتهم الشديدة على الأعراض، وحرصهم البالغ على صيانة الحريم، وربط ذلك بكرامة الفرد والأسرة، وذهابهم في هذا المضمار إلى حد لا تعرفه أمة أخرى. وقد بلغ الهوس بنفر منهم أن كره البنات، ووأدهن أطفالاً خشية العار، أو خشية العجز عن الارتزاق. وهذا طور من القسوة يخرج البشر إلى طور الحيوان. وكم يقسو البشر بعضهم على بعض لنفخة كاذبة حتى ينسلخوا من إهابهم ويلبسوا جلود الذئاب، من عصور مضت حتى عصرنا هذا.. على أن وأد البنات ظهر لمامًا في بعض القبائل، وبرئت منه جملتها. وجوانب النفس العربية- على الإجمال- تفيض بكثير من معاني القوة والصراحة والصرامة والأنفة، وهي خصال إذا صلح توجيهها صنعت العجائب. وذاك ما تولاه الإسلام. 2- الناحية الاجتماعية: وامتياز العرب بالصفات السالفة يزيده التماعًا خلو بيئتهم من الفساد المعقد الذي زخرت به البيئات المجاورة. فليس في هذه البيئة العربية الكهنوت الديني، ولا النظام الإقطاعي، ولا الاستبداد السياسي. مما عرفته الشعوب الأخرى، وترك في كيانها المادي عللاً جسامًا . ص _028(1/23)
نعم خلت الجزيرة من الملوك المتوجين، وكان نظامها السياسي أشبه بمجموعة من القيادات المحلية المتناثرة هنا وهناك. ولم يكن سيد القبيلة جبارًا فيها يهضم من حوله، بل كانت القبيلة تحمي كل امرئ فيها، وتضرب سياجًا منيعًا حول حرماته. ما الذي كان يحمي الدماء والأموال والأعراض في تلك الفجاج الفسيحة؟ مع العلم بأنه لم تكن ثم سلطة مرهوبة ولا قوانين مكتوبة؟ إن العصبية الهائلة التي شدت أفراد كل قبيلة بعضهم إلى بعض، وجعلت من الجماعة كيانًا متماسكًا موصول الشعور، هذه العصبية القبلية، كانت محور النظام الذي شاع في تلك الأرجاء البدائية. فالجماعة مسئولة عن الفرد، والفرد مسئول عن الجماعة. وفي الخير والشر والخطإ والصواب كانت هذه العصبيات تنطلق من مكانها متلاحمة لا يردها شيء.. وقد أتاح هذا النظام لكل أحد من القبيلة قدرًا من الأمان يحيا في ظلاله وافرًا، إذ أن العدوان عليه ليس عدوانًا على امرئ فذ، بل على قبيلة بأسرها. وامتدت هذه المنفعة من الأفراد إلى أي غريب يدخل في جوار القبيلة ويلتمس حمايتها. وإلى هذا النظام السائد يرجع ما ظفرت به دعوة الإسلام أول أمرها من محافظة وبقاء. فإن بني هاشم رفضوا أن يخلو بين النبي وبين أعدائه، وتجمع مؤمنهم وكافرهم على سواء في الدفاع عنه والوقوف دونه . ورأوا أن تسليمه لخصومه عار يلحق أهله كلهم، وإن كان فيهم من لا يؤمن برسالته ولا يستجيب لدعوته... ص _029(1/24)
وقد رأينا العباس - وهو كافر- يحدث الأنصار قبل انتقال الرسول إلى بلدهم فيقول: إن محمدًا هنا في عزوة تنافح عنه، فإذا لم يلق مثل هذه الحماية من أهل المدينة فلا معنى لخروجه... ورأينا أبا لهب، وقد نزل فيه قرآن يلعنه، يعرض على النبي أن يقوم منه مقام أبي طالب بعد وفاته، فيتولى نصرته ومؤازرته. ورأينا المطعم بن عدى- وهو مشرك- يقبل أن يدخل الرسول في جواره وهو عائد من الطائف عودة محزنة متعبة. ويخرج هو وبنوه في سلاح كامل ليقاتلوا من يحاول النيل من محمد. إن هذه النخوة الغريبة كفلت لونًا من الحرية السياسية والكرامة الفردية لم يعرف عصرئذ في أية دولة أخرى. ولو أن داعية للتوحيد ظهر في ربوع الروم، أو أقطار الفرس لأصدر كسرى أو قيصر أمرًا باعتقاله، أو ضرب عنقه فانقضى، وانقضت دعوته دون أن يسمع بها أحد. ولو أنه نال فرصة الحياة أيامًا ما استطاع أن يربى على مكث جيلاً من الرجال الذين رسا اليقين في صدورهم، وتلقوا دروسًا في التربية والتشريع. كان العالم أحوج ما يكون إليها في مستقبله البعيد. لم تعرف بطحاء مكة ولا ما حولها الكهانة الدينية التي تقترن بالنصرانية وتسير أبدًا في ركاب الكنيسة. نعم توجد قبائل قد تنصرت في الشمال والجنوب، كما أن هناك فصائل يهودية تسربت إلى جوف الصحراء، وتهود في جوارها نفر من العرب. لكن الوثنية كانت الصبغة السائدة في أرجاء الصحراء. ويمكننا القول بأن الطبيعة العربية غلبت على خلائق كثير من اليهود والمتهودين، والنصارى والمتنصرين، فلم تستطع هذه الديانات اجتذاب جمرة العرب إليها، ولا هي حيث استقرت بقيت لها نظمها الكنسية المعروفة في بلاد الروم مثلاً . ص _030(1/25)
وكانت أمية الكتابة وأمية التدين تستولي على تلك البقاع الشاسعة وتجعل قلوب أهليها وأذهانهم غفلاً. والخبراء بعلل التدين الفاسد يعلمون أن الجماهير الساذجة أو المخرفة أيسر اقتيادًا للحق من الجماهير التي اعتنقت أفكارًا فيها مزيج من حق وباطل، فإن تعصبها لما تعرف من حق يجعلها تعتذر لما ورثت من باطل، فهي قلما تتحول عنه بسهولة. إن الأرض الخالية أعون على سرعة البناء من الأرض المليئة بالأنقاض، والواقع أن تعصب اليهود لما لديهم من مواريث، وتعصب النصارى لما آل إليهم من تثاليث يجعل بدء الرسالة في غيرهم أحكم... هل يعني ذلك أن الوثنية لفظت أنفاسها دون عناء؟.. كلا، فإن عبدة الأصنام جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وانتضوا السيف ليخرسوا به الحجة، ولكن الإسلام الذي اكتسب أنصاره بالاقتناع واليقين تغلب على هذه الصعاب، واستمكن من مد رواقه على أنقاض الشرك المدبر. واشتعل هذا الكفاح أمدًا طويلاً حتى استقرت الأمور له بعد لأي... بيد أن حرب الكلام والسنان مع أولئك الوثنيين كانت أبعد عن الدس والالتواء من الحروب التي نشبت للأسف مع أهل الكتاب، سواء في الجزيرة أو ما وراءها، وكلفت الإسلام عناء شاقًّا. وكان في عرب الجزيرة الغني والفقير، شأن أي مجتمع إنساني، ولكن الصحراء الوسيعة خلت من نظام الإقطاع، وما يتبع الإقطاع من رق وهوان، وترف وانتفاخ. إن طبيعة العلائق بين السادة والأتباع في الجزيرة كانت أدنى إلى الكرامة الإنسانية من الأوضاع التي عرفت في أقطار أخرى . ومنطق العرب في هذا ما قاله الشاعر: جفاني الأمير، والمغيرة قد جفا وأمسى يزيد لي قد ازور جانبه وكلهم قد نال شبعًا لبطنه وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه ص _031(1/26)
وجو الحرية الطليق في هذه الوهاد والنجاد، أتاح لصنوف الناس مستوى من الخلق المفعم بالإباء والحمية لا نظير له في أقطار أخرى. قد يظن ظان أن ما نقلناه من شواهد التضحية والإيثار والاعتزاز، أو من معالم الكرامة الاجتماعية والسياسية؛ ليس أكثر من صور جزئية، أو أحوال محلية لبعض الأفراد والقبائل، ولا يمكن الاستدلال بها على واقع المجتمع العربي في هذه الأعصار... ونحن لا نزعم أن العرب كلهم في كرم حاتم، أو شجاعة عنترة. ولكنا نسوق الشواهد التي ذكرناها بيانًا لوجهة الأخلاق في تلك البيئة البدائية. فإن التقاليد في أمة ما تأخذ سمتها الكامل في سلوك نفر من أبنائها، وتبقى بعد ذلك مثلاً عليًّا للجماهير التي تجاهد لبلوغها، وتحب أن تعرف بها. وقد كان العرب في جملتهم من النواحي النفسية والاجتماعية على ما وصفنا من سخاء وإباء، واعتداد بالنفس والقبيلة. ومن هبط منهم عن هذا؛ عرف بسوأته تلك، وسقطت حرمته عند نفسه، وعند غيره... 3- صفاء الفطرة العربية وخلوها من التأثر بثقافات فلسفية مناهضة! قلنا إن العرب أمة أمية، لا تشيع فيها الكتابة، ولا تنتظم فوق رقعتها المدارس، على عكس ما كان شائعًا بين الروم والفرس. ومع أن أمية القراءة والتعليم غلبت على أكثر العرب؛ فإنهم امتازوا بشيء كثير من حدة الفهم، وصفاء الذهن، وإحكام التعبير، وسرعة الإدراك، مع سهولة في العيش، وبساطة في البيئة، وبعد تام عن التصنع والمراءاة.. وتلك خلائق لم تعهد في غيرهم على النحو الذي ظهرت به فيهم . ص _032(1/27)
وإنك لتجد أعرابيًّا مؤمنًا يسأل عن الله كيف عرفه؟.. فيقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير. فأرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الخبير البصير؟ وهذا منطق السجية المستنيرة، والطبع المستقيم. - وربما كان هذا الكلام أثر ظهور الإسلام، واهتداء البصائر بنهاره الساطع، لكن طبيعة العربي السهلة تتجلى فيه. وإلى هذه الطبيعة السهلة، وإلى أنها لا تألف النقائض، ولا تسيغ الالتواء الفكري، ترجح بنجاح الإسلام في حجاجه مع أولئك العرب عندما كانوا مشركين. ذلك أن القرآن جادلهم في شأن آلهتم التي أشركوها مع الله، ألها نصيب في الخلق والرزق والتدبير؟ فكانت الإجابة المسددة: لا. " قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون، فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون" ولو كان غيرهم من أصحاب الفلسفات الأخرى لكانت إجابته مليئة بالعقد والأغاليط والعجر والبجر إن فلسفة التثليث وهي ضرب من التفكير البشري غلب على ديانة عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ وجدت جماهير من الناس تسيغها، ولما كان إمرارها من الذهن العادي صعبًا؛ فقد أجريت عدة فتوق في الذهن الإنساني حتى يسمح لهذه الفلسفة بالمرور. ومع تلك الثغرات المصنوعة في الفكر، كي يقبل ما لا يعقل، فإن أصحابها اختلفوا على أنفسهم اختلافًا داميًا . كيف يتولد قديم من قديم، ويكون الاثنان واحدًا ؟ ص _033(1/28)
بل هم على ما زعموا ثلاثة قدماء! لأن وسيطًا بين الأب والابن هو الروح القدس. ثم كيف بعد ذلك تتصور العلاقة بين تلك الأقانيم المختلفة، والتي هي أولاً وآخرًا شيء واحد؟ أهي طبيعة واحدة، ومشيئة واحدة للأب والابن، أم هما مشيئتان وطبيعتان، أم طبيعة واحدة ومشيئتان؟ لقد ظهر الإسلام، والخلاف ناشب بين الرومان من ناحية، وجمهرة أهل الشام ومصر من ناحية أخرى في تلك المسائل المحيرة... أما عرب الجزيرة فكانوا بعداء عن هذه المجادلات التي لا توائم أذهانهم، ولا تصاحب أمزجتهم، ولا طاقة لهم على الخوض فيها. صحيح أن النصرانية وجدت لها بعض المعتنقين في اليمن، وأسفل الشام، ولكن هذا الاقتناع المحلي لم يتجاوز حدوده الضيقة، خصوصًا بعدما فشلت حملة أبرهة على مكة، وبادت جيوشه قبل أن تهدم البيت الحرام. على أن نصارى العرب فهموا التثليث بصورة تقارب وثنيتهم الشائعة، فتصوروا العلاقة بين أطراف الأقانيم تشبه العلاقة بين أفراد أسرة مقدسة، توصف مريم فيها بأنها أم الإله والابن، وصاحبة الإله الأكبر!. وقد نفى القرآن هذا النسب المدعي: " بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم". إن العقبات أمام التوحيد المطلق الذي دعا إليه محمد، كانت ميسورة التهشيم في الوثنية العربية، لأن طبائع العرب أسلس قيادًا للحق، وأسرع عزوفًا عن الباطل، وذلك لأن سجاياهم النفسية والعقلية لم تعوج مع الفلسفات الدينية التي التاثت بها، واستنامت لها جماهير أخرى . ص _034(1/29)
فإذا ولينا وجهنا شطر الفرس، وجدنا فلسفات دينية أخرى يستحيل أن يرتضيها العرب لأنفسهم، أو يحيوا وفق أسلوبها الشرود. كان الفارسيون، ومن خضع لهم صرعى نزعات مضطربة. فهناك " الزرادشتية " المجوسية التي اعتنقتها السلطات الحاكمة، وشاعت فلسفتها المسموخة بين كثيرين من الأعاجم. وهذه الفلسفة الدينية لا تعتمد على إيمان حق، بل ليس فيها أثارة من إيمان. وقد بلغ الانحراف في تعاليمها أن أفتى طاغيتها بأمر عجب، ذلك أنه جعل زواج الرجل بأمه أفضل من زواجه بغيرها من النساء، وجعل أولاده منها آثر وأزكى!.. ألا ترى جهالة العرب أفضل من هذه الحضارة؟.. وانتشرت "المزدكية" بين طوائف من المنحلين والصعاليك، وهي مذهب يجعل النساء والأموال شيوعًا بين الخلق، ويهدم كل الحدود التي تقوم بها المجتمعات.. ولعل هذا المذهب قريب في آثاره من الوجودية الغربية، ومن الشيوعية الشرقية، وهي مذاهب لها في عصرنا عشاق وأتباع. والعرب في جاهليتهم كانوا أنظف نفوسًا، وأنقى صحائف من أن يميلوا إلى تلك النحل الساقطة، أو يسمحوا لها بالتسرب إلى بيئتهم. إن التدين الباطل قد يعز على العلاج؛ لأن صاحبه فاسد يعد نفسه صالحًا.. ومن ثم لا يعرض نفسه على طبيب، ولا يقبل من طبيب أن يسوق له شفاء. وقد ندد الحديث بأقوام يجيئون آخر الزمان " تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقًا ولا مفصلاً "، وهذا النوع من الناس قليل الصلاحية، أو عديم الصلاحية، لتحمل رسالات الخير والنهوض بتبعاتها، وتلك كانت أحوال كثير من الشعوب التي أضلتها التعاليم الخاطئة، والفلسفات المنحرفة. أما العرب في صحرائهم؛ فإن دينهم الخرافي لم يملأ شعاب قلوبهم بالأهواء التي تطرد الحق. لقد كانت نفوسهم أشبه بثمرة لم تنضج . أما الحضارات الأخرى فكانت أشبه بثمار ضرب فيها العفن والبلى، وأمست لا مكان لها إلا بطن الثرى ... ص _035(1/30)
واختيار القدر للعرب كي يحملوا الرسالة العظمى جاء على سنن الحكمة الإلهية في اصطفاء الأفراد والشعوب. وقد أعد الله محمدًا، ليكون عميد الأنبياء، وليقدم للعالم أجمع خلاصة النصائح والشرائع التي يستطيع العيش بها آخر الدهر. وهذا الاختيار الذي تهيأت له نفس عظيمة؛ تهيأت له كذلك أمة نستطيع الحكم بأنها كانت يومئذ أجدر من غيرها بصحبة هذا الرسول والتبليغ عنه، ويمكن أن يشملها قوله جل شأنه: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " وقد يقال: المعروف أن أحوال العرب قبل البعثة دون ما وصفت. إنهم كانوا في جاهلية طامسة بينة الضلال، فكيف ينسبون إلى هذه المواهب النفسية والاجتماعية؟ ونقول: إن الدنيا كلها كانت غريقة في هذه الجاهلية الطامسة، وإن الليل الذي عم أرجاءها، جعلها كلها مسرحًا للفتن والشرور، لا فارق بين قارة وأخرى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " والسؤال الذي أجبنا عنه هو أي هاتيك الشعوب أعصى على العلاج، وأيها أدنى؟ ثم أيها ـ إذا شفى من سقامه ـ أقدر على تكاليف النهضة الإسلامية؟ أو بتعبير أصرح أقدر على أعباء الثورة الإسلامية التي يطلب إليها أن تدك عروشًا فاجرة، وأن تمحو مآثم طال عليها المدى ؟؟ السؤال الذي أجبنا عنه: أي البقاع يطلع منها النور في أعماء هذه الظلمات.. ؟ ونحن نؤكد أن العرب وحدهم كانوا أولى من الفرس والروم بهذه الرسالة الضخمة. ص _036(1/31)
الأمة العربية منذ انبثقت أشعة الإسلام من جزيرة العرب دخلت الأمة العربية في طور جديد من حياتها لم تكن قبله شيئًا مذكورًا. لكأنها كانت قبل الإسلام جنينًا يكتمل نموه على مكث في هذه الصحراء الموحشة المعزولة، حتى إذا استكمل أسباب الحياة برز خلقًا سوي المشاعر، قوي المسير ذكي الوجهة. نعم لم يكن للعرب قبل الإسلام كيان سياسي يلم شملهم. ولم تكن لهم رسالة إنسانية تشير إلى وظيفتهم العالمية. بل لم يكن لهم طابع أدبي واضح الملامح يمتازون به في المجال الدولي. ويمكننا أن نصف منزلة الأمة العربية بين أجيال الروم والفرس يومئذ، بأنها لا تزيد عن منزلة شعب كأهل "الكونغو" مثلا بالنسبة إلى "الروس " و "الأمريكان ". فلما بعث محمد بين العرب، ولما صاغ الإسلام هذه الأشتات من البشر صياغته المحكمة، بدأت الأمة العربية تظهر في التاريخ. وأخذت دائرتها تنداح قرنًا بعد قرن، وجذورها تعمق حينًا بعد حين حتى أصبحت الأمة العربية- بهذه الرسالة التي حملتها- تمثل غاية من أعرف الغايات، وعيدًا من الخلائق تموج بهم الأرض في عدة قارات. والجزيرة العربية التي كانت مهادًا للعرب، ومسرحًا لحياتهم الأولى تقع بين الخليج الفارسي شرقًا، والبحر الأحمر غربًا، والمحيط الهندي جنوبًا- حيث تمتد شواطئ اليمن، وأوائل الشام شمالاً. أما الشام نفسها- سوريا وفلسطين والأردن ولبنان-؛ فليست ضمن جزيرة العرب ... وليس بمستغرب أن يغادر ناس من سكان الجزيرة بلادهم ملتمسين رزقًا أرغد في الأودية الخصبة من حولهم، بيد أنه من المستبعد أن يكون هؤلاء النازحون نواة العمران والمدنية في مصر والعراق، فإن وادي النيل، أو بلاد النهرين لم تكن خواء ص _037(1/32)
كأرض الأمريكتين عند اكتشافها، وعندما جاء الأوروبيون بحضارتهم ونشاطهم لإحيائها.. بل الأمر على العكس، فقد كانت هذه الأقطار مجالاً لنشاط إنساني رائع، بل نستطيع الجزم بأنها كانت أرفع مستوى من الصحراء التي هاجر العرب الأقدمون منها التماس القوت والسعة.. وعندما غزا الهكسوس مصر نظر إليهم المصريون على أنهم غرباء معتدون، وما زالوا يقاومونهم حتى أجلوهم عن بلادهم. إن العروبة الحقيقية لمصر والشام والعراق وغيرها من أجزاء- الأمة العربية الآن- لم تبدأ إلا مع مسير الإسلام واستقراره، ودخول الناس أفواجًا فيه.. ولبعض المؤرخين كلام في تاريخ العرب قبل الإسلام نرى أن نتريث قليلاً لمناقشته... ذلك أن هذا البعض يرى العرب هم الجنس السامي كله. ويعدهم أصل العمران والحضارات في المناطق الفيحاء الممتدة بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي منذ أربعين قرنًا قبل الميلاد. وهو بهذا الرأي يحتسب حضارة الفراعنة والفينيقيين والأشوريين وسائر الأقوام الذين ظهروا في تلك البقاع حضارة عربية. بل يرى أن سكان تلك الأرجاء نزحوا إليها في هجرات متعاقبة من قبل الجزيرة العربية على تفصيل سيأتيك نبؤه... ولسنا نسعى إلى تصديق هذا الكلام أو تكذيبه. فنحن المصريين سواء لدينا أن يكون الفراعنة الأقدمون عربًا أو غير عرب. كما أنه سواء لدى السوريين أن يكون أجدادهم في أغوار التاريخ عربًا أو غير عرب. إن مصر وسورية جزءان من الأمة العربية الكبيرة التي تسكت في وطنها الممتد بين المحيط والخليج . ص _038(1/33)
إن هذا الوطن عربي يقينًا، فإن كان أهله عربًا بالدم الموروث أو مستعربين باللسان والشعور؛ فالأمر في نظرنا سواء.. لكن الذي نثبته هنا، ونكرره مثنى وثلاث: أن الهجرات القديمة التي حملت العرب من جزيرتهم إلى ما حولها وما بعدها- إن صحت- فالبون بعيد جدًّا بينها وبين الفتح الإسلامي الأخير. ذلك أن الهجرات الأولى كانت طلبًا للقوت، وسعيًا وراء الرزق فهي نشاط إنساني عادي تقوم به ضروب الأحياء إجابة لغرائزها. أما الانطلاقة العربية الحديثة فهي سير رسالة سماوية يحدوها نداء إلهي. ولولا هذه الرسالة لقبع العرب في دورهم ما يصنعون شيئًا. ولو أنهم تحركوا من غير هذه الرسالة الإسلامية لتلاشت زحوفهم أمام ضربات العصي من الروم والفرس. ولا نقول أمام ضربات السيوف؛ فإن أمرهم سيكون أهون من ذلك. إن الزعم بأن خروج العرب بالإسلام من صحرائهم حركة تشبه حركاتهم القديمة في ترك الصحراء الجديبة إلى الوديان الخصيبة هو زعم صبياني لا يصح أن يذكر في مجال البحث العلمي، وإن ذكره نفر من المبشرين والمستشرقين. ومع ذلك فنحن كما قلنا لا ننكر أن نكون قبائل عربية كثيرة نزحت من مضاربها في الصحراء إلى بلاد أخرى، حيث فضلت البقاء على العودة. والعرب شعب رحال، وهو أجدر بالضرب في فجاج الأرض من الإنكليز الذين استطاعوا في عصرنا هذا أن يعمروا قارة تبعد عن وطنهم ألوفًا مؤلفة من الأجيال. ولندع هذا الاستعراض النظري إلى واقع الحياة. فوطن العروبة اليوم قد وطأ الإسلام أكنافه، ووسع حدوده، وجعله يربو أضعافًا مضاعفة على الوطن الأم في صحراء الجزيرة، وجعل كل شبر فيه مسئولاً عن الرسالة التي قام بها وعاش لها. ذلك... وعنايتنا بالوطن العربي الكبير لا تنتقص ذرة من عنايتنا بالوطن الإسلامي الأكبر . ص _039(1/34)
فهذا الوطن الأعظم يضم إخوان العقيدة الذين لا يمكن أن تبلى صلاتهم بنا، ولا أن تهن روابطهم معنا. وما يتعرض له هؤلاء الإخوة من عناء، أو ينالهم من مسرة تخفق له أفئدتنا، ونشركهم في الإحساس به شركة الجسم الواحد فيما ينويه من بأساء ونعماء. إن سدنة القومية العربية بعدما أسقطوا مكانة الإسلام من القلوب، وأنزلوا رايته من ميدان الحياة العامة أشاعوا بين الناس أن العناية لا تنبغي إلا لأرض العرب وحدها وأن الاهتمام لا يتجه إلا لقضايا العروبة بين المحيط والخليج. أما آلام المسلمين في الهند وباكستان وأندونيسيا، أو جراحاتهم في الحبشة والصومال وأريتريا؛ فهذه وتلك لا تطرح على بساط البحث إلا كما تطرح- على ندرة- بعض المآسي الإنسانية العامة؛ لتتخذ فيها قرارات باردة. والقضاء على الإخاء الإسلامي، وإيحائه السياسي والاجتماعي مقصود من خلق هذه القومية العجيبة. ونحن نرفض بتاتًا هذا الشعور الكافر، ونرى كل شبر يقطنه مسلم جزءًا من دارنا وحرماتنا، ونشارك أهله حلو الحياة ومرها، ونفرح لاستقرارهم ونبتئس لانكسارهم. وقد بكى المؤمنون العرب مصاب إخوانهم في البلقاني والأندلس، كما بكينا في عصرنا هذا احتلال اليهود لفلسطين وفرنسا للجزائر . وتبدر قول أبي البقاء صالح بن شريف الرندي يذكر ضياع الأندلس: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شأن يمزق الدهر حتمًا كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان ص _040(1/35)
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان؟؟ وأين ما شاده شداد في إرم وأين ماساسه في الفرس ساسان؟؟ وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان كأنما الصعب لم يسهل له سبب يومًا ولا ملك الدنيا سليمان فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد سهلان أصابها العين في الإسلام فارتزأت حتى خلت من أقطار وبلدان فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين حيان وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أكفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان يا غافلاً وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان وماشيًا مرحًا يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان ص _041(1/36)
تلك المصيبة أنست ما تقدمها ومالها من طوال الدهر نسيان يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران وراتعين وراء النهر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتزإنسان!؟ ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان! ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم جور وطغيان بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم في ثياب الذل ألوان ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان إن عروبة الأندلس التي بقيت ثمانية قرون أتت عليها الصليبية من القواعد. ومنذ ظهر الإسلام والصليبية تستقتل في مقاومته، ولا ترى راحة ضميرها إلا في الإجهاز عليه. وقد واتتها الفرص فمحت الإسلام من الجزائر المبعثرة في البحر الأبيض المتوسط، ولم تدع فيها أثارة للعرب . ص _042(1/37)
ثم اتجهت إلى شرق أوروبا تمحو الإسلام منه كما محته من غربها، وكان سقوط "أدرنة" في حرب البلقان انكسارًا عسكريًّا آخر للإسلام في هذه القارة، تبعته مأساة أخرى تشبه مأساة الأندلس قبل خمسة قرون، وهي مأساة جعلت الشاعر أحمد شوقي يرفع عقيرته بهذا النشيج المحزون : يا أخت أندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والإسلام نزل الهلال عن السماء فليتها طويت وعم العالمين ظلام أزرى به وأزاله عن أوجه قدر يحط البدر وهو تمام جرحان تمضي الأمتان عليهما هذا يسيل وذاك لا يلتام بكما أصيب المسلمون وفيكما دفن اليراع وغيب الصمصام لم يطو مأتمها، وهذا مأتم لبسوا السواد عليك فيه وقاموا ما بين مصرعها ومصرعك انقضت فيما نحب ونكره الأيام خلت القرون كليلة وتصرمت دول الفتوح كأنها أحلام والدهر لا يألو الممالك منذرًا فإذا غفلن فما عليه كلام مقدونيا - والمسلمون- عشيرة كيف الخؤلة فيك والأعمام أترينهم هانوا. وكان بعزهم وعلوهم يتخايل الإسلام؟ إذ أنت ناب الليث. كل كتيبة طلعت عليك فريسة وطعام ما زالت الأيام حتى بدلت وتغير الساقي وحال الجام أرأيت كيف أديل من أسد الثرى وشهدت كيف أبيحت الآجام؟ زعموك هما للخلافة ناصبًا وهل الممالك راحة ومنام يقول قوم كنت أشأم موردًا وأراك سائغة عليك زحام ويراك داء الملك ناس جهالة بالملك منهم علة وسقام ص _043(1/38)
لو آثروا الإصلاح كنت لعرشهم ركنًا على هام النجوم يقام وهم يقيد بعضهم بعضًا به وقيود هذا العالم الأوهام صور العمى شتى، وأقبحها إذا نظرت بغير عيونهن الهام ولقد يقام من السيوف وليس من عثرات أخلاق الشعوب قيام * * * * صبرًا أدرنة كل ملك زائل يومًا ويبقى المالك العلام خفت الآذان فما عليك موحد يسعى، ولا الجمع الحسان تقام وخبت مساجدكن نورًا جامعًا تمشى إليه الأسد والآرام يدرجن في حرم الصلاة قواتنا بيض الإزار كأنهن حمام وعفت قبور الصالحين وفض عن حفر الخلائف جندل ورجام نبشت على قعساء عزتها كما نبشت على استعلائها الأهرام في ذمة التاريخ خمسة أشهر طالت عليك فكل يوم عام السيف عار، والوباء مسلط والسيل خوف والثلوج ركام والجوع فتاك، وفيك صحابة لو لم يجوعوا في الجهاد لصاموا ضنوا بعرضك أن يباع ويشترى عرض الحرائر ليس فيه سوام ضاق الحصار كأنما حلقاته فلك، ومقذوفاتها أجرام ورمى العدى، ورميتهم بجهنم مما يصب الله لا الأقوام بعت العدو بكل شبر مهجة وكذا يباع الملك حين يرام مازال بينك في الحصار وبينه شم الحصون ومثلهن عظام حتى حواك مقابرًا وحويته جثثا فلا غبن ولا استذمام وجهد اليهودية والصليبية اليوم في البلاد العربية والإسلامية يمثل الخطة الكبرى لدك صروح الإسلام في القارتين الكبيرتين آسيا وإفريقيا، وضرب الأمة العربية ص _044(1/39)
ضربة قاصمة تردها إلى جاهليتها الأولى، أوزاعًا من الخلق لا فكرة لهم ولا هدف، بل لا كرامة لهم ولا كيان. إن دراسة الوطن العربي في نظرنا جزء من دراسة الوطن الإسلامي. ولكنها تميزت بعنوان خاص لحكمة قد تلتمس لها. فإن الوطن العربي ليس جزءًا، أي جزء من الكيان الإسلامي الرحب. إنه مبعث الإلهام، ومصدر التوجيه ومكان القيادة. واللغة العربية هي الشائعة بين جمهرة السكان، تخالطها لهجات عامية مختلفة. والخصائص الجنسية للعرب عادية أو هم يمتازون "باعتدال القامة وتناسق السحنة. والبياض الضارب إلى السمرة، وسباطة الشعر وسواده، واتساع حدقة العين وسوادها، ثم بصفاء الذهن، واتقاد الذكاء، وسرعة الخاطر والحركة، وقوة الخيال، والقدرة على الاقتباس، والفروسية والأريحية، والصبر، والثأر والتهاب العاطفة ". ونستطيع أن نصف كثيرًا من الأمم الأوروبية والأمريكية والآسيوية والإفريقية بأوصاف جامعة لكثير من ضروب الكمال المادي والمعنوي. ومن ثم لا نستطيع الزعم بأن العرب جيل من البشر، اختصته العناية العليا بمواهب فريدة. ويوم زعم هتلر للجنس الجرماني هذه المزايا تضاحك العلماء في كل قطر. وأيقنوا أن الرجل لا يقول الحق، وإنما يهزل. إن في العالم الآن عشرات القوميات. وهذه القوميات لا تعدو أن تكون أغصانًا في شجرة الإنسانية الباسقة. يغذوها جذر واحد. وتنتشر فيها حياة مشتركة، وما يمتاز غصن على آخر إلا بما يحمله من ورق وثمر أو ما يقدمه من ظل وجنى... والعرب إذا نسبوا إلى قوميتهم لا يزيدون ولا ينقصون عن سواهم من الأمم، ولكن الميزة التي ترفع قدرهم هي ما انفردوا بتقديمه للحياة والأحياء من الإسلام وخيراته.. ص _045(1/40)
هذه الرسالة التي حملها العرب أفاءت عليهم من الأمجاد والآلاء ما لا يحصيه عدد! وهنا مبحث آخر، هل كان للعرب حضارة قبل الإسلام تنافس الحضارات الأخرى وتذكر معها في ميدان الفخر والتكريم؟ إن العروبيين يزعمون ذلك، ويقولون إن الجنس العربي قبل الإسلام له مدنية عريقة، بل هو من غير الإسلام له رسالة خالدة. والحق أن هذا كلام مستغرب، ولا يسمع المرء حين يسمعه إلا أن يحملق دهشة، ويبتسم ساخرًا! على أننا سنغالب شعور العجب والهزء، ونتأمل في أطواء هذا الكلام لنخرج خبأه. أين هي مدنية العرب قبل الإسلام! يجيب الدكتور عبد الرحمن البزاز ومن على شاكلته من القوميين: هذه حضارة لفراعنة، وقرطاجنة في إفريقيا وبابل وآشور في آسيا. وبديهي أن هذه الإجابة تتلاشى من تلقاء نفسها عند من يؤكدون أن الفراعنة وأهل قرطاجنة ليسوا عربًا، وكذلك سكان بابل وآشور. ويبقى العرب بعد ذلك بلا حضارة، إلا ما تنسبه إليهم الدعوى المجردة.. لكن الذين يطلقون كلمة عرب على الجنس السامي كله يصرون على أن هذه الفئات كلها عرب، واليهود على هذا الزعم عرب طبعًا، وبذلك يكون للجنس العربي تاريخ عريق ومجد مؤثل، ولسنا نستكثر على أمة ما أن تكون لها سابقة مدنية. بيد أننا نتساءل: كيف تكون حضارة الفراعنة مثلاً عربية! إنهم يقولون: هاجر العرب من جزيرتهم إلى وادي النيل، وأنشئوا تلك الحضارة. ونقول: أكان المصريون القدماء في مكانة الهنود الحمر، وكان العرب المهاجرون في مكانة الأوروبيين النازحين إلى أمريكا. إن المدنية الأمريكية لا تنسب بداهة إلى الهنود الذين كانوا يسكنون أمريكا قبل اكتشافها؛ لأنها من صنع الفاتحين وحدهم . ص _046(1/41)
فهل الحضارة الفرعونية عربية على هذا النحو!؟ قد يقول هؤلاء: نعم. ومن حقنا أن نتساءل: كيف تكون الجزيرة العربية الأم صفرًا من الحضارات القديمة، ويكون النازحون عنها في العصور الخالية ابتغاء الرزق رسل حضارة! إن هذا هراء وقد يركب بعضهم متن الشطط ويقول: إن الجزيرة العربية نفسها كانت منارة للعالم قبل مصر ويونان. وعندما يبلغ الكلام هذا الحد من الهذيان فالسكوت أولى. والواقع أن الصليبية الناقمة على الإسلام من وراء هذه المزاعم التافهة. فإن أعداء محمد ورسالته يريدون إيهام الأغرار بأن الإسلام لم يصنع للعرب شيئًا. لقد أتاهم وهم أصحاب حضارة لا أصحاب جاهلية، فاستفاد من تقدمهم المدني والعقلي في غزو الأمم المجاورة وفرض نفسه عليها! وليس العجب من القحة التي ترسل هذا اللغو، بل العجب أن تقوم على هذا اللغو أحزاب تريد أن تقود العرب بعد أن تفصل تاريخهم من الإسلام. أي بعد أن تفصل تاريخهم عن بدنهم الروح هكذا يصنع بنا الاستعمار، هكذا يقلب التاريخ ويشوه الحق. وإلى جانب الزعم بأن للعرب قبل الإسلام حضارة، وأن الإسلام جاء طورًا من أطوار العقلية العربية الراقية أصلاً. يوجد زعم آخر لا يقل إفكًا عن سابقه، وهو أن للعرب رسالة غير الإسلام وعندما يقول حزب البعث العربي: " أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ". يتساءل الناس : ص _047(1/42)
ما هي الرسالة الخالدة التي يحملها العرب ويقدمونها للناس؟ إن الذي يتبادر إلى أذهان الأصدقاء والخصوم جميعًا، إن هذه الرسالة ليست شيئًا آخر غير الإسلام. لكن السيد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي يقول لنا كلامًا آخر يؤكد فيه أن للعرب رسالة أخرى تقوم على فهمهم الصحيح لأنفسهم وإدراكهم الجريء لقضاياهم وتحررهم - بقواهم الخاصة - من الاحتلال الأجنبي! هذه في نظره رسالة العرب الخالدة! ومن الخطإ الظن - هكذا يفهمنا السيد ميشيل عفلق- بأن رسالة العرب الخالدة هي حضارة وقيم معينة يقوم العرب بتبليغها للأمم الأخرى عندما يبلغون مستوى القدرة والارتقاء، وخير لنا وللقراء أن ننقل كلام مؤسس البعث العربي بنصه؛ فهو كاف في تبيان مقاصده وأهدافه. قال لا فض فوه ص 159 من كتابه " في سبيل البعث " : (طالما وجه إلى أعضاء الحركة وأصدقائها السؤال: عما نعني بالرسالة الخالدة! وكنت دومًا أجيب جوابًا بسيطًا لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئًا جامدًا منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها، فكنت أجيب دومًا بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل، وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة... وهذا القبول بأن تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم . هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم هذه الجرأة في الاعتراف بها، هذا التصميم الرجولي، على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية، غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر. هذه التجربة المرة المملوءة بالكوارث، هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة)... ص _048(1/43)
الإحساس بالآفات والتصميم الرجولي للشفاء منها هو معنى الرسالة الخالدة!. ما أهون الخلود في منطق هؤلاء الناس! إن حاجة العاري إلى ثوب يكسوه، أو حاجة الجائع إلى رغيف يشبعه، حاجة الأمة المقيدة إلى الحرية التي تكسر القيود، والأمة المفرقة إلى الوحدة التي تجمع الصفوف، كل هذا لا يليق أبدًا أن يسمى رسالة خالدة. وإلا فإن الأمة ستصاب بالعطل والفراغ بعد أن تنال حريتها وتحقق وحدتها. إن كلام "ميشيل عفلق " في شرح الرسالة العربية الخالدة لا يحمل في أطوائه ذرة من منطق. إن هذا الكلام لو قاله زعيم سياسي في أنجولا أو الكونغو يصور به رغبات قومه في الحرية ورسائلهم في الكفاح؛ ما جاوز به واقع أمته المتطلعة إلى مستقبل أفضل، لكن تسمية هذا الكلام شرخًا لمعنى الرسالة الخالدة… هو الشيء الذي يستحق الضحك، والإغراق فيه إلى حد القهقهة. أي رسالة خالدة شرحها هذا الكلام. إن الشيء الوحيد الواضح في هذه السطور هو صرف الأذهان بجرأة وإصرار عن الحضارة والقيم التي تميز العرب بحملها طوال تاريخهم العريق، أي صرفها عن الإسلام. وهو يمضي في هذه اللجاجة فيقول في ص 159 تحت عنوان الرسالة الخالدة: (يحسب البعض أن الرسالة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن الحياة، وينتظرون يومًا من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة، إن الرسالة العربية الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئًا منفصلاً عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية بدأت منذ أن بدأ العرب، وبخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر، وإنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل . ص _049(1/44)
عندما بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة، ووثقوا بأن حل هذه المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة أو من دولة خارجية، وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة تتحقق على الأرض العربية). فنحن لا نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا نستطيع الآن تحقيقها. يؤسفنا أن نقول: إنه لا تحصيل لمعنى محدود وراء هذا اللف والدوران إلا إبعاد العرب عن إدراك المبادئ والقيم والأخلاق والشرائع التي احتواها الإسلام العظيم. ونقل بها الناس قاطبة - لا العرب وحدهم - من الظلمات إلى النور. إن الله قال للعرب في كتابه الكريم- بعدما شرفهم بالإسلام: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" . وهذه الجمل الواضحة تكشف للعرب عن وظيفتهم في الحياة ورسالتهم بين الناس. إن حراسة الفضائل ونشر شعارها، ومحاصرة الرذائل وطي عارها، والالتفاف حول الإيمان بالله وحده، وقمع الإلحاد والعوج، وتسخير قوى الأمة كلها لبلوغ هذه الأهداف الإنسانية، هو رسالة الأمة العربية. لكل أمة أن تطلب لنفسها الحرية، ولكن هذه ليست الرسالة الخالدة لأمة من الأمم. إنها رسالة موقوتة، أو بتعبير أصح: حاجة موقوتة وليست رسالة. الرسالة أن تحمل أمة من الأمم معنى عظيمًا فتسديه للآخرين الذين يفتقرون إليه!. إن طلب القوت أو طلب الأمن ليس رسالة خالدة أو غير خالدة. أما سوق العدالة للمظلومين والحرية للمضطهدين، واليقين والتقوى للشاكين الماجنين وتعريف البشر بربهم، بعد تحريك مواهبهم الإنسانية الخاملة، فهذه هي الرسالة الخالدة حقًّا. الرسالة التي يريد حزب البعث العربي صرف العرب عنها تحت عنوان تحريرهم وتوحيدهم!. يا عجبًا، وهل وحد العرب إلا الإسلام، وقد كانوا قبله طرائق قددًا وأشلاء بددًا ؟!! ص _050(1/45)
وهل حررهم إلا الإسلام وقد كانوا قبله أصفارًا في التاريخ وعالة على أممه الكبرى أو عبيدًا يزحمون مستعمراتها في آسيا وإفريقيا! إن الأسلوب الذي يفسر به البعثيون رسالة العرب الخالدة قد يخضع أحيانًا للطبيعة الإسلامية التي صبغت العروبة يوم قدرت لها حياة. لكنه سرعان ما ينفلت منها، ويتمرد عليها ويعود للمكابرة الممجوجة التي يخدم بها البعثيون الغرب الصليببي والشرق الشيوعي على سواء. واسمع إلى " ميشيل عفلق " يسوي بين الإسلام وبين غيره من مراحل التاريخ العربي، ثم كيف يوسوس إلى قرائه بأن الماضي العربي يمكن الخلاص من بعضه وتقويم بعضه الآخر: يقول في 77، 78: (فهذه الأمة التي أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة إفصاحًا متعددًا متنوعًا في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان، ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف. ولكن هل يستتبع تبنينا لماضي الأمة واعتبارنا أنه يؤلف وحدة حية مع حاضرها ومستقبلها أننا نوافق عليه وعلى كل ما جاء فيه، وهل حياة الأمة مسيرة بقدر خارج عن إرادتنا، وأن كل مرحلة هي نتيجة حتمية للمراحل التي سبقتها؟ إن على الأمة أن تسهم إلى حد بعيد في خلق مصيرها، فإذا انحرفت عنه وتلاشت مساهمتها في صنع قدرها؛ فإنما ذلك لمرض طارئ تجب معالجته، فهذا الماضي كان يمكن أن يكون لبعضه خلاف ما كان، ولبعضه الآخر أن يكون أقوى وأكمل مما كان!. نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا، ندرك إدراكًا عميقًا أن الأمة الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح أمامها مجال الحياة للمستقبل، وإنها الأمة التي تخدم ماضيها باستخدامها إياه لا باستسلامها له. والأمة الحية تنمو وتتكامل ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها، ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها) . ص _051(1/46)
ولا تعليق لنا على هذا الكلام إلا أن العرب يوم يؤدون رسالتهم التي اصطفتهم العناية لها؛ فسوف يجمعون المجد من أطرافه. وهذه الرسالة برغم أنف- ميشيل عفلق- هي مبادئ وقيم ومقاصد وأهداف وحضارة وتشريع، أي هي جميع المعاني التي يحاربها البعثيون عندما يتنكرون للإسلام ويرفضون وحيه ويردون عقيدته وشريعته... وفيما قرأنا- لميشيل عفلق- نموذج لهذا الرد المكابر العجيب!!. ماذا كان العرب قبل الإسلام؟ شعب من عشرات الشعوب التي تسكن هذا الكوكب الموار. ربما كانوا مثل شعب " شيلي " في أمريكا، أو شعب " كينيا " في إفريقيا، أو شعب " كمبوديا " في آسيا، أو شعب " السويد " في أوروبا. لكن العرب لما نفخ فيهم الإسلام من روحه تحولوا من شعب محدود إلى قارة بأسرها، لا بل تحولوا إلى عالم يموج بالنور والحضارة، وتجلس الشعوب في حضرته لتتلقى الدروس من وحي السماء... وشيء آخر يجب أن يعرف في أصل العروبة، أن كلمة قومية لم تجئ في مصطلحات العرب رمزًا للمعنى الذي تعرف به الآن؛ معنى الولاء للجنس، والتعلق به وحده، والتعصب على غيره. فكلمة (قوم) في اللغة تعني جنس الرجال، قال الشاعر: وما أدري ولست إخال أدرى أقوم آل حصين أم نساء وقال الله تعالى في كتابه العزيز: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن". فقوم هنا وهناك تعني الرجال وحدهم، أما إطلاقها لتدل على المصطلح السياسي ص _052(1/47)
المعاصر، فليس إطلاقًا عربيًّا؛ بل الإسلام هو الذي خلق من العرب في جزيرتهم أمة تخضع لحكم منظم، وتقوم بينهم دولة يصح أن تحسب في المجال الدولي، أما قبل الإسلام فإن العرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون هذا المصطلح في حياتهم الاجتماعية، كما أنهم لم يعرفوه في مدلولاتهم اللغوية... ومن حقنا أن نقول: إن الأمة العربية بشارتها الجديدة، واجتماعها لأول مرة في تاريخها. ثم بروزها في الصعيد العالمي، لم تولد إلا مع الإسلام. وتصور الأمة العربية بدون رسالتها العظمى كتصور قصب السكر بدون سكر. ماذا تكون عيدان القصب بعد اعتصارها وإفراغ ما فيها. هشيمًا تذروه الرياح، أو وقودًا تأكله النيران!. الرسالة التي شرفت بها العروبة ليست زعقًا بنقاوة الدم، أو وهمًا بكرامة العنصر، كلا، إنها رسالة إنسانية تجعل الأمة العربية حارسة للأخلاق والمثل العليا، أمينة على تراث السماء، وصيانة الوحي، والدفاع عن قضاياه وأحكامه، ضد المنحلين والمكذبين. وهذا معنى قوله جل شأنه: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " . أجل.. تلك هي وظيفة الأمة في العالم. مؤازرة الخير ومناصرة أهله، مكافحة الشر وقمع أسبابه، العيش في حدود الإيمان الطيب فليس في ربوعها مكان لإلحاد ولا لفسوق وعصيان... هذه هي رسالة الأمة العربية.. وتلك هي الصبغة التي ينبغي أن تسود وطنها الكبير.. إنها تتجلى: في ربط العروبة برسالتها العظمى. وفي ربط العرب بماضيهم العريق. وتمهيدًا لمستقبل أكرم، تنطلق إليه نهضتنا وهي مزودة بجميع القوى التي توصلها إلى هدفها . ص _053(1/48)
ودعمًا لمشاعر التدين، أو بعبارة أصرح، إثباتًا لملامح الإسلام في كيان نهضتنا العربية كي تتسق مع ماضيها، وتتواءم مع أحوال بنيها. كتب الأستاذ محمود تيمور يقول: لسائل أن يقول: " هل يكفي أن تكون العروبة قرابة دم كريم؟ وهل يكفي أن تكون العروبة ذكريات أمجاد عطرات؟ وهل يكفي أن تكون العروبة تاريخًا مشتركًا له في التاريخ صدى بعيد؟ وهل يكفي أن تكون العروبة وحدة فكرية لها وشائج متينة على تعاقب الأزمنة والعصور، وعلى تخالف البقاع والأصقاع؟ وهل يكفي أن تكون العروبة تيارًا حضريًّا مشهودًا له بالفضل على بني الإنسان في غابر الزمان؟ ليس يكفى هذا كله لتكوين مقومات للعروبة تتابع بها حياتها ونموها وازدهارها في المستقبل القريب أو البعيد. إن هذا كله إنما هو تاريخ يسرد، فيهز أعطاف النفس من اعتداد وإعزاز، وهو إن صلح؛ إنما يصلح لدعوة خطابية توقظ المشاعر وتبعث في أعماق الوجدان روح الإيمان. وكل هذا يجب ألا يقف عند الحد، وإنما يجب أن يكون حقيقة يدعو إليها الواقع، وأن يكون عنصرًا حاضر الأثر، موصول الفائدة، واضح الضرورة لحياة العرب في يومهم الراهن، وفي غدهم المرجو. وإلا لأصبح هذا كله هتافات نفسية عابرة، وهزات عاطفية خاطفة، فاقدة الأثر الإيجابي، والنفع العلمي، في الحاضر المشهود أو المستقبل المرموق . ولكي نبلغ الغرض من حقيقة العروبة، ومن مقوماتها علينا أن نحيي تلك الحضارة العربية المتكاملة إحياء منهجيًّا دراسيًّا في كل منحى من مناحيها، وفي كل فن من فنونها، وأن نفقه فلسفتها وأسرارها أحسن الفقه وأتمه. حتى يكون ذلك التكامل الحضاري العربي بالأمس زادًا للعروبة في اليوم وفي الغد، منه يتكون ص _054(1/49)
جانب كبير من مقوماتها العقلية والروحية معًا" ا هـ. على أن التكوين الروحي والعقلي للحضارة العربية لا يعني شيئًا أبعد من تعاليم ا لإ سلام. وعندما نحصي عناصر الزاد العلمي والخلقي ستغذى به الأجيال البعيدة. وعندما نحصي تقاليد البيئة أو مبادئ السير التي تنطلق منها القافلة الناشطة. وعندما نضع أصول الدساتير وشرائع القانون التي ستحكم الجماهير وتضبط العلاقات الخاصة والعامة.. لن نجد غير القرآن الكريم، وسنة محمد، وفقه الأصحاب، واجتهاد الأئمة، وذاك السنا الفياض من توافر القوى المؤمنة على تكريس أوقاتها ومواهبها في خدمة الإسلام وإعلاء شأنه، وهداية الخلائق به على أنه الوحي الأعلى والحق المبين.. ويستطرد الأستاذ فيقول شارحًا هذا التراث: " يذكر لنا التاريخ القريب أنه حين أريد ترجمة قانون " نابليون " ليكون قانونًا ينظم علاقات الناس في أوضاع الحكم المصري، انبرى عالم أزهري فألف كتابًا ضخمًا استخرج فيه من المذهب المالكي أحكامًا تغني عن القانون الفرنسي كله. وأن فقيهًا آخر من رجال القانون انبرى هو أيضًا فألف كتابًا استخرج فيه مثل هذه الأحكام على مذهب "أبي حنيفة". وفيما عمله كلاهما دليل على أن الفقه العربي الخالص للشريعة الدينية لم يقصر عن إدراك ما يفتقر إليه المجتمع البشري من قوانين تحكم المعاملات وتنظم العلاقات. ولعل هذا الفقه العربي الخالص أولى أن يكون لنا رائدًا ونبراسًا، فإن العقلية العربية لها معاييرها وقيمها في رسم أوضاع المجتمع، وفي بيان الحقوق والحدود. فإذا اقتبسنا منها لحياتنا الحاضرة؛ كان ذلك وحيًا فعالاً عميق الأثر، به نتجافى عن اصطناع مصادر أجنبية دخيلة، محاولين التلفيق بينها وبين عقليتنا التقليدية بأوضاعها الخاصة . والواقع أن المثالية العربية، أو ما يسمى (الإيدولوجية) تتوهج خصائصها في تلك ص _055(1/50)
التعاليم الدينية التي ضمتها مذاهب الشريعة، وسميت بالفقه وبالأصول، وما هي إلا المبادئ التي اهتدت بها الحضارة العربية في حكم المجتمع الإنساني، وعلى كل عربي اليوم أن يعرف هذه المثالية أتم المعرفة بجانب ما يعرف من مثاليات محدثة في تعاليم المدنية ونظم الاجتماع. وما ينبغي لنا نحن العرب اليوم أن ندرس مظاهر الخدمة الاجتماعية في أساليبها المستحدثة وأوضاعها الأجنبية، دون أن ندرس مع ذلك ما يقابلها من مظاهر تنطوي عليها حضارتنا العربية في العصور المواضي. فإزاء الملاجئ ودور الحضانة والكفالة في العصر الحاضر؛ كانت لنا فيما سلف أنظمة للمراحم والمبرات، توقف عليها الأوقاف المغلة، وترصد لها الأموال الطائلة، وكانت تكفل في عهدها ما تكفله أوضاع الخدمة الاجتماعية في طورها الحديث. منذ سنوات قلائل عقدت الجامعة العربية حلقة موضوعها "التكافل الاجتماعي"، واشترك في هذه الحلقة خبراء من هيئة الأمم المتحدة، فأتيح لهم أن يطلعوا على ما عرض في هذه الحلقة من أنظمة عربية مستمدة من الشريعة للتآزر بين الناس، كضروب الزكاة وأنواع النفقات. فقالوا للباحثين العرب: ما حاجتكم إلى أوضاع مستحدثة، وفي تراثكم الديني والاجتماعي هذه الأنظمة الوافية للتكافل والتضامن لو احتللتموها محل التنفيذ!، وما ينبغي لنا نحن العرب أن ندرس ألوان النشاط الرياضي العصرية دون أن نتعرف ما يناظر هذه الألوان في حياة الأمة العربية خلال الأحقاب الطوال. ولعلنا نعلم أن الفروسية والرماية والسباحة، كانت من عناصر الحياة التعليمية، وكان لها من المنزلة في زمن الفتوة ما للعلوم التجريبية والنظرية سواء بسواء، إذ أن التقويم الإنساني فيما يرى المفكر العربي إنما يتم بإعداد الجسم والعقل والروح جميعًا ". وحدتها: أمة العرب موحدة في الأرض منذ وحدت الله في السماء، وهي ما انقسمت على أنفسها إلا يوم أخلت بعهودها مع الله، وتراجعت إليها بقايا من الجاهلية الأولى. والمتأمل(1/51)
في تاريخ هذه الأمة لا يعوزه الذكاء كي يلمح أن الخط الفاصل بين العصر الإسلامي والعصر الجاهلي فاصل بين شرك وفرقة معًا، وتوحيد ووحدة معًا . ص _056
والعلماء جميعًا متفقون على أن الجزيرة العربية لم تعرف الوحدة السياسية إلا بعد أن غمرتها أضواء الإسلام. وتلك طبيعة هذا الدين الحنيف في خلقه أمة لا مكان للانقسام في صفوفها ما دامت متمسكة بأهدابه، حريصة عليه. وما صح في نطاق الجزيرة العربية على عهد النبوة صح في فجاج الوطن العربي الرحب بعدما انداحت جيوش الإسلام في أرجاء آسيا وإفريقيا. إن الوحدة التي سادت هذه الربوع من المحيط إلى المحيط بلغت من العمق والشمول حدًّا يثير العجب . لو أن إنسانًا راقب هذه الأمة عند انفلاق الفجر لرأى أفرادها زرافات ووحدانًا منطلقين إلى المساجد، ولسمع هدير المؤذن "الله أكبر الله أكبر" من المنارات السامقة المبعثرة في العواصم والقرى من المحيط إلى المحيط.. هذا المنظر الساحر المتكرر منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا على أجزاء اليوم لا يختلف مكان عن مكان ولا جيل عن جيل.. إن هذه الوحدة التي سكبها الإسلام في ضمائر المؤمنين جعلتهم في شئونهم كلها إحساسًا جامعًا وفكرة مشتركة، وسترى عناصر هذه الوحدة التي يصدق فيها قول الحق: " إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون " شهدت أقطار الوطن العربي في أغلب تاريخها حكومة واحدة. وربما وقعت أحداث عكرت هذه الوحدة السياسية، ولكن العرب كانوا يرون هذه الأحداث أعراضًا موقوتة، أو سحائب صيف توشك أن تنقشع. ولم يعرف العرب مذ ولدت دولتهم الكبرى نكرًا كالذي حدث لوحدتهم السياسية في هذا العصر . ص _057(1/52)
فقد اتفقت مآرب الاستعمار الغربي مع شهوات نفر من طلاب الرياسات فقسموا هذه الأمة الواحدة إلى أجزاء منفصلة سياسيًّا تبلغ بضع عشرة حكومة! ولو استطاعوا أيضًا لجعلوها بضعة وعشرين أو بضعًا وثلاثين. فإذا لم تكن الحكومة المفتعلة تملك الموارد المالية التي تقيم كيانها المحدود تصدقوا عليها بأعطية تقيمها، وتجعلها دولة مستقلة ذات سيادة!! ولن تصلح الأمور أبدًا بهذا العوج المتعمد. فإن طبيعة الأمة الواحدة تأبى ذلك التمزيق، وطبيعة الرسالة الضخمة التي تحملها تأبى ذلك التمزيق. وعصرنا هذا ليس عصر الدول الصغرى، بل الدويلات المصغرة. ففي أيام ملكت الشيوعية فيها أرضًا أكبر من أرض الوطن العربي ووحدات سياسية كثيفة تجعل من الصين وعدد سكانها الرهيب دولة واحدة، ومن روسيا وعدد سكانها الضخم دولة واحدة، في هذه الأيام يصح تقطيع أوصال أمة واحدة، وجعل المليون عربي دولة واحدة، والمليونين دولة أخرى، وإقامة حوائل سميكة بين هذه وتلك، وبين هاتين وسائر الأجزاء حتى لا تتجمع في نطاق واحد. إن الخلافة الإسلامية فرضت حكومة مركزية واحدة لهذا الوطن الكبير. وعند التأمل نجد أن الدفاع العسكري عن أي جزء من هذا الوطن لا يصلح ولا ينجح إلا إذا عاونته بقية الأجزاء. فنجدة الجزائر تنبع من وادي النيل والفرات، ونجدة فلسطين تجيئها من أقصى ا لجنوب والغرب. وما استمكن الأعداء من تثبيت أقدامهم في قطر من أقطار العروبة إلا إذا كان هناك من الانقسام السياسي ما يتيح للغزاة أن يبطشوا وعليهم درع من خيانة الخائنين وتفريق المفرقين. ونحن ننظر إلى نظام الخلافة من خلال الدعايات الشائبة التي روجها ذوو الأغراض، أو من خلال الأحوال السيئة التي حفت به أيام اعتلاله . ص _058(1/53)
وهي دعايات ضخمت الهبات وأخفت الحسنات. وينبغي ألا ننسى لهذه الخلافة المظلومة أنها: (1) حالت دون افتعال عشرات الإمارات والدويلات المستقلة في هذه الأمة الواحدة، وتلك الإمارات والدويلات التي تحيا دائمًا على استنزاف الشعوب وخيانة مصالحها ومعاونة الأجنبي ومساندة أطماعه. (ب) قوت شعور الإخاء والتناصر بين أهل هذا الوطن الواحد على اختلاف الدار وبعد الشقة، وجعلت العربي في حضرموت مسئولاً عن نصرة أخيه في السنغال. (ج) جعلت ولاء الأفراد للدولة صادرًا عن ضمير ديني مخلص، فكان العربي مع طاعته لله، يطيع التعليمات والأوامر التي تكلفه السلطات بها ويتجاوز عن الأخطاء التي تقع حرصًا على مصلحة الجماعة العليا. أصحيح أن نظام الخلافة استنفد ما يرجى منه؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا أن نعرف أولاً: هل الهجوم الذي تعرضت له العروبة في الأعصار الأخيرة خلا من الأحقاد الدينية، واقتصر فقط على المطامع الدنيوية؟ فإذا تبين أنه استعمار تتواصى زبانيته بإكنان الغل على رسالتنا وتتعاون سرًّا وجهرًا على انتهابنا وإيذائنا؛ فإن توحيد الأمة العربية حول خلافة دينية حديثة أمر تفرضه ضرورات الدفاع المقدس، كما تفرضه نصوص الإسلام... الوحدة التشريعية : ظلت الأمة العربية قرابة ألف سنة والإسلام مصدر قوانينها في شئون الأسرة والمجتمع، وفي شئون الدماء والأعراض والأموال. وإذا كان هذا التشريع لم يفرغ في مواد محددة، كما هو الواقع الآن؛ فإن مصادر هذا القانون كانت بثباتها وقداستها توصي بأحكام واحدة في طول البلاد وعرضها، وتجعل الخاصة والعامة يعرفون ما توصى به الشريعة في أغلب ما يعالجون من أحوال الحياة... والقرآن واحد، يهدر القراء بآياته في القرى والمدن، ولا تختلف ألفاظه في حاضرة ولا بادية . ص _059(1/54)
وسنة النبي في كتبها المعروفة يتداولها النساخون والطباعون، ويتدارسها العلماء في المساجد والمدارس. ومذاهب الفقهاء المشهورين، تتألف لها الحلق وتستفيض فيها البحوث. وقد تعجب إذا علمت أن كتابًا فيه خلاصة لفقه الإمام مالك يكاد يكون المرجع الفقهي للمغاربة!! إن وحدة الفكر التشريعي في هذه الأمة على كر القرون شيء يستثير الدهشة. ومنذ أربعة عشر قرنًا والكبار والصغار يحفظون أن أدلة الأحكام هي الكتاب والسنة والقياس والإجماع.. وقطاع واحد من تراثنا التشريعي يرجع بما أثر عن الرومان واللاتين وغيرهم من تشريع، بل يرجح كل ما استحدثه هذا العصر من مبادئ ونظريات. وهذا كلام لا يرسل على عواهنه، فإن التشريع عندنا سماوي الأصول، جاء من لدن حكيم خبير، فعنصر الحق موفور في هذا التشريع ابتداء: " ومن أصدق من الله حديثا" ثم إنه نقي الأهداف، ينفي الخبث عن الفرد والجماعة، ويشد أزر المثل العليا حين يقمع طبائع الأثرة، والفسوق والعدوان، فهو ليس فقط تنظيمًا لأعمال جماعة ما، بل هو تزكية لها، وارتفاع بمستواها. " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما" ولن ترقب أبدًا نتائج أفضل، ولا عواقب أشرف من تحكيم الله فيما يشجر بين الناس. إن هذا التحكيم أصون للمصالح من غيره، وأحسم للشرور والمتاعب "ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" وقد ازدهر الفقه دهرًا طويلاً في بلادنا، ورست عليه دعائم الوحدة التشريعية . ص _060(1/55)
ثم ركدت ريحه وقل أهله، وضعف أمره. فلما سقط العرب والمسلمون فرائس للغزو الغربي؛ شاعت في أرجاء الأمة المحروبة ألوان من التشريع مبتوتة الصلة بطبيعة العرب، وتعاليم الإسلام. بعضها لا تيني، وبعضها سكسوني، وبعضها لا يعرف له أصل. ومع غرابة هذا القانون عن أمتنا وبيئتنا، فإنه كثيرًا ما يحيد عن الحق، ويعجز عن الكمال، ويقصر عن رعاية الصالح الخاص والعام. ولن نبقى عربًا، بل لن نكون عربًا إذا ارتضينا زوال تشريعنا الأصيل، واستقرار هذا التشريع الوافد مع الغزو الأجنبي. إن هذا التشريع يستهدف إرخاص الأعراض والدماء، وابتذال الحرمات والحقوق... وهو- بهذا الطابع- يناقض طباع العرب الذين يغالون بالأعراض، ويبذلون دونها الدماء. ويغالون بحق الحياة، ويجعلون الثأر دينًا لهم إذا لم تسعفهم السلطات بإقرار القصاص. وقانون- تلك خصائصه- إنما وضع ليقتل الشخصية العربية، ويفقد هذه البيئة أعرق ما ورثت، ولذلك يستحيل أن تتم الوحدة العربية في ظلال تلك القوانين المجتلبة السيئة. ويجب أن أنقل كلامًا حسنًا في المقارنة بين الشريعة والقانون لرجل من أعلام القضاء، عاش ردحًا من الزمن يعالج تطبيق هذه القوانين الفرنسية في أمتنا العربية، فكتب بحثًا جليلاً عن " نهج الشريعة والقانون في تطبيق الأحكام " ، قال في صدره- واصفًا بعض مواد القانون الحالي-: إن المشرع الذي وضع أحكامها كان فاجرًا؛ فقد نقل بغير تبصر عن التشريع الفرنسي أحكامًا لا تساير البيئة التي نعيش فيها ولا تتفق مع تقاليد بلادنا . فعنده مثلاً، أن الاعتداء على العرض عمل مباح متى جاوزت المرأة الثامنة ص _061(1/56)
عشرة، وكانت المواقعة برضاها، ولا تثريب عليها لو ظهرت بين الناس تحمل ثمرة الفاحشة في أحشائها، أو حملت وليدها من سفاح بين يديها. ولا سلطان لولى هذه المرأة عليها، مع أنها تعتبر من وجهة نظر المال قاصرة لا تملك التصرف فيه إلا بعد بلوغها الحادية والعشرين. ومعنى هذا، أن المال في نظر القانون أغلى من العرض، إذ حرص الشارع على حمايته وفرض الرقابة عليه حتى يبلغ صاحبه سن الرشد، بخلاف العرض الذي أباح لصاحبه أن يفرط فيه ابتداء من سن الثامنة عشرة. وقد اتخذت هذه الظاهرة أساسًا لهذا البحث، وأول ما يسترعي النظر عند إجراء المقارنة بين الشريعة والقانون هو طريقة كل منهما في تقرير الأحكام. فالشريعة الإسلامية سلكت طريقة تعرضت بها لجميع أفعال الإنسان ما ظهر منها وما بطن، وانتهت بطريقها هذه إلى تقرير حكم لكل فعل... أما القانون فقد تعرض إلى بعض أفعال الإنسان الظاهرة دون أفعاله الباطنة ودون باقي أفعاله الظاهرة، وفي دائرة العقوبات فرض عقوبات لأفعال معينة، اختارها على هواه لأنها- كما يرى- هي التي تخل بكيان المجتمع وأمنه. ولهذا كانت الشريعة الإسلامية منذ النظرة الأولى أوسع من القانون نطاقًا، وأقدر على ملائمة الزمن ومسايرة التطور. قال: "وسأتكلم بقدر ما يسمح به الوقت ". أولاً: في تعريف الشريعة الإسلامية للناحية الباطنة من تصرفات الإنسان، أو بعبارة أخرى العنصر الروحي في تقدير الأحكام. وثانيًا: في حصر دائرة الأفعال المحرمة في القانون ومسلك الشريعة الإسلامية في هذا الخصوص. أولاً: العنصر الروحي في الأحكام: لا يعني القانون كما أسلفنا إلا بالظاهر من الأفعال؛ أما الشرع الإسلامي فهو يهدف من أحكامه إلى تحقيق غرضين : ص _062(1/57)
أحدهما: يدور حول صلة الإنسان بالخالق، وثانيهما: حول صلة الإنسان بالمخلوق، فهو إذن قائم على أساس يجمع بين مصلحتي الدين والدنيا على سواء، لا في العبادات فقط، ولكن في المعاملات أيضًا، فتراه جعل لكل عمل حكمين: (1) حكمًا مرجعه إلى صلة الإنسان بالمخلوق، وهذا الحكم مستمد من الظاهر. (ب) وحكمًا مرجعه إلى صلة الإنسان بالخالق، هذا الحكم مستمد من الباطن. فالبيع مثلاً ناحيته الظاهرية هي نقل الملكية في المبيع والثمن ووصف العقد تبعًا لظروفه، بأنه نافذ أو موقوف أو فاسد. وناحيته الباطنية ترجع إلى قصد المتعاقدين، فيوصف بأنه مباح أو مندوب أو واجب أو حرام، فإذا كان البيع مثلاً لحاجة البائع إلى الثمن كان مباحًا، وإذا كان لاستثمار المال كان مندوبًا، وإذا كان لدفع مخمصة كان واجبًا، وإذا كان وسيلة لأكل الربا كان حرامًا، وهذا يستتبع فساد العقد عند بعض الفقهاء دون بعضهم الآخر. على أنه مع ترجيح وجهة نظر القائلين بأن الحرمة لا ينبني عليها الفساد، وإنما تكون المؤاخذة عليها عند الحساب يوم القيامة، فإن التشريع بهذه الوسيلة وهذا الأسلوب يعمل على خلق مجتمع صالح، وذلك بوضع تربية الروح وتهذيب النفس في الاعتبار، فينبني على ذلك بطبيعة الحال صلاح أعمال الأفراد؛ لأن النفس الخيرة لا تفعل إلا خيرًا، والنفس الشريرة لا يصدر عنها إلا الشر، ومتى صلحت نفس الفرد صلح عمله، ومتى صلحت أعمال الأفراد صلح المجتمع الذي يعيشون فيه. إذ من ذا الذي لا تنصلح أفعاله متى صلحت نفسه؟ وأي مجتمع لا ينصلح شأنه متى صلحت نفوس أفراده؟ ونهج التشريع الإسلامي في تقرير أحكامه على هذه الصورة هو بحق النهج المثالي لحماية المجتمع من أي تصرف يهدد كيانه. لأن تقرير الأحكام على الصورة المتقدمة أمر له أثره البالغ من ناحيتين أساسيتين: الأولى: ناحية وضع الأحكام بمعرفة الحاكم. الثانية: ناحية تنفيذها بمعرفة المحكوم . ص _063(1/58)
فمن ناحية وضعها، لاشك أن الحاكم في بحثه عن الحكم والتماسه في الأصول سيعمل جاهدًا على معرفة ما يريده الله، فتأتي أحكامه من هذه الوجهة عادلة وغير مشوبة، فلن يضع حكمًا كالذي سلف بيانه يجعل فيه هتك الأعراض في بعض الأحوال عملاً مباحًا. أما من ناحية التنفيذ بمعرفة الأفراد فإنه لا ريب أن كثرة عظمى من الناس سيقبلون على تنفيذها بما يحقق رضا الله، يبتغون من وراء طاعته فضله ورضوانه. وهذا المعنى بذاته كفيل بأن يدفع الناس إلى الخير، ويكف أيديهم عن الأذى والشر، ويمنعهم من الاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل. ذلك أن الأحكام ستكون مؤيدة بوجدانهم ومتصلة بضمائرهم، فيخضعون لها عن عقيدة وحب لا عن رهبة وخوف. أو في الأدنى سيخضعون لها ابتغاء الثواب أو خوفًا من العقاب يوم الحساب. وستكون النتيجة الحتمية لذلك قلة عدد الجرائم والمنازعات، فيطمئن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وتنعدم الشكوى إلى الحكام أو تقل، ويتناقص عدد القضايا أمام المحاكم، ويعيش الناس في راحة وأمان وهدوء واطمئنان. وعلماء القانون لم تخل أبحاثهم من التعرض لقواعد الأخلاق وإجراء المقارنات بين ما تتضمنه هذه القواعد وما أتت به أحكام القانون، فتراهم مثلاً يبحثون في الصلة بين القانون الجنائي والقانون الأخلاقي، ويقولون: بأن كلا القانونين يهدف في النهاية إلى إسعاد الفرد والجماعة عن طريق فرض أوامر ونواه يلتزم بها الناس، ولكنهم سرعان ما تصدمهم الحقيقة الصارخة وهي انعدام التطابق بين القانونين، وانحصار كل منهما في دائرته الخاصة، وإن تقاطعت الدائرتان في حيز مشترك. فمثلاً: (1) لا يعاقب القانون، كما أسلفنا على هتك العرض متى تجاوز المجني عليه الثامنة عشرة، وكان الفعل برضاه (المادة 269 من قانون العقوبات). (2) ويقضي القانون بعدم جواز محاكمة أحد الزوجين إذا زنى ما لم يتقدم الزوج الآخر بشكوى يطلب المحاكمة (المواد 273، 277 من قانون العقوبات، 3(1/59)
من قانون الإجراءات الجنائية) . ص _064
(3) ويقضي بأن للزوجة التي زنا زوجها في منزل الزوجية الحق في أن تزني مع غيره ولا تثريب عليها إن فعلت ذلك، إذ تكون قد أتت عملاً يقره القانون (المادة 273 من قانون العقوبات). (4) ويعطي القانون كذلك للزوج الحق في أن يعفو عن زوجته الزانية حتى بعد دخول السجن، فيطلق سراحها منه متى ارتضى معاشرتها (المادة 274 من قانون العقوبات). (5) ويقضي بعدم العقاب على الخاطف إذا تزوج بمن خطفها، وقد يكون الخاطف غير كفء لها (المادة 291 من قانون العقوبات)، (6) ومن أحكامه أنه لا يعاقب على الشروع في الإجهاض (المادة 264 من قانون العقوبات). (7) ولا يعاقب على الشروع في أية جنحة إلا بنص (المادة 47 من قانون العقوبات). وخرج عنده من حيز العقاب المشروع في جنح الاعتداء على النفس بالجرح ومراودة المرأة على العرض، وغير ذلك مما تأباه قواعد الأخلاق، وتشمئز منه النفوس الكريمة، فلم يكن للمشرع حد يلتزمه، ولا نطاق يعمل في دائرته، ولا رقيب يخشى من حسابه؛ فوضع الأحكام على هواه، حتى أنها اختلفت في المسألة الواحدة تبعًا لما إذا كان المجني عليه رجلاً أو امرأة ؛ فالزوج إذا استفزته زوجته وزنت مع غيره وقتلها حال التلبس هي ومن معها؛ عوقب بالحبس بدلاً من العقوبة المقررة لجريمة القتل العمد (المادة 237 من قانون العقوبات). أما إذا كان الزاني هو الزوج فلم يعترف القانون بهذا العذر للزوجة. كذلك لم يعترف به للوالد ولا للأخ ولا للولد، بل افترض في هؤلاء برودة الدم، وطلبت منهم أن يغمضوا العين على ما يرون من منكر (وأن يقفوا مكتوفي الأيدي على مسرح جريمة الاعتداء على عرضهم المغتصب وشرفهم المسلوب)، وحتى في العذر بالنسبة للزوج؛ فلم يجعل القانون من قيام حالة التلبس بالزنا ما يبيح القتل، بل جعل منه عذرًا قانونيًّا مخففًا تحل به عقوبة الحبس محل الأشغال الشاقة . ص _0 ص(1/60)
ومعنى ذلك أن الزوجة ومن يزني بها يكونان أمام زوج مقدم على ارتكاب جريمة ضدهما؛ فيحل لهما دفعه بالقتل، أي يعجلان به خوفًا على نفوسهما. ومن ثم إذا كانت الزوجة أو الزاني بها أسرع في قتل الزوج الذي شرع في قتلهما وقضيا عليه أفلتا من كل عقاب. من عقوبة الزنا لأنها سقطت بموت الزوج!! ومن عقوبة القتل لأنهما كانا في حالة دفاع شرعي عن النفس ". الوحدة الأدبية والثقافية: لم تلبث اللغة العربية وقتًا طويلاً حتى تجاوزت حدود الصحراء، وشرعت تمتد مع الإسلام، وتقتعد مكانة اللغات التي ولى عنها السلطان، وقلت إليها الحاجة. فتلاشت اللغة اليونانية والرومانية والقبطية والفارسية، وانتشرت اللغة العربية في أرجاء الوطن الجديد، ثم انفردت- بعد- بالبقاء. وفضل الإسلام على اللغة العربية ظاهر؛ فإن إقبال الناس عليه حبب إليهم لغة الوحي، وأغراهم بإجادتها. ثم إن انهزام المحتلين الأقدمين حل بلغتهم نفسها. فما جدوى تعلم لغة الروم بعدما طردوا من إفريقيا وآسيا؟ ذلك إلى أن اللغة العربية متى رشحتها الأقدار كي تكون لغة الوحي الإلهي الأخير أجدر بالحفاوة وأحق بالخلود من غيرها. ومن ثم سادت هذه اللغة وعزت، ولم تقف أمامها عقبة، فأضحت لغة التخاطب والتأليف والشعر، والمكاتبات الرسمية والشعبية. وما كان المغربي المسافر من "صنهاجة " إلى "عمان " مارًّا بالمغرب والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والمدينة إلى شاطئ الخليج ؛ ما كان يحتاج إلى ترجمان يصله بالناس. فكأنه يمر بعشيرته الأقربين. ومع سيادة اللغة العربية أقبل عليها أهل الأديان الأخرى على ما ألفوا من لغات . ص _066(1/61)
وحقيق بالذكر أن موسيقى الشعر العربي انتقلت إلى بعض اللغات الشرقية التي أصبحت مكانتها ثانوية، كما أن الحروف العربية أصبحت أداة الكتابة للفارسية والأوربية والتركية والأندونيسية.... إن الإسلام أضفى على اللغة العربية قداسة جعلت الحفاظ عليها دينًا، وضبط قواعدها عبادة؛ ولذلك تجاوزت علوم الشريعة وعلوم اللغة في كل دراسة إسلامية، وكان الأعاجم ينافسون العرب- وربما سبقوهم- في هذه الدراسات معتقدين أن المرتبة الدينية لأي مسلم إنما تقررها براعته في هذا الميدان. ولا يزال الجامع الأزهر دليل صدق على هذه الحقيقة، وينبغي ألا ننسى جنسية بانيه الأول، فهو مسلم من صقلية! والحركة الفكرية التي انتشرت في ربوع هذا الوطن الرحب ترجع إلى أصلين: (1) ما أنشأه الإسلام إنشاء من علوم خاصة به أو بلغته كعلوم التفسير والسنة والفقه والعقيدة والأخلاق، وعلوم النحو والصرف والأدب والبلاغة. وقد نهضت بهذه العلوم مدارس لا حصر لها، لا يكاد يخلو منها بلد ذو شأن، وذاك عدا الجامعات التي قامت في المساجد الكبرى أو انفردت لها معاهد خاصة. والمسلمون يقبلون على هذا اللون من المعرفة بوصفه مصدر توجيههم الديني. ولذلك يجلسون له في ساحات المساجد كما يسجدون لربهم في المحاريب. (2) علوم الحياة التي تفتق عنها العقل الإسلامي، بعد ما صحح الإسلام نظرته إلى الكون، وبعثه على التأمل فيه، واكتناه آياته، واستغلال خيراته، وقد أقبل العرب على هذا النوع من العلوم، ودعاهم هذا الإقبال إلى استحياء التراث الفكري القديم كله، وإلى استعراضه بدقة وشغف... وقد ارتفعت الحياة العقلية عند العرب في جميع الاتجاهات الإنسانية، وظهر ذلك جليًّا في حضارتهم التي سنتحدث عنها، وهي حضارة يحاول الجاحدون- تأثرًا بأحقاد صليبية- أن يطمسوا سناها، ولكن الحق أغلب . ص _067(1/62)
شاعت هذه النهضة الأدبية والثقافية في شتى الأمصار والأعصار، وتعاون العرب والمسلمون على رعايتها وحمايتها، حتى أتى على الدنيا زمان لم تعرف فيها علمًا ولا فنًّا إلا في حواضر هذه الأمة الحفية بالعلم والفن. فكانت أجناس البشر تفد من كل فج لتتتلمذ على الذكاء العربي، وتعود منه بقبس إلى بلادها تنتفع به وترتفع... ثم عثرت الجدود بهذه النهضة، وجيء بالأسفار التي أفنى العلماء قواهم وأبصارهم في تأليفها، فرمى بالألوف المؤلفة منها في الأنهار والبحار وقضت تلك المجامع على أيدي التتار شرقًا والصليبية غربًا. ودام الصراع بين العلم والجهل قرونًا لم تكن الغلبة فيها للخير؛ فخرج العرب والمسلمون من القرون الثلاثة الأخيرة، وهم من الناحية العلمية ضعاف عجاف، ذبلت علوم الدين واضمحلت الحياة، وتبلبلت اللغة الفصحى. والوحدة العربية المنشودة يجب أن تعود سيرتها الأولى في المجال الأدبي والثقافي متأثرة خطى الأوائل في الدرس والتحصيل، معطية علوم الدين والحياة ما تستحقه من نظر ذكي وبصر قوي... وقد أصيبت اللغة العربية بجراحات وعلل تتقاضانا السرعة في مداواتها، والقدرة على تخليصها من العقابيل التي اعترتها سواء من تفريط أصحابها أو من كيد عداتها. إن دراسة كثير من العلوم المهمة لا تزال باللغات الأوروبية، والضعف النفسي الذي رمانا به الاستعمار جعل ألوفًا من المتعلمين يضيقون بلغتهم ويعجزون عن إجادتها. ثم وفدت الحضارة الحديثة بأشياء لا حصر لها في ميادين الصناعة وشئون الحياة لم نضع لها بعد الأسماء العربية التي تعرف بها. والتخلف في هذا المضمار شر وبيل، وأسوأ منه أن يعود العجزة على لغتهم بالاتهام والريبة. ومؤامرات الاستعمار لإسقاط منزلة اللغة العربية أصابتها بالكثير وتتهددها بالكثير . ص _068(1/63)
والغرض من إماتة هذه اللغة إفناء العروبة والإسلام جميعًا.. وقد تعددت صور هذا الهجوم في نصف القرن الأخير. فتارة تسفر عن نيتها، وتطلب تفضيل اللغة العامية على الفصحى في الكتابة والخطابة والإذاعة، ثم تلتزم هذه العامية في الحوار الروائي دائمًا. وتارة تنوه بحروف الهجاء، وطرق الكتابة العربية، وتطلب: إما تعديلها، وإما استبدال الحروف اللاتينية بها. وتارة تسخر من الشعر العربي، وتحط من قدره ومعانيه، وتتهكم ببحوره المنغومة الرائقة، وتؤثر عليها ما يسمى " بالشعر المرسل ". والشعر المرسل هذا ضرب من الهذيان لا يروج عند أديب يحترم نفسه. ولعل من أسمج ما يقرع الآذان، أن ترى امرءًا يقول للآخر " ميرسي " بدل " شكرًا "! أو " أوريفوار " بدل " إلى الملتقى ". وفي الوقت الذي تحاول بعض الشعوب إحياء لغاتها الميتة ترى أولئك السفهاء موكلين بإماتة لغتهم الحية. أي مخزاة تلك؟ وأي انحلال؟ ويوجد مجمع للغة العربية يسمونه مجمع الخالدين، وأحرى به أن يسمى مجمع الهامدين، فهو لم يسد للغتنا العظيمة جميلاً يذكر. والأغرب من ذلك أنه يضم إلى هذا المجمع أعضاء لا يخفى حقدهم على العروبة وجهلهم بلغتها. وفي هؤلاء وأولئك يقول حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية . رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالاً وأكفاء وأدت بناتي ص _069(1/64)
وسعت كتاب الله لفظًا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات؟ أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟ فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ومنكم وإن عز الدواء أساتي فلا تكلوني للزمان فإنني أخاف عليكم أن تحين وفاتي أرى لرجال الغرب عزًّا ومنعة وكم عز أقوام بعز لغات أتوا أهلهم بالمعجزات تفننًا فياليتكم تأتون بالكلمات أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوأدي في ربيع حياتي ولو تزجرون الطير يومًا علمتم بما تحته من عثرة وشتات سقى الله في بطن الجزيرة أعظما يعز عليها أن تلين قناتي حفظن ودادي في البلى وحفظته لهن بقلب دائم الحسرات وفاخرت أهل الشرق والغرب مطرق حياء بتلك الأعظم النخرات أرى كل يوم بالجرائد مزلقًا من القبر يدنيني بغير أناة وأسمع للكتاب في مصر ضجة فأعلم أن الصائحين نعاتي أيهجرني قومي- عفا الله عنهم- إلى لغة لم تتصل برواة؟ سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فرات فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات إلى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائي بعد بسط شكاتي فإما حياة تبعث الميت في البلى وتنبت في تلك الرموس رفاتي وإما ممات لا قيامة بعده ممات لعمري لم يقس بممات دار الإسلام: أدى الأسلاف ما عليهم من واجب في نشر الإسلام، فدخلت فيه أمم شتى، وصدق الله وعده للمجاهدين، فاستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ص _070(1/65)
وقامت للإسلام دولة عزيزة الجانب، واضحة الدعوة، مأنوسة الرسالة، يدرك الأدنى والأقصى ما تريده وما تقوم عليه. وفي الماضي كان السائحون في أنحاء الاتحاد "السوفيتي" مثلاً يرون تطبيقًا عمليًّا للنظام الشيوعي القائم على ملكية الدولة للأرض ووسائل الإنتاج. وإذا كان السائحون في الولايات المتحدة مثلاً يرون تطبيقًا عمليًّا لحرية الفرد في التملك والتكسب والاعتقاد. فإن أرجاء الدولة الإسلامية الأولى كانت مظهرًا للإسلام من حيث أنه عقيدة ونظام، ويستطيع أي جوال في جنباتها أن يلمح شارات دولة تنهض على رسالة بارزة، وتستمد مكانتها ووجاهتها في الداخل والخارج من تمسكها بهذه الرسالة وإنفاذها لأحكامها، وسهرها على رعاياها، ودفاعها عن حوزتها، والتحدث باسمها في المجالات العالمية، والمؤتمرات الدولية.. والخلافة الإسلامية ورثت النبوة في هذه الوظيفة، وظيفة سياسة الجماهير وفق شرائع الإسلام والنظر في مصالحهم الدنيوية والأخروية في نطاق مقررات هذا الدين، وقد بقيت الأمة الإسلامية في أرضها المترامية الأطراف تحترم هذا النظام. وربما انتفض بعض الحكام على هذه الخلافة الجامعة، وأسسوا حكومات خاصة بالأقطار التي استقلوا بها. وسواء عادت هذه الدويلات إلى الكتلة أو ظلت بمنأى عنهاح فإن الفقهاء أطلقوا على كل بلد تقام فيه أحكام الإسلام وتحترم فيه تعاليمه وأهدافه " دار الإسلام " وقد استمات الاستعمار في نسف هذه الدار، وطي الدلالات التي تقترن بها. ونحن الآن أمام وطن إسلامي مبعثر الأفراد والجماعات في بقاع شتى. وتوجد بلا ريب دول تحمل العنوان الإسلامي، لكن من الصعب القول بأن الحكم فيها- نظم أو شرائع القضاء العام بها- يقوم على أسس إسلامية. إن أحوال مسلمي اليوم- على كثرتهم- تشبه مع تجوز يسير- أحوال القلة التي عاشت قبل الهجرة؛ فقد كانوا يمثلون عقيدة تتطلب النظام الذي يحميها ويحييها، ولم يتهيأ لها ذلك النظام المنشود إلا بعد الهجرة إلى(1/66)
المدينة والاستقرار فيها . ص _071
حرب تزوير الإحصاءات نحن العرب نهتم بكل مسلم على ظهر الأرض، فهو ثمرة رسالتنا وجزء من كياننا الروحي. ولو وجد بالمريخ مسلم لقامت للفور أواصر الود تصل حبالنا بحبله. وقد أسلفنا القول أننا ندرس الوطن العربي على أنه جزء من الوطن الإسلامي. والواقع أن العرب - وإن اتسعت بلادهم- لا يبلغ عددهم أكثر من خمس جملة المسلمين في العالم. وإخوان العقيدة هؤلاء لهم في قلوبنا مكان، وفي أعناقنا ذمام، ويستحيل أن ننسى مشكلاتهم أو نتبلد لآلامهم، أو نفرط في روابطهم. ومن حق الشعوب المسلمة أن تحيا في جو الإيمان الذي اقتنعت به، وأن تحتكم في شئونها كافة إلى النصوص التي تقدسها. كما أن من حقها أن تتضام أو تتضافر لبلوغ هذه الغاية ولإزاحة العوائق التي تعترضها. ويبدو هذا الحق جليًّا في البلاد التي يكون فيها المسلمون كثرة. أما حيث يكونون قلة؛ فلابد من أن يعيشوا وراء سياج عقائدهم وحدها، مؤدين من شعائر الإسلام مالا يعرضهم لصدام، مرددين قول الله: " رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ" . إن هناك إحصاءات تكشف عن جملة المسلمين في العالم والأوطان التي توزعوا عليها وهي إحصاءات أدنى إلى الدقة من غيرها. ولا ننسى أن أعداد المسلمين في الأمم الشيوعية السابقة أو في ظل الحكومات النصرانية موضع مماراة، وأخذ ورد، بيد أن تلك الإحصاءات قاربت الصواب جهدها ولا ملحظ عليها إلا أنها سجلت من بضع سنين زاد المسلمون خلالها قليلاً، كما يشير إلى ذلك آخر إحصاء وقع في مصر، وأن عدة تغييرات سياسية مهمة وقعت خلال هذه الفترة يجب أن تستدرك. ذلك، ويلاحظ القارئ أن المسلمين كثرة في نحو 38 قطرًا ، أي ما يقرب من ثلث الأمم المتحدة وتجاوز خمس سكان العالم . ص _072(1/67)
فالمسلمون في الحبشة يزيدون على النصف، وفي إيرتريا يبلغون أربعة أخماس السكان. وبعد أن غزت الحبشة إيرتريا في حركة صليبية بالغة الهمجية، وجعلت من البلدين دولة واحدة باسم أثيوبيا؛ زعم ولاة الأمر فيها أن عدد المسلمين 30%. والجهود مبذولة سرًّا وعلنًا لجعل المسلمين في حدود هذه النسبة أو دونها إن أمكن.... وأوروبا وأمريكا تعينان حكومة أثيوبيا المتعصبة على بلوغ هذه الغاية بكل وسائل القسر. كما نلاحظ أن أعداد المسلمين في أغلب الدول الإفريقية قد نقصت نقصًا فاضحًا، ولاشك أن هذا التحريف متعمد. وفي الوقت الذي يبرز فيه عدد المسلمين قليلاً ؛ تضاف جماهير الوثنيين إلى عدد المسيحيين ليظهروا في التعداد وكأنهم الكثرة الغالبة. وهذا الختل المقصود هو السناد لبقاء حكومات هذه البلاد مسيحية تفرض سلطتها على كثرة إسلامية مسحوقة. أما في لبنان- حيث تعيش كثرة مسلمة-؛ فإنه لم يجر فيها تعداد من عشرات السنين، منعًا للقيل والقال ...!! أما مسلمو أوروبا فالسكوت عن مأساتهم أفضل. إن المسلمين في أغلب بقاع العالم يواجهون حرب إحصاءات مستغربة!! ولعلك لاحظت في هذا الإحصاء أن أقباط مصر 1/ 10 السكان، وهذا خطأ فهم 1/ 15 فقط. ولعلك لاحظت أيضًا أن مسلمي السودان دون النصف، وهذا أيضًا خطأ، فهم فوق الثلاثة أرباع . ومع ذلك فهذا الإحصاء الذي نسجله على علاته أدنى إلى الصواب من إحصاءات أخرى تجعل المسلمين نصف حقيقتهم الرقمية..!! ص _073(1/68)
العرب على اختلاف أديانهم: مهما اختلف سكان هذه البلاد في عقائدهم فهم جميعًا مواطنون شرفاء، متساوون في الحقوق والواجبات، لا ينزل بأحدهم ضيم ولا يذاد عن فضل. وقد أرسى الإسلام- وهو دين الكثرة الكبرى من العرب- دعائم هذه المعاملة النبيلة، وعرفت بها دياره يوم كانت " أوروبا " لا تعرف اختلاف الدين إلا على أنه القطيعة الباتة، والخصام الطويل. نعم، فإلى مطالع العصر الحديث كانت دول "أوربا" تألف التناحر المذهبي وتشعل من أجله الحروب التي لا تخمد جذوتها. أما الإسلام الذي جعل بيت الزوجية يسع دينين، فإنه لم يضيق الأرض الفضاء أمام أتباعه وأتباع اليهودية أو النصرانية. ولقد وسعهم المجتمع الإسلامي كما وسع أبناءه على ما أسلفنا. وشراء آخر يجب إبرازه في هذا الدين القيم، إنه لم يسمح فقط لمخالفيه في الرأي أن يعيشوا في كنفه؛ بل جعل حياتهم وكرامتهم في ذمته، فهو يدفع عنهم إن هوجموا، ويرد العدوان إن ظلموا. وكان الخليفة إذا مات أوصى من بعده بعامة المسلمين، وبأهل الذمة على سواء. وليس في تاريخ العقائد- ولن يعرف- أشرف من هذه السياسة، ولم يؤثر عن منتصر- ولن يؤثر أبدًا- أن يحتضن مخالفيه في الرأي، بل مكذبيه في الاعتقاد، فيلقي عليهم كنفه، ويشهر سيفه ذودًا عن حماهم. ولذلك لم تشعر أرض العروبة والإسلام خلال تاريخها الطويل بما يسمى " مشكلة الأقليات "؛ فإن هذه المشكلة وليدة أزمات الخلق، والرأي والضمير التي باضت وفرخت في أوروبا خلال العصور الوسطى، والتي رأى ساسة الغرب أن يرمونا بها إشباعًا لخساساتهم الاستعمارية. ولاشك أن ناسًا كثيرين من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام أفواجًا، إعجابًا منهم بهذه السماحة الرائعة، وتخلوا عن دياناتهم الأولى . ص _074(1/69)
فهل ذلك ذنب الإسلام؟ إن الكثرة التي اعتنقت الإسلام في مصر، وفي غير مصر من أقطار العروبة اعتنقته عن إرادة حرة، بل اعتنقته عن إعزاز وحب. وحركة الفتح الإسلامي الأول حطت عن كاهل الشعوب أثقال الفرس والرومان التي بهظتهم قرونًا طويلة، وفي أهداف هذا الجهاد الديني الذي قام به المسلمون على عهد الرسول وخلفائه، يقول مؤلفو كتاب "المجتمع العربي" : " فإن الأمة العربية حملت في هذا الدور الهام من أدوار التاريخ أمانة كبرى هي تحرير أهالي الشرق الأدنى من نير العبودية وتخليص المعابد والكنائس والأديرة من ظلمة الاضطهاد، ورد كرامة البشر الضائعة في تلك المنطقة، وبث رسالة جديدة في الإصلاح، وكان أن ظل العرب في حركة جهاد طويلة استمرت من سنة 12 حتى 4 1 هـ (633 م- 732 م)، فخاضت جموعهم القتال في موجات متلاحقة، ودخلوا أعنف المعارك التي شهدتها البشرية من أجل التحرير والعقيدة، وضربوا أروع الأمثلة في الدفاع عن المبادئ الإنسانية الشريفة، وفي خلال هذه المعارك الطويلة سقط كثير من الشهداء فوق كل بقعة من هذا الوطن الفسيح الممتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، حتى غدت الدول الإسلامية العربية تشمل الأندلس وشمال إفريقية ومصر والشام والعراق وفارس وشمال الهند، فضلاً عن شبه الجزيرة العربية. وعلى أن العرب لم يحرروا هذه المنطقة من الخوف، ويحققوا لها الطمأنينة والسلام فحسب، وإنما حملوا لأهل البلاد الأصليين مبادئ المحبة والإخاء والمساواة والحرية، ومصداق ذلك عقود الصلح التي عقدها العرب مع شعوب المنطقة كلها: مع أهل العراق والشام ومصر والمغرب. وأول ما يلاحظ على هذه العقود أنها تنبع كلها من نبع واحد، وتكفل للشعوب المتعاونة مع العرب حرية النفس والعقيدة والمال، فحررت الكنائس اليعقوبية والنسطورية في مصر والشام والعراق، وظفر الأهالي الذين اختاروا البقاء على دينهم بما لم يظفروا به من حريات. وهذا ميخائيل الأكبر بطرك أنطاكية(1/70)
اليعقوبي يقول: " تخلصنا من قسوة الروم وأذاهم وحنقهم وتحمسهم العنيف ضدنا، ووجدنا أنفسنا في أمن وسلام ". ص _075
ويضيف المستشرق "أرنولد" إلى هذه المآثر حقائق أخرى، فيذكر أن المسيحيين أصبحوا تحت حكم العرب أحسن حالاً من قبل؛ لأنهم لم يحصلوا على حرياتهم فحسب: بل استطاعوا في كنف الإسلام أن ينشروا المسيحية في جهات لم يبلغوها من قبل، وذلك بفضل تسامح العرب واتساع رقعة الدولة العربية.. ماذا يطلب الإسلام بإزاء هذا السلوك العالي؟ إنه يطلب عوضًا لا يصعب على نفس شريفة ! يطلب أن يلقى الطمأنينة والود عند من بذل لهم وده وطمأنينته. والإسلام- كما نعلم- عقيدة ونظام، وهو يكره أن تحارب عقيدته بالفتنة والمقت، أو يحارب نظامه بالفوضى والعبث. فإذا نظر المسلمون إلى أهل الكتاب فوجدوا لدى بعضهم كنودًا يستنكر حق الحياة لهذا الدين، ويستبيح الاتصال بأعدائه في دول أخرى كي يكون لهم صنيعة، فماذا يفعل الإسلام؟ أيبقى يد الود مبسوطة أم يقبضها؟ أيدع حبل الموالاة موصولاً أم يقطعه؟ في هذه الحال من الغش والخيانة والعداء الكامن أو السافر؛ يهيب الإسلام بأبنائه أن ينكمشوا على أنفسهم. وأن يتضام بعضهم إلى بعض حتى يحسنوا الدفاع عن إيمانهم المهدد. وفي هذا يقول الله تعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة و يحذركم الله نفسه وإلى الله المصير " . " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون " . ولنضرب مثلاً من تاريخنا المعاصر يكشف عن هذه الحقيقة: في هذه الأمة العربية أكثر من تسعة أعشار السكان مسلمون، وبينهم قلة يهودية عاشت في بلادنا لم تلق ذرة من التقتيل والهوان اللذين لقيهما إخوانهم في أوروبا . ص _076(1/71)
وبغتة تآمر يهود العالم على الوطن الذي آواهم، واستعانوا بالصليبية الحاقدة على تقطيع أوصال الأمة الساذجة المسترسلة في سماحتها وغفلتها. فإذا يهود اليمن والعراق والشام ومصر والمغرب ينسون اللغة والتاريخ والجنس، ويستديرون لمواطنيهم القدامى معملين أسلحتهم فيهم! هذا هو جزاء وفائنا بذمتنا، واحترامنا لعقائد الآخرين!! أفيلام المسلمون إذا أحبوا الاستيثاق لأنفسهم؟، أو إذا فحصوا الأمور على ضوء ما بلوه من تجارب، وعانوه من مآسي؟ إن إنسانًا ما لا يلام إذا أحاط حقه في الحياة بشتى الضمانات خصوصًا من الجهات التي لدغ منها، وذاك ما فعله العرب المسلمون في بعض الأحيان. ولو أن مسلمًا خان قومه ما لقي خيرًا من ذلك المسلك. أما في جو السلام والبراءة؛ فليس في الدنيا أنقى ولا أزكى من أرض العروبة والإسلام. وهيهات أن يصل الغرب إلى معشار الاعتدال والإنصاف اللذين يوفرهما الإسلام لمتبعيه وتاركيه على سواء. المسلمون على اختلاف أجناسهم: الإسلام دعوة عامة خالدة، وبديهي أن تبدأ بالعرب قبل أن تنداح دائرتها فتصل إلى طورها العالمي الواسع الأرجاء. كان البلاغ أولاً في حدود الأقارب، ثم في نطاق مكة وما حولها: " وأنذر عشيرتك الأقربين " . " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ". ص _077(1/72)
ثم أخذ كل عاقل يستمع إلى أنباء الرسالة الجديدة يشعر أنه مكلف باتباعها " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" . وأخيرًا تقرر أن أضواء الإسلام كأشعة الشمس، لا تدع برًّا ولا بحرًا إلا تألق بها واستنار: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" . وبذلك البيان الحاسم والعموم الشامل أدى الدعاة الأوائل رسالة الله، ولا يزالون يؤدونها في نطاق الإنسانية التي تعمر كل قارة، وتنتقل في كل عصر. ودخل في الإسلام الروم والفرس والترك والهنود والزنوج وسائر أجناس البشر من أصفر وأحمر وأبيض. والمسلمون على اختلاف الليل والنهار يزيدون، ولا نظن هذه الزيادة تقف عند حد معين، بل إن أملنا أن تشمل جمهرة البشر يومًا، ويتحقق قول الله جل شأنه: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" . فهل انتشار الإسلام على هذا النحو معناه أن يستعرب الخلق كافة، وتذوب الأجناس الأخرى؟ كلا كلا!! فإن بقاء الأجناس واللغات آية كونية من آيات الله في الأنفس والآفاق. وفى هذا يقول الله جل شأنه : " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" . والذين يكلفون الإسلام بهذا يطلبون منه أن يفعل المستحيل . والذين يعيبون الإسلام بأنه لم يفعل هذا، ويقولون: إن الإسلام لم ينجح فى إذابة القوميات الأخرى، إنما يدلون بهذا القول على عدم فهمهم لتعاليم الإسلام ولطبائع المجتمعات... ص _078(1/73)
إن الإسلام إثبات لا تغيير، إثبات لفطرة الله في الخلائق، لا تشويه لها أو عدوان عليها: " لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . ويستطيع الإنجليزي والروسي والصيني أن يكونوا مسلمين وهم على ألسنتهم وألوانهم، فإن معرفة الله الواحد، والاتجاه إليه، والإعداد للقائه معان في الأفئدة والألباب ميسورة للناس أجمعين. وشرح الإسلام ووصاياه لأهل الأرض بكل لغة، فريضة علينا نحن العرب الذين اصطفانا القدر لتلقي الوحي، ولفت العالمين إلى رب العالمين. وكون اللغة العربية لغة الإسلام، لا يعني أكثر من فرضها لغة عالمية للتفاهم الإنساني كله، وليس معناه محو اللغات الأخرى. وفتح باب الاستعراب للأجناس كلها لا يعني أكثر من تجديد الأمة العربية على مر الزمان، وليس معناه إزالة الأجناس الأخرى. بيد أن هناك حقيقة لابد من شرحها وتجليتها. إن هذا الاختلاف الجنسي يعلو عليه الإسلام بوحدة المشاعر والسلوك التي يفرضها على أتباعه، وبأخوة الإيمان التي ترجح أي آصرة أخرى، وبالولاء لله ورسوله الذي يسبق كل ولاء. وفي الحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ". أجعل الكعبة مثلاً نقطة ارتكاز لدائرة تشمل نصف آسيا وإفريقيا وأوربا، وتطوي داخل أقطارها الهنود والعرب والفرس والترك والأحباش. إن هؤلاء الأقوام يجعلون هذه الكعبة قبلتهم خمس مرات في اليوم، وتتصل سرائرهم بمناجاة واحدة وتهفو قلوبهم برجاء واحد، ويحيون في هذه الدنيا على نهج متقارب، وهم مازالوا، وسيبقون على أجناسهم الأولى... وعندما تتسع هذه الدائرة، فتشمل جماهير من البشر أكبر؛ سيظل الأمر على ما نرى. ص _079(1/74)
إيمان فذ ينتظم القلوب والأفكار، وخلاف في الهيئات والبيئات واللغات لا أثر له في شيء ذي بال. ونحن واثقون من أن مستقبل الإسلام طيب، وأن العودة إلى الله الأحد الصمد سوف تنشرح لها صدور جماهير كثيفة من الخلائق، وأن بعد هذا الجزر مدًّا عريضًا تنتعش فيه مواريث السماء، وترفرف به أعلام التوحيد. ويومئذ لن يكون ولاء أبناء آدم لوطن أو جنس، ولن تكون عصبياتهم لمغنم، أو خرافة، بل لله وحده. إن الإسلام يجعل تعلق الناس بالروح لا بالمادة، بالسماء لا بالأرض، بالخصائص العليا لا بالغرائز الدنيا، وقد تعارف العرب والمسلمون في أقطارهم الفيحاء على تلك المبادئ المرنة السمحة، ونجوا من الوثنية الحديثة التي عرفتها حضارة الغرب فعرفت بها التشاجر والتشاحن وسفك الدم الحرام وأكل المال الحرام. إن المؤرخ الإنكليزي " توينبي " يحسد العرب والمسلمين على هذه الوحدة الزكية التي انتظمتهم مع تباين الدار، واختلاف الجنس فيقول : " إن الإنسان العربي يستمتع بمزايا عظيمة حيثما كان. تضفيها عليه نسبته للأمة العربية، فهو يشعر أنه في داره مهما تنقل بين بلاد العروبة والإسلام. إن الحجازي أو السعودي أو العراقي أو المصري أو المغربي أو التونسي... إن أحد هؤلاء لا يجد فرقًا في الجو الاجتماعي، ولا في روح الحياة العامة، ولا في مستوى الإدراك السياسي بين الرباط والقاهرة ودمشق وبغداد. بل المسلم- أيا كان لونه- لا يحس فرقًا يذكر عند ارتحاله بين حواضر الإسلام من (فاس) إلى (كابول) إلى (كراتشي). فدار الإسلام تسودها مشابه جامعة! قباب المساجد، ومآذنها، والزوايا ونافورات المياه وطابع العمارة، وهتاف المؤذنين داعين إلى الصلاة، واستقبال شهر رمضان لأداء فريضة الصوم، وسائر معالم الإسلام التي تظهر على الأشخاص والأشياء... ص _080(1/75)
ذلك كله يجعل المسلم لا يخامره إلا شعور واحد، الشعور بأنه فرد من هذه الأمة الكبيرة، وجزء من كيانها الواحد. وهذه العاطفة هي العامل المهم إذا حزب الأمر وتعرض الإسلام لخطر داهم وتطلب الموقف التضافر والحزم، وعندئذ تسمو هذه العاطفة العربية الإسلامية على فكرة "الجنسية الحديثة- يعني القومية الخاصة". قال المؤلف: "وينصح "تونبي" شعوب الغرب أن تقتدي بالعرب- والمسلمين- وأن تترك أحقادها ومنازعاتها وتطاحن دولها في سبيل السيادة السياسية، والنزعات القومية. وبذلك تخف حدة الخصام بينها، وتبتعد أخطار الحروب المدمرة، وإلا فإن حضارة الغرب معرضة للانهيار، خصوصًا بعد تفجير قوى الذرة". أقول: لابد أن هذا المؤرخ زار البلاد الإسلامية قبل أن تنجح سياسة الغرب في غرس العصبيات الخاصة، وجعل كل قطر مشغولاً بنفسه وحدها. على أن صبغة الإسلام باقية نامية برغم العوارض الطارئة . والمسلمون على اختلاف أجناسهم أمة واحدة تنتظمهم أخوة الإسلام على تراخي الزمان واختلاف المكان... ص _081
الدعائم العامة لأي مجتمع ص _082(1/76)
المجتمعات الإنسانية ليست سواء في الدعائم التي تقوم عليها. فقد يكون أحد العناصر ركنًا في مجتمع ما، ونافلة أو محظورًا في مجتمع آخر! ثم إن الواقع الذي نصفه ونحن ندرس مجتمعًا ما، قد يكون كريهًا لدى أصحابه، فهم - لو استطاعوا- حوروا مجتمعهم إلى طور آخر أحظى لديهم وأدنى إلى رضاهم. ترى ما يفعل الباحث؟ أيذكر الواقع على علاته، أم يقرر ما تصبو إليه النفوس في تكوين مجتمع أرقى؟ إن المجتمع حزمة من الأفراد يشد بعضها إلى البعض الآخر أكثر من رباط قائم. وهذه العرى الموثقة تنشأ أولاً وآخرًا من مشاعر النفوس، واختيارها الحر، لا، بل الأمر أعظم من مجرد الاختيار، إنه الرغبة الأصيلة العاقلة الدائمة في أن يسهم المرء مع الآخرين في إقامة هذا المجتمع والعيش له، والعيش فيه. وقد سرد العلماء في عدة أمور رأوا أن المجتمع يتكون منها، وأن الأفراد يرجعون إليها في علاقاتهم النفسية بهذا المجتمع. ونحن نحب أن ندرس هذه الأمور بأناة مذكرين القارئ بما قلناه من أن المجتمعات ليست سواء في دعائمها، لأن ما يكون بواعث التجمع يختلف في قطر عنه في آخر!! فمثلاً يخطئ من يعد اللغة من دعائم المجتمع في الاتحاد السويسري؛ لأن هذه البلاد السويسرية تنتشر فيها عدة لغات. لابد أن هناك أسسًا أخرى تجتمع عليها أهل هذه البلاد يمكن أن يعثر عليها الباحثون. من أجل ذلك كان إرسال حكم هذه الشئون بعيدًا عن التمحيص العلمي!! ونستطيع على ضوء ما تقدم أن نسأل: هل الدين ركن في القوميات المختلفة؟ وإذا كان ركنًا فهل هو ركن خطير؟ قرأت للسيد كمال الدين محمود هذه الكلمة "الدين وحده لا يصلح أن يكون ركنًا من أركان القومية.... " . وإرسال هذا الحكم كأنه قاعدة عامة غير سديد . ص _083(1/77)
فالتمحيص العلمي يفرض علينا أن نتدبر شتى القوميات قبل أن نرسل القول على عواهنه. الدين في روسيا لم يكن أساسًا للمجتمع الشيوعي، ولا شيئًا ثانويًّا فيه، بل كان منكرًا محاربًا، وإذا شمت رائحة التدين من رجل شيوعي أقصي فورًا من عمله، ونظر إليه على أنه خائن للنظام الذي تقوم عليه الدولة. وبين ألف مليون كانوا يخضعون لهذا المبدإ الأحمر كان يمكن القول بأن الدين غريب على المجتمع.... لكن هل الدين كذلك في إسرائيل، أو باكستان؟ كلا. فاليهودية في إسرائيل أساس المجتمع والدولة، والإسلام في باكستان كذلك. والدين في كلتا الأمتين ركن ركين.. وقد تسأل: هل الكثرة العظمى من مجتمعات العالم تعد الدين ركنًا؟ ونقول: نعم، فالكثرة الساحقة من الدول النصرانية لا تفرط في دينها، ولا تستهين بإيحائه في علاقتها السياسية. وإذا كانت إسرائيل تقوم على الدين اليهودي، فإن المبدأ القائل: خلقت إسرائيل لتبقى يعود إلى أحقاد صليبية، وهو محور سياسة أمريكا وإنجلترا وفرنسا بإزاء العرب جميعًا وإسرائيل. وعندما نتحدث في العناصر التي تتكون منها القومية العربية، ونتعمد إطراح الإسلام منها، فنحن مخطئون علميًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا. ذلك أن العروبة لم تنفخ فيها الروح، وتبرز إلى الحياة العالمية إلا مع الإسلام، أما قبل الإسلام فوجودها الأدبي صفر، ووجودها المادي فوق الصفر بقليل، والسيد كمال الدين محمود وهو يحصي أسس القومية العربية فينفي الدين منها، ثم يقول: "أما الركن الذي تقوم عليه القومية العربية فهو التاريخ المشترك والمصير المشترك، هذا التاريخ الذي حمل صورة واحدة، ومر على أدوار واحدة وصبغ هذا الوطن بصبغة واحدة منذ فجر الإسلام حتى اليوم " . . نقول إن هذا الكلام يبطل ما سبق أن قرره هو من غربة الدين عن العروبة، إذ هو كلام يصرخ بأن العروبة لم يسجل لها تاريخ إلا مع بزوغ فجر الإسلام . ص _084(1/78)
وهذا حق، فإن التاريخ لا يسجل شيئًا للهباء. وقومية لم يؤرخ لها إلا يوم ازدواجها بالدين كيف يعتبر الدين شيئًا كماليًّا فيها؟!. وقومية تحتاج إلى رباط الدين وهي تشق طريقها إلى المستقبل- كما يؤكد ذلك السيد كمال الدين محمود حين يقول: فمذ ضمت الحركة الإسلامية هذه البقاع تحت لوائها، ومصير هذه البقاع واحد، تلاقي كل منطقة ما تلاقيه سائر الأجزاء، ففي الماضي نظر إليها الغزاة على أنها " كل " وفي الحاضر ينظر إليها الاستعمار هذه النظرة، قومية تلك طبيعتها كيف يزعم زاعم أن الإسلام ليس ركنًا فيها.. إننا سنرى عند شرح هذا الموضوع أن الإسلام هو الركن الأول في بناء المجتمع العربي، وأن ما يقال غير ذلك فهو شيء لا ثبات له عندما يعرض على محك النقد. فلا هو واقع الأمة العربية، ولا هو مثلها الأعلى. ولا هو شعور الجماهير ولا هو ما ينبغي أن تحسه الجماهير.. والدعائم العامة لشتى المجتمعات- كما تتبعها الباحثون- هي اللغة، الجنس، البيئة الجغرافية، التاريخ المشترك، الدين، المصالح والآمال المتحدة. وعنصر واحد من هذه جميعًا لا يقيم مجتمعًا له كيانه وخواصه، لابد من توفرها كلها أو توفر أغلبها. ونعود مرة أخرى إلى توكيد ما أثبتناه صدر هذا البحث، وهو أن المجتمعات ليست سواء، وأن الأحزمة التي تمسكها متفاوتة، وأن الروابط الحقيقية تنبع من شعور الأفراد بقداسة المبادئ التي يلتقون عليها، وبالتالي ينهض عليها البناء الاجتماعي للأمة. ونحن نريد أن ندرس الدعائم العامة للمجتمع مستصحبين هذه المبادئ. ( أ ) إيفاء الناحية العلمية حقها من الإيضاح والتمحيص. (ب) تطبيق الحقائق العلمية على أوضاعنا العلمية دون تعسف . ص _085(1/79)
(جـ) ملاحظة أننا عرب، وأن أكثر من تسعة أعشارنا مسلمون. وأن أمتنا لا تتخلى عن رسالتها الإنسانية الكبيرة، ولا تحب أن يطالبها أحد بنسيان تلك الرسالة، ولا أن يختلها عنها بعناوين مضللة.. ا- البيئة الجغرافية أو الوطن للأرض التي نحيا فوقها آثار مشهودة في تكوينها الخلقي، وأحوالنا السياسية. الأرض السهلة تكسب السكان شمائل لينة، والأرض الوعرة تجعل في طباعهم شدة. ولأهل الصحراء سيرة تغاير مسلك أهل الجزر، ولأهل المناطق الحارة أخلاق ومشارب ليست لأهل المناطق الباردة أو المعتدلة. وقد وصف "أندريه سيجفريد"- وهو من علماء الجغرافية السياسية والإنسانية- حوض البحر المتوسط، وأثره في الشعوب التي تقطنه فقال : ".. معتدل بوجه عام، تكسوه سماء مشرقة الشمس ساطعة النور، إلا أنه يتأثر بين الحين والحين بجو الصحراء". وقد يلفح هذا الحوض صيف محرق، وهو الصيف الإفريقي، ثم لا يلبث أن يعتدل الجو ويميل إلى الهدوء، ثم تعقبه زعازع وأمطار غزيرة بل سيول، ثم تطلع الشمس وتظل تبعث في المنطقة القوة والحياة، وتبث في النفوس حب النقاش وطول الجدال وهواية الخطابة! ويؤدي هذا إلى أن يتطبع المرء بخلق خاص في معاملاته، وبرغبة في التزام طرق معبدة في الحياة الاجتماعية تتجلى في إطاعة الحاكم بعد تفاهم مشترك بينهما. ثم يقول "سيجفريد": بيد أن ما يطرأ على هذه الأقطار عن عواصف مفاجئة يفسر ثورة الأعصاب حينًا ووقوع المباغتات التي لا تتوقع. إن هذه الطبيعة المتقلبة بين الصفاء والاضطراب والاعتدال والقسوة أضفت على شعوب هذا الحوض روحًا يغلب عليه السرور والضحك مع عبوس وتقطيب بين حيز وآخر . على عكس ما يرى عليه أهل الشمال، بجوهم المعتم البارد، وسمائهم الملبدة ص _086(1/80)
بالغيوم، وضبابهم الكثيف، وليلهم الطويل، وبطء طلوع النهار وانقضائه، فإن ذلك دفع بهم نحو الحذر المشرب بالهدوء وأورثهم التعاون المستمر في سبيل مقاومة الطبيعة القاسية، وضيق أمامهم فرص الفصاحة والجدال والاجتماع في العراء والتناحر بلا هوادة في الأسواق الجامعة، وجعل اجتماعاتهم ومشاوراتهم مختصرة وهادئه ". والكاتب الأوروبي صادق في ربطه بين البيئة وآثارها في الناس، وصادق في تفرقته بين أخلاق اللاتين والسكسون. والعرب في أرضهم الفيحاء يعمرون مناطق شتى، فيها الوهاد وفيها النجاد، فيها الصحاري الجدبة وفيها الأودية الخصبة. وقد ترى فروقًا بارزة في طباع السكان هنا وهنالك. لكن يروعك في هذه الجماعات الكثيرة أن الإسلام أفرغ سلوكها العام في قوالب متشابهة، وقاد كل مزاج إلى ما يلطف به ويجمل فيه. وأرجاء الوطن العربي يكمل بعضها بعضًا في هذا المجال، وتؤلف مجموعات متناسقة من المواهب التي تنجح بها أعظم الرسالات. ومن المعجب أن ترى الإسلام أقدر عرب المناطق الحارة على الجهاد شهورًا طوالاً بين ثلوج القوقاز، يمسحون على أخفافهم ويقصرون الصلوات. ومع أن العرب - وهم يسكنون جنوب البحر المتوسط وشرقه- يشبهون أهل هذا الحوض من سكان أوروبا؛ إلا أن استقلال النفس العربية وقوة اعتدادها تجعل العرب في هذا المضمار مساوين للإنكليز وللألمان وغيرهم من سكان الشمال. والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحشًا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدفع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص. والوطنية بهذا التحديد الطبيعي شيء غير مستغرب . ص _087(1/81)
وإنك لترى العربي من السعودية يغالي بوطنه هذا- على فراغه من أسباب الرغد - وينظم عواطفه شعرًا من أرقى ما روت الدنيا وسجلت صحائفها: قفا ودعا نجدًا ومن حل بالحمى وحق لنجد عندنا أن يودعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا وليست عشيات الحمى برواجع عليك ولكن خل عينك تدمعا بكت عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا ويقول آخر: تمتع من شيم عرار نجد فما بعد العشية من عرار ألا يا حبذا نفحات نجد وربا روضه بعد القطار وأهلك إذ يحل الحي نجدا وأنت على زمانك غير زاري ليال ينقضين وما شعرنا بإنصاف لهن ولا سرار هذه السعادة بالعيش في الوطن، وتلك الكآبة لتركه، مشاعر إنسانية لا غبار عليها، ولا اعتراض. ولكن العصور الحديثة طورت هذا المعنى الساذج، وجعلت الوطنية ولاء للتراب، وعبادة له، وقيامًا بحقوقه، وتفانيًا فيه، والعمل به. أي جعلت الوطن إلهًا، والتعلق به عبادة، وضخمت المشاعر الإنسانية حول هذا المحور المسحور، بحيث ابتلعت علاقات الناس بدينهم، فإذا لم تفلح في إزالتها أفلحت في تأخير رتبتها، وإخفات الكلام عنها، وإماتة أحكامها ووصاياها. وهذا الضرب من الوثنية ينكره الإسلام أشد الإنكار، إن ارتفاق البشر من مكان ما؛ لا يطوع لهم عبادة هذا المكان. وقد كان قدماء المصريين غافلين عندما عبدوا نهر النيل لطول ما ينتفعون منه. والمعروف عند أولي الألباب أن الأرض ملك الإنسان وليس الإنسان ملك الأرض، وأن المرء قد يخسر هذه الأرض التي يعيش عليها في ظروف حرب ، ص _088(1/82)
وساعات هزيمة، ولكنه يستعيدها ليحيا فوقها كما تشاء له مثله العليا، لا كما تشاء له الصخور والرمال، أو المياه والأزهار. في أي بلد نوجد، وعلى أي أرض نحيا، ليس لنا إلا رب واحد هو الله جل شأنه، الذى يقول لنا: " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون " . والذي يقول : " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده " . وولاؤنا النفسي، وسلوكنا العام، ينبجسان من هذا الإيمان السماوي المحض. الوطنية التي تعتمد على هذا المعنى مناط احترامنا؛ لأن الأمر فيها تعلق بأرض اهتزت بشرائع دين، وحضارة أمة؛ فالارتباط هنا له دلالته ومغزاه.. أما الوطنية بالمعنى المجتلب من الغرب فهو مستحدث في حضارتنا وتاريخنا لا نقره ولا نرضاه. اتحاد الجنس: المرء بمن يشاكله آنس، وهو عليه أعطف. وعندما تتشابك القرابات وتتشابه الدماء يشد المجتمع بعضه بعضًا، ويحس الجميع كأنهم أسرة كبيرة. وفي عصرنا هذا سمعت صيحات عالية بالتجمع على أساس الجنس، وتكرر هذا النداء في الشرق والغرب. ولعل التجانس بين العرب على تباعد الأقطار في مقدمة الأسباب التي تذكر لجمع شتاتهم، وتوحيد لوائهم. وليس ذاك بدعًا في تاريخهم، فإن العرب اشتهروا من قديم بحفظ الأنساب ووعاية الأصول. فإذا تنادوا اليوم على أساس أخوة الدم؛ فتلك سجية فيهم غير محدثة . ص _089(1/83)
ومن ربع قرن كان الألمان يتجمعون على أساس جنسي صارخ، فقد زعموا أنهم من دم خاص، وأن عنصرهم أرقى من سائر العناصر الإنسانية ونحن مع تقديرنا لوحدة الجنس في بناء مجتمع نحب أن نلفت النظر إلى جملة حقائق.. أن الزعم بوحدة الأصل في جنس ما خرافة كبيرة، فإن جماهير البشر يموج بعضها في بعض موجًا يخلط الأنساب ويمزج الدماء، ويجعل لهذا- على تغلغل الأنساب في الغيب- أبًا من المشرق أو أما من المغرب. والقول بأن أوروبا ليس لهم آباء أو أجداد من آسيا مثلاً زعم لا دليل عليه، وكذلك القول في سكان شتى القارات، فإن أنواع الهجرة وألوان الحروب تركت للعالم آثارًا لا حصر لها. يقول الدكتور أحمد سويلم العمري: " لم يعد هناك جنس نقي صاف يمكنه أن يفخر بنقاوته على سائر الأجناس؛ ففرنسا خليط من الجرمان والسلت والعرب والوندال. وألمانيا فيها خليط من المغول والتتار والصقالبة. وإنجلترا خليط من جماهير الغزاة الذين اقتحموها من الشمال والشرق والجنوب، بل بها بقايا من الرومان الذين غزوها على عهد يوليوس قيصر... الخ ". (ب) ولنفرض جدلاً أن هناك محاضن خاصة تلقفت جنسًا معينًا من الناس فصانت ذريته وحفظت أصوله وفروعه. ماذا يعني هذا؟. إن هذه العزلة تشينه ولا تزينه، فإن الجنس المغلق على نفسه، يفقد عوامل التجديد التي تزوده على اختلاف الليل والنهار بمواهب إنسانية أخرى يفتقر إليها ويقوى بها. ولأمر ما كان الزواج بالأباعد أحظى وأجدى من الزواج بالأقارب. أما توهم أن جنسًا ما خلق خلقًا أرقى من غيره، ومن ثم فهو حقيق بالسيادة على باقي البشر، كما أن البشر أحقاء بالسيادة على شتى المخلوقات.... فذاك كذب يجب أن يستحمق قائلوه . (ب) ومن حسن حظ العروبة أنها جنس مفتوح، وأن الاستعراب ركن أصيل ص _090(1/84)
في دعم كيانها وإمدادها بأسباب البقاء والنماء، ونحن نعلم أن صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة، وليس من العرب العاربة. من أجل ذلك لا يمكن جعل العروبة قومية خاصة. إن الإسلام جعل منها دائرة عالمية فسيحة الأرجاء، وسعت شتى الدماء والألوان، وانضوى تحت لوائها سيل موار من المؤمنين الذين تركوا بني جلدتهم، وآثروا هذه الجنسية الجديدة، وأسدوا إليها من الخدمات العلمية والأدبية والسياسية والعسكرية ما يعجز عنه قوم ترجع أرومتهم إلى عاد وثمود، أو عدنان وقحطان. إن النزعة الإنسانية العريقة في مجتمعنا العربي، تعود إلى عالمية الرسالة الإسلامية وتطلعها الدائم إلى استيعاب عناصر بشرية مختلفة النسب واللون، ووفاء العرب الأولين بمطالب هذه الرسالة، وانفساح صدورهم لكل وافد على الإسلام داخل في العروبة. ولذلك يرفض العربي المؤمن أي تعصب جنسي، وأي استعلاء عنصري. ويقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم! ثم إن الإسلام يأبى كل الإباء أي دعاية جنسية، ويعتبر من أعراض الجاهلية البائدة أن يتداعى الناس بدمائهم وقراباتهم؛ فإن شرف الإنسان ليس في حسب مزعوم، أو نسب موهوم، إنما هو في صفاء قلبه، وسناء لبه. " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير " . ولا ريب أن المجتمع العربي قد ازدهر بهذه النزعة الإنسانية النبيلة، وأفاد منها أجل فائدة، وما من نشاط مادي أو أدبي أو علمي برز في هذا المجتمع وعلا به قدره إلا كان المستعربون من ورائه . ص _091(1/85)
تلمح ذلك جليًّا في علوم الشريعة، وفنون الأدب، وآفاق العمران، ومناحي الفلسفة، وفي أرجاء حضارتنا التي نملأ أفواهنا بها فخرًا.. لقد كنت في مكة أرى أغلب الملامح البشرية حول البيت العتيق. ونظرت يومًا إلى مئات المساجد في القاهرة عاصمة العروبة والإسلام- فرأيت جل بناتها من الأعاجم- بمعادنهم الأولى... وغلغلت البصر في مواريثنا النقلية والعقلية فرأيت سدنتها من أولئك الرجال الذين دخلوا العروبة من أبواب الإسلام وجعلوا العروبة بهذا المدخل الكريم ملتقًى ساميًا لأنضر ما عرفت الحياة من جهد، وأشرف ما وعت من غاية. "ففي كل من الفقه واللغة والأدب والتاريخ وغيره من العلوم والفنون نعرف من الأعلام أمثال: الزنجاني، والشيرازي، والأفغاني، والسندي، والأذربيجاني، والفيروز آبادي، والزمخشري، والبغدادي، والحلبي، والصفدي، والأشموني، والقلقشندي، والجبرتي، والصقلي، والقيرواني، والمراكشي، والصنهاجي، والقرطبي، وألوف سواهم، لو عينت مواقع بلادهم على المصور الجغرافي للكرة الأرضية لاستغرقت أكبر جانب. ولو أننا عمدنا إلى فرع من فروع العلوم والآداب العربية فرسمنا مصورًا جغرافيًّا لمن اشترك فيه من خلق الله على ظهر الكرة الأرضية؛ لاستبانت لنا عالمية الفكر العربي الموحد في هذا الفرع العلمي أو الأدبي، لا في عصر بعينه بل في شتى عصور التاريخ. ومن الحق أن نصارح بأن هذه العالمية الفكرية، وهذا التلاقي على وحدة جامعة في المنحى والاتجاه، كان كلاهما بمنأى عن الأحداث والكوائن التي تعاقبت على الأمة العربية خلال القرون، فشتتت شملها، وبددت عقدها، وتركتها نهبة للفرقة في الحكم والسلطان. لقد استعلت وحدة الفكر العربي وعالميته على تنازع السلطات والدولات. فبقيت الأمة العربية ملتئمة الوحدة، تتبادل الفكر والرأي في ضروب الثقافة، على الرغم من اختلاف الوجوه التي تؤول إليها الإمرة والسلطان . ولا شك في أن هذه الوحدة الفكرية كانت سموًّا(1/86)
بالإنسانية إلى مستوى العالمية ص _092
الرفيع، ذلك المستوى الذي ينادي به قادة الرأي، ويحلم به زعماء الإصلاح، ويهتف به الفلاسفة الدعاة إلى غد أسعد، وعالم أفضل. فقد كانت تلك الوحدة عاملاً من عوامل التجمع والتكتل والتقارب، وعنصرًا من عناصر التفاهم والتفايد، وسبيلاً إلى أخوة في الروح. والأخوة الروحية فوق أخوة الدم والنسب، وفوق الأخوة المحلية، المحدودة بحدود الوطنية الضيقة؛ لأنها أخوة قائمة على دعائم من العقل والمنطق، مستندة إلى مدد من الرأي والفكر، مستجيبة لهواتف الوجدان، مستهدفة المثل الأعلى للحياة في تضامن وتعاون وسلام . اللغة: ومن الميسور أن تكون اللغة عاملاً فعالاً في وحدة شعب، وإقامة مجتمع. وبعض الأمم الآن يرجع تكوينها إلى اللغة. وإن كانت اللغة الواحدة لم تجمع بين الإنكليز والأمريكان مثلاً ، كما أن اختلاف اللغة لم يمنع قيام دولة واحدة في بلجيكا أو في الهند. واللغة العربية وسيلة عظيمة لالتقاء العرب في صعيد واحد، ولكن هل هي الأساس الأول في بناء العروبة كما يقولون؟ إن ترتيب الأسس التي يشاد عليها مجتمع ما ليس أمرًا ذا بال إذا كانت هذه الأسس أشبه بقوائم المنضدة، لا تستقر في مكانها إلا بهن جميعًا. وصحيح أن اللغة أداة التفاهم والتعارف، ومجلى الآداب والعلوم، والوسيلة الفذة لتواصل العقول والمشاعر بين الأفراد والجماعات في كل ما يعنيهم من شئون الحياة: لكن الوسيلة الموحدة تسبقها المشاعر الموحدة والأفكار الموحدة. وهذا ما سوف نتحدث عنه بعد قليل. أما اللغة بالنسبة لنا فمن آلاء الله على العرب أن جعلها لسان الوحي، وترجمان الهدى الباقي على الزمان . ص _093(1/87)
ونشأ على صيانة اللغة وإضفاء القداسة عليها أن احتفظت بكلماتها وقواعدها ونماذجها العليا من زمن لا يؤثر مثله للغة أخرى. فلو أن عربيًا مات من ألف وأربعمائة سنة؛ قيض له أن يعود اليوم حيًّا، لوجد لغة القرآن هي هي، ولوجد أداءها الموسيقى لم يتغير قليلاً ولا كثيرًا، ولوجد اللغة العربية التي ألف لفظها وجرسها على النحو الذي ألف، لا يغض من ذلك أن اللهجات واللحون تنتشر بين الرعاع وأشباههم من صرعى الثقافة الفرنجية. وتلك حال لا تعرف للغة أخرى كالإنكليزية والفرنسية وغيرهما. وللعربية ميزة أخرى! إنها موعودة بالخلود من رب العالمين، فهناك لغات بائدة أو شبه بائدة، ولغات دخلت في أطوار تقطعها عن أصولها الأولى. أما اللغة العربية فسوف تبقى بنحوها وصرفها وخطها وبيانها وبديعها ومعانيها ما بقي في الحياة إيمان، وما بقيت للإيمان أتباع وألسنة. وكانت اللغة العربية التي نتكلمها الآن شائعة في وسط الجزيرة العربية وشمالها خلال القرون السابقة لبزوغ الإسلام. أما اليمن وجوارها فكانت لأهلها لغة مخالفة، وشاءت الأقدار أن تضطرب الأحوال السياسية في الجنوب العربي، وأن تضمحل قواه الخاصة، فواتت اللغة العربية ظروف حسنة جعلتها لغة سكان الجزيرة جميعًا، ولعل ذلك كان إعدادًا للرسالة التي انشقت عنها الغيوب، وتضافر على إبلاغها أهل الجنوب والشمال على السواء. وبظهور الإسلام واندماج العروبة فيه شرعت اللغة العربية تأخذ مكانتها العظمى من لسان محلي لقوم محدودين إلى لغة عالمية تجتاز التخوم وتطوف بالمعمور من أرض الله. وهي الآن اللغة السائدة في وطن يستوعب أخطر بقاع الأرض، واللغة المقدسة لخمس سكان العالم تقريبًا . ص _094(1/88)
والمكانة التي اقتعدتها اللغة العربية جعلت أعداء الإسلام يتصلبون في مقاتلتها ويحاولون بالجهر أو بالغيلة أن يأتوا عليها، كما شرحنا ذلك آنفًا. وقد أقنعوا اليهود العرب أن يستحيوا العبرية القديمة، وأن يجردوها من أكفانها لتكون لغة معاصرة. كما أقنعوا فريقًا من النصارى أن يؤثر الفرنسية على العربية. ووضعوا خططهم لتخريج أجيال مريضة الذوق الأدبي، بل عاجزة عن الأداء السليم. ويجب أن نستميت في دفع هذا العدوان، وأن نقدر القيمة العظمى لوحدة اللغة ونصاعة أسلوبها، ونقاوة آدابها، واستقامة نثرها وشعرها... إننا- بعدما بلوناه من دسائس- نؤكد للمتعلمين الجدد هذه الحقيقة المهمة: إن الخطأ في اللغة العربية نقص في المنزلة، وخدش في المقدرة. وإن الإصرار على هذا الخطإ معصية لله وإيهان لعرى الإسلام. وإن إشاعة الإفك حول قيمة اللغة، أو الحط من مثلها العليا في البلاغة ، أو ترجيح النزعات الفرنجية عليها، سيئات يقترفها أناس غاشون لهذه الأمة ومبتغون لها سوء العقبى. إن الوحدة اللغوية والأدبية أظلت وطننا العريض أعصرًا طويلة، وكانت طابعًا لهذا الامتزاج الرائع في أسلوب التعبير، ونسق الأداء والتلقي. فكيف نسمح لبعض الهازلين أن يشغبوا على هذه الوحدة، بإثارة اللغط حول هذه اللغة الكريمة، أو إثارة الريبة في مواريثها الأدبية؟ إننا محزونون لأن محترفي الصحافة سقطوا بطبقة البلاغة، ولأن الشعر بعد حافظ وشوقي ليست له أسواق رائجة. وكم من ملكات في النثر والشعر ماتت في مكانها لأنها لم تلق ما يفتح براعمها وينمي أعوادها...؟ أما ما بلغته الوحدة اللغوية والأدبية في عصرنا الأول، وما أسدته أرجاء الوطن العربي كلها في إنمائها وإذكائها فيقول فيه الأستاذ تيمور : ص _095(1/89)
"والحضارة العربية في الأدب مثلاً كانت شركة بين أطراف بلاد العروبة لكل بلد فيها إسهام، ولكل بلد مقام. فالشريف الرضي، وابن الرومي في العراق، وأبو تمام وأبو العلاء في الشام، وابن هانئ، وابن رشيق في المغرب، وابن سناء الملك والبهاء زهير في مصر. كل أولئك وأضرابهم شعراء تعاونوا على إقامة عمود الشعر العربي، وإعلاء بنيانه، فبقي على الزمان وطيد الأركان. ولربما اختلف الشعراء فيما لهم من ملكات وخصائص، وفيما تأثروا به من بيئة و جو، وفيما استجابوا له من حوافز الحياة والمجتمع، ولكنهم يلتقون جميعًا على وحدة تعبيرية أصيلة، ووشائج فكرية وثيقة، وأوضاع شعرية ثابتة، بحيث تؤلف من أنماطهم ديوانًا عليه طابع التوافق والانسجام، وإن اختلفت ألوانه اختلاف ألوان الزهر في عرش الربيع. ولقد كان من أثر هذا الطابع المتوحد المشترك في الشعر العربي أن استساغ قارئ العربية في أقصى الصين ما ينشده شاعر العربية في ربوع الأندلس، مستمتعًا بما في ذلك الشعر من أخيلة واستعارات ومشاعر تزدهر بها الشخصية العربية في كل عصر، ويتكون منها الطابع العربي في كل مكان. ونحن نعرف أن ابن عبد ربه ألف كتابه "العقد الفريد" وهو في قرطبة، مختارًا لآلئه ويواقيته وزمرداته من أدب الشرق خاصة، ولقد اختارها مما بين يديه، ومما حواليه، ما نقل إلى الشرق قدمًا، ولا عرف عنه أنه كاتب من الشرق أحدًا. ولم يكد يخرج كتابه إلى الناس حتى تسامع به المشارقة، وطلبه الصاحب ابن عباد فلما تصفحه قال: "هذه بضاعتنا ردت إلينا" ، وما أنصف الصاحب في قوله، فإن الكتاب فيه عبقرية التأليف والاختيار، وفيه فوق ذلك شعر صاحب العقد نفسه. ومهما يكن من أمر، فإن هذه القصة التاريخية تدل على حقيقتين: أولاهما: أن أدب المشرق كله كان يملأ المغرب كله. والأخرى: أنه ما يكاد يخرج كتاب في المغرب حتى يتلقفه أهل المشرق، وفي هذه وتلك برهانان على وحدة الفكر العربي وتواصله، وإن تباعدت الديار "(1/90)
. ص _096
الدين: هل الدين ركن في بناء الأم وتأسيس المجتمعات؟ إن هذا السؤال يساق عامًّا، أو مبهمًا، وترسل الإجابة عليه كذلك عامة أو مبهمة، ونحن نرفض الغموض والإجمال في ذلك المجال، ونحب أن نساءل بدورنا: ما هو الدين المراد؟ إن في العالم اليوم عدة أديان سماوية وأخرى أرضية. وهذه الأديان- بغض النظر عن وصفها بالحق أو بالباطل- تختلف في صلتها بالحياة العامة اختلافًا كبيرًا. فمنها ما عد الأنظمة السياسية والاجتماعية والأسرية من صميم تعاليمه. ومنها ما اكتفى بالناحية الخلقية والشخصية، بالإضافة إلى عقائده. ومنها ما أنكر الألوهية وعالم الغيب. ومنها ما أغرق في الروحية وأوصى بالتجرد... ومن ثم. فالحكم بأن الدين، أي دين، يبقى في المجتمع أو يذهب؛ حكم غريب، إنه حكم بالإعدام أو بالحياة في قضية لم يعرف فيها المتهم معرفة محدودة بينه، ولم يحرر ما نسب إليه أو وصم به ونحن نعلم أن قومًا ضاقوا بدينهم فقرروا نفيه من الحياة العامة. أو بتعبير آخر- ضاقوا برجال دينهم فقرروا إبعاده وإبعادهم عن الحياة العامة، فهل يرغب بعض المقلدين في تكرار القصة نفسها دون وعي؟ ودون سبب؟. إن الإلحاح في إبعاد الإسلام عن المجتمع، والزعم المتكرر بأن الدين- وهو الإسلام في بلادنا- ليس ركنًا في قيام الأمة العربية يذكرني بقصة الحمار حامل الإسفنج عندما أراد التخفف من حمله كصاحبه حامل الملح، فقد مر هذا بمجرى الماء فذاب نصف ملحه، وتبعه ذاك- بعقله الثقيل- فترنح لكثرة ما حمل الإسفنج من ماء. إذا قررت الصين ترك البوذية صاح في القاهرة غر يطلب ترك الإسلام لأنهم هناك تركوا الدين؟ ص _097(1/91)
إن التاريخ يحدثنا عن المذابح الدينية التي طحنت الجماهير في أوروبا. ويحدثنا أن حرية الاعتقاد لم يكن لها وجود خلال العصور الوسطى في تلك الأقطار التي مزقتها المنازعات الدينية الرهيبة. ورأينا في نهاية القرن السادس عشر بعد صدور قوانين "نانت " في فرنسا، أن هذه القوانين التي تطلق سراح العقائد وتسمح للفرد باعتناق الدين البروتستنتي في الدولة الكاثوليكية دون حرج معناها: أن اعتناق الفرد البروتستنتية- وهي ليست دين الملك- يجبره فعلاً على الرحيل عن البلاد، آخذًا أمواله، غير متعرض لأذى. فهل إقصاء المسيحية عن الحكم- لأنها تضن على بعض المواطنين بالبقاء في بلادهم- ينسحب على الإسلام الذي استطاع يهودي في ظله أن يرفض بيع متاع لرئيس الدولة إلا برهن؟ فجاء صاحب الرسالة بدرعه رهنًا للطعام الذي احتاج إليه وأخذه اليهودي وهو في دار الإسلام، آمن على ماله وعرضه ودينه ونفسه وولده وحاضره ومستقبله، وذلك قبل قوانين "نانت " بتسعة قرون. وهل هذا الدين يتهم بأنه يصادر حرية الاعتقاد؟ ثم يجيء مغفل يلبس مسوح البحث العلمي فيقول: إن الدين في الغرب قد أبعد عن المجتمع وأمسى لا ركنًا فيه ولا نافلة، فليطبق ذلك على الإسلام إن " أوربا " لم تبدأ راحتها إلا يوم عزلت الدين عن الدولة وعن العلم وعن الاقتصاد؛ لأن المسيحية ظلت إلى القرن السادس عشر من تاريخ أوروبا مصدر قلاقل اجتماعية وعقلية انتهت بها إلى هذا المصير. أما الإسلام بالنسبة إلى العرب خاصة؛ فقد أحياهم ماديًّا وأدبيًّا، ورفع أقدارهم بمبادئ الحرية العقلية والنفسية التي طلعوا بها على العالم طلوع البدر في الظلام، أو طلوع الشمس في الغمام، فكيف يجرؤ أحد على بخس حقه ونقص فضله؟ ولندع تلك الغضبة، ولنناقش الموضوع نفسه، ولنكشف ما وراءه من بواعث! إنك لن تعدم شخصًا يقول لك: كيف نجعل الإسلام ركنًا في المجتمع العربي ، ص _098(1/92)
والعرب - وإن كان أكثر من تسعة أعشارهم مسلمين- إلا أن فيهم من لا يدين بالإسلام.. والجواب البديهي على هذا السؤال العجيب أن الإسلام عقيدة ونظام، وأن نظامه يسمح للمسيحي أن يعيش تحت رايته "مثلثًا" كما يسمح للمسلم أن يعيش تحت رايته "موحدًا" سواء بسواء. ومعنى أنه نظام أن تعاليمه ترسم صورة معينة للمجتمع في شتى نواحيه القانونية، فربما ألف المسيحي أن يعيش في ظل قانون لاتيني أو سكسوني أو صيني أو هندي، بل هو مأمور أن يطمئن لعقيدته وحدها يترك ما بعدها حسب الآية المشهورة: " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ". أما المسلم فهو مكلف بالعيش في ظل قوانين فصلها دينه تفصيلاً، ولا ضير على غيره أن يشركه في مجتمعها، فهي على الأقل تمثل "ما لقيصر" أي تمثل الدولة التي تحفظ على المسيحي عقيدته ولا تقوم على لون من الحكم يناقضها. إن المسيحي لا يعنيه ولا يغضبه أن يحكم على الزناة واللصوص بالحبس، ويستطيع العيش رخي البال في ظل قانون وضعي من هذا القبيل. ويستطيع أيضًا أن يعيش رخي البال طيب النفس في ظل قانون آخر يستمد من الإسلام عقوباته. فإذا لم يرها وحيًا من السماء -كما نعتقد- فليرها من صنع الناس كما يشاء. والمهم أن عقيدته مصونة، وذاك يتوفر له. وأن عقيدتنا وشريعتنا- وهما دعامتا الإسلام- مصونتان، وذلك ما نريده وما لا يكرهه أو ما لا يعنيه!!! إن شرائع الإسلام تتناول أكثر من قطاع في النشاط الإنساني، ومنذ بدأ الإسلام وأوامره ونواهيه تتناول أنواع السلوك الخاص والعام، فهو دين اجتماعي لا شخصي. والكلمة الحمقاء التي تقول: أقصوا الإسلام عن المجتمع، إنما تعني القضاء عليه وعلى المجتمع معه . ص _099(1/93)
وربما قال قائل: نحن نريد إقصاء الأديان عمومًا عن المجتمع. وذاك قول مضحك؛ إنه كالحكم على تاجرين بترك الميدان وإغلاق محالهما. أحدهما يملك مائة ألف والآخر لا يملك فلسًا. إنه فى الحقيقة حكم بقتل أحدهما وحسب. أما الآخر فلا ضير عليه! ماذا خسر؟؟ قرأت لكاتب من أصحاب هذه الأسماء التي لمعت بغتة إحصاء مفتعلاً لأركان القومية العربية تعمد فيه إغفال الدين، بل تعمد فيه إبعاد الدين. وأنا أدري، كما يدري غيري، أن العروبة سبقت الإسلام، وأن أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من أهل الجاهلية كانوا عربًا لاشك في عروبتهم- ولم يكونوا مسلمين. ومعنى ذلك أن العروبة تحققت من غير دين. والسؤال الذي وثب إلى ذهني. هل المراد أن نرتد إلى الجاهلية وأن نطرح عن كواهلنا، أو نقصي عن ضمائرنا هذا الدين الذي شرفنا الله به؟. إن كان ذلك مراد بعض الناس، فلماذا لا يقولون في صراحة: إننا نبغي العود إلى الجاهلية ومحو الإسلام من صحائف التاريخ بعد محوه من حنايا الصدور وزوايا المجتمع؟. لكن من الذي يريد ذلك؟. إن إحصاء مقومات مجتمع ما يكون بعد الإطلاع على واقع هذا المجتمع وعلى آمال أفراده وجماعاته. فهل نبذ الإسلام من المجتمع هو واقع العرب المسلمين أو هو أملهم فى الحياة؟ كلا، إن جماهير المسلمين العرب مازالوا يفتدون دينهم بالنفس والنفيس. وربما صعب عليهم- لظروف موقوتة- أن يقيموا شرائعه كلها، فهل جحدوا ما عجزوا عن إقامته؟ كلا، إن أملهم الحار ومثلهم الأعلى أن يعيشوا في ظلال الإسلام وهو كل لا يتجزأ . ص _100(1/94)
فلحساب من هذا الإلحاح الملحوظ من بعض الناس فى إبعاد الإسلام عن العروبة؟، أو بعبارة صريحة في دفع العرب المسلمين إلى الجاهلية الأولى، أو إلى جاهلية حديثة، فيها قشور من العلم المجلوب، وفيها ركام بعد ركام من الأهواء والخبائث؟. بديهي أن ذلك لحساب الجهات التي تكره الإسلام قديمًا وحديثًا، الجهات التي ! قال الله فيها: " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " . غاية ما هنالك أن هؤلاء القوميين يصيحون: لا تقتلونا، نحن سنقتل أنفسنا، لا تحاربوا الإسلام، نحن سنحاربه. فهل نحن من الغباء حتى نردد معهم هذه الصيحات؟؟. إن القومية العربية بهذا المفهوم الكفور لا وجود لها إلا في أذهان بعض المارقين الآثمين. وهي- بهذا المفهوم- خدعة صليبية لختل الجماهير عن دينها الحبيب. نعم، هي بهذا المفهوم " عملة " زيفتها " أوروبا " الحاقدة على الإسلام، وروجتها بين قصار النظر، أو ضعاف اليقين، لتجعل منها بديلاً تلتف حوله الجماهير، بدل أن يلتفوا حول "إسلامهم " ويتعلقوا بأهدابه. وهذا الذي نقوله يعرفه كثيرون من الخبراء بالسياسة الغربية تجاه الشرق. " نشر الدكتور عبد اللطيف حمزة، أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة مقالاً في جريدة الأهرام بعنوان (الجامعة الإسلامية والجامعة العربية) جاء فيه: في الربع الأخير من القرن الماضي، والعشرة الأوائل من القرن الحالي ظهرت في سماء الفكر السياسي المصري أفكار ثلاثة هي سلسلة متصلة الحلقات، وهي فكرة الجامعة الإسلامية، وفكرة الجامعة العربية، وفكرة القومية (أو المصرية). واقترنت فكرة الجامعة الإسلامية بظهور السيد جمال الدين الأفغاني. الذي يقول المؤرخون : ص _101(1/95)
إنه جاء يبشر بدولة إسلامية عريضة في ظل خلافة عثمانية قوية. وهي فكرة كان يمكن تحقيقها لو أوتيت تركيا يومئذ من القوة المادية والمعنوية ما يكفل لها ذلك. ومنذ خابت آمال أوروبا في الشرق الأقصى- أي الصين واليابان-؛ اتجهت آمالها الاستعمارية إلى الشرقين الأوسط والأدنى. فصوبت إليهما سهام الاستعمار. ثم نهض المسلمون في بلادهم. وخشي الاستعمار الأوروبي نتائج هذه النهضة. وعندئذ أصبح للجامعة الإسلامية معنيان: أحدهما في أذهان المسلمين في الشرق والثاني في أذهان الأوروبيين في الغرب. فأما المعنى الأول لفكرة الجامعة الإسلامية في أذهان المسلمين؛ فهو النهوض ببلاد الإسلام نهوضًا تستيقظ به من سباتها. وتتخلص به من النفوذ الأوروبي الذي كان عاملاً حقيقيًّا في تخلفها. لا في تقدمها كما زعم القوم. وأما المعنى الثاني لفكرة الجامعة الإسلامية. فهو ما وقر في مشاعر الغربيين وأفكارهم من أن الإسلام يعاود زحفه القديم. ويتهدد كيانهم الروحي ونفوذهم السياسي… ثم إن النزاع الدامي الذي نشب طويلاً بينهم وبين الأتراك لا يتيسر محوه من الذاكرة. ومن ثم قاوموا فكرة الجامعة الإسلامية مقاومة عنيفة وأوجسوا خيفة من ترك دعاتها يجمعون العواطف حولها. خصوصًا إذا قام هذا الجمع على حشد قوى المسلمين وراء الترك، أي وراء دولة الخلافة، غير أن سواد المسلمين ببواعث شتى مال إلى هذا الاتجاه. ومن ثم اقترنت فكرة الجامعة الإسلامية بفكرة الخلافة العثمانية، ووجد المسلمون في هذه الفكرة السبيل الوحيد لإنقاذهم من براثن الاستعمار الأوروبي، واقتنع بهذه الفكرة الزعيم مصطفى كامل، ورأى في بقاء الدولة العلية يومئذ أمرًا لازمًا للتوازن الدولي، لولا ما أصابها من ضعف جعل ممتلكاتها طعمة للاستعمار الأوروبي. أما الأوروبيون فقد ابتدعوا لمحاربة قيام الجامعة الإسلامية فكرة الجامعة العربية التي دعا إليها كثير من كتاب الغرب وساسته تخوفًا من الجامعة الإسلامية التي(1/96)
رأوا فيها الخطر الأكبر، وأغرت هذه الفكرة كثيرًا من المسلمين فراحوا يؤيدونها ويدعون لها دون أن يذكروا أنهم أخذوها عن الأوروبيين، وكان من هؤلاء السيد علي يوسف صاحب (المؤيد) الذي كان متأثرًا في ذلك بأفكار الخديو عباس حلمي . ص _102
وبينما العالم الشرقي متأرجح بين هاتين الفكرتين إذ "بالجريدة" التي يحررها الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد تدعو إلى فكرة جديدة هي فكرة "الجامعة المصرية" وتأثرت الأذهان بهذه الفكرة إلى ما بعد عام 1932 ". وهذه الجامعة المصرية تقوم على أساس النزعة الفرعونية. وأن أهل هذه البلاد لا صلة لهم بعروبة ولا إسلام، وهذا الكلام أوغل في الكفر من سابقه، ولكنه بداهة قرة عين الاستعمار، وإن زعم قائلوه أنهم دعاة حرية واستقلال. إنه استقلال نشتريه ببيع ديننا، ونسيان ربنا ونبينا، وقد قضي على هذه النزعة العفنة، بيد أن ما أمله الصليبيون من ورائها ربطوه كرة أخرى بمفهوم القومية العربية بعد إطراحها الإسلام. ثم ظهرت من جديد فكرة الجامعة العربية، ومع أنها نبعت مرة أخرى من الأطماع الإنجليزية إلا أن المصريين والشرقيين تحمسوا لها وحرصوا على الانتفاع بها ضد الاستعمار من دسائس الإنجليز. وفي ذلك يقول الأستاذ فتحي رضوان: ".. وتنبه مصطفى كامل إلى هذه المحاولة، وأثبت أن نية بريطانيا لا تهدف إلى إنشاء جامعة عربية للعرب ولمصلحة العرب، بل جامعة عربية تعيش في ظل إنجلترا وتحت سلطان إنجلترا. وكان هذا التنبؤ من مصطفى كامل منذ أكثر من خمسين عامًا، فتحقق ما تنبأ به وثبت أنه يجب على كافة الدول العربية أن تكافح النفوذ الأجنبي لتخلص الجامعة العربية للعرب، وتكون أداتهم في تحقيق العزة والكرامة ". إن الإنكليز الذين طالما حاربوا الإسلام، رحبوا بقيام الجامعة العربية، ظانين أنها سوف تكون أداة صالحة لاستقرار المنطقة على نحو يتمشى مع أهدافهم البعيدة. لكننا نحن العرب رحبنا بقيام الجامعة لتخدم قضايانا، وتنمي(1/97)
وحدتنا، لا لتخدم خصومنا وتؤمن رغائبهم. ويبدو أن القومية العربية ولدت من فترة طويلة في هذا الجو نفسه . ص _103
الغزاة الأجانب يحسبونها عوضًا عن الإسلام، وصارفًا عن التفكير فيه. والعرب لا يعرفون هذا، ولا يصدقون سماسرة الاستعمار الذين يشرحون هذه القومية على أنها مقطوعة الصلات بالدين، وعلى أنها مانعة من العود إليه والاستقاء منه. وعدد كبير من الحدثين في مفهوم هذه القومية يبغضون الإسلام، ويستنكرون نظمه المقررة ويتجهمون لأمته الكبيرة، أي إنهم جيش للغزو الصليبي مدرب على قتال بني جنسه كما تدرب الكلاب على خدمة سادتها أحسن تدريب. وهناك متحدثون في المجتمع العربي لهم أمانة العلماء في البحث، وإن فاتتهم أحيانًا مواقع الصواب فيما يكتبون. وهؤلاء لا يستطيعون الإغضاء عن مكانة الإسلام في بناء المجتمع، غير أنهم يتابعون غيرهم في تحميل الإسلام أوزار ديانات أخرى، ومن هنا يتسرب إلى كلامهم الخطأ. كتب الدكتور أحمد سويلم العمري "دراسات سياسية في المجتمع العربي" . ومع أن المؤلف العالم من أفضل الذين كتبوا في هذه البحوث ؛ فقد قال عن وضع الدين في المجتمع ما يأتي: "ليس وضع الدين اليوم في قوته وأثره كما كان قديمًا، إذ فقد الدين قوته- من حيث أنه عامل في تكوين الشعوب والدول الحديثة- ". هذا الكلام في بلادنا ينصب على الإسلام وحده، فهو دين الكثرة الكاثرة من السكان. لكن الرجل لما أراد الاستدلال على ما يقول أخذ يتحدث عن المسيحية. فيقول: " الدول اليوم عادة تفصل الكنيسة عن الدولة أو الدين عن الدنيا ". وما لنا نحن المسلمين وهذا الفصل ؟ ثم يستطرد فيضرب الأمثال لهذا الفصل الذى وقع في أوربا فيقول عن فرنسا: وصدرت هناك قوانين سنة 1955 التي فصلت نهائيًّا الكنيسة عن الدولة، ولم ص _104(1/98)
يعد للدين علاقة بالتدريس في مدارسها، وقررت الطلاق وهو مخالف للكثلكة: وكذلك حرية الجنازات، وكان مطلع قانون 9 ديسمبر سنة 1905 في فرنسا ما يأتي: " تضمن الجمهورية حرية المعتقدات ". ويلاحظ في هذه الحالة أن الأمر لا يقف عند حد احترام المعتقدات، بل هي تتعهد بضمان هذه الحرية، وهذا أقوى من مجرد الاحترام، أي أنها تحمي هذه الحرية من الاعتداء عليها، ويصبح موقفها إيجابيًّا في فصل العقيدة عن السياسة والدولة. ورغم أن النتائج في إنكلترا يعتبر حامي حمى الدين وراعي العقيدة، وللدولة كنيستها الرسمية: فإن حرية المعتقدات مكفولة أيضًا هناك، وهذا هو الوضع في جل الدول الحديثة بما فيها مختلف الدول العربية والإسلامية التي تجعل نصب عينيها ضمان حرية العبادات تمشيًا مع تعاليم العرب المستقاة من سماحة الإسلام وعيش الذميين في دار الإسلام في طمأنينة وأمان ". نقول لكن ضمان حرية الاعتقاد والعبادة ليس اختراعًا لأوروبا الحديثة. إن هذا هو ديننا من أربعة عشر قرنًا، فإذا كان ذلك مستغربًا في أرجاء العالم النصراني القديم؛ فليس هذا ذنبًا يؤاخذ به الإسلام، وبالتالي لا يصح أن يقول المؤلف: "ولم يعد الدين اليوم شغل الشعوب الشاغل أثناء كفاحها في سبيل تكوين الدولة والنهوض بالمجتمع السياسي". والشعوب العربية على اختلاف ديارها تحترم حرية الرأي والعقيدة. وفي الوقت نفسه تحافظ على تراثها الإسلامي ووحدتها العربية، وهذا ما نصت عليه بعض الدساتير الحديثة للبلدان العربية: فجاء في دستور مصر لسنة 1956 قبل قيام الجمهورية العربية المتحدة في مادته الأولى: " مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة وهي جمهورية ديمقراطية. والشعب المصري جزء من الأمة العربية ". وجاء في المادة الثالثة: " الإسلام دين الدولة: واللغة العربية لغتها الرسمية " . ص _105(1/99)
وجاء في المادة السادسة: " تكفل الدولة الحرية والأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المصريين ". وجاء في المادة 53: " حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في مصر: على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب ". وجاء في الدستور المؤقت لسنة 1958 بمناسبة قيام الجمهورية العربية المتحدة بعد وحدة مصر وسورية في المادة الأولى: " الدولة العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة، وشعبها جزء من الأمة العربية ". وجاء في المادة 7: " المواطنون لدى القانون سواء: متساوون في الحقوق والواجبات العامة: لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ". وجاء في المادة 15: " الحريات مكفولة في حدود القانون ". وجاء في دستور الباكستان (وهي دولة إسلامية) الذي صدر في 29 فبراير سنة 1956، وعطل في 5 أكتوبر سنة 1958 في الفصل الأول والمادة الأولى منه: " تنشأ بالباكستان جمهورية (فدرالية) تعرف بالجمهورية الإسلامية الباكستانية.. ". كما ضمنت المادة الثالثة عشر حرية المعتقدات. ونصت على أنه لن يجبر الفرد على تلقي دراسة دينية. أو حضور حفل ديني أو مباشرة عبادة ما لا تتفق مع دينه. كما أباحت للجماعات والهيئات على اختلافها أن تباشر العبادات التي تروق لها: ولم تغفل الدساتير العربية الأخرى أيضًا. كالدستور السوري فيما قبل الوحدة النص على أن دين الدولة الإسلام، مع مراعاة حرية العبادات والمعتقدات . قال: " وإذا كانت البلدان العربية قد اهتمت بالعروبة والإسلام في بناء ص _106(1/100)
مجتمعها السياسي، فذلك لأن الإسلام أحد أركان هذا المجتمع، وهو في صميم عباداتها وحياتها ونظمها الاجتماعية، وتكوين الأسرة، وموقف الآباء من الأبناء، وطاعة الأبناء للآباء، ولكنها كذلك حافظت في إصرار- شأنها شأن المجتمعات السياسية الحديثة والشعوب المتطورة- على ضرورة حرية المعتقدات ". ونقول: ليست هذه استجابة للأطوار الحديثة في النظم السياسية والاتجاهات العالمية بل هي المرجعية الإسلامية التي حرمت منها أوروبا حتى كرهت الدين وأهله. إنها كما يقول المؤلف في مكان آخر. إنها هي السياسة السمحاء التي طبع بها الإسلام، والتي لم يعرفها المجتمع الأوروبي يوم كان يغرق في لجج عميقة من المذابح ". إن حرية العقيدة والعبادة قديمة لديها قدم الإسلام نفسه. وشرائع الإسلام افترضت أن البيت قد يضم زوجة غير مسلمة، وأن المجتمع قد يضم جيرانًا غير مسلمين، فبنت العلاقة ابتداء على المحاسنة والاحترام. لا على المجافاة والاستهانة. والحقيقة التي لا نرى بدًّا من التصريح بها، أن العالم لا يعرف أنكر، ولا أخس، ولا أشأم، من مشاعر الأوروبيين ضد مخالفيهم في الدين أو المذهب، اللهم إلا ما يروي عن البراهمة مع المنبوذين في الهند. والسبب في ذلك أنه كلما ابتعد أصل الإيمان عن المنطق العقلي سلك طريقًا في الحياة لا مكان معه لتفاهم أو اعتدال. وذلك في نظرنا سر المرارة التي سجلها التاريخ لأمثال هذه المنازعات الدينية وسر ما غصت به مجتمعات الغرب من ذكريات أسيفة جعلت القوم يحزمون أمرهم آخر المطاف، ويجردون الكهنوت من سلطانه، أي من أظافره!! ولكننا نتساءل مرة أخرى: وما لنا نحن وهذا كله ؟ إن الإسلام عندما شرع يتصل بالسلطات الخارجية الأخرى للأم النصرانية؛ كان يرسل إلى حكامها الرسائل مختومة بالآية الشريفة : ص _107(1/101)
" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " . إنه لم يقل لهم: فإن توليتم فعليكم اللعنة. ولم يقل لهم: إن توليتم فاستعدوا للمعركة. بل قال لهم: إن توليتم فاعلموا أننا لسنا معكم. إن لنا اعتقادًا آخر سنظل عليه. وإذا كنا لا نحملكم على معتقدنا فدعوا من يشاء يدخل فيه، ولا تضعوا العوائق أمامه. ونحن في كتاب "التعصب والتسامح " قد أوردنا نماذج كثيرة للمكاتبات والمعاهدات التي أنشأها الإسلام مع الأقطار الأخرى، ولا بأس أن نورد هنا طرفًا من هذه الوثائق للأستاذ العميد محمد خلف الله نقتطفها من بحث له قدم للمؤتمر الإسلامي المسيحي الذي انعقد في الإسكندرية سنة 1954: يقول الرسول في كتابه إلى قيصر الروم: " من محمد رسول الله إلى صاحب الروم، إني أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. فإن لم تدخل في الإسلام فأعط الجزية ويطلب إليه آخر الكتاب ألا يحول بين الفلاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية. ويقول في كتابه إلى أسقف أيلة وأهليها "إلى مريحنة بن رؤية وسروات أهل أيلة. ص _108(1/102)
سلم أنتم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم. فأسلم أو أعط الجزية... ويصله كتاب من المنذر بن ساوى يقول فيه: أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث في ذلك أمرك. فيرد عليه الرسول بكتاب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى أما بعد: فإن كتابك جاءني وسمعت ما فيه. فمن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا، ومن أبى فعليه الجزية وعلى هذا سار خلفاء المسلمين في معاملتهم للأمم المفتوحة، فمن أراد من الرعية أن يبقى على دينه؛ وفروا له الجزية والأمن في نفسه وماله وأماكن عبادته، مادام يؤدي الضريبة التي فرضتها الدولة عليه لقاء هذا السلام الذي تهيئه له، والرعاية التي ترعى بها مصالحه. ومن الأمثلة الواضحة في هذا، الكتاب الذي كتبه الخليفة عمر لأهل إيلياء بعد فتح بيت المقدس في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وفيه يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل (إيلياء) من الأمان. أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها، وبريئها وسائر ملتها. إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن.. إلى أن يقول: " فإنه ص _109(1/103)
لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية". وكذلك فعل المسلمون حين فتحوا مصر؛ فقد حسموا النزاع الذي كان قائمًا بين مسيحيي مصر ومسيحيي بيزنطة على بعض التصورات الدينية، وهيأوا لكل فريق الحرية أن يدين بما يشاء ووكلوا إلى البطريرك القبطي سياسة الطائفة وتدبير أمورها، وإصلاح ما هدم من كنائسها في أيام المقوقس. ومن الكنائس القبطية المشهورة التي بنيت في العصر الإسلامي كنيسة مار جرجس بحلوان، وكنيسة أبي مينا. ومما قرره الباحثون أن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى، وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين، وأولئك هم أهل الذمة، وإن الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون بها من وفاق أوجدت من أول الأمر نوعًا من التسامح الذي لم يكن معروفًا في أوروبا خلال العصور الوسطى. ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي : دراسة الملل والنحل على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم. ولم يكن التشريع الإسلامي يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء. بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلاً يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتاب نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود جهابذتهم. ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في شعائر أهل الذمة الدينية، بل كان بعض الخلفاء يحضر مواكبهم وأعيادهم، ويأمر بصيانتهم . أما في التقاضي؛ فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والتي كان الرؤساء الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة. ص _110(1/104)
أما في شأن الجزية. فيقول "آدم متز" في كتابه (ص 74- 75) : وكان أهل الذمة بحكم ما نالوه من تسامح المسلمين ودخولهم في ذمتهم وحمايتهم يدفعون الجزية، كل واحد منهم بحسب قدرته. وكانت الجزية أشبه بضريبة للدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، ولا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار. ولم يكن المسلمون بدعًا في هذا. فقد كان الروم يأخذون من اليهود والمجوس دينارًا في السنة. وكذلك فرض النصارى على المسلمين الجزية لما فتحوا بلادهم. فإذا انتقلنا من شرق البلاد الإسلامية إلى غربها؛ وجدنا منهج الحكم الإسلامي واحدًا لا يتغير، ووجدنا التسامح الديني أساسًا من أسس ذلك الحكم، وهذه حقيقة يقررها مؤلفون مسيحيون. فيقول "ستانلي لين بول " مثلاً في كتابه " قصة العرب في أسبانيا ". ثم أخذ الناس بعد قليل يشعرون بأنهم أفادوا من تغير الحكم. فقد كان للأسبانيين أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعين لهم حكام من أنفسهم يديرون المقاطعات، ويجمعون الضرائب، ويفصلون فيما شجر بينهم من خلاف، وأصبح سكان المدينة لا يكلفون إلا الجزية والخراج- إن كانت لهم أرض تزرع- بعد أن كانوا فى عهد القوط يحملون وحدهم عبء الضرائب والأموال التي تنفق على الدولة.. وكثرت الجزية على المخالفين في الدين من النصارى واليهود. أما ضريبة الأرض.. فإنها فرضت بعدل ومساواة على النصارى واليهود والمسلمين جميعًا ما التسامح الديني فلم يدع للأسبانيين سببًا للشكوى؛ فقد تركهم العرب يعبدون كما يشاءون من غير أن يضطهدوهم أو يلزموهم اعتناق عقيدة خاصة كما ص _111(1/105)
كان يفعل القوط باليهود، وكان من أثر هذه المعاملة وذلك التسامح أن رضي المسيحيون بالنظام الجديد واعترفوا في صراحة أنهم يؤثرون حكم العرب على حكم الإفرنج والقوط. وقد جعل المستشرق الإنجليزي "السير توماس أرنولد" فكرة تسامح الإسلام مع رعاياه غير المسلمين هي الفكرة الرئيسية في كتابه "الدعوة إلى الإسلام "، وأورد في شأنها كثيرًا من النصوص والشواهد التاريخية، وتتبع مظاهرها في إقليم فارس وولايات بيزنطة، وأشار بصيغة التشكيك إلى الروايات القليلة التي تناقضها من مثل ما أورده ابن العبري في تاريخه من أن الخليفة المهدي (158 ـ 69 أهـ). رأى نفرًا من تنوخ يقيمون بظهر حلب، فلما علم أنهم من المسيحيين أمرهم- وهو في سورة الغضب ـ أن يعتنقوا الإسلام، فأجابوا وكان عددهم خمسة آلاف شخص، وآثر أحدهم الاستشهاد على الارتداد عن دينه. ويعلق أرنولد على أمثال هذه الروايات، وعلى الطريقة التي تحول بها السواد الأعظم من المسيحيين في بلاد العرب الشمالية إلى الإسلام فيقول: ولو أن المسلمين حاولوا إدخالهم بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت لواء الحكم الإسلامي؛ لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين. ويبرز "أرنولد" في كتابه، ظاهر الخلافات المسيحية التي كانت متفشية قبل الإسلام بين النسطوريين واليعقوبيين، والاضطهاد الذي كانت تصبه كل فرقة على الأخرى، ويذهب إلى أن هذه الخلافات كانت عاملاً من العوامل التي مكنت للإسلام، وسهلت تحول الكتابيين إليه. وفي سماحة الإسلام يقول "جوستاف لوبون ": " فهم الذين علموا النصارى، وإن شئت فقد حاولوا أن يعلموا النصارى كيف يكون التسامح الذي هو أثمن ما تصبو إليه الإنسانية " . وقد بلغ من حلم عرب أسبانيا إزاء النصارى أنهم كانوا يسمحون لأساقفتهم أن ص _112(1/106)
يعقدوا مؤتمراتهم الدينية! كمؤتمر أشبيلية النصراني الذي عقد في سنة 782 ، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد سنة 852. ذلك، وتعد بيع النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم. وقد أسلم كثير من النصارى من غير إكراه، ولم يسلموا طمعًا في شيء. وهم الذين استعربوا، وكانوا هم واليهود مساوين للمسلمين، وكانوا يتقلدون مناصب الدولة كالمسلمين. وقد كانت أسبانيا العربية البلد الأوروبي الوحيد الذي كان اليهود يتمتعون فيه بحماية الدولة ورعايته، وقد زاد عدد اليهود في أسبانيا العربية كثيرًا، وكان عرب أسبانيا مع تسامحهم هذا يتصفون بنبل الأخلاق وبخلال الفروسية، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويترفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، ويقولون الصدق، وما إلى ذلك من الخصال الحميدة التي اقتبسها الأوروبيون منهم والتي كانت تؤثر في نفوس الناس تأثيرًا لا توثره الديانة. ويصف الأستاذ "بابنجر"- وهو من المتخصصين في العلوم الإسلامية، وكان أستاذًا في جامعة برلين- هذه الروح فيقول: " إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي منذ قيام الخلافة إلى اختفائها سنة 1924 ؛ قررنا بلا تردد: أن الإسلام حيث ظهر، وفي أي مكان استقر، وضحت روحه السمحة في نواحي المجتمع كلها، هذه الروح البعيدة عن التعصب، مع ما تحمله من رفق، ومراعاة لعادات البلاد التي يحل فيها " . ربما سأل سائل: ما هذه الجزية التي يأخذها الإسلام؟ وبأي حق يطلبها من مخالفيه في العقيدة ؟ أليس ذلك لونًا من الضغط المادي الكريه، لا يسوغ بقاؤه. وإن كان في العصور السابقة أشرف وأيسر مما صنعه الصليبيون بأعدائهم؟ وهذا تساؤل له براعته وله قيمته ؟. ص _113(1/107)
ونحن لا نطلب من موجهيه إلا قليلاً من الأناة يعرفون بها وجهة نظر الإسلام، ولهم بعد ذلك ما يشاءون. إن الجزية التي يأخذها الإسلام ليست ضريبة شاذة يسمن بها أمته وينحف بها خصومه. وليست ضربًا من الكسب يتناوله القاعدون من العاملين، والعادون من المنكسرين. ويوم تكون الجزية كذلك فإن إلغاءها حق، واستنكارها مفهوم. ولكن الجزية التي فرضها الإسلام على من انهزموا وهم يحاربونه لا تعدو أن تكون سهمًا في نفقات الدفاع العسكري الذي يتحمله المسلمون وحدهم عن هؤلاء اليهود والنصارى والمجوس الذين آووهم، وقرروا حمايتهم. فالغرم الأكبر على المسلمين يسفكون دمهم ويفقدون ما لهم على حين يبقى أولئك جميعًا موفوري الدماء والأموال. عدا السهم التافه الذي يدفعونه باسم الجزية. حكى ابن حزم في مراتب الإجماع: "أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه؛ وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالسلاح، ونموت دون ذلك صونًا لهم " !!. هل شهدت أعصار الدهر أشرف من هذا السلوك؟ يجب أن نموت نحن المسلمين ذودًا عن النصارى واليهود والمجوس الذين يعيشون في بلادنا، ولا نمكن أحدًا من أن ينالهم بأذى!! أفإذا أسهم أولئك الأقوام بدريهمات في نفقات هذا الدفاع عنهم كان ذلك نهبًا يقترفه الإسلام وتوصم به أمته؟. وهل المعقول ألا يدفعوا شيئًا قط، ونفقد نحن النفس والنفيس؟ قد نقول: لا، ما نقصد هذا، يحمل هؤلاء السلاح معكم كتفًا إلى كتف، ويبذلون دمهم مع دمائكم دون تفرقة !! ص _114(1/108)
ونجيب: حبذا ذلك لو صح ! إن الرجال الشرفاء أمثال "بطريرك أنطاكية" الذي لجأ إلى دمشق لما زحفت الصليبية الغربية على الشرق الأوسط أهل لكل ثقة. ولكن كيف ينجح الدفاع المتكامل إذا وجد أمثال "الجنرال يعقوب " يعرض على الأعداء نفسه وصحبه؟ أليس من حق أي دولة تحترم نفسها أن تعرف بمن تقاتل؟ وأن تأخذ الحذر من بوادر الخيانة، فإذا استيقنت من شرف المدافعين لم يبق مكان للجزية. لكن الذي نقرره- ونحن محزونون- أن الغضب العنيف ضد الغزو الأوروبي كاد يكون وقفًا على جماهير المسلمين. ونفر محدود من النصارى العرب مما دعا السيد رشيد سليم الخوري أن يقول فى لبنان : وكيف ألوم في وطني الزمانا ومنا ذله لا من سوانا؟ ألسنا قد أهناه فهانا وقلنا كن فرنسيًّا فكانا؟ إذن فليهننا نيل المراد رضينا للتعصب أن نهونا فأغمضنا على الضيم العيونا نقول: المسلمون المسلمونا فنرميهم ونحن الخائنونا نبيع بدرهم مجد البلاد بربك قل: متى لبنان ثارا ليدرك من علوج الغرب نارًا؟ متى نفرت إلى السيف النصـ ارى لتغسل بالدم المسفوك عارًا؟ وتحرز مرة شرف الجهاد أتيناهم بإنجيل المسيح فجاءونا بآلات الفتوح أدل يا رب من روح لروح فقد ضاع الجميل مع القبيح كما ضاعت جواهر في سماد ص _115(1/109)
إن الجزية ما تؤخذ إلا من المعتدين والمريبين في مقابل الدفاع عنهم، فإذا انقطعت أسبابها انقطعت معها. أظنه قد استبان لكل ذي لب أن الإسلام يسع إلى جانبه ديانات أخرى. وأن تسويته بغيره من الأديان والمذاهب التي تأبى على غيرها حق الحياة معها تسوية جائرة باطلة لا يشهد لها ماض ولا حاضر. وأن إبعاده عن المجتمع بهذا الاتهام لا مساغ له أبدًا. وأن تفسير القومية العربية بأنها شيء مجرد عن الدين، أو بلفظ واضح شيء بعيد عن الإسلام؛ ليس في حقيقته إلا احتيال ملحدين وعبث مبطلين.. إن ما يريده هؤلاء الناس لا يخفى علينا. إنهم لا يريدون عروبة، كما أنهم لا يريدون إسلامًا. إنهم يريدون الحياة في ظل نظام مرقع. يتسول قانونًا للعقوبات من فرنسا. وآخر تجاريًّا من إنجلترا. وإصلاحًا اجتماعيًّا من روسيا. وتقليدًا خلقيًّا من أمريكا. وطعامًا شرقيًّا على هيئة أوروبية. وهذا الخليط المستجلب من كل أفق يمكن بزعم زاعم أن يلبس رداء عربيًّا، ثم يطلق عليه اسم "القومية العربية"!. وإلا فهل ترى أسمج من مخلوق يقول لك: دع الإسلام لتكون عربيًّا!. ارم نصف آيات القرآن في البحر لتكون عربيًّا! ص _116(1/110)
لا تذكر شيئًا من شرائع الإسلام للأسرة أو المجتمع أو الدولة لتكون عربيًّا!. إن العروبة في نظر هؤلاء انتماء لكل نحلة، والتقاط من كل مائدة، واصطياد للأفكار والتقاليد من كل بلد. شيء واحد محظور على العروبة في نظر أولئك الناس. أن تنتسب إلى ولى نعمتها الفذ. أو تلوذ بسياج بقائها الخالد. أو تقترن بالإسلام!... ومن هنا تصدر رسائل، وتلقى خطب، وتؤلف كتب، تتساوق جميعًا نحو هذه الغاية الوضيعة، جعل القومية العربية لا إسلام لها!. وبديهي أن تتظاهر شتى القوى في هذا الميدان: العلمانية، الوجودية، والشيوعية، والصليبية، والصهيونية، والبوذية، والطورانية.. إلخ هذه النزعات التي تسخر عشرات الأقلام والألسنة لتجعل العرب يصدقون هذه الخرافة، ويتصورون العروبة شيئًا آخر لا صلة له من قريب أو بعيد بالإسلام. المراد باختصار أن يرتد العرب عن الإسلام، سواء كان هذا جزءًا من مفهوم العروبة أو شيئًا آخر غيرها، ولكنها ترتبط به ويرتبط بها... والجواب أيضًا باختصار: نحن مسلمون، وعرب، ولن نسمح للص أن يسرق إيماننا، أو يسلبنا ضمائرنا وشرائعنا. لو كان لدى أولئك العروبيين قدر من إخلاص لعروبتهم؛ ما تواصوا بجحد الإسلام في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها العروبة. أتراهم يجهلون أن السرطان الذي نشب بأرضهم- حين أنشئت إسرائيل- يعتمد في استئصالهم على سلاح مزدوج، معنوي أساسه الدين اليهودي، ومادي قوامه الدمار الصليبي ؟. ص _117(1/111)
إن الدين عميق الآثار في تعبئة القوى وشحذ العزائم، فلمصلحة مَن يزداد سلطان الدين في إسرائيل، وتتنادى الجماهير باسمه بين آسيا وأمريكا، على حين يخفت صوت الإسلام بين العرب، ويقال لهم: قوميتكم دم لا دين، وجنس لا شريعة؟. ويوم يلتقي الجمعان، هذا مزلزل اليقين نتيجة كتابات المنافقين، وهذا مدعوم الإيمان نتيجة توجيهات اليهود. فعن أي عقبى سوف تتمخض المعركة. إنها عقبى يعمل لها اليهود، وتؤتيهم أطيب الثمر. ولذلك ما أشك في أن هؤلاء العروبيين الحانقين على الإسلام أجراء لأعداء العروبة والإسلام. ولأمر ما لمعت في سماء القومية هذه الأسماء "أنطون سعادة" "قسطنطين زريق " ، "ميشيل عفلق "!. والأخيران من زعماء العروبة وفلاسفتها!. ولو كان هؤلاء مع نصرانيتهم- عربًا ما أكنوا هذا الحقد كله على دين شرف جنسهم ورفع رأسهم... وإنك لتدرك مبلغ الجريمة في تجريد العروبة من الإسلام حين تعلم أن إسرائيل لا تعتمد على اليهودية وحدها في بناء جيل يحارب عن عقيدة متغلغلة، بل تضم إلى ذلك المسيحية!. ولا يسبقن إلى ذهنك أني أعني بالمسيحية النشاط الصليبي في ميدان السياسة، بل أعني النشاط الديني في ميدان التبشير!. تسأل كيف هذا!. هاك البيان: جاء في كتاب "فلسطين بين نارين " الذي صدر "للأستاذ إبراهيم الخوري" أن قسيسين من اليهود يديرون الكنائس المسيحية بعد تنصرهم، وعلمهم أن للقسس نفوذًا كبيرًا على الشعب الإنجليزي، وعلى النواب واللوردات . ص _118(1/112)
فقد عمل اليهود على الاستفادة من ذلك المركز العظيم؛ فقدموا عددًا من الشبيبة اليهودية الذكية لاعتناق الدين المسيحي!. قال الأستاذ الخوري: ولقد عرفنا في إحدى المدن الكبرى في الشرق جماعة من القسس جاءت للتبشير بالمسيحية البروتستانتية، فكانت نسبة اليهود من أولئك القسس ثلاثة من خمسة، أي كل ثلاثة قسس من اليهود يقابلهم اثنان من المسيحيين فقط!. وكان أحد القسس الذين جاءوا للتبشير فلسطينيًّا، وكان أهله يقيمون في تل أبيب نفسها. يقول المؤلف: فما على حماة الكنيسة البروتستانتية إلا أن يتدبروا أمرهم، ويحموا كنيستهم من الدخلاء عليها، الأعداء لها ولأهلها. ثم يقول هذا المؤلف المسيحي: بينا تجد رسالة السيد المسيح تبشر بالمحبة والسلام، وتقوم على تفهم الإنجيل، نرى أولئك القسس يدعون إلى التوراة التي بين أيديهم وفيها من مبادىء السفك للدماء، وإحراق المدن، وقتل النساء والأطفال، ما ينافي الدعوة المسيحية الأصلية" ا.هـ. أقول وهذا هو الذي فعلته الصهيونية في فلسطين، فقد ذبحوا الشيوخ والنساء والأطفال، والمرضى، والعجزة، وبقروا بطون النساء الحوامل في "دير ياسين " و "قبية" و "نحالين " من دون حرب ولا قتال، وطردوا بسلاح إحدى الدول الكبرى مليون عربي من بيوتهم ومزارعهم ودوابهم وبلادهم، وتركوهم مشردين في الأمصار. فأين العدل في هيئة الأمم، وأين السلام في الأرض! . إن دام هذا ولم تحدث له غير لم يبك ميت ولم يفرح بمولود ص _119(1/113)
المصالح المشتركة: وهي باعث معقول على ائتلاف الناس وتكوين المجتمعات.. وهذا الباعث مظهر لعاطفة التعاون، وغريزة التجمع، فإن الإنسان بطبيعة خلقه يصدف عن العيش وحده، ولو رغب العزلة ما استطاع لحاجته الماسة إلى خدمة الآخرين. ولو أن المرء تأمل في وجبة طعام يتناولها لوجدها مؤلفة من جملة عناصر لم تأخذ صورتها الأخيرة بين يديه، وتتهيأ لارتفاقه إلا بعد أن أسهم عشرات الناس في ذلك... فإذا برزت عدة مصالح مهمة بين قبيل من الناس؛ مهدت لإقامة وحدة بينهم يشعر كل فرد أنه مسئول عن رعايتها. وعلى قدر ما في هذه المصالح من خطر ووزن، يكون الحرص على استدامتها والدفاع عنها. والعرب- من قديم- كانوا ينخلعون من أثرتهم ويفنون في القبيلة التي تمثل مصالحهم المادية والأدبية. وقد بلغ من شدة الذوبان في الكيان العام أن كانت القبيلة كلها تغرم ما يجني المنتسب إليها، وتشترك في دفع الدية عنه. وقد ذهب عهد القبيلة، كما انقضى عصر العصبيات الصغيرة. ومنذ احتضن العرب رسالة الإسلام، وانتشرت جموعهم في بقاع شتى؛ دخلت مصالحهم الجامعة في طور جديد، طور يفرض عليهم وحدة اجتماعية وسياسية، واقتصادية، وثقافية، تلم شملهم، وتحمي حقيقتهم. والأجزاء التي يتكون منها الوطن العربي يكمل بعضها بعضًا، وتكفل له كل حاجاته. كأنها جميعًا ملامح وجه ما تجمل قسماته إلا باستوائها، أو مشاعر جسم وأعضاؤه. فما يستطيع السعي ولا الحس إلا بتعاونها وائتلافها. وعندما قطع الاستعمار هذه الأمة أممًا، فرق بين اليد وأختها، فما تستطيع أحدهما أن تصفق، وباعد بين السمع والبصر، وبينهما جميعًا والقلب؛ فكان هذا التمزيق إبطالاً لكل مصلحة مرتقبة . ص _120(1/114)
تم كان- بعد- إحباطًا لأي جهد يمكن بذله لإنجاح رسالتنا العظيمة. فمن ناحية السكان اكتظت مصر بشعبها الكبير؛ ضاقت بهم الرقعة الخصبة، على حين تتطلب الأرض الخصبة في العراق والسودان وليبيا أضعاف السكان الموجودين الآن. فعز على الأولين الغنى، وبقيت مساحات شاسعة من أرجاء الوطن العربي غفلاً لا تظفر بمن يستثمرها ويعمرها. وفي الوقت الذي صنع الاستعمار فيه دولاً بفضول من صدقاته؛ لأنه ليس لها مقومات الدولة، صنع من بعض المناطق المتخمة بالثراء دولاً أو حكومات خاصة، وجمد لها أموالاً طائلة عنده. فانظر كيف يخلق دولاً لا مال لها، وكيف يمنع المناطق ذات المال من الامتداد في مجالها الطبيعي، ثم يأخذ مالها وديعة عنده!؟. وقد لفتنا النظر فيما مضى إلى أن الوطن العربي كله جسد واحد من الناحية العسكرية. فاحتلال ليبيا يهدد بلاد المغرب كلها ووادي النيل. واحتلال فلسطين يهدد دمشق، وبغداد، ومكة، والمدينة. إن المصالح المشتركة لهذا الوطن تصرخ بضرورة إقامة مجتمعه على أساس الوحدة الشاملة. ونريد أن نعرف القالب الذي نفرغ فيه تلك الوحدة ونضمن به تلك المصالح، وأمامنا، في هذا العصر صور عديدة لتجمع الشعوب على أهداف روحية، وسياسية، وعسكرية واقتصادية. ونستطيع الموازنة بين مختلف أشكال الوحدة. واختيار ما يناسب وطننا العربي الكبير منها. هناك ما يسمى " بالكومنولث " أو مجموعة من الشعوب الإنجليزية، وهو حزام مرن غريب ضم أقطارًا من أوروبا، وأمريكا، وآسيا، وإفريقيا، وأستراليا . ص _121(1/115)
وداخل هذا الحزام ألوان من الأديان والمذاهب، وإن كانت قبلته الأولى "لندن " ولغته الأولى الإنجليزية، ومحور نشاطه المصالح المادية هذه الحزم المتباينة من الخلائق. وهناك ما يسمى " بحلف الأطلسي " وهو اتحاد عسكري وحسب، للأكذوبة التي تسمى "دول العالم الحر". وكانت مهمة هذا الاتحاد مواجهة التحدي الشيوعي. وكم قطعت أسلحته رقاب المسلمين في الجزائر؛ لأن دول هذا الحلف لا يربطها مثل أعلى له قيمة، وإنما يجمعها خوفها على ضياع مكاسبها. ولعلها ترى أن الإسلام أشد خطرًا على كيانها من أعدائها التقليديين.. وهنا " الولايات المتحدة الأمريكية " وهي تقوم على حكم مركزي في جمهورية رئاسية، وإدارات محلية، تتمتع بحرية كبيرة في الشئون الخاصة لكل ولاية: ونحن العرب، ننتشر فوق رقعة هائلة من الأرض، تعد أخطر بقاع الدنيا. إن أحشاء العالم كله في أيدينا. ومفاتيح بره وبحره لدينا. وفرص الاتصال بجماهير البشر أيسر ما تكون لنا وحدنا. وحاجة الأقطار الأخرى إلينا أشد من حاجتنا إليهم. وتلك كلها ميزات يسألنا الله عنها، ماذا أفدنا منها؟ وكيف تصرفنا فيها؟ وكم نفعنا العالمين برسالتنا في وطن نشرف منه على أرجاء العالمين؟ ونحن في هذه السطور لا نقترح وحدة معينة للوطن العربي الذي يضارع روسيا والصين، والولايات المتحدة، ودول الأطلسي مجتمعة. ربما صلح لنا تكوين ولايات متحدة عربية، أو تكوين نظام على غرار الدول الدائرة في الفلك الإنجليزي، أو المزج بين عدة أنظمة لإيجاد " شكل عام " لا الوحدة التي ترعى صوالحنا وتساند رسالتنا . ص _122(1/116)
أيا ما كان الأمر فلابد من وضع هذه الحقائق نصب أعيننا: (1) طرد عصابات الاحتلال كلها وغسل البلاد بعدها غسلاً شديدًا لمحو آثارها كافة. (ب) محو الحدود السياسية الملفقة التي رسمها الأجانب الغزاة، وإعادة الأواصر - التي تخلط بين الأهلين وتجعلهم ينظرون إلى أنفسهم على أساس الأخوة الجامعة، لا فرق بين مصري وفلسطيني، ولا بين شامي ومغربي، ولا بين سوداني وصومالي أو عراقي وسعودي. (جـ) سحق العصبيات التي تحاول استبقاء مآثر الجاهلية، والتي تدعي نفسها حقًّا في سيادة، أو وراثة لملك، وتمهيد السبل أمام الكفايات كلها لخدمة أمتها بالإخلاص والإنتاج !. (د) الاستفادة من دفائن وخيرات الوطن العربي في خلق مقدرة مالية متفوقة تنتعش بها الجماهير، ويتجدد بها العمران. (هـ) إعادة البناء الروحي والثقافي لأمة لا تزال تعتبر في بواكير يقظة بعد غيبوبة طويلة ورقاد عميق. لقد كنا دولة واحدة، وأمة واحدة، وأرضًا واحدة، فيجب أن نعود كما كنا، وأن نزيح كل العوائق التي تعترض بعثنا، ونشاطنا.. إن الأوضاع القائمة هي النتائج التي توصلت إليها سياسة الاستعمار كي تفسد علينا حياتنا، وتحول بيننا وبين رسالتنا، وهي أوضاع لا يمارى في ضرورة الانتهاء منها. والمصالح المشتركة تعتبر دوافع مادية تافهة- بل وضيعة أحيانًا - إذا لم تكن مصحوبة بهدف سام تسخر له وتدرك به. هب قبيلاً من الناس أمكنته ظروف مواتية ومصالح مرعية أن ينال مستوى من العيش المادي لا نظير له، ما قيمة ذلك؟ إذا كان كافرًا بربه، جاحدًا لحكمه، منكرًا للقائه . ص _123(1/117)
" أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " . ومن ثم فكل محاولة لتجميع المصالح المشتركة على أساس من الإلحاد والتحلل، ينبغي أن تزدرى بقوة، وأن يعرف معرفة اليقين أن حتف الأمة العربية في نجاح تلك المحاولات المجنونة. " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ، ذكرى وما كنا ظالمين " . إن الإسلام هو الحبل الذي يحزم تلك المصالح، ويحدو الجماهير في كل بلد كي تعمل لها وتستفيد منها. وهذا الإسلام هو الشيء الوحيد الذي يصرف دعاة الأقليمية عن عصبيتهم، ويبعثهم بحماس إلى أن يندمجوا في غيرهم. ونحن ندرك أن الأعباء تكاثرت في هذه الأعصار على الحكومات، وأن الدائرة التي تعمل فيها الآن أوسع ألف مرة من الدائرة التي كانت تعمل فيها السلطات الحاكمة في قرون مضت. وربما قيل: إن المخاطرة بمصالح الشعوب أن تناط شئونها بحكومة واحدة في أرجاء هذا الوطن الفسيح. ونحن نسارع إلى الإجابة بأن هذه الحكومات يجب أن تبقى في شكل إدارات محلية ذات صلاحية مطلقة لمباشرة ما تملك الآن عمله لمصالح الأفراد والجماعات. أما الحكومة المركزية للوطن العربي أجمع فهي محور شئونه العليا من مادية وروحية. وبديهي أن تكون إسلامية، وأن تكون بالنسبة إلى مسلمي المشارق والمغارب بديلاً عن الخلافة الغاربة، إلى أن يلتقي المسلمون على كلمة سواء في هذا الأمر الجلل . ص _124(1/118)
وأظن ائتمار الأديان الأخرى بهم وإضمارها السوء لدينهم سوف يعجلهم إلى بحث هذا الموضوع في وقت وشيك.. الطبيعة- كما رأيت- جعلت أجزاء الوطن العربي فقيرًا بعضها إلى البعض الآخر فقر الجسم إلى أعضائه وحواسه. وإذا كانت الطبيعة قد وحدت مصالح هذا الوطن؛ فإن الإسلام وحد تاريخه وجعل أنباءه الماضية متشابكة متماسكة ينتظمها سجل واحد، وتستوعبها صحائف واحدة، لا فرق بين إقليم وإقليم، وشعب وشعب. ويشبه هذا ما صنعه "مينا" في تاريخ مصر القديم. فقد جعل من الوجهين البحري والقبلي دولة واحدة لا فكاك بين شطريها، بل لا معنى لتصور شطر منفرد. ولئن كان سخفًا ما يخطر إلا ببال الحمقى أن تتصور دولة في أحد الوجهين، إن هذا السخف قد وقع نظيره للأسف، حين مزق الاستعمار بلدان الوطن العربي وجعل من كل بلد دولة، وفق ما أملى الهوى، وصنع الحقد. إن الماضي الذي ضمه تاريخ واحد، هو نموذج المستقبل الذي يجب أن ننسج نحن تاريخه على منوال أسلافنا الكبار.. من أجل ذلك ينبغي أن نسرع إلى تصحيح الواقع المنحرف، مستهدين بمبادئ الإسلام في وصل ما انقطع من أمجادنا، ونظم ما انتقض من مصالحنا. وزيادة في شرح هذه القضية الجليلة، وتبيانًا لدور الإسلام في بناء مستقبلنا على قواعدنا الأولى نذكر كلمة لشيخ المؤرخين في هذا العصر. الأستاذ "محمد شفيق غربال " جاء فيها: "الإسلام دين وجامعة وثقافة، والعروبة صورة خاصة من الجامعة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وهذه المدلولات ظاهرة في التاريخ وفي الواقع. فالإسلام دين يصل الناس بالله . ص _125(1/119)
وهو جامعة ربطت بين شتى الشعوب الإسلامية. وتلك الجامعة لم تقتض ولا تقتضي وجود الإدارة أو السلطة المركزية- كما نفهمها-، بل إن أقاليم العالم الإسلامي حتى في العصور الأولى للخلافة الإسلامية تمتعت في الواقع بمقدار من الحرية مكنها من الانفراد بحياة إقليمية خصبة مثمرة. - والإسلام أيضًا ثقافة بمعنى أنه "طريقة حياة" ، أو كما يقول السلف " آداب " . وقد شرح ذلك ابن خلدون في قوله : "إن الحضر لهم آداب في أحوالهم، في المعاش والمسكن والبناء، وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم وجميع تصرفاتهم، فلهم في ذلك آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه أو يتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى". فالحياة الإسلامية ثقافة بهذا المعنى الشامل لأمور الدين والدنيا. وكانت هذه الثقافة من صنع الشعوب الإسلامية، ومن عناصرها ما يرجع لأحوال الشعوب قبل الإسلام، ومنها ما يرجع لما اقتضته حاجات تطورها، إلا أن تلك العناصر تنطبع جميعًا بالطبع الإسلامي. وبناء على هذا تنوعت الثقافة الإسلامية تنوعًا عظيمًا. إذ هي في الأندلس تختلف مثلاً عنها في الهند. وهي في الغابات أو المراعي أو السواحل الإفريقية تختلف عنها في الشام أو في العراق. ولكننا نجد من وراء ذلك التنوع الطابع الإسلامي المشترك الذي أشرنا إليه، وكان بناء الثقافة الإسلامية على هذا النحو من أعجب فصول التاريخ الإنساني وأعظمها؛ فهي ثقافة واسعة سمحة، مكنت الشعوب التي عملت بها من أن تجاري مزاجها الخاص أو عبقريتها القومية مع اعتناقها الإسلامي. وقبلتها شعوب على درجات متفاوتة من الحضارة، أو كانت تنتسب لسلالات بشرية مختلفة، أو لأصول تاريخية متباعدة، فقبلها الحضري والبدوي، وقبلها السامي والحامي والآري، ونعم بها ذو العقل البدائي، كما نعم بها ذو العقل الراقي، وهكذا . ص _126(1/120)
ووجد فيها الزاهد ما يغنيه، كما وجد فيها المقبل على شئون دنياه ما يفي بإقباله، وفيها العناصر التي ترضي المتصوف والعناصر التي ترضي الفقيه. ولا يقل عن هذا كله خطرًا، أن المجتمع الإسلامي أفسح مكانًا لغير المسلمين كانوا فيه غير غرباء، فهو مجتمعهم- والثقافة الإسلامية ثقافتهم. وقد يقول قائل: إن الثقافة الأوروبية الحاضرة يشترك فيها أصحاب الأديان المختلفة وهذا صحيح، ولكن الثقافة الأوروبية استطاعت أن تقبلهم بعد أن تخلت عن نصرانيتها. وهذا في نظر العارفين سر بلواها. ومما لاشك فيه أن العروبة كانت دائمًا صورة متميزة من صور الثقافة الإسلامية، ولكن الذي يهمنا الآن هو عروبة العهد الحاضر. كما يهمنا البحث في شبهة خطرت وتخطر على أذهان كثير من الناس، ألا وهي: هل يوجد تعارض بين الحركة العربية والجامعة الإسلامية؟ وهذا على اعتبار أن الحركة العربية تقوم على أساس العصبية القومية اللادينية، وأن الجامعة الإسلامية تقوم بحكم الاسم على الأساس الديني ". وقد أجاب الأستاذ المؤرخ على هذا التساؤل إجابة مفصلة. ويعنينا من شرحه الوافي بيانه: إن العروبة لم تنشأ عن عصبية قومية، وإن هذه الحركة المشهودة نتيجة عوامل طرأت على الأمة الإسلامية الكبرى عقب حركات الغزو التي اجتاحتها من الشرق والغرب، والتي انتهت بسيطرة الأوربيين على أغلب البلاد الإسلامية. وقد استفاق المسلمون في شتى الأنحاء بعد كبوتهم الأخيرة، وأخذ كل فريق منهم يكافح لتحرير موطنه من العدو الذي غلب عليه. العرب وغير العرب في هذا الكفاح سواء. فإذا كانت الظروف الطارئة شغلت كل مجاهد مصلح عن صاحبه مؤقتًا؛ فليس معنى هذا أنه نسي أخاه وأقبل على نفسه، أو نسي الإسلام وأقبل على قومه . ص _127(1/121)
إن الكفاح العربي ينبثق من المعين الذي ينبثق من كفاح الأحرار في شتى الأماكن الإسلامية الأخرى أي أن القومية العربية ما تجردت عن الدين، ولن تتجرد عنه ذاك منطق الواقع الذي لا مساغ لنكرانه. وربما كان هناك نفر من الزعماء لا إيمان لهم، وربما كانت البرامج التي يصيحون بها لا دين لها، بيد أن ذلك لا يعني تجاهل واقع أمة حريصة على إسلامها، تنبعت عنه وتستجيب للدعاة باسمه. وقال الأستاذ المؤرخ آخر مقاله: " قد يظن ظان أن اختلاف العرب دينًا يقتضي تجريد حركتهم من عنصر الدين، حرصًا على جمع الكلمة، ومجاراة للقومية الحديثة التي خلعت ثوب الدين عنها. وهذا وهم لأنه: أولاً: يناقض ما أثبته التاريخ من مشاركة بين المسلمين وغير المسلمين في بناء الحركة الاستقلالية. وثانيًا: لأنه يعطل المصلحة الكبرى في جمع الكلمة على إصلاح ديني، إسلامي ومسيحي، يصدر نزعات الإلحاد والمادية . والغريب أن هذا الكلام المعتدل، الذي يوصي بتعاون المسيحية والإسلام على إقامة سدود تحول دون تسرب الفسوق والإلحاد؛ لم يلق التسليم الواجب، بل انبرى الأستاذ ساطع الحصري للرد عليه. ماذا يريد الأستاذ ساطع؟ لقد كتب كلامًا عليلاً تحت عنوان " العروبة أولاً " يزعم فيه أن العلم انتصر على الدين ثم انفصل عنه، وبالتالي يطلب إبعاد الدين، أو تأخير مرتبته لتكون العروبة أولاً. والصراع بين العلم والدين شيء حدث في أوروبا، حدث بين كهان الكنائس والأديرة وبين طلائع البحث والمعرفة . ص _128(1/122)
فما الذي نقل هذه الحكاية إلى بلادنا، ورمى بها تاريخنا؟ وكيف طوعت للأستاذ الحصري نفسه، فقاس تاريخًا على تاريخ، ودينًا على دين؟. ثم ما معنى أن تكون العروبة أولاً؟ هل يطلب من المسلم أن يطوي شريعته فلا يذكر منها قانونًا؟ ، ليكون عربيًّا. أو يدع عقيدته في مهب الرياح، وبين يدي سلطات ملحدة، أو متجددة ليكون عربيًّا؟؟ وما الدين الذي يبقى بعد ذلك في عالم مشحون بالتعصب حتى للوثنية؟ الحق أن كلمة العروبة أولاً، لا معنى لها إلا الجاهلية أولاً. وأن قومية تؤخر تعاليم الإسلام، وتقدم عليها أي شيء آخر هي جاهلية حديثة، وأن العروبة الصحيحة براء من هذا الكلام . ص _129
أعداء العروبة قديمًا وحديثًا ص _130(1/123)
قلت في كتابي "كفاح دين ": "وإعزاز العروبة من شعائر الإسلام ". روى الترمذي عن سلمان الفارسي قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يا سلمان، لا تبغضني فتفارق دينك " ، قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ ، قال: " تبغض العرب فتبغضني "...! وروى الترمذي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي ". فما من مسلم إلا وله من دينه دوافع تجعله- ولو كان هنديًّا أو فارسيًّا أو تركيًّا – يحب العروبة ويحمي بيضتها ويصون حماها.. والعربي المسيحي، لن يكره جنسه مادام مستقيمًا مع طبيعته! بل هو لن يكره محمدًا الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو يضيق بأتباعه. إنه يؤمن بعبقريته إن لم يؤمن برسالته. وهو يتغنى بأمجاد قومه ودعائم حضارتهم إن لم يشركهم في صلاة، أو يصدقهم في اعتقاد.! يقول السيد رشيد خوري تحت عنوان " الاستقلال حق لا هبة " مشيدًا بحضارة المسلمين في الأندلس، ومتغنيًا بمفاخر قومه العرب، وإن كان مسيحيًّا: خاطب وحوش أربة بلسانهم واذخر لسان الحب للإنسان أحسن إليهم بالإساءة إنما ترويض ذي ناب من الإحسان هلا ذكرت زمان عز لم يزل بالشمس مدفوعًا إلى الأزمان متألقًا كشعاعها قدامها فيزيدها شوقًا إلى الدوران لما ركبت البحر تهمز موجه همزًا إلى بحر من الإسبان خوضًا بكل طمرة ما آثرت للكر ميدانًا على ميدان ففتحت "أندلسا" بصارم " طارق " بل قل: بطارقة من الحدثان ص _131(1/124)
هبت كعاصفة عليها وانجلت عن عارض من خيرها هتان فالغرب شرق من بهي سنائها والشرق من إشعاعها شرقان وجعلت غابات الوحوش حدائقًا بالعلم زاهرة وبالعمران فقطعت حجة كل غر زاعم أن العلا برئت من القرآن ولماذا تكون محبة العرب من تعاليم الإسلام؟ ألأنهم شعب مختار حبته العناية خصائص يشرف بها آخر الدهر؟ ألأن معدنهم أنقى من معادن غيرهم، ودمهم أشرف من دماء سائر الناس؟ كلا، كلا؛ فإن الله لم يفضل جنسًا على جنس، ولم يرجح دمًا على دم. غاية ما هناك أن أحوالاً تتوفر في بعض البيئات فتنبت جيلاً أقدر وأعلم، وأحوالاً أخرى تعترض أمة ما فتهوى بها. " وتلك الأيام نداولها بين الناس " . وقد تسمو أمة حتى تبلغ الأوج ثم تعقب أخلاقًا لا يقدرون على تكاليف العظمة فينحطوا حتمًا، وعكس ذلك يقع. إن الأمجاد لا تورث إلا إذا بقي ما يكسبها ويحفظها. وتواريخ الأم بين مد وجزر لهذه الحقيقة. تدبر حال اليهود في فترتين متباعدتين من تاريخهم. يوم قيل لهم : " ادخلوا الأرض المقدسة ….." فكان جوابهم : " إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " . وهل دخول بلد بعد خروج المقاتلين منه جهاد؟ إن الكلاب لا تعجز- والحالة هذه- عند الدخول ص _132(1/125)
فلما استنهض همتهم قالوا له: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ". هذا يوم مضى. وثم يوم آخر. يوم أقبلوا مسلحين يحاربون الجامعة العربية، ودولها السبع، ويتكاتفون رجالاً ونساء على استقطاع فلسطين من كيانها الحي، ويرسخون أقدامهم في مواقعهم، فلا يتزحزحون عنها إلا بشق الأنفس، ونحن العرب نواجه الآن ذلك الموقف!! إن الأم لا تعلو ولا تسفل خبط عشواء. وقد تحدثنا في هذا الكتاب عن الحكمة في اختيار العرب لحمل الرسالة الإسلامية، وأفضنا في ذكر الفضائل التي امتاز بها العرب على عهد البعثة. ومن سوء التفكير أن نحسب هذا الاختيار الإلهي سوف يلازمنا على أية حال. إن العناية العليا تتخلى يقينًا عمن يخون واجبه. والتلميذ الذي ينجح في إحدى فرق الدراسة لن يستمر نجاحه إلا إذا استمر انتباهه ودأبه. وسيسقط حتمًا في سنة مقبلة إذا كانت عدته لاجتيازها ذكريات سنة مضت. وقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين من مختلف الأجناس أن يحبوا العرب لا لشيء إلا لأن العرب سدنة هذه الرسالة، وحملة ذلك الإسلام. فإذا فرط العرب في تكاليف هذا المنصب لم يكن من إنزالهم عنه بد. ومحبة العرب هنا نابعة من محبة الدين نفسه، فكأنها عاطفة اعتراف بالجميل لمن أسداه، أو إقرار الإنسان بالفضل لمن علمه وهداه. والأسلاف الصالحون، من صحابة وتابعين، كانوا يعظمون نعمة الإسلام التي أفاءها الله عليهم . ص _133(1/126)
ويشعرون أنهم كانوا جهالاً فتعلموا. ومتقاطعين فتواصلوا. وعبدة أوثان فانتقلوا من عالم الخرافة إلى عالم الحق. ومساعر فتن وحروب فأضحوا رسل عدالة وسلام. وقطرًا منسيًّا في زحام الحضارات، وتنافس المدنيات، فصاروا طلائع حضارة غمرت العالم بصبح من العلم والأدب براق الشعاع. أجل كان الخلفاء الراشدون في مجال الحكم، والأئمة الهداة في مجال العلم، مستيقنين بأن الإسلام وحده، لا شيء معه، هو الذي صنع من العرب المعجزة التي حيرت الألباب، والتي جعلت أولئك الناس يباغتون الأحياء بانطلاقة صعقت الباطل الذي طالما اختال واستطال، وأحيت الحق الذي غارت أصوله وتوارت معالمه. لم يكن ساسة الأرض يتصورون هذا، وما كان ساسة العرب- إن صح التعبير وكان للقوم ساسة!- ما كانوا ليظنوا أن القدر بالغ بهم تلك الدرجة السنية. ولكنها معجزة الإسلام وثبت بهم من السفوح إلى الذرى، فإذا هم مشهورون وكانوا من قبل خاملين. وصدق الله العظيم: " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " . لكن في الطبع الإنساني انتكاسات غدر تثير العجب. ولقد رأينا في أغنياء الحروب من هبطت عليه الثروة، وكان من قبل لا يجد القوت. فإذا هو يلوي لسانه بكلمات عن عراقة أسرته، ومجد آبائه وكأنه يقول: "هذا حقي ورثته كابرًا عن كابر" . لذلك كان عجبًا من بعض العرب أن يقف على أنقاض دول الأكاسرة والقياصرة، الدول التي شمخت بأنفها قرونًا دون أن يجرؤ أحد على مس هيبتها ثم يقول : ص _134(1/127)
ذاك أثر العروبة المنتصرة! موهمًا أن الجنس العربي هو- من غير معتقده الجديد - سر هاتيك الفتوح الروائع!! إنه ليس أتفه من هذه الأكذوبة إلا اللسان الذي رددها والأذن التي صدقتها. ومعروف أن العرب لم يكن لهم قبل الإسلام وجود في السياسة العالمية، ولا في ميزان القوى العسكرية. ومعروف أن الحبشة وهي دويلة ذنب بالنسبة إلى الرومان والفرس- استطاعت أن تجتاح اليمن، وأن تخترق نجدًا، وأن تبلغ مكة. ولولا تدخل السماء لدك البيت الحرام. ما كان العرب يومئذ بقادرين على رد المعتدين، وما استطاعت قريش ولا غير قريش أن تنظم جيشًا يواجه الأحباش. لقد تركوا البيت لرب البيت يتولى حمايته، وقال عبد المطلب وهو يومئذ زعيم مكة: لا هم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وفي ذلك نزلت السورة . " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، و أرسل عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول ". فكيف- وهذه طاقة العرب- يتوهم أحد منهم أن العروبة المجردة صاحبة الفخر في هذا البناء الشاهق؟ وبالتالي يتعصب لعنصره، ويغالي بدمه، وتتراجع إلى نفسه الفارغة حمية الجاهلية الأولى. إن مبادئ الإسلام مناط هذه العظمة، وسناد تلك الأمجاد . ص _135(1/128)
والواقع أن أول أعداء العروبة هم أولئك العرب الذي يجحدون فضل الإسلام على آبائهم وعلى ذراريهم، ويمضغون كلمات سخيفة عن محتد مزعوم وحسب منتحل. وجمهرة الأتقياء من العرب رفضوا هذا الكلام وجبهوا أصحابه. لكن الحياة لا تسير دائمًا وفق تقاليد التقوى، ولا في اتجاه المثل الفاضلة. فسياسة الحكم- والحكم أول ما انحل من عرى الإسلام- قامت على عصبية القوة والنسب. وللحكم سلطانه الغالب، وله تقاليد تنشأ في ظله، وله قصاده الذين يترضونه طلبًا للدنيا، ورفاهية الحياة. ومن الإنصاف للإسلام وأمته وتاريخه أن نحدد مقدار ما تسرب من مآثر الجاهلية إلى هذا القطاع من الحياة الإسلامية العامة. إنه فساد انحصر في بيئة الحكم وحواشيه، وسلمت منه كتل الجماهير وميادين العبادة والتعليم والأدب والقضاء والفتوى. ولئن احتلت العصبية دواوين السلطة، ودنيا الوظائف، لقد كانت محقورة في المسجد والمدرسة، والمحكمة والبيوت، والشوارع. واستطاع المسلمون من كل جنس أن يتقلبوا في مناصب القيادة الأدبية بين العرب والمسلمين، فإذا كان الأعاجم قد فاتهم أن يحكموا- أيام الأمويين مثلاً-؛ فإنهم سادوا أمصار العرب بالفقه، والسنة، والتفسير، والأدب واللغة. إلا أن جرثومة العصبية التي ملكت ناصية الحكم نفثت سمومها، وعكرت هذا الصفو المعنوي الكريم. فإذا لفيف من العرب الذين لم تتشرب أفئدتهم تعاليم الدين يغالون بدمهم ويفخرون بحسبهم، ويظنون أنفسهم أحق بالحياة والصدارة من غيرهم! ولم- بالله- يعتقد قومنا في أنفسهم هذا ؟ ومن الذي يصدقهم في ذلك الخيال الطائش؟ ص _136(1/129)
أهو الإسلام الذي وضع قاعدة: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . أم هي الحياة التي يجب أن تعطي زمامها لأقدر الخلق على امتلاكه أيًّا كان جنسه ولونه ؟.. ومع ذلك فإن هؤلاء سموا الولد الذي ينشأ عن زواج عربي بأعجمية هجينًا، ثم شرعوا يتحدثون عن الهجناء بما لا يليق.. قال صاحب العقد الفريد: "ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري، وكان أعرابيًّا يسكن البادية، وكان تصهر إليه الخلفاء، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده. فقال له: جنبني هجناء ولدك ". وقال: "ويروى أن أعرابيًّا من بني العنبر دخل على سوار القاضي فقال: إن أبي مات وتركني وأخًا لي، وخط خطين، ثم قال: وهجينًا، ثم خط خطًّا ناحية، فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: ها هنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: فالمال بينكم أثلاثًا. قال: ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينًا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي ؟ قال: أجل . ص _137(1/130)
فغضب الأعرابي، ثم أقبل على سوار، فقال: والله لقد علمت أنك قليل الخالات بالدهناء . قال سوار: لا يضرني ذلك عند الله شيئًا. وموقف هذا البدوي الغر يمثل العروبة المتعصبة لنفسها، وجنسها. وموقف القاضي الجليل منه يمثل الإسلام الذي يؤدبها ويهذبها. ويقول بدوي أحمق: إن أولاد السراري كثروا يا رب فينا رب أدخلني بلادًا لا أرى فيها هجينا وما الذي يمنع هذا الأعرابي من العودة إلى الصحراء إذا كان يكره عباد الله، ما لم يكونوا على شاكلته؟! وقد تطرق هذا الهوس إلى بعض الفقهاء. فأفتوا بأن الأعجمي ليس كفئًا للزواج من العربية. والغريب أن هذه الفتيا المنكرة سجلت في كتب الأحناف، مع أن الإمام الكبير أبا حنيفة أعجمي . أترى أولئك المفتين يحسبون إمامهم ليس أهلاً للزواج من امرأة عربية؟ أإذا خطب الإمام الغزالي امرأة من بني هاشم قيل له: إنك أوضع نسبًا منها فلا تليق لها؟ أوهذا إسلام ؟ لقد روى صاحب الأغاني: أن رجلاً من الموالي خطب بنتًا من أعراب بني سليم وتزوجها، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فشكا إليه، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بين المولى وزوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه . ص _138(1/131)
فقال محمد بن بشير: قضيت بسنة وحكمت عدلاً ولم ترث الحكومة من بعيد وفيها يقول: وفي المائتين للموتى نكال وفي سلب الحواجب والخدود إذا كافاتهم ببنات كسرى فهل يجد الموالي من مزيد! فأي الحق أنصف للموالي من أصهار العبيد إلى العبيد؟ ونحن ندهش لهذا الخبر، ونظنه من افتعال الأدباء تصويرًا لحمية الجاهلية التي غلبت على بعض الناس. وشكنا في هذه الرواية يرجع إلى عدة أسباب: أن الخوارج مؤمنون بالمساواة بين الأجناس كلها، وقد رفضوا حديث "الأئمة من قريش " وجعلوا إمامة المسلمين في الأكفاء لها من أي قبيل، فكيف يأبى أحدهم على أعجمي أن يتزوج من عربية مع أنه يراه جديرًا بالخلافة العامة ؟ ثم إن المودة لم تكن قائمة بين الحكام الأمويين ورؤوس الخوارج حتى يذهب هذا شفيعًا إلى ذاك في أمر ضاق به. وثم سبب أخير، أن الأمويين المتعصبين تعصبًا شديدًا لم يكونوا بحاجة إلى من يغريهم بمضايقة الأعاجم، والإساءة إليهم، لقد كانوا يتطوعون بهذا الشر من تلقاء أنفسهم. والحق أن وقوع الحكم في براثن العصبية كان مثار فساد كبير، وأن أولى المسلمين بزعامتهم أقدر رجل فيهم، مصريًّا كان أم فارسيًّا، مادام قد تعرب، وحسن إسلامه، وشرف بدينه على غيره من أبناء البيوتات العربية، ولو كانوا سروات قريش!! وما جاء في السنة من أن الخلافة في قريش. إنما هو حكم موقوت بظروفه، فإن منزلة قريش بين قبائل العرب في العصر الأول كانت تشبه منزلة إنجلترا في عصرنا هذا بين دول " الكومنولث " . ص _139(1/132)
أي أن القيادة لا تعدوها إلى غيرها لوفرة أسباب السيادة فيها، ولا يعقل أن تكون كندا، أو الهند أو أستراليا مالكة الزمام في هذه الكتلة من البشر. بل إن الدولة "الأم " أعني إنجلترا هي سيدة الموقف، وربما وجد في أنحاء "الكومنولث " أفراد أقدر وأعظم من رؤساء وزارات إنجلترا. ولكن الفرد لا يلي الحكم بكفايته الخاصة وحدها، وإنما بما يحف به من أدوات السيطرة والنجاح. وقريش في أيام الرسول وصحبه الأقربين كانت طليعة متفوقة، وكان العرب كما قال أبو بكر لا يعهدون هذا الأمر إلا فيها. بيد أن هذه الملابسات محلية وموقوتة. ومن حق المسلمين في عصرنا هذا وقبله بألف سنة ألا يفكروا في تولية أمورهم قرشيًّا، بل يتحرون الكفاية حيث كانت، ثم يسيرون وراءها، خصوصًا بعد ما رسخت أصول الإسلام في أجناس شتى، وواتت الفرص شعوبًا كثيرة في الشرق والغرب لتخدم هذا الدين بأمانة وشرف. إن قريشًا لم تحتكر قيادة الإسلام إلى قيام الساعة، وما يكون لها هذا، وما ينبغي لأحد ما أن يحسب ولاية المسلمين حكرًا في بيته أو في بني جلدته. لقد ذهب العرب بأنفسهم، وفاخروا بآبائهم. والمدل بنفسه لن يعدم من يلقاه بالعاطفة نفسها، بل من يكن له الضيق ويتمنى له العثار . ولم تصب مكانة الإسلام الرئيسية أول الأمر بخدش عند هؤلاء وأولئك ممن يتيهون بالآباء، لكن إذا كان العرب يتحدثون عن أصولهم، فهل يسكت الفرس؟ لا بل يفخرون. بيد أن ذلك الفخر مع إعزاز للدين الذي اعتنقوه، يقول مهيار الديلمي: وأبى كسرى على إيوانه أين في الناس أب مثل أبي! قد ضمنت المجد من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب! ص _140(1/133)
ونحن نكره هذا الخلط، فليس من حق العرب أو الفرس أن ينوهوا بقوميتهم، أو يثوروا إليها في جد أو هزل؛ لأن الإسلام رفض هذه النزعات جميعًا وقضى عليها. وهذه العصبيات المقيتة كانت ولا تزال مصدر بلاء فادح الضرر على المسلمين ووحدتهم، وعلى الإسلام وتعاليمه.. نعم! إن النزاع بين هذه العصبيات قطع أواصر أمر الله أن توصل. وأحيا مطامع أمر الله أن توبق. وقدم رجالاً ما كان لهم أن يتصدروا. وأخر أئمة ما كان يليق أن يهدروا. وشغل المسلمين بعضهم ببعض، وكان حقًّا عليهم أن يشتغلوا بكفاح عدوهم لا بكفاح أهوائهم. ونريد أن نؤكد حقيقة إسلامية صريحة، أن النزعة إلى تسوية المستعربين بالعرب مهما تباينت أجناسهم الأولى هو مقتضى الإسلام، وأن مطالبة أولئك العرب الجدد بحقهم في ولاية الحكم، ووظائف الإدارة أمر لا غبار عليه، بل الغبار في مصادرته، وأن تسمية هذه النزعة شعوبية خطأ ديني، إنها نزعة إسلامية، والوقوف أمامها هو الذي يسمى شعوبية، ولو كان هذا الوقوف من العرب أنفسهم!. إن احتكار القبائل العربية- التي عاصرت البعثة- لولاية الحكم والإدارة ضرب من الأثرة لا يمكن إلباسه ثوب التقوى، ثمرة هذه الأثرة كانت مرة سواء على العرب في مكانتهم أو على الإسلام في مسيره. ماذا كانت نتيجة ذلك الحرص على حرمان الأعجمين الذين تعربوا بعد إسلامهم من مساواة العرب أنفسهم في شتى المناصب الكبرى؟ كانت نتيجته البغضاء للعرب على نحو مؤسف أشد الأسف . ص _141(1/134)
وأحس العرب خطورة المآل الذي انحدروا إليه! إنهم ارتدوا قبائل متباغضة، يكيد بعضها للآخر حينًا، أو يكيدون جميعًا للأعاجم حينًا آخر. فماذا أثمرت هذه السياسة الجاهلية ؟ ماذا أنتج تعلق العرب بقبليتهم الضيقة أو جنسيتهم العامة؟ ماذا تمخض عنه هذا البعد الآثم في نظر الإسلام وتعاليمه؟ لقد زلزلت الأرض من تحتهم، وأخذ الفرس يظاهرون القوى المتمردة على الأمويين ويحفرون القبور للعرب أجمعين. ولما أدرك بعض رؤساء العرب ذلك المصير؛ شرعوا يفكرون في مصالحة أو مهادنة تلم شعثهم لمواجهة التيار الفارسي الجديد، أي فكروا في تجميع العرب لمواجهة الفرس، بدلاً من أن يواجهوا الموقف بتغليب روح الإسلام ونصوصه لاستئصال العلة ! وما غناء " قوميتهم " العربية في تلك الأزمة العصيبة ؟ تأمل ما قاله نصر بن سيار: أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا حربًا، يحرق في حافاتها الحطب ما بالكم تلقحون الحرب بينكم كأن أهل الحجا عن رأيكم عزب وتتركون عدوًّا قد أظلكموا مما تأشب، لا دين، ولا حسب قدمًا يدينون دينًا ما سمعت به عن الرسول، ولم تنزل به الكتب فمن يكن سائلاً عن أصل دينهمو فإن دينهمو: أن تقتل العرب ـ وأخطأ نصر بن سيار في إرسال هذه الصيحة. إن العرب هم الذين يقتلون أنفسهم حين ينسون أو يتناسون رباط الدين الذي يجمعهم مع شتى الأجناس. ص _142(1/135)
أجل، إن العرب: لا الفرس ولا الترك هم الذين ينتحرون ماديًّا وأدبيًّا حين يحفون غيرهم من المسلمين، وحين تبلغ بهم الغفلة حدًّا يحسبون معه أنهم من غير الإسلام شيء له حظ أوله شأن.. بيد أن كراهية الآخرين للعرب تدحرجت من درك إلى درك حتى انسلخت بأصحابها عن الإسلام أو كادت، وهذه هي الطامة. تحول كره العرب إلى فتور نحو الدين الذي جاءوا به. ونشأ عن ذلك اعتداء على حدوده، وانفلات من تعاليمه... ثم أوغل القوم فحنوا إلى ما ورثوا من تقاليد ومبادئ ضالة. ثم ازداد الطين بلة حين استيقظت "الوطنيات " الأولى تربط الناس بمذاهبهم ونحلهم وتاريخهم الخاص، وتشعرهم أن الإسلام غريب عنهم، وأن أهله دخلاء، وأن لكل شعب أن يلتحق بجاهليته الأولى، وأن يتخلى عن دين الله. هذه هي الشعوبية. ليست الشعوبية النزاع بين جنسين على أيهما أحق بالسلطان. إنما الشعوبية أن يزهد قبيل من الناس في نسبه الإسلامي، وأن يدع الاستقاء من معين الدين، مؤثرًا عليه نسبه الخاص، ومعينه القومي. طاعنًا بذلك في العروبة التي حملت الإسلام، وضائقًا بالإسلام الذي نقله من حال إلى حال. الشعوبية أن يرفع بشار بن برد عقيرته بتفضيل النار على الطين في أبياته التي يقول فيها: إبليس أفضل من أبيكم آدم فتنبهوا يا معشر الأشرار فالنار عنصره وآدم طينة والطين لا يسمو سمو النار ـ فهذه نزعة مجوسية، مردها عبادة الفرس الأقدمين للنار على مذهب زرادشت، وذاك شيء محاه الإسلام محوًا، فكيف تستحي شاراته. ص _143(1/136)
الشعوبية أن يرفع أبو نواس عقيرته بمدح الخمر، وأن يتغنى بمعابثة الغلمان، وتلك مفاسد يبرأ منها المجتمع الإسلامي العربي، وإن اصطبغت بها مجتمعات أخرى. الشعوبية فصل الإسلام عن مفهوم أي قومية، لتسير في الحياة وحدها بعيدة عن هديه، ناقمة على وحيه، أي أنها ارتداد عام. وقد بلغت هذه الحركة أوجها في القرن الثالث الهجري، وساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا كثيرًا للعربية، فحاربوا الزندقة، ولم يحاربوا- في شدة- النزعة العجمية، وذلك طبيعي لأن أكثرهم كما أبنا- مولدون. ولقي العرب من العجم عنتًا شديدًا؛ فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف؛ نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل، وفي أعماق نفوسهم شعور بأنهم ينتقمون منهم من يوم القادسية، ولم يكن شعور الترك الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالاً من شعور الفرس، وكثر الشعر في هذا القرن والذي بعده من الأعاجم الذين تعلموا العربية يفخرون بنسبهم، ويعتزون بقومهم، فافتتح ذلك بشار بن برد كما رأيت، وتبعه ديك الجن الشاعر المشهور، قال في الأغاني : " وكان شديد التشبب والعصبية على العرب يقول: ليس للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلاً منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذ جمعنا الدين! ". ويقول قائلهم: فلست بتارك إيوان كسرى لتوضح أو لحومل فالدخول وضب في الفلا ساع، وذئب بها يعوي، وليث وسط غيل ـ ونحن نرفض هذه المنابزات السخيفة، ونأبى أن تتقاذف الشعوب المختلفة بهذا اللغو. وننظر إلى الإنسانية المجردة، في كل امرئ من أهل الأرض . ص _144(1/137)
وننظر إلى الأخوة الجامعة بين أبناء الإسلام. ونعد ما وراء ذلك من منافرات ومفاخرات شيئًا لا قيمة له ولا خير فيه.. ولن نتزحزح قيد شعرة عن اعتماد موازين الإسلام وحدها، وهي موازين لا يوضع فيها إلا التقى والعفاف والخلق، أما اختلاف الملامح والألوان فمستبعد أولاً وآخرًا. والمهاجاة بين الأفراد لون من البذاءة المستقبحة، لكنها بين الشعوب لون من الهدم البعيد المدى، وما تخلفه من إيغار الصدور، وتمزيق الأواصر، وإيقاع الوحشة ينتقل من جيل إلى جيل، ومن هنا كان إجرام حملة الأقلام الشريرة، والألسنة العمياء بالغ السوء في الدنيا والآخرة. ثم إن العصبية لا تعالج بمثلها، وإذا غالى هذا بدمه وهذا بدمه فلن ينتهي الأمر بالخليقة إلى خير، سيظلون على أسوإ حال، يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وإذا تعصب العربي لقومه فعلاجه أن يؤدب بأدب الإسلام، وإذا تعصب التركي لقومه فعلاجه أن يؤدب بأدب الإسلام. إنه صعب على البشر أن يعنوا بعضهم لبعض، ولكنه من السهل عليهم أن يعنوا جميعًا لله، وأن ينزلوا على حكمه. فإذا نفر أحد من السجود لله شدخ رأسه ولا كرامة. وعندما ينضوي الكل تحت راية الإسلام، سيعرف- باسم الله- أن هناك فضلاً للغة القرآن، وأن أهل هذه اللغة ونقلة تلك الرسالة لهم مكان ملحوظ يستمد من الدين نفسه، لا من شيء بعيد عنها. ومعنى هذا أن تبقى العروبة وسط هالة من الإجلال، وأن تبقى أمتها مصونة القدر نابهة الذكر. من أجل ذلك نحن نرد الهجوم على العرب، ونتوجس من فتح أبوابه، ونرتاب في نيات القائمين به، ونحسب أن جلتهم إنما يقصدون هدفًا أبعد، هو النيل من الإسلام نفسه، وإهانته بإهانة العروبة التي تحتويه، كتابًا، ونبوة، وقبلة، وتاريخًا، وثقافة . ص _145(1/138)
لقد جاء الإسلام إلى أقاليم منتثرًا عقدها، فنظمها وطنًا واحدًا، وإلى شعوب ممزقة مضللة فجعلها أمة ملتقية على الهدى. أمة واحدة في ظاهر أمرها وباطنه. وأصبحت هذه الأمة الكبيرة، وقد رضيت الله ربًّا، والإسلام دينًا، ومحمدًا نبيًّا ورسولاً. الروح الذي تنبعث عنه واحد. والأمل الذي يحدوها واحد. والتاريخ الذي يصور ماضيها واحد. والمنهج الذي يحدو حاضرها واحد. والهدف الذي تنطلق إليه واحد. فجاءت الشعوبية تنثر هذا العقد المنظوم، وتجزئ هذه الكتلة الملتحمة. وتغري كل جزء أن يحيا منفصلاً عن أخيه كارهًا له، يلتمس تاريخه وحده، ويشق مستقبله بعيدًا عن روابط الاعتقاد والتشريع والخلق والأدب. وهذا قضاء على الإسلام ورسالته، وإن بدا هذا القضاء متدرجًا، ينأى كل شعب بنفسه أولاً على أن الإسلام شطر حياته الخاصة، ثم تنتهي هذه العزلة بإقصاء الإسلام نفسه، على أنه لا صلة له بقومية، ولا مكان له في كيان الشعب المستقبل إلا مكان القشور والنوافل. والشعوبية القديمة، أزرت على العرب، ثم شغبت على الإسلام، وتحولت بيئاتها إلى مهارب للزنادقة ومآوٍ للفسقة، وحصونًا لمن يريدون إحياء المجوسية، والمانوية، والمزدكية، وغيرها من النحل القذرة. والشعوبية الحديثة زادت على ذلك أشياء أخرى. لقد تحولت من بغضاء للعرب إلى بغض للغة والدين جميعًا . وأمست شاراتها المميزة الجهر بإبعاد الشريعة الإسلامية، وازدراء اللغة العربية، ص _146(1/139)
والتمرد على القيم والتقاليد التي وفد بها تاريخنا، وعاش عليها آباؤنا، وإحياء الفرعونية في مصر، والآشورية في الشام، والبربرية في المغرب وهكذا.. والشعوبية الحديثة تشبه القديمة في خيانة دعوتها، وحماقة فكرتها، إلا أن الأولى كانت تقوم على استحياء الجاهليات التي أخمد الإسلام أنفاسها. أما الشعوبية الحديثة فهي- مع ذلك- تقوم على إنفاذ مكايد الصليبية الحديثة وترديد مطاعنها، وبعثرة الأمة الإسلامية في كل فج بعد تعريضها لعشرات التيارات الضائقة بالإسلام ونبيه وتاريخه وحضارته. ا- فهناك الدعوة إلى أن القرآن: ( أ ) كتاب مسيحي يهودي نسخه محمد. (ب) وأن الإسلام دين مادي لا روحية فيه، يدعو إلى الدنيا، وليس إلى صفاء النفوس والمحبة. (جـ) وأنه- أي الإسلام- يميل إلى الاعتداء والاغتيال، ويغري أتباعه بالقسوة على غير المسلمين عامة. (د) كما أنه يدعو إلى الحيوانية والاستغراق في ملذات الدنيا. 2- وهناك الدعوة إلى: ( أ ) أن الفلسفة العربية فكر يوناني، كتب بأحرف عربية. (ب) وأن اللغة العربية الفصحى لم تعد صالحة اليوم، وبدلاً منها يجب أن تستخدم العامية واللهجات الدارجة، كما يجب أن تستخدم الحروف اللاتينية عوضًا عن الأحرف العربية. 3- وهناك الدعوة إلى: ( أ ) إحياء الفرعونية في مصر. (ب) والآشورية في العراق. (جـ) والبربرية في شمال إفريقية . ص _147(1/140)
(د) والفينيقية على ساحل فلسطين ولبنان. (هـ) وإلى تفضيل الفارسية- بوصفها لغة آرية- على العربية بوصفها لغة سامية. (و) وإلى أن الذي حمل أمارات الحياة الأدبية الجديدة في الشرق العربي في نهإية القرن التاسع عشر، وكذا في الشرق الإسلامي، وحمل مظاهر الحضارة عامة- هم نصارى لبنان الذين تعلموا واستوحوا من جهود المبشرين الأمريكيين في سوريا. (ز) وإلى البربر وحدهم هم أصحاب المدنية في شمال إفريقية والأندلس. (ح) التنفير من حياة المسلمين الحاضرة؛ لأنها حياة بدائية ذليلة. (ط) وإلى أن السبب في ذلك هو تعاليم الإسلام والتمسك بها . ووجدت جراثيم الشعوبية مرتعًا خصيبًا في الطبقات الحاكمة، إذ أن هذه الطبقات للأسف من أفسد الطوائف في تاريخنا، إنها في الأغلب أقرب إلى الكفر منها إلى الإيمان. وهاك مثلين لاثنين من الحكام الذين بذلوا جهودًا ظاهرة في تغليب النزعات الشعوبية على تعاليم الإسلام. ـ أولهما الخديوي إسماعيل باشا. فهذا الحاكم المصري أعلن رغبته في جعل البلاد قطعة من أوروبا، وانفصل في حياته الخاصة عن التكاليف الدينية، وتوسع في الشهوات الجنسية، وفتح باب الاقتراض بالربا على مصراعيه، واستوزر أرمنيًّا اسمه "نوبار باشا" استبدل القوانين الغربية بالشريعة الإسلامية. وبتلك السيرة أخذت الأمة الإسلامية تواجه زحف الانحلال والإلحاد على حاضرها ومستقبلها. ـ والحاكم الثاني هو مصطفى كمال القائد التركي المشهور. هذا الرجل أظهر الإسلام حتى أمكنه أن يستفيد من قوى المؤمنين في طرد الغزاة الأجانب . ص _148(1/141)
فلما استتب الأمر له قلب ظهر المجن للإسلام وأعلن حربًا مروعة على العروبة وما يمت إليها، ورمى ببقايا الخلافة الإسلامية في البحر، وقرر انسلاخ الدولة عن الإسلام، ورفض بعناد وكبر إلا أن يجعل دستور الحكم لا دين له. وكانت هذه النكسة من أقسى ما لقي الإسلام في تاريخه من لطمات. والغريب أن تركيا هذه ابتعدت عن الإسلام ظنًّا منها أنها ستستريح وتستقر، لكن شاء الله ألا تكون تركيا في تاريخها كله أهون شأنًا منها في هذا العصر. وألحت نزعات الشعوبية على سائر البلاد الإسلامية، وتألفت لها مدارس قوية يمدها النفوذ الأجنبي بعطفه وعونه. وكان رجالها في القاهرة أجهر الناس دعوة إلى ترك الإسلام، والذوبان في أوروبا، ونبذ العروبة والإزراء على نسبها، وترويج مطاعن المستشرقين والمبشرين بين الناشئة، وخلق الجو الذي يموت فيه الإسلام، وتحيا بدله بواعث أخرى في الخلق والقانون والسياسية. وقد ألف الدكتور طه حسين كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" لبلوغ هذا الهدف، ودعا فيه إلى الذوبان في الحضارة الغربية، خيرها وشرها، حلوها ومرها على حد تعبيره، وبذل جهوده في تحويل الأمة المصرية عن عروبتها وتاريخها وعقيدتها وشريعتها، أي في تكفيرها جملة، ولا بأس أن ننقل طرفًا من كلامه في هذا الموضوع. بدأ الدكتور طه حسين مقدمة كتابه بهذا السؤال: " هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ أم هو غربي التصور والإدراك والفهم للأشياء؟ ". وبعبارة موجزة، كما يقول الدكتور (صـ 7) في الجزء الأول: " أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟ ". ثم مضى يقول : " إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء؛ فإنما يتأثر بالبحر ص _149(1/142)
المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط " (ص 11). ثم يستطرد بعد هذا ليؤكد ما ذهب إليه من دعوى التأثر بحضارة حوض البحر الأبيض المتوسط، فيقول: " وإذا لم يكن بد من اعتبار البيئة في تقدير هذا المؤثر؛ فمن اللغو والسخف أن نفكر في الشرق الأقصى أو الشرق البعيد، ومن الحق أن نفكر في البحر المتوسط، وفي الظروف التي أحاطت به، والأم التي عاشت حوله ". (ص 13). ثم يقول: "وقد استطعت أن أفهم كثيرًا من الخطإ، وأسيغ كثيرًا من الغلط، وأفسر كثيرًا من الوهم، ولكني لم أستطع قط، ولن أستطيع في يوم من الأيام أن أفهم هذا الخطأ الشنيع، أو أسيغ هذا الوهم القريب " - يقصد انتساب العقل المصري والبيئة المصرية إلى الشرق ". ثم يفصح الدكتور عن خبيئة نفسه (ص 16) حين يقرر هذه الترهات: " إن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية، ولا قوامًا لتكوين الدول. وما أظن أحدًا يجادل في أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية، وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضًا قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة. فالمسلمون إذن قد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء، والدين شيء آخر. وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر ". ويقول الدكتور : "جاء الإسلام وانتشر في أقطار الأرض وتلقته مصر لقاء حسنًا، فاتخذته لها ص _150(1/143)
دينًا، واتخذت لغته العربية لها لغة، فهل أخرجها ذلك عن عقليتها الأولى؟ وهل جعلها أمة شرقية بالمعنى الذي يفهم من هذه الكلمة الآن؟ كلا. لأن المسيحية التي ظهرت في الشرق غمرت أوروبا فلم تصبح أوروبا شرقية. فلست أدري ما الذي يفرق بين المسيحية والإسلام، وكلاهما قد ظهر في الشرق الجغرافي؟ إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته، والتي كانت متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط. بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول مطمئنين: "إن انتشار الإسلام في الشرق البعيد، وفي الشرق الأقصى؛ قد مد سلطان العقل اليوناني وبسطه على بلاد لم يكن قد زارها إلا لمامًا !!. ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل، وجعل بها مصر جزءًا من أوروبا قد كانت فنًّا من فنون التمدح، أو لونًا من ألوان المفاخرة، إنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وأنواعها ". ويقول طه حسين: " إن مقياس رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا ؛ إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة المادية الأوروبية. وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة. نظام الحكم عندنا نقلناه نقلاً عن أوروبا في غير تحرج ولا تردد. وإذا عبنا أنفسنا بشيء من هذه الناحية فإنما نعيبها بالإبطاء في نقل ما عند الأوروبيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية " أ هـ. الدكتور طه حسين يطلب طلبًا صريحًا أن ننسلخ من عروبتنا الشرقية، ونولي وجوهنا شطر الغرب ص _151(1/144)
ويطلب طلبًا آخر أكد من طلبه الأول، أن ندع الإسلام وراء ظهورنا، وألا نحترم أي رباط له يصلنا بالآخرين. فإن وحدة الدين واللغة لا يجوز أن يكونا قوام أمة. وهو يقول: لقد هجرنا الإسلام- من حيث هو شريعة ونظام-، فيجب أن نهجر الإسلام- من حيث هو نسب وآصرة، ومن حيث هو مبعث توجيهات خاصة في التقاليد والأخلاق. ويجب أن نلقى بأنفسنا في أحضان الغرب، وأن نعب من حضارته ما استطعنا، حضارته المادية والمعنوية، صفوها وكدرها، أو بتعبيره الفذ، حلوها، ومرها، خيرها وشرها.. وماذا نصنع بعد هذا الانسلاخ التام من العروبة والإسلام؟. يقول الدكتور: " نبني أمتنا الجديدة وعلاقاتها القريبة والبعيدة على أساس المنفعة ". وما هذه المنفعة المنشودة؟. شيء يعرفه الدكتور وحده. المنفعة التي يظفر بها امرؤ بعد فقد إسلامه وعروبته، وما تكون ؟ إنها شيء أشبه بأجرة البغي بعد أن تبيع عرضها. ومقياس المنفعة في علم الأخلاق مقياس قذر، وهو في ميدان السياسية كذلك مقياس قذر، وإن عاش به الأفاك الإيطالي " مكيافللي " صاحب مبدإ: الغاية تبرر الوسيلة. ومن حق القراء العرب أن يعرفوا لماذا يعرض الدكتور طه حسين على المسلمين العرب أن يدعوا عروبتهم وإسلامهم، ملتمسين النفع من الغرب. إنه ارتضى لهم ما ارتضى لنفسه. الدكتور الذكي- في سبيل المنفعة- قال هذا الكلام يدعم به مبدأ الفرعونية المصرية، يوم كان لهذا المبدإ رواج. فلما كسدت سوقه أصبح خطيبًا للقومية العربية !!. والدكتور الذكي ألف كتابه عن الأدب الجاهلي يشكك الناس في قيمة القرآن التاريخية، يوم كان للإلحاد رواج. فلما وجد الثمن أغلى في ميدان التدين ألف كتابًا ساند فيه الإسلام سماه: " مرآة الإسلام ". ص _152(1/145)
والدكتور الذكي جثا أمام " فاروق " يقبل الأرض بين قدميه، ويقول له الكلمة التي ما قالها أحد: يا صاحب مصر!!. ويقول: إن المؤرخين يزعمون مصر هدية النيل، وأنا أقول: مصر هدية " الفاروق ".. فلما ولي النظام الملكي، كان أول من رفع عقيرته في سوق السياسة يعرض خدماته على النظام الجمهوري!!. وطالب القوت ما تعدى. الرجل يعيش وفق قانون المنفعة. ولكن أيحسب الدكتور أن الناس جميعًا مثله في ضعف الأخلاق وسرعة التقلب، فهم على استعداد لترك العروبة والإسلام من أجل منفعة مزعومة. أما قرأ الدكتور في ثبات الأخلاق قول الشاعر العربي : وإنا- على عض الزمان الذي نبا نعالج من كره المخازي الدواهيا أو ما سمع المثل القائل: " تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها " . إنه طبعًا يهزأ بهذا المنطق، ولا يزال في قرارة النفس يعتنق المنفعة، قبحه الله من دين، وقبح من يدخل في نطاقه الخسيس.. شيء واحد وحسب هو الذي ثبت عليه الدكتور.. كراهية الإيمان وأهله، والنقمة على الدعاة المسلمين. لقد أرسل زغاريد النساء يوم ألغيت المحاكم الشرعية، وهو يستعد لزغاريد أخرى يوم إغلاق الأزهر.. ولندع هذا الشعوبي الذي ألف كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" يحاول به خدمة الحانقين على العروبة والإسلام. ولنتابع السيد الأستاذ " محمد كرد على " يتناول القضية نفسها فيقول: " شعوبيان مخرفان: شامي ومصري " . ص _153(1/146)
ومن هؤلاء الشعوبيين في الشام هراء خيالي، الذي دعا الشاميين- في جملة الآراء التي جاهر بها- إلى أن تصفو نياتهم، فينسوا الأجداد الذين يشيدون أبدًا بمفاخرهم، وينسوا الدولة الإسلامية التي يتغنون على الدوام بمجدها، وما عهدنا عاقلاً يدعو أمة إلى تناسي تاريخها، بل رأينا كل أمة تدرس تاريخها، مهما كان من اسوداد صفحاته؛ لأنه مهمازها إلى العمل، وتتمة ما بدأ به أجدادها، تتوقى شرهم، وتقتبس خيرهم، ورأينا من الأمم- كبعض جمهوريات أميركا الجنوبية- من تصطنع لها تاريخًا تتغنى به فيعينها على نهوضها، وأنت لو أردت من هذا المتفلسف أن يأتيك برجل يصح لنا أن ننسج على منواله لعجز واكتفى بأن قال لك: إن الإسلام لم يأت فيه رجل يذكر، ولاختلق الأكاذيب على من أجمعت الأمة بل الأمم على صلاحه أمثال صلاح الدين يوسف. ولشوقي في هذا المعنى : مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكي من صلة الماضي انقضابا من هؤلاء الشعوبيين في مصر رجل، يزعم أن الإسلام دين بدوي يتسم بكراهية الترف، وبشدة الإيمان بالوحدانية، وأن الوهابيين اليوم يمثلون روحه أصدق تمثيل، وأن العرب تقيدوا لأول أمرهم بالقرآن، فلم ينقلوا شيئًا من الأدب الإغريقي، بل كان الروح البدوي سائدًا فقوطعت الفنون الجميلة؛ لأن البدوي يكره بطبعه جميع ضروب الترف والحضارة، وهو نفسه يعيش في صحراء لا يحتاج معها إلى ما فى فنون الحضارة من عمارة وتصوير ونقش. ولذلك حرم التصوير، كما حرم صناعة التماثيل، وصار الغناء والموسيقى يتلهى بهما السكارى، مع أن من الرسم تستفيد الأمة رأيها وذوقها في الجمال، ومن "الدرامة" تكتسب سليقة النقد الاجتماعي، فتبقى جذوة الإصلاح حية متقدة، وتنزع نزعة رقي وتقدم، إن تعصبنا للشرق تعصب للقديم أكثر مما هو للشرق، وأتفه من أن يقال إن حضارتنا قد أفلست أمام حضارة أوروبا. وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضعف(1/147)
للشباب ومبعثر لقواهم، فيجب أن نعودهم الكفاية بالأسلوب المصري الحديث، لا بالأسلوب العربي القديم. ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب، وأن ندرس لهم العربية الفصحى ، ص _154
كما ندرس الأشورية والبابلية، وأن ننظر إلى لغة النابغة والمتنبي، كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية، إن العربية ليست لغتنا ولا نستفيد منها، وإن لنا من العرب ألفاظهم فقط لا لغتهم، بل بعض ألفاظهم. قال: وكل من اختبر هذه اللغة يعرف أن " قاسم أمين " و" لطفي السيد " كانا على حق عندما نصحا باستعمال العامية المصرية بدلاً منها. وقال: إن الرابطة الشرقية سخافة، والرابطة الدينية وقاحة، وإن الرابطة الحقيقية أن نفنى في مدنية أوروبا، ونتطور بأطوارها، ونتزوج من بناتها، ونزوجهم بناتنا، ونأخذ عنهم كل شيء.. وإن الأصلح لمصر إذا أرادت التخلص من آسيا، والشرق، والتاريخ العربي، أن تعود إلى وطنية فرعونية مقصورة على مصر وتاريخ مصر. ودرس مدنية الفراعنة أفيد من درس مدنية العرب، وأن ندرس آثار العرب، كما ندرس الفينيقية. وقال: إن من تأمل في أحوال الأمم الناهضة يعرف أنه ليست أمة تنهض في العالم الآن إلا وتنسلخ من قديمها، سواء أكان هذا القديم آسيويًّا، أم غير آسيوي. هذه خلاصة آراء المتفلسف الشعوبي، ولو أردناه وصاحبه معًا أن ينزل عن مشخصاته ومقدساته التي يتظاهر بالبعد عنها، وهي أعلق بقلبه من شعرات قصه لاستكبر وأبى" ا هـ. أحق أن تجديد قوانا ما سيكون إلا بإطراح تعاليم الإسلام واعتداء حدود الله، وإهالة الرغام على ماضينا كله؟.. ثم مد الأكف إلى الفكر اليوناني، والقانون اللاتيني، والفن الإيطالي، والارتماء جملة في أحضان الغرب؟. ذلك ما يجاهر به أجراء الاستعمار بيننا . لا تجديد، ولا بناء إلا على أنقاض الكتاب والسنة!!.. ص _155(1/148)
لا عروبة ولا إسلام إن أردتم الحياة. هكذا ينصحنا سماسرة أوروبا، والمبشرون بمبدإ المنفعة، لا بوحدة الدين واللغة، كما يتبجح بذلك طه حسين وسائر العصابة المسوقة معه !!.. وقد نقبت في أرجاء نفسي وأقطار البلاد: ما هي العوائق التي يضعها ماضينا أمام حاضرنا ومستقبلنا؟.. لا شيء!! إن ماضينا أنظف وأعف من ماضي أوروبا. واللص التائب ربما ضاق بماضيه إذا ذكر به!! أما الشريف الذي لا يلحقه غبار، فما الذي يخجله من ماضيه؟. ولو أننا سرنا وفق قانون المنفعة، كما يفسره الإنسان، لا كما يفسره الحيوان، لوجدنا منفعتنا في البناء على دعائم الماضي، ذلك أنها دعائم ممهدة راسخة تشاد فوقها الأبراج دون حرج، أما بذل الجهود في محاولة تهديم هذا الماضي، فهو بعثرة للقوى في غير طائل، وعود من اللف والدوران بغير ثمرة. وفشل كثير من الثورات التي تسمى- إصلاحية- سببه هذا الغباء والكنود. إن أصحابها يحسبون التجديد مجموعة العلاجات التي نهضت أوروبا من ظلمات قرونها الوسطى. وأوروبا- في نهوضها حاربت الكهانة، والحمق، والاستبداد والتعصب، وحاربت ذلك بشعاعات من مبادئ الإسلام التي حملها العرب إلى القارة المستوحشة. فبأي عقل يفكر ناس في تجديد الأمة العربية الإسلامية، فيقترحون لذلك أن تنسلخ من تاريخها وتعاليمها وشرائعها!!. يقول الغمراوي : إن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم؛ لا يمكن إلا على أساس تعاون الحاضر والماضي، يبنى العقل في حاضره على ما أسس العقل في ماضيه. فإن الحق وحدة قائمة، لا يقوم جزء منها إلا على جزء، فلن يقوم حق جديد إلا على ص _156(1/149)
أساس من حق قديم، بل الحضور والمضي، والحدوث والقدم إن هي إلا ألوان يبدو به الحق- أو الباطل- لعين الإنسان، وما هي من لون الحق في شيء، وإنما هي من لون المنظار الذي ينظر منه الإنسان، وإلا فالحقائق في نفسها متكافئة في الثبوت تكافؤ نقط سطح الكرة، غير أن حياة الفرد أخصر، وحقائق الكون أعظم وأكثر من أن يستوعب الفرد منها إلا جزءًا متضائلاً، كما أن العين لا تحيط من الأرض في آن واحد إلا بجزء من الأرض صغير. وقد يستطيع الجنس البشري إذا اتصلت به الحياة إلى الأبد أن يحيط من الحقائق، بمقدار يزداد إلى ما لا نهاية، من غير أن يستنفد هذه الحقائق، أو يشرف على أقصاها. ومهما يكن من شروط لكي تحقق هذا التقدم المطرد في استيعاب الحقائق، فإن شرطًا أساسيًّا له أن تتجرد حركة العقل- عقل الفرد، وعقل الجنس- تجردًا تامًّا عن التذبذب، فإن الذي يمحق الأعمار، أعمار الأفراد والشعوب، هو التذبذب بين غايتين، قرب المدى بينهما أم بعد، فلو ظل "البندول " يضرب إلى سرمد الدهر ما قطع أكثر من تلك القوس المحدودة. ولو ظل الإنسان تتعارض جهوده، وتلاغى أعمار، ينقض اليوم من غير دليل ما أبرم بالأمس، ويبرم غدًا من غير دليل ما نقض اليوم، لظل " البندول " يتحرك ولا يتقدم، وليس أعدى للفرد، ولا للمجموع من قوم يزينون له هذا التذبذب باسم التقدم، وهذا التعطيل باسم التجديد. 1 هـ. البعث العربي شعوبية العصر الحديث: كان هدف الاستعمار الحديث من هجماته الواعية القوية على ديار العروبة والإسلام أن يصيب مقاتل الأمة المغلوبة، وأن يباعد بينها وبين دينها جهد الطاقة. إن كرهه للإسلام قديم في تاريخه كمين في دمه، فكيف يضيع الفرصة التي واتته للإجهاز عليه، وعلى المنتمين إليه!. لذلك اتفقت كلمة الإنجليز والفرنسيين والطليان- وإن اختلفت وسائلهم- على أن يطاردوا الإسلام في كل مكان وأن ينشئوا أجيالاً جديدة تجهل تعاليمه أو تزدريها إن عرفت أطرافًا منها . ص _157(1/150)
فلما سقط الرجل المريض، وزهقت روحه وقسمت تركته في إفريقيا وآسيا على الدول الأوروبية الغازية؛ شرعت هذه لفورها تعمل في أدب ومكر لبلوغ غايتها. فكان أول ما نفذته في برامج التربية والتعليم محو الرابطة الإسلامية العامة محوًا تامًّا، وخلق " الوطنية الخاصة " لتحل محلها سواء في ميدان التاريخ القديم والسياسة المعاصرة، أو في ميدان الأخلاق والسلوك الشخصي والجماعي. ومن ثم أضحت الوطنية مناط الولاء، ومظهر الحماس، وأساس الانطلاق، والمعبد الذي يقدم على المسجد، والراية التي تجمع الكل.. لكن هذه الوطنيات التي ضخم الاستعمار مدلولها، ورتب عليها نتائج بعيدة عجزت عن قهر العقيدة الإسلامية وعن كسر تطلع المسلمين إلى إحياء شريعتهم واستعادة أمجادهم. وهنا جرب الاستعمار عوضًا آخر يكون أنكى في النيل من الإسلام، وتعويق سيره وتمخض دهاؤه عن مبدإ القومية، عله يجدي حيث فشل غيره!. وكان الأمريكان قد برزوا في الميدان الغربي، وساقوا بين يدي التبشير الحديث أمدادًا من المال، وفنونًا من العلم .. وتبدت لهم طبيعة المنطقة التي تضطرم بالقلق والحركة. فرأوا أن النزعة القومية يمكن أن تغلق الطريق على الإسلام، وأن الإصلاحات الاشتراكية يمكن أن ينحسر لديها المد الشيوعي. وبهذه وتلك يمكن للغرب أن يأمن عدويه- هكذا يفكر- الشيوعية والإسلام، فتبقى الشيوعية وراء الحدود لا يرغب فيها أحد. وتتلاشى أمواج الإسلام وراء سدود القومية حتى تجف وتتلاشى على مر الزمن. ونحن ولله الحمد عرب أصلاء، وأرسخ عرقًا في العروبة من أدعيائها الذين ولدوا في حجر الاستعمار الحديث. ونحن كذلك أحرص على أمجاد قومنا وأصون لها وأنهض بعبء هذه الصيانة الواجية. ولا نريد أن ندخل مع أحد في جدل نظري تافه: هل الدين جزء من القومية أو هو شراء بعيد عنها ؟ . ص _158(1/151)
ليكن هذا، أو ليكن ذاك: إنما نريد توكيد شيء واحد، أننا نحن المسلمين العرب، الذين نبلغ تسعة أعشار الأمة العربية ونصف العشر الباقي.. لن ندع ديننا هذا، ولن نستجيب لمطالب المستعمرين الجدد، في جعله عقيدة لا شريعة، أو في جعل عقيدته شيئًا ثانويًّا، يجيء بعد رباط النسب والدم. إن المطلوب في صراحة ألا يكون الإسلام دعامة لجامعة عامة بين أبنائه، وألا يكون مدادًا لشريعة ظاهرة تحكم الحياة العامة. ومطلوب من المسلمين العرب باسم القومية أن يقبلوا هذا التفكير السخيف، بل مطلوب منهم أن يتعصبوا له..!! ونحن بداهة أضداد هذا اللغو الأثيم، ولن نستحيي من مجابهة أصحابه بأنهم أدوات هائلة في يد الاستعمار الصليبي الجديد. إن إحياء فكرة العروبة، على أنها شيء بديل عن الإسلام، تفسير للعروبة لم يعرفه العرب ولا المسلمون خلال تاريخهم كله، ولم يبرز خلال السنين الأخيرة إلا مع دسائس التبشير ومكره البالغ بالأجيال الحائرة التي نبتت في ظلاله الداكنة. وأي نجاح للحروب الصليبية أعظم من أن ينسلخ المسلمون عن دينهم، أو بتعبير آخر أن يطلق العرب رسالتهم، وأن يحبسوا كتاب ربهم وسنة نبيهم في خزائن موصدة، فلا تكون لهم رسالة، أو تكون رسالتهم الخالدة- وفق تفسير حزب البعث العربي - هي حق الحياة المجردة في حدود الآمال التي ترجم عنها "حمورابي" والشعر الجاهلي.. الخ. إن أعظم الكهان الصليبيين لن يطلب للإسلام أكثر مما طلبه السيد "ميشيل عفلق " وأتباعه، من انكماش وذبول. ونحن نعلم أن حزب البعث العربي ليس وحده الذي اضطلع بهذه المهمة، غير أننا نعرض المبادئ التي قام عليها؛ لأنها نموذج واف لإطراح الإسلام وتوجيه النهضة بعيدًا عن هداه .. ص _159(1/152)
المبادىء الأساسية، وحدة الأمة العربية وحريتها. العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها. ولهذا فإن حزب البعث العربي يعتبر: ا- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن أي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر. 2- الأمة العربية وحدة روحية ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي . 3- الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشئونه وثرواته وتوجيه مقدراته. شخصية الأمة العربية : الأمة العربية تختص بمزايا متجلية، في نهضاتها المتعاقبة، وتتسم بخصب الحيوية والإبداع، وقابلية التجدد والانبعاث، ويتناسب انبعاثها دومًا مع نمو حرية الفرد، ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية؛ ولهذا فإن حزب البعث العربي يعتبر: ا- حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة، لا يمكن أية سلطة أن تنتقصها. 2- قيمة المواطنين تقدر- بعد منحهم فرصًا متكافئة- بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل الأمة العربية وازدهارها، دون النظر إلى أي اعتبار آخر. رسالة الأمة العربية: الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية وحفز تقدم البشر وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم. ولهذا فإن حزب البعث يعتبر: ا- الاستعمار، وكل ما يمت إليه عمل إجرامي - يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة ـ وهم يسعون ضمن إمكانياتهم المادية والمعنوية إلى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حريتها . ص _160(1/153)
2- الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمته وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح!. مبادئ عامة: حزب (البعث العربي) حزب عربي شامل، تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا. (المادة 1). ... مركز الحزب العام هو حاليًا دمشق، ويمكن أن ينقل إلى أي مدينة عربية أخرى إذا اقتضت ذلك المصلحة القومية (المادة 2). ... حزب (البعث العربي) قومي، يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطًا وثيقًا هو شعور مقدس، حافل بالقوى الخالقة، حافز على التضحية، باعث على الشعور بالمسئولية، عامل على توجيه إنسانية الفرد توجيهًا عمليًّا مجديًا. والفكرة القومية التي يدعو إليها الحزب هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر، وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ، وأن يتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرها القويم إلى الخير والرفاهية (المادة 3). ... حزب (البعث العربي) اشتراكي، يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية؛ لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكانياته وتفتح عبقريته على أكمل وجه، فيضمن للأمة نموًّا مطردًا في إنتاجها المعنوي والمادي وتآخيًا وثيقًا بين أفرادها (المادة 4). ... حزب (البعث العربي) شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير. كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها. لذلك يعتمد الحزب في أداء رسالته على الشعب، ويسعى للاتصال به اتصالاً وثيقًا، ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي لكي يستطيع(1/154)
الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية والقومية (المادة 5) . ص _161
... حزب (البعث العربي) انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية. وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، والاعتماد على التطور البطيء، والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع ؛ لذلك فهو يقرر: ا- النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريرًا مطلقًا كاملاً. 2- النضال لجمع شمل العرب كلهم في دولة مستقلة واحدة. 3- الانقلاب على الواقع الفاسد انقلابًا يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية (المادة 6) . ... الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه، وخليج البصرة والبحر العربي، وجبال الحبشة والصحراء الكبرى، والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط (المادة 7). ... لغة الدولة الرسمية ولغة المواطنين المعترف بها في الكتابة والتعليم هي اللغة العربية (المادة 8). ... راية الدولة العربية هي راية الثورة العربية التي انفجرت عام 1916 لتحرير الأمة العربية وتوحيدها (المادة 9). ... العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية (المادة 15). ..، يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب، وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية (المادة 11). .. تتمتع المرأة العربية بحقوق المواطن كلها، والحزب يناضل في سبيل رفع مستوى المرأة حتى تصبح جديرة بتمتعها بهذه الحقوق (المادة 12). ... تحقيق مبدإ تكافؤ الفرص في التعليم والحياة الاقتصادية كي يظهر المواطنون في جميع مجالات النشاط الإنساني كفاءاتهم على وجهها الحقيقي وفي حدودها القصوى (الما دة 13) . ص _162(1/155)
في السياسة الداخلية: ... الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية، القبلية والعرقية والإقليمية (المادة 2). ... يوضع بملء الحرية تشريع موحد للدول العربية، ينسجم مع روح العصر الحاضر. وعلى ضوء تجارب الأمة العربية في ماضيها (المادة 5). ... تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية، وأخلص للوطن العربي، وانفصل عن كل تكتل عنصري (المادة 7). هذا هو برنامج حزب البعث العربي . أترى فيه ذكرًا للإسلام، أو إيماءة خفية إلى عقائده وشرائعه وماضيه وحاضره !! لا. فإذا كان الإسلام هو الذي صنع من العرب أمة، وما كانوا قبله أمة. وإذا كان الإسلام هو الذي جعل لهم رسالة، وما كانت لهم من قبل ولا من بعد رسالة. فيم يفسر هذا الجمود؟. إن تفسيره واحد من اثنين لا ثالث لهما : إن هؤلاء البعثيين صف يعمل لحساب الصليبيين واليهودية والعلمانية، ومن قبلها كانوا خدمًا للشيوعية والمركسية والوجودية، في صرف المسلمين عن دينهم، وإنشاء أجيال مرتدة تزدري دينها وتاريخها وحضارتها، وتحاول بعد هذا الارتداد أن تلتحق بأحد المذاهب الاجتماعية الرائجة، تلتحق به ذنبًا لا وزن له ولا كيان!!.. أو أن العرب الذين شرفهم الله بالإسلام أرادوا أن يسيروا في الطريق التي سار فيها قديمًا بنو إسرائيل !! وما الطريق التي سار فيها قديمًا بنو إسرائيل ؟! لقد اختار الله اليهود صدر تاريخهم ليحملوا رسالاته، ويكونوا سفراء وحيه: ص _163(1/156)
" ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين". وهذا الاختيار وقع لفضائل وشمائل غلبت على القوم يومئذ، واستحقوا بها التكريم.. ! وقد أشاد القرآن إلى ذلك بقوله : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " . لكن بني إسرائيل حسبوا أن فضائل الصبر واليقين ليست هي التي رجحت كفتهم، ورفعت شأنهم!! حسبوا أن الله فضلهم لأنهم من دم خاص وجنس معين!!. ومن ثم أهدروا كرامة الوحي، واعتدوا حدود الله، واستمرءوا العصيان والعدوان!!. فكانت عقباهم لعنة خالدة صرفت النبوات عنهم أبدًا، وبعثرتهم في آفاق الأرض، أممًا محقورة منكودة، لا حرمة لها ولا لواء !!. كذلك يريد البعثيون بالأمة العربية! أن يتجاهل العرب الجدد ما أفاء الله عليهم من وحي، وما أفاءه الوحي عليهم وعلى آبائهم من وحدة وحضارة ومكانة !! ثم يزعموا في صفاقة رائعة أن العرب بدمهم الخاص ولونهم الزاهي طليعة عالمية مهيبة، وقوة تاريخية مرهوبة ! الحقيقة أن هؤلاء العروبيين الحاقدين على الإسلام المنحرفين عن صراطه شر مستطير على العروبة نفسها!! ونحن في القاهرة نعاني الأمرين من دعاة القومية العربية الذين يؤثرون العامية على الفصحى في لغة التخاطب، ويؤثرون الأجنبية على العربية في تدريس الطب والهندسة بالجامعات، ويؤثرون التقاليد الوافدة على التقاليد الأصيلة في كل ميدان!! حتى لكأن هذا الشعار المفتعل شعار العروبة- ستار ضافي الذيول لوأد أمتنا ورسالتنا، وفصل حاضرنا عن ماضينا كي يمكن الإجهاز على حاضرنا ومستقبلنا جميعًا .. وماذا أفدنا بعد تخريب القلوب والمجتمعات من معاني الإيمان وشعائره؟ ص _164(1/157)
تألفت الجامعة العربية معزولة من الميدان السياسي عن العالم الإسلامي، وأخذت هذه الجامعة تحاول استبقاء فلسطين عربية. فهل بلغت غايتها!. كلا، لقد خضنا ثلاثة حروب مع اليهود سنة 948 1، سنة 1956، سنة 967 1.. - وكان الفشل الذريع نصيبنا في هذه الحروب كلها .. لأن اليهود ظهروا في العصر الحديث، تجمع شملهم صورة عقيدة. أما نحن فقد طرحنا الإسلام ظهريًّا، وخضنا معارك خطيرة دون معتقدنا الجليل؛ فلم يكن بد من هذه النهايات المشئومة .. حرمنا حماس الإيمان في الأرض، وبركاته من السماء فوقع الخذلان.. كان هتاف " الله أكبر " يطلق الجنود صواريخ تدمر كل شيء بأمر ربها.. أما في ظل هذا البعث العربي، أو القومية العربية؛ فلا يوجد "الله أكبر"، ولا توجد صلوات جامعة، ولا يوجد فداء، ولا وفاء.. ولا آخرة، ولا استشهاد، ولا جنة ولا خلود.. إن العروبة الناقمة على القرآن والسنة محت هذا كله من الأفئدة..!! ولو أن الجامعة العربية تركت فلسطين لأهلها من أول يوم؛ ما كسب اليهود كل هذه المكاسب من العرب. لقد كان أهلها المسلمون يستطيعون بحرب العصابات أن ينجحوا أكثر مما نجح ثوار " فيتنام "، بل أن يصلوا إلى مثل ما وصل إليه إخوانهم في الجزائر.. إن إهمال الجماعة للرباط الإسلامي هون عليها أن تعطى "إيرترية" غنيمة للحبشة، مع أن أربعة أخماس سكانها عرب مسلمون.. أو مسلمون خليط من عرب وسود.. فماذا كان مصير هؤلاء البائسين..! إن الحبشة تعمل على تنصيرهم بالسيف والنار، وتسفك دماءهم بالليل والنهار، والجامعة صامتة صمت القبور!! كان لكل أصحاب دين أن يظهروا بدينهم إلا المسلمين .. ص _1 ص(1/158)
هذه بركات النزعة العربية المجردة.! ويقول الأستاذ محمد محمد حسين- وهو يكشف الغطاء أولاً عن دعاة النزعات الإقليمية، ثم يبين كيف أن هؤلاء الإقليميين دعاة التجزء، اندسوا بغتة في صفوف دعاة القومية العربية، ورددوا صيحاتها، ولا هدف لهم من هذا التلون إلا الالتفاف حول الإسلام، ومحاولة خنقه. أما دعاة التجزئة فقد نشطوا في أعقاب الحرب العالمية الأولى في الدعوة إلى بعث التاريخ القديم في كل جزء من أجزاء الوطن العربي، وهو التاريخ السابق على استعرابها بدخولها في الإسلام واتخاذها لغة. فأطلت النعرة الفرعونية في مصر برأسها وأسفرت عن وجهها، وغزا بها دعاتها كل ميدان: في الكتب المدرسية، وفي النحت والتصوير، وفي الصحافة وفي أنماط البناء، وفي الأزياء، وفي الأشعرة والشارات، وفي الأدب والقصة منه بوجه خاص. وعارضوا بها الجامعة الإسلامية التي كانت هي السائدة قبل ذلك.. والجامعة العربية التي كانت تتهيأ لاحتلال مكانها على مسرح الحياة. ودعا فريق من هؤلاء الانفصاليين- وأكثرهم لا يزال على قيد الحياة- إلى أن تقوم نهضتنا على بعث المجد الفرعوني القديم، وذلك (بالبحث عن موضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر الحديثة في ميادين الأدب وكتب العقائد وطقوس العبادة- هيكل في السياسة الأسبوعية 27/ 11/ 26)، ودعوا (إلى تكوين فن مصري النزعة، صريح في مصريته - السياسة الأسبوعية 17/ 12/ 27)، وإلى (إبداع أدب مصري محلي يصور أمانينا وآمالنا، ويصور نيلنا وأرضنا المليئة بالسحر والجمال، ويصور الروح المصري في القصة والفكاهة والمسرح، ويكون له طابع متميز عما للآداب الغربية والشرقية الأخرى- محمد زكي عبد القادر في السياسة الأسبوعية 12/ 7/ 35)، وقال أحدهم: إن أول ما يجب أن نولي وجوهنا شطره هو الأدب الفرعوني (فإذا لم يكن للكاتب ملكة ينميها أو وجدان يستمده من الأدب الفرعوني؛ فليول وجهه شطر الأدب الريفي- محمد أمين حسونة في السياسة الأسبوعية 19/ 7/(1/159)
35) . وفي ظل هذا الاتجاه نشطت الدعوة إلى اتخاذ اللهجة السوقية التي يسمونها ص _166
(العامية) لغة للأدب، وللقصة بوجه خاص، وضربوا للناس مثلاً بما كان من نشأة اللغات الأوروبية الحديثة على أنقاض اللغة اللاتينية (السياسة الأسبوعية 19/ 7/ 35). ولقي هذا الاتجاه تشجيعًا- بل تحريضًا- من دول الاستعباد الغربي في كل أجزاء الوطن العربي، بل في كل بلاد المسلمين. وكان هدفهم من ذلك واضحًا، وهو تدعيم سياسة التجزئة التي نفذوها حين قطعوا أوصال العرب، وذلك بتلوين الحياة المحلية في كل بلد من هذه البلاد بلون خاص يستند في مقوماته إلى أصوله الجاهلية الأولى. وبذلك تعود هذه البلاد التي توحدت منذ استعربت إلى مظاهر الفرقة والانشعاب التي سبقت ذلك التاريخ، فيستريح المستغلون من احتمال تكتلهم الذي يؤدي إلى تحررهم. ثم تكون هذه المدنيات الجديدة أكثر قبولاً لأصول المدنيات الغربية، ويصبح كل شعب من هذه الشعوب أطوع لما يراد حمله عليه وزجه فيه من الصداقات ومناطق النفوذ، بعد أن تتفكك عرى الأخوة العربية والإسلامية. ويعترف المستشرق الإنجليزي ( هـ. ا. ر. جب ) بذلك في كتابه حيث يقول: (وقد كان من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن. فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي إيران. وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا. ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دورًا مهمًّا في تقوية القوميات المحلية وتدعيم مقوماتها - ص 342 رو. لندن 1932) وصحب هذه الدعوة نشاط البعوث الأجنبية في التنقيب عن الآثار والدعاية لما يكتشف منها فملأوا الدنيا كلامًا عن قبر توت عنخ آمون الذي اكتشفه اللورد كارنارفون وقتذاك، وعرض الثري الأمريكي "روكفلر" تبرعه بعشرة ملايين من الدولارات لإنشاء متحف للآثار(1/160)
الفرعونية يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن. و "روكفلر"- كما هو معروف- يهودي الأصل، وهو من غلاة الصهيونيين. وسخاؤه بهذا المبلغ الضخم يدل على ما في هذا الاتجاه من مصلحة ظاهرة للصهيونية، التي كانت حديثة العهد بالحصول على وعد "بلفور" وقتذاك، فقد كان من الواضح أن مثل هذا الوعد لا يمكن تنفيذه بإنشاء الوطن اليهودي ص _167
إلا وسط هذه النعرات الإقليمية المفرقة التي تمنع من تكتل العرب واجتماعهم. وهو تكتل يحول- إن تم- دون اغتصاب تلك القطعة الغالية من أرض الوطن العربي. ثم إن تطبيقها في فلسطين بالعودة بها إلى التاريخ السابق على استعرابها يفتح للصهيونية طريقًا إلى ادعاء الحق في هذا الجزء من أرض الوطن. والدليل القاطع على صدق هذا الاستنتاج هو ما نصت عليه المادة (21) من صك انتداب بريطانيا على فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى. فقد أوجبت (أن تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانونًا خاصًّا بالآثار والعاديات). وقد عادت أمريكا في هذه الأيام إلى محاولة إحياء هذه النعرة بعد الحرب العالمية الثانية. والأمثلة عليها واضحة في مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي عقد في برنستون سنة 953 ام، وفي مقالي كون وويلسون بوجه خاص (ص 89 1- 1 5 3- 331- 342 من كتاب " الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة " نشر فرانكلين). هذه الدعوة المفرقة المريبة تحاول في هذه الأيام أن تجد منفذًا للعودة إلى مسرح الحياة من جديد بعد أن طردتها منه اليقظة العربية، وهي لا تستطيع أن تعود في صورة الدعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو الآشورية؛ لأن وقت ذلك قد مضى وفات، ولأن أصحاب هذه الدعوات قد قرروا- كما قلت- أن يعملوا في داخل إطار القومية العربية، وأن يسايروا التيار ويندسوا في غمار موكبه يهتفون مع الهاتفين. بينما يعملون في الوقت نفسه على الانحراف به من داخله. لذلك ألبسوا دعوتهم الانفصالية هذه ثوبًا(1/161)
جديدًا تمسحوا فيه باسم خداع حبيب إلى القلوب. العرب في إطار الأخوة الإسلامية: الأجناس التي دخلت في الإسلام كثيرة، وهي أجناس لها في تاريخ العالم القديم مكانة بارزة. وقد يكون العرب من ناحية العدد أقل من الهنود المسلمين، أو أقل من الإندونيسيين. إلا أنهم- وإن قلوا عددًا- لهم بين مجموعة الأمم المسلمة درجة سنية لا ينازعهم فيها أحد، وهي درجة يستمدونها من اقتران حياتهم وتاريخهم بالإسلام . ص _168
وانعطاف المرء نحو قومه غريزة لا شيء فيها، وهذا الانعطاف في حدود الفكر الأصيل، والميل المعقول يكون معنى القومية الذي لا اعتراض عليه. لكن كلمة القومية قد تظهر ظهورًا مفتعلاً، وتطن طنينًا شديدًا، ولا يكون ظهورها وطنينها إلا أثرًا لانحرافات نفسية، أو مطامع شخصية، أو اضطرابات سياسية.. وهنا لابد لأهل الإيمان والحجا من التريث والأناة في قبولها أو ردها، وفي الحكم لها أو عليها. قد تكون القومية رغبة جنس ما في فرض نفسه على الخلائق مدعيًا من الحقوق والخصائص ما لم يسلمه له غيره ألبتة. وقد يكون انفصال إقليم ما انفصالاً عما حوله، إما إنفاذًا لرغبات استعمارية، أو إجابة لنزعة السيطرة عند حاكم ما، وذلك مثل القوميات الكثيرة التي انقسم إليها قطر واحد، كالشام. وهذه القوميات الوليدة في ظروف مريبة، أو المنتشرة على رقعة العالم مع انتشار العبث السياسي، والمجد الشخصي، لا يمكن قبولها على علاتها، ولا يمكن التسليم- في ميدان العقيدة والخلق- بما تتطلبه من ولاء معين، أو سلوك خاص. وقد تطاحنت هذه القوميات تطاحنًا مريرًا، حتى إننا لنستطيع أن نرجع إليها أسباب الحروب العالمية الأخيرة. وكان رد الفعل لهذه العصبيات القومية نشوء مذاهب عالمية رحبة تجعل من "الإنسان " المجرد قاعدة نشاطها، ومحور دعايتها، متعالية على ما يقارن شتى القوميات من مشاعر محلية، وقضايا شخصية، أو شبه شخصية. ونحن المسلمين نرحب بالوجهة الإنسانية المطلقة. بيد(1/162)
أننا لاحظنا أن عناصر خبيثة، قد تسربت إلى مؤسساتها ومحافلها، وجعلت من هذه المجامع الإنسانية أوكارًا للنيل من ديننا وحده، وإقرار الأمور لأديان وطوائف أخرى .. ترى ما هي القومية العربية بالنسبة إلى هذه النزعات والمذاهب ؟ ص _169
أظن كتاباتنا السابقة قد حددت الجواب على هذا التساؤل.. إننا نرفض كل تفسير للقومية يحملها أوزار العصبيات البالية التي ذكرناها آنفًا. كما نرفض كل تفسير لها يسلخ العرب عن رسالتهم الكبيرة، أو يوهي الروابط بينهم وبين المسلمين فى القارات الخمس. يقول المستشرق الإنجليزي "جب " الأستاذ بجامعة أكسفورد: " إن العرب هم الذين يعتبرون رسالة محمد، وذكرى الدولة العربية نقطة الارتكاز في التاريخ، والذين- بالإضافة إلى ذلك- يرون اللغة العربية وتراثها الثقافي ملكهم المشترك "يعني هم وغيرهم من سائر المسلمين ". القومية العربية المشربة بهذا الروح الإسلامي المتغلغل في أطواء التاريخ المهيمن على أطراف الحاضر، وهي بلا ريب نزعة حسنة، ونهضة طيبة. وهي لا تعدو أن تكون إقرارًا لتبعة القيادة حتى يحملها الجنس العربي بالنسبة إلى سائر الأجناس الداخلة في الإسلام، كما أنها في عقد الأخوة الجامعة دعم لرباطه، وتوثيق لعراه. وما يزعم عربي مسلم أن له مرجحًا من دم، وما ينبض فيه عرق بافتيات على إخوانه المسلمين في أنحاء الأرض، بل إن العروبة كما شرحنا- قومية مفتوحة، يستطيع أي امرئ أن يمتزج بلبها ولا حرج . لقد جعلها الإسلام كالمحيط الذي تصب فيه شتى الأنهار.. من أجل ذلك لابد من بناء المجتمع العربي على هذه الأخوة التي تصله برسالته، وتصله بجماعة المسلمين حيث كانوا. وقد قرأت كلمة نشرت منذ سنوات عديدة في هذا الموضوع لإمام إسلامي كبير، نرى لزامًا أن نثبتها هنا. قال رحمه الله : "يجد مبدأ القومية بين زعماء الأمم وقادة الشعوب من يناصره ويقدسه ويبثه بكل ص _170(1/163)
وسيلة في نفوس الناس ويضع المناهج والبرامج لينشأ الجيل القادم مقدسًا لقوميته معتزًّا بعصبيته. فهتلر ينادي أمته: ألمانيا فوق الجميع. ومصطفى كمال ينادي أمته: تركيا فوق الجميع. وموسوليني ينادي أمته: إيطاليا فوق الجميع. ولا يقفون عند النداء، بل يستخدمون التاريخ، والذكريات، والقوة- إذا احتاج الأمر- تثبيتًا لهذا المبدإ في نفوس شعوبهم. ويرتفع مع هذا صوت الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وبعض السياسيين يوضحون للناس خطر التمسك بمبدإ القومية، وضرورة التشبع بمبدإ العالمية ونسيان فكرة الوطن الخاص، والعنصرية الجنسية. ومصر- التي تعودت تقليد الغرب، والإعجاب بنظمه وبرامجه- تقف على مفترق هذين الطريقين. فتارة تسمع في جرائدها من يحبذ القومية. وأخرى تسمع من يهيب بها إلى العالمية. ويدلي كل منهما بأدلته وبراهينه. اسمعوا يا قوم: أما مبدأ "العالمية" فهو إن كان مبدأ الإنسانية والسلام والخير العام، إلا أن أمم الغرب وحكومات الاستعمار جعلته شبكة تصطاد بها ضعاف العقول، وتكسر به حدة المقاومة عند الشعوب المظلومة حتى تكون لقمة سائغة لها. وما دامت الأمم الغربية تعتقد في أمم الشرق الحطة والجهالة والذلة والمهانة وتترفع عن الاختلاط بها، وتظن أنها من طينة غير طينتنا، وكل ما تريده منها أن تمتص دمها وتنتفع بخيراتها وتستخدم أبناءها في قضاء شهواتها السياسية ومآربها الاستعمارية . ص _171(1/164)
مادامت أمم الغرب على هذه الروح الفاسدة مع ما بينها هي نفسها من التباغض والتحاقد، فإن مبدأ العالمية عند الشرقيين من أخطر المبادئ على حياة أممهم. وأما مبدأ "القومية" فهو مبدأ خطر كذلك، لا ينتج إلا الشرور والآثام والحروب والتخاصم والتنافس والتزاحم. فإذا كانت كل أمة تدعي أنها سيدة الجميع، وتعمل للوصول إلى هذه السيادة فمتى تهدأ الثورات أو يسود السلام؟ وها نحن نرى نتائج تمسك أم بهذا المبدإ في مؤتمراتهم التي لم يفلح واحد منها حتى الآن. ذلك إلى أنه غير طبيعي ؛ لأن العالم يسير إلى الوحدة والاتصال، وكل ما صادم الطبيعة لابد أن يزول. فكلا المبدأين بالنسبة لمصر والشرقيين ضار غير ملائم لها. فالعالمية مع جمالها النظري قضاء عليهم، والقومية مبدأ خاطئ من أساسه. فإذا وفقنا إلى تربية النشء وتكوين نفوس الأمة على مبدإ يضمن لنا حب الخير العام والسلام والعمل لفائدة الأمم جميعًا-، وذلك كل ما في العالمية من جمال- ويضمن لنا مع هذا التمسك بعزتنا، والدفاع عن حوزتنا، والذود عن أوطاننا ومقدساتنا- وذلك كل ما في القومية من فائدة- كنا قد وصلنا إلى خير كثير، وأخذنا من كلا المبدأين فائدته، وتجنبنا ضرره، وبرئنا من وصمة التقليد، وفضلنا الغرب الذي تلعب به الأهواء والشهوات، ودللنا بعملنا هذا على أسمى معنى من معاني الاستقلال النفسي. ولا أدري لماذا نذهب بعيدًا وهذا المبدأ بين أيدينا ؟ أرشدنا إليه العزيز الحكيم في كتابه الكريم- وهو الذي يعلم مصالح عباده- ويرشد خلقه إلى أقوم السبل في حياتهم المادية والروحية معًا . وذلك المبدأ الذي يجب أن ينشأ عليه أبناؤنا، وتتربى عليه نفوسنا، هو مبدأ " الأخوة الإسلامية ". ص _172(1/165)
الأخوة الإسلامية التي قررها القرآن الكريم في قوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " . وقررها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام : ماله ودمه وعرضه ". إننا إذا تمسكنا بهذا المبدإ قويت رابطتنا النفسية، وقويت رابطتنا بالأمم الشرقية، وعصمتنا العقيدة من الاستكانة للغاصب والخنوع للذل والاستعباد. إننا إذا جعلنا مبدأ الأخوة الإسلامية هو مبدأ التربية عندنا، وأساس مناهجنا ونظمنا، وخدمنا العالم الذي يسير إلى الإسلام بخطوات واسعة، وخدمنا الحضارة والمدنية اللتين لن تجدا دينًا يتمشى معهما ويكمل ما نقص من مظاهرهما غير الإسلام، وبنينا الجيل القادم على أقوى دعامة وأمتن أساس. " فلنكن شجعانًا في التحرر من نير التقليد الأجنبي ولو مرة واحدة " . إن الأخوة الإسلامية التي ندعو إليها ترادف الأخوة الإنسانية التي ينشدها كبار القلوب من البشر. ذلك لأنها تسع شتى الأديان والأقوام مع بقائهم جميعًا على مللهم دون نكير، وتضبط الحياة العامة بنظام يقوم على محض العدالة، والرحمة، والتسامح. أي أن غير المسلمين يتساوون مع المسلمين في الحقوق والواجبات، ويختلفون عنهم فيما ارتضوه لأنفسهم من عقائد غير إسلامية. ص _173
عصور الازدهار وعصور الانهيار ص _174(1/166)
ظل العرب زمانًي طويلاً وهم أنضر أهل الدنيا حضارة، وأذكاهم فكرًا، وأشرفهم سيرة، وأنقاهم سريرة. وامتدت بهم العصور وهم منفردون بهذا السبق البعيد، لا يكاد يدانيهم أحد في سعة الخطو، واستقامة النهج. ولولا أن العرب شغل بعضهم ببعض في فترات متراخية ما ردهم عن امتلاك المشارق والمغارب أحد؛ فإن تفوقهم المادي والأدبي- الذي صحب اعتناقهم للإسلام- أعجز غيرهم عن بلوغ المستوى الذي أحرزوه. ولقد وقف العرب دون عائق ظاهر أو خفي فلم يتابعوا مسيرهم المظفر في العصر الأول، ولا أنفذوا الرسل بدعوتهم العظيمة إلى الآفاق البعيدة كما فعل نبيهم الكريم. وكانوا يستطيعون- لو أرادوا- أن يجتازوا الصين إلى اليابان، وأن ينتقلوا من فرنسا إلى شرق أوروبا وشمالها.. أتظن وقفتهم هذه كانت حذر قوي ذات خطر في تلك البقاع؟ كلا، فإن الشعوب الأوروبية كانت من هوان الشأن بحيث لا تستطيع أن ترد فاتحًا، وهي وغيرها من الخلائق كانت تهيم في بيداء من الخرافات ليس لها من آخر. وليت العرب وجدوا عدوًّا مكافئًا ينافسهم وينافسونه، إذن لزاح عنهم الغرور العلمي الذي استولى عليهم وأغراهم بالقعود والدعة: كم يستفيد المرء من أعدائه؟ إن الرجل في ميدان الكفاح يتفقد صفوفه، ويتحرى أسباب سلامته، ويوجل أن يؤخذ عن غرة. أما إذا خلا الجو له فقلما يتحرك إلى عمل تنعقد له العزيمة، وتؤخذ له الأهبة، ولعله ينام تلبية لقول القائل: وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان والحق أن المرء يشعر بغصة عندما يقارن بين القمة التي اعتليناها دهرًا، والوهدة التي انحدرنا إليها بعد . ص _175(1/167)
إن الهمل الذين عاشوا في أوروبا ألف سنة لا يصلحون لشيء بالنسبة لنا، صاروا اليوم سادة في دنيا تضن علينا بالنصفة. " وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " . ظلت حضارة العرب شمس هذا العالم مئات السنين، وكان الإسلام خلالها مبعث الضوء والدفء والنماء والحركة. ورسالة الإسلام بطبيعتها تخلق أجواء البحث والنظر، وأجواء اليقظة والدأب. وذلك لأن الإسلام يعتمد في أصوله على منابع جياشة بالإلهام والبعث. قرآن يستثير الألباب والأفئدة، ويتضمن الكلم الفواصل في كل ما شغل الناس أو يشغلهم من قضايا الفرد والمجتمع والدولة. وإمام هدى شق في الحياة العامة طريقًا واضحة المعالم، يعجز الفلاسفة القدامى والمحدثون عن مثلها. أجل، فإن سنة محمد طراز من الحكمة العلمية والعملية لا نظير له في الأولين والآخرين .. ومن هذا الكتاب الكريم، وتلك السنة المطهرة، تتكون الثقافة الذاتية للإسلام- ونعني بالثقافة الذاتية للإسلام ألوان المعرفة والتربية التي كونت الأمة الإسلامية وصاغتها في قالبها المعروف . إن هناك علومًا لا وطن لها ولا جنس كعلوم الأحياء والرياضة. ودور العروبة في هذا القطاع الكوني العام يأتي حديثه بعد.. لكن الذي نومن إليه الآن ما أسميناه الثقافة الذاتية. الثقافة التي تضبط اتجاه الإنسان في الحياة، وترسم له الهدف بدقة، وتشد زناد مواهبه ثم تطلقه فيمضي كأنه قذيفة حية لا تميل ولا تزيغ .. هذه الثقافة الذاتية من الوفرة والخصوبة في تعاليم الإسلام بحيث تصنع الأمم صناعة كاملة، كأنها "جهاز" تام الأدوات لا يعجز عن أداء وظيفته في شيء . ص _176(1/168)
وهذه الثقافة الذاتية إنما تنهض على ركائزها الأولى من الكتاب والسنة ومن علوم الكتاب والسنة، ومن إيلاف الخاصة والعامة لإيحاءات وغايات الكتاب والسنة. ومن هنا كان جهد الغزو الأجنبي للشرق الإسلامي أن يميت هذا الجانب من الثقافة، وأن يصوب إليه سهامه بإصرار حتى يشله عن عمله العتيد. وهو عندما نجح في ذلك خلق أجيالاً قد تكون بارعة في الكيمياء أو الهندسة، ولكنها تحيا بغير باعث أو هدف، بغير روح أو أمل، كرجل يسير في الطريق دون غاية تقوده؛ فهو يتفرج على كل زياط، ويتبع كل ضجة. كذلك سواد المتعلمين في بلادنا، يرمقون الحياة العامة بقلوب جعلها الاحتلال فارغة، فهم كلما برق أمام أعينهم مبدأ مستورد من الخارج تبعوه دون تمييز ودون اكثراث. وربما تبعوه تزجيه للفراغ وإضاعة للوقت. ونحن ننبه إلى ضرورة الحفاظ على الثقافة الذاتية للإسلام، ونهيب بأولي الحجا أن يتوجسوا من عقبى الفراغ النفسي والفكري الموجود الآن بين شتى الطوائف. إن ضياع هذه الثقافة الذاتية معناه ضياع أمتنا كلها.. ومن السهل أن ننظر إلى التاريخ الثقافي لأمتنا فنجد اشتغال المسلمين بعلوم الكتاب والسنة قد استنفد أوقاتهم وجهودهم، وكان الأسلاف يورثون الأخلاف هذه المعاني لأنهم يورثونهم فيها أسرار الحياة، وبواعث النشاط، وضمانات الرشاد!! أثر العقيد والشريعة في المجتمع: والقرآن- وهو أساس الإسلام- ليس مزامير وعظ، أو مناجاة رهبان متبتلين، فدائرته أرحب أقطارًا من ذلك. قد يستحلي الخاشعون تلاوته في محاريب العبادة، وتنحدر دموعهم لما احتوى من وعد ووعيد. لكن هذا الكتاب يصل الفرد بالحياة العامة والمجتمع المائج صلة لا يمكن إضعافها. ومفهوم الإيمان منه صلاح وإصلاح، ورشاد وإرشاد، وعقيدة تتعدى نفس الفرد إلى ما حوله من أشخاص وأشياء ص _177(1/169)
ولا غرو فالإيمان الفردي في البيئة الشاكة سريع العطب، والمرء العابد في دولة ملحدة سوف يموت يومًا وتموت معه عبادته ويبقى الإلحاد الحاكم. من أجل ذلك رفض الإسلام رفضًا باتًّا حياة العزلة، ولو كان الإيمان فيها جذوة نار. فإن هذه الجذوة مع انتشار الفساد كمدفأة وسط عاصفة باردة التيارات هتون الأمطار لا تلبث أن تخمد. ومن أحسن ما يصور طبيعة الإسلام ما روي عن أحد الصالحين أحب أن يجاور الحرمين وأن يتبتل إلى الله، فكتب له صديق حازم من المجاهدين: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب!! الإسلام شديد الإعلان عن طبيعته، يغرس عقائده غرسًا في أرجاء المجتمع. أسمعت هذا الأذان المتكرر! إنه صيحات واعية هائلة تجذب قوافل البشر إلى الحق كلما غلبتهم الغفلة، وجمحت بهم غرائز السوء. في نفس أي مؤمن شعور أن الله أكبر، لكن هذا الشعور يجب أن يتحول جؤارًا بعيد الدوي يزعج الشيطان، ويعلي شعار الرحمن. ومن خواص العقيدة عندنا أن بناءها على الحق لا على الخرافة، وعلى الدليل لا على التظنن. " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي". ورفض أي دعوى لا تساندها الحجة المقنعة للعقل أساس عظيم في وزن الأمور، ونفي الترهات. والعقل في نظر الإسلام مصفاة لما يعرض على الإنسان من مبادئ وقضايا، مصفاة لا تسمح للأقذار والشوائب أن تلوث الفطرة، أو تضلل السلوك . ص _178(1/170)
وعندما تمر الحقائق النقية من هذه المصفاة تستقر في حنايا الصدر لتجعل صاحبها تقيًّا مخلصًا لله رب العالمين. والتقوى كلمة أبلاها سوء الاستعمال وطول الابتذال. غير أننا نسارع إلى التوكيد بأن لبابها الجليل هو سر الفلاح لأية جماعة. وهيهات هيهات أن يصلح مجتمع نضب فيه معين التقوى، وارتد أبناؤه؛ إما دواب تقودها طباعها، أو شياطين بارعة الفكر عديمة الخير. التقوى استصحاب المرء لرقابة الله وهو يباشر أي عمل، فهو يبلغ به درجة الكمال دون رغبة أو رهبة، وهو يجوده تجويدًا- ولو كان خاليًا- كأن ألف عين ترمقه. الإيمان هو الذي يسرج مصباح الضمير، ويجعل الناس يتحابون بروح الله، ويتعاونون ببواعث الحق والخير، ويؤدون الواجبات المنوطة بأعناقهم دون تململ. ماذا كسب المجتمع لما وهي سلطان العقيدة ؟ أنه خسر استقراره وسعادته، بل خسر نفسه. وإني أقارن بين "فقهاء" الكتاتيب الذين كانوا يأكلون فتات الصدقات، ومدرسي المرحلة الأولى في التعليم الحاضر- وهم أثرى وأرقى- فأجد إيمان الأولين جعل نتاجهم كثيرًا طيبًا. وأما الآخرون فعلى كثرة النفقة، وتعدد الرؤساء، وتعهد البرامج، وتنظيم الفرق، لم يثمروا شيئًا طائلاً. إنه لا العمال، ولا الموظفون، ولا الحكام، ولا سائر الطوائف يستطيعون الإسهام في إقامة مجتمع ناجح إلا على ضياء اليقين الراسخ والتقوى الغالبة والعبادة الحية، وكل ما تجمع باقة الإيمان الصحيح من فضائل وخيرات. واستقرار العقيدة في النفس والجماعة يلد أغلب الاتجاهات النفسية والأخلاق العملية، لكن البشر لا يستغنون مع هذا عن سلطات القانون. وقد يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن خصوصًا عند اعتلال القلوب، وغيض الوفاء . ص _179(1/171)
والإسلام تضمن مجموعة متكاملة من التشريعات المقرة للحق، الكافلة للطمأنينة، والحارسة للإنصاف والعدالة. وحسبها أنها من السماء لا من الأرض. ومن صنع الله الخبير البصير، لا من صنع البشر الذين طالما ضلوا على أنفسهم ووكلتهم الأقدار إلى تدبيرهم ففسدوا وأفسدوا. والمهم في القانون- بعد سداده وصدقه- إحسان تطبيقه، وتعاون الشعب والحكومة على إنفاذه. وهذا لا يتم إلا إذا كان الإيمان أساس الشريعة القائمة وأساس رضا الأمة بها، وتسليمها لها.. والسوالف الأولى تتضمن العجائب في هذا الميدان. إن الرغبة في إنفاذ القانون غلبت غريزة الأمومة، وغريزة الأمومة من أقوى وأزكى الغرائز الإنسانية إن لم تكن أقواها وأزهاها. ومع ذلك فإن امرأة كالغامدية، ألمت بذنب، ورأت أن تطهر نفسها من آثاره، فذهبت إلى رسول الله ومعها رضيعها، ثمرة خطئها، وطلبت أن يقام عليها الحد. فلما أرجئت لحاجة ولدها إليها عادت بعد فترة - وقد كبر الطفل- وفي يده لقمة يأكل منها، وطلبت أن يقام عليها الحد!! مثل هذه المرأة يشتري الحياة بأي ثمن إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجل ولده. أما هي فإن إيمانها بأن القانون القائم هو الذي يطهرها من جريرتها جعلها تجود بنفسها، وتتقدم طوعًا لا كرهًا . إن القانون إذا كان جزءًا من الدين كان احترامه وتطبيقه دينًا. ومن ثم كان من العبث بقاء القوانين الوضعية إلى يومنا هذا مع أنها من مخلفات الاستعمار الصليبي، ومن أبرز مظاهر التحدي لله ورسوله . وقد استبحرت بحوث الفقه والتشريع في حضارتنا استبحارًا لا يؤثر لحضارة ص _180(1/172)
أخرى، وكتب الأئمة والعلماء في ذلك أسفارًا ضخمة، ووصلوا إلى مبادئ قانونية، وقواعد بالغة الدقة. ويمتاز المسلمون بأن عامتهم وخاصتهم يتدارسون ألوان التشريع في المساجد والمدارس على أنها دين واحد. والعبادات والمعاملات فيه سواء. فرجل الشارع في المدينة أو الفلاح في القرية يقصد إلى المسجد ليسمع كلامًا في أحكام الصيام، وكلامًا في أحكام البيوع والإيجارات، على أن هذه وتلك تعاليم الإسلام التي لابد من فقهها والعمل بها. إن الإسلام جعل الأمة كلها أمة نظر قانوني، لا أمة خيال وتوهم. والأوروبيون يذكرون أسلافهم الرومان على أنهم رجالات القانون وجهابذته، ولعمري إن الرومان ما بلغوا في هذا معشار العرب. ولكن القوم يتعصبون لأسلافهم ويحتفلون بالتافه من تراثهم. أما نحن فالتركة العقلية الرائعة لأئمتنا العظام رمى "هولاكو" بعضًا منها في الفرات ليصنع جسرًا تعبر عليه جيوشه. ورمى الصليبيون بعضًا ثانيًا في غرب البحر المتوسط، ونقل عقلاؤهم ألوف الكتب إلى عواصمهم، وكنزنا نحن بعضًا في دور الكتب فيه المخطوط وغير المخطوط.. وحسب!!. وما تتداوله الأيدي في ميدان الدراسة شيء محدود، ولعله ليس أفضل الموجود. ويمتاز التشريع الإسلامي بطابعه الديني الجليل. إنه يرعى المصلحة كأدق القوانين المدنية، ثم هو إلى جانب ذلك وثيق العرى ببواعث الإيمان وأمثلته العالية. إنه في ميدان الحياة العملية قسيم للعقيدة وما تلده العقيدة من أخلاق وتقاليد. كذلك القانون عندنا، إنه يسير بين خطين ثابتين من رعاية الله وتحري رضاه، كما ينطلق النهر بين شاطئيه لا يطغى ولا يزيغ . ويطول بنا المقام لو ضربنا الأمثلة، وعرضنا نماذج من اجتهاد الفقهاء وفق نصوص الدين وقواعده العامة . ص _181(1/173)
ويكفي أن نثبت هنا رسالة كتبها الخليفة الراشد عمر لأبي موسى الأشعري إذ ولاه القضاء. وهي رسالة جمعت آدابًا كريمة، ودلت على منزع الفقه الإسلامي في إثبات الحقوق، وإرساء الحدود، وإرضاء الله وإنصاف عباده. قال: " بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان . وإياك والقلق والضجر، والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات؛ فإن الحق ص _182(1/174)
في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله ـ عز وجل ـ في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام. بدأت الثقافة الذاتية للإسلام نقية لا كدر فيها، وظلت أمدًا طويلاً وهي تخط للمسلمين طريقهم، وتحدد وجهتهم وتمدهم بالوقود الذي يدفع قافلتهم إلى الأمام. وقد شابها في الأعصار الأولى شيء من الغبار الذي يكسو الوجوه الكادحة، ولكنه لا يغير ملامحها ولا تعسر إزالته. وهذا القدر من الغبار الطفيف دافعه العلماء، ومنعوا أذاه عن الأفئدة والأفكار.. إلا أن هذه الثقافة في القرون المتأخرة داخلتها أغيار شتى، وانتشرت تحت عنوانها ترهات وظنون واهية الصلة بالإسلام أو غريبة عنه. ولولا أن أساير الإسلام محفوظ بعناية السماء لانقطعت حبال المسلمين بدينهم وشردوا عنه بعيدًا. إن هذه الثقافة تبدو صافية كماء المزن كلما اقتربت من ينابيعها الأولى في الكتاب والسنة. وتعتكر وتزبد كلما اختلطت بأهواء ذوي الأهواء، أو بما أدخلته الغفلة علينا من إسرائيليات ونصرانيات وإغريقيات!. والفقهاء في الكتاب والسنة جازمون بأن تركة العلوم الشرعية التي آلت إلينا مثقلة بانحرافات واضطرابات شتى، وأنها بحاجة ماسة إلى غربلة شاملة تنقيها من الدخيل الضار- وما أكثره- وتردها إلى أوضاعها الأصيلة كيما تخدم الحق، وتنفع الناس.. في علم العقيدة - الموسوم بعلم الكلام - مباحث سخيفة خلقها الفراغ، والسماح لفلسفة يونان أن تقتحم بأوضارها محاريب الفكر الإسلامي. ص _183(1/175)
ويجب بتر هذه الإضافات، ورجع العلم المظلوم إلى مادته الأولى، يصور جوهر الإيمان، وينير القلوب. ونستطيع القول بأن أكثر الكتب المؤلفة في هذا العلم لا تصلح لا لعصرها، ولا لعصرنا. وفي علم الفقه متون وشروح وحواش أغلبها من إنتاج المتأخرين، وهي رديئة العرض، سقيمة الأسلوب. وحقائق العبادات والمعاملات مبعثرة فيها بعثرة مزعجة، فضلاً عن المنحى المذهبي الذي جعل كل طائفة منها تمثل جانبًا من الفكر القانوني، لا يغني عن الجوانب الأخرى. وفي كتب السيرة والتاريخ حشد هائل من المرويات التي لا تثبت على التمحيص، ومع أن جهابذة النقاد زيفوا كثيرًا من تلك النقول المريبة؛ فإنها بقيت في مكانها دون أن تحذف وتوارى في الثرى. وقد هاج المسلمون في الهند على كتاب تناول الرسول بأسلوب لا يليق، وعندما قرأت الفقرات التي أغضبت المسلمين هناك، وجدت جرثومتها من بعض كتب السيرة التي لا تبالي بإثبات الهزيل والعليل، بل الباطل المرفوض من الأخبار. وفي كتب التفسير- خصوصًا ما تتداوله العامة كتفسير الخازن- هراء كثير، وهذا الكتاب لا يصلح للقراءة إلا بعد حذف صفحات منه. ومنهج التفسير نفسه ينبغي أن يراجع. وهناك كتب السنة التي لابد من إعادة تبويبها، وتهذيب سياقاتها حتى يتسنى للجمهور أن يستفيد من حكم النبوة المسجلة فيها. إن الثقافة الإسلامية الآن، وبعد القرون الميتة التي اجتزناها أخيرًا؛ يجب أن يعاد النظر فيها طولاً وعرضًا، لأنها للأسف لا تيسر حقائق الإسلام، كما أتت من عند الله. وليست هناك قداسة لإنتاج أحد من الخلق، إنما القداسة للوحي الأعلى وحده . وفي مقدورنا على ضوء كتاب ربنا وسنة نبينا أن نربط الأجيال الحديثة بالإسلام ص _184(1/176)
عن طريق كتب تستقى من النبع الأول، وتتحامى تخليط المخلطين، وتنتفع بجهود ذوي البصائر من الأولين والمحدثين. ولو أن إدارات الثقافة في الجامع الأزهر وسائر الهيئات المشتغلة بخدمة الإسلام توفرت على هذا الصنع لأحسنت كل الإحسان!. وقد بذلت جهدًا قليلاً في هذا المجال. ولا يزال الجهد الأكبر ينتظر أهله. ثم إن الشعور يخامر الكثيرين بضرورة إصلاح الثقافة الإسلامية ودعم الجامع الأزهر الذي يقوم على رعايتها. وفي ذلك يقول الأستاذ الزيات: " إن من محن الإسلام حين ضعف أهله وزال سلطانه أن امتزجت به كل نحلة، وسرت إليه كل علة، وتراءت فيه كل حالة. فكل امرئ واجد فيه ما يلائم استعداده، ويناسب فهمه. فالثورة الدينية بالمعنى الذي ذكرته، هي تحرير العقل من الاقتداء العاجز، والمتابعة المسلمة، وتطهير السنة من الأحاديث المكذوبة، والأقوال المشوبة، وتطوير الفقه في حدود ما أنزل الله، وبلغ الرسول، ليطابق مقتضيات العصر، ويجابه مشكلات الحضارة، ثم عرض هذا الإسلام الصادق الصافي على الناس في معرض واضح، ومظهر جاذب، ومنهج قويم. فإن النص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة لا يحقق معناه إلا إذا كان للدين الأثر الفعال في التربية والتعليم والتشريع والسلوك. والأزهر بفضل ما مكن الله له في التاريخ، وهيأ له من الموضع، وأتاح له من الكفاية، أقدر وراث النبوة على تبليغ الرسالة العظمى، وتوجيه الأمة الكبرى إذا تسنى له أن يؤدي رسالته: في حفظ التراث الإسلامي، وتنقيته من العقائد الواغلة والمذاهب الباطلة، والبدع الضارة، ثم نشره على العالم عن طريق التعليم والتأليف والترجمة والدعوة . ص _185(1/177)
وسبيله إلى ذلك- فيما أرى- أن يمكن من جمع هذا التراث المتفرق المشوش في ثلاثة أسفار: سفر في التفسير: تشرح فيه الآيات الكريمة على ضوء الرواية، والعلم الثابت، ويجمع بين ما صح من أقوال السلف، وما صح من آراء الخلف. وسفر في الحديث : يدون به ما لا ريب فيه من الكتب الصحاح، ويستعان على شرحه بعلوم التاريخ والاجتماع، والأخلاق، والفلسفة. وسفر في الفقه: يشمل ما تواتر من الأحكام، وصح من المذاهب، وسلم من الآراء، ثم يوضع متنه مواد، كالقانون ويشرح شرحًا فنيًّا يستوعب أصوله ويستقصي فروعه في غير حشو، ولا استطراد، ولا تعمية. هذه الأسفار الثلاثة ستكون مادة الدراسة، ومرجع القضاء، ومصدر الفتوى، ثم يجرد منها مختصرات تدرس في المدارس، وتنشر في الجمهورية، وتترجم مع المطولات إلى أكثر لغات الشرق، وأشهر لغات الغرب، ثم ترسل إلى كل بلد يعرف الإسلام، أو يريد أن يعرفه. أما ما عدا ذلك، فما كان صحيحًا بقي في المكتبات ليرجع إليه المتخصص والمؤرخ، وما كان زائفًا صنع به ما صنع عثمان في كل مصحف غير مصحفه، فإن الإبقاء على الزيف من الأحاديث والآراء لبس للحق بالباطل، وطمس للنور بالظلام، وتعمية للطريق على السالك. أذكر أن أحد الأساتذة الكبار ـ عليه رحمة الله ـ ، قدم رسالة بالفرنسية إلى " السربون " عن حال المرأة في الإسلام، نال فيها من خلق الرسول وشرعه وسلوكه. فلما أنكر عليه من أنكر استدل على كل ما ادعى بأحاديث مروية في "طبقات ابن سعد"، وفي "الشفاء" للقاضي عياض . ولما ردوا حجته بأن هذه أحاديث موضوعة، قال: "وما يدريني أنها موضوعة، والكتب التي نقلت عنها معتمدة متداولة ؟ " . وأشباه هذا الأستاذ ممن ضللتهم النقول، وخدعتهم الكتب يخرجون على الناس ص _186(1/178)
كل حين بالرأي المجازف، أو الكتاب المخالف، ثم لا ينبههم نقاد الحديث إلى أن ما نقلوه منحول، أو مدخول إلا بعد أن يكون الرأي قد سار، والكتاب قد نشر. فلو أن هذه الأحاديث المفتراة لم تكن منشورة على العيون يقرؤها من لا يميز بين ما اتصل منها، وما انقطع لما طارت الشبه والظنون حول العقيدة. فالثورة المقصودة ضرورة من ضرورات الإصلاح، وطبيعة من طبائع الدين، ووجيبة من وجائب الأزهر، فإذا شبت مع الثورات الأخرى فكسحت الغثاء، ونفت الخبث، وطهرت شريعة الله من سموم البدع، ونقتها من شوائب الفرق والشيع، فوردها الناس صافية كفطرة الله، كانت جديرة بأن تبني للعرب المجتمع المثالي الذي يسير على صراط الله بقيادة الحق. ورعاية العلم، ورقابة الضمير، فلا تجد فيه- متى اكتمل بناؤه- المخازي التي تقترف في الدواوين، ولا المآسي التي تمثل في البيوت. ولا المهازل التي تشاهد في وسائل الترفيه. ولا المساوئ التي تحدث في التعامل. ويومئذ يعتز المواطنون بعز الوطن ويفرح المؤمنون بنصر الله. فضل العرب على علوم الحياة : سألني سائل: أكتب على الشرق التأخر والخمول، وأن يحيا أبدًا كسير النفس، ذليل الجانب، وكتب للغرب التفوق والظهور، وأن يحيا أبدًا عزيز الجانب، أبي النفسى؟ قلت : من كتب هذا؟ إن الدروس التي تلقيتموها، والدعايات التي سحرتكم هي التي روجت لهذه الأكذوبة بينكم فظننتم أن الأحوال المعاصرة هي امتداد ما مضى من تاريخ الأمم، وسوف تبقى ضربة لازب. كأنها تقسيمات طبيعية لا فكاك منها. وكأن تقدم الغرب وتأخر الشرق أشبه بما انقسم إليه سطح الكرة الأرضية. فهذه مناطق حارة أبدًا. وهذه مناطق باردة أبدًا.. ومعنى هذا أننا نحن المسلمون في الشرق كنا وسنبقى متخلفين. وأن هؤلاء الصليبيين في الغرب كانوا ومازالوا متقدمين . . ص _187(1/179)
إن هذه يا صاحبي أكذوبة بالغة الحقارة. والحق الذي يعيه التاريخ أن أهل الغرب حديثو عهد بهذه النهضة. فهي بينهم ظاهرة طرأت على أحوالهم. لم يألفوها من قبل. وإن كبوة الحظوظ في ديارنا أمر موقوت، ما كان من خلائقنا، ولا تشبث له بأرضنا.. ودعوى الغرب أنه ورث الحضارة كابرًا عن كابر دعوى فيها من الإفك بقدر ما فيها من الجحود. إنه عندما ينكر أننا معلموه، وأنه عنا تلقى أصول نهضته العلمية الحاضرة يرتكب آثامًا لا تستغرب منه. فكم للقوم من آثام ؟ إذا قالت اليابان : إنها ورثت هذه الحضارة من جزائرها. لا من جيرانها الأقربين أو الأبعدين. فهي تأفك لأنها لم تتلق عن الأجداد شيئًا. وإنما تعلمت من غيرها ما تقدمت به في يومها هذا.. وليس لليابانيين القدماء مجد يتغنى به. ولا تاريخ يشرف أصحابه. وإذا قالت أوروبا إن عظمتها الحاضرة أثر أسلافها الصالحين. فهي توغل في الزور. فتاريخ أوروبا صفر. وتاريخها الوسيط هو الخرافة والبلادة والتعصب والضغينة. والواقع أن عصر النهضة الذي اهتزت به أوروبا لم يخلص لها إلا بعد أن انسلخت من ماضيها، كما ينسلخ الثعبان من إهابه. قد تقول: وتراث يونان الفلسفي كيف نسيته ؟ والجواب: ما نسيناه، ولكن من العبث أن ننسب إليه النهوض الغربي الحاضر. إن منطق أرسطو- وهو أدق أفكار اليونان- ما كان ولا يكون أساسًا للمدنية الحديثة. إن المدنية الحديثة نهضت على منطق الملاحظة والتجربة والاستقراء. وصرحها العلمي قام على هذه الدعائم،. وهي دعائم لم تعرف إلا من منطق القرآن الكريم، ومن إشراقات الحضارة العربية التي انبعثت فيه . ص _188(1/180)
ولولا القرآن، وما بعثه من حياة فكرية نضرت العقل الإنساني، ومهدت أمامه السبل؛ ما عرف عصر النهضة، ولا نضحت على أوروبا فيوض اليقظة الإسلامية التي غيرت حياتها، وبددت سباتها. إن أوروبا تستقبل اليوم العام الحادي والستين بعد تسعة عشر قرنًا لميلاد السيد المسيح، سلخت من هذا العمر المديد ستة عشر قرنًا وأهلها- على حد ما وصف القرآن بعض الناس: " لا يكادون يفقهون قولا " على حين كان أسلافنا مبرزين في علوم الدين والدنيا، وفي شئون الحياة العامة على الإجمال. وقد اقتبس الأوروبيون من حياتنا وعلومنا وفنوننا ما دعموا به كيانهم ولموا به شعثهم. ونحن هنا إنما نذكر شيئًا يسيرًا يكشف عن هذه الحقيقة. إن الإسلام غير أسلوب التفكير الإنساني، ونقله من مجرى ينتهي إلى الظنون والأوهام إلى مجرى آخر ينتهي إلى الحق واليقين. ربط القرآن الكريم بين العقل وأدواته من سمع وبصر، وبين مشاهد الكون المادي، وجعل مسرح التأمل والاستنباط في صحائف الحياة المحسوسة، ورفض ضروب التخمين التي كان يسبح فيها المنطق النظري القديم. كان التفكير القديم أشبه بهيمان الشعراء في أودية الخيال، وكان الجهد فيه مضنيًا، وقليل الجدوى، وبعيدًا عن الصواب . يغلق فيلسوف بابه على نفسه ويرسل أفكاره داخل حجرته تسبح في محيط ص _189(1/181)
لا نهاية له، ويعود ببعض المبادئ والمناهج التي يظنها شيئًا طائلاً، وهي في ميزان الحق هباء لأنها مقطوعة العلاقة بهذا الكون الذي نعيش فيه. والتأمل الذاتي يغلب عليه أن يفرض المرء أفكاره الخاصة على ما حوله، فهو لا يتعلم من الكون حقائق كان يجهلها، بل يصبغ الكون بالآراء التي يتخيلها، وأغلبها حدس نابع من توهم صاحبه. لكن القرآن الكريم جر هذا المنطق الإنساني النظري إلى عالم الواقع، وجعله وجهًا لوجه بإزاء آفاق الأرض والسماء، وقال له: هنا فكر، ومن هنا استنبط: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " والمنطق الإسلامي يتطلب من البشر أمرين. أولها: أن يتدبروا ملكوت السماوات والأرض، ويستكنهوا خواص الأشياء، ويتعرفوا من فقه هذا الكون عظمة القائم على علوه وسفله، وعرشه وفرشه. والآخر: أن يسبحوا في هذا الملكوت، ويستكشفوا المجهول منه، وينقبوا في البلاد، ويكونوا من هذا الانطلاق عقلاً واعيًا يحسن الإدراك والحكم؛ فإن الاحتباس في مكان واحد قصور في التصور والتصوير" : " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور" . وقد أفلح هذا المنطق الإسلامي في شق طريق الحياة أمام أمة عاشت على هامش الحياة دهرًا طويلاً، واستطاعت هذه الأمة العربية أن تمسك أزمة العالم المادية والأدبية قرابة ألف سنة . ص _190(1/182)
ونحن نعرف أن أمتنا أدركتها فترة عصيبة من الانهيار الشنيع بعد هذه المدة الطويلة، ولكن هل معنى ذلك أن يجحد التاريخ وينسى الماضي؟.. علام اعتمدت " أوروبا " في يقظتها؟ أعلى المنطق النظري القديم، وما حوى من تخمينات وأحداث؟ أم على منطق التأمل في الكون، والاستفادة منه، واستكشاف مجاهيله وهو منطق القرآن الكريم؟ إن قادة الفكر الغربي الحديث أعلنوا كفرهم بالفلسفات النظرية الأولى، ونادوا بصوت جهير أن العودة إلى أحضان الطبيعة، والتأمل في مجالات الكون أولى بهم. فعن من ترددت هذه الصيحة؟ عن العرب والمسلمين وحدهم؟ يقول الدكتور الأهواني : ".. وقد رسخ في الأوهام من قديم الزمان، ومنذ قامت الفلسفة اليونانية وامتدت إلى العصر الوسيط ونفذت إلى العصر الحاضر، أن الفكرة أسمى من العمل، وأن عالم الأفكار يمتاز بالثبات والدوام، وأنه هو عالم الحقيقة بالذات. أي أن للأفكار وجودًا مستقلاً في عالم أسمى، هو عالم العقل والمعقولات، وعلى الإنسان أن يسعى إلى معرفة هذه الأفكار الموجودة وجودًا أزليًّا باتباع مناهج القياس والبرهان. حتى إذا فتح العلم فتوحاته الجبارة في علوم الفلك والطبيعة والكيمياء والحياة، واتبع في ذلك منهج البحث القائم على المشاهدة والتجربة، والنظر إلى الوقائع، كما هي عليه في الوجود، وكما هي عليه في هذا العالم المتغير. تنبه الإنسان إلى أن الحقائق ينبغي أن تلتمس من عالم الواقع لا من عالم أسمى من الواقع. وإلى أن الأفكار العلمية تعتمد على الحس والتجربة، وتستمد وجودها من تيار البيئة الحية. وأنها لهذا السبب لا تمتاز بالثبات، كما كان يعتقد المفكرون من قديم الزمان.. ثم أخذت المناهج العلمية المطبقة على الفلك والطبيعة والكيمياء والحياة تغزو ذلك الجانب الذي كان يظن أنه مغاير في طبيعته للعلوم الطبيعية . ص _191(1/183)
ونعني به عالم الإنسان، وما يمتاز به من سلوك اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وأخلاقي، وديني. وبدأت علوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق بل الدين، تخضع للمناهج العلمية المضبوطة، وأصبحت هذه المجموعة من العلوم التي تسمى علومًا إنسانية خاضعة للتفكير العلمي الحديث، فنزلت عن عالمها العلوي إلى هذا العالم الذي نعيش فيه " . إن أثر العرب في تحويل مجرى الفكر الإنساني إلى وجهته الجديدة لا يمكن إنكاره. وفضل العرب على أوروبا في نقلها من ظلمتها الأولى إلى نهضتها الحديثة ثابت مهما مارى في ذلك الحانقون. وإذا كان هناك من عيب كدر صفو الحضارة الإسلامية، فهو سماحها للفكر اليوناني أن يأخذ من اهتمامها قدرًا لا يستحقه. على أن الأوروبيين أنفسهم لم يعرفوا تراث "يونان " مهذبًا مخدومًا إلا عن طريقنا نحن العرب. أما أسلافهم فكان التفكير الفلسفي محظورًا عليهم، بل كان احترام العقل وإكبار مقاييسه منكرًا بينهم. وقد انهارت الأمة الإسلامية الكبيرة قبل أن تصل مع منطق الفكر الإسلامي إلى نهاية الطريق، فتسخر قوى الكون، وتستكشف المجهول من جوانبه، وسندرس أسباب ذلك الانهيار المحزن بعد قليل. ونحن نعرف أن " ألمانيا " انهارت عسكريًّا قبل أن تفجر القنبلة الذرية، وأن " الأمريكان " و"الروس " سبقوها إلى ذلك التفجير. لكن هل من المستطاع إنكار فضل العلماء الألمان والبحوث الألمانية في ذلك الميدان؟ إن علم هؤلاء الرجال المهزومين كان حجر الأساس فيما بلغه "الأمريكان" ص _192(1/184)
و" الروس" ، وقد كان العالم الإسلامي إبان ازدهاره هو السبب الأول والأخير في إنهاض الغرب، وتحريك ملكاته الجامدة. فهل الانهزام البعيد المدى الذي أصابنا يمحو فضلنا محوًا، ويجعلنا غرباء في ميدان المعرفة والثقافة؟ إن الدعاية الكذوب تريد إفهامنا ذلك. والاستعمار الحقود يبغي أن ينشأ مسلمو هذا العصر وهم فاهمون أن كفتهم طائشة من الأزل إلى الأبد، وأن العرب جنس تافه، ما قدم للإنسانية خيرًا منذ وجد إلى الآن، وبالتالي لن يقدم للإنسانية خيرًا، أي أنه لا يستحق الحياة. كتب الأستاذ العقاد رسالة عظيمة في فضل الثقافة العربية وسبقها على ثقافة اليهود واليونان جميعًا، وألقى فيضًا من الأشعة على هذه الحقيقة التي تتضافر القوى المضللة على نكرانها وقال: فيحق العجب ممن يجهل هذه الحقيقة التاريخية المسجلة بالكتابة منذ ألوف السنين، بل بالحروف التي سبقت الكتابة والكتاب. إلا أن الإشاعة الموهومة كثيرًا ما تطغى على الحقيقة المسجلة، ولا سيما الإشاعة التي تحتمي بالصولة الحاضرة وتملأ الآفاق بالشهرة المترددة. وقد أشاع الأوروبيون في عصر ثقافتهم وسلطانهم أن أسلافهم اليونان سبقوا الأمم إلى العلم والحكمة. واختلط على الأوروبيين كما اختلط على غيرهم قدم "التوراة" بالنسبة إلى " الإنجيل " و " القرآن "، وقدم " الإسرائيليين " بالنسبة إلى " المسيحيين " و " المسلمين ". فتوهموا أن " العبرانيين " سبقوا العرب إلى الدين والثقافة الدينية، وكتابهم نفسه صريح في حداثة إسرائيل وحداثة " إبراهيم " من قبله بالنسبة إلى أبناء البلاد العربية. وليس أعجب من الجهل بالحقيقة التي تظهر هذا الظهور. ليس أعجب من هذا الجهل إلا أن تكون الأوهام المشاعة بهذه القوة عند أقوى الأمم وعند أشهرها بالعلم والثقافة . ص _193(1/185)
فلو لم يكن في الصفحات التالية إلا أنها تكشف هذه الأعجوبة في ناحية من نواحيها؛ لكان ذلك حسبها من سبب يوجب علينا كتابة هذه الرسالة. فهي تفصيل لما في هذه الأسطر القليلة من إجمال، وأيسر تفصيل كاف في مجال كهذا المجال. ثم يقول بعد شرح لابد من الاطلاع عليه: ولعلنا في نهاية هذا المطاف قد اتضح لنا المقصد الذي توخيناه وأجملنا بيانه في كلمة التمهيد لهذه الرسالة. فهو تصحيح الأوهام الشائعة بين الغربيين عن تخلف الأمة العربية في ميادين الثقافة، والحكم عليها أبدًا، وفي جميع الأحوال، بأنها تبع مسبوق يقتدي باليونان في ثقافة الفكر، وبالعبريين في ثقافة العقيدة، وليس للأمة العربية سابقة من سوابق الفضل يدين لها أولئك اليونان وأولئك العبريون. وقد لج الأوروبيون في هذه الدعوة لجاجة بغيضة تكشف عن سوء نية، ويبدو عليها كأنها تتعسف في البحث عن أسباب التجني والإنكار فتخلقها خلقًا وتحيد عن الطريق السوي حيدًا، لكي تنتهي من ذلك إلى قدح في الطبيعة العربية، وتمجيد لطبيعة من طبائع الأمم سواها، حيثما تكون. فقد يترخصون أحيانًا في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالة هندية لأن الأوروبيين يدخلون في الجامعة الهندية الجرمانية، إذا دعت الضرورة. وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالة صفراء أو طورانية؛ لأنهم قد يعادونها اليوم، ولكنهم لم يرثوا من أجدادهم عداوة لها من عصبيات القرون الوسطى. وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى العبريين ولو كان المترخصون ممن يعادي اليهود في المنافسات الاقتصادية أو العملية، لأنهم لا يعدمون بينهم وبين هؤلاء اليهود صلة قديمة حين كانوا يومًا من الأيام شعب التوراة !. ص _194(1/186)
أما الأمة العربية فلا رخصة معها من هذه الرخص التي يصطنعها أعداؤها المتعصبون عليها، بل تختفي كلها ويحل محلها عداء الميراث التاريخي، وعداء الاستعمار، وعداء الجهل، وعداء الأنانية التي تغري الجماعات أحيانًا بالتحزب والأثرة، كما تغري الآحاد من الناس. فليس أيسر من تصديقهم لكل فرية تفتري عليها، وليس أسرع من إنكارهم لكل محمدة أو سابقة من سوابق الفضل تنسب إليها. هذه اللجاجة البغيضة هي التي نريد أن نقضي عليها ونقضي على آثارها في أذهان المتأثرين بها من صرعى المذاهب الأجنبية بيننا نحن الشرقيين، وهم- للأسف الشديد- غير قليلين. ولكننا لا نريد أن نقضي عليها ونضع في مكان الخطإ المنكر خطئًا آخر من قبيله . ولا نريد أن نمحو فضلاً لصاحب فضل، ولا أن نبخس حقًّا لصاحب حق، ولا أن نبطل احتكار المزايا الإنسانية على أناس لكي ننقل هذا الاحتكار إلى أناس آخرين. كل ما نريده أن ندفع شبهات القصور الأبدي المفترى على أمة عريقة حية، كان لها فضلها العميم على الإنسانية، ويرجى أن يكون لها فضل مثله أو يفوقه على أجيالها المقبلة، وهي في مقامها الأوسط بين القارات، وبين العقائد والثقافات. ولقد كان نصيب الأمة العربية من تلك الشبهات " نصيب الأسد " إن صح هذا التعبير، فأصابها منها أكبر نصيب تصاب به الأمم، منذ أيام الشعوبية إلى أيام الاستعمار والتبشير والآرية والشيوعية!. كان يقال عن العرب! إنهم بعثوا بالدين ولم يبعثوا بالدنيا. وكان يقال: إنهم لا يصلحون في دولتهم وغير دولتهم إلا محكومين. وقالوا: إن العرب لا يحسنون من أعمال المعاش غير ما تعودوه في البادية من رعي الإبل والماشية، ولولا ذلك لما غلبهم طراق بلادهم من الغرباء على أسباب المعيشة. وكل أولئك الدعاوى الكبار أضعف من أن يثبت على النظر المتأمل لحظات، فضلاً عن الثبات في مجرى التاريخ. فمن هم أصحاب الدولة الذين داموا في مستعمراتهم أطول من دوام العرب؟ أو تركوا بعدهم أثرًا(1/187)
أبقى على الزمن من آثارهم؟ أهم الرومان سادة الاستعمار القديم؟ أم هم البريطان سادة الاستعمار الحديث ؟ ص _195
إن الرومان خرجوا من كل وطن دخلوه، ولم يستطيعوا أن ينشروا ديانتهم في أمة حكموها، بل كانوا هم الذين انقادوا آخر الأمر لديانة المحكومين. أما الإنجليز فقد خرجوا من الولايات الأمريكية بعد أن سكنها منهم معظم المهاجرين إليها. ! وقد خرجوا من الهند بعد أن استقروا في كل بقعة من بقاعها أكثر من قرنين، ولم يمكث سادة الاستعمار القديم ولا سادة الاستعمار الحديث في مستعمراتهم كما مكث العرب في الأندلس. والإنجليز ما تركوا من آثار الحضارة والثقافة أثرًا يقارب الأثر الذي أبقاه العرب في الأندلس وفي القارة الأوروبية على الإجمال، ومنه أثرهم في عصر النهضة وعصر الإصلاح . وقصور الحمراء والزهراء وما يماثلها من القصور التي ما قامت في الشرق على نماذج الفن البيزنطي جواب ماثل للعيان لمن ينكر على الذوق العربي فنًّا جميلاً غير فن القصيد. فكل هذه القصور مميزة بذوقها العربي على القلاع القوطية والأواوين الفارسية والعمائر الرومانية أو اليونانية، منذ نشأتها الأولى إلى قيام الدعوة الإسلامية. وطابع الذوق العربي هو طابع النخلة العربية بقامتها الهيفاء، وفروعها التي تتلاقى في عقود المربعات كما تتلاقى الأركان والأعمدة في هندسة البناء، حيثما طبعته بطابعها على الرغم من قيام البنائين أو المهندسين عليها من أبناء الأمم الأخرى . وليس أبعد من البعد بين البحر والصحراء. ولكن العرب ركبوا البحر فقبضوا بأيديهم على زمام الملاحة بين الهند وفارس وسواحل إفريقية الشرقية. فسمي البحر كله باسم بحر العرب. وسمي الشاطئ الشرقي من سواحل إفريقية باسم السواحل؛ حيث يتكلم الإفريقيون الآن باللغة السواحلية كما يسميها الأوروبيون. والتجارة من أسباب المعيشة، فمن الذي بلغ بها ما بلغه العرب في الهند وإندونيسية وإفريقية الوسطى ؟. ص _196(1/188)
إنها بلغت على أيديهم أن تكون فتحًا في عالم الروح، ولم تكن فتحًا في عالم المال وكفى، إذ أصبح في تلك البقاع قرابة مائتين من الملايين من المسلمين لم يعرفوا دينهم من غير أولئك التجار الناجحين. هذه الوقائع تصحيح بين لدعوى العصبيات الجنسية يرشد العقل البشري إلى الصواب في مسألة من أخطر المسائل العالمية، ذات الأثر المتشعب إلى كل زاوية من زوايا العالم، وكل علاقة من علاقات بني الإنسان. نعم. دفاع عن العرب أو تبرئة لهم من أقاويل دعاة العصبية المستعمرين والشعوبيين والمرددين لأصداء الغابر المهجور. والرأي الجلي في هذه الدعاوى العصبية إذن أنها من قبيل " الإشاعات " التي تروجها المصالح إلى حين. ويؤسفنا أن نصارح بأن التعصب المسيحي الذميم من وراء هذا الإنكار المستغرب لدور العرب في بناء الحضارة الإنسانية، ونصيبهم الضخم في إعلاء شأنها. وقد ألف العلامة " غوستاف لوبون " كتابًا قيمًا عن حضارة العرب، نوه فيه بما أسدوه للغرب من أياد لا يسوغ جحدها قال فيه: ولقد قال " بارتلمي سان هيلير" - وهو من العلماء المتدينين- في كتابه في القرآن : تدمثت نفوس قساة الطباع من سادة القرون الوسطى، بملابستهم العرب وتمازجهم بهم، وعرف الفرسان بدون أن يفقدوا شيئًا من شجاعتهم شعورًا أرق وأشرف وأعرق في الإنسانية من شعورهم، ومن المشكوك فيه أن تكون النصرانية وحدها- على ما حملت من المنافع - هي التي ألقت في روعهم ما ألقت .. بعد هذا النظر، ربما تساءل القارئ : ولماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينية؟. وهذا السؤال قد سألته نفسي : وأرى أن لا جواب عليه غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أحرارًا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات، وهذا لأن فينا أحد رجلين : ص _197(1/189)
الرجل الحديث الذي صاغته دروس التهذيب، وعملت البيئة الأدبية والمعنوية في تنشئته. والرجل القديم المجبول على الفكر بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماض طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدًّا عظيمًا من الحرية في الظاهر فتحترم. " لا جرم أن أشياع "محمد" كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد "شارل مارتيل "، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على "الآستانة" يذلوننا بمدنيتهم السامية الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننج من تأثيراتهم. ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه عدة قرون، حتى أصبحت جزءًا من نظامنا. وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فينا، كالبغض الدوي المستتر أبدًا في أعماق قلوب النصارى لليهود. " وإذا أضفنا إلى أوهامنا المورثة في إنكار فضل المسلمين، هذا الوهم الموروث أيضًا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتيتا من اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله. ويرى بعض أرباب الأفكار أن من المذل على الدوام الذهاب إلى أن أوروبا النصرانية، مدينة لأعداء دينها بخروجها من ظلمة التوحش. وهناك أمر يحمل في مطاويه ذلاً كثيرًا في الظاهر لا يقبل تحمله إلا بشيء من العنت. وذلك أنه كان للمدنية الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام. وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية. وبتأثيرهم فتحوا لأوروبا عوالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت(1/190)
تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة . ص _198
وقال في حاشية هذا الفصل: إذا استحكمت الأوهام الموروثة وأوهام الثقافة في رجل، يعمى مع اتساع معارفه عن تفهم أسرار المسائل، ثم ينطوي بعد ذلك على بغضين : بغض الرجل القديم الذي أنشأه الماضي. وبغض الرجل الحديث الذي هو ابن الملاحظة الشخصية، ولا يلبث أن يأتي من التعبير بأفكار غريبة في تناقضها. ويجد القارئ مثالاً من المتناقضات في محاضرة في الإسلام ألقاها في جامعة السربون كاتب مبدع عالم، "عنيت السيد رينان " حاول أن يثبت عجز العرب، فنقض بيده كل مزاعمه!!! فقد ذكر مثلاً : أن ارتقاء العلم كان بفضل العرب خلال ستمائة سنة، وأبان أن التعصب في الإسلام لم يظهر كل الظهور إلا لما خلفت العرب عناصر منحطة كالبربر والترك، ثم جاء يؤكد أن الإسلام طالما اضطهد العلم والفلسفة، مدعيًا أنه قضى على العقل في الأقطار التي افتتحها!!. ولكن باحثًا ذكيًّا " كالسيد رينان " لا ينام على رأي مخالف لأصول التاريخ الظاهرة، فما أن تزول الأوهام فيه حينًا حتى يتجلى فيه العالم فيضطر إلى الاعتراف بفضل العرب في القرون الوسطى، وبما بلغته العلوم من الرقي في إسبانيا مدة استظلالها بظل سلطانهم. ومن الأسف أن الأوهام اللاشعورية تتغلب عليه حالاً فيدعي على وجه أكيد أن علماء العرب ليسوا عربًا بأصولهم، بل هم أخلاط من أهل سمرقند وقرطبة وإشبيلية الخ. وبديهي أنه لا يتيسر النزاع في أصل الأعمال التي خرجت بفضل طرائق العرب، ولعمري هل من الميسور إنكار أعمال العلماء الفرنسيين، بحجة أن من تمت على أيديهم كانوا من عناصر مختلفة كالنورميين والسلتيين والإكتين وغيرهم ممن كونوا فرنسا بتمازجهم؟. وقد يكتئب هذا المؤلف العالم أحيانًا من الأسلوب الذي جرى عليه في إساءته للعرب، وينتهي الصراع بين الإنسان القديم والإنسان الحديث في نفسه إلى هذه النتيجة التي لم تكن متوقعة منه، فيتأسف لكونه لم(1/191)
يخلق مسلمًا قائلاً: ص _199
" وما دخلت مسجدًا قط إلا عراني خشوع يمازجه أسف، على أني لم أكن مسلمًا"10 هـ أسباب انهيار الحضارة العربية: عندما كانت أوروبا ترمي أسمالها القديمة، وترتدي ألونًا زاهية من البحث والمعرفة؛ كانت الحضارة العربية ترتعش إعياء وتضطرب خطواتها هنا وهناك دون وعي ودون هدف. والكتابة في العلل التي أصابت الأمة الإسلامية، وأذوت حضارتها وجعلتها تنسحب من ميدان الحياة تاركة العمل فيه لحضارات أقوى- لا تغني فيها صحائف موجزة، إنها تفتقر إلى أسفار مبسوطة الأطراف. وأظن أن نهضتنا الحاضرة لن توقى العوج وتحمي المزالق إلا إذا استبانت مصاير الذين سبقوها، وأسرار الانكسارات التي أصابتها. ونحن في هذه السطور نومئ إلى بعض عللنا التاريخية متوخين القصد تاركين الشواهد والتفاصيل لمقام آخر. ا- أسباب عقلية: (1) فساد الثقافة الذاتية للمسلمين. الزاد التقليدي من المعرفة، الذي تنمو به الأمم، كما تنمو الأجسام، عراه ما يشبه التسمم، فأصبح تناوله يهزل ولا يسمن، ويضر ولا ينفع. كان المسلمون أول أمرهم يفهمون دينهم بسهولة وسرعة، ثم يعملون به عملاً وافيًا دقيقًا. وعلى مر القرون تحولت العلوم الدينية إلى صناعات عقلية كثيرة التقاسيم والتفاريع والاصطلاحات. ثم بدأت تفقد طابعها الأول رويدًا رويدًا حتى صارت الآن شيئًا معقدًا ممجوجًا تغيب روح الإسلام عنه، ويختلط فيه الدقيق والجليل. أما العمل بهذا كله؛ فقد أصبح فاترًا واهيًا، أو موصولاً بالقشور دون اللباب. وأغلب الكتب الدينية الآن يصرف القراء عن الفهم والاستيعاب، ولا يقدم لهم الإسلام خلاصة واضحة مغرية . ص _200(1/192)
ولابد من إعادة النظر في علوم الإسلام، وكتابتها من جديد أقرب إلى أسلوب القرآن والسنة وأبعد عن طبائع القرون التي مضت. (ب) انتشار الخرافات والبدع والتخامين في أرجاء الحياة الإسلامية. وغريب أن الأمة التي نوه كتابها بالحق في مئات المواضع، عزت مصادر الحق في جنباتها، وأمسى الأفراد والجماعات يعيشون فيها وهم يعتنقون أفكارًا ويتبعون مذاهب لا أصل لها من دين ولا سناد لها من عقل. ومعروف أن في الأديان ناحية غيبية يستكين فيها المؤمنون لربهم ولما جاء من عقده. وليس أخطر على الأديان وأتباعها من توسيع هذه الدائرة. إن هذا الاتساع قد ينشأ بادئ ذي بدء من غلو المتعبدين، ولكن امتداده لا يتم إلا على حساب النشاط الإنساني المحترم؛ إذ تشيع في ظله الشعوذة والأراجيف والأهواء على أنها طقوس دينية، وهي مساخر ودجل. ومن المؤسف أن الأمة الإسلامية كانت أوائل هذا القرن في ليل دامس من البدع والخرافات التي ظنوا أنهم يعبدون بها الله، وما يعبدون إلا الشيطان. ولما كان الإسلام دينًا شاملاً لأنواع السلوك الفردي والجماعي؛ فإن دائرة الابتداع فيه مروعة، وكان أصعب شيء على المصلحين رد هؤلاء المسلمين إلى دينهم الصحيح.. (جـ) ضعف إقبال المسلمين على شئون الحياة وعلومها ضعفًا شنيعًا، وسدوا المنافذ التي يطلون منها على آفاق الدنيا. وزعموا التفوق في الزراعات والتجارات والصناعات وسائر المهن والفنون نافلة لا يحرص عليها، أو زعموا ذلك من فضول الدنيا التي لا ينبغي للأتقياء الاستكثار منها. وكان هذا الجهل بالدنيا مضارعًا للجهل في حقائق الإيمان . وبديهي أن يفضي بهم ذلك إلى المتالف، وأن يفقدهم معاشهم ومعادهم معًا. (د) شيوع التقليد وبلادة الذهن والجمود على الموروثات مهما كانت قيمتها. وهذه سيرة منكرة لأتباع دين يغالي بقيمة العقل الحر، ويبني الإيمان على أساس اجتهاد الفكر واتجاه الإرادة . ص _201(1/193)
إن فريقًا من علماء المسلمين يرون إيمان المقلد لا وزن له، ويقولون إذا كان من عدل الله ألا يعاقب من لم يرتكب وزرًا؛ فمن عدله كذلك ألا يثيب من لم يصنع شيئًا!! يقصدون أن المقلد لم يكسب بجهده الفكري أو النفسي ما يستحق عليه أجرًا.. ودين يرتفع بقيمة العقل إلى هذه القمة كيف يقبل الموتان الأدبي الذي ألفته جماعة المسلمين في عصور الاضمحلال، ومازال ينحدر بها من هاوية إلى أخرى حتى صحت وهي تحت أقدام الغزاة المستعمرين؟. والاستهانة بقدر العقل بلاء عم مصابه، حتى إنك لتجد المسلمين في بعض الأقطار أهلاً لأن يقال لهم ما قيل في الجاهلية الأولى: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " 2- أسباب نفسية: (1) الغرور الديني، وهو داء عرفه اليهود والنصارى قبلنا، يوم ادعوا أن لهم صلة خاصة تجعله يحابيهم مهما اقترفوا: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق " . وهذا السفه انتقل إلى المسلمين، وزين لهم أن مجرد انتمائهم إلى الإسلام، وانتسابهم إلى التوحيد ينزلهم عند الله مكانة لا تدانى، ويغتفر لهم كل ما يسلفون من خطيئة وتفريط. واعتبار الدين عقيدة لا ترتبط بعمل أو لا تدفع إليه، والاستهانة بمكانة العمل الصالح بعد ذلك سقوط لا ينجى من غوائله شيء. وقد وجد في المسلمين قديمًا من يرى العمل نافلة، أو يرجئه عن الإيمان، ولكن هذا المذهب حورب من خاصة المسلمين وعامتهم حتى انقرض. بيد أن للأسف عاد للحياة مرة أخرى بين جماهير من العامة والخاصة !! ويستحيل أن تحيا أمة أو تبقى حضارة بهذا التصوير السخيف للإيمان . ص _202(1/194)
الاكتفأء في أحوال كثيرة بصور العبادات، والتعويل عليها في تقويم الأفراد، ورسم الدرجات . وهذا خطأ ؛ فليس كل من يرتدي لباسًا براقًا يكون نظيف البدن. والإسلام يعتمد قبل كل شيء على سلامة القلب وصحة الضمير. وكل طاعة تصدر عن قلب مغشوش فهي حابطة للأجر وإن راجت بين الناس في الدنيا. ونحن نلفت الأنظار إلى خطورة التدين الفاسد، تدين الظواهر التي تخالف السرائر، إما عن قصور في تزكيتها أو هو الاكتفاء بالتشرد الخادع عن اللب العليل. والأمم التي تقوم على الدين ينبغي أن تحذر هذا الاضطراب؛ فإن الشهوات النفسية الذميمة هي هي سواء أخذت صورة معصية فاجرة، أم توارت وراء ركوع وسجود لا يصلان الفؤاد بالله. وقد وجدت- في تجاربي- أناسًا من العامة والخاصة، أعني ممن يحسنون القراءة الدينية وممن لا يحسنونها، يدورون حول أغراضهم الذاتية بوسائل شتى، بعضها عبادات وبعضها عادات، فحركات الصلاة في منطقهم لا تزيد عن خطوات المريب إلى حيثما يشتهي ، وذاك سر نعي القرآن على أمثالهم : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " . والحضارات الدينية يطعن عليها دائمًا بمسالك هؤلاء الذين يسبحون الله بألسنتهم ولا يعرفونه في أعمالهم وأحوالهم. (جـ) انفراط عقد الجماعة وانسياق كل امرئ في سلوكه الخاص دون تقيد برسالة تخدم، أو جماعة تلزم، حتى ليخيل للإنسان أن هذا الإسلام أصبح دينًا لا أصحاب له، ولا أوصياء عليه. فإذا كان ينطلق بنفسه فلينطلق، وإلا فكل مسلم معني بشأنه وحسب. وهذه حالة لا تستمسك بها حضارة، ولا تستوثق بها مدنية، خصوصًا حضارة دين عام يجب أن تتساند القوى والمواهب والملكات لخدمته، وإنجاح دعوته، وإعلاء رايته. إن العامل الأول في قيام الحضارات وبقائها، وحدة الغاية والجماعة، فإن الحضارات ليست صناعة فرد، ولا جهد قوم مبعثرين . ص _203(1/195)
(د) أفتك العلل التي أودت بالمسلمين وحضارتهم شيوع فلسفة الجبر بين الجماهير، ورواج كسلها واستسلامها وعجزها في أنفسهم وصفوفهم بعنوان " القدر " . والإيمان بالقدر واجب، ولكن ما هو القدر؟ أهو الزعم بأن الإنسان ريشة في مهب الرياح لا قدرة له ولا إرادة ؟ " وأن ما يلقاه في الحياة لا دخل له فيه، ولا كسب ولا اكتساب، وإنما هو مكتوب لا مهرب منه ولا حيلة فيه! هكذا فهم المسلمون القدر فانحطت هممهم وماتت أنفسهم، وشلهم العجز والقعود، على حين ساح غيرهم في البر والبحر كأنهم جن لا يقدر عليهم أحد. والقدر بهذا التفسير أكذوبة، وصد الناس عن الإيمان به دين. ولن تصح الأذهان، ولا القلوب، ولا تستقيم للناس معيشتهم ولا آخرتهم مادام هذا الاعتقاد الجهول ساريًا في أوهامهم. وقد ساعد التصوف على نشر خرافة الجبر أو القدر بهذه الدلالة العمياء. كما ساعد على ذلك الجهلة من القصاص والمدرسين. ومع أن المسلمين اضطرتهم الليالي القاسية إلى أن يصححوا أفهامهم فإن خطر الانتكاس في هذه المأساة قائم، ما بقيت كتب الثقافة الدينية تعج بضروب من اللغو الذي يجر إلى القعود والإعياء. 3- أسباب اجتماعية: تدهور وضع المرأة خلال القرون الأخيرة تدهورًا تنكره تعاليم الإسلام. وانتهى أمرها إلى أن أصبحت كائنًا محصور النشاط في نطاق المتعة الحيوانية والحضانة الغريزية. وحرمت من فنون العلم وأسقطت عنها - تقريبًا- أنواع العبادات من صلاة وحج وزكاة وجهاد أدبي أو مادي، إلى عبادة واحدة هي خدمة بيتها ورجلها. وهي عبادة تؤديها الأداء الذي يستطيعه مخلوق جاهل ضرير. ومن تكرار القول أن نؤكد بعد هذه الحالة عن الإسلام، ومنافاتها لوظيفة المرأة كما تفهم من كتاب الله ومن سنة رسوله . ص _204(1/196)
ونحن نرى الغيرة المتطرفة عند بعض الناس سر هذا العوج، وهي غيرة ظهرت أعراضها على بعض الناس ولم يكترث لها الشارع. ففي آيات الملاعنة تحدث عبادة بن الصامت أنه يقتل من يراه في بيته يبغي السوء، والله ورسوله أغير على العباد منه، ومثل هذه النزعة الباطشة لم تغير الحكم الباقي أبد الدهر، وهو الملاعنة عند وجود مقتضيها، بالأسلوب الذي أثبته القرآن. وقد كره ابن " لعبد الله بن عمر " أن يخرج النساء إلى المسجد، لكن "عبد الله " شتم ابنه لهذه الكراهية، وقرر الحكم الشرعي دون اكتراث لعواطف ابنه الكاره. بيد أن الغيرة المجنونة مضت بأصحابها تراغم تعاليم الإسلام حتى نسب لرسول الله- كذبًا- أنه قال: "لا ترى المرأة رجلاً ولا يراها رجل "! وسنت بعد ذلك قانون الحجاب الذي قضى على المرأة أن تنكمش وتتلاشى وتقضي حياتها، وهي شيء أشبه بسقط المتاع. وقد حدث رد فعل محزن لهذه المشكلة ونشأت نهضات نسائية أغلبها رجس من عمل الشيطان. ولا تزال الحاجة ماسة إلى حركة نسائية مؤمنة عاقلة. والغريب أني قرأت- وأنا أكتب هذه السطور- نبأ استقدام وزارة الصحة لفوج آخر من الراهبات الأجنبيات للقيام على رعاية مستشفياتنا الفقيرة إلى العطف والحنان! وقد أخبرني من أثق في دينهم أن هؤلاء الراهبات يؤدين أعمالهن بمهارة وأدب عاليين. أين من هؤلاء خليعات الحركات النسائية؟ وأين من هؤلاء قعيدات البيوت للثرثرة والنوم؟ (ب) ومن المفاسد التي شاعت في أمتنا التطاول بالأنساب، وتمزيق عرا الأخوة الجامعة بمزاعم مستغربة تجعل هذا سليل دوحات شرف، وذاك سليل نكرات تافهين. وتبع هذا تنابز بالألقاب. واحتقار لجملة من الأعمال والحرف، وتقاليد تصم قومًا بالحسب الزاكي، وآخرين بالمعدن الخسيس . ص _205(1/197)
ولا يزال ناس من البدو في بلادنا يستعلون على الفلاحين، ويرفضون الإصهار إليهم، وربما قتلوا بنتهم إذا رضيت بالزواج من قروي كادح. والتفاوت بين البشر حقيقة لا ريب فيها. لكن هذا التفاوت لا يورث في سلاسل من الأعقاب لا نهاية لها، حتى يقال بيت فلان وبيت فلان. فرب مغموص الشأن ولد الملوك. ورب مملك على مفرقه التاج رزق من الخلال ما يجعل السوقة أكرم منه وأرقى. وكان خيرًا لأمتنا أن تحذف أشجار النسب التي يحتفظ بها البعض، وأن تحترم مقياسًا واحدًا للأصالة والوضاعة هو المقياس الذي أثبته القرآن ولم يثبت غيره. (ب) لم يعرف المجتمع الإسلامي الرهبانية، ولم يقم على الكبت الجنسي ولا الحرمان المادي. وليس ذلك لأنه- من الناحية الجنسية مثلاً- أباح الاختلاط الفاجر المأنوس في الغرب، كلا، فالمجتمع الإسلامي- من ناحية مثله العليا لا يعرف هذا الاختلاط اللعين، ولا يقر ما ينتهي إليه من انحلال عام. ومن الناحية العملية آثر أغلب المسلمين التطرف في حجب كلا الجنسين عن الآخر، وجاروا على تعاليم الإسلام وحقوق المرأة. إلا أنهم مع ذلك كانوا عمليين في فهم الطبيعة الجنسية فجعلوا الزواج المبكر حلاً سريعًا لمشكلتها ويسروا التعدد الذي بلغ بهذه الغريزة حد الإشباع. وذلك عكس الحاضر الإسلامي الذي لم ييسر الحلال كما فعل الأولون ولم يقبل الحرام بطبيعة مواريثه الروحية فنشأت الأجيال الجديدة نشأة معقدة كئيبة. وكما فعل المسلمون الأوائل في إجابة الغريزة الجنسية مشوا مع منطق الإسلام في استباحة الطيبات، فعرفوا ألوان الطعام ورصعوا موائدهم بالكثير منه. والمأخوذ على الأمة الإسلامية في هذا الجانب المادي أنها لم تلزم الاعتدال الذي وقفها الشارع عنده، بل تجاوزته إلى السرف والترف، مما أثر في وفائها لرسالتها الكبيرة . ص _206(1/198)
(د) وبديهي أن يعرف المجتمع الإسلامي الغني والفقير، وأن يعاني في تاريخه الطويل هزات أسيفة مرجعها الخلل الاقتصادي. خصوصًا إذا شاع الترف في طبقات أسعفتها الحظوظ، إن ذلك مستتبع حتمًا الشظف في طبقات أخرى. ولولا أن العقيدة الإسلامية تقيم كيانها على المواساة والبذل، وتكلف المؤمن مع إيمانه بالله أن يعين الفقير لكان المجتمع الإسلامي قد تحول إلى الشيوعية من قديم. إن طبيعة الدين الذي ساد هذه البلاد جعلت الأفراد الواجدين، ومستوري الحال، يرون لزامًا عليهم مساعدة غيرهم، كما أن أولي الثروة والجاه كانوا يرون من تمام وجاهتهم بذل الفضول لقصادهم، ومن ثم نجت البلاد الإسلامية من نزق الثورات المتطرفة، ومن الإلحاد المسلح الذي عرفته أوروبا وغيرها. إلا أن المأخوذ على الحضارة الإسلامية أنها لم تحكم نظام الزكاة إلى اليوم ولم تتبع ثغرات الجماعة بالاستقراء الشامل لتسدها، سواء إتاحة العمل للقادرين أم بإتاحة الأعطية للقاعدين. (هـ) وعرف المسلمون التجمعات الفكرية والعبادية والجهادية، وإن كانت لم تأخذ شكل الأحزاب السياسية المعهودة اليوم في البلاد الديمقراطية. وفي مطلع القرن الرابع عشر للهجرة كانت جماهير المسلمين منتظمة تقريبًا في الطرق الصوفية، وهي طرق أضرت كثيرًا ونفعت قليلاً . ومن المهم أن تتاح للأعم فرص التجمع الحر، على أن يكون هذا التجمع محكومًا بمنطق العقل والمصلحة، وعلى أن يبتعد عن دواعي التعصب والتعسف، وعلى أن يدخل في إطار الوحدة الدقيقة للأمة. والمؤسف أن الأمة الإسلامية تحولت فيها هذه التجمعات إلى كتل متنافرة متناكرة، وأنها لم تستهدف المصلحة العليا بل غلبت عليها النزعات الخاصة. وقد شاهدنا- ونحن غلمان- المساجد الكبرى تقام فيها عدة جماعات للصلاة الواحدة في الوقت الواحد تبعًا لاختلاف الفقه المذهبي !! وهذا منكر قبيح. ومن المآخذ علينا: إقرار هذه الفرقة . ص _207(1/199)
4- أسباب سياسية: إذا كان انهيار الحضارة العربية يرجع إلى ما ذكرنا من أدواء فكرية وخلقية واجتماعية؛ فإن هذه كلها تعد عوامل محدودة الشر بالنسبة إلى الفساد السياسي الذي صدع بناء هذه الحضارة كما يصدع الزلزال دعائم القصر الأشم. كان هذا الفساد أسرع شيء إلى حضارتنا، بل كان الكهف الذي آوى جراثيم المفاسد الأخرى، وتركها تنهش باطنها وظاهرها، وتصارع أسباب الصحة والنماء لتعجل بحتف هذه الحضارة العظيمة. وبدأ هذا بجذع الحكم، وأصله الأول، أعني: الخلافة، فالمفروض عقلاً ونقلاً أن يختار المسلمون خليفتهم من بين أعظم الكفايات فيهم، إلا أن سطوة العصبيات وغلبة الشهوات هدمتا هذه القاعدة فإذا الخلافة ميراث شخص يتركه والد لولده. و لو أن الخلافة نوع من السلطات يشبه الملك الزمني لأمكن مع الترخيص والإغماض أن يفهم هذا الوضع، وأن يحاط بالضمانات التي تسدده. لكن الخلافة نيابة عن رسول الله في مصالح الدين والدنيا، أي أنها زعامة روحية وعقلية ومدنية وعسكرية، فكيف يمرق مخلوق من بطن أمه ليتلقفها وهو يبول في مهده، وكيف تكون الخلافة حكرًا في بيت من البيوت يموت ربه فينالها من بعد ابنه؟؟ إن الذين يركبون أي سيارة في مدينة القاهرة ما يطمئنون إلى الجلوس فيها والانطلاق بها إلا إذا كانوا على ثقة من أن السائق يحسن القيادة. فإذا كنا لا نعطي رخصة القيادة إلا رجلاً مدربًا كي نأمنه على مصير عدد من الناس قليل، فبأي منطق يملك رجل من الناس قياد أمة هائلة، لا لشيء إلا لأنه ابن فلان! وما فلان هذا الآخر؟ إنه مثل الأول، شخص لو اشتغل بمواهبه قد يصلح حمالاً أو ممثلاً، أو بقالاً أو إسكافيًّا، لكنه لا يصلح لشيء من مهام الحكم. ولو صلح بمحض الصدفة، فليس يصلح للخلافة عن رسول الله. لكن هذا الهزل هو الذي ساد بلاد الإسلام دهرًا، بعد أن طويت أعلام الخلافة الراشدة، وقضى عليها معاوية بن أبي سفيان . ص _208(1/200)
إن توريث إمارة المؤمنين الذي ابتدعه معاوية مقلدًا لمجوسية الفارسية، والصليبية الرومانية كانت بداية الشرر الذي تحول على مر الليالي حريقًا مستعرة دمرت الأخضر واليابس في الحضارة الإسلامية المظلومة. والخلل السياسي الذي ولد على جسم الأمة " رأسًا " من هذا الطراز سرت عدواه إلى الشبكة الإدارية التي تعاونه في العمل. فأهمل ميزان الكفاية، وأمسى اختيار الأعوان منظورًا فيه إلى مرشحات كثيرة. وربما كانت المهارة والمقدرة آخر المسوغات التي تقدم أصحابها لما يستحقون .. بدأت الأطماع الشاذة تضطرم في هذا الجو. وظاهر من ملاحظة تاريخنا السياسي أن الفساد استشرى بعد مدة من ميلاد هذا النظام الوراثي. وذلك أن الجبابرة الذين قضوا على سنة البيعة في اختيار أمير المؤمنين، سوغوا بقاءهم في نظر العامة والخاصة باحتضان المثل العليا للجماعة والحماس في خدمتها، فسيروا ألوية الجهاد شرقًا وغربًا، وتظاهروا بكل ما يعطي بقاءهم صفة مشروع. إلا أن هذه السيرة موقوتة معلولة، وسرعان ما تنتهي بعد استقرار الأمور للبيت الحاكم بأمره، وعندئذ تنكشف السرائر على ما بها من دخل، فلا يعني هؤلاء الحاكمون إلا بامتيازاتهم الخاصة. ولا يكون الحكم إلا استدرارًا للمنافع وافتياتًا على الجماهير، واضطهادًا للأمة والعلماء. انظر أحد طلاب الحكم يقول: إذا لم تكن لي في الولاية بسطة يطول بها باعي وتسطو بها يدي فلا كان لي حكم مطاع أجيزه فأرغم أعدائي وأكبت حسدي ـ عجبًا، أهذه وظيفة الحاكم؟ أم هي جنون السيطرة ؟ أهذه مصالح الرعية، أم هي رغبة الانتفاخ والانتفاش؟ ثم انظر كم ترى البون بعيدًا بين هذا السعار في طلب الإمارة وبين تجنيب عمر ولده ولاية الأمر من بعده مشفقًا أن يكون في آل الخطاب أكثر من واحد يسأل عن شئون المسلمين؟. ص _209(1/201)
كانت الخلافة الراشدة - شأن أي حكم تتمثل فيه إرادة الأمة- ترحب بالنقد والنصح، لكن النظام الملكي يرد الأيدي في الأفواه إن حاولت النطق بكلمة. وقد قتل عثمان وهو يرفض إصدار أمر بمقاتلة الجماهير التي حاصرت قصره على حين يرى أولئك الحاكمون قتل الألوف في سبيل التمكين لأنفسهم. ولن يخطئك منظر الدماء التي صبغت صحائف شتى أيام العرب والترك على سواء. وقد ضاق الفقهاء والأدباء بهذا الانحراف السياسي والإداري، وكادت الوحشة بين علماء الدين ورجال الحكم تكون طابعًا عامًّا لهذا التاريخ. وكأن أبا العلاء المعري كان يصور رأي الأئمة من رجال الفقه والتربية حين قال: مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها ويقول أبو الطيب : وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندهم ولا حسب ولا عهود لهم ولا ذمم بكل أرض وطئنها أمم ترعى بعبد كأنها غنم يستخشن الخز حين يلمسه وكان يبري بظفره القلم ـ وليست المشكلة، كما يصورها المتنبي، مشكلة عرب وعجم، فهذا منه شرود عن الجادة، والمتنبي ترك سيف الدولة العربي إلى كافور العجمي قائلاً : قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا ـ ويقول في مدحه : أبا كل طيب لا أبا المسك وحده .. وإنما المشكلة، فساد الطريقة التي يصل بها الناس إلى المناصب الكبيرة، وفقدان الضوابط التي تحرر المصلحة العامة من العبث، وفقدان الموازين التي ترجح بها الكفايات وتطرح بها النفايات . ص _210(1/202)
وإذا كانت رياسة الولايات، بعد رياسة الأمة جمعاء تتبع نوازع الهوى، فإن سائر الوظائف لن تعدو هذه السياسة الطائشة. والأمم تحيا وتموت وفق أحوال الدولة التي تقوم على شئونها: تهدى الأمور بأهل الرأي ما صل حت فإن تولوا فبالأشرار تنقاد إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم فازدادوا ـ فما يكون المصير إذا تولى أمور الناس ضعاف الرأي والخلق، وإذا أضحت الوظائف نجعة الطامعين وهدايا للمقربين. جاء في كتاب الفخري : " إن وزارة الخاقاني بلغت من الفساد مبلغًا كبيرًا، وولى الوزير في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة فانحدروا واحدًا واحدًا حتى اجتمعوا جميعهم في بعض الطريق فقالوا: كيف نصنع؟ فقال أحدهم: إن أردتم النصفة فينبغي أن ينحدر إلى الكوفة آخرنا عهدًا بالوزير، فهو الذي ولي ولاية صحيحة لأنه لم يأت بعده أحد، فاتفقوا على ذلك. فتوجه الرجل الذي جاء أخيرًا نحو الكوفة وعاد الباقون إلى الوزير ففرقهم في عدة أعمال، وهجاه الشعراء، فمما قيل فيه : للدواوين مذ وليت عويل ولمال الخراج سقم طويل يتلقى الخطوب حين ألمت منك رأي غث وعقل ضئيل إن سمنتم من الخيانة والجو ر فللارتفاع جسم نحيل نحن إذ نقارن ما وقع من المسلمين بما يجب عليهم لابد أن نفرق بين المجتمع والدولة، ذلك أن المجتمع الإسلامي حرص على إنفاذ تعاليم الإسلام جهده. فكان الناس فرادى وجماعات يتحرون مرضاة ربهم، ويقاربون من الغاية إن لم يبلغوها. وكانت الفجوة عميقة بين الأئمة المتبوعين والعلماء الراسخين وأهل الصلاح من ناحية، والسلاطين والولاة وأجنادهم من ناحية أخرى . إلا أن جماهير العلماء منذ " صفين " كانت تكره الإفتاء الذي ييسر الخروج على ص _211(1/203)
الحكام ومقاتلتهم ويرون العزلة أجدى حتى تتغير الأحوال من تلقاء نفسها دون ثورات قد تكون عقباها نكبة على الإسلام حكومة وشعبًا .. وربما أعان على تسويغ هذا الموقف ما ذكرناه آنفًا، من أن خلفاء أمية والعباس في مفتتح تملكهم كانت غيرتهم بادية على استئناف النشاط الإسلامي في شتى الميادين .. غير أن هذه الغيرة المفتعلة لم تكن إلا سنادًا للحكم الفردي حتى يستقر، فإذا تطامنت له البلاد والعباد، سار وفق هواه، ونسي ما خيل به على الناس أول قيامه. ومن ثم ضعفت الروح الدينية بين رجال الدولة، ونبت مسالكهم عن أحكام الشريعة في أحيان كثيرة. والأنكى من ذلك هو أن أرباب الكفايات وأولي العزم من الرجال الذين عصب النصر جبينهم في وقعات هائلة، أعلوا فيها قدر الإسلام، وغرسوا أعواد التوحيد في أرجاء الصين شرقًا، والأندلس غربًا، إن هؤلاء كانوا يستحقون كل تكريم. ومع ذلك فإن القائد الشاب القاسم بن محمد، والقائد الفحل موسى بن نصير، وغيرهما غمطت جهودهم ولقوا على جهادهم المبرور جزاء سنمار . وتلك طبيعة النظم الاستبدادية والسير الملوكية .. وقد تعجب إذ ترى مثلاً هارون الرشيد يبعث بهداياه إلى " شارلمان " ملك الفرنجة، أفتظنه يفكر في إنشاء صلة مودة بينه وبين الحكم الإسلامي في الأندلس؟ . لا.. إن العداوة بين البيت الأموي والبيت العباسي قائمة. وعلى الإسلام وأهله أن يحملوا أوزار الخصومة بين بيتين من البيوت التي سودتها الحظوظ !. وكذلك فعل السلطان سليمان القانوني الذي عقد معاهدات ود متبادل بين الخلافة العثمانية وبين ملوك فرنسا وإيطاليا. هل فكر الخليفة التركي في إنجاد إخوانه المسلمين بالأندلس، وكانوا يومئذ يعانون حصب إجلاء وإبادة من نصارى الغرب. كلا.. إن الأمر لا يعنيه كثيرًا ! . ص _212(1/204)
إن الأسرة التي تتوارث الحكم تهمها أمجادها الخاصة، فهي تحارب لضم بلاد إسلامية تحت لوائها، وربما رحبت بتلاشي أسرة أخرى تحكم شعبًا إسلاميًّا لا يخضع لها هي.. وهكذا سقطت دولة الإسلام في الأندلس!. وهناك فصلان متميزان يمكن أن نفرد كلا منهما بنظرة خاصة: الفصل الأول، حالة المسلمين قبل الحرب الصليبية الأولى في العصور الوسطى. والفصل الثاني، حالة المسلمين قبل الحرب الصليبية الثانية في العصر الحديث، أعني الغزو الاستعماري الأخير.. المسلمون في الفصل الأول كانوا من الناحية الشعبية أدنى إلى الإسلام، وأحرص على تعاليمه. أما من الناحية الحكومية، فإن النزاع - بين الولاة المتغلبين، والخلفاء الطامعين- كان مستفحلاً بالغ السوء. ولو وجدت حكومة شرعية صالحة؛ ما وجدت هذه الحروب الصليبية البعيدة الأمد، التي ظلت مشتعلة الأوار طيلة قرنين من الزمان. حكومة يقظة واحدة في أول الزحف الصليبي كانت تستطيع الإجهاز على الغزاة، وإطعام الطير جثثهم!. إن هذه الحروب التي استغرقت مائتي سنة لم تكن تستغرق، لا أقول مائتي شهر، بل مائتي يوم؛ لو أن الحكومة المركزية للأمة الإسلامية كانت تمثل أميرًا للمؤمنين يرعى الإسلام وأهله، وتحف به الجماهير عن إخلاص وإعزاز. إذن للقن الصليبيين درسًا يروونه لأبنائهم، لو عادت منهم بقية. لكن الأمراء المتنازعين على السلطة تواكلوا واسترخوا، وتربص بعضهم ببعض. فكانت النتيجة أن تثبت الغزاة بالأرض التي سقطت في أيديهم، وتطاولت آماد القتال، بين الأمة التي صحت على العدوان وبين المعتدين الذين أغراهم الظفر. وانسابت جحافل أوروبا من كل صوب وحدب، وهي تأمل في القضاء على الإسلام واجتثاث جذوره. ومرت السنوات بطيئة ثقيلة، وذهب أجداد، وجاء أحفاد . ص _213(1/205)
وهذه البقاع من أرض العروبة تشهد حربًا إثر حرب. حتى انتهت المعارك آخر الأمر باندحار الأوروبيين وتسليمهم جميع البلاد التي اغتصبوها، وعودتهم من حيث أتوا خائبين خاسئين.. وجمهرة المؤرخين متفقون على أن المجتمعات العربية كانت أعلى مستوى، وأزكى خلائق، وأنضر معرفة، وأجدر بالحياة من الهاجمين الذين قصدوهم .. ولولا أن الكيان العربي صلب العود، وأن الفساد السياسي كان يمثل قشرة معطوبة فيه، أو ثمرة فجة منه ما استطاع الصمود لهذا البلاء الماحق الذي نزل به بغتة. لقد كان كالجسم الفتي حلت به علة فادحة؛ فإذا هو يلقاها بكل ما ادخر من لحم وعظم، ويقاومها بما انساب في أوصاله من مناعة وجلادة حتى نجا من الكارثة وما كاد- بعد ابتلاء وتمحيص شديدين. أما الفصل الثاني من هذا الصراع المر، أعني مقدمات الهجوم الصليبي الحديث فيبدأ من تسلم الأتراك مقاليد الحكم في الأمة الإسلامية. لقد اضمحل السلطان العربي، وأخذ يتراجع رويدًا رويدًا، وحل الترك مكان العرب في الإمساك بزمام القيادة. والترك جنس شجاع قوي الشكيمة، وكان يتحلى بصفات حسنة يوم وثب إلى الصدارة في تاريخنا. وقد جدد قوى الإسلام بما فطر عليه يومئذ من بداوة، وإخلاص، وتضحية، وبعده عن الترف المادي والعقلي الذي انغمس العرب فيه حينًا من الدهر. لكن العبقرية العسكرية للترك لم تصحبها للأسف عبقرية علمية ولا إدارية. ولست أرغب في النيل من أمة لها محامدها المذكورة، ولها كذلك معايبها. ولعمري إن العرب في ذلك كالترك، لهم خصائصهم العالية، ولهم أيضًا ما يلامون عليه، هذه العصبيات الطائشة التي لا تقطع لهم تهارشًا ولا تشاجرًا، ألم تكن سر ما أصابهم وأصاب الإسلام معهم؟. ولنعد إلى فترة السيادة التركية لنعرف منها أحوال المجتمع العربي والإسلامي. إن الأتراك نجحوا في كسب معارك عسكرية عظيمة في البر والبحر جعلت المسلمين أكبر قوة في العالم، وجعلت البحار الثلاثة: الأسود والأبيض والأحمر(1/206)
بحيرات إسلامية خالصة . ص _214
لكن هذا النجاح مؤقت، ولعل مكاسبه كانت من مدخرات الإسلام الأدبية في قرونه الأولى : ولم تؤت هذه الانتصارات ثمارًا ذات بال، ذلك لأنها لم تقترن بقدرة علمية، ولا مهارة إدارية، ولا بصيرة سياسية. ولم تكن الدولة تدرك حق الإدراك وظيفتها في خدمة الدعوة الإسلامية، ولم ينهض في كنفها من الأئمة والعلماء والمربين والدعاة ما يكمل هذا النقص، وكان هؤلاء وفرة أيام السيادة العربية - ومن ثم تحولت فتوح الدولة إلى عبء عليها بدل أن تكون مددًا لها. ولو أن هذه الفتوح جلبت خيرًا يذكر، وما كان هذا الخير يساوي شيئًا إلى جانب خسارة الأمة الإسلامية نفسها. أجل، إن الدولة التركية- بقصورها الأدبي- خسرت رأسمالها من المسلمين أنفسهم، في بلادهم الطويلة العريضة، فإن هؤلاء المسلمين أخذوا ينحدرون قليلاً قليلاً في مجال العلم والعمران. فإذا العواصم التي طالما دوت بالدروس والمناظرات يخفت صوتها، وتقفر عرصاتها، وتغلق مكاتبها. وإذا المدائن والقرى التي كانت أسواقًا للخيرات، ومجالاً للفنون والصناعات تذوي وتضمر وتعتل. وتتابع هذا الانهيار دون أن يجد مصلحًا ينذر بسوء العقبى. وقل عدد السكان في أودية الحضارات العريقة مثل النيل والفرات حتى بلغ سكان مصر قرابة مليونين ونصف، وسكان العراق أقل من ذلك كثيرًا، مع أن هذه الأقطار أيام العرب كانت خاصة بأضعاف هؤلاء السكان. وبهت لون الإسلام نفسه، وفسدت مبادئ كثيرة منه، وتحول التوحيد إلى شرك، أو كاد، وتحول العقل إلى جنون، أو كاد. وذلك كله في وقت كان الغرب فيه يرقى صعدًا في معارج المعرفة، وكان عصر النهضة الأوروبية قد بدأ يهز الشعوب الخاملة، وينفي الكرى عن أجفانها، ويطلقها هنا وهناك تكشف المجهول، وتعمر آفاقًا أخرى في البر والبحر.. فلما وقعت الواقعة وتحرك الصليبيون الجدد نحو العالم الإسلامي ؛ كانت المقاومة عبثًا . ص _215(1/207)
وغاص الفاتحون في أعماق القارات المسلمة، دون أن يستطيع الترك أو العرب صد العدوان المسلح بأسلوب مجد. هل أغمط المدافعين حقهم فأطوي صحائف جهادهم دون تنويه بها ؟ كلا.. إن الأبطال الذين بوغتوا بالغزو لم يستسلموا لزحفه على ضعف أسلحتهم وفتك الأسلحة التي بأيدي عدوهم. بل إن المقاومة الفردية والشعبية بلغت حدًّا ما يطيقه البشر، وإن كانت النتائج لا ترضي. إن ثوار فلسطين، وثوار الجزائر والجماعات المكافحة في أقطار أخرى، بذلت الكثير.. ولكن المسلمين اليوم يجنون ما فرط آباؤهم، وجهاد المعاصرين سوف يؤتي ثماره لا ريب، وربما لا يجنيها إلا أولادنا وأحفادنا.. والخسار العسكري جزء محدود في تقويم الحضارات. والأمم لا تزول إذا تركت قطرًا، أو فقدت نصرًا. وإنما تزول إذا ضاعت عقائدها ومناهجها، وتلاشت شاراتها وشعائرها، أو كان ما بيدها من تعاليم يناقض منطق الحق، وكرامة الإنسان، ومسير الحضارة. وهذا- بالنسبة لنا نحن المسلمين- لا وجود له. فنحن نملك رسالة هي جوهر الحق، ولباب العدالة، وضمان الخير، وسياج المصلحة، لا لجنس بعينه، ولكن لأهل المشارق والمغارب. ولذلك من حقنا أن نبقى، بل يجب أن نبقى.. طريق العودة: ليس أمام العرب عدة طرق يوازون بينها ويختارون منها.. إنها سبيل واحدة يتعين عليهم أن ينطلقوا فيها لا يلوون على شيء، تلك هي سبيل الإسلام، الدين الذي أعز آباءهم، وصنع حضارتهم، وبوأهم القمم وكانوا من قبله صفرًا. ونحن نعرف أن الهزائم الأخيرة أمام الزحف الصليبي واليهودي الحديث أوجدت عصابات من الساسة والقادة والكتاب والخطباء يشككون في قيمة الإسلام، بل يدعون سرًّا وجهرًا إلى الخلاص منه كلاًّ وجزءًا، والإقبال على الغرب ظاهرًا وباطنًا. ص _216(1/208)
ومع أن هذه العصابات تظاهرها قوى الغزو الغالبة، وتساندها بالمال والجاه. ومع أنها انفردت بزمام التوجيه في أقاليم كثيرة. إلا أنها فشلت في صرف الجماهير عن دينها، وحملها على الكفر بكتاب ربها وسنة نبيها. وهي لا تزال دائبة السعي، ومن ورائها الدوافع التي كشفناها، وهيهات أن تستسلم الجبهة المؤمنة، وإن عراها الإعياء في بعض الأحيان. ونحب أن نقول في إيجاز: إن محاولة هدم الإسلام لإقامة نهضة أخرى في بلاده قد تستغرق- لإتمام الهدم- مائتي سنة، وبعيد أن تنجح، فإذا حدث جدلاً أن هدمت هذا الدين فقط تستغرق مائتي سنة أخرى لبناء نهضة على أسس مغايرة، وبعيد كذلك أن تنجح!. أي إن العراك العنيف الناشب الآن مع مبادئ الإسلام لا جدوى منه إلا تأخير الاستقرار قرابة أربعة قرون في انتظار وهم يخامر بعض الساسة الخونة. إن الغزاة المزودين بكل شيء، والمتوجين بأكاليل الظفر يحاولون- منذ مائة سنة في بعض البلاد، ومنذ مائتين في البعض الآخر- أن يجهزوا على روح الإسلام بعدما قطعوا أطرافه، فماذا بلغوا؟. إن هذه الآلام لم تقتل الدين النابض القويم، بل استثارت غرائز المقاومة التي همدت أيام انهيار حضارته، فإذا هو يلم شعثه، وينفي عنه الأوضار التي شانته، ويعطف ما تتنافر من أجزائه. وهو الآن أحسن منه من خمسين سنة، وأعداؤه أقرب إلى اليأس من أسلافهم قبل خمسين سنة. ومرة أخرى نقول: يستحيل بناء نهضة في بلاد العرب تتجاهل الإسلام وتتنكر لتراثه المجيد. والتعجيل بالبصر طريقه الأوحد سرعة العودة بالأمة إلى دينها في كل شيء. وإخماد الأنفاس النجسة التي تلهث وهي تقذف هذا الدين بأنواع الرجوم، وتبذل الجهود لتضليل الأجيال الناشئة، وبعثرة قواها وآمالها . ص _217(1/209)
فإن ارتباط الخلق- في المجتمع العربي- بمبادئ الإسلام قائم، وارتباط المثل العليا بأهداف الإسلام قائم. وإذا شئنا بناء أمة متينة الخلق ناظرة المثل، فعلى دعائم الإسلام وحده يجب البناء، وإلى غايات الإسلام وحده يجب التوجيه. إن الأشخاص الذين حاولوا السير بأمتنا في طريق غير الإسلام، كانوا أشبه بالسابح ضد التيار، أو بمن يرتب الأشياء عكس امتدادها الطبيعي. وكانت النتائج التي حصلوا عليها هي التي يحصل عليها من يحاول إلباس العملاق رداء طفل.. أو التي يحصل عليها إنسان مريض يتولى علاجه طبيب بيطري.. إن هؤلاء الأشخاص لم يفعلوا شيئًا أكثر من إحداث بلبلة في مشاعر الأمة وأفكارها. ذلك أن أمتنا لا تستجيب إلا لدعاة الله. صيحة خافتة لواحد من رجالات الإسلام تلتف حولها الجماهير، وتصل إلى أعماق الضمائر. صيحة عالية لواحد من أعداء الإسلام تنقلها الصحف والإذاعات وتضاعف المدى الذي تتردد فيه، ينصرف الناس عنها، وقد يستجيب لها نفر فاتر الهمة، سقيم الوجدان. لماذا؟ لأن العوض الذي ينظر الناس إليه وهم يساومون على ترك دينهم لا يساوي في نظرهم شيئًا، إن لم يكن جديرًا بالاحتقار الشديد. أيدعون الإسلام للعلمانية أو للوجودية ؟. إن الإيمان بالله أحب إليهم، وأدنى إلى فطرتهم. أيدعون التوحيد إلى التثليث ؟. ص _218
إن عقولهم وقلوبهم توافقت على اليقين في إله واحد لا شريك له لا ولد ولا صاحبة: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " . أيدعون العفاف للعهر، والعدالة للظلم، والاستقامة للانحراف؟. إن المدنية الوافدة تمثل دائمًا الجانب الأخسر، من ناحية السلوك الفردي والاتجاه العالمي. فكيف يترك الناس الإسلام الأثير لديهم إلى غير شيء ؟. يجب أن نستعد لبناء حضارتنا من جديد، على دعائمنا العتيدة، ووفق أهدافنا وحدها. في ظل الإسلام الذي أكرمنا الله به أولاً، ومسكنا بأصوله إلى يوم الناس هذا . ص _219
الدولة العربية والوطن العربي ص _220(1/210)
أعقب اضمحلال الأمة العربية ما لم يكن منه بد، إذ أحدق بها أعداؤها من كل جانب، كل يبغي نصيبًا دسمًا من هذا الكيان المستباح .. كان السلطان العثماني في " الآستانة " مثخنًا بالجراح، والوصف الذي اشتهر به هو الرجل المريض! والمتربصون به الوفاة كثير!. أما التركة التي يراد اقتسامها فهي أقطار العروبة والإسلام كلها. ولم ينتظر الطامعون حتى يؤذن بوفاة الخلافة المعتلة فيلتهم كل سهمه في الميراث الذي لا صاحب له، بل بدأ الخطف الجريء هنا وهناك، وسرى العدوان على أجزاء الدولة، وعلى أرجاء الدولة الإسلامية عمومًا. ولم تمض فترة طويلة حتى كانت دول أوروبا على الإجمال قد احتلت مساحات هائلة من العالم الإسلامي، ووضعت يدها على مفاتيح البحار، وعلى مناطق شديدة الحساسية في الهجوم والدفاع. وتولى كبر هذا العدوان السافر إنجلترا وفرنسا. اغتصبت إنجلترا وادي النيل كله: مصر، والسودان، وأوغندا، وما يقترب من الوادي في المناطق الحارة. واستولت فرنسا على الشمال الإفريقي: تونس، والجزائر، والمغرب، وما تحت هذه الأقطار. وأخذت إيطاليا: ليبيا. ومن قبل كانت هولندا قد استولت على إندونيسيا، كما استولى الإنجليز على الهند وشواطئ الجزيرة العربية كلها من الخليج إلى عدن. ويمكن القول بأن أوائل هذا القرن شهد اندحارًا للأمة الإسلامية بالغ الإهانة، فادح السوء. ومع ذلك فإن " الرجل المريض " لم يسلم أنفاسه، وبدا كأنه يستعد لجولة أخرى يرد بها أولئك المناوشين القتلة، ومن يدري لعله يسترد ما فقده إبان ضعفه؟ وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى إذ قرر الأتراك أن يتحالفوا مع الألمان ضد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا . ص _221(1/211)
وهذا التحالف كان شيئًا لا مفر منه، بل كانت المصلحة للدولة المنكودة، وللشعوب التي ارتبطت بها، تفرضه وتؤكده. فإن الألمان يرون أنفسهم أرقى من الإنجليز، وأحق منهم بالسيادة والصدارة، ومع هذا التفوق فإن بقية دول أوروبا خرجت دونهم بنصيب الأسد من تقسيم المستعمرات، ومن انتهاب الأمة الإسلامية فلا جرم أن الألمان يحقدون على هؤلاء الجشعين المفتاتين. وبديهي أن يرى الأتراك في الميدان الدولي هذا الذي يشاركهم في مخاصمة إنجلترا وفرنسا فيهرعون إلى الاتفاق معه! أليس يجمعهم شعور مشترك وصالح مشترك؟ إن بعض الشعب في القاهرة خرج إبان الحرب العالمية الثانية لما اقترب الألمان من " العلمين " يهتف " تقدم يا رومل ". إنه لا يحب الألمان، ولكنه يكره الإنجليز ومن معهم، ولذلك يرحب بكل نكبة تصيبهم. والأتراك وجدوا في ألمانيا سنادًا قويًّا لهم في حرب يستطيعون- لو كسبوها- أن يهدموا الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وأن يوقفوا سيل العدوان الذي تعرض له العالم الإسلامي، وأن يبدأوا عهدًا جديدًا من الاستعمار والإصلاح . لكن الأمور سارت عكس ما يشتهون. ولم يكن ذلك إلا لأن دسائس الإنجليز أفلحت في تأليب الأمراء العرب على السلطان التركي . فتولى هؤلاء بأنفسهم الإجهاز على الرجل المريض، واستعجال موته دون بصر بما كان أو يكون. أهداف الاستعمار: لم يكن الضائقون بالحكم التركي قلة، بل لعل الشعب التركي نفسه من بين الساخطين على أساليب العسف والقهر التي توارث السلاطين تطبيقها . ص _222(1/212)
أما العرب فإن إقصاءهم عن كل سلطة عملية، وحرمانهم من شارات السيادة التي كفل الإسلام لهم أحفظ صدورهم ووسع الهاوية بينهم وبين الترك. فإذا انضم إلى هذا الحقد الصليبي التقليدي على الإسلام وأهله ثم ما بلغته أوروبا في نهضتها الأخيرة من تفوق عسكري عرفنا أن الدولة العلية كانت في موقف !سييء، وأن أخطارًا ماحقة تهددها وتهدد الإسلام الذي اقترن- للأسف- بها. ولما اشتعلت الحرب العالمية الأولى دخلها الحلفاء الغربيون ضد تركيا وأملهم من ورائها بعيد المدى. تمزيق الخلافة العثمانية، واجتثاث جذورها من الأصول. ب- تقسيم تركيا نفسها، وسائر الأقطار التي تتبعها بين إنجلترا وفرنسا وروسيا. (ي) بعثرة الأمة الإسلامية بعثرة تنسيها ماضيها ورسالتها وتشغلها بالدفاع عن حياتها وأقواتها. وقد عقدت معاهدة سرية بين الحلفاء الثلاثة توضح نصيب كل دولة من تركة الرجل المريض، والأقطار والشعوب التي ستجتاحها بعد كسب الحرب. ويعرف هذا الاتفاق بمعاهدة "سايكس- بيكو". وعندما نشبت الثورة الشيوعية في روسيا، وانفصل الروس عن الحلفاء فضحوا هذه المعاهدة، وكشفوا نيات الإنجليز والفرنسيين في اقتسام العالم الإسلامي، وأعلنوا أنهم قد تخلوا عن هذه الارتباطات السرية. ومطامع الإنجليز والفرنسيين لم تكتشفها هذه المعاهدة، فقد كانت مفضوحة من قبل، ولكن الغريب أن يجدوا من ملوك العرب من يعينهم على تحقيقها. والخطة التي وضعها الإنجليز مبسطة، أن يضربوا الترك بالعرب في أثناء اشتباكهم مع عدوهم. فإذا انهار الترك بعد هذه الخيانة أصيب الإسلام في صميمه وسقطت الحلافة التي تمثله. وسوف يتبع ذلك طور آخر، سوف يكفر الترك بالدين الذي ربطهم بالعرب، وتتكون قومية تركية لا دين لها . ص _223(1/213)
ويمكن أيضًا تكوين عروبة منفصلة عن الإسلام. ومن ثم يخرج الإسلام من هذه المحنة، وقد وقعت الجفوة بين أتباعه وكفر بعضهم ببعض، وكفروا جميعًا بالله ورسوله. ونحن ننظر إلى عمل الشريف حسين قائد الثورة على الترك فنتساءل: أكان هذا الرجل كافرًا شنيع الكفر أم كان مغفلاً شديد التغفيل؟. إنه عمي أو تعامى عن كل توجيهات الإسلام في سياسته. ولقد زعم الزاعمون أنه كان يريد تكوين خلافة عربية. وأية خلافة هذه التي تقوم على حرب الإنجليز؟ الإنجليز الذين احتلوا وادي النيل، وأعطوا عشرات الوعود أن يجلوا عنه ولم يصدقوا في كلمة واحدة مما قالوا. الإنجليز الذين قطعوا أوصال الإسلام في الهند وفي غير الهند، ولا يزال هذا الدين دائخًا من صنيعهم إلى الآن. الله جل شأنه يقول: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " . ويقول: " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين " . ولكن الشريف الهاشمي الذي يزعم أنه ابن النبي لم يذكر حرفًا من هذا، وكل ما ذكر أنه طالب ملك. وفي سبيل ملكه ذبح الألوف من المسلمين على حسابه الخاص. وقد يقال: إن الرجل ما كان يدري. ونقول: بل كان يدري. فقد عرفه جمال باشا القائد التركي بمحتويات معاهدة "سايكس- بيكو" التي تتضمن تقسيم العالم العربي والإسلامي بين الحلفاء . ص _224(1/214)
وعرفه مستر " لورنس " ذلك، وقال له محذرًا: لا تثق بوعود قومي ! ولنفرض أن أحدًا لم يعرفه من ذلك شيئًا، أفكان من تقاليد العروبة أو من تعاليم الإسلام أن يغدر بالترك المسلمين، وأن يحارب إلى جانب الإنجليز والفرنسيين؟. قد يقال: إن الترك ظلموا العرب! وحرموهم حقوق المساواة المادية والأدبية. ونقول : فهل يعالج ذلك بالانضمام إلى أعداء الإسلام؟ لقد سبق أن انفرد العرب بالسلطة العامة وضنوا على العجم بالمساواة، فهل ذلك يكون ذريعة كفران، يبيح للفرس أن ينضموا إلى المجوس؟ إننا كما رأى القراء- ممن يدعون إلى حكم عربي وخلافة عربية-، وقد شرحنا كيف ساءت أحوال الإسلام وأمته ورسالته في ظل الترك. غير أننا نرى في ميدان التعليم والدعوة متسعًا رائعًا لمن أراد الإصلاح . وقد حرم الموالي من الحكم أول الأمر، فاتجهوا إلى خدمة الثقافة الإسلامية، فصلحوا وأصلحوا وأسدوا إلى الحياة الإسلامية الخير الكثير، فما الذي أعجز العرب عن ذلك أيام الاستبداد التركي ؟ إن الذي لا يرى له مكانًا إلا في سدة الحكم رجل تافه، والذي لا يستطيع الإصلاح إلا في وظائف الدولة رجل تافه. والواقع أن حرص بعض الناس على الحكم وحده، لا يدل على خير بقدر ما يدل على شره وأثرة وصغار. ونحن نجزم بأن السلطان العثماني إذا كان فاسدًا، فإن الشريف الهاشمي لو أتيح له الحكم لكان أضل سبيلاً. وإلى القارئ الكريم فصلاً من الأحداث التي وقعت بين الشريف حسين، أيام كان واليًا على مكة من قبل الترك، وبين الدولة التي كانت في حرب إنجلترا وفرنسا وروسيا ثم سائر الحلفاء . ص _225(1/215)
" وقد أطلقت الطلقة الأولى في 9 شعبان سنة 334 - 10 حزيران 6 1 9 1 ، وأعلن استقلال الحجاز عقب ذلك بقليل، وأذاع الشريف حسين منشورًا مسهبًا بالأسباب التي جعلته يقدم على حركته، وعدد من جملتها تحقيق الاستقلال العربي والخلافة العربية، وما كان من تصرفات الأتراك نحو العرب الخ. وآتت الثورة ثمرتها العاجلة بالنسبة للحجاز، حيث أمكن التغلب على القوى التركية بسرعة في مكة، وإن كان التغلب على بقيتها في الأنحاء الحجازية اقتضى بعض الوقت والجهد، غير أن سلطة الحسين قد توطدت في مختلف أنحاء الحجاز. وفي 6 محرم 335 1- 3 كانون الأول 6 1 9 1 بويع الحسين ملكًا على العرب، وقامت وزارة إلى جانبه لتسيير شئون الدولة وأبلغ الأمر لوزارة خارجية الحلفاء. وقد اعترضت إنكلترا وفرنسا على لقب ملك العرب، ولم تعترف إلا بلقب ملك الحجاز، فكان هذا أول بوادر المكر. ومن أولى الصدمات الشديدة التي صدم بها الحسين. كذلك آتت الثورة ثمرتها بعد سنتين بالنسبة لسورية. فقد تولى فيصل بن الحسين قيادة الجبهة الشمالية التي انضوى إليها كثير من ضباط وشباب بلاد الشام والعراق، واستطاعت القوات العربية أن تزعج القوات التركية أي إزعاج بين المدينة ومعان أولاً، حتى أجلتها عن هذه المنطقة الواسعة، ثم انتقلت إلى منطقة معان فأخذت تزعجها فيها أشد إزعاج كذلك، حتى كادت تسيطر على معظم المنطقة إلى حوران. ولما انكسرت الجبهة التركية في فلسطين في صيف عام 1918، وانسحبت القوات التركية منها نحو الشام فالأناضول تبعها فيصل بكتائبه، فظلت تنسحب إلى داخل الأناضول. وأقام فيصل بعد ذلك في دمشق حكومة عربية شملت جميع سورية الداخلية بما فيها شرق الأردن، وظلت قائمة نحو سنتين، أي من أيلول 1918 إلى 24 تموز هـ 192، وكانت دمشق فيها مزدحم أقدام رجال النهضة العربية من شاميين وعراقيين، وجائشة بالحركة والنشاط والآمال ". ص _226(1/216)
غير أن الإنجليز ظهرت بوادر مكرهم بالحسين في المراسلات التي جرت بينه وبينهم. لقد كانوا مبيتين المكر بأهداف آثار الثورة العربية منذ البدء، فإنهم بينما كانوا يتراسلون مع الحسين ويقطعون له العهود بالاعتراف بمملكة عربية مستقلة كبرى، كانوا يتفاوضون مع فرنسا وروسيا على مصير الدولة العثمانية. وقد اتفقت الدول الثلاث في مارس سنة 1916 على أن يكون نصيب روسيا القسطنطينية مع عدد من الأميال إلى الداخل على ضفتي البوسفور، ثم الولايات الأربع الشرقية من الأناضول المجاورة للحدود الروسية، وعلى أن يكون نصيب فرنسا كليكيا من الأناضول ثم الموصل، وجميع بلاد الشام ساحلاً وداخلاً باستثناء فلسطين التي اتفق على أن يكون لها إدارة دولية خاصة، وعلى أن يكون نصيب بريطانيا جميع البلاد الواقعة بين خليج البصرة والمنطقة المخصصة لفرنسا إلى العراق باستثناء الموصل مع ثغري ميناء عكا وما بينهما من الساحل. ولما انسحبت روسيا من صف الحلفاء سنة 1917 بسبب الانقلاب الشيوعي فيها ولم تعد طرفًا ثالثًا ثبتت فرنسا وبريطانيا ما تم الاتفاق عليه بالنسبة للبلاد العربية، وصار يعرف باسم "سايكس بيكو" اقتباسًا من اسم المندوبين الإنجليزي والفرنسي اللذين تفاوضا باسم حكومتيهما. ولقد كان من نصوص هذا الاتفاق أن تكون الإدارة في بلاد الشام متنوعة فيقوم في سوريا الداخلية التي تضم ولايات حلب والشام والموصل حكومات عربية تكون بريطانيا صاحبة النفوذ والحماية والأفضلية الاقتصادية وتقديم المستشارين والموظفين في القسم الجنوبي الشرقي من هذه المنطقة، الذي تقع فيه منطقة شرق الأردن الممتدة إلى حدود العراق، وبعض أنحاء العراق الشمالية الواقعة في نطاق الحكومات العربية، ووصف هذا القسم بمنطقة (ب). وتكون فرنسا صاحبة مثل ذلك الامتياز في القسم الشمالي الذي تقع فيه ولايات حلب والموصل والشام باستثناء منطقة شرق الأردن التي كانت متصرفية من متصرفات ولاية الشام، والتي(1/217)
تظل إداريًّا تابعة لحكومة الشام ونفوذًا لبريطانيا، ووصف هذا القسم بمنطقة (آ) . ص _227
وتكون منطقة الساحل الشامي التي تضم جبل لبنان وولاية بيروت مع كليكية التي تضم أدنه ومرسين ولواء إسكندرونة تحت الإدارة الفرنسية المباشرة، ووصفت بالمنطقة الزرقاء. وتكون منطقة العراق التي تضم ولايتي بغداد والبصرة مع ميناءي عكا وحيفا وساحلهما في فلسطين تحت الإدارة الإنجليزية المباشرة، ووصفت بالمنطقة الحمراء، أما فلسطين فقد اتفق أن يكون لها إدارة دولية باستثناء حيفا وعكا وعرفت بالمنطقة السمراء. وهكذا مزقت بلاد الشام والعراق بالمؤامرة الإنكليزية الفرنسية أفظع تمزيق وأسوأه، فكان من أشد الضربات التي وجهت للحركة العربية الحديثة قبل أن يجف مداد عهد الإنكليز للحسين بالدولة العربية المتحدة، وحينما كان هذا يتهيأ لإعلان الثورة وضم العرب لجانب الحلفاء والحرب معهم، وهو ما تم عليه الاتفاق قبل هذه المؤامرة وما بدئ بتنفيذه بعدها بقليل. والإنكليز هم المجرمون الأصليون في ذلك، هم المتعاقدون مع الحسين. وقد أدى غدرهم اللئيم إلى ضياع ثورة العرب ودمائهم في سبيل إنشاء المملكة العربية المتحدة الكبرى التي استهدفتها الحركة الحديثة . أصحيح أن الإنكليز هم المجرمون الأوائل في هذه الماسأة؟. إنهم مجرمون حقًّا؟. لكن الذي يبوء بالعار الأول في هذه القصة هم أفراد البيت الذي يزعم أنه هاشمي، إن الإنكليز لم يزيدوا عن عصابة تشتغل بالسطو.. وإذا اتفقت عصابة على سرقة بيت ما، واتفقت مع بعض سكانه أن يكونوا لها عيونًا وأعوانًا؛ فأولئك- لا اللصوص المحترفون- أولى بالإثم وأحق بالعقاب. وقد كتب كثيرون في الشريف حسين وعدوه الشرارة الأولى للثورة العربية الكبرى. ونحن نأبى أشد الإباء أن تولد الثورة العربية في مبدإ الخيانة والغدر على هذا النحو الشائن، ونؤكد أن العروبة لا صلة لها بناس يتعشقون الحكم وينشدونه بسلاح أجنبي وثوران يخدم كل إنسان إلا(1/218)
العرب والمسلمين ص _228
وقبل أن نتحدث عن معالم الثورة العربية الصحيحة نحب أن نعرف طبيعة الوقائع التي خاضها الشريف حسين وأسرته، وطبيعة المسلك الذي اختطته لنفسها السياسة الإنكليزية، وذلك من خلال سطور موجزة لكاتب حديث هو: "ستيفن همسلي". وقد لخصت مجلة "العربي" فصولاً من هذا الكتاب جاء فيها: " إن بريطانيا التي قطعت على نفسها عهودًا للعرب، وجدت نفسها في خضم الحرب مضطرة إلى عقد اتفاقيات سرية مع حليفتيها فرنسا وروسيا، مما جعلها تقع في تناقض: من ذلك معاهدة "سايكس بيكو" السرية في 16 آيار (مايما 1916 التي اقتسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا وروسيا أملاك الإمبراطورية العثمانية. وليس هذا هو اسمها الرسمي؛ فهي " الاتفاقية السرية بين فرنسا وبريطانيا وروسيا بشأن مناطق آسيا الصغرى ". وقد نسبت إلى " سيرمارك سايكس، ومسيوجورج بيكو " ظلمًا، مع أنهما لم يكن لهما فيها سوى الصياغة. وكان أول من كشف النقاب عن هذه المعاهدة السرية هو " تروتكسي " بعد نجاح الثورة البلشفية، وذلك في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1917. وكان مما قاله، بعد فضحه لهذه الاتفاقات السرية: "إننا نلقي بكل المعاهدات السرية في سلة المهملات ". أما في بريطانيا فقد كانت جريدة " المانشستر غارديان " أول من نشر خلاصة لهذه المعاهدة في عدديها الصادرين في 26- 28 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 917 1 ، وقد انتهز جمال باشا الفرصة فأرسل مع رسول خاص صورة من المعاهدة إلى كل من الأمير فيصل، وجعفر باشا العسكري في العقبة. ويقول ت. ى لورنس في كتابه " أعمدة الحكمة السبعة " المشهورة : " لقد كان من حسن الحظ أن بحت لفيصل بوجود هذه المعاهدة قبل انكشافها، كما رجوته ألا يثق بوعودنا " . ص _229(1/219)
ومن الوعود التي تمت في الخفاء، والمعارضة مع ما وعدت به بريطانيا للعرب، وعد " بلفور " و " بلفور " هو وزير الخارجية في وزارة لويدجورج. وقد صدر هذا الوعد عن وزارة الخارجية البريطانية في 2 تشرين الثاني 1917، أي بعد ثمانية عشر شهرًا من قيام الثورة العربية، وفيه وعدت الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين!. ويذهب المؤرخون مذاهب شتى في تفسير الدوافع التي جعلت الحكومة البريطانية تعطي مثل هذا الوعد، ولعل أهمها- في رأيي- هو أن بريطانيا أرادت من إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أن تجعل من فلسطين شوكة تقض مضجع الأمة العربية، وتشل من تقدمها، وهي سياسة كان قد صرح بها " كتشنر " . لماذا هذا التناقض؟ ترى كيف ارتضت بريطانيا لنفسها أن تقع في مثل هذا التناقض؟. والجواب الشافي على هذا السؤال نجده عند المؤلف: فمن ذلك أن الدول في الحروب لا تؤمن بالأخلاق والعهود، ولا يهمها سوى كسب المعركة. وهذا الماريشال " فوش " يقول: "إن الأمر الوحيد المهم في الحرب هو النتائج ". ويقول " هوفارث " إن الإنجليز قطعوا على أنفسهم تلك الوعود للعرب، " لأنهم كانوا في معركة حياة أو موت " !. إن " تشرشل " في الحرب العالمية الثانية حالف الروس ضد الألمان والطليان مصارحًا بأنه في سبيل أغراضه يتعاون مع الشيطان " !. والمستعمرون في كل زمان ومكان لا يعرفون إلا منطق المنفعة الخاصة، فإذا انضم إلى هذه المصلحة الخاصة التنفيس عن ضغن قديم، أي النيل من الإسلام وأمته، فتلك هي الأمنية التي لا يسنح بمثلها الزمان. من أجل ذلك، استخدم الإنجليز الشريف حسين والمخدوعين به في بلوغ أمانيهم البعيدة، ولم يبالوا أن يستميلوه بكلمات لا وزن لها، ما قيمة رسالة يكتبها رئيس وزرائهم؟. أو ما قيمة وعد يقطعه على نفسه عميد الاحتلال الأجنبي في مصر؟. لا قيمة لهذا كله .. ص _230(1/220)
وقد خرج المسلمون من الحرب العالمية الأولى- نتيجة هذه السياسة- وقد فقدوا ما بقي لهم-، وتقسم بلادهم على الجملة الحلفاء الغربيون، كما ابتلع الروس أغلب الأقطار الإسلامية المجاورة لهم في آسيا وأوروبا.. أما الحرب العالمية الثانية فقد تمخضت عن قيام " إسرائيل " قنطرة العدوان الذي يهدد الشرق كله بين الحين والحين. النهضة العربية الحديثة: هنا إحساس عام بين جماهير العرب أنهم تخلفوا وكان ينبغي أن يتقدموا. وأن كراماتهم جرحت جراحات عميقة، وكان ينبغي أن يعزوا ويصانوا. وأن خيراتهم استلبها عدوهم، وحرمها منهم، وكان يجب أن يتملكوها وينتفعوا بها. وأن مبادئ معوجة انتشرت بينهم، وكان يجب أن يستغنوا برسالتهم عن كل مذهب مستورد وقانون مجتلب .. وقد اضطرم هذا الإحساس في أفئدة العرب والمسلمين، وكان مصدر ثورات هائلة ضد الاستعمار الجاثم على صدورهم، ومصدر حركة دائبة لاستعادة أمجادهم التي فقدوها. وإنك لتلمح بوادر هذا النهوض وراء النشاط العلمي والأدبي الذي اهتزت به أقطار الشرق العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة. تلك الأقطار التي وصلت في مراحل كفاحها إلى حد أقلق الغزاة وأجبرهم على ترك البلاد، كما حدث في مصر وغيرها. وبديهي أن تعتمد هذه النهضة الشاملة على ركائز معنوية من الدين الذي آمنت به كثرة العرب وارتبطت به أمام الله والناس. إن الألوان النفسية لشتى القوميات تختلف اختلافًا كبيرًا، والثقافة، كما قيل: هي الطابع الذي تتميز به أمة عن أمة، فالطائرة التي تصنعها روسيا قد نجد لها مثيلاً فيما تصنعه أمريكا أو إنجلترا. ص _231(1/221)
أما الأغنية التي تصدر عن روسيا أو أمريكا أو إنجلترا فهي تختلف في روحها عن غيرها؛ لأنها نابعة من طبيعة الشعب، معبرة عن آماله وآلامه. وهذا صحيح، ولذلك قلنا: إن اللون النفسي للعروبة يفردها عن سواها ويضفي عليها خصائص لا تعدوها إلى غيرها. وكما تلتقي عدة ألوان لتكوين اللون الأبيض الناصع، تلتقي جملة عناصر فكرية وفقهية وعاطفية وأدبية وسياسية وتاريخية، لتكوين ملامح العروبة. وهذه العناصر لا مصدر لها إلا الإسلام، ولا وجهة لها إلا وجهته، ولا صبغة إلا صبغته . ولذلك فإن تيارات هذه النهضة تجري قوية غدقة كلما استمدت من ينابيع الإسلام واقتربت من أصوله. والحق أن العروبة يتألق جوهرها كلما اقترنت برسالتها العظمى، واستلهمت تاريخها الأول، وجددت مثلها العريقة. إنها عندئذ تنبت في مغارسها، وتجد من أسباب الخصوبة والنماء، ما يقرب جناها ويؤكد ازدهارها. ونحن نود لو تجنبت نهضتنا عيبين: أولهما: قديم من هفوات السابقين، والآخر حديث من التقليد الطائش للمدنية الأوروبية. نعم، فمن مواريثنا تقاليد بالية انحدرت إلينا من عهود الانحلال، ويجب أن تبرأ العروبة منها في نهوضها المعاصر، فليس لكل قديم قداسة، ولا كل ما ألفناه يستحق الحفاوة والحفاظ. إن المنبع المعصوم من الزلل معروف، والطريق الموصل إلى الحق ممهد: " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " . ثم في حضارة الغرب معالم قريبة من الفطرة، ومعارف بلغها العقل الإنساني بعد جهاد نبيل! هذه - بلا ريب - ضالتنا، ونحن أولى بها من سوانا. ولا يجوز أن يفوتنا تحصيلها، أو نقصر في ذلك . ص _232(1/222)
أما المباذل التي تسربت إلى هذه الحضارة وشانتها أكثر مما زانتها، فيحتم علينا أن نتنزه عنها، وأن نذود فتياننا وفتياتنا عن الإلمام بها، فإن ذلك يرتكس بنا مسافات إلى الوراء. والإسلام الذي شاع في كيان العروبة شيوع الضوء والحرارة في قرص الشمس، هو الركائز المعنوية لكل نهضة يرتقب لها النجاح. وقد كفل هذا الدين للأم التي تعتنقه كل المقومات المادية والأدبية التي تحتاج إليها، فليس هناك مكان قط لاستيراد مبدإ أجنبي، نكمل به نقصًا عندنا. إن هذا الاستيراد لا يفكر فيه إلا قصار الباع في فقه التراث الإسلامي، أولئك الذين ليس لهم من العروبة إلا الزعم الفارغ، والانتساب اللصيق. فكما حررنا إرادتنا من قيود الاتباع الذليل لأي جبهة عالمية يجب أن نحرر هذه الإرادة في تكويننا للنشء، وتنظيمنا للمجتمع، أي يجب أن نستقي من رحيق الوحي الأعلى ما يروي ظمأنا في تلك الساحات كلها. ولن نكون عربًا أصلاء، إذا تنكرنا للثروة الأدبية الطائلة التي منحنا الإسلام إياها، أو ارتضينا لأنفسنا التسول الفكري والتشريعي من هنا وهناك على حين أغنانا الإسلام عن هذا كله. السناد الروحي للنهضة إنسان مفعم القلب باليقين، مزدان السيرة بالعفاف، له غاية سامية يطير إليها بجناحين من جهاد النفس وجهاد الناس. إنسان يوقر القرآن الكريم ويغالي بتعاليمه سرًّا وعلانية، ويجل محمدًا رسول الله ، ويستقيم على سننه دون مواربة. ولن تكون نهضة ما عربية إذا عريت عن هذه الفضائل. ونحن إنما رفضنا اعتبار ثورة الشريف حسين نهضة عربية؛ لأنها دعوة نمت في أحضان الإنكليز، وشقت طريقها بسلاحهم، وتنكرت لمصلحة الإسلام الأولى . ص _233(1/223)
أفتظن أن هؤلاء الثائرين لو نجحوا يصدق فيهم قول الله : " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور " أفتظن أن زبانية الاستعمار يصالحون مثل هذه الأهداف؟ النهضة العربية الصحيحة تقوم أولاً وآخرًا على أمة وثيقة الصلات بالله وأمره ونهيه، بادية التوكل عليه وإن خاصمت هؤلاء وأولئك. وشيء آخر لا مندوحة من تبيانه، إن السياسة في منطق زعماء الغرب تكفر بالصراحة والاستقامة، ولا تبالي بمقاييس الأخلاق، ولا حدود الدين، الغاية تبرر الوسيلة، كما يقولون. وهذا المنطق لا نألفه فيما ورثنا من شمائل، ولا نرضاه فيما تعلمنا من دين. الغاية الشريفة لا يوصل إليها بوسيلة شريفة. وقد تكون الوسائل الشريفة باهظة الثمن صعبة التكاليف، وربما بدا للعين المجردة أنها مخيبة للآمال بعيدة التحقيق. ومع هذا كله فلا يجوز لمؤمن أن يلجأ إلى وسيلة مريبة مترخصًا في ارتكابها بسمو المقصد. تلك خدعة الشيطان، وكم وقع في أحابيله الأغرار. الوسيلة الشريفة وحدها هي الطريق للغاية الشريفة. وعندما يزين لك الوهم اقتراف عمل ما لتبلغ به ما تريد من خير، فاتهم نفسك أو اتهم هدفك، فإن العمل السييء لا يجيء بخير أبدًا. ونحن إذا بنينا نهضتنا على العروبة والإسلام، فالطريقة المثلى لجني غراسنا أن نلتزم الأساليب الشريفة في عملنا، مهما لقينا من متاعب ومضايقات . ص _234(1/224)
ثم لا بأس من المصارحة بأن القومية أداة لا غاية، إننا لا ندعو الزنوج في إفريقية، أو الهنود في آسيا إلى اعتناق العروبة، فإن أحدًا لا يكلف بترك عنصره وجلدته، وإنما يدعى أهل الأرض أجمعون إلى اعتناق الإسلام، الدين الذي يسوي بين الأجناس والألوان، ولا يعنيه إلا أن تزكو النفوس، وتصفو السرائر، ويتآخى البشر في معرفة الله، والقيام بحقه والتأهب للقائه، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. والدعوة إلى الإسلام تنتج من تلقاء نفسها إعزاز العروبة، وإعلاء شأنها. كذلك يجب أن نطلق عقائرنا برسالة الإسلام، وأن نجلو عن جوهره ما ليس منه حتى يخلب بريقه البصائر. فإذا انشرحت به الصدور في أقصى المشارق والمغارب كان هذا ذخرًا لنا عند الله، ونورًا يسعى بين أيدينا وبأيماننا. ثم هو إلى جانب ذلك شرف للعروبة أي شرف، ومجد أي مجد: " فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ". ص _235
الخاتمة ص _236(1/225)
في الصحائف الماضية خلاصة للمحاضرات التي ألقيتها على طلاب كلية الشريعة الإسلامية، في مادة " المجتمع العربي " التي تقررت دراستها أخيرًا. لقد تفضل الأستاذ الكبير عميد الكلية فوكل إلي هذا العبء. وكان من حديثه معي في مطلع السنة الدراسية- أن إدارة الكلية رغبت أول الأمر جعل عنوان البرنامج " المجتمع الإسلامي " . فذلك العنوان أدنى إلى رسالة الجامع الأزهر، أو إلى رسالة " كلية الشريعة الإسلامية "، تلك الرسالة القائمة على صيانة تراثنا الفقهي، وإمداده بعناصر الحياة والبقاء. إلا أن مجلس الأزهر الأعلى آثر العنوان الأول توحيدًا " لشكل " المادة المدروسة في شتى الجامعات، واطمئنانًا إلى أن المدى قريب أو معدوم بين مفهوم العروبة والإسلام عند التأمل الحصيف، وإتاحة لفرصة التوسع في شتى الاتجاهات تبعًا للون الدراسة في مختلف الكليات.. وقد شكرت للأستاذ العميد هذا الشرح الصادق المخلص، ورأيت معه أن العناية بالموضوع أسبق من العناية بالعنوان، وطمأنته إلى أن الحقيقة العلمية - التي يحرص على تقريرها وحدها - هي التي جعلتها رائدي في العمل الذي اختارني له. والأستاذ الشيخ محمد المدني له منطق العلماء وأدبهم. وأرجو أن أكون قد اقتربت من نفسه في إيضاح كثير من الحقائق التي كثر حولها اللغط، وأنصفت الدين الذي ترادف عليه الهجوم، وطمع في أهله الخصوم .. شيء واحد هو الذي سرت فيه وحدي، ولا يحمل تبعته غيري. هذا الشيء هو مقابلة أعداء الإسلام بالمثل. الجراءة في مهاجمة الحق ألقاها بجراءة في مهاجمة الباطل. الإلحاح في إبعاد الإسلام عن الحياة العامة ألقاه بإصرار على توكيد حق الإسلام في الهيمنة على الحياة العامة . ص _237(1/226)
الكهانة التي تلف بعض الأسماء أهتك عنها الستر لتبدو عارية فلا ينخدع بها أحد .. إننا معشر الدعاة إلى الله نشعر بحرج وعنت بالغين ، لأن صوت الباطل جهير جداً يكاد يصم الآذان ، ويلوى الأعنة ، فلا جرم أننا ننافح عن قضايا الإيمان بفكر يطل من ورائه الغضب ، وعقل تضطرم معه العاطفة ..!! ولو تكافأت القوى أو تماثلت الوسائل لتحدثنا ونحن نبتسم ، وكم تهفو أفئدتنا للابتسام والمرح !! بيد أن صيحات الأفاكين ليس لها من آخر ، فلا يلمنا أحد إذا قابلناهم متجهمين ضائقين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . محمد الغزالي(1/227)