الختّارين المجددين (*) وإخوان الشياطين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة :
________________________________________________________
الحمد لله رب العالمين ... والصلاة والسلام على الرحمة المهداه محمد الصادق الأمين ومن تبعه ووالآه وآله وأصحابه أجمعين .
أما بعد ..........
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }الأنعام123
ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في "مكة" من الصدِّ عن دين الله تعالى, جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم; ليمكروا فيها بالصد عن دين الله, وما يكيدون إلا أنفسهم, وما يُحِسُّون بذلك.(1/1)
فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسرآئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
نقول وبالله التوفيق ......
كثر فى زماننا هذا أفراخ الأفكار المتبلدة فى الفتنة لهم ناعق فى كل عصر تأوى إليه الشرذمة المنبوذة ممن أعتقدوا أن أعظم العقائد هى : خالف تعرف فخالفوا البراهين وخالفوا الأدلة وما خالفوا أهواءهم إلى أفراخ جهم والحلاج وابن الراوندى وابن داؤد والجاحظ والمعرىوبابك الخرمى وابن عربى والفارض ... إلى جميع أفراخ العلمانية والليبرالية
والرأس مالية والديمقراطية وكل من أدار وجهه للحائط وأدار ظهره لى ... إليك هذه الصفعة القوية .
إنها الأسطورة إخوتى سنهدمها بحول الله فوق رؤوس مُدعيها(1/2)
أسطورة غسيل العقول ومحو الهوية ... لما غربوا عقول بعض من تكلموا بألسنتنا لسنين وأيام ... ثم عادوا ونسوا الشكر بقولهم ... مرسي ونسوا الحمد بقولهم ... جوُود
فسر الهزيمة أننا من جهلنا .... نلقي إلى الأعداء بالفلذاتِ
موعدنا مع بارونات الهمجية والإباحية وكل بلية موعدنا مع أذناب الحضارة الغربية ... وخصوصاً عميل الأدب الغربى ... من خرب النظم التعليمية . عامله الله تعالى بما يستحق
جزاء ما حرف وبدل .. وإلى الله المشتكى .
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }لقمان32
وإذا ركب المشركون السفن وعَلَتْهم الأمواج مِن حولهم كالسحب والجبال, أصابهم الخوف والذعر من الغرق ففزعوا إلى الله، وأخلصوا دعاءهم له، فلما نجاهم إلى البر فمنهم متوسط لم يقم بشكر الله على وجه الكمال, ومنهم كافر بنعمة الله جاحد لها, وما يكفر بآياتنا وحججنا الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا إلا كل غدَّار ناقض للعهد, جحود لنعم الله عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الدعوة إلى تجديد الدين على هدي السلف وأئمة السنة، والاجتهاد لمعرفة حكم الله في النوازل والمستجدات حسب الضوابط الشرعية. وإتباع السياسة الحكيمة دون استعجال أو صدام لإقامة شرع الله تعالى في الأرض.هذا تجديد نؤمن به ونعتقده لا الإنسلاخ من الدين للحداثة تحت مسمى تجديد وهذا موضوع حديثنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمع وتأليف
خادم الكتاب والسنة
أبوكفاح الدين
أحمد بن محمد السعيد العزيزي
3/11/2007
طه حسين ... عميل الأدب الغربى " عميد الأدب العربى "
_________________________________________________
قطع اليد التى ربته وليداً ... وأرضاً أنجبته رشيداً
ربى فى الكتّاب ولما شب هجاه(1/3)
ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة "الكيلو" التابعة لمركز العدوة التي تقع على مسافة كيلومتر من "مغاغة" بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط، وكان والده حسين عليّ موظفًا صغيرًا رقيق الحال في شركة السكر، يعول ثلاثة عشر ولدًا سابعهم طه حسين.
ضاع بصره في السادسة من عمره نتيجة الفقر والجهل، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر طلبًا للعلم، وتتلمذ على الشيخ محمد عبده الذي علمه التمرد على طرائق الإتباعيين من مشايخ الأزهر، فانتهى به الأمر إلى الطرد من الأزهر، واللجوء إلى الجامعة المصرية الوليدة التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى في الآداب سنة 1914 عن أديبه الأثير: أبي العلاء المعري . ولم تمر أطروحته من غير ضجة واتهام من المجموعات التقليدية حتى بعد أن سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه الفرنسية.
عاد من فرنسا سنة 1919 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون، وعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925 حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية.
لآحظ معى أمر هام لا يفوتنا جميعاً !!!
(( كانت دكتوراته فى الأدب ووظيفته فى مصر تدريس التاريخ وكان هذا هدف الغرب فى كل من أجتذبوه للدراسة عندهم تبديل التاريخ والحط من التاريخ الإسلامى والتبعية للثقافة الغربية )) .
وما لبث أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلى" الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة، سيأتى الحديث عنها بتفصيل . وأسهم في الإنتقال بمناهج البحث الأدبي والتاريخي نقلة كبيرة فيما يتصل بتأكيد حرية العقل الجامعي في الإجتهاد.(( على زعمه رغم سقوط كل إستدلالاته العقلية والنقلية وسيأتى الحديث بتفصيل )) .
طه حسين فى الأزهر(1/4)
بعد أيام من اختلاف طه حسين للأزهر مجاورا ، انبأ باختبار القبول ليصبح طالبا رسميا مقيدا في سجلات الازهر ، وكان لهذا اليوم ذكرى أليمة في نفس طه حسين ، ذلك أنه أخذ إلى حيث يعقد الاختبار ووضع في زاوية العميان وأشد ما هاله وحز في نفسه كالسكين, الجملة التي نودي بها ووقعت في قلبه أسوء موقع :"أقبل يا أعمى" فجلس أوأجلس إليهم عنوة بيد أخيه وما كاد يسأل عن سورة فيتلو عليهم مطلعها حتى يسأل عن أخرى ثم قيل له إنصرف يا أعمى فتح الله عليك.
قدرت سنه بخمس عشرة رغم أنه ما أتم الثالثة عشر ذلك أن من شروط الانتساب للأزهر أن يتم سنيه الخمس عشرة الأولى ، فتعجب طه من ذلك كيف كان الاختبار وقسوة المصطلح الذي نزل منه منزلا مؤلما عميق الغور دون اعتبار لحس أو ذوق ، والاختبار ذاته الذي لا يختبر حفظا ولا يقدر معرفة ، والتسنين الذي جعل له ليسجل في الازهر كل ذلك دار في ذهن الفتى مدارا كاملا حول جدوى مثل هذا الاسلوب في القبول والتصنيف لطلبة العلم.(1/5)
كان من حظ طه أن جلس أول ما جلس لشيخ مستجد من المشايخ الذين تأثروا بفكر الأستاذ محمد عبده ، لكن تأثره كان كما وصفه طه :"كان كغيره من أقرانه في ذلك الوقت بارعا في العلوم الازهرية كل البراعة. ساخطا على طريقة تعليمها سخطاً شديداً. قد بلغت تعاليم الأستاذ قلبه فأثرت فيه، ولكنها لم تصل أعماقه. فلم يكن مجددا خالصا ولا حافظا خالصا، وإنما كان شيئا بين ذلك. وكان هذا يكفي لينظر الشيوخ إليه شزرا و يلحظوه في شيء من الريبة والاشفاق" ، إذن كان طه مؤمنا مقتنعا بمنهج الإمام الأكبر في التجديد ، لكنه يرى كما هو واضح من وصفه لشيخه الأول أنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا فالتجديد في التعليم كما فهم ذلك الشيخ أن لا يقرأ على تلامذته مثلا من الكتاب وإنما يعلمهم مباشرة وأن لا يعطهم إعراب بسم الله الرحمن الرحيم الذي كان يرهق التلاميذ صعدا بل يبتدر تلاميذه بتعليمهم الاعراب نفسه ، لكن ذلك ليس ما آمن به طه حسين من دعوة لتجديد التعليم التي كان محمد عبده مؤمنا بها داعيا لها ، والتي قدر لصاحبنا فيما بعد أن يكون فارسها الحقيقي ، الدعوة التي كانت تروم لفتح باب العقل والتفكير والنقد والبحث والكف عن الاكتفاء بالترديد والحفظ وتكرار القديم كأنه مسلمات لا يرقى إليها الشك ، وكل ما يلزم ذلك من متطلبات العلم الحديث والانفتاح على معارف الغرب وعلومه .أخطأ طريقها على ما يبدوا عندما أتى بزبالة الغرب علينا بأسم التطوير .
عندما أراد التبعية لنا ونحن خلقنا قادة لجميع الأمم متبوعين لا تابعين ......
هكذا نطق كتابنا بالحق .....
وإلى يومُ الدين .....
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران :110(1/6)
أنتم - يا أمة محمد - خير الأمم وأنفع الناس للناس, تأمرون بالمعروف, وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وتنهون عن المنكر, وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا وتصدقون بالله تصديقًا جازمًا يؤيده العمل. ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله كما آمنتم, لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة, منهم المؤمنون المصدقون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم العاملون بها, وهم قليل, وأكثرهم الخارجون عن دين الله وطاعته.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور : 55
وعد الله بالنصر الذين آمنوا منكم وعملوا الأعمال الصالحة، بأن يورثهم أرض المشركين، ويجعلهم خلفاء فيها، مثلما فعل مع أسلافهم من المؤمنين بالله ورسله, وأن يجعل دينهم الذي ارتضاه لهم- وهو الإسلام- دينًا عزيزًا مكينًا، وأن يبدل حالهم من الخوف إلى الأمن، إذا عبدوا الله وحده، واستقاموا على طاعته، ولم يشركوا معه شيئًا، ومن كفر بعد ذلك الاستخلاف والأمن والتمكين والسلطنة التامة، وجحد نِعَم الله، فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله.
جاء ابن خالته ليساكنه ويرافقه وهو في مثل سنة مزيلا بذلك عن نفسه غمة العزلة المقيتة وساعاتها الطوال التي كان يقضيها وحيدا مهملا ، فمنذ تلك اللحظة صار لطه خليل يلزمه ويسري عنه وحدته ويصحبه من درس لدرس ومن مسجد لمسجد ، والأهم أن يقرأ له ما تيسر قراءته وفي هذا لذة عقل طه المتعطش للعلم.(1/7)
خلا طه لشرح الكفراوي في النحو على أحد المشايخ وكان هذا الشيخ غليظ الطبائع كأغلب مشايخ ذلك الزمن ويفسر لنا طه لماذا كان الطلبة لا يجرؤون على سؤاله أو مناقشته " كان سريع الغضب لا يكاد يسأل حتى يشتم فإن ألح عليه السائل لم يعفه من لكمة إن كان قريبا منه، ومن رمية بحذائه إن كان بعيدا من مجلسه ... وكانت نعله مليئة بالمسامير وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى. ففكر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه!" ، ويصف لنا فيما يصف أن الإذن بشتم التلاميذ وضربهم يناله الشيخ ضمنا بنيله الدرجة.(1/8)
وعاد طه في أول إجازاته لقريته حاملا معه ما تيسر له حمله من البحر الذي لا ساحل له ، ولم تمضي أيام إلا وبدأ طه صدامه مع أبيه حين قال في قراءته للدلائل : قراءتها عبث لا غناء فيه. فاستهجن منه ابوه ذلك وقال : أهذا ما تعلمته في الازهر؟ فرد طه : نعم وتعلمت أن كثيرا مما تقرؤوه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع ، فما ينبغي أن يتوسل الانسان بالانبياء ولا بالأولياء، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة ، وإنما هذا لون من الوثنية. إكفهر وجه الأب لهول ما سمع ورده ردا عنيفا : اخرس قطع الله لسانك لا تعد إلى هذا الكلام وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية ولأقطعنك عن الأزهر ولأجعلنك فقيها تقرأ القرآن في المآتم والبيوت. لم تزد هذه القصة طه إلا إصرارا وعنادا من هنا نذر طه نفسه لمحاربة الجهل والتعلق بالخرافات ونذر نفسه من أجل الحق لأن الحق أحق أن يتبع دائما حيث وجد مهما كانت المعارك التي قد تتولد من ذلك لكنه كان هذا تماما محراك طه حسين ليس الصبي فحسب بل طه حسين في كل ما كان منه وحوله وظل أبدا الإنسان الذي يثير زوبعة حيث حل ذكره وتبادرت الأذهان ما كان من شأن هذا الإنسان، ومما يذكر بخصوص تلك القصة التي دارت مع أبيه حول دلائل الخيرات ومنازل الأولياء يسرد طه ما أراه درسا فريدا في التعامل مع الشخصية المصرية ، ومدخلا كذلك لإيصال العلم فأبوه الذي هاله رد طه عليه بخصوص قراءة الدلائل ومنازل الأولياء عاد يسأله في غيرما وقت كيف ينفق وقته في القاهرة ؟
فرد طه أنه ينفقه في زيارة الأولياء وقراءة الدلائل!(1/9)
فانفجر الحضور بالضحك وأولهم أبوه الشيخ ، لتلحظ معي أمرين أولهما مرونة الانسان المصري البسيط وأنه وإن كان ينكر بقوة الغريب عن ما توارثه ورسخ في صدره لكنه يعود إليه سائلا مفتشا عن كنه هذا الرأي الغريب ، متقبلا رويدا رويدا إمكانية التفكير فيه ، لأن بذرة الشك لا تلقى لديه أرضا بورا وإنما عقلا مهما أحكمت أقفاله لن يستعصي على تلقي بذرة الشك وإنبات أوراقها وارفة مظلة ، إنها بذرة الشك التي عرف طه الصبي الأزهري قيمتها مدخلا في الفكر قبل أن يعرفها منهجا فلسفيا كلف به أشد الكلف وهو منهج الشك الديكارتي "1" الذي تعلمه في السوربون.
لم يلبث رأي طه في الكرامات والأولياء أن ذاع وفشي في قريته فأنكره عليه المنكرون وقال بعضهم :"إن هذا الصبي ضال مضل قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها ليضل الناس."
لكنهم صاروا يلحون في طلبه ومجادلته فيها وجلهم ينصرف عنه مستغفرا الله من الذنب العظيم مستعيذا به من الشيطان الرجيم.
___________________________________
1 ) المنهج الديكارتى : ينسب لفيلسوف اسمه ديكارت ويسمى منهج الشك ، أى أن الشك هو خطوة التأمل الفلسفى الأولى .
عاد طه للأزهر أشد كلفا وولعا فلم يكن ليكتفي بدروس الأزهر بل صار يروم غيره من المساجد المحيطة به يتلقى من هنا وهناك وعلى هذا الشيخ وذاك ، متنقلا بين الأزهر ومسجد محمد بك أبي الذهب ومسجد الشيخ العدوي ، وكان طه لجب السؤال كثير الجدال يرهق شيخه صعدا ، لذا كان لا يحب الجلوس إلا لمن يرضى بالمجادل من الطلبة وما أقل هؤلاء حتى يومنا هذا ، ويتذكر طه حسين شيخه الذي أحتد جداله معه حول علامة الفعل قد حتى صاح الشيخ :"الله يحكم بيني وبينك يوم القيامة"!
يستذكر بإكرام شيخه هذا الذي ربت على كتفه بعد الدرس وقال له :"شد حيلك الله يفتح عليك".(1/10)
أمضى سنته الثالثة وما أحس أنه أصاب فيها شيء من العلم إلا أقله وضاقت بأسئلته الحلقات وتكلف الصبر فما أطاقه وأكثر الشيوخ طرده من حلقاتهم ما أن خالفهم الرأي أو جادلهم ، فضاق بهم طه كما ضاقوا به وكاد ينصرف عن العلم وأخذه وما كان يدرك غير الأزهر أن ذاك له بابا ، حتى اهتدى إلى درس الأدب الذي غير مساره وأشبع نهمه للمعرفة وفتح أمامه مجاهيل هوى لها عقله وفؤاده معا.
أدبيات التلفيق والتدليس
عندما يجد المرء نفسه حائراً تائها بين ماضيه وحاضره
ولا يعرف كيف يخرج الحقيقة وكأنه من عاشها وذاق وبالها
هنا ينطق الأديب ليخرج لنا ما لا يقوى على قوله عن شخصه
وعن ما وجده فى بلاد التطور فيظهر لنا الأعمى وكأنه يبصر مالا يبصره المبصرون ويسد آذان قلبه التى أصابها الصمم وهى فى باريس عن المقارنة بين العفة والرذيلة وبين الطهارة والنجاسة والمسمى الذى خلع به ملابسه وعمامته ... تطور !!
تأمل معى كلام الدكتور والناقد الأدبى : جمال حمداوى
وهو يصف حقيقة الأدب عند قليل الأدب وهو يصف شخصية أديب فى روايته وكأنه يصف نفسه ويصف ما لآقاه فى بلاد الحرية والتطور ...
يعد الدكتور طه حسين من أهم كتاب السيرة في أدبنا العربي الحديث سواء أكانت ذاتية أم غيرية، وقد بدأها بالسيرة الدينية كما في كتابه "على هامش السيرة" لينتهي بكتابة السيرة الأدبية الذاتية كما في رائعته "الأيام" أو السيرة الذاتية الغيرية كما في عمله الإبداعي "أديب" علاوة على كتابته المتواصلة لسير المبدعين والأدباء في الأدب العربي القديم والحديث كما في "حديث الأربعاء" و"صوت أبي العلاء" و"ذكرى أبي العلاء" و"مع المتنبي" و"حافظ وشوقي".ويتميز طه حسين في كتابة سيره بأسلوب الإسهاب والاستطراد والإطناب وتمثل مقومات المدرسة البيانيةصياغة وكتابة لإثارة المتلقي وتشويقه. كما يطبع كتاباته وسيره(1/11)
الجانب الذهني الثقافي والطابع الإنساني كما في سيرته الممتعة "أديب" التي سنحاول مقاربتها من خلال خصائص الرواية ومرتكزات الخطاب الأوطوبيوغرافي والبيوغرافى إن مضمونا وإن شكلا.
1- عتبة المؤلف:
ولد عميد الأدب العربي في صعيد مصر سنة 1889م من أسرة متدينة محافظة تحب العلم والعمل كثيرا. ودرس طه حسين في الكتاب وحفظ القرآن الكريم، وانتقل إلى الأزهر بالقاهرة حيث أظهر هناك تفوقا كبيرا في الدراسة وحب العلم، وامتلك ناصية الحوار والجدل والمناظرة، إذ كان يدخل في حوار علمي تجديدي مع شيوخه، في حين كان هؤلاء ينفرون من جدله وملاحظاته؛ مما كانوا سببا في إخفاقه وعدم حصوله على الشهادة العالمية. انتظم بعد ذلك في الجامعة الأهلية وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي القديم حول ذكرى أبي العلاء المعري، وقد طبقالمنهج السوسيولوجي في رصده لشخصية أبي العلاء تأثرا بأساتذته المستشرقين ولاسيما أستاذه الإيطالي كارلو نالينو. وبعد ذلك أرسل في بعثة إلى فرنسا لمتابعة دراساته الجامعية العليا، وهناك تعرف على حضارة الغرب وانبهر بها انبهارا إيجابيا.(1/12)
هذا،وقد تفوق طه حسين في دروسه وأبحاثه في فرنسا وعاد إلى بلده بدرجة الدكتوراه حول "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون". وكانطه حسين من الأوائل الذين درسّوا في الجامعة المصرية بطرق جديدة وبمناهج أكثر حداثة وعصرنة تعتمد على الشك والتوثيق والتحليل العلمي من أجل الوصول إلى اليقين الصحيح، وكان يحاضر في الأدب العربي القديم ولاسيما الجاهلي منه وقد أثار ضجة كبرى بسبب آرائه الجريئة الجديدة كما يظهر ذلك جليا في كتابه القيم "في الشعر الجاهلي". وفصل عن الجامعة وأعيد إليها مرة أخرى. وعين بعد ذلك وزيرا للمعارف المصرية إبان حكومة الخديوي. وتوفي سنة 1973م عن عمر يناهز 84 سنة خصصها طه حسين للكتابة والنشر والإبداع والنقد، ودخل في معارك أدبية عدة مع عباس محمود العقاد ومصطفى المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي....
2- عتبة العنوان:
صيغ عنوان هذه السيرة الأدبية في كلمة واحدة وهي خبر مبتدإ محذوف تقديره "هذا أديب"، وبهذا يكون المتن القصصي بمثابة تمطيط وجواب وخبر لهذا المبتدإ الاسمي. ويحيل العنوان على الشخصية المحورية في هذا العمل الأدبي وهوشخص يمارس الأدب، ومهمة الأديب جليلة وصعبة، إذ يضحي صاحبه بنفسه من أجل أن يسعد الآخرين ويبلغ لهم كل ما تجود به قريحته من مخيلات ذاتية وتجارب موضوعية ليستفيد منها القراء والمتتبعون للمنتج الأدبي.(1/13)
-وتلتقط هذه السيرةتجربة أديب مهووسبداء الأدب سيجره إلى الجنون والهلاك والتفريط في مستقبله وتحطيم كل سعادته التي بناها بعمله وصبره وإخلاص الزوجة له: "لست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولبه كصاحبي هذا. كان لا يحس شيئا، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئا ولا يرى شيئا ولا يسمع شيئا إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس، وما شعر وما قرأ، وما رأى وما سمع... وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار، وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه، أسرع إلى قلمه
وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أمام عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح. ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائما كما كان يكتب يقظا، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك، كما يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها. وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا".(1)(1/14)
ويتسم عنوان هذه السيرة الروائية بالاختصار والإيجاز والتكثيف والتلميح الكنائي، كما يحوي هذا العنوان مكونا شخوصيا على غرار الرواية العربية الكلاسيكية فى المنتصف الأول من القرن العشرين حيث كان الروائيون يختارون الأسماء الذكورية والأنثوية عناوين لأعمالهم الأدبية والإبداعية على غرار الرواية الأوربية (مدام بوفاري لستندال مثلا)، ومن بين هذه العناوين الشخوصية في الرواية العربية "سارة" للعقاد، و"زينب" لمحمد حسين هيكل، و"علم الدين" لعلي مبارك، و"ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، و"إبراهيم" و"إبراهيم الثاني" لعبد القادر المازني،و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم و"حكمت هانم" لعيسى عبيد و"عذراء دنشواي" لطاهر لاشين...
3- التعيين الجنسي:
يندرج النص الذي بين أيدينا ضمن السيرة الروائية أو فن السيرة الأدبية أو ضمن الخطاب الأوطبيوغرافي أو البيوغرافي. ويعني هذا أن "أديب" سيرة أدبية فنية، ولكنها ترجمة غيرية يتولى الكاتب ترجمة الحياة الشخصية لصديق له يمارس حرفة الأدب ويعيش بها انتشاء وافتتانا. ولكن هذه السيرة يتداخل فيها ماهو ذاتي وغيري. أي إن النص سيرة للذات الكاتبة وهو حاضر بأسلوبه وضميره وتعليقاته وكل المؤشرات التلفظية التي تحيل عليه. كما ترصد هذه الذات الكاتبة حياة صديقه الأديب من زاويته الشخصية وعبر الكتابات التي كان يرسلها إليه صديقه في شكل رسائل وخطابات ومذكرات.(1/15)
وعليه، فهذه سيرة من نوع جديد فهي ليست كالسيرة الذاتية التي نقرأها في "الأيام" لطه حسين أو "حياتي" لأحمد أمين أو "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون أو "حياة سلامة موسى" لسلامة موسى... وهي ليست سيرة غيرية تعتمد على التسجيل والترجمة التوثيقية أو الأدبية، بل النص يجمع بين هذين الفنين، ويعني هذا أن الكتاب سيرةغيرية ذاتية وذلك لتداخل الذاتي في الغيري والعكس صحيح. ومن الأدلة على حضور السيرة الذاتية في الكتاب الارتكاز على ضمير التكلم واستحضار التجربة الذاتية والإحالة على طه حسين في الأزهر والجامعة وباريس، والإشارة إلى عمى الكاتب واستعانته بخادمه الأسود الذي كان يرافقه، وإشارته إلى كثير من معالم قريته في الصعيد وهي نفس الملامح والقسمات التي كانت تشير إليها سيرته الذاتية "الأيام". وتعني هذه المطابقة بين السارد والكاتب أن هذا العمل سيرة ذاتية حيث يسترجع الكاتب فيها حياته الشخصية وعلاقاته مع أصدقائه بطريقة ضمنية حيث ينظر إلى نفسه في مرآة الآخر، ويقارن نفسه بالأدباء الآخرين الذي أودى بهم العبث والانحلال الخلقي إلى الهاوية والجنون ولوثة العقل والهستيريا. ومن الأدلة على كون هذه السيرة ذاتية
وغيرية الجمع بين ضميري التكلم والغياب، والانتقال من ذات الكاتب إلى ذات صديقه الأديب: "فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس، ثم أدركته في باريس بعد أن سبقني إليها. عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة، كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات، حريصا عليها مشغوفا بها معتزما أن لا أضيع حرفا مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائما قريبا من الأستاذ."
وعندما ينتقل الكاتب إلى تصوير صديقه الأديب يقوم برصده وتبئيره من خلال منظاره الذاتي ويقدمه من زاوية الغياب، ولكن عبر رؤية ذاتية تتساوى فيها معرفة السارد والكاتب على حد سواء.(1/16)
ومن مقومات خطاب السيرة في الكتاب حضور ظاهرة الالتفات من خلال الانتقال من ضمير التكلم إلى ضمير الخطاب والغياب على عادة طه حسين في كتابة سيره التاريخية والأدبية، والتماثل بين الراوي والمؤلف الخارجي من خلال تشابه سيرهما تخييلا وتوثيقا، والاعتماد على تقنية الاسترجاع والتذكر في سرد الحياة الشخصية الداخلية لصديقه الأديب ولحياته بطريقة موحية تعتمد على التلميح الضمني. كما تستند السيرة هنا إلى استخدام الزمن الهابط وتفتيت ذاكرة الماضي إلى لوحات فنية تعتمد على فلاش باك وتنوير الماضي على ضوء الحاضر، وتتبع الشخصية في نموها الديناميكي حتى صعودها المادي والمعنوي مع تسجيل مسارات الإخفاق والفوز والانتصار.
وتدل هيمنة الأفعال الماضية على استرجاع الزمن المفقود وتبيان الصراع الذاتي والموضوعي الذي عاشه الأديب في مجابهته للواقع وصراعه مع نوازعه الذاتية. وما المذكرات والرسائل واليوميات المثبتة داخل المتن الروائي سوى أدوات للتذكر والاسترجاع قصد فهم شخصية الأديب وتفسيرها على ضوء الظروف الذاتية والموضوعية التي مر بها.
ويحضر الذهني داخل هذه السيرة على غرار سيرة "أوراق" الذهنية لعبد الله العروي التي يسرد فيها مسار إدريس التربوي والعلمي والثقافي والمعارف التي اكتسبها ومشاركاته الأدبية والنضالية التيكانت تعبر عن مستواه المعنوي وطبيعة ثقافته ورؤيته الإيديولوجية.(1/17)
ومن خصائص السيرة في هذا النص التذويت والانطلاق من الرؤية السردية التي يتداخل فيها المنظور الداخلي والمنظور الصفري الموضوعي المحايد، أي يزاوج الكاتب داخل نصه الروائي بين الرؤية "مع" والرؤية من الخلف، ويعني هذا أن الكاتب من خلال خاصية الالتفات ينتقل من رؤية محايدة تعتمد على التبئير الصفري لينتقل إلى رؤية ذاتية داخلية، كما ينتقل من ضمير التكلم إلى ضمير الغياب والعكس صحيح كذلك. كما أن الكاتب والشخصية يتناوبان على مسار الحكي، فالكاتب يستعمل السرد في الحكي، والأديب يتكئ على الكتابات والحوار والرسائل والمذكرات واليوميات في إيصال صوته، كأن هذه السيرة بداية للرواية الحوارية العربية إذ نلفي كل شخص يعبر عن وجهة نظره، ويترك الكاتب الحرية للقارئ لكي يختار الرؤية الصحيحة في التعامل مع الحياة والحكم على الشخصية الروائية.
وعلى الرغم من كون هذا العمل الأدبي نصا يجمع بين الأوطوبيوغرافيا والبيوغرافيا، فإننا سنتعامل معه على أنه نص روائي مادام يمتلك كل الخصائص التي تستند إليها الرواية كالمقومات القصصية والسردية علاوة على خاصية التخييل الفني والتشويق الأدبي.
4- عتبة الإهداء:(1/18)
إذا كانت ظاهرة الإهداء معروفة في الثقافة الغربية وأصبحت تقليدا ثقافيا معهودا عند الكثير من الكتاب والروائيين، فإن هذه الظاهرة موجودة كذلك في أدبنا العربي قديما وحديثا، ولكن ليس بالشكل والكم اللذين نجدهما في الثقافة الغربية. ويعد طه حسين من أهم الكتاب الروائيين الذين سبقوا إلى الاهتمام بظاهرة الإهداء كما هو مثبت في بداية سيرته "أديب" حيث يهدي عمله إلى أعز صديق لديه والذي كان بجانبه يواسيه عندما طرد من الجامعة ظلما، وكان أيضا من المهنئين الأوائل عندما أعيد المؤلف إلى الجامعة ليستكمل التدريس فيها. لذلك فالإهداء المثبت في أول الكتاب هو إهداء الصداقة والأخوة وميثاق الوفاء والإخلاص بين المهدي والمهدى إليه. ويرد الإهداء هنا في شكل نص مقطعي تحية للمهدى إليه مليئة بالصدق والمحبة والإخاء والإخلاص.
وسنترك القارئ يتدبر هذا الإهداء ويتفرس معانيه ويتأمل طريقة صياغته والمقصدية التي يرومها من خلال هذا الإهداء الإخواني المعبر:
"أخي العزيز
وددت لو أسميك، ولكنك تعلم لماذا لا أسميك، وحسب الذين ينظرون في هذا الكتاب أن يعلموا أنك كنت أول المعزين لي حين أخرجني الجور من الجامعة، وأول المهنئين لي حين ردني العدل إليها.
وكنت بين ذلك أصدق الناس لي ودا في السر والجهر وأحسنهم عندي بلاء في الشدة واللين.
فتقبل مني هذا العمل الضئيل تحية خالصة صادقة لإخائك الصادق الخالص".(3)
5- المستوى الدلالي والحدثي:(1/19)
يرصد طه حسين في عمله الأدبي "أديب" سيرة صديق له يمارس الأدب والتفكير من أجل خدمة الناس وإسعادهم. وكان هذا الأديب أعز الأصدقاء إلى الكاتب، إذ عاشره كثيرا منذ افتتاح الجامعة المصرية الأهلية رفيقا وصديقا. وقد تعرف عليه الكاتب داخل حرم الجامعة وخاصة في قاعة المحاضرات؛ لأنه كان يتكلم بصوت جهوري غليظ صاخب؛ مما كان يعرقل عملية الإنصات و سماع الطلبة لأساتذتهم أثناء إلقائهم لدروسهم ومحاضراتهم. وكان الكاتب عاجزا عن متابعة الدروس والسماع إلى الأساتذة في هذا الجو الذي يسوده الضجيج وصخب الكلام والتشويش المتواصل الذي يربك عملية التواصل والتفاهم بين الطلبة وأساتذتهم.وهذا التصرف الشائن الذي كان يصدر من هذا الأديب هو الذي دفع بالطلبة الآخرين إلى الهروب منه وعدم الجلوس في المدرج الذي يجلس فيه، لأنه أصبح مزعجا بثرثرته التي حولت الجد إلى هزل وإزعاج للآخرين. وكان الأساتذة المحاضرون يتدخلون مرارا ليمنعونه من الاستمرار في حديثه الصارخ أو التمادي في كلامه العابث فيسكتونه عنوة ولوما. وهذا ما دفع بهذا الأديب إلى معاتبة الكاتب السارد وأصدقائه من الأزهريين على ماصدر منهم من سلوكيات تسيء إليه، ومن هنا بدأت لحظة التعارف والتفاهم بين الأديب والكاتب.
ويتبين لنا من وصف الكاتب أن صديقه الأديب ذميم الوجه وقبيح المنظر والشكل، وصوته غليظ جدا يثير الرعب والخوف، صاخب في كلامه وثرثار في حديثه، يستعمل الصور الأدبية ويحول الجد إلى الهزل.وهو من أسرة ريفية غنية في أقصى الصعيد، جاوز الثلاثين من
عمره، يبدو منحني القامة من شدة القراءة والكتابة، يكتب النثر والشعر معا. كما أنه أتم درسه الثانوي منذ أعوام، واتصل بوزارة الأشغال يعمل فيها كاتبا في بعض الدواوين يقصدها في وجه النهار، أما آخر النهار وجزء غير قليل من الليل فقد خصصه للقراءة والدرس والإبداع والكتابة.(1/20)
وقرر الأديب أن يعقد صلة وصل ومحبة بينه وبين صديقه الكاتب الذي كان ضرير العين يقوده خادمه الأسود أينما حل وارتحل. وستودي هذه الصلة الحسنة بالأديب إلى أن يتخذ زميله الكاتب صديقا له في الدروس وخليلا له يطلعه على حياته الشخصية الخاصة به لما عرف عنه من وفاء وإخلاص ونزاهة وحب علم. وكان يستصحبه الأديب إلى منزله المتواضع الذي يقع في أعالي مرتفعات القاهرة. ويعد أن ينتهيا من لقمة العشاء وشرب الشاي يدخل الصديقان في حوار حول دروس المنطق وأصول الدين والفقه ومادة اللغة الفرنسية التي كان الكاتب يجد فيها صعوبة كبيرة في اكتسابها وتعلمها، وغالبا ماكانت هذه الحلقات الثقافية تتحول إلى مسامرات شخصية لا فائدة منها ولا طائل.
وبعد فترة من الزمن، قررت الجامعة أن ترسل بعثة علمية إلى الخارج لمتابعة دراساتها العليا في فرنسا، وكان الأديب من بين أعضاء البعثة نظرا لكفاءته وتفوقه في امتحان الانتقاء. بيد أن الأديب كان يجابه مشكلا عويصا هو زواجه من حميدة بنت قريته الجميلة التي رضيت الزواج به على الرغم من أن جل فتيات القرية رفضنه لذمامته وقبحه البشع. وهنا يلتجئ إلى الكاتب ليستشيره في هذه القضية العويصة التي أوقعت الأديب في حيرة كبيرة وجعلته معلقا في منزلة بين المنزلتين: الظلم والكذب.(1/21)
وبعد لأي وجهد في التفكير، اهتدى الكاتب إلى أن يطلق زوجته بدلا من الكذب على الجامعة، لأن الطلاق على الرغم من حكم الكراهية فهو حلال، فأبغض الحلال عند الله الطلاق. لكن صديقه الكاتب رفض هذا الحل واعتبره سلوكا شائنا، وطالبه أن يبقى في القاهرة مع زوجته بدلا من المغامرة والبحث عن العلم في بلدان الغرب، وهذا العلم يوجد حتى في بلده مصر. لكن الأديب رفض وجهة نظره وعزم على الطلاق وصمم على السفر في أقرب الأوقات. وهكذا ودع مطلقته حميدة وأرسلها إلى قريته حزينة ذليلة. وقبل مغادرة البلاد، ودع والديه العجوزين اللذين لم يرضيا على سفره المفاجئ إلى أرض الغربة وتمنيا أن يمكث ولدهما قريبا منهما.
وسافر الأديب عبر الباخرة إلى فرنسا واستقر أياما في مرسيليا ريثما ينتقل إلى باريس. ولكنه لما رأى فتاة في إحدى فنادق مارسيليا اندهش لجمالها وعذوبة لسانها فارتمى في أحضان حبها وانغمس في الشهوات ولذة الخمر وكل المحرمات، ولم يستطع الصبر و الابتعاد عن "فرنند"خادمة الفندق التي يتخيلها كثيرا في أحلام اليقظة والمنام وفي هذياناته الشبقية.
وتأخر الأديب كثيرا في اللحاق بباريس رغبة في استكمال متعته والاستمتاع بفاتنته الجميلة التي تختلف اختلافا جذريا عن زوجته حميدة في مصر.
وعندما التحق بباريس أظهر خبرة عالية وتفانيا كبيرا في الدروس والحضور إلى جانب أساتذته، لكن سرعان ما سيدفعه تهوره اللاأخلاقي إلى التقاعس والكسل والخمول والغرق في المسكرات والاستمتاع الشبقي، وسيصاب بعد ذلك بالجنون والهذيان وكثرة الأمراض العضوية والنفسية التي بدأت تنتابه في كل لحظة، وازدادا حيرة وجنونا مع اشتداد الحرب على(1/22)
باريس، ومطالبة الحكومة المصرية لأعضاء البعثة بالرجوع فورا إلى البلد إلى أن تستقر الأمور المالية والسياسية وتضع الحرب أوزارها. لكن الأديب امتنع عن الانصياع لأوامر السلطة الحكومية، وبقي في فرنسا يبحث عن لذته بين كؤوس الخمر وسيقان المتعة والافتتان.
بعد هذه البعثة الأولى، سترسل الحكومة المصرية دفعة أخرى وسيكون الكاتب ضمنها، وعندما سيصل إلى باريس سيندهش كثيرا للوضع الذي آل إليه صديقه الأديب الذي أودت به الأيام إلى الجنون وفقدان العقل وأصبح لا يغادر المصحات النفسية والعضوية، وقد يئس الأطباء من شفائه وسلامته.
ومن هنا سيخسر الأديب زوجته حميدة التي طلقها وتركها تنتظره على جمر اللظىوالأمل الخادع حتى يستكمل دراسته، كما ترك والديه يتعذبان ويشتاقان إليه كثيرا وهو لايكن لهما أي شيء من الطاعة والحب والاحترام، بعد أن أودت به الغربة الذاتية والمكانية إلى عالم الشهوة والجنون، و ضيع كذلك مستقبله ودراسته وحياته العلمية لما استسلم لدواعي الخمرة وغرائز الجسد وانساق وراء انفعالاته النفسية ورغباته الشبقية.(1/23)
الكثير من المثقفين العرب في بداية القرن العشرين انبهروا كثيرا بحضارة الغرب وانساقوا وراء نزواتهم وكانت رؤيتهم بالتالي للغرب على أنه رمز للحرية والعلم والتقدم والإشباع الغريزي لكل المكبوتات الدفينة، وهذا ما عبرت عنه الكثير من الروايات العربة كرواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الأيام" لطه حسين و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي. ومن ثم، تصور هذه الرواية البيوغرافية الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، والتقابل بين عالم الكبت وعالم التحرر، وبين عالم التخلف وعالم التقدم، وبين الانحطاط الحضاري والرقي المدني. لذلك كان ينظر الأديب إلى مصر وزوحته حميدة بنظرة تغاير نظرته إلى فرنند وفرنسا. إذاً، هناك جدلية وتفاوت بين هذين الفضاءين حتى إن الأديب لم يرتض العودة إلى بلده لما قامت الحرب على فرنسا، وكان يتمنى الدفاع عن هذا البلد في وجه النازية؛ لأن هذا البلد يقترن في ذاكرته بالحب والحرية والإشباع الشبقي، أما بلده فيقترن بالكبت والحرمان وصعوبة المسؤولية.
7- المقومات القصصية والسردية:
أ- الحبكة السردية:(1/24)
تنبني حبكة هذه السيرة التي سنتعامل معها كنص روائي على خمسة مقومات رئيسية منها البداية التي تظهر لنا الأديب في وضعية الرجل الكفء و المثقف الموسوعي في مجال العلم والمعرفة على الرغم من صورته البشعة المقززة، والعقدة التي تتمثل في انصرافه عن زوجته حميدة وعائلته وبلده بحثا عن العلم لتحقيق حياة مستقبلية سعيدة. أما الصراع فيتجلى في مواجهة الأديب لذاته وتصديه للعراقيل التي تكاد تمنعه من السفر إلى الخارج ومحاولته الجادة لإقناع والديه بما قد عزم عليه، وفشله أمام الحب الشديد الذي كان يكنه لخادمة الفندق بمرسيليا ومجابهته للجهل والحرب، وفشله أمام مرضه الهستيري الذي أصيب به من جراء انحرافه سلوكيا وإفراطه في السهر والشرب والانحلال الأخلاقي. ويكمن الحل في الانعزال والانطواء على النفس في المستشفيات النفسية بحثا عن العلاج والراحة، وتختم السيرة بنهاية تراجيدية تتمظهر في إصابة الأديب بلوثة الحمق والجنون.
ب- خصائص الشخصيات في السيرة:(1/25)
ومن أهم الشخصيات الموجودة في النص نذكر الشخصيتين المحوريتين: الأديب و الكاتب، فشخصية الأديب شخصية محورية أساسية دينامكية ومركبة ونامية؛ لأنها تتغير حسب إيقاع النص الروائي السيروي، إذ ننتقل من شخصية ذات باع في الأدب والشعر تهتم بالعلم والثقافة وتقرأ الكثير إلى شخصية ظالمةللزوجة وعاقة لوالديها لينتهي بها المطاف لتكون شخصية منحطة مصابة في عقلها بعد انحرافها وتدهور أخلاقها واستسلامها للشهوات والغرائز المادية. أما الكاتب فشخصية بسيطة تحافظ على نفس إيقاعها ودماثة أخلاقها، ولم تنبهر بحضارة فرنسا كما انبهر بها الأديب ولم تنغمس في ملذات الدنيا كما انغمس فيها الآخر، لذلك نجد شخصية الكاتب شخصية مغايرة ومقابلة للشخصية الأولى التي سقطت في الرذيلة والدنس الأخلاقي. ومن ثم، يحاكم طه حسين كل أديب يفرط في رسالة الأدب ويحولها إلى وجهة غير صحيحة،حيث يقرن مهمة الأدب بسوء الأخلاق والارتماء في أحضان الموبقات والتخلي عنمقومات التربية الإسلامية الصحيحة.وما ينبغي أن نأخذه من الغرب حسب المؤلف هو العلم والتكنولوجيا والفكر، وألا نأخذ السلبيات ونسقط في مهاوي الشر والدناءة والرذيلة باسم الأدب والشعر. وهذا يذكرنا بمصير كثير من الكتاب الغربيين والعرب الذين أودى بهم المآل إلى الحمق والجنون والانتحار والموت مثل: بودلير وريمبو وهمنغواي ونتشه وخليل حاوي....ولكن التحلل من الأخلاق والعربدة والمجون والتسكع في الشوارع لايخلق الأدب ولا يسمو برسالة الأديب أو يعلو بها، بل على العكس يقدم صورة مشوهة قاتمة تسيء إلى الأدب ويصبح بذلك نقمة وعارا على صاحبه وعلى مريدي الأدب والفن.(1/26)
وإذا كانت شخصية الكاتب مثالية في نبل أخلاقها وطيبوبة محتده وكرم سلوكه، فإن الأديب عبارة عن شخص عابث لا يبالي بالآخرين وخاصة زوجته حميدة التي همشها وطلقها بكل سهولة كأنها لعبة سريعة التخلص منها في أي وقت يريد فيه أن يتخلص من ذويه، والتمادي كذلك في الابتعاد عن والديه العجوزين اللذين يتشوقان إلى رؤيته ويتمنيان أن يكون ابنهما قريبا منهما. من هنا، فأديبنا شخصية أنانية وذميمة في كل شيء، لذلك فأوصافها البشعة الدنيئة تدل على طبائعها الأخلاقيةأيما دلالة.
وثمة شخصيات ثانوية وعابرةأخرى يستحضرها المؤلف داخل السياق الروائي السيروي كالخادم الأسود وحميدة والوالدين وفرنند وأخ الكاتب، وهذه الشخصيات لها دور تكميلي وهامشي حيث يستدعيها الكاتب كعوامل مساعدة عبر صور التذكر والاسترجاع والاستيحاء كما يسترجع شخصيات تناصية أدبية أخرى كأبي العلاء المعري والمتنبي والأخطل وموسيه...
ت- الفضاء الروائي في السيرة:
ويتقابل في هذه السيرة فضاءان متناقضان: فضاء مصر وفضاء فرنسا،فالفضاء الأول يمثل بالنسبة للأديب فضاء التخلف والانحطاط والكبت والحرمان والتقاليد الموروثة البالية، في حين يمثل له فضاء فرنسا الحضارة والتقدم والرقي والعلم والأدب الحقيقي، و يجسد له أيضا الحرية والإشباع الغريزي والارتماء في أحضان اللذة والشهوة المادية الإيروسية. كما تمثل لهفرنسا كذلك الجمال والاستقرار الروحيوالارتواء بالحب الفاتن والسعادة الشبقية الدنيوية.(1/27)
ويعكس هذا التداخل الجدلي بين فضاء منغلق وفضاء منفتح الصراع الحضاري بين الشرق والغرب والأصالة والمعاصرة والهوية والاغتراب والمادة والروح. ومن ثم، تبقى صورة الأوربي لدى المثقف الشرقي المنبهر مثل هذا الأديب صورة إنسان متقدم يمتلك العلم في نفس الوقت يمتلك الجسد والجمال وهذا مالا يوجد في الشرق. إن هذه الصورةانبهارية سطحية ترى الغرب على أنه كله إيجابيات، وتغفل الجانب السلبي الذي يتمثل في انهيار الأخلاق وانتشار الرذيلة والفاحشة وتردي الإنسان الأوربي ومعاناته من الفراغ الروحي.
كما يتقابل داخل فضاء مصر: فضاء المدينة (القاهرة) بمؤسساتها العمومية والرسمية والخاصة وشوارعها المليئة بالحركة والازدحام، وفضاء البادية الذي تغير أيما تغير بفعل الحضارة والمدنية الجديدة حيث شوهت معالم البادية المصرية وأتت على كل ما هو جميل في ذاكرة الكاتب.
ث- المنظور السردي:
وعلى مستوى المنظور السردي، نلاحظ تنوعا وانتقالا من المنظور الصفري الموضوعي المحايد إلى المنظور الذاتي الداخلي، كما ينتقل الكاتب من ضمير الغياب إلى ضمير التكلم والعكس صحيح كذلك، وبذلك تختلف مستويات المعرفة والحكي حسب كل منظور، ففي الرؤية الداخلية تتساوى معرفة كل من الراوي والشخصية، وفي المنظور الصفري تعلو معرفة السارد على معرفة الشخصية.
ومن مميزات الرؤية السردية في سيرة "أديب" أنها قائمة على خاصية الالتفات على عادة طه حسين في سيره وخاصة سيرة "الأيام" التي ينتقل الكاتب فيها من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. ولكن الهيمنة في هذا النص للرؤية "مع" الداخلية الذاتية التي يتساوي فيها السارد والشخصية على مستوى المعرفة.(1/28)
ويستهدف السارد في هذا النص السرد والتبليغ والتنبيه والتصوير والتنسيق بين الشخصيات والوصف والتشخيص وإدانة كل المثقفين والأدباء الذين ينبهرون بالحضارة الغربية عن جهل ودون وعي، وينساقون وراء غرائزهم وشهواتهم الدنيئة حتى يصابوا بلوثة الحمق والجنون والضياع والهلاك والموت.
ج- بنية الزمن السردي في السيرة:
ويتخذ الزمن في الرواية إيقاعا استرجاعيا، لأنه يقوم على الذاكرة وفلاش باك واستعادة الزمن المفقود والذكريات الدفينة. ومن ثم، فالزمن في النص زمن هابط على الرغم من كرونولوجية الأحداث وتعاقبها في مسار النص. ويعني هذا أن الكاتب ينطلق من حاضر الكتابة ويعود إلى الماضي ليستقرىء تجربة الأديب في صراعه مع نفسه ونزواته والواقع الذي يحيط به. ويشاركه في هذا الاستذكار الكاتب الذي يحيي فترة من حياته على مرآة صورة الآخر المقابل، ولكنه شبيهه في الهوية والدين والمكان.
وعلى الرغم من تواتر الأحداث وتعاقبها الكرونولوجي، إلا أننا نلاحظ توقفا كبيرا في مسار إيقاع الأحداث بسبب الوقفات الوصفية المملة المليئة بخاصية الإسهاب والاستطراد. ومن هنا يمكن تلخيص الرواية في ورقتين أو ثلاث ورقات على الأكثر، ولولا هذا الاستطراد والوصف الممل والمشاهد المقحمة لكان النص في صيغة أجناسية وأدبية أخرى. وهكذا نلاحظ أن(1/29)
الكاتب يحشو سيرته بالرسائل الطويلة والكتابات المسهبة والمذكرات المسترسلة، وكل هذا حشو في حشو واستطراد متشعب كان على الكاتب أن يتفاداه ويتجنبه، ناهيك عن الإكثار من التكرار الأسلوبي والتمطيط فيه تطويلا وتشعيبا وتوسيعا مع استخدام أساليب الانفعال والإنشاء التي يستعملها الكاتب كأنه يكتب مقالا إنشائيا يظهر فيه الكاتب فصاحته وبلاغته ومقدرته الإبداعية وكفاءته السردية والبيانية. وإلى جانب الإيقاع البطيء الناتج عن الوقفات الوصفية والمشهدية، فإن هناك إيقاعا سريعا يتمثل في الحذف لسنوات من الزمن في جملة ورقية كما في هذا المثال النصي: "وانقضى العام الأول والثاني والثالث من حياتنا في الجامعة على هذا النحو، لم يتقدم هو في درس المنطق ولم أتقدم أنا في درس الفرنسية، ولكننا تقدمنا في إدارة هذه الأحاديث الطويلة المختلفة التي تلم بكل شيء ولا تكاد تتقن شيئا، ولكنها تفتح القلوب لألوان من العواطف وتهيئ النفوس لضروب من الخواطر، وتغير الطريق التي كان كل واحد منا قد رسمها لنفسه في الحياة".(1/30)
وإذا كان الزمن استرجاعيا فهناك أيضا الزمن الاستشرافي الذي يحيل على أحلام المستقبل وتطلع الشخصيات إلى الغد السعيد من أجل تغيير أوضاعها التي هي عليها الآن: "كان يريد أن ينفق حياته موظفا يثقف نفسه ثقافة جديدة في كل يوم ويلتمس لذته في القراءة والكتابة والحديث. فأصبح أشد الناس بغضا لديوانه وزهدا في عمله، ورغبة في أن يهجر مصر ويعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي، وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه. وكنت أريد أن أكون شيخا من شيوخ الأزهر مجددا في التفكير والحياة على نحو ماكان يريد المتأثرون للشيخ محمد عبده أستعين على ذلك بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من الكتب المترجمة، وما أجد في الصحف، وما أتلفظ من أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد انصرافا عن الأزهر، ونفورا من دروسه وشيوخه، وحرصا على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه ولم يكن لصاحبي ولا لي إذا التقينا حديث إلا هذه الهجرة وأسبابها وإلا هذه الأحلام العريضة البعيدة التي لا حد لها، والتي تستأثر بنفوس الشباب حين يفرضون على أنفسهم بلوغ غاية بعيدة شاقة. حين تخيل إليهم آمالهم أن بلوغ هذه الغاية أمر يسير".
نلاحظ في هذا النص مجموعة من الأحلام والآمال المستقبلية التي يستشرفها كل من الكاتب والأديب وهي رهينة بمصداقية الواقع في المستقبل الذي قد يصدقها أو يكذبها.
ح- مميزات الأسلوب في السيرة:(1/31)
وإذا انتقلنا إلى أسلوب سيرته الروائية "أديب"، فنجد الكاتب يشغّل السرد بكثرة، كما يستعين بالحوار عن طريق اللجوء إلى المناظرة الأسلوبية التي تتجلى في الردود التي يسجلها الأديب على تساؤلات الكاتب واستفساراته والتواصل معه. فاستعمال الكاتب للمذكرات واليوميات والرسائل هو نوع من الكتابة الحوارية وهي سمة من سمات الحجاج والإقناع والمناظرة والجدل الثقافي والمنطقي.
ويوظف الكاتب إلى جانب المناجاة والحوار الداخلي الأسلوب الفانطاستيكي القائم على التحول الغرائبي والامتساخ الساخر: "ولست حمارا يا سيدي مهما يكن رأيكفي وفي ذلك الشيخ
أو قل كنت حمارا قبل أن أعبر البحر، فلما دخلت هذا الفندق، وصعدت إلى هذه الغرفة وأويت إلى هذا السرير، وانغمست في فراشه الوثير، وأدركني ما أدركني من النوم العميق، وأيقظتني هذه الفتاة ذات الوجه المشرق والثغر المضيء والحديث الحلو والروح الخفيف، نظرت فإذا لم أبق حمارا، وإذا أنا قد مسخت إنسانا أو قل صورت إنسانا إن كلمة المسخ لا ترضيك، ولكني على كل حال قد دخلت النوم حمارا وخرجت منه إنسانا يحس ويشعر ويعقل ويذوق لذة الجمال ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون."
وتتسم كتابة طه حسين في هذه السيرة بنصاعة البيان وفصاحة الألفاظ وبلاغة الأسلوب والإكثار من التكرار اللفظي واستخدام اللازمة الانفعالية وأساليب الإنشاء الموحية الدالة على التفجع والتحسر والتأسف، كما أكثر الكاتب من المفعول المطلق على غرار كتابات مصطفى المنفلوطي وأطنب كثيرا في الشرح والتفسير، وأسهب في الوصف والتصوير.(1/32)
هذا، وتمتاز الكتابة البيانية عند طه حسين بمتانة السبك وصحة النظم الفني وجريانها على أصول اللغة العربية واستخدام التصوير المجازي والتجسيد البلاغي وترجيح كفة البيان على البديع وإسقاط الخصوصية الذاتية على الكتابة تلوينا وانفعالا وإحساسا حسب السياقات النفسية والموضوعية. كما تتسم الكتابة بجزالة اللفظ والإسهاب والاستطراد والترادف والتأكيد المصدري والاستعانة بالأساليب استفهاما وتعجبا وإنكارا واشتراطا واستثناء وندبة.
وإليكم نموذجا يبين لنا مقومات الكتابة البيانية لدى طه حسين الذي يعد من رواد المدرسة البيانية في النثر العربي الحديث في القرن العشرين إلى جانب مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان ومحمد عبده و إبراهيم اليازجي وحسن الزيات وغيرهم، وهذه المدرسة امتداد للمدرسة البيانية القديمة التي كان يتزعمها الجاحظ والجرجاني وأبو حيان التوحيدي:
" ياللحزن والأسى، ياللوعة والحسرة، يالليأس والقنوط. أيبلغ العنف بالزمان أن يمحو هذا المقدار الضخم من حياة الناس في أعوام قصار، لقد جد جيل وجيل في إقامة معمل السكر وإقامة ما حوله من الدور، بل من القرى. لقد عاش جيل وجيل، بهذا المعمل ولهذا المعمل، لقد عاش جيل وجيل بهذه القناة ومن هذه القناة. فكل هذا الجهد، وكل هذا العناء وكل هذه الذكرى، وكل ماكان على شاطئ القناة وحول معمل السكر من جد وهزل ومن لذة وألم، ومن حب وبغض، ومن أمل ويأس، ومن مكر ونصح، ومن خداع وإخلاص، كل هذا يذهب في أعوام قصار لا تكاد تبلغ عدد أصابع لليد الواحدة، كان شيئا من هذا لم يكن، وكان نفسا لم تتأثر بما أثارته الحياة في هذه الأرض من العواطف وكان شفة لم تبتسم لما أنبتته هذه الأرض من أسباب الحزن والأسى. يا للحزن اللاذع، يا للألم الممض، ويا لليأس المهلك للنفوس! لقد ماتت قناتنا أيها الصديق"(1/33)
نستنتج من خلال هذا المقطع النصي أن المدرسة البيانية لدى طه حسين تمتاز بتنويع الأساليب الإنشائية كأن الكاتب يكتب قصيدة شعرية أو قصيدة منثورةيستعمل اللازمة النثرية الدالة على التحسر والتفجع، ويشغل التكرار بكثرة والتوازي التركيبي والتتابع والازدواج في توظيف الجمل والإطناب في توسيع الفكرة وتمطيطها. كما يستعمل الكاتب الصور البلاغية من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية والمحسنات البديعية من سجع وطباق ومقابلة وترادف وتكرار والتماثل الصوتي والتجانس الإيقاعي.
وقد وظف الكاتب عدة خطابات في نصه الروائي هذا منها: خطاب السيرة وخطاب الامتساخ وخطاب الرسائل وخطاب المذكرات وخطاب اليوميات وكل هذا لإثراء نصه بالتنوع اللغوي والتعددية الأسلوبية.
ج- الوصف في السيرة:
التجأ الكاتب إلى الوصف لتصوير الشخصيات والأمكنةوالأشياء والوسائل لنقل عالم الحكاية وتجسيده في أحسن صياغة فنية. ويمتاز وصف الكاتب بالاستطراد والإسهاب والتطويل على غرار الكتاب الواقعيين أمثال: فلوبير وبلزاك وستندال وإميل زولا ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف.
وقد بدأ الكاتب سيرته باستهلال روائي وصفي يشخص فيه صديقه الأديب لينتقل بعد ذلك لعرض الأحداث السردية لينهي نصه بعرض مأساة الأديب ونهايتهالفظيعة بعد حياة بوهيمية عبثية في حضن الجمال وغواية السكر ومفاتن الجسد وخمول العقل.(1/34)
ويلاحظ على وصف طه حسين للأديب أنه وصف كاريكاتوري بشع يشمل الداخل والخارج حيث يلتقط المساوئ والعيوب بدقة متناهية قصد استدراج القارئ لمشاركته في الحكم بالسلب على هذه الشخصية الدنيئة التي لاتمت بصلة إلى الأدب مادام قد ظلم الأدب وزوجته ووالديه ووطنه كما في هذا المقطع الوصفي الساخر: "كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان على القصر أقرب منه إلى الطول وكان على قصره عريضا ضخم الأطراف مرتبكها كأنما سوي على عجل، فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد. وكان وجهه جهما غليظا يخيل إلى من رآه أن في خديه ورما فاحشا. وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الجعد الفاحم.
لم تكن تقدمت به السن، بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده لايخدع عنها أحد. كان على قصره مقوس الظهر إذ قام، منحنيا إذ جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة، وإسرافه في الانحناء على الكتاب أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه. وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلىالشمال، وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى مايليه من أحدى نواحيه".
ولقد كان طه حسين في وصفه للأديب كاتبا لاذعا هاجيا يعتمد على السخرية والتشويه الكاريكاتوري في تصوير الشخصية ورصدها فيزبولوجيا منتقلا من العام إلى الخاص.أي يصور بريشته الواصفة الشكل الخارجي فالوجه ثم الصوت، وقد كان دقيقا في وصفه ومتفننا في التجسيد والتشخيص.(1/35)
وبعد الوصف الخارجي، ينتقل الكاتب إلى الأحداث والأفعال السردية لينقل لنا مواصفاته الأخلاقية ونفسيته وطبيعة تفكيره ليقدمها لنا في الأخير على أنها شخصية سمجة قبيحة متدنية في سلوكها ومنحطة في قيمها، كما تعبر قسمات الشكل على العموم عن طبيعة الشخصية. أي إن المظهر الخارجي علامة سيميائية تدل على طبائع الشخصية وسماتها النفسية والأخلاقية.
وانتقل الكتب بعد ذلك ليصف الأفضية والأمكنة فوصف لنا بيت الأديب وبيت الكاتب الضيق، كما وصف لنا مدينة القاهرة في ازدحامها واكتظاظها بالسكان، والجامعة بمحيطها وحرمها ومدرجاتها، ونقل لنا البادية بفظاعتها وجفافها وتغير معالمها، كما رصد لنا فرنسا بأفضيتها الحضاريةالدالة على الثراء والجمال والتطور العمراني والثراء الحضاري والمادي.
ولم ينس الكاتب أن يصف بعض الوسائل كالعربة التي كانت تنقل الكاتب مع الأديب في صحبة الخادم الأسود إلى بيته وإلى عدة أماكن في القاهرة المزدحمة بالناس، والباخرة التي كانت تعبر البحر الأبيض المتوسط متجهة بالأديب إلى فرنسا.
وعليه، فإن الوصف لدى الكاتب يتسم بالتطويل والروتين الممل من شدة الإسهاب والاستقصاء والتفصيل.
خ- البعد الاجتماعي في السيرة:(1/36)
تحيل هذه السيرةسوسيولوجيا على مصر في انتقالها من الانتداب الإنجليزي إلى عهد الملكية الخديوية بعد ثورة سعد زغلول 1919م، وما حدث من تغيرات على المستوى الاقتصادي وخاصة في البادية المصرية ومدينة القاهرة التي بدأت تعرف تحولات ديمغرافية واجتماعية. كما تبين لنا انفتاح الحكومة المصرية على الجامعة الحديثة، وإرسال البعثات إلى الخارج لاستكمال الدراسات الجامعية العليا. وتبين لنا السيرة كذلك وضعية التعليم في الأزهر الذي يحتاج إلى تجديد وتغيير لمناهج التدريس بهذه المؤسسة الدينية التي مازالت تدرس فيها الكتب الصفراء بطريقة تقليدية؛ مما آل بالوضع التربوي في الأزهر لأن يستلزم التغيير والإصلاح الفوري كما تؤشر على ذلكدعوة محمد عبده.
وتشير السيرة كذلك إلى ظروف الحرب العالمية الأولى وآثارها البشعة على الإنسان الأوربي والإنسان العربي، ناهيك عن تصوير مدى اهتمام جيل من المثقفين في مطلع القرن العشرين بالأدب إلى درجة الحب والشغف والجنون وإقبالهم على الجامعات الحديثة للاستفادة من المناهج الحديثة والأفكار الجديدة. ومن ثم، تصور السيرة الروائية فئة من الأدباء العرب الذين تركوا بلدانهم وذهبوا إلى الخارج فانبهروا بأوربا وانغمسوا في الملذات وافتتنوا بجمال النساء الشقراوات وبريق سيقانهن وسقطوا في الرذيلة ومهاوي الخطيئة ونسوا العلم وعادوا إلى بلدانهم إما حمقى مجانين وإما بدون شواهد علمية تذكر وإما حصلوا عليها بصعوبة تذكر كما هو حال توفيق الحكيم الذي فشل في دراساته القانونية وعاد حاملا لواء الفن والمسرح والقصة، و بطل سهيل إدريس في روايته" الحي اللاتيني" الذي لم يحصل على شهادة الدكتوراه إلا بشق الأنفس وله بطبيعة الحال مقابله الموضوعي في الواقع الخارجي.
د- البعد النفسي في السيرة:(1/37)
ينقل لنا الكاتب من الوجهة السيكولوجية شخصية أديب مهووس بحرفة الأدب، ولكنها شخصية مختلة ستصاب بهستيريا المجون وتضخم الذات. ورغبة في تحقيق ذاته، سيدوس هذا الأديب على القيم التي كان يؤمن بها حيث يظلم زوجته حينما طلقها بكل برودة دون أن يحس بها أو يشعر بكيانها الداخلي ولم يفكر إطلاقا كيف ستكون وضعيتها وصورتها بعد الطلاق في القرية التي ستعود إليها، بعد أن اختارته زوجا لها ورفضته الشابات الأخريات
،كما كان عاقا لوالديه عندما تخلى عنهما من أجل أن يبحث عن مستقبله وحريته الشخصية لإفراغ مكبوتاته الشبقية في بلد الأجساد والسيقان، في فرنسا الحضارة والفتنة والجمال والغواية التي جردت الأديب من كل مقومات أصالته وجرته إلى مستنقع الفساد والدناءة عندما بدأ يسهر الليالي مع خمرة النسيان مفتتنا بجمال الأجسادوشهد الأحلام الوردية والحب الرومانسي الخادع.
هذا، وقد دفعت الذمامةوالقبح أديبنا إلى العزلة والانطواء، فلم يجد صديقا وفيا في عالمه إلا كاتبنا الذي كان يستصحبه معه إلى بيته ويحكي له كل ما يكابده ويعانيه. وقد دفع الحرمان النفسي الناتج عن الاستعمار وتسلط الحكومة الخديوية والإحساس بالنقص شخصية الأديب لتثور ثورتها على أقرب الناس إليه وهي زوجته؛ لأن حميدة تقيده بتقاليدها البدوية، وبقاؤه في مصر يذكره بالنقص. لكن فرنسا هي الملاذ الوحيدلوجوده والمكان المفضل للتحرر الإيروسي واستكمال ذاته من خلال الارتماء في أحضان الكأس والمرأة وغواية الشيطان. ومن ثم، فشخصية أديب هي شخصية مرضية معقدة تعاني من النقص وتحاول تعويضه باكتساب العلم وإظهار الثقافة واحتراف الأدب. وقد أدى هذا الإحساس المبالغ فيه نفسيا بأديبنا إلى الحمق والجنون والإصابة بلوثة الهستيريا وذوبان الذاتمن كثرة الانفعالات والأحاسيس المبالغ فيها.
تركيب استنتاجي:(1/38)
إن" أديب" لطه حسين سيرتان متكاملتان: سيرة ذاتية خاصة بالكاتب وسيرةغيرية متعلقة بالأديب، وفي نفس الوقت هي رواية فنية تعتمد على التخييل والالتفات والتشويق والاستطراد والاهتمام بنصاعة البيان وبلاغة التصوير؛ وهذا ما يجعل طه حسين من رواد المدرسة البيانية في الأدب العربي الحديث. كما أن هذه السيرة إدانة لجيل من المثقفين العرب الذين قصدوا أوربابحثا عن العلم واستكمالا لدراساتهم العليا، فانبهروا بحضارة الغرب، ولكنهم بدلا من أن يستفيدوا من العلوم والمعارف والآداب سقطوا في الغواية والرذيلة وفتنة الخطيئة. و بالتالي، فرطوافي أعزما يملكون من قيم وفي كل ما يمت بصلة إلى الشرق، لينغمسوا في بوتقة الشر والإفساد والسقوط في فتنة الغرب والإيمان بفلسفته المادية وأفكاره المنحلة.
هذه أقوال أحد أهل صنعته وهو يصف حاله وصديقه الأديب
فى بلاد لآبد أن تعود منها غريب لو ما راعيت فيها حق الملك المجيب ...
ولكن فى حالة صاحب أسطورتنا فأنه انحل من كل قيود ماضيه وكأنه نسى الكتّاب والقرآن وخلع الجبة والقفطان
وعادى الأزهر والديوان ... فى غير مراد الملك الديان
والذى سيحاسبنا شيبة وشبان .
وما زال السؤال قائماً ما هى إصلاحات المغربين
وبماذا أفادونا دنيا ودين ...
ليس هذا من كيسى أنا فقط بل هذا ما يعتقده آلاف بل ملايين
ماذا فعل بنا الطهطاوى وقاسم والشيخ طه يا مسلمين
يقول الأستاذ : خالد بن ثامر السبيعى :
فى رائعته النقدية (( عرب بعيون زرقاء ))
ماذا دهانا يا عرب ، هل فقدنا الذاكرة ؟! ماذا أصاب عقولنا حتى نسينا تاريخنا المجيد ؟
أفيقوا يا عرب من غفلتكم التي تزامنت مع هدير الحضارة الغربية .(1/39)
اقرأوا التاريخ ، بل واسألوا الخصوم يخبرونكم أن العرب قبل الإسلام كانوا عالة على الأمم ، و لا أريد الخوض في حالة العرب قبل محمد صلى الله عليه وسلم و ما كانوا عليه من حياة بهيمية في عمومها ، ولسنا في حاجة لذلك أصلا فقد أريق في ذلك حبر كثير و سودت الصفحات به .
إننا ما عرفنا النور إلا بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم نذق طعم السؤدد إلا بعد الإسلام.
لا أدري كيف غابت عنا الحقائق حتى أنكرنا عزنا ومجدنا ؟!
هل يُعقل أنّا أغلقنا ملف المدافعة وأعلنا الاستسلام والتبعية استجابة لنظرية فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ" ؟!
ويواصل نقده البناء فيقول :
إن مشكلتنا – نحن العرب – أحيانًا تكمن في تجاهل التاريخ والإغراق في الحاضر ، ولأن حاضرنا لا يتناسب مع تاريخنا ، ولأننا جنس عربي يعشق الطموح والتحدي ، إذًا فلابد من تقبل الحاضر حتى لو كان ملوثًا أو ممسوخًا ما دام أنه يحقق لنا توهجًا ومحاكاة لمن غلبنا .
فكما قبلت تركيا يوم أن تنكرت لإسلامها وعزها أن تتحول من أول الشرق لتستجدي العالم المتحضر حتى تكون آخر الغرب ، فكذا كثير من المتنكرين لدينهم وتاريخهم لا يضره أن يكون تابعًا بليدًا يحمل أفكار الغرب ويستعرض بها ، ثم تجده لا يضيف لأمته ووطنه ولا حتى صفرًا ، ثم بعد ذلك يتوهم أنه فاتح ومجدد بمجرد أن يرطن بكلمة إنجليزية أو يستشهد بكتابات هنتجتون ومسرحيات شكسبير ويترنم بعد ذلك بأنغام بيتهوفن .
يا عرب : لا مفر من الحقيقة الناصعة الدامغة : " العرب هم مادة الإسلام "
هل نسيتم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ( إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا ) ، ألا يكفي هذا التشريف من رب العالمين بأن أنزل آخر الكتب السماوية بلسانكم يا عرب ؟ فمن هو الذي أحق بالطاعة والانقياد ؟(1/40)
ثم ألم يرسل الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي لحمل خاتم الرسالات وتبليغها للعالمين ؟ فمن هو الذي أولى بالاتباع يا عرب ، محمد صلى الله عليه وسلم أم المناهج والفلسفات الوضعية التي ما جرّت إلا الويلات على البشرية ؟
من هو الجيل الذي نصر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقام العدل في الدنيا وقضى على الأكاسرة ، وقصم ظهور القياصرة ، ونشر النور في أرجاء الدنيا أليسوا المهاجرين والأنصار ( تاج رؤوس العرب ) رضي الله عنهم وأرضاهم ؟
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مخاطبًا من يريد أن يجرد العربية من الإسلام :
" وماذا يبقى له من العربية إذا لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وأتباعه الذين فتحوا الأرض ، وشادوا المدائن ، وأقاموا هذه الحضارة ، وإذا لم يكن فيها القرآن الذي وضع هذه العلوم كلها . ما الذي يبقى من العربية إن لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ؟
هل تبقى إلا المعلقات وبطولات حرب البسوس التي لم تزد على ( خناقة ) في حي ، وموقعة ذي قار التي طار العرب فرحًا بها ، حين غلبوا فيها فصيلة جند كسرى " .
ثم يقول : " إن غير المسلمين من القوميين لا ينكرون إن الذي أخذ بيد العرب حتى دلهم على طريق المجد ، وسلك بهم مسالك الفتح ، ووضع في رؤوسهم فكر العالم ، وبين أصابعهم قلم الكاتب ، وألبسهم تاج السيادة في الدنيا ، وأقعدهم مقعد الأستاذية من البشر جميعًا هو محمد صلى الله عليه وسلم "
و إلى هذا المعنى أيضا أشار المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في قوله :
" فإني أدعوا القارئ الكريم لينظر إلى أبحاث هذا الكتاب كأبعاد ونوافذ تطل على ساحة العلاقة العضوية الرحبة بين الإسلام والعروبة دون أن يعتبرها أقفاصًا حديدية تحبس جذور تلك العلاقة بداخلها "(1/41)
ثم يشير إلى مفهوم مهم ، حيث يؤكد عمق العلاقة بين العروبة والإسلام : "والواقع أن العروبة ما كان لها أن تنتشر كل هذا الانتشار في أقطار الوطن العربي بامتداده الحالي وتنجح في ( تعريب ) كل هذه المناطق الشاسعة ، لو لم تستلهم روح الإسلام ، وتنضبط بضوابطه وتبتعد عن محاذير الاستعلاء العنصري"
و للرافعي كلام نفيس في هذا المعنى ، فهو يقول : "والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان : الدين الإسلامي ، واللغة العربية " و بذلك يتضح لنا اتفاق العقلاء على تأكيد هذه الحقيقة ( أن العرب هم مادة الإسلام ) وعلاقتهما العضوية الأبدية ، ولا يجحد هذا الأمر إلا قليل علم و ضيق أفق أو مكابر، أما الأول فعليه بالتثقف و الاطلاع وأما الثاني فلا بد من محاورته بالحجة والبرهان تنويرا للعقل العربي المسلم بارتباط العروبة و الإسلام لتحقيق النجاح على مستوى الدين و المجتمع في عالمنا العربي و المسلم كما كان متحققاً في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم و الخلافة الراشدة من بعده .
طلائع البعث التغريبي و رموز التغريب(1/42)
بدأت قصة التغريب عند العرب أثناء ضعف الخلافة العثمانية وبعد سقوطها؛ فالخلافة العثمانية كانت هي المرجعية للأمة الإسلامية ، ولكنها لم تحمل في سياساتها عوامل البقاء ولم تستعد لمعركة الحضارة الجديدة التي حشدت لها أوروبا عقول وطاقات عبر السنين . ظهرت القومية العربية كنبتة جديدة مقاومة للقومية التركية ، ثم توالت الأفكار التغريبية في ظل الفراغ الروحي والحضاري الذي بسط رواقه في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي ، مما فسح المجال لأعداء الدين أن يفترسوا بعض العقول العربية ولم يكتفوا بتلويثها وإفسادها بل جندوها لصالح المشروع الغربي الليبرالي . …… فعادت هذه العقول الملوثة لكي تستهدف مبادئ الأمة وقيمها الأصلية باسم الحضارة والحرية ، ومحاكاة للعصر ، فضلوا وأضلوا ، وأوهنوا عزم الأمة ، وكل ذلك في مصلحة أعداء العرب و المسلمين .
أما رموز التغريب فقد ظهروا في المرحلة التي ذكرناها آنفًا ( ضعف الخلافة وسقوطها ) بدعم و رعاية من الغرب ومن عملائهم في الشرق العربي ومن أبرزهم.
- محمد عبده
شيخ أهل العصرنة في هذا الزمان ؛ من أفضل من كتب عنه : الشيخ فهد الرومي في رسالته " منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير " ، وعن عقيدته رسالة لم تطبع بعد .(1/43)
قال الأستاذ بسطامي سعيد : ( كثيرة هي الأقلام التي تناولت الشيخ محمد عبده (1226-1323 هـ/1849ـ 1905م) بالدراسة وبالنقد والتمحيص لآرائه وأفكاره، وقد بلغت إصلاحاته وآراؤه من الشهرة والذيوع ما يغني عن الدخول في تفصيلاتها. إنما نهتم هنا بالاتجاهات العصرانية عند محمد عبده، والتي تظهر في كتاباته، وبالأخص في تفسيره لبعض الآيات، وفي بعض فتاواه، مما يجعل مدرسته الفكرية تضاهي وتشابه في بعض نواحيها مدرسة سيد أحمد خان في الهند، حتى إن تلميذه رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة (الرياض) الهندية، عنوانها: «هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق) بشكل المنار؟!».
ففي منهجه لتفسير القرآن تتجلى واضحة النزعة إلى تفسير القرآن تفسيرًا يتناسب مع المعارف الغربية السائدة في العصر، ومن الأمثلة المشهورة لذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة الفيل: ( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ) (الفيل: 3 – 4) بأنها جراثيم الجدري أو الحصبة يحملها نوع من الذباب أو البعوض. وتفسيره لقوله تعالى: ( مِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ ) بأن المراد هنا (النمَّامون المقطِّعون لروابط الألفة)؛ لأن السحرة المشعوذين يزعمون أنهم يقطعون الأواصر حتى بين المرء وزوجه بسحرهم. وقد اضطره لهذا التفسير إنكاره أن يكون السحر حقيقة ملموسة، بل هو عنده نوع من الأساليب الماكرة، وضروب من الحيل الخفية، ويؤول ما جاء في القرآن عن السحر بأنه من قبيل (التمثيل)، ويرد الأحاديث الصحيحة فيه.(1/44)
وفي بعض فتاوى محمد عبده نجد محاولة لتأويل أحكام الفقه تأويلاً يتلاءم مع أهواء الحضارة الغربية، وتبرير واقعها، ومن أهم فتاواه في ذلك حِلُّ إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها، وفي مقالة له عن تعدد الزوجات تحدث عن تاريخ التعدد عند الشعوب الأخرى، وعند العرب قبل الإسلام، وأن الإسلام قد خفف من العادة العربية في الإكثار من الزوجات، ووقف عند الأربعة رحمة بالنساء من ظلم الجاهلية، ولكنه يرى الآن -للظروف والملابسات السائدة في المجتمع، ولاستحالة العدل بين النساء- أنه لا بد من منع تعدد الزوجات إلا في حالات استثنائية يقررها القاضي.
وهكذا نلمح عند محمد عبده بعض ملاح المنهج العصراني، مِنْ صَرْف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحيانًا بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورده للسنة الصحيحة أحيانًا لمعارضتها ما يظن أنه من علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة مصغرة -ربما بحكم ثقافته الأزهرية- إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته مِنْ بعده، فتضخمت في مجموعة منهم وصارت مضاعفة مكبرة، ومن هؤلاء: قاسم أمين وعلي عبد الرازق ).
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 142-143).
رفاعة الطهطاوي
" فقد سافر الطهطاوي إلى فرنسا وصورها بإعجاب وانفتاح في كتابه ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) رغم ما كانت تحفل به من ثورات في ذلك الوقت " 5
ولعله من الطريف تأمل عنوان الكتاب الذي يحمل أسلوب السجع في كتب التراث ، لكنه في نفس الوقت يتحدث عن إعجابه بفرنسا وتمجيده لحضارتها .(1/45)
ومما يجدر ذكره أن دعوة الطهطاوي كانت من أوائل الدعوات النهضوية (زعموا) ، لكنها لم تجد لها قبولاً ورواجًا بسبب قرب عهد الأمة بتاريخها وتراثها الأصيل ، ولكنها لا شك مهدت لجيل آخر من رموز التغريب لكي يواصلوا السير نحو الانسلاخ والتبعية والتحرير ، وكان منهم :
أُطْلِق عليه «رائد التنوير في العصر الحديث» نجد فيما كتبه من آراءَ جديدةٍ، تُعْتَبَر هي البُذُور الأولى، لما يُسَمَّى «بالفكر المُسْتَنِير» والذي كان مصدر التَّلَقِّي له ما شاهده في الحياة الأوربية، وما قرَأَه مِن تَرْجَمةٍ من الكتب الفرنسية.
يقول عن «حُب الوطن»: (فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن منها يجب على أعضاء الوطن، من حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الأُخُوَّة الوطنية فضْلاً عن الأُخُوَّة الدِّينية. فيجب أدَباً لمن يجمعهم وطن واحد، التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه، فيما يخص شرف الوطن وغِناه وثروته، لأن الغِنَي إنما يتحصَّل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السَّوِية، لانتفاعهم جميعاً بِمَزِيَّة النَّخْوَة الوطنية).
ويُعَلِّق الدكتور محمد محمد حسين على هذا الكلام فيقول:(هذا الاتجاه هو أثرٌ من آثار الحضارة الغربية وتَصَوُّرها للوطن الجامع لمصالح ساكِنِيه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، واقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة، الذي قَضَى على الرابطة الدينية، وأقام مكانها رابطة المصلحة الوطنية، أو ما سمَّاه الطهطاوي «المنافع العمومية» التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد».
ويَظْهَر تأثر الطهطاوي وإعجابه بفكرة الحرية في مجتمع الثورة الفرنسية، حيث نجده عقد لها فصلاً في كتاب «المُرْشِد الأمين للبنات والبنين» وتكلم فيه عن الحرية والمساواة وهما شعاران ضمن ثلاث شعارات للثورة الفرنسية.(1/46)
وكما يقول الدكتور محمد محمد حسين ناقداً له: (بأنه لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تمارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه).
ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون (ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا).
كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي في قوله: (والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن، ويتخذونه أساساً لسياستهم هو القانون الذي ألَّفَه لهم ملكُهُم المُسَمَّى لِوِيز الثامن عشر. ولا زال مُتَّبَعاً عندهم ومُرْضِياً لهم، وفيه أمورٌ لا يُنْكِر ذَوُو العقول أنها من باب العدل... وإن كان غالب ما فيه ليس من كتاب الله تعالى ولا من سُنَّة رَسُول الله) . لِتَعْرِفَ كيف حَكَمَتْ عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المَمَالِك وراحة العباد.
( المرجع : الاتجاه العقلاني عن المفكرين الاسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 1/204-205) .
قاسم أمين(1/47)
" شاب نشأ في أسرة تركية مصرية أي محافظة فيه ذكاء غير عادي حصل على ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين بينما كان هناك في عصره من يحصل على الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين .
ومن هناك التقطه الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها ، ويفسدوا الأمة من ورائها ، التقطوه وابتعثوه إلى فرنسا .. لأمر يراد " . لقد أطال أمين الغيبة ، وأتانا بالخيبة .
فيا ليته حين تغرب جاء بمخترعات أو بمنهج حضاري علمي لمواكبة أوروبا في تقدمها ، لكنه جاء بالقضية الكبرى التي ملكت عليه حياته وأصبحت شعارًا له إلى الأبد إنها ( تحرير المرأة ) .
قال عن كتابه ( تحرير المرأة ) : " إن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير، لن تنشأ عنه العلاقات الدنسة ( التي رآها بعينه في المجتمع الفرنسي ) ، إنما سينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين . " هكذا زعم ، وقد خاب وخسر ، بل تبين فساد هذه المزاعم بعد ذلك ، فقد تلقفت هدى هانم شعراوي هذه الأفكار لتكمل المسيرة ، حيث سافرت إلى فرنسا لتتعلم . سافرت وهي محجبة وعادت وهي سافرة ، ثم بدأت رحلة خلع الحجاب والسفور التي أكملتها صفية هانم زغلول ، زوجة سعد زغلول ، حيث خلعت الحجاب بعد مظاهرة ضد الإنجليز مع نساء أخريات وسكبن عليه البترول وأشعلن فيه النار ، وكان ذلك في ميدان الإسماعيلية ، الذي سُمي بعد ذلك ميدان التحرير . "
وأخيرًا تحررت المرأة ، وخلعت الحجاب ، وتوالت فصول المسرحية ، ولم نتقدم خطوة نحو الحضارة ، وما أخذنا من الغرب إلا قيمه الهابطة ، وممارساته الساقطة .
قاسم أمين : سفور المرأة باسم الدين:(1/48)
القضية الأساسية التي نذر لها قاسم أمين (1863-1908م) حياته هي قضية المرأة، فقد أراد لها أن تتحرر من قيودها الماضية وتقتدي بالمرأة الغربية، وقد كان ذلك هو محور آرائه في كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، فقد أعلن بلا مواراة أن التمسك بالماضي هو من الأهواء التي يجب أن ينهض الجميع لمحاربتها، لأنه ميل بجير إلى التدني والتقهقر، وأنه هو الداء الذي تلزم المبادرة إلى علاجه، وليس له من دواء إلا معرفة شئون المدنية الغربية، والوقوف على أصولها وفروعها وآثارها. وهو مؤمن أن الغربيين قد وصلوا إلى درجة رفيعة من الأدب والتربية مثل ما أنهم متقدمون في العلوم والصنائع.(1/49)
ومسألة حقوق المرأة وحريتها عند الغرب ليست في نظره مجرد عادة اجتماعية بل هي مسألة علمية، والحقيقة أنهم درسوها -كما يقول - درسًا تامًّا كغيرها من المسائل الاجتماعية، إذ يصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف أسرار الطبيعة يغفلون عن هذه المسألة أو يهملونها، وهذا هو السبب الذي جعله يضرب الأمثال بالأوروبيين ويشيد بتقليدهم، وحمله على أن يستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية؛ لأن المدينة الإسلامية (ولا يقول الدين الإسلامي) أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها. وهذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتة، ودراساته في فرنسا، ولكن الأمر الذي يستلفت النظر هو أنه دعا المرأة المسلمة لأن تقلد المرأة الغربية في كل شؤون حياتها، وحبَّذ لها أن إسلامها ودينها لا يعارض هذا التقليد. ومع أنه يعترف بقلة بضاعته في الثقافة الإسلامية، وأنه قليل الإطلاع على ما كتبه المسلمون، قصير الباع في علومهم، ومع أنه يقول عن نفسه: «لست أحب الخوض في حديث عن الدين لأسباب تتعلق بطبيعتي الخاصة، وبحرصي على مراعاة اللياقة العامة».، وكلنا يفهم مغزى هذا الاعتراف، إلا أنه مع ذلك ناقش أمهات المسائل الدينية الخاصة بالمرأة من الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتعليم المرأة وعملها، وكانت المهمة الصعبة أمامه هي أن يوفق بين الآراء الغربية وبين الشرع.
وقد فعل ذلك ببساطة تثير العجب باستخدام مبدأين مفضلين لدى العصرانيين:
المبدأ الأول: أنه يرى أن أحكام الشرع في هذه المسائل ليست أحكامًا ثابتة، بل هي أحكام متغيرة مع الزمان والمكان، ويشرح ذلك في هذه العبارة:(1/50)
« الشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لَمَا حُقَّ لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمة ما يوافق مصالحهما» ثم يقول: «فالأحكام المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، فتبين لنا من ذلك أن لنا في مأكلنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية والخصوصية في أن نتخير ما يليق بنا، ويتفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامة».
واستنادًا على هذا المبدأ الواسع الفضفاض يرى أن الإسلام يمكن أن يتلاءم ببساطة مع كل التطورات، ويقول: «مع أنه من المهم أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم، ونرجع إليه، ونقف على ظواهره وخفاياه لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ولكن من الخطأ أن ننسخ منه صورة ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء؛ لأن كثيرًا من ظواهر هذا التمدين لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الحالية».
والمبدأ الثاني الذي يستخدمه قاسم أمين هو «أن أقوال النبى لا تشكل كلها جزءًا من الدين، فمن الطبيعي أن نُنَحِّيَ من هذه الأقوال تلك المحادثات الأليفة والنصائح الخلقية والحكم الفلسفية التي لا تشكل التزامات وواجبات دينية، كما يجب أن ننحي أيضًا كل ما لا علاقة له بالفقه والتشريع، وتبقى بعد ذلك الأحاديث القليلة التي تفسر أو تكمل التوجيهات التي يتضمنها القرآن الكريم، بعد تحقق جاد من روايتها، أو بملاحظة مطابقتها مع نص القرآن أو روحه.
وتحت مظلة هذين المبدأين دعا المرأة إلى ترك الحجاب؛ «لأن الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب».(1/51)
ودعا إلى الاختلاط؛ (لأن نساء العرب ونساء القرى المصرية مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقل ميلاً للفساد من ساكنات المدن اللائي لا يمنعهن الحجاب عن مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد، وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة عن المرأة المحجوبة».
ودعا إلى تعليم وعمل المرأة المسلمة تمامًا مثل الغربية، وشجعها على تعليم الموسيقى والرسم والتصوير، وعاب على « مَنْ يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار» وتحسر «أنه ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف ما لها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم».
وفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي.
وتعدد الزوجات في نظره «.. احتقار شديد للمرأة، وأنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها ».
هذه بعض (أبواب الإصلاح) التي طرقها قاسم أمين باسم الشرع والدين، ونحن الآن بعد قرابة القرن من صدور كتابيه يمكننا بالنظر في أحوال المرأة المصرية وأوضاعها الراهنة، أن نتبين ونلمس كيف كانت دعوته (إصلاحًا) لعقول النساء للإلقاء بأنفسهن طائعات في طوفان الحضارة الغربية.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 142-147).
- أحمد لطفى السيد(1/52)
هو أحمد لطفي بن السيد أبي علي، ولد سنة 1870م، كان رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وينعت بأستاذ الجيل! ولد في قرية "برقين" بمركز "السنبلاوين" بمصر، وتخرج بمدرسة الحقوق في القاهرة (1889) وعمل في المحاماة. وشارك في تأليف حزب "الأمة" سنة 1908 فكان أمينه، وحرر صحيفته "الجريدة" يومية إلى سنة 1914 وكان من أعضاء "الوفد المصري" وتحول إلى "الأحرار الدستوريين" وعين مديراً لدار الكتب المصرية فمديراً للجامعة عدة مرات، ثم وزيراً للمعارف، والداخلية والخارجية (1946) فعضواً بمجلس الشيوخ (1949) وكان تعيينه رئيساً لمجمع اللغة العربية سنة 1945 واستمر فيه إلى أن توفي بالقاهرة. تأثر بملازمة جمال الدين الأفغاني مدة في استنبول، وبقراءة كتب أرسطو، ونقل منها إلى العربية: "علم الطبيعة –ط" و"السياسة-ط" و"الكون والفساد-ط" و"الأخلاق-ط".
وجمع إسماعيل مظهر مقالاته في "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية-ط" و"المنتخبات-ط" جزآن و"تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع- ط"
- يعد لطفي السيد أحد التلاميذ النجباء ! للمدرسة العصرانية الحديثة، التي أنشأها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهي المدرسة التي تقوم على تقديس العقل مقابل النقل، ومحاولة مزج المسلمين بغيرهم، والسير وراء الحضارة الغربية ونقلها إلى المجتمع المسلم، دون تفريق –للأسف- بين منافعها وأضرارها، ولهذا فقد انطبع لطفي السيد بسمات هذه المدرسة في تفكيره، بل زاد عليها شوطاً بعيداً في الانحراف.
يقول الدكتور حسين النجار عن لطفي السيد بأنه "تتلمذ على الشيخ محمد عبده في مدرسة الحقوق، واتصل به وعرفه بعد ذلك في سويسرا" [أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل 193]
ويقول ألبرت حوراني: "التقى لطفي السيد بمحمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه، كذلك تعرف إلى الأفغاني في أثناء زيارة قام بها إلى استنبول، فأعجب به كثيراً" [الفكر العربي في عصر النهضة 210].(1/53)
أما الأستاذ أنور الجندي فله رأي أخر في هذا؛ حيث يرى بأن لطفي السيد قد تنكر لمبادئ مدرسة محمد عبده –التي لا زال الجندي يثني للأسف عليها!- وأنه انحرف عنها إلى تأييد المستعمر الإنجليزي والسير في ركابه. يقول الجندي: "قد بدأ ظاهر الأمر أن سعد زغلول ولطفي السيد هما من تلاميذ جمال الدين ومحمد عبده، ولكن الأمور ما لبثت أن كشفت عن تحول واضح في خطتهما نحو منهج التغريب الذي قاده كرومر والذي وضع للصحافة والثقافة والتعليم منهجاً جديداً مفرغاً من الإسلام وهو المنهج الذي صنع ذلك الجيل الذي دخل الجامعة وكليه الآداب في أول افتتاح الجامعة المصرية 1925 (وقد قام بالدور الأكبر فيه الدكتور طه حسين) ومدرسة السياسة (هيكل وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي) وغيرهم.
ولا ريب أن كتابات لطفي السيد ومخططات سعد زغلول تكشف عن تجاوز كبير للنبع الذي صدرا منه . وعن مفاهيم جمال الدين ومحمد عبده ومهما كانت كتابات كرومر عن محمد عبده وحزبه فإنه ما كان يقر هذا التحول الذي وصل إليه الرجلان الذين أسلمهما كرومر مقادة الصحافة (لطفي السيد) والتربية (سعد زغلول) ومفاهيمهما هي مفاهيم كرومر وخطتهما هي خطته" [عقبات في طريق النهضة: ص 76-77].
قلت: والحق خلاف ما ذكره الجندي! الذي أحسن الظن كثيراً بمحمد عبده وشيخه، وتغافل أنهما -لا سيما الأخير– قد راهن عليهما المستعمر كثيراً، ومكن لمدرستهما، ورحب بها، لتكون خليفة له بعد رحيله عن مصر؛ نظراً لأنها تحقق له أهدافه.
نعم قد يكون لطفي السيد وسعد زغلول قد زادا في الانحراف عن الإسلام أكثر من شيخيهما، إلا أن هذا أمر متوقع لكل من تأثر بهذه المدرسة التي كانت تعاليمها أول ممهد لمثل هذا الانحراف، وهكذا البدع والانحرافات تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تكبر وتتسع وتزداد، لأن القاعدة التي انطلقت منها تسمح بذلك.
انحرافاته :(1/54)
1- أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات –والعياذ بالله- أنه –كما يقول ألبرت حوراني- :" لم يكن مقتنعاً كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي" !! [الفكر العربي في عصر النهضة، ص211] وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن "الدين –سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع" .
كان يرى أن ليس باستطاعة بلد له تقاليد –كمصر- أن يقيم حياة الفرد وبناء الفضائل الاجتماعية إلا على أساس الإيمان الديني، وأن الإسلام-كدين لمصر- لا يمكن إلا أن يكون هذا الأساس. لكنه رأى أن أدياناً أخرى قد تصلح لبلدان أخرى، وبتعبير آخر، كان لطفي السيد مقتنعاً بأن المجتمع الديني خير من المجتمع اللاديني (على الأقل في مرحلة معينة من التطور)، لكنه لم يكن مقتنعاً كأساتذته بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي. وفي هذا يقول: "لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام" [المرجع السابق :ص211-212نقلاً عن صفحات مطوية، لطفي السيد، (1/118)] .
قلت: فلطفي السيد إذاً لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها –في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام،(1/55)
2- دعوته إلى (العلمانية) وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعاً لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!!.
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :"إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد" [ص 329].
3- إلحاده !! –إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :" أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين . ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين!! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل " [ص329] .
"وقال لي السنهوري –وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكاً جدية في المعتقدات الدينية التقليدية" وأنه "أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككاً حتى آخر حياته" !! [ص330].
4- طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر!! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة"!! [ص330].
5- دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار "مصر للمصريين" ! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) : "كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر" [ص216].(1/56)
وأن "لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب! ، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو و الارتقاء" [ص 216-217] .
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن "القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها" !! [ص 218].
ويقول –أيضاً- : "أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره" [ص 224] .
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "كانت فكرته –أي لطفي- في الأمة –كما استقاها من الفكرة الأوروبي ! إقليمية، لا إسلامية" [ص328]
ويقول –أيضاً- : "نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد" [ص328].
6- "الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب تسكين أواخر الكلمات.
ج إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى" [انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص 4، بتصرف].
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7- دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) .
قال الدكتور: " فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم" [أحمد لطفي السيد، للنجار، ص202-203](1/57)
قلت: وتطبيقاً لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد "مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم" [رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص5]
8- دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي… الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: "أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب" [أحمد لطفي السيد، ص 82].
ويقول عنه بأنه : " بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحياً لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين" [المرجع السابق، ص199]
9- دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: "الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها" [أحمد لطفي السيد، ص 331].
ويقول –أيضاً- : "أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساساً للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساساً لما أسماه "مذهب الحريين" للدولة" [المرجع السابق، ص 203].
ويقول مجيد خدوري : "ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي" [عرب معاصرون، ص 326].
ويقول ألبرت حوراني: "كان مفهوم لطفي السيد للحرية –كما يعترف هو نفسه باعتزاز – مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر" [الفكر العربي في عصر النهضة، ص 213].
10- أنه كان مهادناً للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.(1/58)
يقول الأستاذ أنور الجندي: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد" [عقبات في طريق النهضة، ص 59].
ويقول –أيضاً-: "إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء" [رجال اختلف فيهم الرأي ، ص 7].
ويقول مجيد خدوري :" وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة –أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين" [عرب معاصرون، ص315].
ويقول عنه –أيضاً- :" كثيراً ما لام الوطنيين لمعارضة بريطانيا" !! [المرجع السابق، ص 331].
ويقول فتحي رضوان: " إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفاً، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟ " [عصر ورجال، ص 443].(1/59)
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن!! حيث قال يوم خروجه من مصر:" أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال" !! نشر هذا في "الجريدة" في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعاً وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد !! [انظر : رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص 5-6].
11- دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين –عليه من الله ما يستحقه-
يقول الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" [أحمد لطفي السيد، ص 243]
وقال –أيضاً- :" ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" [المرجع السابق، ص248]
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره" [المنتخبات (1/11)]
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، [انظر:المنتخبات، (1/268 وما بعدها)]
وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجماعة المصرية) هو وأصحابه بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهم في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها"
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
12- دعوته إلى دراسة الفكر اليوناني، والاقتباس منه، وتشجيع تلاميذه على ذلك.(1/60)
يقول الأستاذ مجيد خدوري: "رأى لطفي السيد من الضروري إعادة تعريف أبناء بلده بأرسطو الذي كان لطفي نفسه يدين إليه بكثير من آرائه في السلطة والحرية؛ مما جعله يشجع تلاميذه على دراسة الفكر اليوناني. لقد نشر خلال عشرين سنة ترجمات لكتاب "علم الأخلاق" في سنة 1924 وكتاب "الكون والفساد" في سنة 1932 وكتاب "علم الطبيعة" في سنة 1935 وكتاب "السياسة" في سنة 1940.
وهكذا فإن دراسة الفكر اليوناني لم يكن لها أثرها في تفكيره العلماني فحسب، بل في تفكير تلاميذه" [عرب معاصرون، ص 335-336].
قلت: ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد .
قال الأستاذ أنور: "تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة. الكون والفساد. الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية!! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة" [رجال اختلف فيهم الرأي، ص6]
أمينة السعيد
قال الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب): (في أسرة ميسورة الحال من "المنصورة"، ولدت "أمينة السعيد" بـ"أسيوط" عام (1914)م، حيث كان والدها "أحمد السعيد" يعمل طبيباً في هذه البلدة، إلى أن عاد إلى "القاهرة" ليُلحق أبناءه بالمدارس الأجنبية، لأنه كان مُحباً للحضارة الأوربية.
وقد التحقت "أمينة" في طفولتها بـ"مدرسة الحلمية للبنات"، فكانت في غاية التمرد والشقاوة، حتى إنها رسبت في جميع مواد السنة الدراسية الأولى، لأنه وقتها كان للهو واللعب.(1/61)
وتروي "مجلة حواء" على لسان "أمينة السعيد" أحد مواقفها في طفولتها الشقية، فتقول :"أغضبني مرة أحد المدرسين في الفصل، فشعرتُ بالظلم الفادح الذي وقع عليّ، فكان تركيزي طوال وقت الحصة في كيفية الانتقام منه، وردّ هذا الظلم. وعندما انتهى وقت الحصة، وغادر المدرس الفصل متوجهاً لحجرته، لاحقتُهُ وضربتُه بقبضة يدي الصغيرة في ظهره.. ثم أطلقتُ قدميّ للريح خوفاً منه".
وبعد إتمامها للمرحلة الثانوية، كانت ضمن أول دفعة من الفتيات ينتسبن إلى "كلية الآداب" التي كان عميدها المستغرب: "طه حسين"، فاختارت "قسم اللغة الإنجليزية"، واستمرت فيه حتى تخرجها.
وبعد تخرجها من الجامعة أصبحت من هُواة "الأدب الإنجليزي"، حتى إنها -في إحدى مراحل حياتها- ألفت كتاباً عن الشاعر الإنجليزي "بيرون"، وتزوجت في عام (1937)م من الدكتور "عبد الله زين العابدين"، الذي شجعها على العمل في الصحافة، ووقف إلى جانبها في جميع الأزمات والمحن التي نزلت بها من جراء ذلك.
وحين كان الصحفي "مصطفى أمين" نائباً لرئيس تحرير مجلة "آخر ساعة"، عرض عليها أن تعمل معه في المجلة، فقبلت بذلك على أن تخفي اسمها حتى لا يعرف أبوها وأمها أنها تعمل في الصحافة، وهو عمل غير مستساغ في المجتمع آنذاك. لكنهما علما بذلك فيما بعد.(1/62)
ثم انتقلت إلى مؤسسة صحفية متخصصة بنشر السموم ضد الإسلام ودعاته، تدعى: "دار الهلال" ، التي أسسها الصليبي الهالك: "جورجي زيدان" 1287-1332هـ = 1861-1914م، الذي وقف حياته على تشويه التاريخ الإسلامي، وخلفائه الميامين، بأكاذيب صاغ بها قصصه المتعددة، التي كتبها بدافع من الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين. ومن "دار الهلال" بدأت "أمينة" تكتب عن شؤون المرأة في مجلة "المصور"، ومجلة "الاثنين" من وجهة نظر المستغربين، فلفتت نظر "أميل زيدان" أحد صاحبي "الهلال"، فاختارها "رئيسة تحرير" لإصدار مجلةٍ نسائيةٍ شهرية باسم: "حواء" . وصدر العدد الأول منها في أول كانون الثاني يناير عام (1954)م.
ومن خلال هذه المجلة انطلقت "أمينة السعيد" تكتب عن المرأة، وتطالب بما تعتبره حقوقاً لها.
وفي عام (1962)م اختيرت عضواً في مجلس إدارة "دار الهلال"، فكانت بذلك أول امرأة مصرية تُعيّنُ في مجلس إدارة مؤسسة صحفية.
ثم عينها "أنور السادات" رئيسة لمجلس الإدارة، واستمرت في هذا المنصب إلى أن أقالها "السادات" نفسه منه، ومن رئاسة تحرير مجلة "المصور" ((مؤامرات على الحجاب، للدكتور محمد فؤاد البرازي، ص 122-124).
وانظر ترجمتها –أيضاً- في "مصريات رائدات ومبدعات! "لمجموعة من الكاتبات (ص 65 وما بعدها).
-هلكت بعد إصابتها بمرض السرطان – عافانا الله- عام 1995م.
-تعد أمينة السعيد من أبرز داعيات تحرير المرأة في العالم العربي، فقد كانت ترأس تحرير مجلة (حواء) المصرية، ومن خلالها كانت تدعو إلى هذه الفكرة الخبيثة.(1/63)
-يقول الشيخ محمد المقدم عنها : "تلميذة وفية لطه حسين، ترأس تحرير مجلة حواء، ومن خلالها تحرض نساءنا على النشوز، وفتياتنا على التهتك والانحلال، وقد تواتر لدى الجميع أنها تهاجم الحجاب الإسلامي بكل جرأة، وهي –وإن كانت تلقفت الراية من "الزعيمات" السابقات- إلا أنها تفوقت على كل اللاتي سبقنها في باب التجرد من الآداب والأخلاق الأساسية، إذ إنها لا تألو جهداً في الصد عن سبيل الله، والاستهزاء من شرعه عز وجل، حتى وصل بها الأمر إلى أن قالت: (كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟)، وقالت : (إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث) (عودة الحجاب 1/65).
ويقول الدكتور محمد فؤاد البرازي: (كانت "أمينة السعيد" تلميذة للمستغرب المأفون، وعميد الأدب المزعوم: "طه حسين"، فتأثرت به أشد التأثر، وترك فيها من بصمات التغريب، ونوازع التقليد، والافتتان بحضارة الغرب، ما سترى أثره في مقالاتها التي كانت تنشرها.
ولا شك أن نشأتها في أحضان أبٍ غير ملتزم، حريصٍ على تعليم أبنائه في المدارس الأجنبية، وتشجيعه إياها على لعب "التنس" بملعب "جامعة القاهرة" مع المدرب، إضافة إلى تشكيل عقلها على يد أستاذها "طه حسين" ، وترددها على "هدى شعراوي" وتأثرها بها، ثم استعدادها الخاص لذلك، كل ذلك قد صاغها صياغة "متحررة" ، جعلتها متمردة على أحكام الإسلام، وقيمه العليا) (مؤامرات على الحجاب ، ص125).
وقد ذكرت هي نفسها بأنها تلميذة لداعية التحرير الأولى (هدى شعراوي)، تقول أمينة السعيد: "قبل اشتغالي بالصحافة ودخولي الجامعة وتخرجي منها، كنت أقوم بتمثيل بعض المسرحيات في الحفلات الخيرية التي كانت تقيمها الزعيمة ! هدى شعراوي لصالح الأعمال الخيرية التابعة لجمعيتها" (انظر: مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).(1/64)
وتقول تلميذتها ايفلين رياض : "اختارتها الزعيمة ! هدى شعراوي من بين مجموعة من الشابات الصغيرات! لتعدها للقيادة في مجال الخدمة الاجتماعية([3]) عندما وجدت لديها الحماس والقدرة على العمل والكفاح" (مصريات رائدات ومبدعات! ص 66).
انحرافاتها:
1-من أعظمها : دعوتها إلى "تدمير" المرأة المسلمة، وتهييجها لكي لا تلتزم بشريعة ربها . حيث يصدق عليها قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة).
2-ومن انحرافاتها : أنها "اتخذت من مجلة "حواء" منبراً للتطاول على الأحكام الإسلامية الخاصة بقانون "الأحوال الشخصية" و"حجاب المرأة المسلمة"؛ بل راحت كما قال الأستاذ "محمود محمد الجوهري": "تحرضُ نساءنا على النشوز، وفتياتنا على الانحلال. وهي التي جعلت الفسق والبغاء الرسمي في شارع الهرم نوعاً من كرم الضيافة عندنا (!!!) في ردّها على "القذافي"، عندما ندد بمخازي "شارع الهرم" في أحد مواقفه العنترية، من خلال ندوة عقدت بالقاهرة، طالب فيها بنظافة "شارع الهرم"، وإغلاق محال الدعارة السياحية، وعُلبِ الليل".
وكتبت ذات يوم في مجلة "المصور" : "إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث"
فهل تعتبر هذه في عداد المسلمين، وهي تعارض قول الله رب العالمين: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: 11)؟ !!
وقالت أيضاً: "كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام، ولدينا الميثاق" ؟ !!! أي الذي أصدره "جمال عبد الناصر" ! وفيه من المخالفات لدين الله عز وجل ما فيه…" (انظر : مؤامرات على الحجاب ، ص 126).(1/65)
3-ومن انحرافاتها : أنها "بعد أن امتدت يد ثورة 23 تموز –يوليو 1952م إلى قانون "الأحوال الشخصية" بالتعديل، رضوخاً لرغبات دعاة "تحرير المرأة" !!! راحت تطالب بتعديلات أخرى؛ وكانت تريد بذلك إصدار تشريعٍ يمنعُ " تعدد الزوجات" ، و"مساواة المرأة بالرجل في الميراث" ، إلى غير ذلك من هذه المخالفات الصريحة لشريعة الله عز وجل" (المرجع السابق، ص 126-127)
4-ومن انحرافاتها: استهزاؤها بالحجاب الشرعي وقولها : "ما نراه اليوم شائعاً بين الفتيات والسيدات مما يسمونه "الزي الإسلامي" فالإسلام منه براء، لأنه تقليد حرفي لزي الراهبات المسيحيات" (مؤامرات على الحجاب، ص127).
وتقول أيضاً: "هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً، وتجعلهن كالعفاريت (!!!) وهل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة، حتى لا يُرى منها شيء وهي تسير في الشارع" !! (مجلة حواء، 18، نوفمبر 1972).
وقالت : "إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة، أو اكتساب رضا الله. فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر، يزعمن أنها "زي إسلامي"، لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين، بزي هو والكفن سواء" (مجلة المصور، 22 يناير 1982).( وانظر: عودة الحجاب، للشيخ محمد المقدم، (1/65-67).
5-ومن انحرافاتها العجيبة : أن فتاة مسلمة ! أرسلت لها بأنها تحب شاباً غير مسلم، وتريد أن تتزوجه !! ولكن دينها يمنعها من ذلك.
فأجابتها أمينة السعيد بأن "تتزوجه زواجاً مدنياً" !!! (انظر: مجلة لواء الإسلام، عدد 8، ربيع الثاني 1384هـ).(1/66)
6-ومن انحرافاتها : قولها "إن أمر الرجل لزوجته بارتداء الحجاب مرفوض؛ لأنه يدخل تحت قوله تعالى (لا إكراه في الدين) " !! (انظر: المجلة العربية، العدد 129). وهذه فتيا جريئة يعلم كل مسلم مخالفتها لدين الإسلام، ستبؤ بإثمها هذه العجوز الهالكة.
-يقول الدكتور السيد رزق الطويل عن أمينة السعيد: "كانت في وقت من الأوقات تتصدى للإفتاء في إحدى المجلات الأسبوعية حول قضايا البشر الاجتماعية والغرامية والنفسية، وكانت ترتكز في فتاواها على اجتهادات قائمة على قدر كبير من التجربة والتصور الشخصي والمزاجي، وعلى قدر قليل من العلم، وبمعزل تام عن هدي الدين الحق وهداه " (مجلة منبر الإسلام، 2 صفر 1411هـ).
7-ومن انحرافاتها: دعوتها للاختلاط المحرم، وادعاؤها بأن "حرية الاختلاط هي أقوى سياج لحماية الأخلاق"!! (مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).
وصدق الله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) فهي ترى المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً.
ختاماً: يقول الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب) (ص 129) متحدثاً عن أمينة السعيد:
"استبدّت بها آلام نفسية نتيجة فشلها بدعوتها المتحررة بعد عودة النساء إلى الله، والتزام الكثيرات بالحجاب؛ بل بالنقاب، فعبّرت عن ذلك قبل موتها بأربعة أيام، حين قالت بحسرة وألم لصحفية من مجلة "المصور" (العدد 3697) وهي تجري معها مقابلة: "أمينة السعيد كانت ملكة الصحافة النسائية. لقد أفنيتُ عمري كله من أجلها. أما الآن فقد هدني المرض، وتنازلت النساء عن كثير من حقوقهن. المرأة المصرية صارت ضعيفة.. الإرهابيون وسَّخوا مخّهم…" تعني بذلك: أن الإسلاميين قد أقنعوهن حتى التزمن بالإسلام. فالإسلاميون في نظرها: إرهابيون، وقيامهم بإقناع النساء بالالتزام بالحجاب "توسيخ" لعقولهن. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (الكهف:5).(1/67)
اللهم جنبنا الردى، واكفنا شر العدا، ولا تضلنا بعد الهدى.
وحين سألتها الصحفية عن رؤيتها للحركة النسائية، أجابت : "هبطت كثيراً، بل انتهت … لم تعد لدينا حركة نسائية".
وتفسر عودة المرأة المسلمة إلى دينها وحجابها تفسيراً غريباً (استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (فاطر: 43) فتقول: "السيدات ملأهن الرعب من الإرهابيين والمتطرفين، وصمتن عن حقوقهن التي تُسحب منهن، وارتضين آراء بعض المتخلفين الذين يتمسحون في الدين ورجال الإرهاب، وكلاهما من أغبى الناس.
وضاعت الجهود التي بذلتها "هدى شعراوي" ثم جهودنا نحن طوال خمسين عاماً، وعاد الحجاب ثانية" ..
قلت: الحمد لله الذي لم يهلكك حتى أكمدك بعودته، (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)
سعاد الصبّاح
- هي الشاعرة الدكتورة سعاد بنت عبد الله المبارك الصباح من الأسرة الحاكمة بالكويت.
- ولدت عام 1942م في مدينة البصرة بالعراق.
- متزوجة من الشيخ عبد الله المبارك الصباح، الذي توفي بعد غزو العراق للكويت.
- حصلت على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة القاهرة عام 1972م.
- حصلت على الدكتوراه في التنمية والتخطيط من جامعة ساري ببريطانيا عام 1981م.
- عضوة في عدة مجالس ومراكز منها :
- عضو مجلس أمناء اللجنة التنفيذية في منتدى الفكر العربي (عمان).
- مؤسسة وعضو في مجلس أمناء اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، (القاهرة).
- عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العالمية للنساء المسلمات!
- عضو الاتحاد العالمي لاقتصاديات الطاقة.
- عضو مؤازر لمركز دراسات الوحدة العربية (بيروت).
- عضو اللجنة التنفيذية لجمعية (أوليف بادن) الدولية.
- عضو في مركز الدراسات العبرية في جامعة اليرموك.
- عضو مجلس إدارة مشروع بحوث الشرق الأوسط والمعلومات –واشنطن.
- عضو اللجنة التنفيذية بالمجلس العربي للطفولة.(1/68)
- عضو المجلس الاستشاري لمنظمة تخطيط السكان في الوطن العربي التابعة للأمم المتحدة – لندن.
- حاضرت في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، وشاركت في المؤتمرات العربية والعالمية عن مشكلات الوطن العربي والشرق الأوسط.
- متخصصة في اقتصاديات التنمية والنفط وتخطيط الموارد البشرية، ولها العديد من الدراسات والأبحاث والكتب في هذه المجالات، منها :
1- التخطيط والتنمية في الاقتصاد الكويتي ودور المرأة (لندن 1983).
2- الكويت: أضواء على الاقتصاد الكويتي (لندن 1985).
3- أوبك بين تجارب الماضي وملامح المستقبل، (لندن1986).
4- السوق النفطي الجديد، السعودية تسترد زمام المبادرة (لندن، 1986).
5- المرأة الخليجية ومشاركتها في القوى العاملة، (لندن، 1987م).
6- أزمة الموارد في الوطن العربي (بيروت، 1989م).
- لها عدة دواوين شعرية منشورة أهمها:
1- أمنية: (القاهرة، 1971).
2- إليك يا ولدي: (القاهرة، 1982).
3- فتافيت امرأة: (بغداد، 1986).
4- في البدء كانت الأنثى: (لندن، 1988). (بيروت1994).
5- حوار الورد والبنادق: (لندن، 1988).
6- برقيات عاجلة إلى وطني.
7- قصائد حب: (القاهرة 1992).
8- امرأة بلا سواحل: (القاهرة 1994).
9- خذني إلى حدود الشمس: (القاهرة 1998 ط2).
10- القصيدة أنثى والأنثى قصيدة: (الكويت 1999).
-وقد صدر لها كتابان:
1- هل تسمحون لي أن أحب وطني (القاهرة 1992): وهو عبارة عن مقالات عن أزمة الخليج.
2- حقوق الإنسان في العالم المعاصر (الكويت 1999ط 3) ([1]).
- نظراً لوجاهة الدكتورة وثرائها فإنها تملك داراً للنشر باسمها (دار سعاد الصباح) أقامتها في قصرها القديم بجاردن ستي بالقاهرة، وهي تنشر خلالها دواوينها ومؤلفاتها، إضافة إلى ما تستحسنه من مؤلفات الآخرين مما يوافق ميولها!([2]).
ظاهرة تهييج النساء في شعر الدكتور سعاد الصالح :(1/69)
من يقرأ دواوين الدكتور لا شك سيلاحظ تلك النغمة المتكررة التي تظهر بوضوح في مقدمات وقصائد تلك الدواوين عن قضية المرأة واضطهادها وظلمها في عالمنا العربي، حيث لا يُسمح لها ببث مكنونات نفسها، وأحاسيسها وعواطفها أمام الآخرين، وأن الشاعرة لأجل هذا تود التمرد على هذا الكبت من خلال التصريح بحبها ونشرها لقصائد الغزل بمن تحبه، بعيداً عن تسلط (القبيلة)! التي لا ترتضي مثل هذا إلا من (الذكور)!
وقد وقعت الدكتورة في الكثير من (التهويل) الذي لا يوافق الواقع، إضافة إلى أنها قد تجاوزت في عباراتها (الثورية) تلك إلى ما لا يجوز لها الوقوع فيه.
ولنستمع إلى شيء من أقوالها تبين ما قلته:
1-تقول الدكتور في مقدمة ديوانها (فتافيت امرأة) في قصيدة بعنوان (فيتو.. على نون النسوة)!
(يقولون: إن الكتابة إثم عظيم فلا تكتبي. وإن الصلاة أمام الحروف.. حرام فلا تقربي) ([3]).
إلى أن تقول: (وها أنذا.. قد كتبتُ كثيراً، وأضرمت في كل نجم حريقاً كبيراً، فما غضب الله يوماً عليَّ، ولا استاء مني النبي) ([4]).
وفي هذا النقل من الدكتورة تجاوزات كثيرة وانحرافات خطيرة:
أولاً: أنها اتهمت الآخرين بأنهم يقولون بأن الكتابة بالنسبة للمرأة (إثمٌ عظيم)، وفي هذا افتراء عليهم، حيث لم يقل بهذا القول، وهو منع النساء من الكتابة سوى أفراد من البشر ظنوا أن المرأة حين تتعلم الكتابة سينفتح أمامها باب عظيم من أبواب الفتنة، حيث ستقرأ وتكتب ما لا يجوز قراءته وكتابته، فلهذا قرروا منعها من الكتابة، واختاروا عدم جوازه لها، مخالفين بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهر في الباب كتاب الشيخ نعمان الآلوسي المسمى (الإصابة في منع النساء من الكتابة) ([5])!(1/70)
ولكن هذا الرأي الشاذ مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعليم المرأة؛ وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للشفاء بنت عبد الله –رضي الله عنها- التي كانت ترقي من النملة([6]): "علميها حفصة، كما علمتيها الكتابة".
قال الشيخ الألباني –رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: (في هذا الحديث فوائد كثيرة، أهمها اثنتان:
الأولى: …
والأخرى: مشروعية تعليم المرأة الكتابة. ومن أبواب البخاري في (الأدب المفرد) (رقم 1118): (باب الكتابة إلى النساء وجوابهن). ثم روى بسنده الصحيح عن موسى بن عبد الله قال: (حدثتنا عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة –وأنا في حجرها، وكان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي، ويكتبون إليّ من الأمصار، فأقول لعائشة- يا خالة هذا كتاب فلان وهديته. فتقول لي عائشة: أي بنيّة! فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، قالت: فتعطيني).
قلت: وموسى هذا هو ابن عبد الله بن إسحاق بن طلحة القرشي، روى عن جماعة من التابعين، وعنه ثقتان، ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل (4/1/150) ومن قبله البخاري في (التاريخ الكبير (4/287) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال الحافظ في (التقريب): (مقبول). يعني عند المتابعة، وإلا فهو لين الحديث.
وقال المجد ابن تيمية في (منتقى الأخبار) عقب الحديث: (وهو دليل على جواز تعليم النساء الكتابة).
وتبعه على ذلك الشيخ عبد الرحمن بن محمود البعلبكي الحنبلي في (المطلع) (ق107/1)، ثم الشوكاني في (شرحه) (8/177)، وقال: (وأما حديث "لا تعلموهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن سورة النور" فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد).
قلت (القائل الألباني رحمه الله): وهذا الكلام مردود من وجهين:(1/71)
الأول: أن الجمع الذي ذكره يُشعر أن حديث النهي صحيح، وإلا لما تكلف التوفيق بينه وبين هذا الحديث الصحيح. وليس كذلك، فإن حديث النهي موضوع كما قال الذهبي. وطرقه كلها واهية جداً، وبيان ذلك في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) رقم (2017)، فإذا كان كذلك فلا حاجة للجمع المذكور، ونحو صنيع الشوكاني هذا قول السخاوي في هذا الحديث الصحيح (إنه أصح من حديث النهي)! فإنه يوهم أن حديث النهي صحيح أيضاً.
والآخر: لو كان المراد من حديث النهي من يخشى عليها الفساد من التعليم لم يكن هناك فائدة من تخصيص النساء بالنهي، لأن الخشية لا تختص بهن، فكم من رجل كانت الكتابة عليه ضرراً في دينه وخلقه، أفينهى أيضاً الرجال أن يتعلموا الكتابة؟! بل وعن تعلم القراءة أيضاً لأنها مثل الكتابة من حيث الخشية!
الحق أن الكتابة والقراءة نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على البشر كما يشير إلى ذلك قوله عز وجل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم) وهي كسائر النعم التي امتن الله بها عليهم، وأراد منهم استعمالها في طاعته، فإذا وجد فيهم من يستعملها في غير مرضاته، فليس ذلك بالذي يخرجها عن كونها نعمة من نعمة، كنعمة البصر والسمع والكلام والكلام وغيرها، فكذلك الكتابة والقراءة، فلا ينبغي للآباء أن يحرموا بناتهم من تعلمها شريطة العناية بتربيتهن على الأخلاق الإسلامية، كما هو الواجب عليهم بالنسبة لأولادهم الذكور أيضاً، فلا فرق في هذا بين الذكور والإناث.
والأصل في ذلك أن كل ما يجب للذكور وجب للإناث، وما يجوز لهم جاز لهن ولا فرق، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"، رواه الدارمي وغيره، فلا يجوز التفريق إلا بنص يدل عليه، وهو مفقود فيما نحن فيه، بل النص على خلافه، وعلى وفق الأصل، وهو هذا الحديث الصحيح، فتشبث به ولا ترض به بديلاً، ولا تصغ إلى من قال:(1/72)
ما للنساء وللكتابة …. والعمالة والخطابة .
هذا لنا ولهن منا…. أن يبتن على جنابة !
فإن فيه هضماً لحق النساء وتحقيراً لهن، وهن كما عرفت شقائق الرجال. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف والاعتدال في الأمور كلها) ([7]). انتهى كلام الألباني –رحمه الله-.
ثانياً: من الملاحظات على الدكتورة: قولها بأنها قد كتبت كثيراً (فما غضب الله عليها، ولا استاء منها النبي صلى الله عليه وسلم).
وهذا تألٍ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أدراها بأن الله لم يغضب عليها؟!
فالدكتورة قد شابهت بقولها هذا قول من قال: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً) فرد الله عليهم بقوله: (قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون).
أفتقولين –يا دكتورة- على الله ما لا تعلمين ؟!
إن كنت ظننت أن الله لم يغضب عليك بسبب توالي نعمه الدنيوية عليك من مالٍ وجاه، فهذا –والله- ظن من لم يعرف سنن الله في خلقه، لأن الله قد يُنعم على أعدائه النعم المتواترة استدراجاً منه لهم، كما قال سبحانه: (أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)، وقال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رءاه استغنى).
فالحذر الحذر يا دكتورة من مكر الله، (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون). ولا تغتري بما أنت فيه من نعم دنيوية، وتنسبي ذلك إلى رضا الله عنك، وأنت ترتكبين التجاوزات في أشعارك. فإنه لا ارتباط بين الاثنين، كما سبق. بل على المرء أن يقيس أعماله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقتها فليحمد الله على فضله، وإن خالفتها فليراجع نفسه، ولينته عن ذنوبه.
2-تقول الدكتورة: (أنا الخليجية الهاربةُ من كتاب ألف ليله ووصايا القبيله وسُلطة الموتى) ([8]).(1/73)
قلت: أما كتاب (ألف ليلة وليلة) فهو كتاب في الأدب والقصص الشعبي، قد ألفه صاحبه –أو أصحابه على خلاف في ذلك- زمن المماليك، وفيه الكثير من الكذب والافتراءات على خلفاء المسلمين- لا سيما هارون الرشيد-، خلاف ما فيه من المواقف والعبارات البذيئة، والإغراق في قصص الجن والسحرة([9]).
ولكن يهمنا منه ما تُلمح إليه الدكتورة، وهو موقفه من المرأة، حيث صورها في صورة الجارية التي تزف إلى الرجل ليستمتع بها ثم يقتلها، وذلك في
القصة الرئيسة لهذا الكتاب، وهي قصة الملك شهريار الذي يقتل كل جارية تُزفُ إليه بعد ما يستمتع بها، ما لم تنفذ شرطه.
فالدكتورة –هداها الله- قد اتخذت من شهريار رمزاً لكل الرجال في عصرها، وهذا مخالف للواقع، ومخالف لشرع الله الذي يعامل المرأة أكرم معاملة، ويحرص على أن تنال حقوقها كاملة، لأنها شقيقة الرجال كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم([10]).
فحديث الدكتورة قد يصدق على بعض الشواذ من الرجال الذين اتخذوا من المرأة مجرد لعبة وجارية يقضون منها وطرهم ثم يُلقون بها ويلفظونها لفظ النواة، ولكنه لا يصدق على عامة الرجال، لا سيما الذي يعاملون المرأة كما أمرهم الله –عز وجل-
أما قولها: (وصايا القبيلة وسلطة الموتى) فلم تبين ما تقصد منها؛ لأن المسلم عليه أن يتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، لا أن يتبع (وصايا القبيلة) أو (سلطة الموتى)!
فليت الدكتورة بينت مرادها لكي لا تذهب بالقارئ الظنون، فيظن السوء بالدكتورة.
3-تقول الدكتورة: (أنا الخنجر البحريُ الأزرق الذي لن يستريح حتى يقتل الخرافة…)([11])!
ونحن مثل الدكتورة لن نستريح حتى نقتل الخرافة! فالخرافة عندنا هي أن يُعَبَّد البشر لغير خالقهم، فيعظمون لأجل ذلك الأحجار، والأصنام، أو المخلوقات، ويصرفون لهم شيئاً من الأقوال أو الأفعال التي لا تجوز إلا لله –عز وجل-(1/74)
هذه هي الخرافة التي أُنزلت الكتب وأُرسلت الرسل لقتلها وتحرير الناس من أسرها، وإخراجهم من ظلماتها إلى نور التوحيد.
فهل خرافة الدكتورة كخرافتنا ؟!
أم أن لها مفهوماً آخر عندها ؟!
المعنى في بطن (الشاعرة)!
4-وتقول: (أيها السيدُ.. إني امرأة نفطية تطلع كالخنجر من تحت الرمال تتحدى كتب التنجيم، والسحر..وإرهاب المماليك..) ([12]) .
قلت: نحن مثل الدكتورة نتحدى بل نحارب كتب التنجيم والسحر، لأنها من الشعوذة والخرافة التي جاء الإسلام بهدمها، بل كفَّر منتحليها([13]).
ولكن: هل تعني الدكتورة ما نعينه من هذه الدلالات ؟! أم أنها تعني أمراً آخر؟! العلم في (بطن الشاعرة) كما سبق، لأنها اتخذت المذهب الرمزي منهاجاً لها في كثير من أقوالها التي لا تود البوح بها.
5-وتقول: (أخرج من بطن الخرافة وأسنان شيخ القبيلة.. وفناجين القهوة العربية، وأخلع الحذاء الصيني الضيق. من عقلي .. ومن قدمي..وأذهب معك إلى آخر الحرية..) ([14]).
قلت: قد سبق ترديد الدكتورة لمثل هذه الألفاظ (الخرافة) (القبيلة) ولكنها لا تبين ما تقصد بها، والمسلم يرفض أن يكون أسيراً (للخرافة) أو (شيخ القبيلة)، بل هو أسير التعاليم الإسلام؛ لأن الله قد أمره بذلك، وهو إنما يفعل هذا ابتغاء رضوان الله.
أما إن كانت الدكتورة تقصد (بالخرافة) و(شيخ القبيلة) تعاليم الشريعة الإسلامية فبئس ما أوحى به شيطانها حيث أوقعها في المهلكة، كما سبق.
ونحن لا نُلزم الدكتورة بما لم يصدر منها (تصريحاً).
6-وتقول : (هذي بلاد لا تريد امرأةً تمشي أمام القافلة..) ([15]).
قلت: لا مانع أن تمشي المرأة أمام القافلة ما دامت ملتزمة بالحجاب الشرعي! أما إن عنت الدكتورة بأمام القافلة أن تكون رئيسة أو متصدرة لأهل القافلة، فقد قال صلى الله عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"([16]). (وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).(1/75)
7-وتقول الدكتورة: (قد كان بوسعي، -مثل جميع نساء الأرض- مغازلة المرأة.
قد كان بوسعي،
أن أحتسي القهوة في دفئ فراشي.
وأمارس ثرثرتي في الهاتف.
دون شعور بالأيام.. وبالساعات.
قد كان بوسعي أن أتجمل..
أن أتكحل.
أن أتدلل.
أن أتحمص تحت الشمس.
وأرقص فوق الموج.
ككل الحوريات .
قد كان بوسعي
أن أتشكل بالفيروز، وبالياقوت،
وأن أتثنى كالملكات.
قد كان بوسعي أن لا أفعل شيئاً
أن لا أقرأ شيئاً.
أن لا أكتب شيئاً
أن أتفرغ للأضواء .. وللأزياء.. وللرحلات..
قد كان بوسعي
أن أرفض
أن لا اغضب
أن لا أصرخ في وجه المأساة
قد كان بوسعي،
أن أبتلع القمع
وأن أتأقلم مثل جميع المسجونات
قد كان بوسعي
أن أتجنب أسئلة التاريخ
وأهرب من تعذيب الذات
قد كان بوسعي
أن أتجنب آهة كل المحزونين
وصرخة كل المسحوقين
وثورة آلاف الأموات
لكني خنت قوانين الأنثى
واخترت مواجهة الكلمات..) ([17])
قلت: وهذا الكلام من الدكتورة لا يحتاج إلى تعليق، وقد سبق مثله مما يصب في موضوع تهييج النساء المسلمات بالكلمات العاطفية التي تضر ولا تنفع.
8-وتقول الشاعرة عن حبيبها (الرجعي)!
(يا هولاكو الأول.. يا هولاكو الثاني. يا هولاكو التاسع والتسعين.
لن تدخلني بيت الطاعة، فأنا امرأة .. تنفر من أفعال الأمر) ([18]).
9-وتقول أيضاً:
(ليست الديمقراطية أن يقول الرجل رأيه في السياسة دون أن يعترضه أحد الديمقراطية أن تقول المرأة رأيها في الحب.. دون أن يقتلها أحد !!) ([19])
10-وتقول –أيضاً-: (كل شيء من حولنا يتساقط.. الفرح.. والطفولة..
ودفاتر الشعر،
وشجر الأحلام.
كل شيء يضيق.
حتى مساحة البحر.
ومساحة الحرية
حتى الشمس في هذا العصر الظلامي
أخذوها من بيتها ..
وحكموا عليها بالسجن خمسة عشر عاماً
بتهمة توزيع رسائلها الضوئية
على نوافذ المواطنين..
حتى ضوء القمر
ألصقوا صوره على كل جدران المدينة
وطلبوا إلقاء القبض عليه
حيا.. أو ميتا ..
حتى سنابل القمح
وضعوها في الإقامة الجبرية(1/76)
ومنعوا العصافير من زيارتها
حتى كلامنا في المقهى .. أو على الهاتف ..
مسجل على أشرطة
ومحفوظ في أرشيف المباحث العامة ..
إنهم يحاولون أن يغتالوا القصائد
ويحرقوا غابات الحب الخضراء
ويستأصلوا رجولة الرجال
وأنوثة النساء
ولكننا ..
سنتحداهم بكل طاقاتنا عن الحب
لأن الحب وحده ..
هو الذي سيطرد جحافل البرابرة
ويوقف هجمة عصور الإنحطاط.. ) ([20]).
11-وتمارس الدكتورة في مقدمة ديوانها (خذني إلى حدود الشمس) مهمة تهييج النساء المسلمات ودعوتهن بالكلمات العاطفية الرنانة للتمرد على أوضاعهن لكي يتابعنها على ما هي فيه من تحرر مما تراه من قيود (الرجعية) التي تكبلها بالأوامر والنواهي، وقد صرحت الدكتورة –وهي قليلة التصريح!- بأن الحجاب الشرعي يعد من هذه القيود التي كبلت المرأة في زمان مضى !! –والعياذ بالله- إلى أن استطاعت التخلص منه بموجة التحرير التي هبت على معظم بلاد الإسلام في القرن الماضي.
وهذا مما تباركه الدكتورة وتطالب بالمزيد منه! تقول الدكتورة المتحررة من الحجاب: (هذه قصائد حب لا حدود لها.. إنها محاولة لهدم كل الحيطان الحجرية التي تفصل بين الأنثى وأنوثتها.. بين المرأة وبين حقها الطبيعي في أن تتنفس.. وتتكلم.. وتعيش.
وإذا كان حق المرأة في الكلام العادي حقاً مرفوضاً، ومكروهاً، ومستهجنا في المجتمعات المتضخمة الذكورة.. فإن الكلام عن الحب في تلك المجتمعات يعتبر فضيحة كبرى، وجريمة موصوفة.
فالصوت الأنثوي، كان خلال مراحل تاريخية طويلة مرتبطاً بفكرة العار، والعرض، والشرف الرفيع، حتى وصل الأمر ببعض الغلاة والمتزمتين إلى اعتبار صوت المرأة عورة لا يجوز كشفها للسامعين.
ولقد قاتلت المرأة طويلاً لاستعادة صوتها المحجوز عليه، والخروج من مرحلة الخرس الطويلة، حتى تمكنت من إعادة تشغيل حنجرتها بعدما غطاها الصدأ.. نتيجة لعدم التدريب، وقلة الاستعمال.(1/77)
إن الحجر على صوت المرأة.. ووضعه (تحت الحراسة).. جعل المجتمع العربي ينطق بصوت واحد.. هو صوت الرجل بكل خشونته، وملوحته، ونبرته المدنية.
وهكذا لم تعرف موسيقانا (نصف الصوت) أو (ربع الصوت) وظلت السمفونية التي عزفها كورس الرجال وحدهم، (سمفونية ناقصة).
في بدايات هذا القرن، بدأت المرأة تتخلص شيئاً فشيئاً من الحجاب المفروض على وجهها..
ولكن الحجاب المفروض على (صوتها).. لم يتزحزح سوى سنتمترات قليلة.. وظلت المرأة رغم انفتاح أبواب العلم والمعرفة أمامها، واتساع أفقها الثقافي، تعبر عما يدور بعالمها الداخلي بنصف لغة .. ونصف صوت.. ونصف حرية.
فالمجتمع العربي لا يزال، رغم التحولات التي طرأت على بنيته، يعتبر الصوت النسائي مؤامرة على دولة الرجال وسلطتهم.. ويعتبر المرأة (الفصيحة) ظاهرة شاذة أو مرضية.. لابد من معالجتها بالعقاقير والمضادات الحيوية.
وهكذا ظل فم المرأة مختوماً بالشمع الأحمر، وغير صالح إلا لارتشاف الماء، ومضغ الطعام.
ومثل هذا الامتياز تتمتع به جميع الحيوانات بشكل غريزي
إن لعبة الحب هي لعبة يقوم بها اثنان: رجل.. وامرأة.. فلماذا يلعب الرجل وحده بأوراق الحب.. دون أن يعطي الفرصة للمرأة لتشارك في اللعبة.. وتجرب حظها ؟..
لماذا يحق للرجل، حين تجتاحه عاصفة الحب أن يقول للمرأة: (أحبك).. ولا يحق لها، إذا بللتها أمطار الحب.. أن ترد عليه بلغة، ربما تكون أكثر حرارة وأعذب جرسا، وأشد صدقاً ؟؟
وإذا كانت المساواة البيلوجية غير ممكنة.. فلماذا لا نحقق المساواة (العاطفية) على الأقل، باعتبار الحب عاطفة إنسانية يشترك الذكر والأنثى.. ولا تحتمل الفصل العنصري أو الجنسي ؟(1/78)
في هذه المجموعة الشعرية، أردت أن أحقق نوعا من (الاشتراكية العاطفية) بعيداً عن أي فكر إقطاعي.. أو قبلي.. أو احتكاري.. وأن استرد حقي الطبيعي كأنثى في نقل مشاعري إلى من أحبه.. تدون أي شعور بالنقص، أو بالاضطهاد، أو بالخروج على قواعد الأخلاق العامة([21])..
فالحب الكبير، لم يكن في يوم من الأيام مناقضاً للقيم العليا، والأخلاق العامة.
إنه حق مشروع لا يختلف عن حق الأمواج في التكسر.. وحق الرعود في التفجر.. وحق العصافير في الغناء والزقزقة..
فلماذا لا يسمح لي أن أكون موجة.. أو رعداً أو عصفورة تغني على نافذة حبيبها.. دون أن تقتلها بواريد الصيادين؟
لقد تغزل الرجل بالمرأة منذ بدء التاريخ.. ولم يترك لها هامشاً صغيراً من الحرية يسمح لها بأن تتغزل به..
أي أن المبادة العاطفية كانت دائماً في يد الرجل.. بالإضافة إلى امتيازاته القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية .
صحيح أن بعض النساء في تاريخنا الشعري قد كسرن هذا الاحتكار، كما فعلت الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي، حين أعلنت أنها تعيش حالة عشق، وكشفت أوراقها الغرامية بكل شجاعة.
إلا أن الغزل النسائي بشكل عام، ظل غزلاً خجولاً، ومتردداً وخائفاً من لعنة المجتمع.. وخناجر القبيلة.
فالمجتمع العربي، رغم كل مظاهر الحداثة والانفتاح الثقافي والحضاري على العالم، لا يزال يضع (الفيتو) على المرأة العاشقة، ويعتبرها امرأة ناشزة يشكل كلامها عن الحب، خادشاً للحياء العام وخطراً على الأمن القومي.
والسؤال الذي أود أن أطرحه هنا هو:
ما هي علاقة الأمن القومي بقلب المرأة، وأشواقها وأحلامها، وأحاسيسها الأنثوية الطبيعية والمشروعة؟
ثم أود أن أسأل:
لماذا لا يكون الرجل العاشق خطراً على الأمن القومي وقصائد الحب التي يكتبها تهديداً للسلام والأمن الاجتماعي؟(1/79)
وإذا كنا نؤمن بالديمقراطية أساساً لأنظمتنا السياسية([22])، فلماذا لا نطبق الديمقراطية على علاقتنا العاطفية أيضاً؟
ولماذا نطبق مبدأ التمييز الجنسي بين الرجل العاشق.. والمرأة العاشقة؟؟
وبعد، فهذه قصائد حب، أحاول بها أن أقيم (ديمقراطية عاطفية) يتساوى فيها الرجل والمرأة في حرية البوح، بحيث لا يحتكر الرجل وحده بلاغة الخطاب الأيروتيكي، ولا تبقى المرأة مجرد مستمعة لاسطوانة الحب التي يعزفها الرجل ليلاً ونهاراً.
إن لدى المرأة كلاماً عاطفياً مخزناً منذ آلاف السنين تريد أن تقوله…
فاسمحوا لها أن تفجر ينابيعها الداخلية، وتطلق آلاف العصافير المحبوسة في صدرها.
اسمحوا لها أن تنزع الأقفال عن فمها، وتقول للرجل الذي تحبه: (أحبك).. دون أن تذبح كالدجاجة على قارعة الطريق.
اسمحوا لها، ولو لمرة واحدة في التاريخ أن تعرف معنى المساواة في الحب وتستنشق رائحة الحرية"([23]).
المصطلحات (النصرانية) في دواوين الشاعرة :
من يطالع دواوين الشاعرة يجد أنها قد أكثرت من استخدام الرموز والمصطلحات المتعلقة بالنصارى، كألفاظ: (الصليب) و(الكنيسة) و(الناقوس) و(الأجراس) ونحو ذلك، وهذا مما يستغرب من شاعرة مسلمة أن تقع فيه وترضى لنفسها أن تتشبه بهؤلاء الكفرة في مصطلحات دينهم وعباداتهم، وهو أمر منكر ومحرم قد يهوي بفاعله في هاوية الكفر –والعياذ بالله- عندما يرتضي شيئاً من تلكم العبادات، أو يعتقدها –مع مخالفتها الصريحة للإسلام- كقضية صلب المسيح عيسى بن مريم –عليه السلام- مثلاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"([24]) ([25]).
فالنصارى لما زاغوا عن شريعتهم وحرفوها، اخترعوا بعض المظاهر الوثنية التي أقحمت في ديانتهم وحملوا الناس عليها.(1/80)
(ومن مظاهر تحريف النصارى لعقيدتهم: أنهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام قتل مصلوباً، لتخليص البشر من الخطيئة التي ارتكبها أبوهم آدم عليه السلام بأكله من الشجرة التي نهاه الله عنها، وزعموا أن هذه الخطيئة انتقلت من آدم إلى بنيه من بعده، فأصبح البشر كلهم مغضوباً عليهم ومبعدين من رحمة الله تعالى ! ولكن الله تعالى في المقابل، وبمقتضى رحمته، دبر للبشر طريقاً للخلاص من هذه الخطيئة، فتجسد في ابنه المسيح، فنزل وقُتل وصُلب فداء عن البشر! وتكفيراً لخطيئتهم) ([26]).
ومن ها هنا انتشرت بين النصارى ألفاظ: (الخطيئة) و(التكفير) و(الصلب) و(الفداء) و(يسوع المخلص) وغيرها من الألفاظ المتعلقة بهذه العقيدة المحرفة.
ولكن: إن كان لأبناء النصارى عذر في التعلق بألفاظهم ومصطلحاتهم فما عذر الدكتورة (المسلمة) في تشبهها بهم، حتى وقعت فيما يعارض كتاب ربها معارضة صريحة –كما سيأتي- ؟!
في ظني –والله أعلم- أن الذي أوقع الشاعرة في هذا المضيق العفن هو متابعتها لأساطين الحداثة في البلاد العربية، الذين تتابعوا على هذا الأمر، لا سيما وكثير من متقدمي الحداثة هم ممن يدينون بالديانة النصرانية، كجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وجبرا إبراهيم جبرا، وغالي شكري، وخليل حاوي، وتوفيق صائغ، وغيرهم.
ولا شك بأن هؤلاء الحداثيين النصارى قد نشروا مصطلحات ديانتهم (المحرفة) في ثنايا أشعارهم([27])، فجاء أغمار المسلمين كالدكتورة فتلقفوها عنهم دون تمحيص، ظانين بسذاجة وجهل أنها من شروط الحداثة!
ومن ذلك على سبيل المثال: قول الشاعر توفيق زياد: (على الصلبان منسية بلادي زهرة الدنيا وعود الند) ([28])
وقول البياتي: (وكأن يسوع معكم يعود إلى الجليل بلا صليب) ([29]).
وقول السياب: (غنيت تربتك الحبيبة وحملتها، فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه) ([30]).(1/81)
وقول صلاح عبد الصبور: (شعرت بأنني أصبحت قريباً وأن رسالتي هي أن أقدسكم) ([31]).
والأمثلة على هذا كثيرة.
المصطلحات (النصرانية) في شعر الدكتورة:
فمن ذلك قولها: (يا زمان القبح.. من أين يجيئ المبدعون؟ في بلادي، وعلى أي صليب من دموع يولدون؟)([32]).
وقولها: (أصبح شاي الساعة الخامسة نعمتي .. ولعنتي..
بسمتي .. ودمعتي..
واحتي .. وورطتي..
أصبح الصليب الذي أنزف عليه
والكرباج الذي يلسعني على ظهري) ([33]).
وقولها :
(فإن جرحوني
فأجمل ما في الوجود غزال جريح
وإن صلبوني. فشكراً لهم
لقد جعلوني بصف المسيح) ([34]).
قلت: وفي هذا المقطع وقعت الدكتورة في ماكنا نخشاه، وهو متابعة النصارى في عقيدتهم الباطلة التي ردها الله في كتابه، وهي قولهم بصلب المسيح –عليه السلام- وهو ما رده الله عليهم وكذبهم فيه، بقوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) ([35]).
وقولها :
(أنا قصيدتك المكتوبة بحبر الأنوثة
أنا عصفورتك
أنا جزيرتك
أنا كنيستك
فاسمع أجراس حنيني) ([36]).
وقولها :
(أسميك .. حتى أغيظ النساء – "حبيبي"
وحتى أغيظ عقول الصفيح –
"حبيبي"
أعرف أن القبيلة تطلب رأسي وأن الذكور سيفتخرون بذبحي
وأن النساء سترقص تحت صليبي..) ([37]).
وقولها :
(أصرخ: أحبك
فتخرج المدينة برجالها ونسائها ..
وشيوخها وأطفالها ..
لاستقبالك .
وتنطلق الحمائم
وتعزف موسيقى الجيش
وتمتلئ راحات الأولاد
بأكياس الحلوى ..
وتضيئ المآذن
وتقرع أجراس الكنائس.
معلنة تتويجك
ملكاً على قلبي) ([38])
ومن ذلك قولها :
(أصبح شاي الساعة الخامسة
ناقوساً يضرب في ضلوعي
وعبادة يومية أثابر عليها
ويوم لا يبقى من العبادات سوى أنت ..
ولا يبقى من المعابد سوى صدرك ..) ([39]) .(1/82)
والناقوس –كما نعلم- هو من شعارات النصارى الظاهرة، حيث يدقونه تنبيها للناس ليحضروا إلى الكنيسة.
ويؤكد هذا ما جاء في حديث ابن عمر –رضي الله عنه- في الصحيحين في حديث بدء الأذان قال: "كان المسلمون حينما قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر –رضي الله عنه-: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال فناد بالصلاة"([40]).
قلت: وقد وقعت الدكتورة في هذا المقطع في زلة عظيمة وانحراف فاحش حين زعمت أنها تعبد حبيبها! وأن صدره أصبح كالمعبد الذي لم يبق سواه!
والعبادة كما نعلم لا ينبغي أن تكون إلا الله وحده لا شريك له. ولكن الدكتورة كما سلف كثيراً تتابع في هذا شياطين الحداثة في بلادنا، الذين ابتذلوا مصطلح (العبادة) كثيراً، فعبدوا غير الله في قصائدهم.
فمن ذلك –مثلاً- قول نزار قباني الذي تأثرت به الشاعرة كثيراً! ([41]) :
إنني أعبد عينيك فلا
تنبئي بهذا الخبر([42])
وقوله عن نفسه :
مارست كل عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي([43])!
ومن ذلك قولها :
(الأوربيون أحرار في اختيار قديسيهم
وأنا حرة في اختيار قديسي.
هم يمارسون عبادتهم على طريقتهم
وأنا أمارس عبادتي على طريقتي
هم مقتنعون بكرامات أوليائهم
وأنا مقتنعة بكراماتك..
هذا يوم قديسي الحب .. فالنتاين([44])
وسأذهب إلى معبدك أنت
لأقدم نذوري..
وأحرق بخوري..) ([45]).
وقولها :
(وتشهد روحي مصلوبة.. وذاتي مهيأة للفناء
فللحب عشت، وللحب مت، وللحب هان عليّ الفداء) ([46]).
قولها :
(وإذا القلب كعصفور جريح في الضلوع
صلبت آماله الحيرى على مرأى الجموع .
فبدا من يأسه يحمل آلام يسوع) ([47]).
وقولها على لسان حبيبها واصفاً ريق ثغرها! أو نافورتها كما تقول!:
(لو رنا الورد إلى أنفاسها الحرى تبخر(1/83)
أو دنا الراهب منها .. نسي الَّدير ليسكر) ([48]).
انحرافات متنوعة ([49]):
1-من ذلك قول الدكتورة :
(لماذا كلما ذهبت إلى (خان الخليلي)
أشتري لك كل التعاويذ الفرعونية
وكل الحجابات الشعبية..
التي ترد عنك
زمهرير الشتاء
وصقيع الأعين الزرقاء؟..)([50])
قلت: لا يرد زمهرير الشتاء ولا صقيع الأعين الزرقاء! سوى الله جل جلاله القائل: (وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو) ([51]).
أما (التعاويذ الفرعونية) و(الحاجابات الشعبية) فهي أفعال شركية ابتدعها من آثر الدنيا على الآخرة ليبتز بها أموال الجهلة من الذين لا يفرقون بين الأسباب الشرعية لدفع الشر، كتلاوة القرآن أو الرقية، وبين الأسباب الشركية؛ كهذه التعاويذ والتمائم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتِوَلة([52]) شرك"([53]).
2-ومن ذلك: قولها عن حبيبها :
و(تعاليمك –يا مولاي- أحلى ما قرأت كل أوراقي التي أحملها في سفري) ([54]).
قلت: بل كتاب الله عز وجل، ثم ذكره، هو أحلى وألذ ما يقرأه المسلم، وقد أمر الله المسلمين بتلاوة كتابه بقوله: (ورتل القرآن ترتيلا) ([55]).
وأثنى سبحانه على (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) ([56])، وأمر بذكره في أشد الساعات كربا، وهي ساعة الحرب فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً) ([57]).
3-ومن ذلك: قولها :
(يا حبيبي :
إنني دائخة عشقاً
فلملمني بحق الأنبياء) ([58]).
قلت: إن كانت الدكتورة تعني بقولها (بحق الأنبياء) الحلف، فهو لا يجوز، لأنه حلف بغير الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"([59]).
وقال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"([60]).
وإن كانت الدكتورة تقصد التوسل بحقهم وجاههم –عليهم السلام- عند الله تعالى فهو –أيضاً- لا يجوز.(1/84)
(فالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه الأنبياء، أو بحق النبي، أو بجاه فلان، أو بجاه علي، أو بجاه أهل البيت كل هذا من البدع، والواجب ترك ذلك لكن ليس بشرك، وإنما هو من وسائل الشرك فلا يكون صاحبه مشركاً، ولكن أتى بدعة تنقص الإيمان وتضعف الإيمان عند جمهور أهل العلم، لأن الوسائل في الدعاء توقيفية، فالمسلم يتوسل بأسماء الله وصفاته كما قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) ([61]). ويتوسل بالتوحيد والإيمان كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد". فهذا توسل بتوحيد الله. وهكذا التوسل بالأعمال الصالحات كما في حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم صخرة لما دخلوا الغار من أجل المطر أو المبيت فانطبقت عليهم صخرة عظيمة فلم يستطيعوا دفعها، فقال بعضهم لبعض: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فتوسل أحدهم ببره لوالديه فانفرجت الصخرة بعض الشيء، ثم توسل الآخر بعفته عن الزنا وأنه كان له بنت عم يحبها كثيراً فأرادها لنفسه فأبت عليه ثم إنها ألمت بها سنة وحاجة، فجاءت إليه تطلبه العون فقال: إلا أن تمكنيني من نفسك فوافقت على أن يعطيها مائة وعشرين ديناراً من الذهب، فلما جلس بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف من الله سبحانه وقام عنها ولم يأت الفاحشة وترك لها الذهب وقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة بعض الشيء ولكن لا يستطيعون الخروج. ثم توسل الثالث بأدائه الأمانة وقال: إنه كانت عنده أمانة لبعض العمال تركها عنده فنماها وعمل فيها حتى صارت مالاً كثيراً من الإبل والبقر والغنم والرقيق فلما جاء صاحبها أداها إليه كلها كاملة فقال: يا ربي إن كنت تعلم أني فعلت ذلك(1/85)
ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا) وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحات من أسباب الإجابة.
أما التوسل بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه فلان، أو بجاه الصديق، أو بجاه عمر، أو بجاه علي، أو بجاه أهل البيت، أو ما أشبه ذلك فهذا ليس له أصل بل هو بدعة، وإنما التوسل الشرعي أن يتوسل المسلم بأسماء الله وصفاته أو بإيمانه بالله فيقول: اللهم إني أتوسل إليك بإيماني بلك أو بإيماني بنبيك، أو بمحبتي لك، أو بمحبتي لنبيك عليه الصلاة والسلام فهذا طيب وهذه وسيلة شرعية طيبة، أو يتوسل بالتوحيد بأن يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد. كل هذا طيب، أو يتوسل إلى الله ببره لوالديه، أو بمحافظته على الصلوات، أو بعفته عن الفواحش، كل هذه وسائل طيبة بأعمال صالحة، هذا هو الذي قرره أهل العلم وأهل التحقيق من أهل البصيرة، أما التوسل بجاه النبي، أو بجاه فلان، أو بحق فلان فهذا بدعة كما تقدم بيان ذلك والذي عليه جمهور أهل العلم أنه غير مشروع، والله ولي التوفيق) ([62]).
4-ومن ذلك قولها :
(أعطني سيفا
وخذ مني دواوين جميع الشعراء
أعطني عدلا..
وخذ مني تعاليم جميع الأنبياء.
أعطني خبزا..
فما يشبعني خبز السماء) ([63]).
قلت: نعوذ بالله من الضلال !
فالدكتورة تطالب محدثها بأن يعطيها (العدل) ويأخذ منها (تعاليم جميع الأنبياء)، أي أن الدكتورة حينما تحصل على (العدل) الذي تتصوره –ولو في غير تعاليم الأنبياء- سوف تأخذ وتستغني عن تلك التعاليم كلها!! لأنها حصلت على ما تريد، وهو (العدل).
وأي عدل يكون إن لم يكن مأخوذاً من تعاليم الأنبياء([64]) –عليهم السلام- التي أوحى بها إليهم خالق البشر الذي يعلم ما يكون به صلاحهم!!
قال سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس) ([65]).(1/86)
فهو سبحانه قد أرسل رسله وأنزل كتبه لينشروا العدل بين الناس، قال ابن كثير –رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات (وأنزلنا معهم الكتاب) وهو النقل الصادق (والميزان)، وهو العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة)([66]).
وقد أخبر سبحانه بأن العدل يكون منه فهو تعالى: (لا يظلم الناس شيئاً)([67])، وقد "حرم الظلم على نفسه"([68]).
5-ومن ذلك قول الدكتورة عن حبيبها :
(لست أفكر في تعليمك فن الحب
فأنت نبي الحب) ([69])!
وفي هذا ابتذال وامتهان لكلمة (النبي) التي لا تطلق إلا على أنبياء الله عليهم السلام.
ولعل الدكتورة عندما رأت أن اليونان قد جعلوا إلها للحب أرادت هي أن تحاكيهم فتجعل للحب نبيا!
أو أنه أصابها شيء من لوثات الحداثيين الذين ابتذلوا لفظ (النبي) في أشعارهم، فصاروا يصفون به من يتميز بالشعر عندهم([70]).
6-ومن ذلك قولها لحبيبها :
(يا ملك الملوك..
يا أكثر من حبيبي) ([71])!
وملك الملوك هو الله عز وجل؛ لأنه ملك الدنيا والآخرة، قال سبحانه عن نفسه في سورة الفاتحة: (ملك يوم الدين) ([72]).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخنع([73]) اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله"([74]).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ –رحمه الله-: (الذي تسمى ملك الأملاك أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب) ([75]).
7-ومن ذلك قولها عن حبيبها :
(وأنا أصلي كي تظل حبيبي
فاقبل صلاتي) ([76]).
وقولها : (أعش للصلاة بين يديك) ([77]).
قلت: بعد أن عبدت الدكتورة حبيبها ها هي تصلي له!(1/87)
والصلاة لا تجوز إلا لله، وهذا لا أظنه يغيب عن ذهن الدكتورة، ولكنها تجاوزات الشعراء الذين لا يلقون بالاً للضوابط الشرعية في أشعارهم، إنما هم يهيمون في كل واد وبكل لفظ، متبعة بذلك أبالسة الحداثة الذين امتهنوا لفظ (الصلاة) حتى تعبدوا به للمخلوقين([78]).
8-ومن ذلك قولها في رثاء ولدها :
(إن هذا الحب لي أقرب من حبل الوتين
وله فيض حناني وله فرط يمني
وهو بعد الله ربي وهو بعد الدين ديني) ([79]).
9-ومن ذلك:اعتراضها على تقدير الله –عز وجل- موت ولدها، بقولها:
(يا رب هذا قدر ظالم
يا ليتنا نملك رد القدر) ([80])!
وكل مؤمن يعلم أن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) وقال: (ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيءٍ عليم).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط"([81]).
فكان الأولى بالدكتورة أن ترضى وتسلم لأقدار اله ولا تتسخطها فيكون جزاؤها عند الله السخط([82]).
10-ومن ذلك: قول الشاعرة مخاطبة (حبيبها):
(أمثقف؟؟
ويقول في وأد النساء..
فأي ثقافة هذي.. وأي مثقفين؟
أمثقف ؟؟
ويريد أن يبقي حبيبته بسرداب السنين؟
أتقدمي في كتابته؟
ورجعي بنظراته إلى الأنثى
فإن ضحكت له امرأة .
يخاف عذاب رب العالمين !) ([83]) !!
فالشاعرة تريد من حبيبها أن يكون (تقدميا) في أفعاله، غير (رجعي).
والتقدمي في نظرها هو الذي لا يئد النساء ولا يخاف عذاب رب العالمين إذا ضحكت له امرأة!
والرجعي بخلاف هذا
قلت: أما وأد النساء فقد حرمه الإسلام منذ أن أشرقت بنوره أرض الجزيرة –ولله الحمد- بل عنف وأزرى بمن يفعله، وأنه موقوف يوم القيامة ومساءل عن فعلته الشنعاء هذه .(1/88)
قال تعالى: (وإذا الموءدة سُئلت) ([84]).
وقال سبحانه مزريا على أهل الجاهلية صنيع أحدهم عندما يبشر بالبنت: (وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتواريئ من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسُهُ في التراب ألا ساء ما يحكمون)([85]).
فهذا حكم الله في وأد البنات (ساء ما يحكمون) فالمسلم الحق بريئ من هذا (الوأد).
وأما خوف الرجل من عذاب رب العالمين عندما تضحك له امرأة أجنبية لا تحل له، فهذا مما يحمد لا مما يذم! لأن هذا الفعل لا يحل لها ولا له، والله قد أمر النساء عندما يخاطبن الرجال أن لا يخضعن بالقول، قال سبحانه (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) ([86]) فما ظنك بالضحك؟!
الحاصل: أن خوف هذا الرجل من عذاب رب العالمين عندما تضحك له امرأة أجنبية هو مما يشكر عليه لا مما يقدح فيه، ولو سمته الدكتورة (رجعية)! فإن (الرجوع) إلى الحق خير من (التقدم) إلى الباطل. والله الموفق.
11-ومن ذلك قولها:
(لا أحد يعرف شيئاً عن قبر الحلاج فنصف القتلى في تاريخ الفكر،بلا أسماء)([87]).
قلت: (الحلاج) زنديق من كبار الزنادقة الذين مروا بعالمنا الإسلامي، وقد قتل على هذه الزندقة بعد أن كفره علماء عصره([88])، وقالوا عن مقالته: (إنها محض الكفر) ([89]).
فكيف ترضى الدكتورة لنفسها أن تجعله –بعد هذا- من أهل الفكر المظلوم؟!
أم تراها اغترت بصنيع أحد كهان الحداثة، وهو الشاعر صلاح عبد الصبور في مسرحيته (الحلاج) ([90])! حيث امتدح فيها أفكار الحلاج الزنديق وأنه كان يقف مواقف نضالية في صف الكادحين حتى تعرض للقتل([91])!
هذا ما أظنه! لأنني اعتقد أن الدكتورة مجرد متابع ومردد لما ينعق به أساطين الحداثة، لعلها تحظى بشرف الانضمام إليهم، ولو على حساب دينها! هداها الله.
12-ومن ذلك : قولها :
(مشكلتك الكبرى يا صديقي
أنك تختزن في ذاكرتك كل الأفكار السلفية
وكل الكلمات المأثورة
وكل ما ورثته عن أجدادك(1/89)
من نزعات التملك ..
والسيادة ..
والتعددية النسائية..) ([92]).
وفي هذا المقطع أبانت الدكتورة عما يكنه صدرها تجاه من يتخذ الكتاب والسنة مرجعاً له في كل أموره، وهم (السلفيون)، فلمزت (حبيبها)! بأنه لا يزال منهم! يؤمن (بكل الكلمات المأثورة) و(كل ما ورثه عن أجداده) ولم تبين لنا ما هي هذه الكلمات المأثورة والميراث الذي ورثه (السلفي)، إن لم يكن هو قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .
ويشهد لهذا انتقادها وتعريضها بجواز تعدد الزوجات الذي نزل به القرآن ولكنه لم يوافق هواها، وذلك بقولها: (والتعددية النسائية)، وفي هذا رد لحكم الله تعالى الذي أباح ذلك للرجال في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ([93]).
ولكنه الهوى وسوء الظن بحكم الله تعالى الذي لا زال يعشش في ذهن الدكتورة.
13-ومن ذلك قولها الشنيع :
(أريد أن أكتب لك..
أو لغيرك ..
أو لأي رجل في المطلق
ما لا أستطيع قوله للآخرين..
فالآخرون.
منذ خمسة عشر قرنا
يتآمرون ضد الأنوثة..) ([94])!!
قلت: فمن تعني بالآخرين الذين يتآمرون على الأنوثة منذ خمسة عشر قرناً، إن لم تكن تعني بذلك الإسلام وشريعة الله عز وجل التي أنزلها في ذلك الزمان، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتنشر الحق والعدل بين الخافقين؟!
ومن –سوى الإسلام- أنصف المرأة وكرمها، بعد أن كانت مهانة في الديانات السماوية (المحرفة) أو الديانات والأفكار الأرضية؟!
فشريعة الله التي تلمزها الدكتورة زورا وبهتانا بأنها تآمرت ضد الأنوثة هي التي ساوت بين الذكر والأنثى المؤمنين في استحقاق الحياة الطيبة في الدنيا وفي الفلاح والفوز بالجنات عند الله سبحانه، فلم تفرق بين أي منهم لجنسه، إنما هو الإيمان والعمل الصالح، قال سبحانه: (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) ([95]).(1/90)
وقال سبحانه وتعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً) ([96]).
وقال تعالى: (ومن عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حساب) ([97]).
وقال سبحانه: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى بعضكم من بعضٍ) ([98]).
فشريعة الرحمن ساوت بين الرجل والمرأة إذا تحقق منهم الإيمان والعمل الصالح في أمرين مهمين :
1- الحياة الطيبة الهنيئة في الدنيا .
2- الفوز بجنات النعيم في الآخرة.
أما الأحكام المتعلقة بجنس الرجل وجنس المرأة في الدنيا إنما تتفاوت لتفاوت ما بين الجنسين في الخَلق ولا دخل لهذا كله بالفضل عند الله تعالى –كما سبق-
فأين الامتهان المزعوم يا دكتورة ؟!!
أو أن المساواة في نظرك –وفي نظر المتحررات من أمثالك –لا تكون إلا بأن تتمرد المرأة على شريعة ربها وتشارك الرجل في خصائصه المتعلقة بجنسه، وتلهث جارية خلف زيف الغرب وسرابه الموهوم، ولو أداها إلى الحياة التعيسة في الدنيا وصِلى النار في الآخرة!
فهذه مساواة قاصري النظر، ممن لا يسيره سوى شهواته وأهوائه.
الحاصل: أن الدكتورة أساءت لنفسها بهذا القول، وهو قول (كفري) إن كانت تقصد به أن الإسلام امتهن المرأة، عليها التوبة منه والاستغفار، قبل أن تلاقي ربها بظن السوء. نسأل الله لها الهداية.
14-ومن ذلك : تأييدها للطاغوت الهالك جمال عبد الناصر الذي رفع من شأن القومية العربية على حساب الإسلام، وآذى عباد الله من الدعاة والصالحين في تجربة ثورية خاسرة، لم تجن منها الأمة سوى زيادة الانقسامات والتحزبات والبغضاء بين أفراد الأمة ودولها.
تقول الدكتورة في قصيدة لها بعنوان: (من امرأة ناصرية إلى جمال عبد الناصر) ممجدة الطاغوت الهالك، ومنزلة له المحل الأسمى في قلبها وعواطفها، بلغة تكاد ترفعه عن مستوى البشر! تقول:
(كنا كباراً معه في كتب الزمان(1/91)
كنا خيولاً تشعل الآفاق عنفوان
كان هو النسر الخرافي الذي يشيلنا
على جناحيه، إلى شواطئ الأمان.
كان كبيراً كالمسافات،
مضيئاً كالمنارات،
جديداً كالنبؤات،
عميق الصوت كالكهان.
وكان في عينيه برق دائم
يشبه ما تقوله النيران للنيران
كنا شموساً معه.
توزع الضوء على مساحة الأكوان.
كنا جبالاً معه. من حجر الصوان
وكان يحمينا من الركوع والهوان
كنا نسمى باسمه ..
إذا نسينا مرة أسماءنا ..
كنا نناديه جميعاً، يا أبي
إذا أضعنا مرةً آباءنا ..
فهو الذي أطلقنا من رقنا
وهو الذي حررنا من خوفنا
وهو الذي
أيقظ في أعماقنا الإنسان ..
كان هو الأجمل في تاريخنا
والنخلة الأطول في صحرائنا
كان هو الحلم الذي يورق في أهدابنا
كان هو الشعر الذي يولد مثل البرق في شفاهنا ..
كان بنا يطير.. فوق جغرافية المكان
مستهزئاً من هذه الحواجز المصطنعة ..
من هذه الممالك المخترعة
من هذه الملابس الضيقة، المضحكة..
المرقعة ..
من هذه البيارق الباهتة الألوان .
كان على صورتنا ..
كنا على صورته
كان يرى التاريخ في نظرتنا
كنا نرى المستقبل الجميل في نظرته..
جبهتنا مرفوعة
تستلهم الشموخ من جبهته
فبضتنا قوية
تستلهم القوة من قبضته
أولادنا قد رضعوا الحليب من ثورته
كان هو القوة في أعماقنا
واللهب الأزرق في أحداقنا
والريح، والإعصار، والطوفان.
كان هو المهدي في خيالنا
وكان في معطفه يخبئ الأمطار
وكان إذا ينفخ في مزماره ..
تتبعه الأشجار
وكان في جبينه سنابل وحنطة ..
وفي رنين صوته ما يشبه الأذان([99]).
وكان في قدرته أن يطلع السنابل
ويجمع القبائل
ويستثير نخوة الفرسان
ويرجع الملك إلى بيت بني عدنان..
كان هو النجمة في أسفارنا
والجملة الخضراء في تراثنا
كان هو المسيح في اعتقادنا([100])
فهو الذي عَمَّدنا([101])
وهو الذي وحدنا
وهو الذي علمنا
أن الشعوب تسجن السجان
وأنها حين تجوع،
تأكل القضبان ..
يا ناصر البعيد قد أوجعنا الغياب
نمد أيدينا إليك لما ..(1/92)
حاصرنا الصقيع والضباب ..
نبحث عن عينيك في الليل..
ولا نمسك إلا الوهم والسراب
يا ناصر العظيم ..
أين أنت .. أين أنت
بعدك لا شعر، ولا نثر، ولا فكر، ولا كتاب
بعدك نام السيف في قرابه
واستنسر الذباب ..
يا ناصر العظيم..
هل تقرأ في منفاك أخبار الوطن ؟
فبعضه مغتصب ..
وبعضه مؤجر ..
وبعضه مقطع ..
وبعضه مرقع..
وبعضه مطبع ..
وبعضه منغلق ..
وبعضه منفتح ..
وبعضه مسالم..
وبعضه مستسلم ..
وبعضه ليس له سقف .. ولا أبواب ..
يا ناصر العظيم،
لا تسأل عن الأعراب
فإنهم قد أتقنوا صناعة السباب
وواصلوا الحوار بالظفر والأنياب
وحاصروا شعوبهم بالنار والحراب .
يا ناصر العظيم..
سامحني .. فما لدي ما أقوله
في زمن الخراب) ([102]).
15-ومن ذلك أيضاً: تمجيدها الطويل لطاغوت العراق صدام حسين الذي تأملت فيه أن يكون خير موحد للعرب بعد جمال الهالك، متغافلة عن كونه ينتمي إلى (حزب البعث) الكافر([103])، ولكنها سرعان ما انقلبت عليه عندما (توحد) مع بلادها الكويت!!
تقول الدكتورة في مقدمة كتابها (هل تسمحون لي أن أحب وطني): (لم يغن أحد لمجد العراق كما غنيت أنا، ولم يسق أحد مياه دجلة بدموعه كما سقيتها أنا.
ولم يرشق أحد جنوده بالورود والريحان، كما رشقتهم أنا.
وأخيراً، لم تتمن امرأة عربية أن يكون جسدها (نخلة تشرب من شط العرب) إلا أنا..
لقد كنت دائماً متهمة بأنني عراقية الهوى، وأن كتاباتي، شعراً ونثراً، مبللة بأمطار العراق، ورطوبة أنهاره، ونضارة بساتينه.
وكنت دائماً أفاخر بهذه التهمة الجميلة، لأنني كنت أعتبر العراق الجناح العربي القومي الذي يغطينا، ويحمينا، ويدافع عن مستقبلنا ومستقبل أولادنا.
وبكلمة أخرى، فإن التزامي بالخط العراقي، كان التزاماً بالخط القومي الوحدوي.(1/93)
كان العراق يمثل لي، تلك القوى الصاعدة، الواعدة، التي افتقدناها في السبعينات، كما كنت أرى فيه البديل القومي والاستراتيجي الذي سيصحح ميزان القوى بيننا وبين إسرائيل، وينهي حالة الهوان، والتخاذل والتشرذم والانفلات التي عصفت بدول المنطقة.. إلخ) ([104]).
أسأل الله أن يهدي الشاعرة، وأن يوفقها للتوبة النصوح.
- زكى نجيب محمود
هو: زكي نجيب محمود.
ولادته: 1905 في ميت الخولي عبد الله، مصر . وفاته: /10/1993.
ثقافته:
تعلم في مدرسة ميت الخولي الابتدائية ثم في القاهرة، دخل مدرسة كلية جوردن في الخرطوم، فمعهد المعلمين الأعلى، القاهرة، 1926 – 1930، ثم كلية الملك (King’s College)، جامعة لندن، 1944-1947.
وحصل على دكتوراه في الفلسفة.
حياته في سطور:
كاتب، أستاذ جامعي في الفلسفة، أستاذ زائر في كلية كولومبيا ولاية كارولينا الجنوبية وجامعة الدولة، واشنطن، الولايات المتحدة، 1953. مستشار ثقافي للسفارة المصرية في واشنطن العاصمة، أستاذ زائر في الجامعة العربية، بيروت، 1964، أستاذ في جامعة الكويت، 1968-1973؛ محرر مجلة الثقافة، 1949-1952، والفكر المعاصر، 1965-1968؛ ثم أصبح عضو المجلس الأعلى للثقافة عند إنشائه من جديد سنة 1980 كما هو عضو المجلس القومي للثقافة، 1979 وعضو المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا.
نال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة، 1960؛ وظفر بجائزة الدولة التقديرية، في الأدب، 1975؛ وأنعم عليه بوسام الاستحقاق من الطبقة الأولى. لقد زار كلاً من الجزائر وسورية والعراق ولبنان والكويت وأبو ظبي والسودان كما زار فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد اقترن بلوغه الثمانين بفوزه بالجائزة التقديرية للثقافة العربية التي منحته إياها منظمة "الألكسو"
السيرة:(1/94)
يقول عن نفسه: "ولدتُ في اليوم الأول من شهر فبراير سنة 1905 بقرية ميت الخولي عبد الله بمحافظة دمياط في الشمال الشرقي من دلتا النيل وقضيت في القرية نحو خمس سنوات من طفولتي الأولى بدأت من خلالها مرحلة التعليم الأولى في مدرسة القرية ثم انتقلت الأسرة إلى القاهرة وهناك استأنفت مرحلة التعليم الأولى حتى بلغت التاسعة من عمري وعندئذ نقل والدي إلى وظيفة في حكومة السودان بالخرطوم. وتنقلت معه بقية الأسرة لألتحق هناك بمدرسة كلية غوردون وهي في ذلك الحين المدرسة الوحيدة في السودان وتتألف من المرحلتين الابتدائية والثانوية وكانت على نظام المدارس الإنجليزية. فلما أوشكت على إتمام المرحلة الثانوية هناك عدت إلى القاهرة تكميلاً للمرحلة العليا.(1/95)
وفي سنة 1926 التحقت بمدرسة المعلمين العليا القسم الأدبي وتخرجت منها سنة 1930 وعملت بالتدريس في مدارس التعليم العام بضع سنوات ولكن حدث في أول يناير سنة 1933 أن صدرت مجلة وبدأت إرسال المقالات لتلك المجلة فكان ذلك ابتداء السير خلال حياتي كلها في خطين متوازيين إحداهما العمل الذي أرتزق منه وهو التدريس والآخر هو المشاركة في حياتنا الثقافية بالكتابة في المجلات أو بتأليف الكتب وكانت المقالات التي بدأت أنشرها في مجلة الرسالة مقالات في موضوعات فلسفية فلما كان عام 1934 تصادف أن التقيت بالمرحوم الأستاذ أحمد أمين الذي رئيساً للجنة التأليف والترجمة النشر منذ بدأت 1914 وإلى آخر حياته. وكانت تلك اللجنة تضم بين أعضائها معظم نجوم الفكر والأدب في مصر عرضت على الأستاذ أحمد أمين المشاركة معاً في إصدار سلسلة كتب تعرض تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب بأسلوب واضح سهل يتقبله المثقف العام. وهكذا كان فلم يمض عام حتى صدر الكتاب الأول قصة الفلسفة اليونانية سنة 1935 وفي العام الذي تلاه صدر الكتاب الثاني قصة الفلسفة الحديثة من جزءين وخلال الأربعينات صدر لنا معاً قصة الأدب في العالم في أربعة مجلدات على أنه قد حدث خلال تلك الفترة أن أصدرت اللجنة مجلة خاصة بها سنة 1937 هي مجلة الثقافة فاخترت أنشر مقالاتي بها منذ ذلك الحين بالإضافة إلى نشاط آخر قمت به من خلال خطة لمجلس التأليف تهدف إلى نقل عيون الأدب والفكر العربي فكان لي في ذلك المشروع كتاب عن هـ.جـ. ويلز وجعلت عنوانه الأغنياء والفقراء وذلك سنة 1937 ثم كان لي بعد ذلك كتاب فنون الأدب عربته عن شارلتون أستاذ الأدب الإنجليزي في إحدى جامعات بريطانيا.(1/96)
وفي سنة 1944 سافرت إلى إنجلترا في بعثة دراسية للحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة فالتحقت بجامعة لندن في كلية الجامعة وحصلت في صيف العام التالي 1945 على بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى في الفلسفة فكان هذا الامتياز يتيح لي في جامعة لندن التقدم إلى التسجيل لدرجة الدكتوراه فسجلت لها في كلية الملك بلندن تحت موضوع الجبر الذاتي (Self Determination) وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة سنة 1947 عدت بعدها إلى القاهرة لألتحق بهيئة التدريس بقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة (وكان اسمها عندئذ جامعة فؤاد الأول) على أني استأنفت السير في الخطين المتوازيين الذي أشرف إليهما ففي إحداهما أباشر عملي الجامعي وفي الآخر أشارك في حياتنا الثقافية العامة، وكانت مؤلفاتي لعدة سنوات منصبة على إخراج كتب جامعية في الفلسفة وفي الخط الثاني ظللت أصدر الكتب الأدبية والنقدية من خلال لجنة التأليف والترجمة والنشر حتى كان عام 1965 بلغت سن التقاعد ولكني عينت بالجامعة أستاذاً غير متفرغ حيث ما أزال حتى اليوم.
خلال تلك الفترة حدث ما يأتي: ففي سنة 1953 سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية أستاذاً زائراً في جامعتين حيث قضيت في كل منهما فصلاً دراسياً الأولى منها كانت جامعة كولومبيا بولاية كارولينا الجنوبية والأخرى كانت في جامعة بوليمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات. وبعد أن انتهى ذلك العام طلبت إلى مصر أن أكون مستشاراً ثقافياً في سفارتنا بواشنطن حيث قضيت عاماً واحداً ثم عدت بعده لأستأنف التدريس بقسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة. وفي سنة 1964 قضيت فصلاً دراسياً في بيروت بجامعة بيروت العربية ثم في سنة 1968 سافرت إلى الكويت أستاذاً بجامعتها لمدة خمس سنوات.(1/97)
وأعود مرة أخرى إلى معالم حياتي منذ عدت من لندن 1947 فكان أبرزها زواجي 1956 من الدكتورة منيرة أحمد حلمي أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس، وأما الأحداث الثقافية فكان من بينها الإشراف على مجلة الثقافة من سنة 1949-1952 وهي المجلة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر 1958 شاركت بقسط كبير في الموسوعة العربية الميسرة التي أصدرتها مؤسسة فرانكلين بتمويل من مؤسسة فورد، وفي سنة 1965 أنشأت باسم وزارة الثقافة مجلة الفكر المعاصر وأشرفت على تحريرها حتى سافرت إلى الخارج سنة 1968"
-توفي في 22/3/1414هـ.
مؤلفاته :
كتب جامعية في الفلسفة:
1- المنطق الوضعي، جزءان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1951.
2- خرافة الميتافيزيقا، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1953؛ ط2، موقف من الميتافيزيقا، بيروت، دار الشروق، 1983.
3- برتراند راسل، القاهرة، سلسلة "نوابغ الفكر الغربي"، دار المعارف، 1956. عرض لفلسفة برتراند.
4- دافيد هويوم، القاهرة، دار المعارف، 1957.
5- حياة الفكر في العالم الجديد، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957؛ ط2، بيروت، دار الشروق، 1982.
6- نحو فلسفة علمية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960.
7- جابر بن حيان، القاهرة، هيئة الكتاب بوزارة الثقافة، 1961.
كتب أدبية:
1- الأغنياء والفقراء، القاهرة، مجلس التأليف، 1937. مقالة عن H .G . wells.
2- جنة العبيط، القاهرة، دار الشرق، 1947.
3- شروق من الغرب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1951.
4- والثورة على الأبواب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
5- قشور ولباب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
6- فلسفة وفن، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
7- قصة نفس، بيروت، دار المعارف لبنان، 1965.
8- وجهة نظر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.
9- مع الشعراء، بيروت –القاهرة، دار الشروق، 1976.
10- أرض الأحلام، القاهرة، دار الهلال، 1977.(1/98)
11- موقف من الميتافيزيا، بيروت –القاهرة، دار الشروق، 1983.
12- في مفترق الطرق، بيروت، دار الشروق، 1985. مقالات.
13- رؤية إسلامية، القاهرة –بيروت، دار الشروق، 1987. مقالة.
14- عربي بين ثقافتين، القاهرة، دار الشروق، 1990.
15- بذور وجذور، القاهرة، دار الشروق، 1990.
16- حصاد السنين، القاهرة، دار الشروق، 1991. مذكرات.
(ج) ترجمات:
1- فنون الأدب، القاهرة، لجنة التأليف. والترجمة والنشر، 1938. The litirary arts, by prof. Charlton(?).
2- قصة الحضارة، القاهرة، م 1، لجنة التأليف والترجمة، 1950.
3- تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل، القاهرة، لجنة التأليف…، 1950-1952. The history of westirn philosphy, by Bertrand Russel.
4- المنطق –نظرية البحث لجون ديوي، القاهرة، مؤسسة فرنكلين، 1959. Logic, The theory of inquiry, by john Dewey.
(د) كتب ثقافية:
1- الشرق الفتان القاهرة، هيئة الكتاب المصري، 1961.
2- تجديد الفكر العربي، بيروت-القاهرة، دار الشروق 1971.
3- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1972.
4- قصاصات الزجاج، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1976.
5- في فلسفة النقد، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1976.
6- في حياتنا العقلية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1979. من زاوية فلسفية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1979.
7- هذا العصر وثقافته، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1980.
8- مجتمع جديد أو الكارثة، بيروت-القاهرة، دار الشروق، (؟). 1980.
9- قصة عقل، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983. سيرته الذاتية العقلية.
10- الكوميدية الأرضية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983.
11- أفكار ومواقف، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983. مذكرات الكاتب.
12- قيم من التراث، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1984.
13- عن الحرية أتحدث، بيروت-القاهرة، دار الشروق 1986.
14- في تحديث الثقافة العربية، القاهرة، دار الشروق، 1987.(1/99)
15- نافذة على فلسفة العصر، الكويت، سلسلة "الكتاب العربي"، 1990.
عن المؤلف:
1- الرأي (عمان، الأردن)، 9/10/1976. مقابلة. حوار عن أزمة الفكر العربي.
2- الحوادث، 24/5/1985، ص 67-69 و10/7/1987، ص 51-52؛ و1، 7، 1988، ص 52 – 53. مقابلات.
3- سدي، عبد الباسط: الوديعة المنطقية والتراث العربي: نموذج فكر زكي نجيب محمود، بيروت، دار الفارابي، 1990.
4- بعد الرحيل: مقالات مجموعة في رثائه بتقديم زوجته، 1417هـ.
لمحة عنه:
-يعد الدكتور زكي نجيب محمود أحد رواد "الفلسفة الوضعية"، والمروّج الأول لها بين المسلمين، وقد ألف لأجل هذا ثلاثة كتب، هي؛ (المنطق الوضعي)، (خرافة الميتافيزيقا)، (نحو فلسفة علمية) .
يقول الدكتور: "مذهبي الفلسفي هو فرع من فروع المذهب التجريبي، يمكن تسميته بالوضعية المنطقية" (المنطق الوضعي، المقدمة هـ).
ويقول –أيضاً- : "إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية التي ما فتئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها، وإن دعواها تتطلب جهاداً شاقاً طويلاً لتبقى في عقول الناس" (مجلة الكتاب، ج3، 1952، ص197).
ويقول الدكتور محمود أمين العالم: "إن زكي نجيب محمود هو الصوت الوحيد الذي يعبر عن الفلسفة الوضعية في شرقنا العربي" (عن الغزو الفكري في المناهج الدراسية، للأستاذ علي لبن، ص19).
ولكي نفهم عقيدة الدكتور ومذهبه هذه نبذه عن (المذهب الوضعي):(1/100)
-مر الدكتور زكي بثلاث مراحل –كما يزعم- : "المرحلة الميتافيزيقية، ومحورها الجبر الذاتي، والمرحلة الوضعية المنطقية، ومرحلة الاهتمام بالتراث" ولكنه مع هذا يوضح أنه لم يتخل عن مذهبه الوضعي حتى في مرحلته الثالثة، يقول الدكتور معقباً على الكلام السابق: "مع مراعاة أنني في هذه المرحلة الثالثة لم أتنكر للمرحلة الثانية، بل ما زلت حتى اللحظة أتمسك بالأسس العامة للوضعية المنطقية في مجال التفكير العلمي" (الوضعية المنطقية والتراث العربي، نموذج فكري زكي نجيب محمود الفلسفي، لعبد الباسط سيدا، ص 192).
-ويعترف الدكتور زكي بأن عودته للتراث كانت متأخرة جداً، يقول الدكتور عن نفسه في مقدمة كتابه (تجديد الفكر العربي):
"لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي –قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه؛ ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ؛ وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد؛ إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، … الخ" (ص5).(1/101)
ولكن هذه الصحوة من الدكتور على التراث لم تقده إلى تبني الحق واتباع الصراط المستقيم –كما سيأتي- إنما قادته إلى مزيد من الاضطراب والصد عن سبيل الله؛ لأن الرجل عندما عاد –كما يزعم- إلى التراث، عاد بفكره القديم (الوضعي) فقبل من التراث ما يقبله مذهبه الفلسفي، وتخير ما يناسب عقله -كما سيأتي- فكان رائده عقله ومذهبه لا الحق.
وللعلم: فبعض الباحثين استنكر من الدكتور تبجحه بأنه لم يعرف التراث إلا متأخراً، ثم نجده يخوض في مسائله وقضاياه ويرد كثيراً منه بجرأة عجيبة.
يقول الأستاذ جمال سلطان :"كيف يحق لصاحب تلك (النظرات العجلى) أن يحكم على تراث يشمل دنياً، وحضارة، وأعلاماً، وأمة، وقادة، كانوا مثار إعجاب العالم الغربي ذاته قبلنا؟" (غزو من الداخل، ص45).
ويقول الأستاذ محمد إبراهيم مبروك: "هل من الممكن أن يكون من الموضوعية أن يحاكم الإسلام بمعايير غربية ترسخت في ذهن صاحبها على امتداد أربعين سنة؟!" (علمانيون أم ملحدون، ص105).
انحرافاته:
1-أعظم انحراف له هو إنكاره للغيب كله!! اتباعاً لمنهجه الوضعي –كما سبق-، وقد ألف كتاباً بعنوان (خرافة الميتافيزيقا) أي خرافة الغيب!، وهو يعترف بهذا . يقول الدكتور:
"ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة –والوضعي المنطقي الجديد بصفة خاصة- هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذي يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه؛ وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها –لنفسي- ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه.(1/102)
وكالهرة التي أكلت بنيها، جعلت الميتافيزيقا أول صيدي –جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدها كلاماً فارغاً لا يرتفع إلى أن يكون كذباً، لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوره العقل، ولكن تدحضه التجربة؛ أما هذه فكلامها كله هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار –رموز سوداء تملأ الصفحات بغير مدلول- وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ليكشف عن هذه الحقيقة فيها" !! (المنطق الوضعي، المقدمة م).
فالغيب عند الدكتور ليس كذباً فقط، بل هو (كلام فارغ) ! –والعياذ بالله-.
وهذا كفر بالله لا يشك فيه أدنى مسلم؛ لأن الإيمان بالغيب (ومن ضمنه: الإيمان بالله، وبملائكته، وبالجنة والنار…) من لوازم الإيمان، فلا يصح إيمان عبد وهو يكفر بالغيب.
هذا، وقد قام الدكتور محمد البهي –رحمه الله- بتفنيد شبهات الدكتور التي ملأ بها كتابه (خرافة الميتافيزيقا)، وذلك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 239 وما بعدها فليراجعه من شاء).
وقد يتعجب البعض عندما يرى الدكتور في مرحلته الثالثة يهتم بالتراث، وهذا ما يناقض مذهبه الوضعي؛ لأن التراث يحتوي على غيبيات كثيرة، فكيف التوفيق؟
أقول: الدكتور لا يجعلنا نحتار في هذا التناقض الظاهري، فهو يعترف –كما سبق- بأنه باقٍ على مذهبه الوضعي حتى في مرحلته الثالثة، وأما عن اهتمامه بالتراث الغيبي ومدى تناقضه مع ما سبق، فيحل هذا الإشكال الأستاذ عبد الباسط سيدا بقوله: "لا يقبل زكي نجيب محمود الماورائية بأي معنى آخر، لأنها حينئذ ستكون بمثابة "أسطورة من أساطير الأولين"، لا تقدم إلى القارئ أي شيء، في الوقت الذي توهمه أن قضاياها قضايا تركيبية كقضايا باقي العلوم.(1/103)
والأمر الذي لا جدال فيه، هو أن هذه النتيجة لا تعجب العديد من المعجبين بالمذاهب الفلسفية الضخمة –التي يعتبرها الوضعيون المنطقيون ما ورائية فارغة من المعنى- لأنهم يرون أن للقضايا الواردة "في الكتب الميتافيزيقية تأثيراً في القارئ وتأثيراً قوياً جداً في بعض الأحيان، وبناء على ذلك لابد من أنها تعبر عن شيء"
هنا ترى الوضعية المنطقية –ممثلة في زكي نجيب محمود- أن العبارات الماورائية مثلها مثل الشعر الغنائي، إنما تعبر عن مشاعر الإنسان ورغباته، ولا نستطيع أن نحكم عليها بالصدق أو بالكذب، لكنها مع ذلك تختلف عن الشعر الغنائي –في الوقت الذي تتفق معه- من حيث أنها توهم القارئ والسامع بأنها تعبر عن شيء من الأشياء الحسية، في الوقت الذي لا تعبر فيه عن أي شيء من ذلك القبيل، وإنما تعبر فقط "عن الميول الانفعالية أو الإرادية" لأصحابها.
وتنتهي مهمة زكي نجيب محمود الوضعي المنطقي بشأن الماورائية عند هذا الحد، حد إخراجها من دائرة العلم ووضعها في دائرة الفنون، وبعد هذا الحد تترك الماورائية وشأنها، لأن مشاعر الإنسان ورغباته هي من الأمور التي ينبغي أن تراعى.
لكنه يصر على وجوب الفصل بين تلك المشاعر والقضايا العلمية، ويقول في ذلك "إنني لست أقل حرصاً على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا من هؤلاء الذي يصيحون في وجهي دفاعاً عنها، لكنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور وهم لا يفرقون"([2]).
أمام هذه الوقائع نتساءل: ماذا نحن صانعون بهذه الكتب الضخمة التي كتبها الماورائيون على مر العصور!!؟(1/104)
ويجيبنا زكي نجيب محمود بسرعة وبساطة: "إنه لعزيز عليّ وعليك أن تلقى هذه الأسفار كما كان ينبغي لها طعاماً لألسنة النار، أو أثقالاً في قاع المحيط، وإذن فلنبق عليها، ليقرأها القارئ –إذا أخذه الحنين إلى الماضي- كما يقرأ أساطير الأولين" !! (أسطورة الميتافيزيقا، ص 304) (نقلاً عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، لعبد الباسط سيدا، ص 119-121).
قلت: فبان لنا أن الدكتور لا يزال –في مرحلته الثالثة الأخيرة- مصراً على إنكار الغيب وأنه مجرد خرافة، ولكن لا مانع أن نقرأه للتسلية والفن!! أما اهتمامه بالتراث فينصب –كما سيأتي- على المواقف العقلية فيه، التي لا دخل لها بالغيب!
2-من انحرافاته: أنه في مرحلته الثالثة: اهتم بالتراث –كما يزعم-، ولكنه انتقى منه ما يسميه المواقف العقلية، التي ينبغي أن نأخذها ونحييها، وألف في سبيل هذا كتابه (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري)، فكانت النتيجة أن أحيا الدكتور تراث المعتزلة ونبذ تراث أهل السنة !!
يقول الدكتور عن تراثنا: "لم أجعل غايتي تقويم ذلك التراث، ومن أكون حتى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم لتراث كان بالفعل أساساً لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتي شيئاً آخر أظنه من حقي إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكري عما يجوز لعصرنا الحاضر" (عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، ص 231).
فما الذي انتقاه الدكتور من تراثنا زاعماً أنه يناسب عصرنا؟
يقول الدكتور: "إذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا فليكن موقف المعتزلة" ! (تجديد الفكر العربي، ص 136).
فهو –كما يقال- (زاد الطين بلة) ! كان ينكر الغيب ولا يأبه بالتراث، فلما التفت للتراث –مع إنكاره للغيب!- لم يجد ما يشده ويعجبه إلا تراث أهل البدع !! نعوذ بالله من الخذلان : (ظلمات بعضها فوق بعض).(1/105)
لأجل هذا وجدنا الدكتور ينصر رأي المعتزلة في قضايا كثيرة في كتابه (المعقول واللامعقول..)، كقضية مرتكب الكبيرة (ص68)، والقدر (ص 132).
ووجدناه يذم منهج الصحابة –رضي الله عنهم- والسلف الصالح، وأنهم -في نظره- :"يكذبون، ويكيدون المكايد، ويتآمرون، ويغتالون في سبيل الوصول إلى مواضع الرياسة والحكم"! (ص 100). ونجده يسخر من مذهب السلف في رؤية الله في الآخرة وفي قولهم في القدر (ص 294).
3-ومن انحرافاته : أنه يتبنى (المذهب النفعي) في المبادئ والأخلاق، فما كان نافعاً –في عقله القاصر- أخذ به، وما لم يكن اطرحه، دون نظر إلى حله وحرمته، فهذا لا يهمه.
يقول الدكتور: "إن المبادئ في شتى التيارات ليست حقائق تفرض نفسها على الإنسان بحيث لا يكون له قبل على تغييرها وتبديلها، بل هي بحكم طبيعتها (فروض) يفرضها الإنسان لنفسه حراً مختاراً، وهو يفرضها لنفسه لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها، حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العملية" (تجديد الفكر العربي، ص 197).
ثم يصرح أكثر بقوله: "ذلك أني أردت أساساً أن أقول: إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمراراً للعرب في ماضيهم، فلا يلزم من ذلك أن ينقل الحاضرون من الماضين كل ما اصطبغه هؤلاء الأسلاف من مبادئ! بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلما رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تثمر في حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضاً فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة، فلم يعد بد من تغير الفروض" (المرجع السابق، ص 198-199).(1/106)
ويقول في كتابه (المعقول واللامعقول): "إننا لا نُجاوز حدود التراث إذا أخذنا بمذهب أخلاقي في عصرنا الراهن هذا، يجعل الأخلاق قائمة على أساس "المنفعة" وحدها، فليس من الأخلاق المحمودة ما تثبت تجارب الحياة على طول السنين أنه ضار؛ وبهذا المبدأ وحده تزول عن التقاليد قدسيتها أو ما يشبه القدسية عند كثير من مواطنينا المعاصرين، فليست أولوية القبول لما قد جرى به عرف الأقدمين، بل الأولوية هي لما يثبت أنه جالب للمنافع دافع للمضار؛ ولما كانت المنافع تتغير بتغير الظروف عصراً بعد عصر، وجب أن تُراجع مبادئ الأخلاق عصراً بعد عصر كذلك، أو قل تُراجعُ حضارة بعد حضارة؛ ولقد ذهب كاتب هذه الصفحات هذا المذهب النسبي في القيم على اختلافها، فقامت عليه القيامة كأنه خرج بهذا القول عن مبادئ تراثنا المجيد!" (ص 151).
4-ومن انحرافاته: أنه يفهم (الألوهية) كفهم مشركي العرب أو فهم الفلاسفة اليونانيين! لا كفهم المسلمين الموحدين (انظر: إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، لأنور الجندي، ص87-91).
5-ومن انحرافاته: سخريته من شريعة الإسلام، وتشكيكه في وجود منهج متكامل للاقتصاد الإسلامي، ووصفه للحدود الشرعية بأنها (دعوة غريبة معادية لتطور العصر) ! (المرجع السابق، ص 260).
6-ومن انحرافاته: إنكاره للسحر ! (المعقول واللامعقول، ص441).
7-ومن انحرافاته : سخريته بحجاب المرأة المسلمة، وأنه "ردة حضارية"!! وأنه "حجاب على الفكر"! (جريدة الأهرام 9/4/1984م، عن: غزو من الداخل، لجمال سلطان، ص55).
ويقول: "إن ظاهرة الحجاب دليل على أننا نمر بحالة مزرية من التخلف، وإنه لا يُعقل أن تنهض المرأة المصرية في الجيلين الماضيين، ثم تأتي اليوم وتتخلف مرة أخرى بوضعها تلك العمامة على رأسها"! (جريدة الأهالي 25/6/1986م، عن: الغزو الفكري في المناهج، لعلي لبن، ص22).(1/107)
8-ومن انحرافاته: رده لبعض الأحاديث الصحيحة بعقله القاصر؛ كحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم…" الحديث رواه البخاري، وقد رده هذا العقلاني في كتابه (قيم من التراث، ص 155).
9-ومن انحرافاته: أنه يغلو في الغرب وحضارته، ويرى أنهم هم النموذج الأمثل لكل حضارة! متابعاً خطى شيخه طه حسين.
يقول الدكتور: "إنه لعزيز على نفسي أن أقولها صريحة، وإنه كذلك لعزيز على نفوس القراء أن يسمعوها، لكنه حق لا منجاة لنا عن مواجهته، وهو أن نموذج القياس إنما هو الحياة العصرية كما تعاش اليوم في بعض أجزاء أوروبا وأميركا، فقد شاء الله أن يكون هناك اليوم ينبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم!" (ثقافتنا في مواجهة العصر، ص 206، نقلاً عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، ص 266).
يقول الأستاذ عبد الباسط سيدا عن فكر الدكتور: "أما الحضارة الغربية فهي دائماً المثل الأعلى، وهي المقياس في دراسة التراث" (المرجع السابق، ص61).
10-ومن انحرافاته: أنه شارك في تأليف كتابي (الفلسفة) و(المنطق) لطلاب الشهادة الثانوية بمصر، وقد حشا هذين المؤلفين بكثير من الانحرافات التي نجملها في الآتي:
أ-تفضيله الفلسفة على الدين الذي يمزجه بالخرافات!
ب-ادعاؤه بأن الفكر اليوناني أصل الحضارات!
ج-محاولته بعث علم الكلام الذي ذمه السلف؛ لعدم فائدته.
د-مدح المعتزلة وذم أهل السنة.
هـ-تمجيد من يسمون فلاسفة الإسلام.
وللتفصيل، والرد على الكاتب، انظر: كتاب (الغزو الفكري في المناهج الدراسية، للأستاذ علي لبن).
11-ومن انحرافاته: تمجيده للملحدين في تاريخنا وتعاطفه معهم؛ كالحلاج وبشار بن برد وغيرهما (انظر: كتابه: تجديد الفكر العربي، ص 33 وما بعدها).
12-ومن انحرافاته: تحليله للتماثيل وصناعتها، وتشنيعه على من يحرمها! (انظر: كتابه: قيم من التراث، ص 17).(1/108)
-ختاماً: يقول الدكتور أنور الجندي: "لقد عرف الدكتور زكي نجيب محمود بأنه يدير لحناً قديماً مسئماً قد ظل يردده حتى قال الناسك يا ليته يكف عنه، فقد أصبح كريهاً إلى النفوس من كثرة ترديده.
ولم يستطع الدكتور زكي نجيب محمود أن يقنع أحداً بأنه يقدم منهجاً جديداً أو منهجاً صالحاً؛ لأنه تاريخه القديم وكتاباته السابقة ما زالت تطغى على مفاهيم الناس فتحول دون الثقة به، وما تزال كتاباته عن القول: بأن الغيب خرافة في كتابه (خرافة الميتافيزيقا) أو أنه تابع لمذهب غربي مادي قد أشبعه الغربيون نقداً وتمزيقاً، وقد داسته خيول الفلسفات المتوالية وهو مذهب الوضعية المنطقية وشيخه (اوجست كونت) التي يدور في فلكها، والموصدة عليه حلقة حياته كلها بعد أن تجاوزتها الفلسفات والأحداث.
إن علماء الغرب التجريبيون اليوم يتحدثون عن آفاق جديدة في العلم تتصل بالإيمان بخالق الكون بينما لا يزال الدكتور زكي غارقاً في الواقع التجريبي المحسوس وإنكار الميتافيزيقا والغيب والإيمان بالجبر الذاتي، والاحتكام إلى العقل الذي لا يستطيع أن يكون مقياساً منفرداً للنفس الإنسانية الجامعة بين المادة والروح، كذلك فإن نظريته في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ساذجة، بل وزائفة، وقد تخطاها المفكرون المسلمون، ومن الأسف أن الدكتور زكي نجيب محمود يعالج الفكر الإسلامي بمفهوم الفكر الغربي ويتجاهل أن الفكر الإسلامي يختلف من ناحية تكامله ونظرته الجامعة، وأن له مقاييسه الخاصة في دراسته ومعالجاته بينما يقف الفكر الغربي عند الانشطارية والمادية. إن المناهج الغربية التي تحاول أن تستخدم العقل وحده وتنحي الجوانب الروحية والذاتية في تفسير الكون أو تفسير الإنسان تتعثر ولا تستطيع أن تصل إلى شيء" (إعادة النظر..، ص 262).
وقال الدكتور مفرح القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (2/640-647):(1/109)
(1-الدكتور زكي نجيب محمود: أحد أبرز أعلام العلمانية المعاصرين، وأحد كبار دعاة التغريب في عالمنا الإسلامي المعاصر. سعى في عملية "التغريب" التي يدعو إليها إلى ضرورة اقتلاع الجذور الإسلامية واستبعادها وإحلال المبادئ العصرية الغربية محلها، مدعياً –على سبيل المغالطة- أنه بهذا الصنيع يكون متبعاً لمنهج الأسلاف، وأن مقصوده أن يكون خير خلف لخير سلف، فنراه يقول: "انتهيتُ إلى نظرات في التحول من قديمنا إلى الحديث بأنه لا تحول إلا إذا بدأناه من الجذور؛ من المبادئ نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى، فنستبدلُ مُثُلاً عليا جديدة بِمُثُلٍ كانت عليا في أوانها ولم تعُدْ كذلك، ولا ضير علينا في شيء من هذا، فأسلافنا قد صنعوا الصنيع نفسه؛ استبدلوا مبادئ بمبادئ وأفكاراً بأفكار ومثلاً بمثلٍ، ولا نريد سوى أن نكون خير خلف لخير سلف"([3])، ويقول محدداً ما يجب على المسلم اتباعه :"إنما الوقفة الصحيحة للكاتب العربي أينما كان في طول الوطن العربي وعرضه هي : أن يفصل في ذهنه بين ما توحي به العاطفة من جهة، وما يوجبه العقل من جهة أخرى. والذي يوجبه العقل هو أن تجند الأقلام جهودها في التعبئة الثقافية التي تحمل جمهور الأمة العربية على التسلح بثقافة الغرب وأدواته الحضارية، وأقل ما نقوله في هذا التوجه هو أن نصبح به أقدر على مواجهة الغرب ذاته، ومع ذلك فمن ذا الذي أوهمنا بأن تشرب روح العلم الجديد بكل ما يستتبعه من مناهج يتنافى مع هويتنا الأصلية"([4])، ويحسم طريق النهوض للأمة بأنه "ليس في الرجوع إلى تراث قديم، بل إن مصدره الوحيد أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا لنا بالعطاء"([5]).(1/110)
وليس للنصوص الشرعية عند زكي محمود حاكمية على أي شيء في حياتنا، وإنما الحاكمية العليا والمقدسة هي حاجاتنا، التي تقرر ما يصح وما لا يصح من التراث([6])، ولذا نجده يسخر كثيراً من قول الحافظ ابن كثير: "فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم"([7]). ولذا أيضاً ينفي عن التراث الإسلامي أي مقوم حضاري من "القيم الرفيعة" التي جلبتها لنا –في نظره- الحضارة الغربية، حتى ما يظن البعض أنه تشابه بين الاثنين كقيم العدالة والحرية والعلم والمساواة، فهو مجرد تشابه أسماء أما المضمون فمتخلف عند السلف ومتحضر عند الغرب، فنراه يقول: "أنا على علم بمدى التحفز الذي يتحفز به كثيرون دفاعاً عن تراثنا الفكري، ظناً منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين، فأخرجوا لفظاً من هنا ولفظاً من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك، ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد –وأعني القيم المحمودة الشريفة- قد وردت كلها في تراثنا، وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين، فإن قال المحدثون: حرية ومساواة وعلم وعدل، أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء، لقد سبقناكم بكذا قرن من الزمان إلى الحرية والمساواة والعدل والعلم وغيرها من القيم الرفيعة، ويفوتنا دائماً أن نتروى حتى نستوثق من أن كؤوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم ولم تستبدل به شراباً جديداً، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر، وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظاً ومعنى، وشكلاً ومضموناً"([8]).(1/111)
ولما قرر زكي محمود أن الشبه بين الحضارتين الغربية والإسلامية هو فقط في الشكل وليس في المضمون، عاد فأكد –كي يمتنع اللبس- أنه يجب أن نأخذ من تراثنا الشكل فقط دون المضمون، فالمناداة بشعار "العدل" و"الحرية" و"الفضيلة" و"المساواة" إنما نأخذها "مضموناً" من الحضارة الغربية، أما الحضارة الإسلامية فلا بأس أن نأخذ منها "الشكل" فقط، فنراه يقول: "وأستطيع أن ألخص رأيي في ذلك بعبارة واحدة قصيرة؛ تفصيلها وارد في سائر فصول هذا الكتاب، وهي: أن ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه"([9]).
ويحكم تارة على التراث الإسلامي بقوله: "إن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته، لأنه يدور أساساً على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان"([10]). ويدعو تارة أخرى إلى إيجاد تركيبة عضوية يمتزج فيها التراث الإسلامي مع عناصر الثقافة الغربية، ويتساءل: "كيف ننسج الخيوط التي استللناها من قماشة التراث مع الخيوط التي انتقيناها من قماشة الثقافة الأوروبية والأمريكية، كيف ننسج هذه الخيوط مع تلك في رقعة واحدة، لحمتها من هنا وسداها من هناك، فإذا هو نسيج عربي ومعاصر"([11]).
ويؤكد التباين بين الالتزام بالإسلام ومعايشة العصر بفكره ومشكلاته، واستحالة الجمع بينهما، فيقول: "إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا، نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين"([12]).(1/112)
ويحكم –في دعوته إلى "التقدم" –على الماضي عامة حكماً كلياً؛ بأنه أقل صلاحية من الحاضر، حيث يقول: "إن الماضي دائماً وفي كل الظروف أقل صلاحية من الحاضر دائماً وفي كل الظروف"([13])، ويرى "استحالة أن يكون الماضي أكثر رشداً من الحاضر وأخصب فكراً وأهدى سبيلاً"([14])، ونتيجة لهذه النظرة يقرر أنه : لا حكم لماضٍ على آت بحجة "أننا في تحول، وإذن فنحن في تغير، وإذن فلا حكم لماضٍ على آت"([15]).
ويدعو زكي محمود إلى هدم العقيدة الراسخة في العقلية العربية الإسلامية؛ القائلة بأن من حق الله في السماء أن يحكم ومن واجب العباد في الأرض أن يذعنوا ويطيعوا، فيقول: "… وأولى هذه الحلقات وأعمقها جذوراً وأكثرها فروعاً هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول، هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة. ونظرة العربي في صميمها هي: أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت، وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا تعارض مع المعقول ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول. تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول: إنها وقفة أفلاطوينة أكثر منها أرسطية، إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض، ففي السماء الأصول، وعلى الأرض الأشباح والظلال، إنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله، العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم"([16]).(1/113)
ويرى أن "الديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تنبني على مبادئ، كل منها يضع كتابه أمام مبدأ يسير منه ويستنبط"([17])، "والمبادئ في شتى البناءات الفكرية ليست حقائق تفرض نفسها على الإنسان؛ بحيث لا يكون له قبلٌ على تغييرها وتبديلها، بل هي –بحكم طبيعتها- (فروض) يفرضها الإنسان لنفسه حراً مختاراً، وهو يفرضها لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها؛ حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العلمية"([18]) . وينتج من كلامه هذا أن الدين والوحي مجرد فروض بشرية تجريبية افترضها الأسلاف لتلائم واقعهم وبيئتهم، وليس من حق أحد أن يعطيها صفة الثبات والخلود، بل لنا أن نبدلها وننسفها نسفاً، وقد صرح بذلك بوضوح، فقال: "ذلك أني أردت أساساً أن أقول: إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمراراً للعرب في ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلما رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تُثمر لهم حياتهم الثمرة المرجوة. كانت مبادؤهم فروضاً فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بدٌ من تغير الفروض"([19]).(1/114)
وليس هذا فحسب، بل كل شيء عند زكي محمود قابلٌ للهدم بما في ذلك الأخلاق والقيم، وليس هناك شيء أو فكرة –في نظره- لها حصانة من النقد والتجريح، فإن "حقيقة الكائنات أنها تتغير وبخاصة الإنسان، ولا يعيب الإنسان وهو في مرحلة التغير –مرحلة التحول، مرحلة السفر- أن تهتز القيم وترتج المعايير، بل العيب هو ألا ترتج هذه وألا تهتز تلك، فلا ينبغي أن تكون لشيء أو لفكرة أو لوضع أو لنظام حصانة تصونه عن النقد والتجريح"([20])، وعلينا –في نظره- أن نُلقي بآدابنا وعقائدنا ومعارفنا الإسلامية التي تعرف عندنا باسم (الثقافة) علينا أن نلقي بها في النار، أو نجعلها على أحسن الظروف مادة التسلية في أوقات الفراغ، فنراه يقول بعد فاصل كبير من تقديس (التقنيات) و(الصناعة) و(الآلة): "وتسألني: ماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي تحتكر عندنا اسم (الثقافة)؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول –كما قلت مراراً مقلداً هيوم وجارياً مجراه- لم أعد أقول: إنها خليقة بأن يُقذف بها في النار، وحسبي هذا القدر من الاعتدال ابتغاء الوصل بين جديد وقديم"([21]).
وهكذا فالعقيدة ينبغي أن تكون –في نظره- عقيدة الآلة، وكذلك الأخلاق لا اعتبار لها البتة في بناء الأمم والحضارات، اللهم إلا إذا فهمنا أنها تعني كيفية الضغط على أزرار الآلة الصناعية وزمنه، وإليك نص عبارته: "ووالله لولا خشيتي سوء التأويل لعارضت شاعرنا أحمد شوقي في قوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لأقول له: إنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن همو انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف أضغط على الأزرار ومتى"([22]).(1/115)
ويصم زكي محمود أهل السنة وأتباع السلف بالتطرف([23])، ويصور موقفهم من (العلم) بقوله: "…لكن المتطرفين من أهل السنة وأتباع السلف لم يكونوا ينظرون نظرة الرضى إلى أي فكر دخيل؛ فـ(العلم) عندهم لفظة لا تنصرف إلا إلى معنى واحد؛ هو العلم الموروث عن النبي عليه السلام، أما ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقاً، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل"([24])). انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي –وفقه الله-.
وقال الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في كتابه (علمانيون أم ملحدون؟) (ص 105-112): (يصف الدكتور زكي نجيب محمود نفسه في مقدمة كتاب (تجديد الفكر العربي) فيقول إنه :"واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي –قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه ولبثت هذه الحال مع الكاتب أعواماً بعد أعوام".
وبعد أكثر من أربعين عاماً من التشكيل الغربي للفائف عقله أراد لكي يوائم!؟ بين ذلك الفكر وبين التراث، لماذا؟ لكي لا تفلت منا عروبتنا ! (كما يقول). ولكن كيف حدث ذلك؟ يقول([25]). "استيقظ صاحبنا (يقصد نفسه) بعد أن فات أوانه أو أوشك فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه إزدراد العجلان، كأنه سائح يمر بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولابد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل".
فهل من الممكن أن يكون من الموضوعية أن يحاكم الإسلام بمعايير غربية ترسخت في ذهن صاحبها على امتداد أربعين سنة وأن تحدث هذه المحاكمة في عجالة سريعة سبعة أو ثمانية أعوام كل ذلك بغرض أخذ شيء منه (على أساس كونه تراثاً([26])) يتواءم مع الفكر الغربي للحفاظ على عروبتنا ؟(1/116)
فماذا للإسلام في كل هذا الكلام وما ذنبه أن فلاناً من الناس لا يقدره قدره فيعامله على عجالة بينما يقف من الفكر المعادى له موقف العبودية لعقود طويلة، وهل يحق لمن يكون هذا منهجه أن يضطلع بدور المجدد للفكر العربي؟!؟!.
من البدء لابد أن نعرف الموقع الذي يتحرك منه هذا الكاتب وهو كما هو معروف للجميع ينتمي انتماء جذرياً للفلسفة المنطقية الوضعية فماذا تقول هذه الفلسفة؟ وما هو موقفها من الدين بوجه خاص؟ سنتركه هو يجاوب عن ذلك. يقول الدكتور زكي([27]): "يرى المذهب الوضعي على يدي (أوجست كونت) وجوب الوقوف بمحاولاتنا نحو معرفة العالم الخارجي عند حدود الظواهر التي يمكن مشاهدتها وإقامة التجارب عليها واستخراج قوانينها العلمية القائمة على علاقة السببية، أما أن نجاوز الطبيعة المتطورة إلى ما رواء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة ولا عناء فيها، إن جاز للأسبقين في مرحلة الطفولة البشرية أن يحاولوها فلا يجوز ذلك لنا نحن الذين نعيش في عصر العلم ودقته.. وللمذهب الوضعي شعبة حديثة معاصرة تسمى بالمذهب الوضعي المنطقي مؤداها أن ما يجاوز حدود الخبرة الحسية ليس هو كما ظن "أوجست كونت" وكما ظن "كانت" متعذر المعرفة على الإنسان لقصور أدوات المعرفة عند الإنسان، وأنه لو كان مزوداً بوسائل أخرى للمعرفة غير وسائله الحالية لجاز أن يكون في مستطاعه معرفة ذلك العالم الأسمى، بل هو مستحيل المعرفة بحكم تحليل اللغة نفسها التي يستخدمها من يتحدثون عن ذلك العالم الذي يجاوز حدود الخبرة الحسية الممكنة، إذ أن تحليل تلك العبارات تحليلاً منطقياً يبين أنها عبارات بغير معنى"… أما "الوضعيون المنطقيون" إذا سئلوا عن رأيهم في عبارة كهذه، رفضوها لأن التحليل المنطقي لأجزائها وطريقة تركيبها يبين أنها بغير معنى، فلا يجوز قولها لا لأنها فوق مستوى العقل، بل لأنها عبارة فارغة"…(1/117)
وبمثل هذا المنطق وبمثل هذه المعايير جاء يحاكم الإسلام على أساس أنه مجرد تراث لابد من الاحتفاظ ببعضه لكي نحفظ لعروبتنا شيئاً من الأصالة كما يقول: لقد نظر إلى خصائص شخصيتنا فوجد فيها ثلاث خصائص إذا سلمنا بالأولى كان لزاماً أن نسلم بما يليها، وأولى هذه الخصائص هي نظرتنا الثنائية الحادة إلى السماء والأرض إلى الروح والجسد إلى الغيب والواقع تلك النظرة التي تجعل الطرفين في انفصام تام ويكون للطرف الأول دائماً السيادة المطلقة وللطرف الثاني الانقياد والتسليم. والثانية أن قوانين الأشياء والظواهر في الطبيعة قد تطرد أو لا تطرد دون التقيد بقوانين العلم، والثالثة أن قوام الأخلاق عندنا هو الواجب لا السعادة، وهذا الكلام سليم تماماً إذا فهمنا أن الدين الذي يتحدث عنه الكاتب هو المسيحية الغربية التي لا يستطيع في سنواته العجلى أن ينزعها من مخيلته أما الإسلام فإذا كان لا يستطيع أن يراه فلنحيله إلى أحد أبناء الحضارة الغربية التي يعتز بها مثل جارودى في (وعود الإسلام) أو إلى الدكتورة زيغر يدهونكه في (العقيدة والمعرفة) والتي لم تسلم بعد –وكلاهما يتحدث عن الفرق بين الإسلام الذي ألغى هذه الثنائية والمسيحية (الأرسطو أفلاطونية) التي رسخت هذه الثنائية وعمقت المسافة بين طرفيها. ونفس الأمر ينطبق على الخصيصة الثانية أما الثالثة فهو يرفض نفس المفهوم الديني للأخلاق ويضع بدلاً منه المفهوم البراجماتي لها الذي يجعل الهدف النهائي من الأفعال هو السعادة أو بقول أدق (لو أراد الدكتور) المنفعة، وهو ما يعني هنا إدخال القيم الأخلاقية نفسها في مجال المتغيرات (وأرجو من القارئ أن يحتفظ معي بهذه الملحوظة الهامة) لأن الواجب يحدد موقفاً أخلاقياً معيناً أما مفهوم تحقيق السعادة (المنفعة) فهو يقتضي تغير الموقف الخلاقي بحسب النتائج المتحققة والتي يجب أن تستهدف السعادة، سعادة من؟ لا أحد يعرف، وسوف نتعرض لهذا الأمر بالشرح في(1/118)
حديثنا عن الفلسفة البراجماتية.
ولهذا الموقف الذي يستدعي فيه الدكتور إلى ذهنه صورة أوروبا في القرون الوسطى يقول([28]): "إننا في حياتنا الثقافية مازلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية وإننا لولا علم الغرب وعلماؤه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة البدائي في بعض مراحلها الأولى" إنها يا سادة حالة حادة من الإنسلاب النفسي أمام معطيات الغرب.
هناك قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي يسردها المؤرخون دائماً على أنها رمز للجهاد الفكري في الحضارة الإسلامية وعلى الاستماتة في الحفاظ على حقائق القرآن والسنة من عبث العابثين أو تدخلات الحكام تلك القصة هي مواجهة الإمام أحمد للقائلين بخلق القرآن وعلى رأسهم الخليفة المأمون وكيف كان إصراره الفريد على موقفه برغم الاضطهاد وقد يمثل هذا الموقف الذروة في جهاد أئمة المسلمين من أجل استقلال حقائق الدين عن آراء الحكام.(1/119)
لكن الدكتور زكي نجيب محمود بعد سرد هذه القصة أراد أن يستدل بها على أشياء على النقيض التام من كل ما سبق ويقول الدكتور([29]) معلقاً على تلك القصة: لا، لم يكن في ساحة الفكر عن الأسلاف "حوار" حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذات خطر كبير على سلطة الحاكم، وكيف يكون والحوار إنما يتم بين أنداد ذوي قامات متقاربة، وأوزان متكافئة؟ أما وساحتنا لا تعرف هذا التكافؤ ولا ذلك التقارب في الأوزان والقامات –اللهم إلا في المبادئ النظرية التي كادت لا تشهد العمل والتطبيق- وكل الذي تعرفه هو أن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من نخيل، ليحيط بها كلأ قصير فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برؤوسه، جُذت رؤوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام.. هذه كانت ساحة الفكر، وتلك هي كائناتها، فهي بطبعها ترفض أن يدور على أرضها حوار إذ لا يكون حوار بين نخيل ونجيل.. وفيم العجب؟ ألسنا قوماً على الفطرة؟ تلك إذن هي سنة الفطرة: فهل ترى –في البحر- حوار الأنداد قائماً بين الحوت والبلم؟ أم هل ترى –في الفضاء- نقاش الأقران دائراً بين سباع الطير وبغاثها؟ وهل تجري مفاوضات في الغاب –إلا في الأساطير والحكايات- بين الليوث والغزلان؟
تلك هي فطرة الأحياء والأشياء وظواهر الطبيعة، ونحن قوم على الفطرة فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر الأرض والسماء؟"(1/120)
وما يريد أن يقوله الدكتور هو أن تراثنا الفكري الإسلامي بالكامل كان من صنع الحكام المستبدين وهو بذلك ليس تراثاً مزيفاً فقط وإنما هو تراث معاد للإنسانية مسوغ لإستبداد من يحكمون ومن يملكون القوة والسلطان. وبالرغم من ندرة هذه المواقف فإن استدلال الدكتور قد تحتمل صحته لو أن الإمام أحمد وافق المأمون على ما يريد، لكن ما بالك وأن ما حدث هو على العكس تماماً فبرغم ما ذاقه الإمام أحمد من صنوف العذاب إلا أن ذلك لم يثنه عن موقفه المتصلب المستميت، إلا أنه في النفس شيء يجعلها تقلب الأمور رأساً على عقب وتحاول أن تحيل الليل نهاراً والنهار ليلاً. كما أن الخليفة المأمون عندما فعل ما فعل فإنه لم يكن يفعل هذا طمعاً في دنيا أو رغبة في سلطان يدعوه إلى الاستبداد والإصرار على رأيه وإنما كان يفعل ذلك من وجهة نظره هو دفاعاً عن حقائق الدين كما يراها، فلا داعي للغمز بالخلفاء في كل مناسبة واتهامهم بمجافاة الدين وتنحيه عن حياتهم.
وللدكتور زكي نجيب محمود طريقة ذكية في عرض أفكاره يخلص بها إلى الغرض المنوط منها، فهو عادة يفترض ثلاث وجهات نظر أمام القضية المحورية التي يطرحها يختار أوسطهما فيبدو ذلك أنه نموذج للفكر الوسطي وأنه يتمثل بذلك الرؤية الإسلامية إلى الكون، مع أن الحقيقة فيما يفعل أن وجهات النظر الثلاث التي يطرحها الأولى شبيهة لوجهة النظر الإسلامية والثانية معادية والثالثة متطرفة في معاداتها للإسلام وبذلك فإنه عندما يعطي للقارئ انطباعاً ما بوسطيته باختياره وجهة النظر الثالثة فإنه في الحقيقة قد استطاع بتلك الحيلة أن يوقع به في قبول وجهة النظر التي يبغيها والتي هي في نفس الوقت معادية للإسلام ومناقضة له تماماً.(1/121)
ففي مقال له بعنوان (صورة جديدة لأفكار قديمة) ([30]) يذهب إلى أن هناك ثلاث أفكار تمثل كبرى القضايا بالنسبة للإنسان، وهي فكرته عن إله خلقه وفكرته عن نفسه وفكرته عن الكون الذي يعيش فيه، ثم يتساءل بأي الأفكار ينبغي لإنسان العصر أن يبدأ؟ هل يبدأ من فكرته عن الخالق ودراسة العقيدة الدينية أولاً أم يبدأ بدراسة نفسه والكون معاً وعندئذ فقط يكون أقدر ما يكون معرفة وفهماً لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعاً. ويقول "والحق أن ثمة فرقاً بعيداً بين الحالتين حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه؟ وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ على ضوء ما تدرسه دراسة متعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معاً". ثم يعرض لوجهات النظر الثلاث في الإجابة عن ذلك، الأولى هي البدأ بدراسة الثقافة (لاحظ أنه يكاد يتأفف دائماً من ذكر التعبير الحقيقي أي الدين الإسلامي) التي استظل بظلها أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد واستنتاج الحلول منها، أما الثانية فهي أخذ ثقافتنا الآن بضاعة جاهزة من منتجات الغرب الحديث والمعاصر، تماماً كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات. ويصفها هنا أنها أضعف وجهات النظر حجة وأبعدها عن الصواب (لاحظ أن وجهة النظر الثالثة التي يهدف إلى إقناعنا بها لا تختلف شيئاً في مضمونها عن وجهة النظر هذه!). أما وجهة النظر الثالثة فهي تريد لنا حياة ثقافية تظل معها السحنة العربية بعامة –والمصرية بخاصة- سليمة من الأذى (ما كل هذا الكرم!) مع تعميق الثقافة الغربية لتشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعاً في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها، وبهذه الثقافة العلمية نكون أقدر على فهم ديننا فهماً لا يتصادم مع أسس الحياة كما تفرضها ظروف واقعنا" ا.هـ.(1/122)
فهل من الممكن أن يتفق مع الإسلام أن يكون مجرد سحنة عربية من الثقافة لا ترتقي حتى لأن تصل إلى مستوى السحنة المصرية. وما دخل العلوم المعاصرة في اختيار هذا الموقف أو ذاك ولماذا الإصرار على وضع الإسلام وكأنه في صراع ومواجهة مع العلم؟! إذا كان يقصد بذلك العلوم الطبيعية فإن القرآن لم يقل مثلاً أن الغلاف الجوي على بعد 50 ميل وقال العلم إنه أقل من ذلك أو أكثر ولم يأت القرآن بقوانين في الميكانيكا تتناقض مع قوانين نيوتن وليس للقرآن آراء في الانشطار الذري تختلف عن آراء أينشتين. فلماذا الإصرار على هذه اللعبة المستهلكة التي يوضع فيها الإسلام في مواجهة العلم ويطلب منا اختيار أحدهما. أما إذا كان المقصود بهذه الثقافة العلمية علوم الغرب الإنسانية المستمدة من عمق ثقافة حضاراتهم العلمانية فكيف أبني ثقافتي على هذه العلوم التي ما هي إلا ركام من آراء البشر وأتطلع من خلالها إلى فهم الخالق والدين وأقول إنني سأكون بذلك أقدر على المعرفة والفهم؟ ما ذنب الإسلام أن يحاكم على معايير قوم تصدعت نفوسهم من الانحلال والحيرة والتيه ؟!
إن غاية هذه العلوم أنها تقدم رؤية ما للكون والحياة وحركة التاريخ وهي رؤية ظنية تتشتت فيها الآراء الغربية إلى فرق متباعدة يخطئ كل منها الأخرى، فهل لو نحن مؤمنون ينبغي علينا أن نحاكم ديننا الإسلامي المنزل من السماء إلى المعايير المستخلصة من هذه الآراء البشرية التي تتعرض كل يوم للنقد والتصحيح؟!(1/123)
وهل ينبغي على الدين أن يقف موقفاً حيادياً من حيرة الإنسان في فهمه لأحداث الكون والحياة ويتركه دون هدى في هذه المتاهة من الفلسفات والمذاهب والآراء التي تتشتت بها عقول البشر في كل اتجاه وبأي معايير يمكن محاكمته وتفضيل وجهات النظر تلك عليه؟! لقد يستساغ ذلك لو أن الدين جاء بآراء تتناقض مع بديهيات الواقع المعقول، أما إن كان يقدم وجهات نظر تختلف مع وجهات النظر الأخرى للفلسفات والمذاهب فكيف يكون من المنطق أن نحاكمه على أساس معاييرها؟ هل أخطأ الدين حين قدم للإنسان رؤيته الهادية للكون والحياة؟!
من وجهة نظرهم نعم كان ينبغي على الدين أن يقف هذا الموقف الحيادي الذي يبغونه ولا يتدخل في حياة البشر وتوجيههم وإنما من له حق التدخل عندهم فقط هو عقل الإنسان مهما كان شطحه.
فهل هم وقفوا هذا الموقف من وجوب تنحية الدين عن التدخل في شئون البشر نتيجة دراسة فلسفية عميقة أتت لهم بهذه النتائج؟ لا وإنما غاية ما في الأمر أن الغربيين يفعلون ذلك فعليهم إذن أن يفعلوه. ولكن لماذا يقف الغربيون هذا الموقف؟ ببساطة جداً لأنهم لا ينظرون إلى الدين إلا على أنه وهم من الأوهام فمن أراد أن يحتفظ بهذا الوهم فليحتفظ به لنفسه ولا يقحمه في حياة الآخرين. ويتلقى الإنسلابيون عندنا هذه الآراء ثم يريدون أن يحاكموا ديننا بها). انتهى كلام الأستاذ محمد إبراهيم مبروك –وفقه الله-.
ثم نعود لطه حسين.
ـ طه حسين
لقد كان طه حسين ظاهرة في عالمنا العربي ، فهو الأزهري الذي عشق فرنسا بعد زيارتها والدراسة هناك . و كما ذكر مُقدِم كتاب ( المعذبون في الأرض لطه حسين ) :
" أُرسل إلى فرنسا على نفقة الجامعة فالتحق أولاً بجامعة مونبيليه ثم السوربون في باريس حيث حصل على الدكتوراه عام 1918 ببحث كتب عنوانه " ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية " تزوج عام 1917 فتاة فرنسية هي الآنسة سوزان فكانت ملاكه الحارس حتى آخر أيام حياته "(1/124)
" تبنى منهج ديكارت وهو الذي قاده إلى وضع كتابه ( في الشعر الجاهلي ) الذي أحدث ضجة كبرى "
لقد كانت أطروحات طه حسين مثيرة للجدل ، ليس لأن واقعنا العربي والإسلامي يحاصر المبدعين كما يزعم أصحاب العقول الملوثة ، ولكن بسبب أن طه حسين لم يولد في باريس ، ولم ينشأ في برلين ، بل كان عربيا مسلما وُلد من أبوين مسلمين ودرس في الأزهر وحفظ القرآن ، ثم صادر كل ذلك ليعود إلى الأمة من باريس بعيون زرقاء .
عاد بلسان عربي ، وفكر أوروبي ، فبدأ بنشر ثقافة تحاول تغيير مسار الأمة العربية عن تاريخها الإسلامي وعمقها العربي إلى امتداد غربي أوروبي ليبرالي . هكذا بدم بارد ، وفكر ملوث لأن حضرة الأديب أُعجب بفرنسا ، وهام حبًا بالحضارة الغربية ، فوا أسفا على العقول العربية التي يتلاعب بها أمثال هؤلاء الممسوخين .
" إن طه حسين حينما أصدر كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) كان يطالب بتحويل حلم الخديوي إسماعيل – بجعل مصر قطعة من فرنسا ـ إلى حقيقة "
إذاً كان شعاره واضحًا في جعل مصر تعبر البحر المتوسط إلى أوروبا ، وأن يتخلى العرب عن الإسلام ويتوجهوا نحو العلمانية .
" إلا أنها تبقى ظاهرة لافتة للنظر أن يؤكد المفكران المسيحيان عفلق وزريق ارتباط الإسلام بالعروبة – ماضيًا وحاضرًا وبالنسبة لعفلق مستقبلاً – بينما اتجه المفكران المسلمان قبلهما ، طه حسين وساطع حصري ، إلى التقليل من دور الإسلام في رؤيتهما للحقيقة القومية إلى حد المناداة بالعلمانية الصريحة "
ثم توالت الروافد التغريبية ، والأفكار التقدمية ـ كما يزعمون ـ من ليبرالية واشتراكية وغيرها ، التي كانت تهدف إلى سلخ الأمة من دينها وعروبتها .(1/125)
" وقد وصل الأمر إلى استخدام " الدراما " أداة خبيثة لتحقيق هذه الأهداف فقد ساهم نجيب الريحاني الصليبي في الاستهانة باللغة العربية من خلال فلمه ( غزل البنات) وبمدرس اللغة العربية الذي صوره يائسًا بائسًا تبعث كل مواقفه على السخرية ولا يثير الاحترام عند أحد "
" وفي التاريخ مارسَ جورجي زيدان اللبناني النصرانى تزييف الحقائق والتاريخ من خلال القصص والروايات التي كانت محط أنظار القراء في وقته ، وكان الناس يترقبون رواياته بشغف "
وفي عالم الأدب ساهم الحداثيون في أدبهم ( اللامعقول ) في زيادة الهم والغم فنقلوا إلينا أدب الألغاز والغموض في تبعية فجة ما زادت الأمة العربية إلا جدلاً وخلافًا .
وما زال المد التغريبي يتجدد في كل زمان بأشكال وصور متعددة فمن رفاعة الطهطاوي و قاسم أمين إلى طه حسين إلى ساطع حصري إلى أفراخ الليبراليين ، حتى هذه اللحظة ، لكنهم لم يقدموا للأمة شيئًا ولم يضعوا لبنة في بناء حضارة متماسكة .
كل الذين جاءوا من الغرب وأُعجبوا بنظامه وأفكاره لم يأتوا بمشروع حضاري لنهضة الأمة ، وإنما أتوا بأفكار الغرب وأخلاقه ( باسم الحرية والديمقراطية ) يا ليتهم جاءوا باختراعات وصناعات ، إنهم وللأسف لم يستطيعوا أن يصنعوا ولا حتى إبرة ، ربما نستفيد منها في نسج غطاء لهم يستر سوأة أفكارهم ، وفضيحة انتماءاتهم . إن مما أضافوه لأمتنا العربية بلاء وفساد ، وإثارة للفتن ، والشبهات حتى أصبح هم بعض شبابنا أن يتمتع بصورة فتاة جميلة عبر الإعلام أو ينام على أنغام أغنية ماجنة .
بل أصبح بعضهم عميلاً لدول متربصة فهو يتلقى تعليمات أسياده من سفاراتهم .
و أصبح الحال كما قال معروف الرصافي بنبرة صريحة ناقدة :
" وإذا تسأل عما هو في بغداد كائن
فهو حكم مشرقي الضرع ، غربي الملابن
وطني الاسم ، لكن انكليزي الشناشن
قد ملكنا كل شيء نحن في الظاهر لكن
نحن في الباطن لا نملك تحريكًا لساكن "
كيف بدأت الأسطورة ؟(1/126)
إلى أى مدى إنسلخ طه حسين من الواقعية وتصويره للنصوص الربانية بتصورات فلسفية ويحاول زحزحة صرحها الصامد بخيالات وأوهام وخزعبلات سماها أدبية !!!
كيف ولمً وبما ؟
أخاطبك أنت يا صاحب التصور العقائدى السليم عما يليق وما يجوز وما يستحيل فى حق الملك الكريم
إقرأ وتأمل وابحث وراجع هذا النقض الجدلى السليم
وللأسف أتى من أعجمى ولكنه فهم اللسان العربى وكأنه ولد فى أحد بوآديها . فارس نبيل يحمل سنان كسنان الرافعى رحمه الله تعالى .
يقول الدكتور فرهاد ديو سالار
الأستاذ المساعد بجامعة آزاد الإسلامية – كرج
((اتخذ طه حسين النبي و عصره مادة للأدب الأسطوري مستخدما الأساطير اليونانية والرومانية و الفرنسية و ساق الأدب العربي على غير طريقه و ألبسه ثوبا من غير نسجه و نسج عليه نسجا أوروبيا و ساقه في نفس الطريق الذي افتن بالأدب الأوروبي الغربي بصورة عامة و بالأدب الفرنسي بصورة خاصة و في الحقيقة محاكاة محضة يعرض على قارئه ولكن باسم التجديد. ولكنه قلد- بالفعل- فلاسفة الغربيين في الشك و التشكيك و سفسط فيه بدل أن يكون بحثا علميا يعتمد على سند عقلي أو علمي سليم. و بحثه في شتى المجالات خاصة في مجال اللغة العربية و الأدب العربي و تاريخه كله يرى إلى قصد واحد؛ هو سيادة الفكر الغربي و سيطرته على كل شيء و قد أوفى دوره الذي – كان لا بد أن يلعب-؛ لأنه عميل الأدب الغربي ضد الثقافة و الهوية العربية الإسلامية. و كتابه في الشعر الجاهلي – كما نفسه يعتقد هذا أسلوب جديد في البحث…- في الحقيقة استنساخ لآراء مرجليوث حول الشعر الجاهلي في مقاله "أصول الشعر العربي" و حاشية كتبها الدكتور طه حسين على نص هذه المقالة.زد على ذلك أن القدماء أنفسهم استخدموا هذا الأسلوب في رواياتهم . الكلمات الرئيسية: طه حسين، الأساطير،التشكيك، مرجليوث،الشعرالجاهلي.
المقدمة(1/127)
سعى طه حسين إلى زرع الأساطير والشبهات في قلب السيرة النبوية لتلويثها بعد أن نقاها مؤرخو الإسلام و ذلك لإفساد العقول بالتشكيك و دفع الريبة إلى نفوس المسلمين في شأن الإسلام والرسول إنه رجل كلف بالأساطير وسعى على إحيائها و إن هذا ليثير كثيرا من التساؤل، إذ أنه فشل في تثبيت أغراضه عن طريق العقل و البحث العلمي . إذن لجأ إلى الأساطير ينمقها فيقدمها للناس مظهرا لما فيها من أوهام.
هناك إيجابيات كثيرة فضلا عن السلبيات، إذا أشار إلى الآفات لا بد أن يطرح الخرافات.(1/128)
و عليه أن لا ينظر إلى الدين كأسطورة و هذا التفسير و النظرية للأصوليين، و أنى له من طه حسين الذي يدعي بأنه من المستنيرين الذين يريدون تحطيم قواعد السنة و أصولها، و هذا النوع من التقهق رإلى الوراء لشخص كطه حسين عجيب! و أنه يفسر كل شيء بالأسطورة، أسطورة اليونان و الرومان. زد على ذلك، أنه نسي أن الدين ليس موضوعا للبحث، و نفسه يعتقد أيضا لا بد أن يكون منفصلا عن البحث و العلم( طه حسين، العلم و الدين،جريدة السياسة،ص5).و ليس الدين مادة للبحث العلمي و الدراسة العلمية و أنّى للدين و الأسطورة! و أنّى لطه حسين الذي يقول: أنا لا أقبل حتى أنقد و أتحرى و أحلل و أدقق في التحليل(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص128). وهذا ما دفع الدكتور هيكل صديقه إلى أن يقول في كلامه عن كتاب "على هامش السيرة": لقد تحول طه الرجل الذي لا يخضع لغير محكمة النقض و العقل إلى رجل كلف بالأساطير يعمل على إحيائها.و أستميح الدكتور طه العذر إن خالفته في اتخاذ النبي صلي الله عليه و سلم مادة للأدب الأسطوري …فالنبي صلى الله عليه و سلم و سيرته و عصره تتصل بحياة ملايين المسلمين جميعا بل هي فلذة من هذه الحياة و أعلم أن هذه الإسرائييليات قد أريد بها إقامة مثيولوجية إسلامية لإفساد العقول و القلوب من سواد الشعب، و لتشكيك المستيرين و دفع الريبة لنفوسهم في شأن الإسلام و نبيه من أجل ذلك أود أن يفصل الدكتور بين ما يتصل بالعقائد و ما لا يتصل بها .. ثم يقول" هيكل" و الحق أنني كنت أشعرأثناء قراءتي هذا الجزء و كأنما أقرأ في كتاب من كتب الأساطير الفرنسية أو في بعض ما كتب آناتول فرانس.(1/129)
و يقول الأستاذ الرافعي: فلما يكون طه حسين كافرا و مؤمنا في عقله و شعوره، ولا يكون في فلسفته هذه مغفلا من ناحية و مخطئا من ناحية أخرى، و هل يجتمع هذا التناقض إلا في عقل واهن ضعيف كعقل الأستاذ، و إلا فمن ذا الذي يعقل أن نفي النبوة و الوحي و تكذيب الكتب السماوية هو على وصف من الأوصاف علم و عقل و على وصف آخر دين و إيمان. إذن ليس عجيبا أن الدهر يسيربه القهقرى يرجع به إلى الوراء ولايمضي به إلى الأمام. و هنا نذكر بعض المواقف التي تعتبرها أسطورة
يعتقد تصور العصر الجاهلي القريب من الإسلام بأنه لم يضع تصورا واضحا قويا بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، و التاريخ و الأساطير من ناحية أخرى (طه حسين، في الشعر الجاهلي،دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1926م، ص 8). يقول عن الشعر الجاهلي واللغة: فواضح جدا لكل من له الإلمام بالبحث التاريخي عامة و بدرس الأساطير و الأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26). يتكلم عن الكعبة كسلطان قوي و رمز قوي يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية و ا لمسيحية من ناحية أخرى.فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة و نجران ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة و بين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذكرت في القرآن (في الشعر الجاهلي،ص28). فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير.(1/130)
و إذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تإسيس إبراهيم و إسماعيل، كما قبلت روما قبل ذلك و لأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس ابن پريام صاحب طروادة (في الشعر الجاهلي، ص29).
و في البحث عن الأنساب يعتقد بأن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى علم اليقين (في الشعر الجاهلي، ص31). أنكر المقدسات الواضحة التاريخية المبرهنة عليها في الكتب الدينية بدون أي دليل منطقي أو استدلال علمي. كسبيل المثال رفض قصة إبراهيم و إسماعيل مع أنها في القرآن و التوراة و الإنجيل موجودة، و ينكرها بدون إرائة السند العلمي و التاريخي الصحيح و اعتبرها أسطورة. و إذا قبلنا رأيه أن هذه الكتب السماوية كلها أسطورة؛ فلماذا يستند إليها في مواضع كثيرة و يستشهد و يتمثل بها على إثبات مدعاه؟ والسؤال هو: هل يمكن لباحث أن يستند على أسطورة لإثبات مدعاه في المسائل التاريخية أوالأدبية و غيرهما؟ طبعا، "لا". و هو بالفعل يخالف رأيه و عقيدته و هذا ليس أسلوبا علميا يليق الاعتماد عليه.(1/131)
يعتقد أن كل ما كان يتحدث به ابن إسحاق و يرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم، و ما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصرأسطورة بقوله: ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين و الأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث، ولم تستطع بعد أن نؤمن بشخصيتها و أن تخلص هذه الشخصية من الأوهام و الأساطير (في الشعر الجاهلي، ص46). . و يرى في بعثة النبي شيئا من الأسطورة لإقناع العامة و يقول: و أنت تستطيع أن تحمل على هذا كله ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي و كل ما يتصل به من هذه الأخبار و الأساطير التي تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب و كهانهم و أحبار اليهود و رهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة (في الشعر الجاهلي، ص69) كذلك في مسألة الدين و انتحال الشعر؛ كلامه بشأن النبي إن لم يكن فيه طعن صريح ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره و ينكر التوراة و الإنجيل مما قيل فيهما حول بعثة النبي. و يرى أن الانتحال كان لإثبات صحة النبوة و صدق النبي، لإقناع عامة الناس و اعتبر بعثة النبي و حياته أسطورة وضعها علماء اليهود و النصارى من الأحبار و الرهبان (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 69). و يعتقد أن نوعا آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر و إضافته إلى الجاهليين هو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته و نسبه في قريش و … (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 72) و إذن فيجب أن تخترع القصص و الأساطير و ما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار و الرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي (في الشعر الجاهلي، ص72).(1/132)
في القصص يعتقد أنه تأثر بروح الشعب الذي كان يُتحدث إليه. و من هنا عني عناية شديدة بالأساطير و اجتهد في تفسير هذه الأساطيرو إكمال الناقص منها و توضيح الغامض(في الشعر الجاهلي، ص93). ويذكر من مصادر القصة مصدر فارسي و ما يتصل بأخبارهم و أساطيرهم و أخبار الهند و أساطيرها (في الشعر الجاهلي، ص46).
و عندما يتكلم عن امرئ القيس يرى أن الناس لم يعرفوا شيئا إلا اسمه هذا، و إلا طائفة من الأساطير و الأحاديث تتصل بهذا الاسم (في الشعر الجاهلي، ص134) و هنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير و الأحاديث لم تشعّ بين الناس إلا في عصر متأخر و في عصر الرواة المدونين و القصاصين ( نفس الصفحة).(1/133)
يتكلم عن أثر القصص في انتحال الشعر بأن الرواة و العلماء خدعوا .على سبيل المثال يذكر انخداع ابن سلام عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها على أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح، و التي يضاف بعضها إلى جذيمة الأبرش، و بعضها إلى زهير ابن جناب و بعضها إلى أعصر بن سعد بن قيس عيلان. و كل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلف بين الصنعة. واضح جدا أن راويا من الرواة أو قاصا من القصاص تكلفه ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القارئ أو السامع ليس غير(في الشعر الجاهلي، ص99).ويعتبره من أشخاص الأساطير بقوله: أ ليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا اسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أ وجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد. و بالنسبة إلى البقية كذلك حول مالك و سعد ابني زيد مناة ابن تميم. فنحن لا نعرف من سعد و من مالك و من زيد مناة و من تميم. و أكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط. (في الشعر الجاهلي، صص100و101).و على هذا الأساس يعتبر كل هذه الأسماء و الأمثال أسطورة بقوله: و تستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم و التفسير في كل هذه الحكايات و الأساطير التي تتصل بالأسماء و الأمثال و الأمكنة و ما إليها و ما ينشد فيها من الشعر(في الشعر الجاهلي، ص102). و يعتبر" أيام العرب" أو "أيام الناس" أسطورة في قوله: فحرب البسوس و حرب داحس و الغبراء و حرب الفساد و هذه " الأيام" الكثيرة التي وضعت فيها الكتب و نظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر إلا توسيعا و تنمية لأساطير و ذكريات كان العرب يتحدثون بها بعد الإسلام (في الشعر الجاهلي، ص 104).(1/134)
يقول في تأثير الشعوبية في انتحال الشعر ،فيكفي أن يحاول الشاعر من الموالي الافتخار على العرب ليفكر في أن يثبت أن العرب أنفسهم كانوا قبل أن يتيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس و تقدمهم، و يقولون في ذلك الشعر يتقربون به إليهم و يبتغون به المثوبة عندهم، و لاسيما إذا كانت الحوادث التاريخية و الأساطير تعين على ذلك و تدنى منه(في الشعر الجاهلي، ص110).
في بحث قصص و تاريخ يعتقد أن هذا البحث كله أساطير و ليس حقا بقوله: و لن نستطيع أن نسمي حقا ما ليس بالحق، و تاريخا ما ليس بالتاريخ. و لن نستطيع أن نعترف بأن ما يروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين و ما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه أو الثقة به؛ و إنما كثرة هذا كله قصص و أساطير لا تفيد يقينا و لا ترجيحا، و إنما تبعث في النفوس ظنونا و أوهاما (في الشعر الجاهلي، ص 125). و يعتقد أن اخبار الجاهليين و أشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، و إنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص و الأساطير: طريق الرواية و الأحاديث، طريق الفكاهة و اللعب، طريق التكلف و الانتحال (في الشعر الجاهلي، ص 126).
و لهذا يرى أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان: أحدهما أمام الأساطير و الأقاصيص و الأسمار التي تروى عن العصر الجاهلي. و الثاني أمام النصوص التاريخية الصحيحة التي تبتدئ بالقرآن (في الشعر الجاهلي، ص 127). و يعتقد الخيال الشعبي للعرب قد جدّ و عمل و أثمر، و كانت نتيجة جده و عمله و إثماره هذه الأقاصيص و الأساطير التي تروى لا عن العصر الجاهلي وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضا (في الشعر الجاهلي، ص 127).(1/135)
و لكن طه حسين يحكم في البداية على انتحال الشعر الجاهلي و يلح على أن الشعر الجاهلي غير موجود و ينفي كل ما يتعلق بالأدب الجاهلي و الشعر الجاهلي و أيام العرب و أسواق العرب و يعتبرها أسطورة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص 104و 105).
و يعتبر الشخصيات الموجودة في الشعر الجاهلي أساطير مثل امرئ القيس، عنترة، طرفة و غيرهم، الذين اعتبرهم قبل بضعة أشهر من نشر كتابه في الشعر الجاهلي من قادة الفكر و كان يعتقد و يؤكد أنهم أساس الحضارة الإسلامية و يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان و أشعارها و بين بداوة عرب الجاهلية و أشعارهم. و هذا نصّ عبارته: "علام تقوم الحياة العربية في بداوة العرب و أول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر …هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَنْ ظهر من الخلفاء و العلماء و أفذاذ الرجال لو لم تجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس و النابغة و الأعشى و غير هم من الشعراء الذين الذين نبخسهم أقدارهم و لا نعرف لهم حقهم؟ "(طه حسين، قادة الفكر ، دار المعارف بمصر، ابريل 1925 م صص10و 11).(1/136)
و في البحث عن شخصية امرئ القيس يعتقد أنه أسطورة و خلط كثير في حياته و هذا أوضح دليل على ما نذهب إليه من أنه إن يكن قد وجد حقا-و نحن نرجح ذلك و نكاد نوقن به- فإن الناس لم يعرف عنه شيئا إلا اسمه هذا، و إلا طائفة من الأساطيرو الأحاديث تتصل بهذا الاسم (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص134). و أشبه بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس، وأن تنقله في البلاد و التجاءه و استعانته كلها شيء يلاحظ في حياة هوميروس من الكرامة و التجلة و الإعراض و الانصراف. لايشك مؤرخوا الآداب اليونانية الآن في أنها قد وجدت حقا، و أثرت في الشعر القصصي حقا، و كان تأثيرها قويا باقيا؛ و لكنهم لا يعرفون من أمرها شيئا يمكن الاطمئنان إليه، و إنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى عنه كما ينظرون إلى القصص و الأساطير لا أكثر و لا أقل (في الشعر الجاهلي، ص138).و هذا موقفه من شخصيات أخرى،على سبيل المثال: يرى أن كل ما يضاف إلى المتلمس من شعر- أو أكثره على أقل تقدير- مصنوع لتفسير طائفة من الأمثال و من الأخبار، فسره القصاص و استمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئا (في الشعر الجاهلي، ص180.) ومهما يكن من شيء فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة ؛و إنما تركت لنا قصة البسوس منه صورة هي إلى الأساطير أقرب منها إلى أي شيء آخر (في الشعر الجاهلي، ص160).(1/137)
و أما موضعه من عمرو بن كلثوم فهو يرى قد أحيط في مولده و نشأته بل في مولد أمه بطائفة من الأساطير لا يشك أشد الناس سذاجة في أنها لون من ألوان العبث و الانتحال (في الشعر الجاهلي، ص164) و يعتقد أن هذه الأحاديث التي حول شخصيته كلها تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ (في الشعر الجاهلي، ص165). .و أما موقفه عن طرفة فنفس الموقف عن الآخرين و يعتقد أن له وللمتلمس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأول للهجرة و هم يختلفون في روايتها اختلافا كثيرا (في الشعر الجاهلي، ص173).(1/138)
يمكن أن نعتبر الأسطورة من أهم المصادر و مادة البحث و الدراسة عند طه حسين؛ لأنه رجل كلف بالأساطير. و تثير أغراضه كثيرا من التساؤل؛ لأنه يشعر بالفشل في تثبيت العقل و البحث العلمي إذن ليس بعجيب أن يلجأ إلى الأساطير ينمقها ويوشيها فيقدمها للشعب فيها من أوهام في ظاهر تفنى الناس. و قد خلط كل ما كان بين أيديه بالأساطير خلطا شديدا،خلطها بأساطير اليونان و الروم. خلطها بسيرة النبي مع إثارة جو من الاضطراب، و خلط تاريخ الإسلام بالأساطير، إنه اعتبر قصة هجرة إبراهيم و إسماعيل إلى مكة و بناء الكعبة أسطورة من تلفيق اليهود و حديثة العهد قبيل الإسلام و زعم القرآن أسطورة من صنع النبي و الأسطورة لا تعني أن يكون الكاتب كذابا، طعن صريح في القرآن حيث نسب الخرافة و الكذب بهذا الكتاب السماوي و تعرضه بحماقة متهما إياه بأنه استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود و أنكر ما جاء في التوراة و الإنجيل عن النبي.ويعتبر الشخصيات الموجودة في الشعر الجاهلي أسطورة و كذلك كل ما يتصل بالأدب الجاهلي من الأمثال و الأشعار و الروايات و الأيام و القصص بحيث لا يبقي و لايذر شيئا. و قصارى القول أنه استخدم الأسطورة ليبرهن على النتائج التي وصل إليها من قبل أو ربما أمليت عليه و كان لابد له أن يأتي بدلائل يثبت هذه الآراء و أن تكون ذريعة للوصول إلى هذه النتائج؛ لهذا نراه اختلط الحابل بالنابل. و أحيانا يبرهن على شيء في حينه يرفضه كما لا حظنا في الإسناد إلى القرآن و الروايات و الأديان و القصص لكلفه بالأسطورة يعتبر كلها من الأساطير و يربطها بأسطورة اليونان و الرومان، الشيء الوحيد الذي لا يرفضه و لا ينقده. و استغل هذا كله لصالحه و عند الحاجة إليه.(1/139)
في الحقيقة يمكن و نستطيع أن نقول: أنه سطا على بحث مرغليوث المستشرق البريطاني اليهودي الحقود من بغضه و حقده ضد القرآن و الإسلام و النبي؛ لأنه لم يشك في الشعر الجاهلي أقل شك قبل أن يظهر بحث مرغليوث في خصوص أصول الشعر العربي ثم أصبح الدكتور طه حسين فجأة من الشاكين فيه و هبّ كعاصفة و ريح عاتية على الشعر الجاهلي حيث لم يبق شيئا منه، و حتى المقدار القليل الذي هو نفسه يقبله؛ يعتقد أنه لاينبغي الاعتماد عليه؛ لأنه نتج ببلبلة فكرية ليس لها أساس من علم أو منطق فجنى على العلم و الدين و الأدب بما أنه قارن هذا كله بالأسطورة ومماثلة بأسلوب الغربي و أساتذته الغربيين خاصة مرغليوث كان امتثالا و وفاء و انعكس هذا في كتابه "في الشعر الجاهلي" بصورة رائعة.))
وينقد فى موضع آخر كتابه الشعر الجاهلى وكيف حوله لكتاب تاريخ تصوره هو فى أوهامه عن كونه كتاب يتحدث عن الشعر والنثر وفنون الأدب ...
مما جعله أشبه بالهذيان أكثر منه نقد ... لأن المؤلف لا يوقن بما يقول بل يأرخ تاريخ يرتضيه هو وسادته فى الغرب :
((يبحث الدكتور طه حسين عن الأدب العربي و الفكر الإسلامي و تقوم روحه على المادية الغربية وعلى استعلاء الفكرالغربي الاستعماري على العرب و المسلمين و أعلى من شأن الأدب اليوناني القديم و الفرنسي الحديث و ينتهز من كل الفرص للإشادة بهما ليرضي أساتذته الغربيين ،و أبدي الوفاء لهم شغفا بأسلوب الشك في كل شيء يتعلق بالدين الإسلامي فالأدب العربي بصورة عامة و الشعر الجاهلي خاصة بدون دليل يعتمد على سند علمي و عقلي سليم و صحيح داعيا إلى فصل اللغة العربية عن دين الإسلام الذي رمى إليه الغرب ردحا من الزمن لإسقاط مكانة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن و قطع الصلات بين الدراسات العربية و الدراسات الإسلامية.(1/140)
كان في أسلوبه الذي اعتمد فيه على منهج ديكارت كثير من المغالطة و ليس من منهجه في شيء وإنه يخالف ما يقوله ديكارت و إن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم بصورة كاملة دون أن يداخله أي شك برواياته وهو يصل إلى الإنكار مباشرة و ينهج أسهل طريق للوصول إلى النتيجة و لم يشعر بأي جهد في الوصول إلى الحقيقة؛ لأنه في البداية يصل إلى نتيجة حاسمة و هي إنكار الشعر الجاهلي بصورة كاملة و في أسلوبه هذا مغالطة وعناد . و في هذا المقال نشير إلى الخلل المنهجي الذي وقع الأستاذ طه حسين في أسلوبه العلمي. الكلمات الرئيسية: طه حسين، ديكارت، في الشعر الجاهلي، اللغة العربية، لغة القرآن. المقدمة
تورط طه حسين في كتابه" في الشعر الجاهلي" في أكبر خطأ حيث أنه ينطلق في البحث من فروض و تخيل قائم على الحدس و الظن؛ غير أنه يسير في بحثه، و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أساس علمي أو تاريخي ثبتت صحتها و سلم بها حقيقة، ثم يقفز إلى استنتاجات يعدها نتائج علمية ولكنها محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة و لا يجد الباحث أي سند علمي سليم دال على ثبوتها. و يمكن القول إنه امتثل أساتذته الغربيين خاصة مرغليوث و شكه أقرب من آرائهم و استنساخها. عقيدة الأستاذ طه حسين في دراسة الأدب العربي هي:(1/141)
من ذا الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرا بالإسلام أو هادما للإلحاد … سأجتهد في درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب و لا مكترث بالنعي عن الإسلام…..تسألني عن الفرق بين الأدب العربي و الأدب الفرنسي ، فإني في ذلك لا أختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع، وهو في الواقع فرق ما بين العقل السامي و العقل الآري، فالأدب العربي سطحي و يقتنع بالظاهر و الأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل و في الأدب الفرنسي وضوح و تحديد لا وجود لهما في الأدب العربي .و إذا كان هذا هو رأيه فكيف يمكن أن يحلل و يدرس كباحث و أن يكون أسلوبه علميا؟!! كان طه حسين يمثل المنهج الفني-العلمي أو الأدبي-العلمي؛ لأن الأدب آنذاك كان محسوبا من مظاهر التجديد و معدودا في العلوم الحديثة و أحرى به أن يسلك سبيلا يرضي نزعتيه معا، نزعته الفنية أوالأدبية و نزعته إلى التمرد و حب الجديد. وهذا كان موضوعا للصراع بين القديم والجديد. وبعد عودته من فرانسا ثار على المنهج الجديد لجفائه و جفافه، ذلك لأن تاريخ الأدب لايستطيع أن يعتمد على مناهج البحث(1/142)
العلمي الخالص وحدها و إنما هو مضطر معها إلى الذوق(طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر1926م،ص19) و كان الأسلوب الذي اصطنعه في هذا الكتاب المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء. و يعتقد أن هذا الأسلوب من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس من قبل و أنه سلك مسلك المحدثين من أصحاب العلم و الفلسفة فيما يتناولون من العلم و الفلسفة. و اجتهد في هذا النوع من الحياة العلمية لئلا يفسد العلم كما أفسده القدماء و أن يصل ببحثه العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء.ويعتقد أنه قد نسي كل شئ يتصل به في بحثه هذا، نسي قوميته و كل مشخصاتها و نسي دينه و كل ما يتصل به، و نسي ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و لم يتقيد بشيء و لا أذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح لأنه في غيرهذه الحالة لا بد أن يضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف و سيقع في مشكلة وقع فيه القدماء فلم يعرضوا لبحث علمي و لا لفصل لفصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث أنه يؤيد الإسلام و يعزه و يعلي كلمته؛ لأنهم كانوا مخلصين في حب الإسلام فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام و حبهم إياه (طه حسين، في الشعر الجاهلي دار الكتب المصرية بقاهرة1926م،ص12).
كان بحثه في هذا الكتاب تاريخ الأدب و لكنه أجاب الأدب بالعلم وهذا – كما يعتقد في مقدمة كتابه في الأدب الجاهلي- ليس صحيحا كان عليه أن يجيب الأدب بالأدب، خاصة أنه كان يدرّس التاريخ و ذهب إلى فرانسا لدراسة التاريخ الأوروبي القديم و اللاتيني . وقع الأستاذ طه في أكبر خلل منهجي؛ لأنه ينطلق في بحثه من فروض هي مجرد تخيل قائم على الحدس و الظن، غير أنه يسير في بحثه و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أسا س علمي أو تاريخي، يبدأ صياغتها- غالبا- علي نحو:
أليس يمكن أن …..
أليس من الممكن أن ….
أكاد اعتقد …..
فليس ببعيد ….(1/143)
فنحن نعتقد وإلخ.إذن هذه الفروض يحولها طه حسين من محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة حيث ينتهي إلى القول:
و لكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية (؟!!) أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر و انتحاله بعد الإسلام، أو أمرهذه القصة إذن واضح. فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29).و أمر ذلك يسيرهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلىالقحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء (طه حسين،في الشعر الجاهلي،ص30).أو فواضح جدا أن هذه النظرية متكلفة مصنوعة في عصور متأخرة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص26).و لا يجد الباحث أي سند علمي يفيد ثبوتها. في الأسلوب العلمي يحتاج الباحث إلى مقدمات جزئية و منطقية. و يصل من المقدمات و النتائج الجزئية إلى نتيجة نهائية قاطعة.
و لكن الدكتور طه في البداية يحكم على انتحال الشعر الجاهلي، ثم يأتي بدلائل ليثبت أن الشعر الجاهلي غير موجود و الشعراء الجاهليين شخصيات أسطورية غير حقيقية. و يلحّ على النتيجة التي اتخذها من قبل. في الحقيقة وقع الأستاذ في بعض الأخطاء؛ منها:(1/144)
وضع النتيجة قبل المقدمات المنطقية، نفي الأدب الجاهلي و الإتيان بنتائج كلية قبل أن يأتي بنتائج جزئية، بعد رفض الشعر الجاهلي يريد أن يثبت أنه ليس جاهليا، و الإصرار على النتيجة التي وصل إليها من قبل. و كتابه هذا استنساخ لآراء مرجليوث حول الشعر الجاهلي و حاشية كتبها علي نص هذه المقالة. (.لاحظ مقالة مرغليوث تحت عنوان: The Origins of Arabic Poetry في مجلة Journal of Asiatic Royal Societyيوليو 1925 م). و ليست هذه القضايا علميا بصحيح و لا محل لها من الإعراب في الأسلوب العلمي، إن المنهج العلمي قد يكون محل اتفاق و ذلك في العلوم التجريبية كالطبيعة و الكيمياء و الرياضيات و الهندسة و الفيزياء حتى يكون له أصول ثابتة لا تتغير؛ أما العلوم الإنسانيةالتي تبحث في أسرار النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية و القيم الخلقية فلا يتصور فيها وجود منهج موحد بل إن علماء الغرب أنفسهم لم يتفقوا على منهج واحد لدراسة الإنسان و ما يتعلق به من جوانب نفسية و فكرية و خلقية. و هذا الأمر أدّى إلى أن يخطأ الأستاذ طه حسين في نظرياته و كان مخطئا في النتيجة أيضا؛لأن المقدمات إذا كانت منطقية و على أسلوب علمي صحيح، النتيجة طبعا صحيحة و قاطعة. هذا هو الأصل في الأسلوب العلمي.
يطعن طه حسين قبل كل شيء على أصالة الأدب العربي ثم يريد أن يثبت أنه غير موجود، عناية بنظريات مرغليوث. من المسائل التي أوقعته في الخطأ و تورط فيه حتى تخيل حقا ما ليس بحق أو ما لا يزال بحاجة إلى إثبات أنه حق تعميم الشك و إصراره عليه، هذا الشك الديكارتي الذي يفتخر به و لكنه لم يحسن استخدامه و يقول: أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي و ألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص7) .(1/145)
في الأسلوب العلمي و الدراسة العلمية يشك الإنسان و من الشك يصل إلى اليقين، و أحيانا مع إرائة الدلائل العلمية و المنطقية يرفض شيئا. و لكن طه حسين يشك و يسعى أن يثبت أن موضوع بحثه غير موجود و دائما يصل إلى الإنكار و يجعل للشك ميدانا واسعا تجاوز فيه الحدود فأخطأ.على سبيل المثال: وصل من الشك إلى اليقين في إنكار أيام العرب و الأقوام البائدة و الأمثال و غيرها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص104و105)؛ مع أنه يعتقد أن مؤرخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك إن لم يكن موقف الإنكار الصريح(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 104)، أو بعد بحث إن لم يتهيأ إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان(طه حسين، في الشعر الجاهلي،20).و لكنه يرفض و ينكر بسهولة كل شيء.
و هناك سؤال: يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية ولا جاهلية و إنما كانوا أصحاب علم و ذكاء و أصحاب عواطف رقيقة و عيش فيه لين و نعمة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 20) . و تحدي القرآن أيضا يدل على هذا الموضوع و كيف يمكن أن نقبل أنّ لهؤلاء القوم لم يكن شيء من أدب و شعر و أيام و أسواق و إلخ. و هؤلاء كانوا مشغولين بأي شيء؟
و ماذا يفعلون؟ و يهتمون بأي شيء؟ لماذا هو ينكر هذه المسائل كلها بهذه البساطة؟ و لا بد أن يجيب عن هذه الأسئلة و لكنه لم يذكر شيئا حولها. كأن اطلاعه قليل و ثقافته قليلة و يدعي أنه يتبع المنطق و لكنه بالفعل "لا" و بحثه ليس بحثاعلميا في شيء بل عنده نقد و إنكار فقط و له قدرة على البحث و مشكلته أنه يريد أن يجيب الأدب بالعلم و لهذا وقع في هذه الأخطاء.(1/146)
كتاب في الشعر الجاهلي شك في التاريخ و ليس في تاريخ الأدب . يحتاج البحث في تاريخ الأدب إلى مسائل شتّى حول الأدب بنوعيه: الشعر و النثر، التي لابد للأستاذ أن يبحث عنهما؛ يعني في البحث عن الأدب و تاريخ الأدب لابد له أن يدرس بعض الأشياء حول الأدب مثلا: ما هو الأدب؟ ما هوالشعر؟ ما القصد من النثر و ما هو أنواعه؟ كيف كانت مبدأئية الشعر و النثر في الأدب الجاهلي؟ ما هي الأغراض الشعرية في العصر الجاهلي؟ أيّ هذه الأغراض رئيسية و أيها فرعية؟ ما هو الوصف و الغزل و الخمريات و المدح و الحماسة و غيرها؟ ما هي ميزات الشعر الجاهلي؟ كيف ضعفت أو قوية هذه الأغراض؟ أي هذه الأغراض كانت مهملة و أي غرض أبدع؟ كيف كان التشبيه و المجاز و الاستعارة في هذه الأشعار؟ هل تمثل هذه الأشعار بيئة الشاعر أولا؟ و إلخ.
و لكن طه حسين يحكم في البداية على انتحال الشعر الجاهلي و يلح على أن الشعر الجاهلي غير موجود و ينفي كل ما يتعلق بالأدب الجاهلي، الشعر الجاهلي، أيام العرب و أسواق العرب و يعتبرها أسطورة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص 104و105). و يعتبر الشخصيات الموجودة فيه أساطير مثل امرئ القيس، عنترة، طرفة و غيرهم، الذين اعتبرهم قبل بضعة أشهر من نشر كتابه في الشعر الجاهلي من قادة الفكر و كان يعتقد و يؤكد أنهم أساس الحضارة الإسلامية و يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان و أشعارها و بين بداوة عرب الجاهلية و أشعارهم. و هذا نصّ عبارته: "علام تقوم الحياة العربية في بداوة العرب و أول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر …هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَنْ ظهر من الخلفاء و العلماء و أفذاذ الرجال لو لم تجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس و النابغة و الأعشى وغير هم من الشعراء الذين الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟ "(طه حسين، قادة الفكر، دار المعارف بمصر، ابريل 1925 م صص 10و11).(1/147)
و جدير بالذكر أن الأستاذ ذهب إلى فرنسا لدراسة التاريخ، و دراساته هناك لا تتضمن أيّ شيء يتعلق بالأدب العربي و لا بالشعر الجاهلي على وجه الخصوص، و عندما عاد إلى مصر و اشتغل بالتدريس في الجامعة كان يدرّس التاريخ الأوروبي القديم حتي العام الدراسي 1925 -1926 م حيث تحول إلى تدريس الأدب العربي و بالذات الشعر الجاهلي. و الكتب التي ظهرت للدكتور منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه في الشعر الجاهلي كانت تتعلق على نحو أو على آخر بالتاريخ الأوروبي القديم. و فيها يدافع عن الشعر الجاهلي و يشير إلى امرئ القيس و معلقته و أشعاره إشارة باطمئنان تام و حتى بعدها في عدة مقالات حول الشعر العباسي و الأموي يأتي بكلام عن الشعر الجاهلي و شعرائه و يؤمن به إيمانا كاملا و لا يتخيل للحظة يمكن أن يكون في موضع الشك.
و لكنه ينفى الأدب الجاهلي و خاصة امرأ القيس كأوّل شاعر يعتبره أسطورة لا حقيقة له، و تغيير هذه الزاوية بمقياس 180 درجة في زمن قصير شيء عجيب! زد على ذلك أن اختلاف الرواة فيما يتعلق برجل مشهور لا يمكن أن يدل على عدم وجود الرجل ، بل بالأحرى يدل على وجوده.(1/148)
كثيرا ما استشهد و تمثل بالأخبار و الروايات من العرب القدماء، لإثبات آرائه و نظرياته و في نفس الوقت يرفضها أو يجرّحها. مثلا يقبل آراء ابن سلام في الأحيان الكثيرة؛ يأتي برواية منه عن قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا و لا لغتهم بلغتنا(طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 25). و قُبيل ذلك يأتي ابن سلام برواية عن يونس بن حبيب: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير و بقايا جرهم (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،شرح محمود محمد شاكر،دار المدني بجدة، ص9). و لكنه يرفضه و لا يقبله؛ لأنه يريد أن ينفي قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة و بناء الكعبة. أو يقبل من ابن سلام رواياته عن خصوص ابن هشام و ابن إسحاق عندما يرفضهما و في نفس الوقت يتكلم عن انخداع ابن سلام في قبوله بعض الروايات عن أيام العرب و أمثالهم و اشعارهم …. (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص99). و لا يقبل رواية تدل على أن امرأ القيس استودع السلاح عند سمؤال بن عادياء في قسم شعراء اليهود (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص279). و لا يشير إلى رواية عنه أن العرب ورثت الأشهر الحرم من إسماعيل، كانت العرب تحرم أربعة أشهر من السنة كما كان بأيديهم من إرث إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص73). أو يستند إلى الجاحظ حول إعجاب الفرس بآثار الأمم الاجنبية و تقديمها على آثار العرب (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 115) و في نفس الوقت يرفضه بخصوص عصبيته و كل ما قال حول الموالي و الشعوبية (طه حسين،في الشعر الجاهلي، ص 116).(1/149)
يقبل آراء الآخرين و يستند إليها و يعممها. منهجه في الكتابة المنهج الفلسفي لديكارت أو الشك الدكارتي و لكنه لم يحسن استخدامه، و يشك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و يعمم الشك حتى على القرآن؛ مع أنه يعتقد كثيرا ما أن القرآن نصه ثابت و لا سبيل إلي الشك فيه (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 16). أو فيما يتعلق بالأقوام البائدة يقول: أي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 66). و أوثق مصدر للغة العربية هو القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). و لست أفهم كيف يشك عالم في القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). أو عندما يتكلم حول اضطهاد النصارى بواسطة يهود يستشهد بالقرآن في سورة بروج (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 86). و يستند إلى القرآن حول الحياة العقلية للعرب الجاهلي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 21).
و هذا نفس موقعه من التوراة و الإنجيل و سيرة النبي و نسبه و في نفس الوقت يعتبركل هذه المسائل أسطورة و يشك فيها. و في قسم اللغة تعرض للقرآن الكريم بحماقة متهما إياه بأنه استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود. و في الدين و انتحال الشعر يغمز من الرسول و من الإجلال الذي يشعر المسلمون به تجاهه و يحاول دون أي أساس أن يقلل
من شأنه و حُذف هذان النصان في كتابه في الأدب الجاهلي. و في هجرة إبراهيم و إسماعيل يقول : للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26) و يعتبرها أسطورة.(1/150)
يقبل نظرية ابن سلام و ابن قتيبة و الآخرين عندما يشكون في صحة الأشعار الجاهلية أو يعتقدون أنه لا يمكن الاعتماد على بعض الرواة و لكن طه حسين يعممها على الأدب الجاهلي كله و على الرواة كلهم و يعتبرهم من الجاعلين و الكاذبين و لا ينبغي الاعتماد عليهم. و يستدل باختلاف الموجود في إعراب القرآن و قراءاته و يعممها على اللغة العربية بصورة عامة و على اللهجات كلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 34). و يعتقد بما أن في القرآن اختلافات كثيرة في الإعراب؛ لابد أن تكون هذه الاختلافات الفاحشة في اللغات و اللهجات و يستنتج بأنه لا يمكن وجود اللغة الأدبية –اللهجة الفصحى للقريش- على الشعر الجاهلي و لابد أن تكون هذه الاختلافات على الشعر الجاهلي لأنها من لغة الجنوب القحطانيين و لغة الشمال العدنانيين.(1/151)
سلك الدكتور طه حسين طريقا مظلما استنتج على أساس الشك فكان عليه أن يسير على مهل و تؤدة أو أن يكون محتاطا في سيره حتى لا ينحرف؛ لكنه أقدم غير محتاط فكانت النتيجة غير محمودة و استنتج بدون أي أصول و أي أساس منطقي و كانت النتيجة على أصول الشك و لكنه في النهاية وصل إلى نتيجة حاسمة لا تتغير، أو بعبارة أخرى وصل إلى نتيجة قاطعة على أساس المجهولات خاصة استنتاجه من النقوش المكتشفة أخيرا حول اللهجات و لغة الأقوام البائدة التي كانت قليلة يسيرة، ولم يستطع أن يأتي بتعريف حول اللغة و اللهجة الفصحى، ما هي؟ أو ما هي لغة حمير؟ وما هو الفرق بين لغتي حمير و العدنان؟ إجابة عن السؤال الذي هو نفسه قد طرحه و يقول: و لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 24) .و رغم ضعفه و عجزه في هذا المجال يتكلم عن نتيجة بحثه بصورة قاطعة و يقول: إن لغتهم تباين لغة العرب الجاهلي تماما و يعتمد على هذه النقوش التي اكتشفها المستشرقون و أثبته البحث الجديد و يعتقد هو نفسه أن هذه النقوش اكتشفت بعض الفرق في القواعدالصرفية و النحوية و بعض الألفاظ و لكن في النهاية يصل إلى النتيجة الحاسمة أن هاتين اللغتين متمايزتان.(1/152)
و يرى في قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة أسطورة و أنها من تلفيق اليهود و حديثة العهد قبيل الإسلام؛ للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعرالجاهلي، ص 26) و لكن يستدل علي أي شيء؟ أي دليل تاريخي و منطقي؟ غير واضح؟! و يستنتج قاطعا : إن ضعف هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، و استغلها الإسلام لسبب ديني، و قبلتها مكة لسبب ديني و سياسي أيضا (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29). ما هو سبب وصوله من الشك إلي اليقين؟ و إذا كان عنده دليل علمي و منطقي و وصل إلى هذه النتيجة بأسلوب علمي قاطع، لماذا يحذفه في كتابه" في الأدب الجاهلي"؟ و الله أعلم بالصواب.
ربما يكون دليله هذا: نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود و العرب من جهة، و بين الإسلام و اليهودية و القرآن و التوراة من جهة أخري (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26). أي ارتباط بين هذا الموضوع و ذاك الذي قد ذكره أول البحث لابد أن نعرف ما هي هذه اللغة و..... إلخ. و أما دلائله فهي:
فليس ببعيد أن ……
فماالذي يمنع قريشا…… .
و نحن نعتقد ………..
إذن نستطيع أن نقول ………
و إذن فليس ما يمنع قريشا أن تقبل هذه الأسطورة………..
و كأن كلامه حجة قاطعة لرفض موضوع تاريخي مهم كهذا دون أي أساس علمي منطقي. و كيف يمكن أن نعتبره أسلوبا علمي؟!!(1/153)
أنكر المقدسات الواضحة التاريخية المبرهنة عليها في الكتب الدينية بدون أي دليل منطقي أو استدلال علمي. كسبيل المثال رفض قصة إبراهيم و إسماعيل مع أنها في القرآن و التوراة و الإنجيل موجودة، و ينكرها بدون إرائة السند العلمي و التاريخي الصحيح و اعتبرها أسطورة. و إذا قبلنا رأيه أن هذه الكتب السماوية كلها أسطورة؛ فلماذا يستند إليها في مواضع كثيرة و يستشهد و يتمثل بها على إثبات مدعاه؟ والسؤال هو : هل يمكن لباحث أن يستند على أسطورة لإثبات مدعاه في المسائل التاريخية أوالأدبية و غيرهما؟ طبعا، "لا". و هو بالفعل يخالف رأيه و عقيدته و هذا ليس أسلوبا علميا يليق الاعتماد عليه.(1/154)
كذلك في مسألة الدين و انتحال الشعر؛ كلامه بشأن النبي إن لم يكن فيه طعن صريح ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره و ينكر التوراة و الإنجيل مما قيل فيهما حول بعثة النبي. و يرى أن الانتحال كان لإثبات صحة النبوة و صدق النبي، لإقناع عامة الناس و اعتبر بعثة النبي و حياته أسطورة وضعها علماء اليهود و النصارى من الأحبار و الرهبان (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 69). و يعتقد أن نوعا آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر و إضافته إلى الجاهليين هو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته و نسبه في قريش و … (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 72) و سؤال أن الموضوع الهامّ و الرئيسي للعرب مسألة الأنساب و يهتمون بها حراصا و كانوا مولعين بها، ألم يكن أبوبكر رضي الله عنه عالما بالأنساب واشتهر فيه و الآخرون؟ أليس في كتب الأدب مثلا "العقد الفريد" بحث تفصيلي حول النسب؟ و جاء في الحديث: تعلم من النسب ما تعرفون به أحسابكم و تصلون به أرحامكم. و هم معتقدون أن من لم يعرف النسب لم يعرف الناس، و من لم يعرف الناس لم يعد من الناس (ابن عبد ربه، العقد الفريد،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان1987م، ص265 و ما بعده) كيف ينكر الدكتور طه هذا الموضوع بسهولة تامة، و على أي أساس علمي و منطقي يرفض علم النسب؟ شيء عجاب!!!
بعد أن رفض الشعر الجاهلي و جاء بأدلة أنه منحول و ليس جاهليا، بل صنعه الرواة في العصور المتأخرة الإسلامية ، يعتقد أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل و لا يمكن الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة للعصر الجاهلي بقوله هذا: أكاد لاأشك في أن(1/155)
ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصرالجاهلي(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 7).كان طه حسين يقصد نفي الأدب الجاهلي و إنكاره، و إلا بعدالنقد و البحث و بعد أن غربل الأدب الجاهلي حسب موازينه و معاييره و أهمل كثيرا من هذه الأشعار، إذا كان يقصد الأسلوب العلمي الصحيح في معرفة الشعر الجاهلي لماذا لايستفيد من الأشعار الباقية لصحة الشعر الجاهلي ؟ هذا المقدار القليل الذي هو نفسه لايشك فيه واختاره. إذا كان هذا الجزء القليل صحيحا فلماذا يهمله ولا يعتمد عليه؟ فإذا لم يكن كافيا لإعطاء صورة كاملة للعصر الجاهلي، فليس أقل من أن يعطينا صورة صحيحة جزئية تمثل الناحية ينص عليها!!
و إذا كانت المسألة الاعتماد على مجرد الاعتقادات والآراء، فهناك آراء كثيرة تنظر إلى هذا المقدار القليل الباقي من الشعر الجاهلي نظرة تقدير و احترام. و كثير من المستشرقين يستشهدون و يتمثلون به، على سبيل المثال : يقول" نولدكه" : إن عادات الجاهلية و أحوالهم معلومة لنا بدقة نقلا عن أشعارهم. و يقول "ثوربيكه" : يمكن تعريف الشعر الجاهلي بأنه وصف مزين بالشواهد لحياة الجاهلية و أفكارها. فقد صور العرب أنفسهم في الشعر صورة منطبقة على الحقيقة بدون تزويق ولا تشويه.و يقول نيكلسون: إن مزايا العصر الجاهلي و خواصه مرسومة صورها بأمانة و وضوح في الأغاني و الأناشيد التي نظمها الشعراء الجاهليون. و يردف قائلا: إن الأدب الجاهلي المنظوم منه و المنثور يمكننا من تصوير أقرب ما يكون من الدقة في مظاهره الكبرى.(1/156)
و نص على نفس هذه المسألة الرواة الأقدمون نصا صريحا واضحا. جاء في طبقات فحول الشعراء عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله و لو جاءكم وافرا لجاءكم علم و شعر كثير(ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،ص 25) والسبب في ذلك قسم لم يحفظ و قسم آخر زال مع الرواة الكثيرين الذين ماتوا في الحرب.و وجود الشعر في القرآن و اعتماد الرسول على الشعر و الشعراء يدل على وجوده في الجاهلية أيضا .و كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم و منتهى حكمهم به يأخذون و إليه يصيرون كما قال عمر بن الخطاب :كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه (ابن سلام ، طبقات فحول الشعراء،ص 24)
.فإذن يمكن الاعتماد على هذا المقدار القليل من الشعر الجاهلي ؛ لأنه مليء بالعلم و الاطلاع حول الحياة العرب الجاهلي. يمكن الوصول إلى حد ما عن هذا المقدار الموجود و غير منحول- كما يعتقد الأستاذ نفسه- إلى نتيجة أن البيئة الجاهلية كيف كانت؟ و كيف كان الأدب الجاهلي ؟ و من هم الذين شخصياته؟
هناك بحث حول اللهجات و انتحال الشعر و يقول فيه: نحن بين اثنين إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان و قحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي؛ و إما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل و إنما حمل عليها حملا بعد الإسلام.و نحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى
(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 33).لماذا لا يضع الأستاذ حدا وسطا لهذين الموضوعين؟ و لا يفكر و لايتأمل ولا يبحث أكثر من هذا-كما هو نفسه يعتقد-أريد أن أبحث و أحلل و أفكر…؟ (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص6).يريدأن يبحث و يحلل عن أي شيء؟(1/157)
أولا: يقبل نفسه و يعترف أن الإسلام فرض لغة أدبية واحدة على العرب كلهم(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 35).إذا كان الأمر هكذا لماذا استطاع الإسلام فرضها؟ ما هو الدليل؟ إذا كان عنده دلائل، السؤال هو: أ لم تكن هذه الدلائل موجودة قبل الإسلام ؟ طبعا كانت.التجارة ، السياسة، الكعبة، الأسواق و غيرها عهدت العرب بها قبل الإسلام. و هذه هي العوامل التي سادت لغة أدبية واحدة على أدب العرب الجاهلي و شعرهم . و الشعر الجاهلي الذي بأيدينا يدل على اتحاد القبائل و البلاد العربية و لغة قريش هي المسيطرة و فاقت علي اللهجات و اللغات كلها.واللغة مرآة عقول أصحابها و مستودع آدابهم . فالمتكلمون باللغة الفصحى كما جاءتنا في القرآن والشعر الجاهلي و الأمثال لا يمكن أن يكون أصحابها دخلوا المدنية أو العلم من قرن أو قرنين فقط بل يحتاج إلى توالي الأدهار فكيف باللغة العربية الفصحى أو اللهجة القرشية؟
ثانيا: الاختلاف الموجود بين قبائل عدنان و قحطان اختلاف اللهجات وهذاهوالذي أشار إليه أبو عمرو بن العلاء . و ورد في كتاب المزهر للسيوطي اختلافات كثيره في اللهجات مثل الكسكسة و الكشكشة و الفحفحة و غير ذلك.هذا من جهة و من جهة أخرى إذا كان الاختلاف بين اللغتين كثيرا – ولا بد أن تكون الاختلافات في القواعد و اللغة و الأصول و غيرها –هذا طبيعي.ولا يدل على أنهم لم يتمتعوا بلغة أدبية واحدة . و اتحاد القبائل من أجل السياسة و التجارة و الأسواق و المحافل الأدبية و مناسك الحج و التنقل و هذا واضح ولا يتأتى له للإنكار.(1/158)
ثالثا: إذا كان هناك اختلافات في القرآن من حيث القراءة و الإعراب-كما استدل-و يعتقد أنه يجب أن يكون اختلاف اللغات بين الشعراء من قبائل مختلفة من العدنانيين و القحطانيين، نقول: إن اختلاف اللهجات لم يكن أصولية بل إمالة وهي لا تؤثر في الشعر و يأتي بها صاحب الشعر و لم يكن الاختلاف جوهريا بل كان ظاهريا و شكل الكلمة يبقى و لا يتغير . و هذا الاختلاف لا يدل على اختلاف اللهجات و اللغات؛ لأن الأعاجم دخلت العربية بعد الإسلام . والخطأ نتيجة توسع الدور الإسلامي و اولئك الذين دخلوا الإسلام يخطئون في الحركة من الايرانيين و غيرهم ولا يخطأ العربي و الخطأ في القراءة ظهر زمن عثمان.
و هذا الدليل أيضا ليس علميا و لامنطقيا بما أن هناك اختلافا في اللهجات واللغات، إذن لابد أن يكون الخلاف في لغة الشعر الجاهلي.
يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية و متقدمة و كانت هذه الأمة في الصلة القريبة مع سياسة الدول الكبرى مثل إيران و الروم (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص22). و أن هؤلاء لم يكونوا أغبياء و أصحاب الحياة الخشنة الجافة، بل على العكس كانوا علماء أذكياء و أصحاب سعة العيش و الرخاء (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 20). و طبعا لم يتقدموا في الإسلام أو قبيل الإسلام و كانوا في علاقة مع إيران و الروم ردحا من الزمن و إذا كان الأمرهكذا؛ لماذا يقارنهم ببداوة اليونان و الرومان في أسباب انتحال الشعر.(1/159)
و يعتقد أن انتحال الشعر ليس مقصورا على العرب فقط. و أن الذين كتبوا في تاريخ العرب و آدابهم لم يوفقوا إلى الحق فيه، لأنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية و الأمم التي خلت من قبلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 42). إذا كان قصده من الأمم التي خلت من قبلها، الأقوام البائدة؛ كما هو يذكر لا نعرف شيئا منها و ليست المقارنة منطقية. أما إذا كان يقصد الأمم القديمة غير الأمة العربية فما الفائدة من المقارنة؟ و كيف يمكن أن تكون المؤثرات فيما بينهما مشابهة؟ و أن الأمة اليونانية و الرومانية كلتاهما تحضرت بعد بداوة و انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص و تغيرعلى البلاد المجاورة (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 43). و أنّى هذا كله للأمة العربية التي كانت تعيش وسط الصحراء و ما أغارت على البلاد المجاورة! القصص اليوناني كله شعر و يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية و وجد من عنايه اليونانيين و هم يقدسون الإلياذة والأودسا و يعنون بجمعهما و ترتيبهما و روايتهما و إذاعتهما بينما القصص الإسلامي لم يكن شعرا و إنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين و لا يعتمد القاصّ على الأدات الموسيقية و لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد القصص اليوناني. إذن ما هو السرّ الموجود في هذه المقارنة؟(1/160)
و إذا كان هناك أحد يدعي في الأدب اليونان أو الرومان أن أشعارا منحولة حول الإلياذة و الأودسا و غيرها، و لكن لم يوجد أحد حتى يدعي أن هذا الأدب و التاريخ و الأشعار و تاريخ الأدب كله منتحل و كيف هو ادعى حول الأدب العربي الجاهلي؟ و إذا كان النقاد من أصحاب التاريخ و الأدب و اللغة و الفلسفة قد استطاعوا أن يردوا الأشياء إلى أصولها في العصر الحديث بالنسبة إلى أدب اليونان و الرومان فماذا رددت أيها الدكتور فيما يتعلق بالأدب الجاهلي إلى أصله؟! أيمكن هذا الاسترداد بالإنكار؟!! و إنكار أشياء بصورة كاملة هل يستردها إلى أصلها؟!(1/161)
نفي الشعر الجاهلي و إنكاره بعيد كل البعد من العقل السليم و ليس أسلوبا علميا و ليس له أصول وأسس علمية؛ لأنه يعتقد في شأن الرواة أن ابا عمرو الشيباني كان يأخذ من القبائل نقودا و يجمع شعرهم و جمع أشعار سبعين قبيلة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 122). و يأتي بأشياء حول الأصمعي و الخلف و الحماد و المفضل الضبي و الرواة الآخرين أنهم يجمعون شعر القبائل و إن يعتقد بأنهم ينتحلون أشعارهم و هذا الموضوع نفسه يدل على وجود الشعر. و كذلك اعتمد على ابن سلام في مواضع كثيرة و نذكر رواية منه أن عمر بن الخطاب قال: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 24). و أن الشعر كان منتهى حكمهم و ديوان علمهم. و إن للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم (نفس المرجع، ص 5). و هذه الروايات تدل كلها على وجود الشعر في العصر الجاهلي وأهميته عند الجاهليين. و كذلك في القران آيات حول الشعر و الشعراء و أنه ينفى نسبة الشعر إلى الرسول، و أن الدكتور استند كثيرا بالآيات القرآنية و يعتقد أن نص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه. و أن سيرة النبي تحدثنا أنه يعتمد علي الشعر و الشعراء و كان له شاعر خاص و هو حسان و أحيانا يمنع عليّا أن ينشد شعرا يردّ به على شعراء قريش (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص97).
و هذا كله يدل على وجود الشعر إذن كيف يستدل على إنكار الشعر الجاهلي بدون أي سند علمي أو تاريخي صحيح، هذا شيء عجيب من غرائب الأمور.(1/162)
هذا بعض نماذج من آراء الأستاذ طه حسين عميد الأدب العربي و التناقضات الموجودة بينها في الأسلوب العلمي الذي ادعاه و سلك فيه منهج الديكارت الفلسفي و هو التشكيك وأن هذا الموضوع نفسه أيضا منحول؛ لأن طريق الشك بهذا الشكل الذي هو يدعيه ليس حديث العهد بل كان عند القدامى من العرب في العصور الإسلامية مثل ابن سلام و أبي عمروبن علاء و أبي عمرو الشيباني و الجاحظ الذي يقول: أناأعرف مواطن الشك لأعرف مواطن اليقين. و هم هكذا يشكون في قيمة الشعر و انتسابه و يصلون من الشك إلى اليقين. و مع الأسف بالنسبة إلى الدكتور طه شتان الفرق بين قوله و فعله.
و طبعا أسلوبه هذا جميل و جيد إذا كان على أسلوب علمي صحيح و أن يكون الشك منطقيا و الغرض منه الوصول إلى الحقيقة و أن يكون الباحث خالي الذهن و يترك كل شيء كما هو يعتقد حين يستقبل الباحث البحث العلمي عن الأدب ينسى قوميته و كل مشخصاتها و ينسى دينه و كل ما يتصل به و أن ينسى ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و يجب ألا يتقيد بشيء و لا يذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 12). و في النهاية يصل إلى اليقين
وعلى كل حال، إنه سلك طريقا مظلما بعيدا عن أسلوبه العلمي و أفرط في شكه وعممه، طبعا و قد شك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و كان شكه قريبا من مرغليوث أكثر من الشك الدكارتي. فكان يجب عليه أن يسير بطيئاعلى مهل و أن يكون محتاطا في سيره لئلا يضل و ينحرف عن سبيل العلمي الصحيح و لكنه أقدم دون احتياط فأصبحت النتيجة غير محمودة و غير مرضية. و قد سفسط في آرائه حتى يصل إلى النتائج التي أمليت عليه من قبل و لم يكن بحثه علميا؛ كأنه كان من واجبه أن يأتي بأدلة لإثبات ما ادعاه و هو إنكار الشعر الجاهلي ليخدم سادته الأوروبيين و أساتذته المستشرقين.و هل وفق في الوصول إليه؟!!
تحت رآية القرآن(1/163)
وما ترك إفك طه حسين على التاريخ والكتاب المنزل يسرى فى العباد ولكن تصدى له جهابذة العلم والأدب فى زمانه على رأسهم ... (مصطفى صادق الرافعي)- يرحمه الله.
عاش الرجل في فترة زمنية ارتفعت فيها دعاوى التجديد، ومحاولة سلخ الأمة عن هويتها، فآلى على نفسه أن يجعل من قلمه سلاحًا يذود به عن هذه اللغة، وحَربة يحمي بها حياضها؛ من أجل أن يهزم اللسان العربي هذه العُجمة المستعربة، وأن يُعيد إلى لغة القرآن مكانتها المرموقة.
لقد حاول المبطلون- من أعداء العربية قديمًا وحديثًا- طمس معالم هذه اللغة ومحو آثارها، وإهالة التراب عليها، وسنعرض فيها لبعض الحوادث من حياة الراحل وأدبه في هذا الصدد.. ويبدو أن "مصطفى صادق الرافعي" لم يكن مبالغًا عندما قال: "سيأتي يوم إذا ذُكر فيه "الرافعي" قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان"!
ولد "مصطفى صادق الرافعي" على ضفاف النيل في قرية (بهتيم) إحدى قرى مدينة القليوبية بمصر في يناير عام 1880م لأبوين سوريَّين؛ حيث يتصل نسب أسرة والده بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم- في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.. وقد وفد من آل الرافعي إلى مصر طائفة كبيرة اشتغلوا في القضاء على مذهب الإمام الأعظم "أبي حنيفة النعمان"، حتى آل الأمر إلى أن اجتمع منهم في وقت واحدٍ أربعون قاضيًا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء أن تكون حِكرًا عليهم، وقد تنبه اللورد "كرومر" لذلك، وأثبتها في بعض تقارير إلى وزارة الخارجية البريطانية.
أما والد "الرافعي" الشيخ "عبد الرزاق سعيد الرافعي"، فكان رئيسًا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم المصرية، وقد استقر به المقام رئيسًا لمحكمة طنطا الشرعية، وهناك كانت إقامته حتى وفاته، وفيها درج "مصطفى صادق" وإخوته لا يعرفون غيرها، ولا يبغون عنها حولاً.(1/164)
أما والدته فهي من أسرة الطوخي، وتُدعى "أسماء"، وأصلها من حلب.. سكن أبوها الشيخ "الطوخي" في مصر قبل أن يتصل نسبهم بآل الرافعي، وهي أسرة اشتهر أفرادها بالاشتغال بالتجارة وضروبها، وإلى هذه الأسرة المورقة الفروع ينتمي "مصطفى صادق"، وفي فنائها درج، وعلى الثقافة السائدة لأسرة أهل العلم نشأ؛ فاستمع من أبيه أول ما استمع إلى تعاليم الدين، وجمع القرآن حفظًا وهو دون العاشرة، فلم يدخل المدرسة إلا بعدما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية وسنه يومئذٍ 17 عامًا أصابه مرض (التيفوئيد) فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا ووقرًا في أذنيه لم يزل يعاني منه حتى فقد حاسة السمع وهو لم يجاوز الثلاثين بعد، وكانت بوادر هذه العلة هي التي صرفته عن إتمام تعليمه بعد الابتدائية، فانقطع إلى مدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه؛ فكان هو المعلم والتلميذ، فأكبَّ على مكتبة والده الحافلة التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فاستوعبها وراح يطلب المزيد، وكانت علته سببًا باعد بينه وبين مخالطة الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحبته وخلانه وسُمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم 8 ساعات لا يكل ولا يمل كأنه في التعليم شادٍ لا يرى أنه وصل إلى غاية.
بدأ "الرافعي" حياته الأدبية شاعرًا، وكان لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وأخذ ينشر شعره ومقالاته في المجلات التي كانت تصدر آنذاك، وقد أخرج الجزء الأول من ديوانه سنة 1900م، ثم تلاه الجزآن الثاني والثالث، ومن هنا دخل "الرافعي" إلى مجال الشهرة الأدبية؛ إذ تبنى نشر شعره الشيخ "ناصيف البازجي" في مجلة (الضياء) سنة 1903م.(1/165)
ثم أخرج "الرافعي" بعد ذلك ديوان (النظرات) سنة 1908م، ثم كتب في تاريخ آداب العرب وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأضاف إلى العربية فنًا جديدًا من فنون النثر لم يسبقه إليه أحد، وهو فن الرسالة الأدبية وذلك من خلال كتبه الثلاثة "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر" و"أوراق الورد"، ومن الإنتاج المتميز للرافعي كتاباه: "تحت راية القرآن"، و"وحي القلم"
على الرغم من أن "الرافعي" درس اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية إلا أنها لم تجد عليه إلا قليلاً، بل أخذ "الرافعي" ينمي ثقافته بعصاميته كما ذكرنا سابقًا، وقد وضع كتب التراث
أساسًا ومحورًا لها بالإضافة إلى بعض القراءات المترجمة، لكن ظل التراث نبعًا ثريًّا ينهل منه حتى إنه استطاع بفضل الله أن يكتب "تاريخ آداب العرب" من وحي ذاكرته التي جمع فيها شتات قراءاته.
وهذا ما أشار إليه الأستاذ "محمد سعيدالعريان" في مقدمة كتابه (حياة الرافعي): "وهممت أن أسأل "الرافعي"، ولكني لم أفعل، وهممت أن أعرفه بنفسي فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة "الرافعي" وسرعة حفظه فقلت متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظة واعية، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعه، لو لم تُجمع له الذاكرة من ذات نفسها".
وهكذا وصل "الرافعي" بعمق ثقافته في التراث إلى أن يكتب كتابًا من ذاكرته، يقع في ثلاثة مجلدات، وما هو إلا توفيق الله له؛ أعانه على أن يبعث أروع الأدب في هذه الأمة من جديد.(1/166)
ويتضح هذا من خلال قوله لأحدهم: "وما أرى أحدًا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكمًا نافذًا بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بالأشغال الشاقة سنتين أو ثلاثًا في سجن الجاحظ أو أدب أبي العلاء المعرى أو غيرهما".ومن هنا نلمس كيف كان "الرافعي" حريصًا على أن تكون كتب التراث في مقدمة ثقافة الدارسين للغة والآداب؛ حتى يرتكز الأديب على ركن أصيل وتراث زاخر يحميه من كل الأفكار الوافدة التي قد تعصف به وتجعل منه لسانًا للعجمة، كما حدث مع الكثرة ممن انسلخوا من تراثهم وحاولوا أن ينالوا من هذه اللغة ومن أصالتها، وقد وقف "الرفعي" لأصحاب هذه الدعوات بالمرصاد، وقامت بينه وبينهم معارك أدبية، خاضها "الرافعي" مدافعًا عن العربية والإسلام دفاع المستميت.
نستطيع أن نبين أهم السمات والملامح التي تميز بها أدب "الرافعي" كما يلي:
أولاً: الأصالة الإسلامية:
من أولى السمات وأبرزها وأوضحها في آداب "الرافعي" السمة الإسلامية، وهي تتضح منذ نشأته وحتى مماته.. فبيته الذي نشأ فيه غرس فيه الروح الإسلامية، وظل ناشئًا معها محاطًا بها في كل أطوار حياته، ونرى السمة الإسلامية في نقده وثقافته، وفي إبداعه؛ وهو ما يدل على أنه كان يبغي وجه ربه في كتاباته، ومن هنا علَّق على نشيده "ربنا إياك ندعو" فقال: إني أعلق أملاً كبيرًا على غرس هذه المعاني في نفوس النشء المسلم، فالرجل لم يكتب لشهرة ولا لمال ولا لمنصب؛ وإنما كان الإسلام هو دافعه وموجهه.
ثانيًا: أصالة المعاني والألفاظ:(1/167)
إن من يقرأ أدب "الرافعي" ويتمعن في سمو معانيه ودقة ألفاظه يقول: إن هذا الرجل لم يعشْ في القرن العشرين؛ وإنما عاش معاصرًا للجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان، والدليل على ذلك أنه ما وُجد أديب معاصر له قارب أسلوبه أو لغته أو فنه، وكان هذا دافعًا لوجود أعداء كثيرين له، بل لقد عاداه الكثير من أدباء عصره حيًّا وميتًا، ولم يذهب واحد من خصومه معزيًا أهله في وفاته، إلا رجل واحد كتب برقية إلى ولده؛ هو الدكتور "طه حسين".
ثالثًا: القوة في الحق:
القوة في الحق سمة بارزة في أدب "الرافعي" وفي كتاباته، فبرغم أن "العقاد" قال عنه يومًا:
"إنه ليتفتق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما يتفتق مثله لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها"، إلا أن هذا لم يُغفر للعقاد أن يتناوله "الرافعي" بنقد شديد فيما بعد؛ حرصًا منه على
فكرته، كما أننا لم نجد في كتاباته مداهنة لأحد ولا خوفًا من أحد، لقد كان العقاد كاتب الوفد الأول، إلا أن "الرافعي" لم يهبه، وكان "عبدالله عفيفي" شاعر الملك، إلا أنه لم يسلم من قلم "الرافعي"، هذه أبرز سمة في أدب "الرافعي" وهي تكفيه.
النقد عند الرافعي:
كانت بدايات النقد عند "الرافعي" بعض المقالات التي كان ينشرها في المجلات والجرائد التي كانت تنتشر في عصره، ومن أشهرها: مقال نشره في الجريدة، يحمل فيه على الجامعة وأساتذتها ومنهج الأدب فيها.
من أبرز نقده (تحت راية القران) و(على السفود)، وقد انتقد "طه حسين" ومنهجه كتاب (الشعر الجاهلي) في كتابه الأول، بينما انتقد العقاد في كتابه الثاني.
كان "الرافعي" ينتقد المعاني والألفاظ من ناحية مستوى تأليفها والابتكار فيها، وينقد التكرار القبيح في الألفاظ والمعاني، كما كان ينقد اضطراب القوافي وثقل الألفاظ.(1/168)
كان "الرافعي" عنيفًا على "طه حسين"، كما كان عنيفًا على "العقاد"، وأخذ عليه بعض العبارات القاسية التي كتبها للعقاد في كتابه (على السفود)، التي كان من الأولى أن يسمو قلم "الرافعي" عنها وعن الخوض فيها، ولنقترب أكثر من منهجه في النقد ونقول: كانت للرافعي غيرة واعتداد بالنفس عُرفت من خلال نقده اللاذع، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، وكان يؤمن بذلك، فكان بذلك ناقدًا حاد اللسان يغار على أدبه منها كما يغار على عرضه، فكان يضرب كل مَن تطاول عليه، ولا يخشى في الله لومه لائم".
فهو يقول في مقدمة كتابه (تحت راية القرآن)- مبينًا منهجه-: "إننا في هذا الكتاب نعمل على إسقاط فكرة خطرة، وإذ هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدًا فيمن لا نعرفه ونحن نرد على هذا".
"الرافعي" بهذه الكلمات الموجزة قد حدد منهجه في النقد ببساطة ووضوح، فهل هناك منهج نقدي أرقى من هذا المنهج؟!
نخلص إلى أن النقد عند "الرافعي" افترض أصالة الفكرة واللغة عن المبدع والسير حسب الأصول النقدية الصحيحة التي تزرع القاريء عند النقد.. والرافعي في كل هذا إنما ينقد من خلال السمة الإسلامية التي تسيطر عليه.
معارك الرافعي الأدبية
لقد عاش "الرافعي" في عصر كثر فيه أدعياء التجديد ونبذ القديم، بل وقف الرافعي وحده في الميدان مدافعًا، لا يستند إلا على ربه، وما وهبه من علم، فكان يبارز الكثير منهم في ساحة الصحف والمجلات والمطبوعات برغم أنه كان يعيش في (طنطا) بعيدًا عن أضواء الصحافة والمجلات الكثيرة التي كان يسيطر عليها أمثال هؤلاء، فكان يعتمد على مرتبه البسيط الذي كان يتقاضاه من المحكمة الأهلية، التي كان يعمل بها؛ لذلك نجده لم ينافق ولم يراءِ في معاركه، لأن ضميره ودينه يفرضان عليه خوض هذه المعارك.(1/169)
ومن هنا كانت المعارك التي خاضها "الرافعي" مع "طه حسين" و"العقاد"، و"سلامة موسى" و"زكي مبارك" و"عبد الله عفيفي"، وإن كانت معاركه مع العقاد أشهر هذه المعارك، إلا أن معظمها كانت من منطلق إيمانه بمنهجه وطريقته في الإبداع والنقد، والاحتماء بالتراث
العربي الأصيل.. كما أسس الرافعي بتلك المعارك منهجه النقدي من خلال أبرز كتبه، وهي: (تحت راية القرآن)، و(على السفود).
أما أبرز معارك الرافعي العلمية، التي يتعين الإشارة إليها بشيء من التفصيل بعد أن أهال عليها الزمن تراب النسيان، بل إن الكثيرين اليوم لا يحيطون بتفاصيلها.. وبخاصة ما كان بينه وبين كل من الأديبين الراحلين الدكتور "طه حسين" والأستاذ "عباس محمود العقاد" على التوالي.
معركة "الرافعي" مع "طه حسين":
بدأت المعركة حينما أصدر الرافعي كتابه (تاريخ آداب العرب)، وانتقده "طه حسين"، الذي كان لا يزال طالب علم في ذلك الحين في عام 1912م بمقال نشره بالجريدة، مبديًا أنه لم يفهم من هذا الكتاب حرفًا واحدًا.
وأسرها الرافعي في نفسه، وإن كان "طه حسين" قد عاد بعد ذلك عام 1926م فقال عن ذات الكتاب: إن "الرافعي" قد فطن في كتابه لما يمكن أن يكون عليه تأثير القصص وانتحال الشعر عند القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة"!
وبدأت المعركة في الاحتدام حينما أصدر الرافعي كتابه (رسائل الأحزان) واستقبله "طه حسين" بتقديم شديد، انتهى فيه للقول: "إن كل جملة من هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا مؤلمًا"!
ورد عليه "الرافعي" بجريدة "السياسي "ساخرًا بقوله: "لقد كتبت رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل، وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تدع لي من النشاط ولا من الوقت إلا قليلاً .. هأنذا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها".(1/170)
واشتدت المعركة وزادت عنفًا حينما أصدر الدكتور "طه حسين" كتابه "الشعر الجاهلي"، وأحدث الضجة المعروفة، وانبرى "الرافعي" يندد بما جاء بهذا الكتاب وفنده فصلاً فصلاً، حتى اجتمع له من ذلك كله كتاب أطلق عليه عنوان (تحت راية القرآن)، الذي كان حديث الناس في تلك الفترة (عام 1926م).
معركة الرافعي مع العقاد:
بدأت حينما اتهم "العقادُ" "الرافعي"َّ بأنه واضع رسالة الزعيم "سعد زغلول" في تقريظ كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) بقوله إن قول "سعد زغلول" عن الكتاب إنه (تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم) ليروج الكتاب بين القراء .. هذه العبارة من اختراع الرافعي وليست من يراع الزعيم "سعد زغلول"!
ويدافع الرافعي عن هذا الاتهام بقوله للمرحوم محمد سعيد العريان: "وهل تظن أن قوة في الأرض تستطيع أن تسخر سعدًا لقبول ما قال، لولا أن هذا اعتقاده".
وأرجع "الرافعي" السبب في اتهام "العقاد" له إلى أن العقاد كان هو كاتب الوفد الأول،
وأن سعدًا كان قد أطلق عليه لقب (جبار القلم)، ولا يقبل "العقاد" منافسًا له في حب "سعد" وإيثاره له.
وقد أخذت المعركة طابعها العنيف حينما شن "العقاد" حملة شعواء عليه في كتابه (الديوان) سنة 1921م، وتناول العقاد فيه أدب "الرافعي" بحملة شعواء جرده فيها من كل ميزة .. وشمر "الرافعي" عن ساعده على إثرها وتناول العقاد بسلسلة من المقالات تحت عنوان (على السفود) بأسلوب حاد كان أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد الموضوعي الجاد.. والسفود في اللغة هو الحديدة التى يُشوى بها اللحم، ويسميها العامة السيخ كما يقول "الرافعي" في شرح العنوان.
وبعد أن هدات الخصومة بينهما بسنوات نشر المرحوم "الزيات" صاحب "الرسالة" رأي "الرافعي" الحقيقي في العقاد الذي يشتمل على استنكار الرافعي نفسه للأسلوب الناري الذي اتبعه وفاءً إلى التسامح بعد بضعة عشر عامًا من خمود المعركة على حد تعبير الأستاذ كمال النجمي.(1/171)
فقد قال "الزيات" للرافعي وهو يحاوره: ياصاحب (تاريخ آداب العرب) .. هل تستطيع أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتجمل لنا رأيك الخالص في العقاد"؟
فأجاب الرافعي: "أقول الحق، أمَّا العقاد أحترمه وأكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره، ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب .. وأحترمه لأنه أديب قد استمسك آداة الأدب وباحث قد استكمل عدة البحث فصَّير عمره على القراءة والكتابة فلا ينفك كتاب وقلم".
حينما اطلع "العقاد" في الرسالة على ما تقدم من رأي "الرافعي"، وفي أدبه رد على ذلك بعد رحيل "الرافعي" عن عالمنا بثلاث سنوات بقوله: "إني كتبت عن "الرافعي" مرات أن له أسلوبًا جزلاً، وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين".
أما المعركة الثالثة في الأهمية فهي تلك التي قال فيها بعضهم: إن كلام العرب في باب (الحكم) أن عبارة (القتل أنفي للقتل) أبلغ من الآية القرآنية: ?وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? البقرة: 179)؛ إذ لم ينم "الرافعي" ليلته، بعد أن لفت الأستاذ الكبير "محمود محمد شاكر" برسالة بتوقيع م.م.ش نظره إلى هذا الأمر بقوله: "ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا، لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها"؟
واستطاع الرافعي ببلاغته أن يقوض هذا الزعم من أساسه بمقالاته: (كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة)، التي عدَّد فيها وجوه الإعجاز في الآية الكريمة: ?وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? (البقرة: 179).
إنتاجه الأدبي والفكري
استطاع "الرافعي" خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمس وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين، والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي.
(1) دواوينه الشعرية:(1/172)
كان الرافعي شاعرًا مطبوعًا بدأ قرض الشعر وهو في العشرين، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903م، وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة
فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته، وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه، وبعد فترة أصدر ديوان (النظرات)، ولقى "الرافعي" حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها، حتى كتب إليه الإمام "محمد عبده" قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يقيمك في الآواخر مقام حسان في الأوائل".
(2) كتبه النثرية:
قلّ اهتمام "الرافعي" بالشعر عما كان في مبتدئه؛ وذلك لأن القوالب الشعرية تضيق عن شعوره الذي يعبر عن خلجات نفسه وخطرات قلبه ووحي وجدانه ووثبات فكره، فنزع إلى النثر محاولاً إعادة الجملة القرآنية إلى مكانها مما يكتب الكتاب والنشء والأدباء، أيقن أن عليه رسالة يؤديها إلى أدباء جيله، وأن له غاية هو عليها أقدر، فجعل هدفه الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسًا يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وينفخ في هذه اللغة روحًا من روحه، يردّها إلى مكانها، ويرد عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ، ولا ينال منها نائل، ولا يتندر بها ساخر إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف دخيلته، فكتب مجموعة من الكتب تعبر عن هذه الأغراض عُدت من عيون الأدب في مطلع هذا القرن، وأهمها:
1- تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه- كما يقول- على تبيان غلطات المجددين، الذين يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع "طه حسين"، الذي احتل رده على كتاب "في الشعر الجاهلي" معظم صفحات الكتاب.(1/173)
2- وحي القلم: وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة، والقصص، والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي، مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها.
3- تاريخ آداب العرب: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء؛ الأول: في أبواب الأدب، والرواية، والرواة، والشواهد الشعرية، والثاني: في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأما الثالث: فقد انتقل "الرافعي" إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه "محمد سعيد العريان" إخراجه، غير أنه ناقص عن المنهج الذي خطه الرافعي له في مقدمة الجزء الأول.
4- حديث القمر: هو ثاني كتبه النثرية، وقد أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912م، عرف فيها شاعرة من شاعرات لبنان (مي زيادة)، وكان بين قلبيهما حديث طويل، فلما عاد من رحلته أراد أن يقول، فكان "حديث القمر".
5- كتاب المساكين: وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال. وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ "علي"، الذي يصفه "الرافعي" بأنه: "الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه"، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً
كبيرًا من أهل الأدب، حتى قال عنه "أحمد زكي" باشا: "لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته".(1/174)
6- رسائل الأحزان: من روائع الرافعي الثلاثة، التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها: "هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلمًا يترجم عن قلب كان حربًا؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة، وكان كالحياة ماضيًا إلى قبر".
7- السحاب الأحمر: وقد جاء بعد رسائل الأحزان، وهو يتمحور حول فلسفة البغض، وطيش القلب، ولؤم المرأة.
8- أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه "الرافعي" ليصف حالةً من حالاته، ويثبت تاريخًا من تاريخه.. كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه، أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام.
9- على السَّفُّود: وهو كتاب لم يكتب عليه اسم "الرافعي"؛ وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي، وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي.
واشتدت المعركة وزادت عنفًا حينما أصدر الدكتور(طه حسين) كتابه (الشعر الجاهلي)، وأحدث الضجة المعروفة، وانبرى (الرافعي) يندد بما جاء بهذا الكتاب وفنده فصلاً فصلاً، حتى اجتمع له من ذلك كله كتاب أطلق عليه عنوان (تحت راية القرآن)، الذي كان حديث الناس في تلك الفترة (عام 1926م)
وكتاب "تحت راية القرآن" ميدان لمعركة دارت رحاها بين "الرافعي" مدافعاً عن تراث العربية، وعن كثير من ثوابت الإسلام ضد آراء جريئة، وحقائق مغلوطة، وشبه مغرضة آثارها د. طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" في إصداره الأول عام 1926م.(1/175)
ولنتساءل: لماذا وضع الرافعي قضية الانتحال التي تعد العنصر الأساسي في كتاب د. طه حسين، والقاسم المشترك بينه وبين الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن"؟ لماذا جعل الرافعي مناقشة هذه القضية وتحريرها "تحت راية القرآن" وما علاقة القرآن بقضية الشعر الجاهلي؟
إن منهج الرافعي الذي ينطلق من المصدرين الكبيرين: الكتاب والسنة هو المحرك الأول لهذه القضية.
والبعد الديني لا الأدبي.. هو في المقدمة من أبعاد قضية "الانتحال" في الشعر الجاهلي.
ولنتأمل النتيجة التي انتهى إليها د. طه حسين متبعاً فيها آراء كثير من المستشرقين.. وهي نتيجة سلبية لا تصدر من باحث متمكن من مقومات تراث الأمة العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذه المقومات الإيمان بقداسة النص القرآني، وبأنه قطعي النص والدلالة
يقول د. طه حسين:
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة".
قال د. طه حسين: "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى".
والرد على هذه الفرية التي تقدح في قداسة النص القرآني.. لم تقتصر على الرافعي فقط بل تصدى لها كثير من العلماء وفي مقدمتهم: "الأمير شكيب أرسلان، والشيخ محمد الخضر حسين، ومحمد فريد وجدي، ود. محمد أحمد الغمراوي، والشيخ محمد أحمد عرفة، وغيرهم.
ومن الذين قاموا بالرد المباشر بعض نواب البرلمان في هذا الوقت ومنهم النائب الأستاذ عبدالخالق عطية في جلسة يوم الاثنين 13 سبتمبر سنة 1926م.
وفي رده إثارة لقضية تربوية يجب أن نقتدي بها في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية.. وما أحوجنا إليها في هذا الوقت الذي كثر فيه المتقولون والأدعياء.(1/176)
يقول النائب معلقاً على ما أثاره د. طه حسين من شكوك ومزاعم.. وكذب وتلفيق حول القرآن: "إننا إذ نسلم أولادنا للحكومة ليتعلموا في دورها نفعل ذلك معتمدين على أن بيننا وبينها تعاقداً ضمنياً على أن الديانات محترمة، لا أقول تعاقداً ضمنياً فقط، بل صريحاً، لأن الحكومة تعنى بتعليم الدين في مدارسها، وتضعه في مناهجها."
وإذا كان الأمر كذلك، فعلى الذين يريدون أن يحرقوا بخور الإلحاد أن يحرقوه في قلوبهم، لأنهم أحرار في عقائدهم، أو أن يحرقوه في منازلهم، لأنهم أحرار في بيئاتهم الخاصة، أما أن يطلقوه في أجواء دور العلم ومنابر الجامعة فهذا لا يمكن أن نفهمه بأي حال من الأحوال".
ووصف الشيخ مصطفى القاياتي بأن ما جاء به د. طه حسين "قبائح متعددة" "ما بين تكذيب لصحيح التاريخ، وتكذيب لنصوص القرآن، ونسبة التحايل إلى الله وإلى النبي محمد، وإلى موسى عليهما السلام".
-------------------------------------------
والرافعي يلخص تقويمه لشخصية د. طه حسين.. مع تفنيد آرائه في أسلوب حاد ساخر.. يوجز الحقائق، ويجمل التفاصيل ولكنه يتوسع فيها بعد ذلك عبر مباحث الكتاب مستعيناً بشهادات المعاصرين من الباحثين والعلماء والنواب ورجال السياسة المنصفين.
فيقول معللاً فساد آراء د. طه حسين فيما يتعلق بالقضايا التي أثارها في كتاب "الشعر الجاهلي" وهي كثيرة:(1/177)
"وصاحبنا يرجع في ذلك إلى طبع ضعيف لم تحكمه صناعة الشعر، ولا راضته مذاهب الخيال، ولا عهد له بأسرار الإلهام التي صار بها الشاعر شاعراً، ونبغ الكاتب كاتباً، وما هو إلا ما ترى من خلط يسمى علماً، وجرأة تكون نقداً، وتحامل يصبح رأياً، "وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهادًا"، وغض من الأئمة يجعل به الرجل نفسه إماماً، وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد، وما كنا نعرف على التعيين ما الجديد أو التجديد في رأي هذه الطائفة حتى رأينا أستاذ الجامعة يقرر في مواضع كثيرة من كتابه أنه هو الشك، ومعنى ذلك أنك إذا عجزت عن نص جديد تقرر به شيئاً فشك في النص القديم، فحسبك ذلك شيئاً تعرف به، ومذهباً تجادل فيه، لأن للمنطق قاعدتين إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان: "والأخرى إفساد الصحيح بالجدل والمكابرة"..
ثم يحترس الرافعي.. ويزيل هذه المثالب التي شخص بها مسلك د. طه حسين في منهجه وفي شخصيته.. ببعض المعالم الإيجابية التي يتسم بها، وهذا يؤكد أن الرافعي في تقويمه له لم يكن متجنباً، ولا مسفاً مثلما كان في "السفود" وهو يهجم على العقاد.. وفي قلب هذا الهجوم.. تبرق شهب نقدية حارقة لا يستطيع العقاد لها دفعاً.. ولكن "الرافعي" مع العقاد لم يكن منصفاً، ولم تكن غضبته للعلم وحده، ولم تكن غيرة على الدين، وإنما كانت رد فعل اتسم بالغضب الشديد والانفعال الجارح وكأنه استجابة مباشرة لقانون الطبيعة البشرية، وقوانين الحياة نفسها. فبين الرافعى والعقاد الأمر شخصى
ولكن ما بين الرافعى وطه حسين الأمر أكبر من الشخصى فالأمر جد
وخطير لأن الأمر .. عقدى .. يمس الثوابت والمعتقدات
"لكل فعل رد فعل مساوٍ له في الحركة مضاد له في الاتجاه".(1/178)
وقصة الرافعي في مواجهة العقاد لها فضاء آخر.. وسياق مغاير، يقول الرافعي.. وهو يضع طه حسين فوق ميزانه النقدي والعلمي، وإنه لولا ضعف خيال الدكتور طه، وبعده من الصناعة الفنية في الأدب، واستسلامه لتقليد الزنادقة، وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية، ثم لولا هذه العصبية الممقوتة التي نشأت فيه من هاتين الصفتين إلى صفات أخرى يعرفها من نفسه حق المعرفة لكان قريباً من الصحة فيما يرى، ولتدبر الأمور بأسبابها القريبة منها واستعان عليها بما يصلحها، ولتوقى بذلك جناية التهجم التي هي في أكثر أحوالها علم الجهلاء، وقوة الضعف، وكياسة الحمقى وعقل الممرورين".
ولا يمكن أن نتهم الرافعي بالمبالغة في اتهام د. طه حسين وإلصاق كل هذه المثالب به.. ولكني أرى أنه أصاب كبد الحقيقة حين وصف صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" بأنه مستسلم لتقليد الزنادقة، وبعض المستشرقين الذين لا يوثق برأيهم ولا بفهمهم في الآداب العربية.
ولنتأمل دقة الرافعي في التفريق بين الزنادقة.. وبعض المستشرقين حيث لم ينكر الدور الإيجابي الذي قام به المستشرقون في خدمة التراث العربي والإسلامي تحقيقاً.. وطباعة، وتمحيصاً وتدقيقاً وفهرسة.. وهي جهود بارزة لا تنكر.. وتحتاج إلى قليل من تصحيح المفاهيم، وإضاءة مناطق الشبهات، وتحرير بعض الآراء التي تشوهها الترجمات الحرفية التي تحرف المعنى وتقلب الحقائق.
يقول الرافعي: إن طه حسين استسلم للزنادقة وبعض المستشرقين وهذا كلام صائب ودقيق لأنه حدد هذا "البعض" وهم الذين "لا يوثق برأيهم، ولا بفهمهم في الآداب العربية".(1/179)
ومن المستشرقين المنصفين للحضارة العربية والفكر الإسلامي "توماس كارلايل" صاحب كتاب "محمد المثل الأعلى في كل شيء" و"الكونت هنري دي كاستري" صاحب كتاب "الإسلام خواطر وسوانح" و"المستشرق" فرانز روزنثال"، والمؤرخ الإنجليزى "المستر سميث" في كتابه "محمد والدين المحمدي"، وكذلك الفيلسوف الإنجليزي "برنارد شو" الذي يقول ويؤكد أنه "في الوقت الحاضر كثيرون من أبناء أوروبا قد دخلوا في دين "محمد" أي الإسلام، حتى يمكن أن يقال: إن تحول أوروبا إلى الإسلام قد بدأ، وأحسن ما يقال: إن القرن الحادي والعشرين لن يمضي حتى تكون أوروبا قد اتخذته ديناً لها، وعهدت إليه في حل مشاكلها".
أما المستشرقون الذين لا يوثق برأيهم ولا يفهمهم في الآداب العربية ومعهم الزنادقة الذين قلدهم طه حسين - كما يقول الرافعي".. وكما تشهد بذلك الوثائق العلمية ووقائع التاريخ، وكما انتهت إلى ذلك اللجنة التي فحصت كتاب "في الشعر الجاهلي" وكذلك المحكمة التي أصدرت حكمها بعد اعتذار د. طه حسين وإقراره بأنه مسلم ولم يتعمد الإساءة إلى الإسلام.
وقد انتهى الأمر إلى مصادرة الكتاب وإحالة د. طه حسين إلى النيابة، وحققت معه وانتهت إلى أن هذا البحث ليس من عمل الدكتور بل سبقه به المستشرقون ومنهم "مرجليوث" المستشرق الإنجليزي، وانتهت هذه القضية بقضها وقضيضها سنة 1926م - كما يقول الأستاذ حسنين حسن مخلوف.
وحفظت النيابة الأوراق لعدم كفاية الأدلة ولثبوت حسن النية فيما صدر من الدكتور طه حسين.
ولسنا هنا بصدد معارضة الحكم، ولا التنقيب عن حقيقة معتقد طه حسين.. فهذا أمر لا يعلمه إلا الله وحده.(1/180)
ومن الحقائق التي تؤكد تقليد طه حسين واتباعه لما قاله المستشرقون.. ما ورد من آثار لهم في دراسة الأدب العربي وتحقيق دواوين الشعر الجاهلي؟ وحين تصدق هذه الحقيقة.. فإنها أصدق تهمة توجه إلى "عميد الأدب العربي" الذي رفع لواء التجديد - وهو في الحقيقة يلبس مسوح التقليد، ويمكن أن نقول يرتدي حلة السرقة ظناً منه بأن الحياة الثقافية لن تكشف هذا الصنيع، أو أنه يضحي بسمعته العلمية في سبيل إرضاء أساتذته من بعض المستشرقين الذين وصفهم الرافعي بأنهم "لا يوثق برأيهم ولا يفهمهم في الآداب العربية" وكل هذه الاحتمالات
تصب في تيار مضاد لما كان يتوهمه طه حسين، ولكنه أغرى الكثيرين من الباحثين بارتياد هذه الطرق الشائكة التي تجدف ضد التيار.. حتى لو كان هذا التجديف ضد الثوابت، وضد القيم والأعراف والتقاليد الأدبية والحقائق التاريخية، والثوابت الدينية".
والمستشرقون الذين ردد أقوالهم د. طه حسين .. لم يبتكروا الجديد، وإنما بالغوا، في تضخيم ظاهرة الانتحال - التي أثارها ابن سلام في كتابه "طبقات فحول الشعراء" ووردت هذه القضية على لسان الرواة في تقويمهم لبعض الروايات،ولبعض من رووا الشعر العربي.. وهذا دليل جودة وتمحيص، وتدقيق ورغبة في الوصول إلى النص الأصلي الصحيح.. حيث كانت الرواية منهجا دقيقا من مناهج العرب والمسلمين0
فالمفضل الضبي ينقد حماد الراوية المتوفى سنة 198هـ، والأصمعي ينقد خلف الأحمر ويتهمه بالانتحال وقد توفي سنة 216هـ، وابن هشام في سيرته ينقد ابن إسحاق المتوفى سنة 218هـ، وابن سلام يقوم روايات ابن إسحاق وحماد الراوية.
وابن إسحاق يقر بعدم علمه بالشعر.. وهذا الإقرار عده رواة الشعر فضيحة وقد روى أشعاراً عن عاد وثمود.
وأبو الفرج الأصفهاني رفض روايات ابن الكلبي عن دريد بن الصمة.(1/181)
إن هذه الظواهر التي تؤكد حرص رواة الشعر على صحة ما ينسبونه للشعراء لم تؤد بهم إلى القول بانتحال معظم الشعر الجاهلي، ولا بالقول إلى أسبقية القرآن، وأن الشعر العربي أتى بعده، لأنه تقليد له في الألفاظ والأساليب، ولا إلى القول بأن الشعر تطور للقرآن كما يزعم المستشرقون.
هذه الظواهر القديمة في قضية الانتحال، دفعت بعض المستشرقين إلى الطعن في صحة الشعر الجاهلي وإلى الطعن في كثير من حقائق القرآن - وحتى نثبت صحة ما ذهب إليه الرافعي نسوق هذه الحقائق التي تكشف عن دور المستشرقين في تضخيم هذه القضية، وتكشف كيف خدع د. طه حسين بهم!! أو كيف اتخذ من نفسه بوقاً لهم عن طواعية - رغبة في الظهور - وصدمة للواقع الأدبي، والفكري.
وأول من تناول موضوع الانتحال شيخ المستشرقين الألماني تيودور نولدكه سنة 1861 أي قبل طه حسين بـ 65خمسة وستين عاماً.
وقد استعان بنتائج البحث في اللغات السامية، وما كشفت عنه النقوش الحميرية والسبئية وفي اليمن الجنوبية عموماً، وبالمقارنة بما حدث في الآداب الأخرى، الأدب اليوناني وخاصة هوميروس، وفي الأدب الألماني ليسوق الأسباب الدقيقة التي تؤيد وتوسع من نطاق النتائج التي وصل إليها ابن سلام الجمحي بنظرة ثاقبة ولكنها غير مؤيدة بالأسانيد التاريخية.
وبعد ثماني سنوات جاء "ألفرت فلهلم" ليثير الشكوك سنة 1872 في مقدمة ديوان "الشعراء الستة الجاهليين".
وفي سنة 1904م كتب "كليمان هوار" مقالة مغرضة بعنوان "مصدر جديد للقرآن".
وفي عام 1905 أصدر "مرجليوث كتابه عن "محمد وظهور الإسلام، ثم كتب مقالته عن "محمد" في دائرة معارف "الدين والأخلاق".
وتوالت الجهود التي تدرس التشابه بين لغة القرآن ولغة الشعر الجاهلي وكتب مرجليوث مقالاً عن أصول الشعر العربي عام1911 كتب بحثاً في الموضوع نفسه سنة 1925.(1/182)
ومن القضايا المغرضة التي أثارها "مرجليوث" هي أن الشعر تطور للقرآن، أي أتى بعده.. وهذا أخطر ما في القضية التي قلد كل تكويناتها د. طه حسين.
في فصل (الجملة القرآنية) وهو من أثمن فصول الكتاب وأنفعها, يتحدث الرافعي عن الأسلوب البياني الفصيح وما دار في تلك الفترة الحاسمة من جدل وصراع حول ماهية ( المذهب الجديد ) ويتبين لنا من خلال هذا الفصل مدى القلق الذي كان يساور الرجل من مخاطر التجديد بصورته التي رُوّج لها .
وسأتجاوزُ شبهة الحساسية من التجديد التي قد تُثار هنا, إلى تأصيل الرافعي لأصول البيان والكتابة ليقودنا في نهاية الأمر إلى بابٍ أصليٍ كبير لعلي أسميه: (كيف تكتب؟) على اعتبار أنّ باب (ماذا تكتب؟) من المسلّمات التي نتجاوزها هنا نحو الأدوات اللغوية والروافد المعرفية للكاتب المبتدئ والمحترف على السواء.
دعونا نعود للشرارة التي أدت بالرجل إلى كتابة هذا الفصل حين قال في مطلع المقال:
) نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على (رسائل الأحزان) بقولٍ جاء في بعض معانيه أني لو تركت (الجملة القرآنية) والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأتُ الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي!
ولقد وقفت طويلاً عند قولها (الجملة القرآنية) فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل, حتى لكأنها (المكروسكوب) وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيَّاً فيستَعْلِن ودقيقاً فيستعظم, وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تُعرف العلل الكبرى إلا به (. إ.هـ(1/183)
إذن فالقضية تبدت له وكأنها حربٌ جديدة يتحتم عليه خوض غمارها, فالأمر لا يتعلق في نظره بلسانٍ ينطق حروفاً أو قلمٍ يكتبها, كلا.. الأمر أكبر من ذلك, لقد كان يرى أن الأبعاد الخطيرة لأطروحات التجديد وإن بدت فنية صرفة إلا أنها تؤدي في النهاية إلى تجفيف المنابع وتنحية المصادر الربانية عن منهج الأمة التي لا يمكن فهمها ومن ثم تطبيقها دون فهمٍ سليمٍ للغة التي كتبت بها.
فالهدف خبيث والمراد أخبث فهو ليس الأدب بل مدخل الأدب ذريعة لنقض ثوابت الدين
وتأمل معي هذه الصورة البانورامية الهرمية التي أبدعها حين قال واصفاً تذوّق اللغة:
( ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعباً من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها مَلك من المعجمات الضخمة… أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن, فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليا وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة, ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها, وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى… وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياساً يحدُّ به علم اللغة في أصله وفرعه, فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ
وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيمَ تكون المجاذبة والمدافعة, وبم يقوم المراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟
إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت, لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين . كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أُخْذَة السحر, لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.) إ.هـ
إن ما سُطّر أعلاه لينوء بالعصبة أولي قوة !(1/184)
وحريٌ بوزارات التربية والتعليم أن تضعه في مقدمة مناهج اللغة والأدب ليكون نبراساً للناشئة ومصباحاً في طريقهم العلمي, أنظر لهذا التشبيه البليغ العِلق (شعبٌ من الدفاتر)! وانظر لهذه النظرية العجيبة السهلة في مبناها الساحرة في تركيبها ومعناها (بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم) التي أرى أنها تصلح أن تدرّس كقاعدةٍ أصولية!
وتأمل كذلك في عمق تشبيهه هذا (لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين) فبدأ بالفعل المبني للمجهول_وحاشاه سبحانه وتعالى أن يكون مجهولا_ (أُعِدَّتْ) حيث يرسّخ الرافعي في هذه المفردة منهجاً ودينا ليؤكد أن لغة الضاد ليست فعلاً صوتياً ليندثر كبقية الصوتيات ولا هي بقيةُ حضارة عابرة غابرة لتُحفظ في المتاحف والمكتبات, وإنما هي ناموسٌ من نواميس هذا الكون وآية من آيات الخالق العظيم, وجدت لتبقى.
ثم تكتمل الصورة المجازية البديعة في المفردة المنتقاة بعناية: (فَلكاً دائراً) ياااه… إنها إذن منظومة متحركة بأمر ربها.. فضاؤها غير الفضاء.. أرضيٌ يحوي كوكبين (نيِّرَين أرضيِّين) يضيئان ليلَ البشرية الحالك وزيادة على هذا فهما في متناول الخلق حين يريدون البصيرة.
إنّ هذا المجاز إنما أراد الرافعي به ربط اللغة بالدين, وهي قضيته الأولى وشغله الشاغل, وهو الذي أدرك ببصيرته وبوعيه أنّ الأمة أُتيت حين أُتيت من باب اللغة والأدب في حيلة استعمارية وجدت صدىً ورواداً من أبناء جلدتها وكادت أن تنطلي لولا فضل الله وتكفله بحفظ الدين بحفظ اللغة تباعا.
وإنما تعزّ الأمة وتسعد بالعناية باللغة وفهمها على أكمل وجه.
ثم يعلّق الرافعي بسخريته اللاذعة على العجز اللغوي لدى أصحاب المذهب الجديد بقوله:(1/185)
( فأمّا أن لا تدري يا أبا خالد وتزعم العفة, وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي؛ وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة؛ فهذه أساليب ابتدعها مَنْ قبلك من أذكياء الثعالب… وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق… فلو هو كان من ثعالبنا… لزعم بأنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه!
وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟ )إ.هـ
ونرى هنا إعادةَ صياغة للمثل العربي المعروف بقالبٍ ساخر جعله ملائماً لثعالب المرحلة!
وأقف خاشعاً لأختم الكلام عن هذا الفصل بالتأمل في هذه الحجة الباترة التي ساقها الرافعي بتسلسلٍ منطقي عجيب..
( وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟ ) .
هذا مقال نشر في مجلة (الزهراء) يواصل فيه الرافعي تأصيله للغة والمنافحة عنها ويسرد الشواهد التاريخية التراثي منها والمعاصر لتفنيد ما أسماه بـ(المذهب الجديد) كما أسلفنا.
بدأ هذا الفصل بتشبيه طريف يبين لنا أصل مخاطبته لـ(أبي خالد) في فصل (الجملة القرآنية) الآنف الذكر, الذي يعقُب هذا الفصل وفق الترتيب الأصلي للكتاب, ولكني رأيت أهمية (الجملة القرآنية) فقدمت فصلاً على فصل _بفوضويتي المعتادة_غير أني لم أشر إلى هذا هنالك, ولعل الغموض الوحيد الذي سببه هذا التقديم هو (أبو خالد) الذي سوف نعرفه عن قرب في هذا الفصل.
يقول الرافعي:(1/186)
( كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة, وكان ينتحل الأعرابية ويتجافى في ألفاظه ويتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام والتشدق به, ليتحقق أنه أعرابي وما هو به, وإنما ولد ونشأ بالبصرة, قالوا فخرج إلى البادية فأقام بها أياماً يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا...؟
فهذا طَرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرفٍ آخر من جماعة قد رزقوا اتساعاً في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحياناً, ووهبوا طبعاً زائغاً في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير, ورأوا أنفسهم أكبر من دهرهم, ودهرهم أصغر من عقلهم, فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي, وأبا خالد الإنجليزي, وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وإنجلترا فأموا بها مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه
وآدابه ويقولون : ما هذا الدين القديم؟ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه الأساليب القديمة؟
ويمرّون جميعاً في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها؛ وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديداً أو يستحدثوا طريفاً أو يبتكروا بديعاً, وإنما ذلك زيغ الطبع, وجنون الفكر, وانقلاب النفس عكساً على نشأتها, حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجهم من لغة, وإيمانهم بشيء كفراً بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين, ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقياً وإن في لسانه لغة لندن أو باريس!)إ.هـ(1/187)
إذن القضية هنا قضية منهج وأسلوبٍ لا يمكن المساومة عليهما ولقد أعجبني هذا التشبيه الطريف من الرافعي الذي ينطبق على شريحة فكرية زمنية عريضة تبدأ من زمانه ولا تنتهي بزماننا, فهم كما يقول المثل العامي ): ضيع مشيته ومشية الحمامة) ومن الواضح كما يقرر الرافعي في غير موضع أن أصحاب بدعة المذهب الجديد لم يأتوا بمنهجٍ مستقلٍ مكتمل العناصر جامعٍ مانع كي نقول إن مشروعهم حضاريٌ ذو شخصية عربية يقوم على الحاجة الفعلية للتطوير لا على حاجة وأغراض المستعمر!
وإنما يتبين لك مدى اعتلال أفهامهم وضعفهم المعرفي عند أول أطروحة, وكم هي جميلة تلك الإشارة التاريخية التي أتى بها الرافعي حين بيّن أنّ ابن المقفّع ليسَ بمسلمٍ ولا عربي ولكنه بعد أن نشأ على اللغة العربية والأدب العربي والرواية العربية وتتلمذ على يد (ثور بن يزيد الأعرابي) والذي كان من أفصح الناس لساناً ومع ذلك لم تتأثر فصاحته بما ترجمه من اليونانية والفارسية ولم يقل بوجوب هدم البيان العربي بعدما وجد الحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية في الأدب اليوناني, وإنما صهر كل هذه الآداب الإنسانية ودمجها في اللغة ولم يدمج اللغة فيها.
ثم يشير الرافعي إشارةً هامة تبين الانفتاح المعرفي في تراث الأدب العربي و أن القضية ليست تحجراً وانغلاقا, فيقرر أن اللغة لم تخلق على الكفاية وقد حكى التاريخ الإسلامي الانفتاح الهائل من العرب على كافة العلوم الإنسانية بلغات شتى لأمم الأرض قاطبة فلم يذوبوا ويذوّبوا لغتهم في هذه اللغات بل أثبتوا قدرة اللغة العربية على التطور والثبات على اعتبار أن الحاجة للتحرير والتطوير مسلّمة عندهم كسنةٍ كونية لا مناص منها, ولكنّ ذلك لا يعني بشكلٍ من الأشكال أن يكون لكل قطرٍ لغة قائمة وأدب مستقل وهو مالم يفعله أحد طوال التاريخ الإسلامي.(1/188)
ثم يستعرض الرافعي شاهداً غربياً على التمسك بالأصالة والمحافظة على اللغة القومية وهو (المجمع العلمي الفرنسي) حين رأى أن مصطلح (naval blockade ) (نظام الحصر البحري) وافدٌ إنجليزي من مخلفات الحرب العالمية الأولى وقرر إبطال هذه المصطلح و(فرنسته(.
فتأمل كيف تباهي أمة أوروبا بلغتها وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم ويعدّون كلمةً وافدةً على لغتهم كجندي محتلّ يلزم طرده! بينما أبو خالد الفرنسي يتنصل من لغته الأم و يعمد على هدمها!
ونختم الحديث عن هذا الفصل المهم الثمين مضموناً الطريف السهل أسلوباً وعرضاً بخلاصةٍ من درر الرافعي يجب أن تخلد حين قال:
) إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح, لا بأوزانها في نفسها, فألف جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرضٍ هالكة بأهليها ربما كانوا غوثاً تفتحت به السماء, ولكنّ جندياً واحداً من هؤلاء في أمة قوية مستقلة, تنشقّ له الأرض وتكاد السماء أن تقع, فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة.
وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم, وهم لا يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية! )إ.هـ
( قال إنما أوتيته على علم .. بل هي فتنة! )
في هذا الفصل يفصّل الرافعي في نقده لكتاب طه حسين القضية (في الشعر الجاهلي) وبدأ أول ما بدأ بعنوان الكتاب! إذ حملَ على طه حسين تلقيب نفسه بأستاذ الآداب العربية وهو اللقب الذي رأى أنه يعني أن الرجل أستاذ الشعر والكتابة وأساليبهما وما دخل في ذلك من تفسير ونقد تاريخ الأدب وتحليله وتصحيح رواياته وجميع مسائله والمقابلة بين نصوصه ثم علومه الأدب المعروفة كفنون البلاغة وفنون الرواية! بينما الرجل (لا هو شاعر ذو مكانة ولا هو كاتب ذو فن وإذا أسقطنا هذين فما يبقى منه إلا خلط يسمى علما وجرأة تكون نقدا وتحامل يصبح رأيا وتقليد للمستشرقين يسميه اجتهادا وهدم أحمق يقول هو البناء وهو التجديد!)(1/189)
فيا ليت شعري لو بعث الرافعي ورأى ألقاباً أسبغت اليوم على من هب ودبّ ماذا عساه أن يصف وماذا عساه أن يدَع؟!
وهكذا بدأ الرافعي نقضه لأساس الكتاب بنقض مكانة صاحبه من الأدب فذاك متعلق بهذا.. و قد جعل من منهج طه حسين أنموذجاً للاشيء فهو يرى أنه لم يأتِ بجديد ولم يجدد قديما وإنما هو الشك! يقول الرافعي في ذلك:
(ومعنى ذلك أنك إذا عجزتَ عن نصٍ جديد تقرر به شيئاً جديداً فشك في النص القديم, فحسبك ذلك شيئاً تعرف به ومذهباً تجادل فيه؛ لأن للمنطق قاعدتين : إحداهما تصحيح الفاسد بالقياس والبرهان, والأخرى إفساد الصحيح بالجدل والمكابرة.) إهـ.
ثم يمضي الرافعي في تحديد خصائص أستاذ الآداب من وجهة نظره حيث يرى أنه يجب أن يجمع بين الخيال الإبداعي الخصب كشاعرٍ و ناثر وبين التمكن العلمي والفكري والفلسفي وهو ما يمكن أن يطلق عليه (الناقد الأدبي) وحين انتفت تلكم الخصائص عن طه حسين ووجده يتوكأ حصرياً على المنطق والمقاييس والأوزان في دراسته لتاريخ الأدب عده لا شيء!
ليخلص إلى قاعدة ذهبية رافعية في دراسة الأدب:
( والأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم, هي أدق ما فيه لكنها مع ذلك هي الحياة والخلْق والقوة والإبداع, ولا تقاس بقياس العظام المشبوحة الغليظة, ولا توزن بميزان العضلات المكتنزة الشديدة, ولا ينفع فيها المتر ولا الكيلو.. فإن جاءك صاحب المتر أو الكيلو فاقذف به الطريق, وإن قال لك أن المتر مقسم إلى مائة جزء وكل جزء مقسم إلى عشرة أجزاء...)إهـ. فتأمل.(1/190)
ثم يدلف الرافعي لنقد محتوى الكتاب إذ يبدأ بقضية شعر أمية بن أبي الصلت حيث يدعي طه حسين أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم نهى عن رواية شعره بعدما رثى قتلى بدر من المشركين وهجا الصحابة مما أدى بالتالي لضياع (الكثرة المطلقة) من الشعر الوثني واليهودي, وهذا ادعاء يرى الرافعي أن طه حسين نقله عن المستشرق الفرنسي (كليمان هوار) الذي ذهب إلى أبعد من هذا وأشنع عندما رأى أن شعر أمية مصدر من مصادر القران ! كبرت كلمة تخرج من أفواههم..
والحقيقة أن ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايته من شعر أمية هو فقط رثاءه قتلى المشركين في بدر وأكد الرافعي على أنه (ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم استنشد من شعر أمية ومازال يقول للمنشد (إيه إيه) حتى استوفى مائة بيت!)
ويستفيض الرافعي في ذكر الأدلة على بطلان نظرية محو شعر اليهود أو النصارى أو الوثنيين من قبل الصحابة بأمرٍ من الرسول أو من الخلفاء من بعده ويذكر قصة سهيل بن عمرو حين أسره المسلمون وأراد عمر رضي الله عنه أن ينتزع ثنيتيه كي لا يستطيع الخطابة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق الرجل. فلو كان من ديدنه أن يمحوا آثار كلام المشركين وأشعارهم لوافق على اقتراح عمر في إسكات أحد وسائل المشركين الإعلامية وهي (الخطابة) .
ثم يعرج الرافعي على شبهة طه حسين في قضية اختفاء الشواهد الدينية الصرفة في الشعر الجاهلي لكل من الوثنية والنصرانية واليهودية مما يؤيد نظرية المحو ثم الوضع ليقرر أن هذا من ضعف الحس الشعري عند طه حسين إذ لا يمكن تصوّر قالبٍ ديني لشعر هذه الفئة يميزه عن غيره _وفقاً للرافعي_ فالشعر عندهم مثل شعر سائر العرب فيه كافة الأغراض من فخر(1/191)
وهجاء ووصف ونسيب ويرى الرافعي أنّ الشعر كلما اقترب من العقائد ضعف ولان ويضرب لذلك مثلاً شعر حسان إذ يذهب الرافعي ما ذهب إليه الأصمعي وبعض المتأخرين من ضعف شعر حسان في الإسلام عنه في الجاهلية لالتزامه الأغراض الدينية وتوظيفه القصيد في خدمة الإسلام والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولعلي أقف هنا لأختلف مع هذا الرأي.. فأجدني لا أتفق مع الرافعي ولا مع الأصمعي في نظرية الضعف الفني للشعر الرصين, فإذا كان دليلهم ضعف شعر حسان فهذا مردود, لأن حسان دخل في الإسلام وهو هرم وهرمت معه قريحته فالمقارنة هنا بين شعره في شبابه في الجاهلية وبين شعره في هرمه في الإسلام غير وارده ولا عادلة. كما أنّ العيب _لو سلمنا به_ إنما يكون في الشاعر وليس بالشعر وغرضه فحتى لو كانت صنعة الشعر وجمالياته تتجلى في السواد الأعظم من الأغراض المحددة بالوصف والفخر والنسيب فهذا لا يتعارض أبداً مع إمكانية صناعة الجمال بطرق الأغراض السامية الرصينة.
فلم يكن الرافعي _فيما أرى_ بحاجة لهكذا استطراد إذ أن ما أورده من حجج كان كافياً لرد شبهة طه حسين الضعيفة المتهافتة, ومنها استشهاده بمقولة الجاحظ:
(ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب معروفة عند أهل النسب, ولولا ذلك لدللت عليها بالأشعار المعروفة.)إهـ.
الخلاصة
الحمم الرافاعية
ولعل الخلاصة في نقض نظرية المحو والوضع الطه حسينية تتلخص في هذه الحمم الرافعية:(1/192)
(وضع الإمام المرزباني كتاباً غير الكتاب الذي أومأنا إليه آنفاً. قال ابن النديم إنه أكثر من خمسة آلاف ورقة أتى فيه على أخبار (الشعراء المشهورين) من الجاهلية, وبدأ بامرئ القيس وطبقته, ثم المخضرمين, ثم الإسلاميين إلى أول الدولة العباسية, فهذه أخبار شعراء مائتي سنة من التاريخ, بل المشهورين منهم, وقد كتبت في خمسة آلاف ورقة, أي عشرة آلاف صفحة, لم ينته إلينا منها صفحة واحدة, فكيف مع ضياعها وضياع كثير من أمثال هذا الكتاب الجامع الممتع_ولعله أراد الممتنع_ يُقبل عقلاً من مؤرخ علمي يجلس في كرسي التحقيق أن يقرر مثل هذا الهُراء الذي جاءنا به الدكتور طه حسين في إنكار الشعر وإثباته, على حين أنه مع هذا النقص الفاضح تنقصه كذلك ملكة الشعر فما هو بشاعر يدرك بالحس كما أدرك مثل ذي الرمة حين سئل عن شعرٍ أنشده حماد الراوية في مدح بلال بن أبي بردة فقال: إنه جيد وليس له, فلما عزم بلال على حماد ليخبرنّه قال: إن الشعر قديم ولا يرويه غيري وقد انتحلته.
ولجرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء أخبار كثيرة من مثل هذا, يقرأون بنفوسهم كما يقرأون بأعينهم, فلا يحسن أن يقول المؤرخ في الشعر إلا إذا كان شاعراً يوثق بملكته فإن الحس والملكة من أقوى أسباب الرأي في مثل ذلك.)إهـ.
أما المنزلق الخطير في هذا الكتاب والذي نبه له الرافعي هو تلك النزعة الديكارتية التي تجلت في دعوة طه حسين إلى التجرد من كل خلفية دينية عند البحث في الأدب العربي وتاريخه مما أدى به إلى أن يتساوى عنده أن يكون القران منزلاً أو من نظم الرسول عياذاً بالله! فها هو يقول معلقاً على فرية المستشرق (كليمان هوار) التي رأى فيها أن شعر أمية بن أبي الصلت مصدرٌ من مصادر القران:
( ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون) صفحة 38.
يقول الرافعي معلقاً على هذه الزندقة:(1/193)
(فالأمر عنده على حد الجواز كما ترى, وليس يعنيه أن يكون دينه ودين أمته صحيحاً أو كذبا... ولو كان طه حسين بليغاً من أئمة البلاغة لقلنا: رأي رآه وإن كان كفراً وإلحاداً, ولكنه هو هو هو... على أن كلامه في هذا الكتاب عن القرآن الكريم كلام من نسي دينه بل كلام من لا دين له فليس في الأمر عنده معجزة ولا إعجاز ولا تنزيل)إهـ.
ثم ينهي الرافعي الكلام في هذا الفصل برد شبهة طه حسين الساذجة والتي كرسها وكررها ظاناً أنه يفحم بها أصحاب المذهب القديم وهي أن اختلاف لهجات العرب كان يجب أن يترك اثراً في موسيقى ووزن الشعر الجاهلي مما يؤكد أنه موضوع بعد الإسلام !
ويبدو لي أن الرد على هذا التسطح الفكري لم يأخذ من وقت الرافعي دقائق معدودة, فما علاقة اللهجات بالإيقاع والبحور والأوزان ؟! وغاية ما يصل إليه اختلاف هذه اللهجات هو (إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مدّ بمد), تنصهر كلها في القالب العمومي للشعر دون أن تُأثّر فيه.
وأورد الرافعي مثالاً لذلك قول شاعر من بني تميم:
( ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت ,,, ولا أكول لباب الدار مكفول
يريد: لا أقول لقدر القوم الخ, وهي القاف المعقودة التي ينطقونها بين القاف والكاف, وقد كانت شائعة في العرب, وهي غير القاف الخالصة التي يقرأ بها القرآن, فهل روي كلّ شعر بني تميم على هذا الوجه؟ وماذا لو أبدلت الكاف في البيت قافاً لتوافق اللغة الفصحى في الإنشاد؟ (
و يختم الرافعي الحديث في هذا الفصل المثير بلغة الواثق وبعد أن أودع خصمه في العراء بتوقيعٍ تهكمي:
(فالدليل الذي حسب أستاذ الجامعة أنه ليس أقوى ولا أعضل منه في بابه هو كما تراه أوهنُ أدلته وأسرعها اضمحلالاً, فكيف بغيره مما تمحل وتكلف له التلفيق؟
إذا أخذت قيسٌ عليك وخِندِف ,,, بأقطارها لم تدرِ من أين تسرَح (
( أستاذ الآداب والقرآن ((1/194)
يواصل الرافعي في هذا الفصل تفنيد كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) بشكل أكثر حدة ولعل الشواهد التي أوردها _كما سيتبين لك لاحقاً_ تستحق هذه الحدة إذ أنها جمعت بين الإلحاد والتناقض وانعدام الموضوعية فكفى بها مدخلاً لسحل الرجل ببطئ كما يفعل هنا الرافعي, إذ أنه لم يكتفِ بقذف حممه اللغوية المعتادة ضد خصومه بل حلل مَحاور الجدل وفندها تفنيداً مانعاً جامعا يلقف ماصنعوا.
يبدأ الرافعي هذا الفصل بتعليقه على مقولة لأديب نصراني قال فيها فيما معناه أن رسالة علي عبدالرزاق (الإسلام وأصول الحكم) (والتي ثارت حولها ضجة أدت بالأزهر إلى تجريد الرجل من صفته ووظيفته ونسبته إلى مايشبه الكفر) إنما هي تسبيح لله في جنب كتاب طه هذا الخ.. فيعلق الرافعي على هذا بقطعة أدبية أثملتني:
( وكتاب طه حسين هو تسبيح لله في جنب مايكون في نفس طه حسين, فلولا دين الحكومة والقضاء والنيابة _كما يقول هو في كتابه_ لكان قد هدم السماء والأرض وترك الآخر يلعن الأول ولافترى بين يديه ورجليه ويسرته ويمناه وما فوق وما تحت, سخطةً على الدين وكتابه, والإسلام ونبيه, وعلى الأمة وعلمائها؛ وهو على ما يعرف من دين الحكومة والقضاء والنيابة لا تراه ينظر في معنى من معاني الإسلام إلا جاء بشرّ النظرين وأشدهما جهلاً وحمقاً؛ وتراه يزهى في كتابه بأنه ممن "خلق الله لهم عقولاً تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا ( إهـ.(1/195)
ولاحظ هنا أن الرافعي بدأ هذا الفصل بعمومية لاتضيف شيئاً لمحور الموضوع بقدر ما تضيف بعض المقبلات للقادم من دسم المناظرات, ولعلي هنا أقف لأستلهم درساً من هذا المعلم الشامخ حيث تلاحظ اكتمال أدوات النقد والتحليل لديه بشكل يفوق الوصف على العكس من كتّاب ومنظري هذا الزمان إذ يندر من تجده يجمع بين الصياغة الأدبية العمومية وبين المنهج العلمي في البسط والتحليل عند محاورة المخالف فتجد من يجيد في الأولى مع إغفال الثانية فتنعدم الجدوى من الحوار إذ لايكاد المتلقي يخرج بتصور واضح حاسم في القضية محل الصراع, كما تجد من يغفل الأولى مع الإغراق التام في الثانية, وهذا وإن كان يطرح طرحاً ممنهجاً ذا بال, إلا أنه لايكاد يجد القبول لدى شريحة كبيرة من المتلقين لنخبوية مايطرح من جانب ولإغفاله عنصر الصياغة الأدبية الجذابة من جانب آخر, أما الرافعي وتحديداً هنا فتجده يجمع بين العنصرين بحرفية تامة.
وقبل أن يبدأ الرافعي تفصيل الشبهات الواردة في الكتاب يبين الهدف الجلي من اهتمامه بهذه القضية إذ يقول مؤصلا:
) ولو نعلم أن كتابه وإلحاده حديث بينه وبين نفسه أو بينه وبين مثل "كازانوفا" _أستاذ مستشرق في الجامعة المصرية_ لأهملناه, ثم لما كان حكمه عندنا إلا ما قال الله تعالى: {فَمَن أبْصر فَلنفْسِه ومن عَمِيَ فَعَليهَا} ولكن كتابه دروس ألقاها في الجامعة, على طلبة يقول هو أنهم زهاء مائتين؛ فلقد أمِر أمره إذن بقوة هذه الجامعة، وأصبحت الجامعة هي المتهمة بإزاغة عقيدة مائتي طالب, وصارت في معناها العلمي كمستشفيات المبشرين في معناها الطبي... ومن ثم وجب على أئمة الدين أن يحيطوا عقائد أبنائنا وإخواننا, وأن يزعوا الجامعة ويردّوا جماحها ويكسروا شِرّتها, وإلا شركوها في الإثم وأعانوها عليه, وقد أبلغنا فاللهم اشهد؛ وإنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب) أ.هـ(1/196)
ثم يبدأ عرض المسائل التي أثارها طه حسين والتي تنوعت بين ماهو إلحادي فج وبين ما ينبي عن سقامة في الفهم وجهل بالصناعة، ولعلي أختار مسألتين أو ثلاث هنا مع أن المتعة لا تكمل دون التهام الفصل وماحوى كاملا.
في مسألة تكذيب طه لوجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ومن ثم تكذيب هجرتهما إلى مكة لا مجال للين أو التسامح فالوقاحة والجرأة قد بلغتا مبلغهما فهاهو الرافعي يهجم بحروف سيوف قائلاً:
( يقول _يعني طه_في صفحة 26 " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل, وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً؛ ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي, فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة... قال: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة, وبين الإسلام واليهودية, والتوراة والقرآن من جهة أخرى " . انتهى...
فانظر هذه الوقاحة في قوله " للقرآن أن يحدثنا " كأنه زعم زاعم له أن يقول وأن لا يقول؛ وإذا لم يكف النص في كتاب سماوي تدين له الأمة كلها لإثبات وجود المنصوص عليه فما بقي معنى لتصديقه, ومابقي إلا أن يكون القرآن كما يزعم المستشرقون أساتذة طه حسين وأولياؤه كلاماً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم نفسه, ومن نظمه وعمله كما نقل عن هذا الخرف المسمى كليمان هوار؛ فهو يدخله ما يدخل كلام الناس من الخطأ والغفلة والحيلة والكذب , فله أن يزعم ماشاء ولكن ليس علينا أن نصدق أو نطمئن, وإذا هو ذكر اثنين من الأنبياء, وإذا هو ورد فيه قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} فذلك غير كاف في رأي الجامعة المصرية لإثبات أن إبراهيم وإسماعيل شخصان كان لهما وجود تاريخي.) إهـ. إلى أن يقول:(1/197)
( أولا يعلم أستاذ الجامعة أن النصوص واردة بأن العرب لا يعدون اليهود منهم وإن كانت الدار واحدة واللغة واحدة, فما حاجتهم إلى حيلة روائية سخيفة, وهم لم تُفصّل طباعهم على طباع طه حسين, ليكذبوا وينافقوا وهم يعلمون أنهم كاذبون منافقون
, على حين أنهم مستيقنون أن اليهود أهل كتاب وعلم فلا يقبلون من أمة جاهلة أن تضع لهم التاريخ, ثم كيف دخل هذا الكذب واندست هذه الحيلة في القرآن؟ نبئوني "بعلم" إن كنتم صادقين. )إهـ.
فتأمل هذا الدفق الفكري المتراص العجيب وانظر للرجل كيف يحيط بالفكرة ويحكم جوانب القضية ثم يشكل ذلك كله بقالب أدبي بديع رصين, كما أنه وكما أسلفنا لم يسرف في الشخصنة حد تفلت الموضوع الرئيس منه وهذه يجب ان تدرس لكل مريد للكتابة ولكل محاور ومجادل.
أما مالفت نظري في هذا الفصل فهو إشاراته غير المنطقية إلى "الجامعة المصرية" في غير موضع في هذا الفصل وغيره وتحميلها خطورة الأفكار الواردة في كتاب طه حسين مثل :
( غير كاف في رأي الجامعة المصرية)(وإذن فالقصة في رأي الجامعة المصرية) (انتهى كلام الجامعة المصرية)الخ.. والمسألة وإن بدت نابعة من الجامعة على الظاهر ولكنه ماكان ينبغي له أن يستعدي الجامعة في قضيته _قضية الأمة_التي لا شك كان يحتاج فيها لحشد التأييد بأكبر قدر ممكن, والغريب أنه كان يثني على السيد (لطفي بك السيد) مدير الجامعة في أكثر من فصل ويصفه بأوصاف فخمة مثل: العبقري_الفذ_ الغيور_ الأديب الأريب_ عقلٌ من العقول النادرة في مصر بل والشرق كله الخ.. فلربما عُد هذا تناقضا، كما أنه بهذه الإشارات التي يوجهها نحو الجامعة في صلب مناقشة أفكار الكتاب يخرج عن الموضوعية فيما أرى, وأعلم أن ماكان يرمي إليه كان أبعد وأعمق من نقد كتاب لطه ولكنه كان يحتاج إلى التكتيك الحذر في هكذا مواقف.
ومن الاستطرادات التي خرجت عن الموضوعية في هذا الفصل ما جاء في قوله:(1/198)
( لقد تناولت الآن هذا الكتاب الكريم عندما انتهيت في الكتابة إلى هذه الكلمة وسألت الله أن يخرج لي آية تشير إلى طه حسين وغروره وحماقته وتخاليطه, ثم فتحته على هذه النية فوالله لقد خرج قوله تعالى: {إنّ الذين لا يؤمنون بالأخرة زينّا لهم أعمالهم فهم يعمهون} ويا أسفاً ثم يا أسفاً_ ثلاث مرات, كما يقول الفرنسيون _ لو فهم طه ما في قوله:{زينّا لهم أعمالهم} إذن لأكل نصف أصابعه عضاً من الندم! )إهـ. فهذا الكلام لا يضيف قيمة علمية لصلب الموضوع كما أنه لا يقوي _وهو الأهم_ موقف الرافعي في وجه ذلك المد التغريبي, كما لا أظنه يفيد القارئ بشيء.
ومن أعجب المحاور في هذا الفصل وأميزها تفنيد الرافعي لنظرية الحياة الفلسفية والعقلية لدى العرب في الجاهلية التي اخترعها طه فجاء عرضه مفصلاً دون إطناب نافذ الحجة حيث عرض هذه النظرية على الشواهد القرانية والتاريخية ثم عرضها على عقله _ وأي عقل_ثم
خرج بتصور عن جهل النظرية وصاحبها جهلاً مركباً فبدأ بحرقها ثم نسَفَها في اليم نسفا.
واسمحوا لي معشر القراء الأفاضل أن آتي بجل كلام الرجل في هذا الباب لأنه يعد قطعة جمالية واحدة لا يمكن بترها حين يقول:(1/199)
(وفي ص20 من كتاب طه حسين ترى الجهل المركب تركيباًمزجيّاً كبعلبك ومعديكرب... فهو يزعم أن القرآن يمثل للعرب حياةً عقلية قوية في الجدال الديني والفلسفي, لأنه وصفهم بشدة الخصام, قال: " وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم " فيا فضيحة الجامعة المصرية في جامعات الأمم! ألا يتفضل أستاذها على الأدب والتاريخ فيذكر لنا مجلساً واحداً من هذه المجالس العربية الفلسفية ومادار فيه من البحث والتحقيق والجدل والخصام والمحاورة في معضلات الفلاسفة التي ينفقون فيها حياتهم, لنصدق أن معنى اللَّدد والخصام الواردين في القرآن صفةً للعرب إنما هو الحوار في مسائل الدين والجدال في معضلات الفلسفة؛ أمِن حججهم الفلسفية كانت تلك الحجارةُ التي نص التاريخ على أنهم كانوا يقذفون بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُلجئوه إلى الحائط, وذلك التراب الذي كانوا ينثرونه على رأسه؟ أم قولهم: شاعر وساحر وكذاب ومجنون, ونحوها مما يدخل في باب الحمق والسفاهة والاستهزاء؛ ومتى كانت هذه من صفات الفلاسفة يا شيخ الجامعة؟ أم كان من حججهم الفلسفية حين عرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام ويتلو عليهم القرآن أن أتبعوه عمَّه عبدالعزّى يقول من ورائه " يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب" ؛ أو كانت مجالسهم العلمية والدينية والفلسفية حين كان صلى الله عليه وسلم يجلس فيدعو الناس ويتلو عليهم القرآن ثم يقوم فيأتي عالمهم ومتكلمهم النضر بن الحارث فيخلفه في مجلسه ويقص على الناس من أخبار ملوك فارس ويقول: " والله ما محمد بأحسنَ حديثاً مني, وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها!...(1/200)
إن معنى الخصام واللدد أنهم سفهاء أهل تكذيب وعناد ومكابرة وتأبّ على من يريد هدايتهم وإرشادهم, لا يمكن صرفهم عن رأي يكون فيه الهوى, كما لا يمكن مثل ذلك في الجاهل الأحمق المصرّ المبتلى بالاستهتار والشك, فإن أصل الألدّ في اللغة الشديد اللدد أي صفحة العنق, فلا يلوي عنقه في الصراع, وذلك من أكبر الأدلة على وثاقة تركيبه الجسماني فإن عنق المصارع ثلث المصارع, ولقد كانت هذه الطباع الجاهلة الحمقاء المكابرة من أوضح الأدلة على إعجاز القرآن, لأنه مع إصرارها بلغ منها, ومع عنادها أثّر فيها ببلاغته, فلو كانوا كما زعم طه" أصحاب علمٍ وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة " لما كانت هدايتهم شيئاً يذكر في باب المعجزة.
أولسنا نرى اليوم في الأمم المتحضرة الرقيقة ذات النعمة الفاشية من ينقادون أسهل انقياد وأسرعه لكل ذي مذهب, حتى لعبادة الشيطان في أمريكا بلاد كل شيء ذهبي...؟ ) إهـ.
فتأمل هذا التفكيك المنطقي المفحم وهذا المخزون اللغوي الذي كان حتماً أداة من أدوات الحسم لدى الرجل وقد كان يمكن لأي منبهر بالتجديد والجديد أن تنطلي عليه هذه الشبهة على اعتبار عدم مساسها _مباشرة_ثابتاً من الثوابت ولكن صاحبنا أوتي من العمق والبعد الفلسفي المؤصل بعقيدة صافية مالم يؤتَ أحدٌ من العالمين.
موقف حرج لوزارة المعارف *
في هذا الفصل يواصل الرافعي تفنيد كتاب طه بمزيد من الطرْق والتعرية, ورغم أن عنوان الفصل يشير إلى أنه موجه لوزارة المعارف ورغم أن صدر الكلام يشير إلى ذلك أيضا, إلا أن الفصل احتوى على تكملة للرد على شبهات الكتاب بالتفصيل, وعلى أية حال فطبيعة المقالات كانت تستدعي التنويع في العناوين وشيئاً من الإثارة _المحمودة_ .
بدأ الكلام عن وزير المعارف ووصفه بالعلم والذكاء وحدة الخاطر والفراسة ليخاطبه مستغرباً من سر سكوته عن استمرار تدريس كتاب طه في الجامعة ومما قاله :(1/201)
( والآن يامعالي الوزير الكبير قد تناولت كتاب الأستاذ طه فحصرك في موضع أحكم شد ثلاث من جهاته الأربع بحيث لا رجعة فيه ولا تحوّل وليس إلا المضيّ بعزيمة لا تنفع فيها الهوينا وحزم فرغت كل الحيل منه وفرغ منها؛ ذلك أن وزارة المعارف تدرس هذا العلم الذي يسمى آداب اللغة في مدارسها الثانوية ومدرسة دار العلوم والقضاء الشرعي, وقد جاءت المدرسة الكبرى التي تسمى الجامعة فسفَّه أستاذها كل هذه المدارس ونفى ما يعلّم فيها من ذلك الفن وأفسده وقال بخطئه من أصوله إلى فروعه, فما يسمى في تلك المدارس شعر امرئ القيس وعَبيد وطرفة وعمرو بن كلثوم وغيرهم تسميه الجامعة كذباً وتدليساً وخرافة, وما يقال له هناك إعجاز القرآن يوصف في الجامعة بأنه خرافات وأكاذيب الأعراب واستغلال ديني أو سياسي وهكذا...)إهـ.
وهو بذلك يريد أن يشير إلى خطورة هذا المنهج وأنه باب شر لو انفتح لأتى من خلاله كل هادم للموروث الشرعي والأدبي بدعوى التجديد ظاهراً وبتنفيذ مخطط المستعمر باطناً, وتبلغ ذروة الحجة عند الرافعي في هذا الفصل عندما يحدد النتيجة المنطقية لاستمرار تدريس كتاب طه فهي لا تتعدى اثنتين فإما أن تكون كافة كتب مدارس الوزارة خطأ محض لا قيمة لها يجب تصحيحها وإعلان ذلك في الصحف! أو أن يكون كتاب طه سخيف باطل!
ثم يصف الرافعي حال الوزارة مع هذا الكتاب بجملة ذهبية خالدة قائلاً:
( فأما أن يكون نصف العلم يكذب نصفه في وزارة واحدة بحيث يجيء الأعلى نقضاً على الأسفل فهذا ما لا نكاد نعقله )إهـ, وكأني بوزير المعارف وقد تصبب جبينه عرقاً من فرط وكمية الحجج النافذة التي يقرأها في هذا الفصل!
________________________________________________
* وزارة المعارف هى وزارة التربية والتعليم الآن
ثم لابد للرافعي أن يضع البصمة الساخرة ذات النكهة الفائقة في موضعين أحدهما قوله:(1/202)
) ثم نرجو أن لا تنسى الوزارة_ إذا صح عندها كتاب طه حسين فأمرت بتصحيح العلم والتاريخ _ لا تنسى أن تأمر وزارة الأوقاف يومئذ بإنارة مآذن جامع القلعة... ليعلم الأزهر الشريف أن ما أقيمت عليه علوم العربية واللغة والبلاغة والتفسير من الشواهد الكثيرة المنسوبة إلى شعراء الجاهلية, وأن القرآن وبلاغته وإعجازه وأخباره, كل ذلك يجب الصوم عنه منذ اليوم, لأن أستاذ الجامعة أثبت لوزارة المعارف أنه رأى <<هلال الشك>>..).إهـ , والآخر في وصفه الجامعة وهي تدرس الكتاب:
إنها تشبه رجلاً به مسّ فزُيِّن له أن يخالف الناس لأن جنونه أوهمه أنهم مجانين وأن العاقل مثله يجب أن يتميز منهم ليُعرف بينهم فلا تجري عليه أوصافهم, ثم رأى أنه لا يُعرف بينهم إلا بالمخالفة حتى يبين منهم فـ... فـ... فوضع رأسه في حذائه ومشى...)إهـ.
وإنني إذ أشرت مسبقاً إلى عدم موضوعية مثل هذه الاستطرادات والمبالغة في التهكم إلا إنني أقول هنا لعل في الأمر خيره! فلربما حرمنا_دونها_ من هذا الحشد البلاغي الهائل الذي صبغ الرد العلمي بصبغة أدبية عِلْقة فكانت بمثابة اللمسة النهائية للرسام على لوحته.
ثم يستأنف الرد على أغاليط طه حسين بسهام لا تخطئ الهدف, فقد بين في هذا الفصل كيف أن طه خان الأمانة العلمية والقارئ بتحويره بعض النقولات لتخدم فكرته وتقوي موقفه, وقد أثبت الرافعي بهذا مهارة علمية فائقة وفطنة فطرية عجيبة, بدقة ملاحظاته حول الفرق بين الأصلي والمحرف في ما نقله طه عن (ابن سلام) وقد أبدع الرافعي في التهكم أيما إبداع عندما سمى هذه الممارسة من طه (ترجمة) يقول في هذا:(1/203)
( لقد عثرنا في كتاب أستاذ الجامعة على نوع غريب من الترجمة, وهو ترجمة من أصول الخطأ في فكر الرجل أو فكره أصل فيه, ولا تحسبنها ترجمة من الفرنسية أو اليونانية, بل هي من العربية, وذلك أشنع لها, فلو أنت تدبرت النصوص التي ينقلها الأستاذ في كتابه ويحملها على أغراضه أو يحمل أغراضه عليها وكنت فطناً باحثاُ نقّاباً لرأيت هذه النصوص تشكو إليك وتستجير بك مما أصابها من القلة والذلة, فإن طه لا يجد النص أبداً في كتب العربية إلا كلاماً جزلا بليغاً محكم السرد موثق التركيب قد نُزلت فيه الألفاظ على منازلها وجُلبت لمعانيها وتلاءمت مع اشكالها وخرج منها أسلوب مطبوع كمصنوع أو مطبوع كمصنوع فإذا أصابه في الكتب على هذه الصفة من البلاغة خشي منه على أسلوبه وكتابته, ورأى أنّ أشد ما يفضح الثوب القذر أن تنزل فيه رقعة نظيفة لها جدة ورونق, فلا يكون له من همّ غير أن يعمد إلى النص فيُمِرَّه لسانه ويديره على أسلوبه ويرصفه كرصفه ويترجمه من عربية إلى عربية غيرها فيختلّ ويركّ, فيندمج مع عبارة طه فإذا هو لايَنبُهُ عليها ولا هي تنبه عليه ) إهـ.
ياااااه... ماهذا؟! أي صواعق مرسلة هذه؟! وأي منطق أعجب من هذا؟! ثم ما هذه الصياغة العبقرية التي دبج الرافعي بها حجته؟! وإياك أن تظن أن الكلام هنا على عواهنه أو هو تهمة جزاف! لا وربي.. فستأتيك الشواهد تترى كلها تفضح ما اجترحه هذا الجاهل المسمى عميد الأدب! (لا بأس فالألقاب مجانية)
ومن عجائب تلك التوطئة الآنفة أنها تقودك بسلاسة إلى حيث النتيجة المحسومة سلفاً ليحيل الشواهد التالية لها إلى مايشبه تحصيل حاصل! وفق منظومة سحرية اختص بها إمام الأدب.
ثم يورد الرافعي الشواهد على <<فضيحة الترجمة>> هذه بقوله:(1/204)
( فانظر كيف يصنع شيخ الجامعة. قال في صفحة 66: <<ولابن سلام مذهب في الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع, لا بأس أن نلم به فهو يرى أن طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدماً, وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر, فهو يقول: إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم, وإذن فقد قالا شعراً كثيراً ولكنه ضاع ولم يبق منه إلا هذا القليل, وشق على الرواة ألا يروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا>>.
انتهت الترجمة... أما الأصل في اللغة العربية فهو: <<ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة والمصححين لطرفة وعبيد, والذي صح لهما قصائد بقدر عشر, وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة, وإن كان يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما من أفواه الرواة, ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير. غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر, وكانا أقدم الفحول؛ فلعل ذلك لذلك, فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير>>.(1/205)
انتهى النص, وعارض أنت بلاغة ببلاغة ولغة بلغة, وقابل بين ما ذهب إليه طه وما أراد ابن سلام؛ فمهما أخطأ فلن يخطئك أن تعرف الفرقَ بين الثرثرة والقصد, وبين هزيل الكلام وسمينه؛ وبين صحة الفكر وفساده, وبين الأخذ من الدليل بقيده والاتساع في الدليل على إطلاقه, ومايرى ابن سلام إلا أن كثرة ما ضاع من شعر طرفة وعبيد إنما كان لأنهما أقدم الفحول, فبُعد العهد به ومات بموت من علموه من عرب الجاهلية. فهذا نص على بعض أسباب ضياع ما ضاع من الشعر إن كثيراً أو قليلاً, ثم في عبارته نص آخر ينقض كتاب الجامعة كله, وهو إثبات أن لنا <<رواة مصححين>>, وأنهم صححوا لطرفة وعبيد قصائد بقدر عشر, وأثبتوا أن ما عداها غثاء حمل عليهما حملاً. ويلزم من هذا أنهم درسوا الشعر وجمعوه وحققوا روايته وأثبتوا الصحيح ونصوا عليه وميزوا المنحول وردوه وفصلوا الشعراء وقالوا في كل منهم وعارضوا بين الأقوال ورجحوا واستدلوا واحتجوا وناظروا, فوجب من ثم أن نصير إلى قول أولئك المصححين ونأخذ بعلمهم ونقف عند ما نصُّوا عليه, لأنهم أهل هذا العلم ولا أهل له من بعدهم إلا بصلة تنتهي إليهم؛ وهو ظاهر أن هؤلاء الرواة
لم يثبتوا في كتبهم إلا ما صح عندهم, وأنه ليس على الأرض اليوم من يستطيع بعض ما فعلوه, لأننا بالإضافة إليهم أمة من الأعاجم؛ وبديهي أن ما يكون من وسائل العلم والرواية والنقد بعد مائة سنة من تاريخ الجاهلية لا يكون مثله ولا بعضه ولا بعض من بعضه بعد أربعمائة وألف سنة, وخاصة مع انقطاع الأسانيد وضياع الكتب؛ فأين هذا كله مما يذهب طه إليه وما خرف به في كتابه؟ )إهـ.(1/206)
ألا ليت شعري ماذا بقي من الزبد بعد هذا البيان العلمي النقي الممرّد من قوارير؟! أولا يصلح هذا بالله عليكم لأن يكون سداً في وجه كل ناعق من دعاة العصرنة هذه الأيام الذين أصموا آذاننا من كثرة ما يدعون إليه من تجديد الفقه والتاريخ؟! إن هذا لدليل _لا شك عندي_ على بركة علم الرافعي وسطوع نوره إلى آفاق الآفاق, من المنبع هناك حيث يرقد وترقد أطراسه وحتى اللحظة إلى حيث يجب أن ينتهي إليه المصب, فتأمّل.
هنا يبين أمر جلل وهو أن ما فعله طه حسين وأشياعه من المغربين
كان التوطئة لهذا الإحتلال الجديد وكان يسير وفق منهج معد ومخطط ومدروس
طالعنا الأن ثماره ونواتجه
وما كانوا مؤسسيه إلا طلائع المد التغريبى
المخطط الأمريكي لتغيير مناهج التعليم في العالم الإسلامي
بعد كامب ديفيد وبين عام 1981 / 79 تغيرت مناهج التربية في مصر، مواد التاريخ والقراءة وحذفت كل النصوص التي تتعلق بالحروب بيننا وبين إسرائيل، ثم عندما تسلم أحمد فتحي سرور وهو قانوني تعلم في فرنسا حقيبة التعليم في مصر قام بقفزة واسعة في تصفية المناهج وفقاً للمطالب الصهيونية والأمريكية، وكانت المرة الأولى منذ تمصير التعليم التي يشرف فيها على تغيير المناهج لجان أجنبية ضمن مراكز التطوير ويشارك في وضعها أسماء أجنبية.
في 25-8-1981 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي "بيغن" القاهرة وكان من بين ما تباحث فيه مع السادات صدق الرغبة المصرية في التطبيع، وقد طمأنه السادات بتأكيد الرغبة في ذلك، وانتهزها بيغن فقال للسادات: كيف تريد أن أصدّق أن هناك نية عندك للتطبيع وطلاب مصر ما زالوا يقرؤون الآية التي تقول ( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) مما استدعى طلب السادات من وزير التعليم المصري أن يحذق مثل هذه الآيات من المناهج المصرية والتي تتحدث عن عداوة بني إسرائيل للإسلام.(1/207)
ولا شك وأن الإصلاح للنظام التعليمي العام والتعليمي الديني في البلدان الإسلامية مطلوب إلى أبعد الحدود لأن الثغرات والأخطاء والجهود هي أكثر من أن تحصى. ولكن كل ذلك رهين عند الإصلاح والتبديل من أجل الترقّي بالشروط التالية:
1- أن يكون المدخل الوحيد للإصلاح هو التجديد الديني في المواد والمناهج التي تتعلق بمقرّرات المدارس والحوزات والجامعات الشرعية، التي تلقن التعليم الشرعي، أو التجديد في مواضيع المعارف ومناهج التربية في التعليم العام، بما يناسب مقتضيات واقعنا وخصوصياتنا الحضارية. وضوابط التجديد ومناهجه وأهل اختصاصه مدوّن ومعلوم في عقول العلماء الثقاة أو أهل الاختصاص من أهل الذكر.
2- أن لا يخضع الإصلاح والتجديد للدعوات الخارجية، إلا بالتوافق العرضي غير المقصود. ويجب أن نتعظ بقول الساسة الأمريكان أنفسهم قبل أكثر من ربع قرن بأن "من يتدخل في مناهجنا الدراسية سنعتبره بمثابة إعلان حرب علينا".
3- إن من المعلوم أن "الجنوح" قد يطلق عليه وصف "الإرهاب" وهو وليد الجهل بالشرع أو عدم تلقيه بوسائطه المعلومة وعبر قنواته الرسمية، وليس العكس، فقد أثبتت الدراسات المقارنة في مصر أن أعضاء التنظيمات "المتطرفة" في معظمهم الساحق لم يتخرّجوا من الأزهر ولم يتلقوا تعليماً شرعياً نظامياً، بقدر ما درسوا أو تخرّجوا من المدارس والجامعات العامة والاختصاصات غير الشرعية. كما أن خريجي الأزهر كانوا أكثر ميلاً "للاعتدال" والموازنة بين الأمور وتعقّل الأحداث ومجرياتها، وكذلك شأن طلاب العلوم الشرعية المنتمين للمدارس الشرعية العريقة الفاهمين لمقاصد الشريعة وسماحتها.
4- وجوب الاعتناء بالتخصّصات التربوية الدقيقة لأنها ضرورية في حسن الإصلاح، والفصل بين الكتاب المدرسي والخطة الدراسية، وطرق التدريس، والمواقف التعليمية والتربوية.(1/208)
5- ربط التعليم الشرعي الثانوي باختصاصات مهنية لإدماج طلبة العلوم الشرعية في المجتمع بوظائف تنأى بهم عن البطالة، أو الانخراط في طبقية لرجال الدين (إكليروس) لا طائل منها سوى تشويه صورة الإسلام.
6- الارتقاء بالتعليم الشرعي من أجل تفادي الجمود والتقليد والنمطية، وإدارة المؤسسة التعليمية الإسلامية بطريقة تقليدية أقرب إلى البدائية.
7- تطوير المناهج وأداء المعلمين وطرق التدريس.
8- الحفاظ على الخلفية العقدية والحضارية والمقاصدية الشرعية للمقرّرات الدراسية سواء أكانت في نطاق التعليم العام أم التعليم الشرعي، ومقاومة الضغوط التي تملى علينا من الخارج في هذا المجال، والحرص على تقوية المعاقل التعليمية الأهلية (غير الرسمية) لأنها أحفظ وأحرص على الهوية والعقيدة الإسلامية من المناهج الرسمية الراهنة التي غالباً ما تمثل لقمة سائغة أمام استباحة الأجنبي لمقدساتنا كما لأراضينا ومقدراتنا على حد سواء .
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 دعت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوربية بصوت مسموع إلى تعديل مناهج التعليم في جميع الدول الإسلامية؛ لتجنب الآيات القرآنية والأحاديث التي تحض على الجهاد. ومنذ حوالي أربعة وعشرين عاما تم تعديل مناهج التعليم في مصر بحيث تتجنب ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة باليهود؛ اتساقًا مع دعوى إشاعة ثقافة السلام بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.. فهل تستجيب مصر للمطالب الأمريكية؟ وهل الدعوة الغربية قديمة وتجددت مع أحداث سبتمبر؟ وهل يتجاوز التدخل حدود حذف آيات وأحاديث معينة من المناهج الدراسية أم يمتد لتخفيف جرعات المواد الدراسية الدينية وإغلاق عدد من المدارس والمعاهد الدينية؟
فالضغوط الأمريكية على الأزهر آتت أكلها منذ أكثر من عشر سنوات"، لتنفيذ عدد من التعديلات في المناهج الدراسية بالتعليم قبل الجامعي تصبّ في خانة الهوى الأمريكي والإسرائيلي منها:(1/209)
1-حذف مادة الفقه المذهبي من المرحلة الإعدادية، واستبدالها بمقالات صحفية لبعض موظفي الأزهر تحت عنوان: الفقه الميسر.
-إلغاء أبواب الجهاد من المرحلة الإعدادية.
2-إضافة مادة الحديث والتفسير في الصف الثالث الإعدادي إلى مادة المطالعة والنصوص منذ العام الماضي.
3- حذف 12 جزءا من القرآن الكريم في المرحلة الابتدائية منذ عامين، مع إلغاء السنة الرابعة بالثانوية.
4- إضافة اللغة الفرنسية لمنهج الصف الثالث الثانوي مع اللغة الإنجليزية دون تحديد ساعات دراسية لها، بما يعني أنها وضعت لمزاحمة المواد الشرعية التي تم ابتسارها بالفعل.
5- اختزال مادة التفسير للصف الأول الثانوي إلى الآيات الثمانية الأولى فقط من سورة الكهف.
6- حذف "تفسير النسفي" للقرآن الكريم، وهو الذي يعتمد المنهج العلمي في تفسير القرآن بالمرحلة الثانوية.
وهذه النماذج قليل من كثير عمدت إليه قيادة الأزهر الحالية؛ مراضاة للمطالب "الأمريكوصهيونية".
آل جور والتعليم الأزهري
فقد أكد الدكتور "إبراهيم الخولي" الأستاذ بجامعة الأزهر أن ما طلبه الرئيس الأمريكي جورج بوش علانية مؤخرا كشف الغطاء عما تم تمريره من تعديلات في مناهج التعليم بالأزهر بمراحله المختلفة.
وأشار إلى التقرير الذي قدمه الدكتور سيد طنطاوي عن التعليم الأزهري إلى نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور عندما التقى به في مصر.
وقال الخولي: "إن ما تم استبعاده من مناهج التعليم العام في عهد الرئيس السادات يتم الآن بتوسع في التعليم بالأزهر الشريف، والتعديلات تصبّ في إغفال تدريس كل ما يتعلق بآيات وفقه الجهاد ومقاومة اليهود والمشركين، وكذلك الأحاديث الشريفة المتعلقة باليهود وقتال أعداء الإسلام والمسلمين، وكذلك فقه المقاومة في الإسلام، وهذا وحده يمثل كارثة كما حدث في اليمن وباكستان من إلغاء للتعليم الديني قبل الجامعي وتحويله إلى مدني".(1/210)
وأضاف الخولي: "التعليم بالأزهر الآن يعكس فكر قيادته التي تكرّس ثقافة ما يسمونه بالسلام مع إسرائيل وأمريكا، رغم كل الحقائق القرآنية والتاريخية التي تثبت عداوتهم للعرب والمسلمين". واختتم بقوله: "لم يبق سوى حذف آيات من القرآن الكريم لكي يتحقق كل ما تطلبه أمريكا وإسرائيل".
الخبراء الأمريكان
وفي رسالتها للدكتوراه التي نوقشت عام 99 كشفت د. "سلوى جاد" أن السيطرة الأمريكية على العملية التعليمية في مصر بدأت عام 1979 عندما بدأت أكاديمية الإنماء التربوي بواشنطن في رسم الخريطة التربوية، وعقدت اتفاقية مع مصر لتمويل إنشاءات وتجهيزات وخدمات فنية للتعليم الأساسي في 19-8-1981، وكانت الخدمات المطلوبة تتم في صوره أوامر تشغيل، وتضمنت هذه الأوامر -فضلا عن الوجود الأمريكي المباشر عبر المتابعات الميدانية- مشاركتها في الدراسات المسحية والميدانية في كافة أنحاء الجمهورية.
و"تضمن التعاون عشرة أذون عمل، وتضمنت إنشاء مكتب للمشروع في واشنطن والقاهرة، ودراسة واقع التعليم الأساسي والمناهج وإعداد المعلم وطرق التدريس وإعداد وتدريب المعلمين والمديرين، واستغرقت فترة إعداد التقرير في هذا الشأن الفترة من 83 حتى 84، وشارك فيها خبراء مصريون وأمريكان، وأبرز ما قدمه الخبراء اقتراح نماذج بديلة ومعايير جديدة للإعداد والتدريب. وفي إذن ثالث بحث الأمريكان اقتراح بدائل لتقليل تكلفة التعليم ودراسة نسبة الاستيعاب وخفض التسرب. والإذن الرابع عن تصميم المدارس واختيار نماذج بديلة تصلح للريف المصري".
"أما الإذن الخامس فيختص ببرنامج للحاسب الآلي، ولأهمية هذا العمل عين له الأمريكان سبعة أعضاء، خمسة منهم من الأمريكيين، واثنان من المصريين، ومهمتهم وضع البيانات الخاصة بجميع مراحل التعليم على الكمبيوتر".(1/211)
"والإذن السادس يقدم نموذجا للتدريب أثناء الخدمة لمرحلة التعليم الأساسي، وهدفه التوجيه بالتغييرات والتطوير المطلوب، مع تحديد المجالات الإضافية المطلوبة للتدريب أثناء الخدمة، وهو يشمل أيضا إعادة صياغة المناهج والمقررات الدراسية والكتب المقررة".
و"حتى المعوقين لم تتركهم الولايات المتحدة وخصصت لدراستهم -عبر خبرائها- الإذن السابع؛ وذلك بهدف تقييم طرق الاختبارات المطبقة في البحث الاجتماعي، مع اقتراح التحسينات أو الإضافات الممكنة. وشارك في إعداد هذا التقرير خمسة مصريين وأمريكيان. والإذن الثامن يختص بتنظيم وإدارة التعليم الأساسي، واشترك في إعداده اثنان من الأمريكان وخمسة مصريين، ويتضمن التعرف على مواطن الضعف والقوة في الهيكل التنظيمي لوزارة التعليم، وتوصيف الأعمال الوظيفية المختلفة، وتقسيم العمل وتحديد مستويات المسئولية. ويقترح في ضوء هذه الدراسات هياكل وظيفية بديلة من شأنها زيادة فاعلية الوزارة من وجهة النظر الأمريكية".
وقد أخذت إستراتيجية التعليم في عهد الدكتور أحمد فتحي سرور بهذا التقرير، وخاصة إعادة تنظيم الهيكل الوظيفي وديوان عام الوزارة والتوجيه بتطوير المركز القومي للبحوث التربوية، والعمل على تحديث وحداته. وقد صدر القرار الجمهوري رقم 53 لسنة 1989 لتطوير المركز. وفي عام 1989 تم إنشاء وحدة للتخطيط التربوي بالمركز.
وقد حاول الوزير السابق "حسين كامل بهاء الدين" الدفاع عن وجود خبراء أجانب في مركز تطوير المناهج بالقول: إنه يتعاون مع الخبرات الأجنبية والهيئات الدولية في جميع المجالات، ويستفيد من هذه الخبرات بعد تطويرها لتناسب ظروفنا المصرية، ولكن رؤية الوزير -كما تشير د.سلوى جاد- استحقت ما تعرضت له من النقد في وسائل الإعلام المصرية.(1/212)
والإذن التاسع في إطار الهيمنة الأمريكية على التعليم في مصر يختص بالمدارس التجريبية، وشارك فيه خبيران أمريكيان وعقدا لقاءات مع المحيطين بالوزارة والمحافظات والمدارس وأساتذة كلية التربية، وقاما بزيارات ميدانية لعدة مدارس، وقاما بزيارة المدارس خلال الامتحانات. والإذن العاشر والأخير كان خاصا بالإشراف التربوي، وشارك فيه خبيران أمريكيان.
و"استهدف الإذن العاشر -كما زعم الأمريكان- تطوير عملية الإشراف والتوجيه التربوي في مرحلة التعليم الأساسي؛ لإحداث تغييرات في عملية التدريس والربط بين المشروعات التدريبية والبيئية.. وهكذا شكلت أذونات العمل أو أوامر العمل إستراتيجية التعليم التي أقرها المؤتمر القومي لتطوير التعليم عام 1987، ثم تشكلت للأسف الشديد جماعة من التربويين المؤيدة للخطاب الأمريكي في حقل التعليم".
أبعاد مختلفة لموقف الولايات المتحدة تجاه المسلمين والعرب على المستوى التعليمي بعد سبتمبر .
وأحيا كتاب دراسي جديد في مصر حول "القيم الأخلاقية والوطنية" جدلا قديمًا حول مسألة تطوير التعليم، وذلك قبل أيام من بدء العام الدراسي السبت 21-9-2002؛ حيث سيتم تدريسه بجانب التربية الدينية في المرحلة الابتدائية بشكل تجريبي، تمهيدًا لتقييم التجربة في المراحل الأخرى لاحقًا.
فأن اليونسكو كانت أول منظمة دولية اهتمت بقضية تطوير المناهج التعليمية في مصر، ووضعت أسسًا وخطوات عملية بدأت منذ عام 1987؛ بهدف تفريغ المناهج الدراسية بمختلف المراحل التعليمية من التوجه الديني سواء في التعليم العام أو حتى الأزهري.
فقد كان التاريخ واللغة العربية كانا من أهم "ضحايا" هذا التطوير المزعوم ؛ وذلك وفقًا للدراسات والمسح العملي على المناهج في الفترة من 1987 حتى 1990، التي أظهرت أن المادة التاريخية والدينية في المرحلتين الإعدادية والثانوية تم تقليصها بنسبة 70%.(1/213)
ويرجع ذلك إلى دور هاتين المادتين في التعبير عن هوية وجذور الأمة، في الوقت الذي بدأ تدريس اللغات الأجنبية في مرحلة الروضة.
ويبدو للمتابع أن هذه الخطة التي نفذّت في تونس خلال عقد التسعينات وخلّفت وراءها مئات الآلاف من الضحايا وعشرات الآلاف من المساجين السياسيين، ما كان لها أن تتم لولا الرعاية والحماية الأمريكية المباشرة، وهناك عديد المصادر والمؤشرات تؤكد تورّط الإدارة الأمريكية في ذلك قبل أحداث 11 أيلول بأكثر من عقد وربع على الأقل (أي منذ عام 1989 تقريباً). وعندما رُصد نجاح الخطة في تونس في إقصاء الإسلاميين وتهميشهم في الشارع التونسي، انتقلت الأنظار الأمريكية إلى تركيا.
لقد رصدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية التقدم المذهل الذي يحرزه حزب الرفاه الإسلامي في تركيا في بداية التسعينات والذي توّج بتشكيل أول حكومة ائتلافية منتخبة بزعامة الإسلامي نجم الدين أربكان عام 1996، مما دعا إلى نقل التجربة التونسية في تجفيف المنابع إلى شقيقتها تركيا، وانصّب ذلك في اتجاهين رئيسيين:
محاربة مدارس "إمام خطيب" الدينية التي تضم مئات الآلاف من الطلبة الأتراك وإدماجها في التعليم الرسمي، ومنع الفعاليات التعليمية الدينية التي لا تنبثق عن أجهزة الدولة وتحت إشرافها.
محاربة الحجاب في المؤسسات العامة والمدارس والجامعات واستثني من ذلك طلاب كليات الإلاهيات (أي الشريعة) والحق أن هذه المعركة ضد الحجاب التي اشتهرت عالمياً لم تبلغ حجم ما وصل إليه الحال في تونس من مأساوية واضطهاد للمحجبات طال حتى أقاربهن في المؤسسات العامة والوظائف المختلفة فضلاً عن المؤسسات التعليمية والعسكرية، ذلك أن المتقدم لوظيفة ما في التعليم أو الأمن أو للترقيات المهنية في تلك الوظائف، إذا كانت له قريبة محجبّة ولو من أباعد أقاربه (بنت خالته أو بنت عمته ونحو ذلك...) فإنه يحرم من الوظيفة أو الترقية.(1/214)
وبالطبع فإن التعليم الشرعي في تركيا شهد علمنة شبه شاملة في بداية تأسيس الجمهورية الأتاتوركية وحولت كليات الشريعة إلى مجرّد كليات للإلاهيات أو اللاهوت على الطريقة الأوروبية. وفرضت الرقابة على المساجد والأئمة وخطباء الجمعة، حيث يوجد لتركيا سجّل حافل في هذا المجال.
كثفت الإدارة الأمريكية جهودها الرامية لتغيير النظم التعليمية والمناهج العراقية، في ظل التصعيد العسكري الأمريكي المرتبط باحتمالات شن حرب ضد العراق. ففي إطار متصل بمساعي الإدارة الأمريكية لإضفاء تعديلات علي نظم التعليم والمناهج في العالم العربي والإسلامي، تبذل الإدارة الأمريكية جهدا ملموسا في محاولة احتواء التعليم العراقي في مرحلة ما بعد الحرب ، وتشكيل مجموعات من الخبراء والمعاونين لتحقيق ذلك. وتبذل الإدارة الأمريكية والمؤسسات المرتبطة بها جهوداِ مكثفة في مجال إعادة توجيه التعليم في العراق، في ما يطلق عليه في دوائر صنع القرار الأمريكي مرحلة ما بعد صدام . وتستند الولايات المتحدة في هذه المساعي إلي خبرة سابقة، كان أبرزها تجربة إعادة التربية والتعليم في أوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، التي خاضتها واشنطن ضمن ما يعرف بسياسة EducationـRe. ففي إطار مشروع يتبع وزارة الخارجية الأمريكية، يحمل اسم مستقبل العراق ، يجري منذ مدة ترويج رؤي الإدارة الأمريكية للعراق ا لذي تفضله واشنطن في مرحلة ما بعد الحرب المرتقبة، بما في ذلك الجانب التعليمي الذي يكتسب قدراِ فائقاِ من الحساسية. وفي ضوء ذلك جرت في أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي مباحثات تعليمية، أخضع فيها أشخاص قيل أنهم خبراء تربويون عراقيون لبرامج موجهة، تحت لافتة جعل النظام التعليمي العراقي أكثر فعالية في إعداد المواطنين للنجاح في المجتمع الديمقراطي . وانضوي في الجولة المخصصة لإعادة تصميم التعليم العراقي، طبقا لمصادر الخارجية الأمريكية، سبعة عشر شخصا من أصول عراقية،(1/215)
حضروا اجتماعات نظمتها الوزارة في مقرها، بين الراب ع والعشرين والسادس والعشرين من كانون ثاني (يناير). وكان من بين التوصيات التي خرجت بها جولة الاجتماعات ضرورة أن يتبني النظام التعليمي العراقي، الذي يفترض قيامه في مرحلة ما بعد الحرب ، تعديلات تعليمية مستوحاة من نماذج أمريكية، مع التركيز علي أن تغيير المجتمع العراقي يتم أساسا من خلال تغيير التعليم . ورغم أن الحديث يدور عن تغيير التعليم في عراق ما بعد صدام : فإن مساعي الإدارة الأمريكية لتغيير نظم التعليم والمناهج تسير في واقع الأمر علي قدم وساق في طول العالم العربي وعرضه، علاوة علي الدول الإسلامية. ففي سياق مساعيها الرامية لاجتثاث ينابيع الإرهاب استهدفت الوفود الأمريكية وتقارير المؤسسات المقربة من الإدارة في واشنطن التعليم الديني بشكل أساسي ومناهج التربية الإسلامية بصفة خاصة، ما يبدو وثيق الصلة بسياسات سابقة عرفت بـ تجفيف ينابيع التدين اتخذتها بعض الدول العربية في العقود الأخيرة. إلا أن الأمر لم يقتصر عند حد التعليم الديني بشتي صوره وأشكاله، فقد وصلت المساعي إلي حد المس بمناهج التاريخ والجغرافيا وغيرها من المقررات ذات الأثر في صياغة الهوية وتشكيل التوجهات العامة للأجيال الجديد ة، رغم ما طرأ علي هذه المناهج والمقررات والكتب التعليمية من تعديلات كبيرة مستوحاة من ثقافة مرحلة السلام مع الدولة العبرية خلال التسعينيات. ولكن مساعي الإدارة الأمريكية الرامية لإعادة تربية العرب والمسلمين تواجه مقاومة ثقافية واسعة في العالم العربي والإسلامي، بدت معالمها تبرز بقوة من خلال نداءات المثقفين والخبراء، وحركة الشارع الذي يميل لمقاطعة المنتجات الأمريكية حتي التي كانت تحقق رواجا واسع النطاق كالوجبات السريعة والمشروبات الغازية، لصالح بدائل محلية لا تخلو علاماتها التجارية من رموز توحي با لارتباط بالهوية والحفاظ عليها. وهو ما يوحي بطبيعة الصعوبات(1/216)
التي تنتظر الولايات المتحدة لـ تطوير شعب العراق علي طريقتها الخاصة في مرحلة الاجتياح العسكري المحتمل لأراضيه .
كتبت الصحف الامريكيه ان سبب "الارهاب" في العالم هو نتيجه تعليم الدين الاسلامي في الدول العربيه والاسلاميه
وما سبب إرهاب الأمريكان البيض للسود والهنود ؟
وما سبب إرهاب الإنجليز للأيرلنديين ؟
وما سبب إرهاب السيخ للبوذيين ؟
بل ما سبب إرهاب الشيوعيين للديمقراطيين ؟
وإرهاب الرأسمالية للقومية ؟
والإسلامية للعلمانية ؟
نعم والله تعاليم الحق ترهبكم تقض مضاجعكم .
والطلب الأمريكي معلن ومنشور في كل وسائل الإعلام لقد ظهرت في اعقاب «أحداث سبتمبر» جماعة ضغط جديدة باتت هي الاقوى بين كل جماعات الضغط والأشد تأثيرا على الرئيس الأميركي. هذه هي الجماعة التي تطلق على نفسها «حركة الانجيليين الصهاينة» كناية عن أنها تحالف يضم اليمين المسيحي المتطرف بقيادة بات روبرتسون وغلاة عناصر الصهيونية في الولايات المتحدة. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد ان مطالبة الرئيس بوش بلداناً عربية بتغيير مناهج تدريس الدين الإسلامي ـ وهي مطالبة متضمنة في مذكرة رسمية ـ جرى التمهيد لها بحملة شرسة من ائتلاف «الانجيليين الصهاينة» تستهدف الاساءة الى الإسلام على خلفية الهوس الهستيري بشأن «الارهاب العالمي» وتصويره كدين عدواني، ومهاجمة رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
المثير للسخرية أن الأمير سلطان نسي أن الأمير سعود الفيصل اعترف علنا وعلى شاشة (سي إن إن) بأن المملكة تلقت طلبا بتغيير المناهج وأن خمسة عشر بالمئة من المناهج غيرت من أجل أمريكا. ثم كيف يتحدث الأمير سلطان عن السيادة بينما القاعدة المسماة باسمه في قلب المملكة لا يسمح لأي سعودي بدخولها حتى لو كان أكبر موظف في وزارة الدفاع إلا بإذن من أمريكا؟(1/217)
وآل سعود وافقوا على هذه القائمة بالكامل بشرطين هما، أولا أن يعطى آل سعود وقتا لتنفيذها، وثانيا أن يخفف الأمريكان من الحديث عنها رسميا ويجتهدوا في عدم تسربها للإعلام الأمريكي. وافق الأمريكان على هذين الشرطين لكن أصروا على تنفيذ فوري لبعض المطالب كما أعتذروا عن التكتم الكامل وبرروا ذلك بأنهم يجب أن يظهروا وقد فعلوا شيئا أمام الرأي العام الأمريكي. وقد وعد المتعاطفون مع الحركة من جهات عليا داخل النظام بتزويدها بكامل قائمة المطالب لكن الذي تمكنت الحركة من التعرف عليه لحد الآن هو:
أولا: إزالة كل ما له علاقة بالجهاد أوالعداء لغير المسلمين وما يؤصل لتقوية الهوية الإسلامية.
ثانيا: تقليص حجم المواد الدينية في المناهج إلى درجة يصبح مساو لما يدرس من الدين في الدول العربية العلمانية.
ثالثا: حشر مواد كثيرة في المناهج عن الأخاء مع كل البشر والمحبة والمساواة والسلم والحوار وعدم التفريق بين الناس على أساس ديني.
رابعا: تنفيذ برنامج بعيد المدى لإلغاء التعليم الديني المتخصص مثل جامعة الإمام والجامعة الإسلامية والمعاهد العلمية وتحويل هذه المؤسسات لتخصصات شبيهة بأقسام الدراسات الإسلامية في الغرب و"إعادة تأهيل" الآلاف ممن يُستغنى عنهم من المدرسين فيها لوظائف فنية أو دراسات اجتماعية وإنسانية ذات طابع علماني حتى لا يؤدي الاستغناء عنهم وبطالتهم لتهييجهم ومن ثم استخدام الدين كذريعة ضد النظام وأمريكا.
خامسا: إيقاف أي نشاط ديني مؤسسي ذي نفوذ اجتماعي وسلطة مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراكز الإفتاء والدعوة.
سادسا: إعادة النظر في اعتبار هيئة كبار العلماء بما يشبه مصدرا للتشريع (مع أنها مجرد إضفاء شرعية) وتحويل مفهوم العلماء والفتيا والعلم الشرعي لمفهوم يشبه المؤسسة الكاثوليكية في الدول العلمانية.(1/218)
سابعا: إلغاء كون القضاء مؤسسة دينية وأن الذين يعملون بها خريجوا الشريعة وتنفيذ برنامج لاستبدال القضاة الحاليين بخريجي القانون والحقوق أو إعادة تأهيلهم بدورات حقوقية تحوّل مفهوم الشريعة إلى مفهوم مدني حقوقي قانوني. الظريف أن المطالب لم تعترض على تطبيق الشريعة لكن اعتبرت الشريعة قانونا يدرسه طلاب الحقوق.
ثامنا: إيقاف تدريس حفظ القرآن للصغار وعدم السماح بذلك إلا بعد سن ثمانية عشر عاما.
تاسعا: إيقاف قبول الطلبة الأجانب في الجامعات الإسلامية ومعاهد اللغة العربية.
عاشرا: إيقاف دعم مشاريع التعليم الإسلامي خارج المملكة ماديا وبشريا.
حادي عشر: إيقاف المشاريع الإسلامية خارج المملكة التي يصرف عليها من جهات سعودية رسمية أو غير رسمية.
ثاني عشر: تنفيذ برنامج تفصيلي للتعليم والإعلام يربي الشعب السعودي على احترام القانون الدولي والأمم المتحدة والشرعية الدولية ومرجعية قرارات مجلس الأمن.
ثالث عشر: وضع كل المؤسسات الخيرية تحت الرقابة الكاملة لوزارة الداخلية وطرد أي عنصر عليه شبهة تعاطف مع الإرهابين.
رابع عشر: يمنع دعم أي دولة من هذه المؤسسات إلا اليمن والأردن وأفغانستان بشفافية وتنسيق مع أمريكا وتمنع المؤسسات من إيصال الأموال إلى فلسطين والشيشان وكشمير والبوسنة.
خامس عشر: تجبر الجمعيات الخيرية على نوعية الجهات التي تستلم الصرف.
سادس عشر: يمنع منعا باتا التبرع بالنقد ويلزم المتبرعون باستخدام الشيكات.(1/219)
وعلمت الحركة أن خطوات فورية اتخذت حيال المطلب الأول على شكل تعميم للجهات المعنية، كما شكلت لجان لتنفيذ المطلب الثاني والثالث، و صدر تعميم خاص وسري بالشروع في تنفيذ المطلب الرابع. أما المطالب الأخرى فلم تشكل لجان من أجلها لكنها تناقش على مستوى الأسرة الحاكمة ومستشاريها من العلمانيين المعروفين أو من المشايخ الكبار الذين يتقنون إعطاء واجهة دينية لأي مشروع علماني. أما المطالب الأخيرة المتصلة بالعمل الخيري فنفذت فورا. وهكذا فجرأة الأمير سلطان على الكذب الصريح ليست جديدة فسجله في ذلك معروف وقد وصل الحال بجرأته على الاستخفاف بعقول الناس أن نفى وجود قوات أمريكية في المملكة!!
وفى الكويت :
كشف النائب احمد الدعيج عن تعميم اصدره قطاع البحوث والمناهج في وزارة التربية والتعليم العالي - اوردته "الرياض" امس - يدعو الى تشكيل فريق لدراسة وتحليل محتويات الكتب الدراسية لمادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية.
وقال الدعيج ان هذه الخطوة تشير الى وجود من يستهدف تغيير مفهوم الجهاد الإسلامي من مناهجنا، مشدداً على اهمية مراعاة الثوابت والمرتكزات الإسلامية عند اجراء أي تطوير، ودعا الدعيج الى ضرورة متابعة لجنة التطوير التي تزمع الحكومة من خلالها الى تعديل تلك المناهج واهمية عدم مخالفتها لروح الإسلام والقواعد الشرعية الأصيلة مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصالح والمفاسد الشرعية وطرق التعامل مع غير المسلمين من اهل الذمة وغيرهم، وتفريغ عقيدة الجهاد باعتبار الجهاد المسلح ضد الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين مشروعا ومباركا وانه على الكويتيين افراد وهيئات دعم هذا الجهاد مادياً ومعنوياً.(1/220)
وهذا التعديل يقصد به تهيئة الاجواء ليكون التطبيع مع الكيان الصهيوني اكثر قبولا - على حد قوله - مستغرباً في الوقت نفسه عدم طلب وزارة التربية لرأي وزارة الاوقاف او كلية الشريعة في هذه التعديلات التي تنوي ادخالها على منهجي اللغة العربية والتربية الإسلامية.
وفى فلسطين :
تلاميذ فلسطين يشاركون في مقاومة الاحتلال الصهيوني ، إلا أن المناهج التعليمية التي يدرسونها لا تعبر عن هذا الواقع، ولا تساهم في حفز الطلاب على مقاومة الاحتلال أو تظهر فضائل الجهاد، وتخضع لشروط اتفاقية أوسلو والأوضاع السياسية المتذبذبة.
فالمناهج الفلسطينية الجديدة اتبعت الأسلوب التقليدي العربي القديم، وغضت الطرف عن الوضع السياسي الراهن الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية".
والأراضي الفلسطينية كان يدرس فيها المنهج المصري في قطاع غزة، والأردني في الضفة الغربية، وكلاهما كانا يخضعان لشروط الاحتلال الصهيوني من التحفظ على ما يشاءون من دروسهما من نصوص قرآنية.
بينما مناهج التعليم الفلسطينية الجديدة بأنها "بعيدة عن السياسة والدين، وأنها محايدة لم تتطرق إلى الصراع العربي الإسرائيلي أو عملية السلام إيجابيا أو سلبيا"، وقال: "تم إعداد المناهج بهذه الطريقة حتى تبقى صالحة لعشر سنوات قادمة".
حيث أن كافة المناهج مفرغة من محتواها، وبالتالي عديمة التأثير على الطالب، ولا تبث فيه أي قيم دينية أو وطنية كحال كافة المناهج التي كانت تدرس في السابق في الأراضي الفلسطينية، سواء كانت أردنية في الضفة الغربية أو مصرية في مدارس قطاع غزة".
والمناهج التعليمية لا تؤثر في التربية الوطنية لدى الطفل الفلسطيني، وقال: "إن بعض النصوص القرآنية التي وردت في مناهج التربية الدينية التي تحث على الجهاد لم يتم تناولها بصورة مباشرة والوقوف على معانيها لاستنباط الأحكام منها، وهي النصوص التي توضح طبيعة العلاقة بينها وبين العدو الصهيوني ".(1/221)
فإحدى مدرّسات مادة التربية الدينية وحاصلة على شهادة الماجستير في أصول الدين، قالت: "إن مادة التربية الدينية لم يطرأ عليها أي تغيير منذ عهد الاحتلال الصهيوني ، والتزمت بصيغة الحياد والبعد عن واقعنا الفلسطيني".
كما أن سلطات الاحتلال منعت تدريس، موضوع: أهداف القتال، الذي يحتوي على بعض الآيات القرآنية من سورة الأنفال في منهج الصف الثالث الثانوي؛ لأنه يحض على مقاومة الاحتلال والجهاد، وذلك قبل قدوم السلطة"، وأكدت "أن هذا الدرس ما زال ممنوعا حتى الآن بحجة أنه يتنافى مع شروط عملية السلام".
بل إن العديد من النشرات والتعليمات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تحذر من الخوض في اتفاقية السلام أو طبيعة الصراع القائم بين الفلسطينيين الصهاينة .
وعلى الجانب الآخر الأعداء مطلقى الأيدى فى تعليم الناشئة الحقد والكره لكل ما هو إسلامى
هل هذه الحرية المنشودة ؟ أم ديمقراطيتكم المزعومة ؟
وهاهو باحث إسرائيلى يبين تزييف الحقائق ويفضح الأهداف الخفية :
باحث إسرائيلى يكشف عنصرية مناهج التعليم فى إسرائيل!!
تشكل كتب التدريس في مناهج التعليم الإسرائيلية في مختلف مراحل الدراسة المدرسية جزءًا من الفكر الصهيوني والاحتلال بعناصره (العنصرية، الإرهاب، الكراهية).
وفي غالبية كتب التدريس لا يزال اليهودي يوصف بأنه "جالب الحضارة" والعربي هو "البدائي" و"المتخلف". وفيما يلي أمثلة على ذلك وفق الدراسة التى أعدها الباحث الإسرائيلى الدكتور "أيلي فودا":
في كتاب "ديرخ هميليم" (عن طريق الكلمات) للصف الرابع:
"جاء الطلائعيون (اليهود طبعا) لحراثة أرضهم بسلام وطمأنينة لكن جيرانهم العرب لم يعجبهم ذلك وحاولوا طردهم من أرضهم ومن مرة لأخرى كانوا يحرقون الحقول ويسرقون الأبقار أو المواشي من القطيع وحتى إلحاق الأذى بأعضاء المجموعة".(1/222)
"لكن الطلائعيين لم يتمكنوا من العيش بهدوء دائما فقد كانت رياح شريرة تهب عند الجيران (العرب) وكانت شوكة المحرضين تتقوى باستمرار وظل العرب يحاولون المس بأرواح اليهود وممتلكاتهم".
وتسعى كتب تدريس التاريخ العبرية إلى إنكار وجود الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين بل وفي العالم، حتى الكتب التي صدرت حديثا في العقد الأخير من القرن العشرين لم تذكر عبارة "الشعب الفلسطيني" على الإطلاق بل تذكر "العرب في أرض إسرائيل".
وتظهر فلسطين في التاريخ العبري، كبلاد صحراوية جاء إليها اليهود في أوائل القرن الماضي، ولم يكن يقطنها سوى أقلية من الرعاة العرب الذين يتصفون بالجبن والخيانة والتخلف، في حين تظهر الكتب نفسها اليهودي شجاعاً وذكياً وقادراً على استئصال الشرور.
ويرى "أنطوان شلحت" -وهو كاتب وصحفي فلسطيني في عكا- أن المنهاج التعليمي في "إسرائيل"، خصوصا كتب التاريخ منه، بها من الخلط والافتراءات ما يهدف إلى إضفاء الشرعية إلى ما تقوم به "إسرائيل" من جميع الأعمال والممارسات، وفي موازاة ذلك وعلى التضاد منه جرى إسقاط الشرعية عما يقوم به الآخر وهو بالنسبة "لإسرائيل": الفلسطينيون والعرب جميعا.
عنصرية إسرائيلية
أعد الباحث الدكتور "أيلي فودا" ضمن دراسة أجراها، تحليلاً عميقاً وموثقاً للكتب التعليمية الإسرائيلية، التي يصفها بأنها قادت إلى تكوين أفكار مسبقة عن العربي الموصوف في الكتب بأنه "غشاش" و"متخلف" و"لص"، يستحيل التعايش معه.(1/223)
ويورد الباحث الإسرائيلي الدكتور "أيلي فودا" 12 قصة يعتبرها محطات بارزة في التكوين التربوي التي اعتمدته "إسرائيل" في كتب التاريخ، ويدعم الباحث دراسته بنصوص وصور ورسوم للكاريكاتير تظهر كيفية إخضاع التاريخ "للسياسة الإسرائيلية" بحيث تُظهر هذه النماذج عمق النظرة العنصرية إلى العرب، وبصورة يشير فيها المؤلف إلى أن الفتاة الإسرائيلية "تاتيانا موسكين" التي رسمت في العام 1997 النبي محمدا (صلى الله عليه وسلم) بشكل بذيء ليست حالة استثنائية أو هامشية في المجتمع الإسرائيلي، بل هي إفراز طبيعي للحقن العنصري التي قامت عليه "إسرائيل".
وتفرد الدراسة نماذج لكيفية بناء المستوطنات الأولى مع بدء مرحلة الهجرة إلى "إسرائيل"، وتتخذ من مستوطنة "بتاح تكفا" مثالاً.
وعلى ذلك تقول كتب التعليم "الإسرائيلية": إن اليهود حين شرعوا في بناء هذه المستوطنة كان بقربها قرية يقطنها العرب، وجوههم صفراء والذباب على وجوههم ولا يحاولون طرده، وكثير من العرب كانوا عمياناً يمشون وهم يمسكون أيدي بعضهم البعض، أما الأطفال فكانوا حفاة، بطونهم منفوخة من الأمراض وآثار لسعات حشرات الصحراء بادية على مناطق عديدة من أجسادهم شبه العارية.
عسكرة التعليم الإسرائيلي
إن أهم ما يميز التربية والتعليم في دولة الاحتلال الإسرائيلي هو "عسكرتها" لدرجة تجعل الطالب خصوصا في المراحل الإعدادية والثانوية جنديا، وبهذا تتكامل المناهج مع التربية لتؤدي دورا واحدا هو "خلق جيل متطرف معبأ بكافة المبررات ليسلب ويغتصب حق الآخرين".(1/224)
ولا يخفى مدى ارتباط المدارس الإسرائيلية بالجيش، بل إن الأمر يفوقه إلى حد تسلم ضباط متقاعدين من الجيش وجهاز المخابرات (الشاباك) وظائف إدارية في المدارس والعمل كمربين لطلابهم، وما زالت أيديهم ملطخة بدماء الفلسطينيين وخصوصا طلاب المدارس منهم؛ حيث تمول وزارة المعارف مشروع "تسافا" الذي يؤهل ضباطا متقاعدين من الجيش وجهاز المخابرات (الشاباك) للعمل كمربين.
وقد التحق المئات من الضباط يحملون الشهادات الجامعية الأولى ليندمجوا في السنوات الأربع عشرة الأخيرة في مدارس مختلفة في جميع أنحاء "إسرائيل" بعضهم درس لمدة سنة واحدة فقط للحصول على رخصة التدريس وزاروا المدارس يومين فقط وعينوا فورا في وظائف إدارية، البعض منهم عينوا معلمين وآخرون درسوا سنة إضافية وعينوا في وظائف تربوية، ومنم أيضا من تولى وظائف كبيرة في جهاز التربية دون أي أعداد
إن مسألة تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية ليست وليدة الساعة وأحداث 11 أيلول كما أسلفنا، بل إن الصهاينة ما فتئوا منذ معاهدة "كامب ديفيد" مع مصر (1979) مروراً بمؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو يثيرونها باستمرار بيد أن الكيان الإسرائيلي ليس الجبهة الوحيدة التي تهددنا في آخر حصوننا: برامجنا التعليمية التي هي سرّ مناعتنا الذاتية وعدم انقراضنا من الوجود كأمة لها تاريخ وحضارة، بل يُشارك اليهود والأمريكان الحرب ضد التربية الإسلامية والمناهج التعليمية في العالم الإسلامي، جهات أخرى منها:
الجهات المانحة الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تشترط تغيير المناهج وإصلاح أو استبعاد بعض المقرّرات، مقابل منح المساعدات أو القروض.(1/225)
منظمة "اليونسكو" الشروط أو الإملاءات التي تفرض في هذا المجال، فقد كانت توصياتها قبل سقوط الاتحاد السوفياتي (1990) عملاً غير ملزم نتيجة للأريحية التي يخلفها صراع القطبين في النظام الدولي، أما بعد حرب الخليج الثانية فأصبح عملها وتوصياتها شبه ملزمة.
مؤتمرات "حوار الأديان" التي تسعى وراءها جهات دولية مشبوهة، وعادة ما توصي بتغيير المناهج في البلدان الإسلامية لإتاحة المجال أمام الحوار والتفاهم بين الأديان.
مفاوضات ومباحثات الشراكة الأورو المتوسطية التي تلزم فيها أوروبا الدول المتوسطية الجنوبية بتغيير المناهج مقابل المنح والشراكة ونحوها.
الندوات والمؤتمرات الدولية التي تنظمها جهات دولية مختلفة، وتستعلن حيناً وتستخفي أحياناً في الحديث عن "الضرورة الحضارية" لإصلاح مناهج المؤسسات التعليمية الإسلامية، ومثالها الندوة التي نظمتها في بيروت مؤسسة "كونراد أدناير" الألمانية، يومي 13 و 14-12-2002.
كما لم يعد سراً أن تغيير المناهج وفقاً لمنظور التنميط الثقافي الذي تفرضه عولمة الغرب، مدرج ضمن البنود الثقافية لاتفاقية تحرير التجارة العالمية (الجات) والتي يتم مناقشتها باستمرار في المنتديات الاقتصادية التي أصبحت تعقد بصورة منتظمة (مثل منتدى دافوس).
وقد اعترف سياسيون عرب مؤخراً بأن عملية تبديل المناهج في الأردن واليمن وباكستان، تخضع لإشراف البنك الدولي. وفي الوقت الذي يحارب فيه التعليم الديني في عالمنا الإسلامي ويطالب بتصفية المدارس الشرعية والحوزات العلمية، يزداد التعليم الديني في إسرائيل رواجاً وانتشاراً ويحظى أصحابه بمزايا عديدة تمنحها لهم الدولة لا يحظى بها خريج التعليم العلماني هناك، على أن ما يسمّى بالتعليم العلماني هناك ما زال يحمل بوضوح الحلم اليهودي بأفكاره وقيمه التلمودية وأساطيره الصهيونية وتاريخه التوراتي.(1/226)
تغيير المناهج التعليمية العربية.. بين الاضاليل الإسرائيلية والضغوطات الخارجية المشبوهة
بقلم :د.غازي حسين
كشف الدكتور اسحق الفرحان، وزير التربية والتعليم الأردني الأسبق، والخبير في شؤون التربية والتعليم، أنه حينما كان في منصبه في السبعينيات من القرن العشرين، تلقى كتاباً من اليونسكو يطالب بإدخال تعديلات على بعض المناهج التعليمية التي تثير الكراهية ضد تصرفات اليهود. وقال الفرحان في حديث الى «قدس برس» أنه شكّل فريق عمل بعد تلقيه الكتاب استعرض عدداً من المناهج التعليمية في «إسرائيل» خصوصاً في كتب الاجتماعيات واللغة العبرية، فوجد أنهم يدرِّسون طلابهم «أن حدود «إسرائيل» من النيل الى الفرات، وأن نهر الأردن يفصل أرض «إسرائيل» الشرقية عن ارض «إسرائيل» الغربية (أي أن المملكة الأردنية جزء لا يتجزأ من «إسرائيل»)، وأن من مدن «إسرائيل» عمان وجرش».
وأضاف الدكتور الفرحان هذه المعلومات بالذات كانت تدرَّس في كتاب الاجتماعيات للصف السادس في المدارس الإسرائيلية، وأن مؤلفه شخص يدعى يعقوب بابوريش.
وأكد الفرحان، الذي يرأس حالياً جامعة الزرقاء الأهلية في الأردن أنه بعد الاطلاع على برامج التعليم الإسرائيلية أجاب منظمة اليونسكو في تقرير من عشر صفحات يقول فيه «اجعلوا «إسرائيل» تغير ما في مناهجها واكتبوا لنا بعد ذلك لعلنّا نعيد النظر»، وشدّد على أنه رفض هذا الطلب.
واليوم تطالب «إسرائيل» والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من بعض الدول العربية تغيير المناهج الدراسية فيها وبشكل خاص كتب التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية وكل ما يتعلق بفلسطين و«إسرائيل» واليهود والصراع العربي الإسرائيلي.
فما هي حقيقة المناهج الدراسية التي تحدّث عنها الدكتور الفرحان؟(1/227)
تستغل الصهيونية العالمية والكيان الصهيوني الإدارة الإميركية لإجبار بعض النظم السياسية على تغيير معتقدات وثقافات الشعوب والأمم العربية والإسلامية لخدمة المشروع الصهيوني في الوطن العربي. ولم تكتف الإدارة الأميركية بتأييد المطلب الصهيوني، بل تؤيّد أيضاً ثقافة الإرهاب والإبادة والعنصرية والاستيطان التي تغرسها الصهيونية في نفوس الأطفال والشارع الإسرائيلي والجاليات اليهودية في العالم، وتغض النظر عن كراهية العرب والعنصرية وتقديس الإرهاب في المناهج الدراسية في «إسرائيل».
واستغلت «إسرائيل» والصهيونية أحداث(11)أيلول للمطالبة بتغيير مناهج التعليم في الدول العربية والإسلامية وحتى تغيير كتب التربية الدينية وحذف بعض الآيات والأحاديث النبوية منها. وتسكت الإدارة الأميركية على غرس الحقد والكراهية والازدراء للعرب والمسلمين في حدائق الأطفال والمدارس والجامعات الإسرائيلية، وفي نتاج الأدب العبري في قصص الأطفال والروايات وقصائد الشعر وأفلام هوليوود وفي مراكز الدراسات ومعاهد الاستشراق في «إسرائيل» وفي الولايات المتحدة الأميركية.
تتفنن «إسرائيل» والصهيونية في بث الإيمان بالتفوق والاستعلاء وكراهية العرب والمسلمين والتطاول على الإسلام في نفوس الأطفال من خلال القصص والأغاني والأشعار منذ نعومة أظفارهم.
فتصف قصص الأطفال «العربي» بالكذب والخبث والغباء والتخلف على عكس اليهودي الأذكى عقلياً والأقوى جسدياً. وتركّز على وصف العرب بالإرهابيين وبأنهم قتلة وحيوانات مفترسة، بينما تصف اليهودي بالشجاعة والتفوق والجرأة. وتغرس فيهم الأفكار والمفاهيم العنصرية في قالب ديني عاطفي جذاب لرفع الأساطير والخرافات والأكاذيب والأطماع الصهيونية الى مرتبة القداسة الدينية.
ويقوم الأدب العبري على تثبيت الوعي عند الأطفال والكبار بأن فلسطين العربية هي وطنهم، وانها إرث لهم من قديم الزمان، وهي أرضهم الدينية والتاريخية.(1/228)
وتُبرز القصص أهمية تسخير الكذب والحيل والخداع والمراوغة كي يصل الصهيوني الى أهدافه. وتظهر في الوقت نفسه أن وجه العربي مخيف، وأحدب ذو عاهة وشكله مثير للضحك وسخيف والقمل يعشش في رأسه. فأدب الأطفال يشوّه صورة الإنسان العربي والمسلم لزرع الحقد والكراهية تجاهه وحثهم على الاستهتار بالعرب وبحقوقهم وحياتهم وثرواتهم.
وتلعب الكتب الدراسية في «إسرائيل» دوراً أساسياً في تعميق ثقافة الصراع مع العرب وتقديس ممارسة الإرهاب والإبادة والاستعمار الاستيطاني والتدمير تجاههم. وتسخّر «إسرائيل» الكتب الدراسية للتأكيد على أهمية استخدام القوة ضد كل من يقف في وجهها من الشعوب والأمم وبشكل خاص العرب والمسلمين، لأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة.
وتركّز المناهج التعليمية على سفر يشوع الذي يزخر بالقتل والإبادة للكنعانيين، والفخر والاعتزاز بحرق يشوع مدينة أريحا بمن فيها من الأحياء حتى الحمير تماماً كما تفعل «إسرائيل» حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة.
«ويعدّ سفر يشوع مصدر الإرهاب الصهيوني وأول مدرسة للأفكار الإرهابية في التاريخ البشري، ويشكِّل الشخصية الصهيونية المعاصرة القائمة على الإيمان بالاستعلاء والإرهاب والعنصرية».
ويؤرخ هذا السفر لحياة يشوع والحروب التي خاضها بنو «إسرائيل» ضد خصومهم والمذابح الجماعية التي ارتكبوها. ويزعم يشوع فيه أن «الرب» هو الذي أمره أن يقوم بتلك المذابح وباركها.
وكان يشوع محارباً يتلذذ بمنظر أعدائه وهم يذبحون، وبطون نسائهم تُبقر، وأطفالهم تُذبح، ومساكنهم تدمر ومحاصيلهم تحرق.
وهكذا كوّن ويكوّن سفر يشوع العقلية والشخصية الصهيونية المعاصرة، حيث ينشأ عليه الأطفال، ويدرسه طلبة المدارس. ويتعلمون الافتخار والاعتزاز والإعجاب بفتوحاته. ويطالب الحاخامات وقادة الفكر والأحزاب الصهيونية بالاقتداء به في تعاملهم مع العرب بشكل خاص وبقية غير اليهود بشكل عام.(1/229)
ويتغلغل الإرهاب في الأدب الصهيوني ويتجلى بوضوح في الرواية الصهيونية المشهورة «اكسدوس» الخروج لكاتبها ليون اوريس حيث يقول بطل الرواية «إن التدريب العسكري إجباري في «إسرائيل» للذكور والإناث، إنهم يتعلمون منذ الصغر كيف يستعملون السلاح». ويقول بطل الرواية في مكان آخر: «لقد خلقنا جيلاً من الطرزانات ليدافعوا عن «إسرائيل». إننا لا نستطيع أن نعطيكم غير حياة من الدماء». ويتحدث عن رفض الجيل الجديد للوصايا العشر وما تتضمنه من دعوة الى السلام.
وتبين دراسة أجراها أحد أساتذة علم الاجتماع في «إسرائيل» على طلاب المدارس الابتدائية «أن 60% من بين (1066)طالباً الذين قابلهم وتتراوح أعمارهم ما بين 9 14سنة أيدوا الإفناء (الإبادة) الكلي للمواطنين العرب في «إسرائيل»، في حالة صراع مسلح مع الدول العربية». ويعود السبب في هذه النتيجة الى التربية التي يتلقاها التلاميذ في المدارس الإسرائيلية، وبالتالي تعود الى المناهج الدراسية المغرقة بالإرهاب والعنصرية وكراهية العرب واحتقارهم.
وتضع وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية البرامج التي تنمي في نفوس الطلبة الروح العسكرية والاستعلاء وتزيد من معلوماتهم العسكرية وتضعهم في أجواء تهيئهم نفسياً لارتكاب الإرهاب والتمييز العنصري وخوض الحروب العدوانية والتوسعية تجاه البلدان العربية.
وأكدت «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية دور وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية في حقن الطلبة بالروح العسكرية والفاشية وكتبت تقول:(1/230)
«إن ثلاثة آلاف من الطلبة في المدارس الثانوية في «إسرائيل» قد انضموا الى حلقات لدراسة تاريخ حرب 1948، تحت إشراف قسم التربية الاجتماعية في وزارة التربية والتعليم. ويلتقي هؤلاء الطلبة في هذه الحلقات بعد ساعات الدراسة العادية، حيث ينقسمون الى مجموعات حسب مناطق السكن. ويقوم القادة العسكريون السابقون للمناطق (في أثناء حرب 1948)، كل حسب منطقة إقامته، بشرح تفاصيل المعارك التي دارت في المنطقة. ثم يطّلعون على بعض الوثائق المتعلقة بالحرب، ويقومون بجولات الى أماكن المعارك».
لقد عاش ويعيش الجيل الجديد في «إسرائيل» حياته في أجواء تعطي الحرب والقيم العسكرية والإرهاب والاستعمار الاستيطاني المكان الأول. ويكون العربي هو العدو اللدود والخصم الذي يجب الانتصار عليه وسحقه وتدمير منجزاته وإقامة المستعمرات اليهودية على أراضيه. ويصوّر إي بيرنز الجيل الجديد بقوله:
«يحاول أن يربط نفسه بالماضي البدائي السحيق ماداً يديه ليصل الى العبرانيين المحاربين في بيتار وماسادة والقدس، الى رجال القبائل الذين أخضعوا وأهلكوا السكان الأصليين في أرض كنعان. إن الشباب اليهودي يريد أن يكون أكثر شجاعة وأشد قسوة وعنفاً».
وتنتهج «إسرائيل» والحركة الصهيونية خطاً استراتيجياً ثابتاً في علاقاتها مع الدول العربية يستند الى استخدام القوة والإرهاب والحروب والاعتداءات المستمرة لكسر الإرادات العربية وفرض المخططات الصهيونية.
وتعمل المدارس الإسرائيلية على إبعاد التلاميذ عما تسميه «إسرائيل» بثقافة السلام، وذلك بتنشئتهم على الروح العسكرية وإعدادهم ليصبحوا مقاتلين للإحساس بالتفوق ولقتل العرب.
ويستغل الحاخامات وقادة الأحزاب الإسرائيلية الأعياد لغرس الكراهية والعداء تجاه العرب، وينظمون الرحلات لأطفالهم الى مواقع المعارك ولمشاهدة تمارين عسكرية في المعسكرات. وتخصص المدارس الدينية 272 ساعة سنوياً للتدريب العسكري.(1/231)
وتسيطر وزارة الأديان على شبكة من المدارس تمثل ثلث الطلبة الإسرائيليين. ويتمتع الحاخامات بصلاحيات واسعة في مجال التعليم لحقن الطلبة بالتعاليم التي رسّخها كتبة التوراة والتلمود، وبالروح العسكرية و«إسرائيل» من النيل الى الفرات.
وترفع بعض المدارس الدينية شعار: الكتاب والسيف أنزلا من السماء، ما دفع أحد الكتّاب الصهاينة الى القول: «إن ما يحدث في هذه المدارس هو عملية غسيل دماغ دينية».
ويصف أحد الحاخامات تلاميذ المدارس الدينية العسكرية بأنهم «جنود نظاميون لا يميزهم سوى أنهم يضعون على رؤوسهم طاقية ويرتدون الملابس الدينية، وأن كل تلميذ، جندي جيد».
ويدير ضباط من المخابرات الإسرائيلية مراكز الدراسات وأبحاث الاستشراق، حيث يتولى ضابط كبير من المخابرات توجيه دراسات المستشرقين، كما يعمل عدد كبير من ضباط الجيش فيها بعد تقاعدهم.وبالتالي فإن «إسرائيل» ثكنة عسكرية كبيرة من المهد الى اللحد لإقامة «إسرائيل العظمى» من النيل الى الفرات.
وتقوم «إسرائيل» بدعم وتأييد كاملين من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بإجبار السلطة الفلسطينية والعديد من النظم العربية على تغيير المناهج الدراسية بما يتلاءم مع مصالح «إسرائيل» في المنطقة.
وهنا أطرح السؤال التالي: من الذي يجب عليه أن يغيّر مناهجه الدراسية لتتماشى مع ثقافة السلام ومع مبادئ الحق والعدل والإنصاف والقيم الإنسانية والحضارية، ومع الثقافة التي عززتها العهود والمواثيق الدولية؟
إنها «إسرائيل» والصهيونية التي تزرع في عقول الأطفال وجميع الأوساط الإسرائيلية ثقافة الصراع والحروب والاستعلاء والإرهاب والإبادة والعنصرية والاستعمار الاستيطاني.
وتسمم الثقافة الصهيونية عقول ونفوس وأفكار اليهود الذين يعتنقونها، ما يعرض الأمن والازدهار والاستقرار والسلام الإقليمي والعالمي لأفدح الأخطار.(1/232)
نشأت في عام 1979 منظمة عالمية يرعاها "اليونسكو" هي "منظمة الإسلام والغرب"، ويرأسها اللورد كارادون وتتكون من خمسة وثلاثين عضواً (عشرة منهم من المسلمين) وجاء في دستورها المنشور في 1979 10 3: "إن مؤلفي الكتب المدرسية لا ينبغي لهم أن يصدروا أحكاماً على القيم سواء صراحة أو ضمناً، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف". وفيه: "المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضها ليفهم منها التلميذ ليس أهداف الدين الأساسية، ولكن ما تشترك فيه أيضاً مع غيرها من الأديان" (...) ويلزم فحص الكتب الدراسية التي قامت بتقديم الظاهرة الدينية على أن يقوم بذلك علماء من كافة التخصّصات وكذلك أعضاء من أصحاب العقائد الأخرى وكذلك اللادينيون.
فالمطلوب من الدوائر العالمية ليس مجرّد إزالة الغموض عن بعض المصطلحات التي تجلب الحساسيات أو تستفز أتباع الأديان الأخرى، بل العلمنة الشاملة لبرامج التعليم حتى تختزل المعلومات الدينية فيه إلى مجرّد طقوس أقرب إلى الفلكلور أو الثيولوجيا (الأساطير الدينية) منه إلى الرؤية الشاملة المنهجية والعملية للإنسان والكون والحياة كما هو شأن العقيدة الإسلامية نصاً وتنزيلاً.
إن مسألة تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية ليست وليدة الساعة وأحداث 11 أيلول كما أسلفنا، بل إن الصهاينة ما فتئوا منذ معاهدة "كامب ديفيد" مع مصر (1979) مروراً بمؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو يثيرونها باستمرار بيد أن الكيان الإسرائيلي ليس الجبهة الوحيدة التي تهددنا في آخر حصوننا: برامجنا التعليمية التي هي سرّ مناعتنا الذاتية وعدم انقراضنا من الوجود كأمة لها تاريخ وحضارة، بل يُشارك اليهود والأمريكان الحرب ضد التربية الإسلامية والمناهج التعليمية في العالم الإسلامي، جهات أخرى منها:(1/233)
الجهات المانحة الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تشترط تغيير المناهج وإصلاح أو استبعاد بعض المقرّرات، مقابل منح المساعدات أو القروض.
منظمة "اليونسكو" الشروط أو الإملاءات التي تفرض في هذا المجال، فقد كانت توصياتها قبل سقوط الاتحاد السوفياتي (1990) عملاً غير ملزم نتيجة للأريحية التي يخلفها صراع القطبين في النظام الدولي، أما بعد حرب الخليج الثانية فأصبح عملها وتوصياتها شبه ملزمة.
مؤتمرات "حوار الأديان" التي تسعى وراءها جهات دولية مشبوهة، وعادة ما توصي بتغيير المناهج في البلدان الإسلامية لإتاحة المجال أمام الحوار والتفاهم بين الأديان.
مفاوضات ومباحثات الشراكة الأورو المتوسطية التي تلزم فيها أوروبا الدول المتوسطية الجنوبية بتغيير المناهج مقابل المنح والشراكة ونحوها.
الندوات والمؤتمرات الدولية التي تنظمها جهات دولية مختلفة، وتستعلن حيناً وتستخفي أحياناً في الحديث عن "الضرورة الحضارية" لإصلاح مناهج المؤسسات التعليمية الإسلامية، ومثالها الندوة التي نظمتها في بيروت مؤسسة "كونراد أدناير" الألمانية، يومي 13 و 14-12-2002.
كما لم يعد سراً أن تغيير المناهج وفقاً لمنظور التنميط الثقافي الذي تفرضه عولمة الغرب، مدرج ضمن البنود الثقافية لاتفاقية تحرير التجارة العالمية (الجات) والتي يتم مناقشتها باستمرار في المنتديات الاقتصادية التي أصبحت تعقد بصورة منتظمة (مثل منتدى دافوس).(1/234)
وماذا بعد اعترف سياسيون عرب مؤخراً بأن عملية تبديل المناهج في الأردن واليمن وباكستان، تخضع لإشراف البنك الدولي. وفي الوقت الذي يحارب فيه التعليم الديني في عالمنا الإسلامي ويطالب بتصفية المدارس الشرعية والحوزات العلمية، يزداد التعليم الديني في إسرائيل رواجاً وانتشاراً ويحظى أصحابه بمزايا عديدة تمنحها لهم الدولة لا يحظى بها خريج التعليم العلماني هناك، على أن ما يسمّى بالتعليم العلماني هناك ما زال يحمل بوضوح الحلم اليهودي بأفكاره وقيمه التلمودية وأساطيره الصهيونية وتاريخه التوراتي.
يا أدباء الأرض !!
إن قلت هذه ثمار ما غرسه عميل الأدب العربى
طه حسين وزمرته
أأكون كاذب أو مدعى ؟
أليس هو البادى بمفهوم تطوير التعليم ؟
وانظروا إلى نتاج تطوره
تعاطى المخدرات فى الجامعات . الزنا فى الجامعة على أدبياته الإفرنجية
حمل الأسلحة البيضاء ( بنين وبنات ) بدأً من التعليم الإعدادى
رسالة التعليم والتعلم أصبحت خراب
لأنه بدل الكتاب
وقال عنه أساطير
وهنا سنحلق وسنطير فى أدبيات وإعجازات القرآن البيانية واللغوية
فهلم للحق نزهق به باطل كل دعىّ كذاب
يريدون أن يطفئوا نور الله. لمسات بيانية وإعجاز غيبي
بقلم: حسن يوسف شهاب الدين
أستاذ فيزياء
أخي القارئ: ما أَكثر الحروب الإعلامية التي تُشنُّ لتشويه الإسلامِ ورموزهِ الحيَّة، من بعض كبار المشاهير في أميركا والعالم الغربي، الذين رأوا في مَنهجِ وتشريع هذا الدين القويم خطراً كبيراً عليهم، فما كان منهم إلا أن يرفعوا رايات التشويه والإساءة حفاظاً على علاقة العداء وتمكيناً للحقد المتملك من قلوبهم وأفئدتهم، ليواصلوا ما بدأه أسلافهم منذ بدء الرسالة التي حملها نبي الرحمة والعدالة محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الذي جاء مصدقاً لما معهم من الكتاب، فكان الخطر الذي يحوم حول مصالحهم، ويكبح طموحهم.
قال الله سبحانه وتعالى:(1/235)
? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}?. [ التوبة].
وقال الله عزَّ وجل: ? يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9}? [الصف].
لمسات في الإعجاز البياني
استخدام الفعل (يطفئ) دون الفعل (يخمد).
قال الله تعالى: ? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ?.
الإطفاء هو الإخماد، وكلاهما يستعملان في النار، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور.
ولكن العرب تفرق بين الإطفاء والإخماد بأن:
الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل.[2].
ومنه فإنَّ الكفار يريدون إبطال ما استطاعوا من الحق الذي جاء به نبي الرحمة قليلاً كان أم كثير، بغض النظر عن كمية الحقائق التي يحاولون طمسها، وهذا يدل على رضاهم بالقليل لما تحمل قلوبهم من غيظٍ وحقدٍ وغلّ.
الفرق بين " أن يطفئوا " و " ليطفئوا ".
قال الله سبحانه وتعالى: ? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ ?.
يقصد الكفار إطفاء نور الله تعالى مباشرة، وإرادتهم متوجهة إلى الغاية (الهدف) بشكل مباشر، بعد إعداد الوسائل واتباع الطرق التي من خلالها يمكن الوصول إلى غايتهم بحسب تصورهم، فطلبهم هنا الغاية.
أما في قول الله عزَّ وجل: ? يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا ?.
يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله، فهم يريدون إعداد الوسائل التمهيدية والطرق المناسبة التي تضمن الوصول لغايتهم، والمعنى هنا طلب الوسيلة. [3].(1/236)
استخدام كلمة الكافرون دون المشركون
قال الله تعالى: ? وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ?.
إن: أصل الكفر في كلام العرب: الستر والتغطية، ومنه قول الله تعالى: ? كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ? [الحديد {20}]. {الكافر: الزارع الذي يغطي الحب بالتراب ليستره}.
فالكفار يخفون الشيء بعد معرفتهم به، وهذا مَثَلُ (أهل الكتاب) الذين أخفوا الكتاب وكتموا الحق بعد إذ جاءهم فهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم.
أما الشرك فهو من المشاركة: وقيل هو أن يوجد شيء لاثنين أو أكثر، وشرك الإنسان في الدين: إثباته شريك لله تعالى. وفرق الفقهاء بين الشرك والكفر، فالشرك يكون من الناس الذين جعلوا لله أنداداً، دون أن يكون لهم كتاب، أما الكفر فيكون من أهل الكتاب،
معتمدين بذلك على قول الله سبحانه وتعالى: ? مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {105}? [البقرة]. حيث نجد في الآية الكريمة السابقة إفراد المشركين عن أهل الكتاب، فالمشركون (الوثنيون) لم يكونوا يعلموا بظهور نبي الإسلام، وكانوا يحاربوه لأنه صغرَّ آلهتهم وجاء بأمرٍ معارضٍ لمصالحهم، فكانوا السند والعون لأهل الكتاب في حربهم على الإسلام لأن غايتهم واحدة، بالرغم من اختلاف سبب الحقد والعداء. [4].
الإعجاز الغيبي
استخدام صيغة المضارع
ورد في الآية الكريمة أربعة أفعال كلها بصيغة المضارع، وهي على الترتيب: (يريدون)، (يطفئوا)، (يأبى)، (يتم). والفعل بصيغة المضارع يدل على الحال والاستقبال (الاستمرار).
استخدام الحرف " أن" بعد الفعل " يريد ".(1/237)
بعض الأفعال في اللغة العربية لا يجوز أن تقع في زمن الماضي، لأنها تفيد الاستقبال، مثل فعلي " أمرت " و" أردت ". فلا يجوز أن تقول: أمرتك أن قمت، ولا أردت أن قمت.
واعتمد العلماء على هذا القول من استخدام الحرف "أن" التي يمكن أن تكون مع الماضي في غير "أردت" و "أمرت"، وذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال.
ومنه عندما يأتي الحرف "أن" بعد الفعل " يريد " فإن الاستقبال يكون من وجهتين:
الأولى: من الفعل نفسه لأنه بزمن المضارع.
والثاني: في دخول الحرف "أن" الذي يفيد مع الفعل "يريد" زمن المستقبل.
"ويأبى الله إلا أن يتم نوره".
الإباء: شدة الامتناع، فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء.
ولكن كيف دخلت "إلا" والكلام ليس فيه حرف نفي؟ مع العلم أن العرب لا تقول "ضربت إلا زيداً ". والجواب أن العرب تحذف حرف النفي مع الفعل " أبى ". والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره، وقد تمَّ وانتشر وظهر في كل أصقاع المعمورة ولله الحمد، وهذا مصداق قول الله سبحانه وتعالى: ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}?.[التوبة].{5}.
الخلاصة:(1/238)
يريد الكفار أن يطفئوا نور الله بأفواههم: وهنا لا يقتصر القول فقط على الحملات التي شنها الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا ما شهدوا من المعجزات التي لا تقبل الشك أبداً بأنه نبي مرسل، بل تتعدى ذلك الزمن إلى يومنا هذا ليقوم أعداء الدين بمحاربته وتشويه سمعته والنيل من أحكامه عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات والندوات، وستستمر إلى يوم القيامة، وهنا يكمن إعجاز القرآن الكريم الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلمعندما أخبرنا عن أمور غيبية نشهدها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرناً من البعثة، وذلك من خلال استخدام صيغة الفعل بالمضارع ليدل على الحال (زمن النبوة)، والاستقبال (الاستمرار) إلى عصرنا الحالي.
إلى كل من يدين بدين الإسلام وترخص روحه لنصرة نبي الرحمة والعدالة والسلام.
انصروا حبيبكم وقرة أعينكم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، من خلال اتباع سنته الشريفة، والتخلق بأخلاقه العظيمة والعمل بمضمون آيات القرآن الكريمة.
والله وحده الموفق.
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
الصبر في اللغة معناه: حبس النفس وتثبيتها، وضدُّه: الجزع. قال تعالى:? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?(الكهف:28). أي: احبسها وثبتها. وهو نوعان: صبر على المكروه، وصبر عن المحبوب. والأول يعدَّى إلى المفعول بـ{ على }، والثاني بـ{عن }. تقول: صبرت على ما أكره. وصبرت عمَّا أحب. والأول هو الأكثر استعمالاً، ومنه قوله تعالى:? وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً?(المزّمِّل:10).(1/239)
وقال تعالى في مدح الصابرين:? وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ? (البقرة:177). وقال تعالى:? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ?(الزمر:10).
وقول لقمان يوصي ابنه:? يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?(لقمان:17) هو أمر بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها دون تخصيص. وقوله:? إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? إشارة إلى ما تقدم، ممَّا نهاه عنه، وأمره به، ويدخل فيه الأمر بالصبر على المحن كلها.
وأما قوله تعالى:? وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?(الشورى:43) فهو حثٌّ على الصبر على المكروه، والمغفرة لمن تسبب فيه، وأكَّد ذلك بقوله:? إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?. أي: إن الصبر على أذى الغير، والمغفرة لمن عزم الأمور؛ كقوله تعالى:? وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ?(البقرة:237). وقوله تعالى:? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ?(الشورى:40). وهذا إذا كان الجاني نادمًا مقلعًا. أما إذا كان الجاني مصرًّا على البغي، فالأفضل الانتصار منه، بدليل الآية قبلها، وهي قوله تعالى:? وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ?(الشورى:41)؛ فإن هذا يقتضي إباحة الانتصار من الجاني.
وقيل: سَبَّ رجلٌ آخرَ في مجلس الحسن، فكان المسبوبُ يكظم ويعرق، ويمسح العرق، ثم قام فتلا الآية:? وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?، فقال الحسن: عَقِلَها، والله، وفهمها! لِمَ هذه ضيَّعها الجاهلون ؟!(1/240)
وأما { اللام } في قوله تعالى:? وَلَمَنِ انتَصَرَ ?(الشورى:41)، وقوله تعالى:? وَلَمَن صَبَرَ ?(الشورى:43) فهي مثل { اللام }، التي في قوله تعالى:?لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ?(آل عمران:157). وقوله تعالى:? وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ?(البقرة:103).
ويجوز في هذه { اللام } أن تكون الموطِّئة لقسم محذوف، و{ مَنْ } شرطية، وجواب القسم في الأول قوله تعالى:? فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ?(الشورى:41)، وفي الثاني قوله تعالى:? إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?. وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه.
ويجوز أن تكون { اللام } لام الابتداء، و{ مَنْ } موصولة في موضع المبتدأ، والخبر في الأول قوله تعالى:? فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ?، وفي الثاني قوله تعالى:? إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?. والإشارة بـ{ ذلك } إلى ما يفهم من مصدر{ صبر وغفر }، والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف. أي: إن ذلك منه { لمن عزم الأمور }، لدلالة المعنى عليه.
وخبر الموصول يجوز اقترانه بـ{ الفاء }، لشبهه بالشرط في دلالته على الإبهام. ويجوز عدم اقترانه بها. والفرق بين الموضعين: أنك إذا قلت:{ مَنْ يأتيني فله درهم }، استحق الدرهم بمجرد إتيانه. وذلك بخلاف قولك:{ مَنْ يأتيني إن له درهمًا }.(1/241)
فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا وجه للمقارنة بين قوله تعالى:? وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?(لقمان:17)، وقوله تعالى:? وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?(الشورى:43)؛ لأن الأول أمرٌ بالصبر على المصائب، والثاني حثٌّ على الصبر عليها، وكلاهما من عزم الأمور.. قال تعالى:? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ?(الأحقاف:35). فالصبر في الآيتين صبر واحد.. وإذا كانت الآية الثانية قد أكِّدت بـ{ إن }، وبـ{اللام }، دون الآية الأولى، فلأنها جمعت بين الصبر، والمغفرة؛ ولأنها جاءت مؤكَّدة بـ{ اللام } في أولها:{ لَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ }. ونحو ذلك قوله تعالى:?إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ?(المنافقون:1).
ومن المعلوم في علم البلاغة أن للمخاطب ثلاث حالات عندما يُلقَى إليه خبرٌ مَّا:
أولها: أن يكون خالي الذهن من الحكم. وفي هذه الحالة يلقَى إليه الخبر خاليًا من التوكيد. ويسمى هذا الضرب من الخبر ابتدائيًا.
وثانيها: أن يكون مترددًا في الحكم، طالبًا أن يصل إلى اليقين في معرفته. وفي هذه الحالة يحسن توكيده له، ليتمكن من نفسه. ويسمى هذا الضرب طلبيًّا.
وثالثها: أن يكون منكرًا له. وفي هذه الحالة يجب أن يؤكد الخبر بمؤكِّد، أو أكثرَ، على حسب إنكاره قوةً وضعفًا. ويسمى هذا الضرب إنكاريًا.
ومثال الحالة الأولى قولك للمؤمن: محمد رسول الله .. ومثال الحالة الثانية قولك للمتردد في إيمانه: إن محمدًا رسول الله.. ومثال الحالة الثالثة قولك للمنكر الخالي من الإيمان: إن محمدًا لرسول الله.. والله إن محمدًا لرسول الله.(1/242)
وعلى الحالة الثانية يقاس قوله تعالى:? إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?(لقمان:17).. وعلى الحالة الثالثة يقاس قوله تعالى:? إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?(الشورى:43).
هذا ما أردت توضيحه وبيانه والله الهادي سواء السبيل !
البلاغة في القرآن الكريم - قل سيروا في الأرض
الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله
قال تعالى : ( قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام : 11] .. لماذا لم يقل الله : قل سيروا على الأرض .. هل أنا أسير في الأرض .. أو على الأرض .. حسب مفهوم الناس جميعا .. فأنا أسير على الأرض .. ولكننا نجد أن الله قد استخدم كلمة في .. ولم يستخدم كلمة على .. يقول : سيروا في الأرض ( ففي ) تقتضي الظرفية .. والمعنى يتسع لأن الأرض ظرف المشي .. ومن هنا فإن التعبير جائز .. ولكن ليس في القرآن كلمة جائز .. فالتعبير بقدر المعنى تماما .. والحرف الواحد يغير المعنى وله هدف .. وقد تم تغييره لحكمة لكن ما هي حكمة استخدام حرف ( في ) بدل من حرف ( على ) .. ؟ عندما تقدم العلم وتفتح وكشف الله أسرار الأرض وأسرار الكون .. عرفنا أن الأرض ليس مدلولها المادي فقط .. أي أنها ليست الماء والأرض .. أو الكرة الأرضية وحدها .. ولكن الأرض هي بغلافها الجوي .. فالغلاف الجوي جزء من الأرض يدور معها ويلازمها .. ومكمل للحياة عليها .. وسكان الأرض يستخدمون الخواص التي وضعها الله في الغلاف الجوي في اكتشافاتهم العلمية .. والدليل على ذلك أنك إذا ركبت الطائرة فإنها ترتفع بك 30 ألف قدم مثلا عن سطح الأرض .. ولكنك تقول أنت تطير في الأرض .. متى تخرج من الأرض علميا وحقيقة .. عندما تخرج من الغلاف الجوي للكرة الأرضية مادمت أن في الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية .. فأنت في الأرض .. وليست خارج الأرض .. فإذا خرجت من الغلاف الجوي .. فأنت في هذه اللحظة التي تخرج فيها خارج(1/243)
الأرض .. الغلاف الجوي متمم للأرض .. وجزء منها .. ويدور معها نعود إلى الآية الكريمة ونقول : لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى لفظ في ولم يستخدم لفظ على .. ؟ لأنك في الحقيقة تسير في الأرض .. وليس على الأرض .. هذه حقيقة علمية لم يكن يدركها العالم وقت نزول القرآن .. ولكن الله سبحانه وتعالى هو القائل .. وهو الخالق يعرف أسرار كونه .. يعلم أن الإنسان يسير في الأرض .. أنه يسير على سطح الأرض .. ومن هنا فهو يسير في الأرض التي هي جزء آخر .. وهكذا نجد دقة التعبير في القرآن في حرف .. ونجد معجزة القرآن في حرف
الفرق بين الرؤية والإدراك
أولاً- الرؤية هي إدراك المرئي من الجهة المقابلة، وتكون مع العلم، خلافًا للنظر؛ لأنه يقال: نظرت، فلم أر شيئًا. ولا يقال ذلك في: رأيت. والأصل في الرؤية أن تكون بالحاسة؛ نحو قوله تعالى:? لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ? (التكاثر:5 - 7). وقد تكون بالوهْم والتخيُّل؛ نحو قوله تعالى:? وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ?(الأنعام:27). وقد تكون بالتفكُّر؛ نحو قوله تعالى:? إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ? (الأنفال:48). وقد تكون بالفؤاد؛ نحو قوله تعالى:? مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ?(النجم:11). أما الرؤية في نحو قوله تعالى:? أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ?(الإسراء:99) فهي من رؤية البصر. وقد يتعُدَّى فعل الرؤية بـ{ إلى }، فيقتضي معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار؛ كما في قوله تعالى:? أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ?(الملك:19).(1/244)
ثانيًا- أما الإدراك فهو بلوغ أقصى الشئ. ويقال: أدرك الصبيُّ، إذا بلغ غاية الصبا؛ وذلك حين البلوغ. وقوله تعالى:? حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ?(يونس:90) يعني: أنه الغرق قد أحاط به من جميع الجهات. وقوله تعالى:? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ? (الأنعام:103). يعني: أن الأبصار لا يمكنها أن تحيط به سبحانه. ومنهم من حمله على رؤية البصيرة، وذكر أنه قد نبَّه به على ما روي عن أبى بكر- رضى الله عنه- في قوله:” يا من غاية معرفته القصور عن معرفته “؛ إذ كان غاية معرفته تعالى أن تعرف الأشياء، فتعلم أنه ليس بشيء منها، ولا بمثلها؛ بل هو مُوجِدٌ كلَّ ما أدركته.
ومثل قوله تعالى:? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ?(الأنعام:103) في نفي الإدراك على سبيل الاستغراق والشمول قوله تعالى:? وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ?(طه:110) في نفي الإحاطة. قال الرازي:” وذلك يدل على كونه تعالى منزَّهًا عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به؛ وذلك على خلاف هذين النصَّين. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه، وإن كان جسمًا، لكنه جسم كبير؛ فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم ؟ قلنا: لو كان الأمر كذلك، لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسموات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز؛ فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة، والأبصار لا تحيط بأطرافها، والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها. ولو كان الأمر كذلك، لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة “.(1/245)
ثالثًا- ولما كانت الرؤية تعني إدراك المرئي من الجهة المقابلة، سأل موسى عليه السلام ربه الرؤية، فقال:? رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ?(الأعراف: 143). ولما كانت رؤيته سبحانه غير جائزة في الدنيا، أجابه تعالى بقوله:? لَن تَرَانِي ?، فأتى بفعل الرؤية منفيًّا بـ{ لن }، التي تدل على قصر النفي، بخلاف النفي بـ{ لا }، التي تدل على طول النفي وامتداده. فدل ذلك على أن رؤيته تعالى ممتنعة في الدنيا، جائزة في الآخرة، خلافًا للمعتزلة، الذين احتجوا بقوله تعالى:? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ?(الأنعام:103) على عدم جواز رؤيته سبحانه في الآخرة. والآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الإدراك إما أن يراد به: مطلق الرؤية. أو يراد به: الرؤية المقيدة بالإحاطة. والأول باطل؛ لأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال: إنه أدركه؛ كما لا يقال: أحاط به. وقد سُئِل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال:” ألست ترى السماء ؟ قال: بلى. قال: أكلها ترى ؟ قال: لا. “.(1/246)
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة، لا يقال: إنه أدركها؛ وإنما يقال: أدركها، إذا أحاط بها رؤية. فثبت بذلك أن الإدراك في لغة العرب ليس مرادفًا للرؤية، وأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال في لغتهم: إنه أدركه. وكيف يقال بترادف اللفظين، وبين لفظ الرؤية، ولفظ الإدراك عموم وخصوص. أو اشتراك لفظي، فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية؛ فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم، وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة، وإن لم يشاهد؛ كالأعمى الذي طلب رجلاً هاربًا منه، فأدركه، ولم يره. وقد قال تعالى:? فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قََالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?(الشعراء:61-62)، فنفى موسى- عليه السلام- الإدراك مع إثبات الترائي، فعُلِم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك. والإدراك هنا هو إدراك القدرة. أي: إنا لملحقون، محاط بنا. وإذا انتفى هذا الإدراك، فقد تنتفي إحاطة البصر أيضًا.(1/247)
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر قوله:? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ?(الأنعام:103)، يمدح به نفسه سبحانه وتعالى. ومعلوم أن كون الشيء لا يرى، ليس بصفة مدح؛ لأن النفي المحض لا يكون مدحًا، إن لم يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا؛ ولأن المعدوم أيضًا لا يرى. والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه. وهذا أصل مستمر، وهو أن العدم المحض، الذي لا يتضمن ثبوتًا، لا مدح فيه، ولا كمال، فلا يمدح الرب جل وعلا نفسه به. بل ولا يصف تعالى نفسه به؛ وإنما يصفها بالنفي المتضمِّن معنى ثبوتٍ؛ كقوله تعالى:? وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ?(الكهف: 49) مستلزم لثبوت صفة عدله، ومتضمِّن لكمالها. وقوله تعالى:? لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ?(البقرة: 255) مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته، ومتضمِّن لكمالهما. وقوله تعالى:? وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ?(البقرة: 255) مستلزم لثبوت علمه، ومتضمِّن لكماله، وكذلك قوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?(سبأ: 3).. وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في القرآن والسنة؛ إنما هو لثبوت كمال ضده، سبحانه وتعالى !
وفي الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ
قال الله تعالى:? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(يونس: 61)(1/248)
وقال جل جلاله:? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(سبأ: 3)
أولاً- الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين هي خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وهو شامل لأهل الأرض جميعهم في كل زمان ومكان. وسياقها في تقرير الوحي، وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي. ومناسبتها لما قبلها أن الله تعالى، لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم، والرد عليهم ومحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وذكر فضله تعالى على الناس، وأن أكثرهم لا يشكره على فضله، أخبر سبحانه عن عظيم اطلاعه على الخواطر، وما يجري في الضمائر، فذكر اطلاعه على أحوالهم، وحال الرسول صلى الله عليه وسلم معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى شاهد على جميع أعمالهم، لا يخفى عليه جل شأنه خاطر، ولا ضمير، ولا يغيب عنه عمل من الأعمال. ثم أخبر جل وعلا عن سلطان علمه الواسع لكل شيء، وإحاطته بكل شيء، على سبيل الاستغراق والشمول، مقرِّرًا بذلك سبحانه أن كل شيء في الأرض والسماء صغر أو كبر، لا يخرج عن دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته.(1/249)
وأما الآية الثانية فتحكي إنكار الذين كفروا للساعة، وكفرهم بنعمة الآخرة، وردَّ الله تعالى عليهم بتوكيد مجيئها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أخبرهم عن وقوع البعث، فأنكروه، ونفوه بقولهم:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?، على سبيل القطع والجزم، مع جهلهم بالغيب؛ لأن البعث كان عندهم من المحال، فجاء الرد عليهم قويًا بقوله تعالى:? قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ?، وهو تأكيد لإتيان الساعة على أتم الوجوه وأكملها. وجاء القسم بالرب جل وعلا، للإشارة إلى أن إتيان الساعة من شؤون الربوبية، وأتى به مضافًا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليدل على شدة القسم. ثم عقَّب سبحانه على ذلك بقوله:? عَالِمِ الْغَيْبِ ?؛ ليعلم الناس جميعًا أن إتيان الساعة من الغيب، الذي تفرَّد به الله، الذي يعلم ببواطن الأمور دقيقها وجليلها؛ وكأنه قيل: وربي العالم بوقت قيامها، لتأتينكم، وأكد سبحانه ذلك زيادة تأكيد بأن علمه جل وعلا محيط بجميع الأشياء من الكليات والجزئيات على سبيل الاستغراق والشمول؛ وذلك لأنه سبحانه، إذا كان عالمًا بجميع الأشياء، فعلمه بأجزاء الأحياء، وقدرته على جمعها من باب أولى.
ويتضح مما تقدَّم أن الغرض من نفي العزوب عن الله جل وعلا في الآيتين هو إقامة الدليل على أن علم الله تعالى محيط بكل شيء من الكليات والجزئيات، على سبيل الاستغراق والشمول، وأنه ما من شيء في هذا الكون إلا وواقع في دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته سبحانه. وقد جاء ذلك موضحًا في آيات أخرى؛ كقوله تعالى:(1/250)
? وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?، ? وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?، ? لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ?، سبحانه وتعالى!
ثانيًا- وقرأ الجمهور:? يَعْزُبُ ?، في الآيتين، بضم الزاي فيهما، وقرأ الكسائي:? يَعْزِبُ ?، بكسر الزاي، وهما لغتان. يقال:{ عزَب الشيء يعزُب، ويعزِب }، مثل:{ عكَف يعكُف، ويعكِف }. ومعناه، على قراءة الضم: يعزُب عزوبًا قويًّا، وعلى قراءة الكسر: يعزِب عزوبًا ضعيفًا.
وأصل العزوب: البعد مع تنحٍّ وشرود. قال ابن فارس:” العين والزاء والباء أصل صحيح، يدل على تباعدٍ وتنَحٍّ. يقال: عَزَب يعزُبُ عُزُوبًا. والعَزَب: الذي لا أهلَ له. وقد عَزَبَ يَعْزُبُ عُزوبَةً.. يقال: عَزَب حلْم فلان. أي: ذهب. وأعْزَبَ الله حلْمَه. أي: أذهَبَه. والعازب من الكلأ: البَعِيد المَطْلَب.. وكلُّ شيء يفوتُك لا تَقْدِر عليه فقد عَزَب عنك “.
ويقال: عزب الرجل بإبله، إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل. وسمِّي الرجل عزبًا لبعده عن الأهل، وعزب الشيء عن علمي، إذا بعد. وفي الحديث:” من قرأ القرآن في أربعين يومًا، فقد عزَب “. أي: بعُد عهدُه بالختمة. أي: أبطأ في تلاوته.
فعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:? مَا يَعْزُبُ ?: ما يبعد ، وما يندُّ. وكذلك قوله:? لَا يَعْزُبُ ? معناه: لا يبعد ، ولا يندُّ. وقيل: معناهما: ما يغيب، بلغة كنانة. وقيل: ما يخفى؛ كقوله تعالى:
? وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(النمل: 75)(1/251)
? إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ?(آل عمران: 5)
والفرق بينهما، وبين العزوب، أن الشيء قد يكون غائبًا عنك، أو خافيًا عليك، وهو قريب منك، وليس كذلك العزوب.
ونفي ذلك كله عنه سبحانه مستلزم لثبوت علمه، ومتضمِّن لكماله. وإذا كان كذلك، فهو صفة مدح له جل وعلا. والنفي لا يكون مدحًا، إلا إذا تضمن ثبوتًا؛ وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه.. وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده؛ كقوله تعالى:? لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ?(البقرة: 255)، فنفي أخذ السَّنَة والنوم له سبحانه مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته، ومتضمِّن لكمالهما. وقوله تعالى:? وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ?(ق: 38) مستلزم لثبوت صفة قدرته، ومتضمِّن لكمالها. وقوله تعالى:? وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ?(الكهف: 49) مستلزم لثبوت صفة عدله، ومتضمِّن لكمالها.. ونظائر ذلك كثيرة.
ومثقال كل شيء ميزانه من مثله. ومثقال ذرة، أو حبة. أي: وزنهما. قال تعالى:? إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا?(النساء: 40).
وقال تعالى:? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ?(الأنبياء: 47)
ومن وصية لقمان لابنه قوله:? يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ?(لقمان: 16)(1/252)
وفي الدُّرِّ المنثور للسيوطي: أخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر “.
والمثقال- في الأصل- اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء، أيَّ شيء كان من قَلِيل، أو كثير. والناس يُطْلقونه في العُرف على الدّينار خاصَّة وليس كذلك. ووزنه: مِفعال، من الثِّقَل، كالمقدار من القدْر. وعبَّر سبحانه عن ذلك بالمثقال، ولم يعبر عنه بالمقدار ونحوه، للإشارة بما يفهم منه من الثقل، الذي يعبر به عن الكثرة والعظم؛ كما في قوله تعالى:? فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه ?(القارعة: 6). ويطلق المِثقال على مطلق المقدار، وهو المراد هنا. ويطلَق على المقدار المعلوم، الذي لم يختلف جاهلية وإسلامًا. وقيل هو في الشرع أربعة وعشرون قيراطًا، أخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر. قال الألوسي:” والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلامًا، فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن، وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية، ولا في الإسلام “.
والذرة في قول أكثر اللغويين والمفسرين هي النملة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله:? مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ?، قال: نملة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس في قوله:? إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ?، قال: رأس نملة خضراء. وقيل: هي بيضة النملة، التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء. وقيل: الذرة هي الخردلة.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” يا أيها الناس ! لا تغتروا بالله؛ فإن الله، لو كان مغفلاً شيئًا، لأغفل البعوضة، والذرة، والخردلة “، فدل على أن الذرة غير الخردلة.(1/253)
وأخرج هنَّاد عن ابن عباس في قوله:? مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ? أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال: كل من هؤلاء مثقال ذرة.
وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أتاه مسكين، وفي يده عنقود من عنب، فناوله منه حبة، وقال: فيه مثاقيل ذر كثيرة.
وأخرج سعد عن عطاء بن فروخ أن سعد بن مالك أتاه سائل، وبين يديه طبق عليه تمر، فأعطاه تمرة، فقبض السائل يده، فقال سعد: ويحك ! تقبل الله منا مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذر !
وقد أثبت العلم أخيرًا أن الذرة هي إحدى الوحدات الأساسية، التي تساهم في بناء المادة، وأن كل شيء في هذا الكون مكوَّن من بلايين الذرات، وهي جسيمات دقيقة جدًا، يستحيل على المرء أن يراها، حتى باستخدام أقوى الميكروسكوبات.
وقد كان الاعتقاد السائد قديمًا أن الذرة هي أصغر شئ يتصور عقلُ الإنسان وجودَه من المادة، وأنه لا شئ أصغر منها حجمًا ووزنًا، وأنها غير قابلة للتجزئة، وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا إلى القرن التاسع عشر. وفي أوائل القرن العشرين حول كثير من علماء الطبيعة اهتمامهم إلى دراسة الذرة، وخواصِّها، وإمكانية تجزئتها، فظهر لهم أن بعض المواد، كالراديوم واليورانيوم، تتجزأ من تلقاء نفسها، وتخرج منها جسيمات ذات كهرباء موجبة تسمى:{ ألفا }، وجسيمات ذات كهرباء سالبة تسمى:{ بيتا }، وأشعة تسمى:{ جاما }. وتبين لهم أن الذرة، تلك الشئ الضئيل، الذى لا يمكن أن يرى بالعين المجردة، مادة قابلة للتجزئة، وأنها تحتوي على الدقائق التالية: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات. وهذا ما يجعل منها قوة رهيبة، يمكن استخدامها لدمار العالم، أو عماره.(1/254)
ونقرأ قوله تعالى:? وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?، فنجد في لفظ ? أَصْغَر ? تصريحًا واضحًا بإمكان تحطيم الذرة وتجزئتها. كما يشير قوله تعالى:? وَلاَ فِي السَّمَاء ? إلى أن خواص الذرات الموجودة في الأرض هي خواص الذرات الموجودة في الشمس والنجوم والكواكب نفسها. أي: أنها تحتوي على الأنواع، التي ذكرناها آنفًا. كل ذلك وغيره مثبت في علم الله تعالى، أو في اللوح المحفوظ، الذي اشتمل على معلومات الله تعالى.
ثالثًا- وفي قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ? في الآية الأولى، وقوله تعالى:? عَالِِمِِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? في الآية الثانية ما يسأل عنه: لماذا جاء النفي في الجملة الأولى بـ{ مَا }، وفي الجملة الثانية بـ{ لَا } ؟ وهل من فرق بينهما ؟
ولم أر أحدًا من المفسرين، أو النحويين- قديمًا وحديثًا- تعرض للإجابة عن هذا السؤال سوى الدكتور فاضل السامرائي في كتابه:( لمسات بيانية )، ويتلخَّص بما يأتي:
أولاً- الفرق بين { ما يعزب }، و{ لا يعزب }:
في آية يونس استخدم ( ما )، أما في سورة سبأ استخدمت ( لا )، والسبب أن في الأولى جاء سياق الكلام عن مقدار إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، كما جاء في أول الآية:( وما تكون في شأن ). أما في الآية الثانية في سورة سبأ فالسياق في التذييل والتعقيب على الساعة.
في آية سبأ:( لا تأتينا الساعة ) نفوا شيئًا مستقبليًّا، فرد عليهم بـ( لا ): ( لا يعزب )، ثم إنه أقسم بقوله:( بلى وربي )، جوابه في المضارع:( لتأتينكم )، وجوابه في النفي:( لا ).. إذن اقتضى المقام كله النفي بـ( لا )، فناسبت الآية( لا ) من كل جهة: الاستقبال. والقسم المتقدم إثباته وجوابه.. أما آية يونس فالكلام ليس عن مستقبل، بل عن الحال، فناسب أن يأتي بـ( ما ).(1/255)
ثانيًا- وأما عن الفرق بين{ من مثقال }، و{ مثقال } فأجاب بأن( من ) هذه هي من الزائدة الاستغراقية، التي تفيد الاستغراق والتوكيد.. وسبب مجيئها في الأولى دون الثانية: أن آية سبأ ليس الكلام فيها عن علم الغيب أصالة، الكلام في التعقيب على الساعة.. أما سورة يونس فالكلام أصلاً عن سعة علم الله عز وجل، وبيان مقدار إحاطة هذا العلم بكل شيء.. وسياق إحاطة علم الله بكل شيء هو الذي يقتضي التوكيد، والإتيان بـ( من ) الاستغراقية.
هذا ملخَّص لما أجاب به الدكتور فاضل، وقد سبق أن ذكرت في الفقرة الأولى من هذا المقال أن الغرض من نفي العزوب عن الله جل وعلا في الآيتين هو إقامة الدليل على إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، من الكليات والجزئيات، على سبيل الاستغراق والشمول، وأنه ما من شيء في هذا الكون إلا وواقع في دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته سبحانه. فلو كان سبب نفي العزوب في آية يونس بـ{ ما } أنها جاءت لبيان مقدار إحاطة علم الله بكل شيء، وسعة ذلك العلم، لوجب أن ينفى العزوب في آية سبأ بـ{ ما } أيضًا، كما نفي بها في آية يونس. ولوجب أن تؤكد آية سبأ بـ{ من } الاستغراقية، كما أكدت سورة يونس بها.
وإذا كان التركيز الأكبر في سورة يونس على قضية العقيدة والوحي، وإنكار المشركين له، فإن التركيز الأكبر في سورة سبأ على قضية البعث والجزاء، وعلى إحاطة علم الله تعالى وشموله، ودقته ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى، وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث والجزاء ورد قوله تعالى:? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ?(سبأ: 3) ، وقوله تعالى:? لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ?(سبأ: 4)(1/256)
وعن قضية العلم الإلهي الشامل ورد قوله تعالى في مطلع السورة:? يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ?(سبأ: 2). وورد قوله تعالى تعقيبًا على التكذيب بمجيء الساعة:? عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ.. ?(سبأ: 3). وورد قوله قرب ختام السورة:? قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ?(سبأ: 48).
فكيف يقال بعد هذا:” آية سبأ ليس الكلام فيها عن علم الغيب أصالة. الكلام في التعقيب على الساعة.. أما سورة يونس فالكلام أصلًا عن سعة علم الله عز وجل، وبيان مقدار إحاطة هذا العلم بكل شيء.. فسياق إحاطة علم الله بكل شيء هو الذي يقتضي التوكيد، والإتيان بـ( من ) الاستغراقية “ ؟!
أليس الكلام على الساعة هو من الكلام على الغيب، والعلم بها من العلم بالغيب ؟! ألم يأت نفي العزوب في آية سبأ:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? عقب قوله تعالى:? عَالِمِ الْغَيْبِ ?(سبأ: 3). ثم ألم تأت هذه الآية عقب قوله تعالى:? يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ?(سبأ: 2). ألا يدل ذلك كله على أن السياق في سورة سبأ هو سياق إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، على سبيل الاستغراق والشمول ؟!(1/257)
وأما القول بأن { لا } مطلقة، تكون للاستقبال، وقد تكون للحال، وأن { ما } تكون للحال، فهو قول جمهور النحاة والمفسرين. وكان الزمخشري، ومعظم المتأخرين قد نصّوا على أن { ما }، إذا دخلت على المضارع، أخلصته للحال، وأن { لا }، إذا دخلت عليه، أخلصته للاستقبال، وهو ظاهر قول سيبويه في ( باب نفي الفعل ) من كتابه:” إذا قال: هو يفعل. أي: هو في حال فعل، فإنَّ نفيه: ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعًا، فنفيه: لا يفعل. وإذا قال: ليفعلنَّ، فنفيه: لا يفعل؛ كأنه قال: والَّله ليفعلنَّ، فقلت: والَّله لا يفعل “.
وذهب الأخفش، والمبرد، وتبعهما ابن مالك إلى أن ذلك ليس بلازم؛ بل قد يكون المنفي بـ{ لا } للحال؛ كقولهم:{ جاء زيد لا يتكلم }. وعلى ذلك حملوا آيات؛ منها قول سليمان عليه السلام:? وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ?(النمل: 20).. وذهب ابن مالك إلى أن المنفي بـ{ ما } قد يكون مستقبلاً على قلة؛ كقوله تعالى آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:? قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي ?(يونس:15).
وأجيب عن الجمهور بأنهم إنما جعلوا{ ما } مخلصة للحال، و{ لا } مخلصة للاستقبال، إذا لم يوجد قرينة غيرها، تدل على غير ذلك. وأجيب عن سيبويه بأنه إنما نبَّه إلى الأوْلى، في رأيه، والأكثر في الاستعمال.(1/258)
وتحقيق القول في هذه المسألة أن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال، أو الاستقبال، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده بأحدهما، وتقصره عليه؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع؛ لأنه موضوع لما هو كائن، لم ينقطع. ويستوي في ذلك المثبت، والمنفي فإذا قلت:{ فلان يعطي، ويمنع }، فمعناه: أنه في حالة عطاء، ومنع دائمين مستمرين، غير منقطعين. وإذا قلت في النفي:{ ما يعطي، ولا يمنع }، دل على دوام نفي العطاء والمنع واستمرارهما، بلا انقطاع. ولا فرق في ذلك بين المنفيِّ بـ{ ما }، والمنفيِّ بـ{ لا }.
تأمل قوله تعالى:? وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ?(المدّثر: 3)، كيف نفى سبحانه العلم بجنوده عن مخلوقاته بـ{ ما }، وأثبته لنفسه سبحانه على سبيل الحصر. ثم تأمل قوله تعالى في آية أخرى:? قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ?(النمل: 65)، كيف نفى سبحانه العلم بالغيب عن مخلوقاته بـ{ لا }، وأثبته لنفسه سبحانه على سبيل الحصر. ثم استأنف تعالى قوله:? وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ?(النمل: 65)، فنفى سبحانه عن الكافرين، أو معبوداتهم شعورهم بوقت بعثهم بـ{ ما }.
ولما كان بناء الماضي المثبت لا يدل بصيغته على الديمومة والاستمرار، عُدِلَ عن منفيه إلى المضارع المنفي، في نحو قوله تعالى:? وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ?(الأنفال: 21). أي: لا تكونوا كالذين يدَّعون السماع، وهم لا يسمعون.
قال أبو حيان:” وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة؛ إذ لم تأتِ{ وهم ما سمعوا }؛ لأن لفظ المضيِّ لا يدل على استمرار الحال، ولا ديمومته، بخلاف نفي المضارع. فكما يدل إثباته على الديمومة في قولهم:{ هو يعطي، ويمنع }، كذلك يجيء نفيه “.(1/259)
وأما قوله عقب ذلك:” وجاء حرف النفي { لا }؛ لأنها أوسع في نفي المضارع من { ما }، وأدلُّ على انتفاء السماع في المستقبل “ فليس كما قال؛ لأن { لا }، وإن كانت أوسعَ من { ما } في نفي المضارع، وأدلَّ على انتفاء السماع في المستقبل، فإن المراد من الآية نفي السماع عنهم على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع. وإذا كان كذلك، فليس من فرق بين نفي المضارع بـ{ ما }، وبين نفيه بـ{ لا }.
وقد كان من حقِّ النفي في قوله تعالى:? وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ? أن يأتي بـ{ ما }، فيقال:{ وهم ما يسمعون }؛ لأنه من مواضعها، فهو جواب عن دعوى، وهو قولهم:? قَالُواْ سَمِعْنَا ?. أي: ادَّعوا السماع؛ ولكن عدل عنه إلى{ لا }؛ لأن هذه تدل على شمول النفي، واستغراقه لكل جزء من أجزاء الزمن بدون قرينة تصحبها، خلافًا لـ{ ما }، فإنها لا تدل على الشمول والاستغراق إلا بوجود قرينة؛ كأن يقال مثلاً:{ وهم ما يسمعون من شيء }.. فتأمل.
وقد اجتمع النفي، والإثبات في قوله تعالى:? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ?(البقرة: 185). فالأول يدل على إثبات الإرادة في الحالة الدائمة المستمرة ، التي لا تتقيَّد بزمن معيَّن، والثاني يدل على نفيها في الحالة نفسها. قال أبو حيان في تعقيبه على هذه الآية:” قالوا:{ يريد }- هنا- بمعنى:{ أراد }، فهو مضارع أريد به المُضيُّ. والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا؛ لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن، لم ينقطع “.
وما قيل في:{ يريد }، يقال مثله في:{ لا يريد }، وفي:{ ما أريد }، من قوله تعالى:? مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ?(الذاريات: 57). أي: ما أريد منهم عطاءً أنتفع به، ولا أن يطعمون فأنتفع بإطعامهم.(1/260)
وجاء نفي الإرادة الأولى بـ{ ما }؛ لأن الآية مستأنفة. والاستئناف هو ابتداء كلام آخر، مبيِّن لما قبله ومؤكِّد له، فحكمه حكم الابتداء. و{ ما } النافية لها صدر الكلام مطلقًا بإجماع البصريين، بخلاف { لا }؛ فإنها لا تقع في صدر الكلام إلا في جواب القسم. وأما الإرادة الثانية فجاء نفيها بـ{ ما }؛ لأنها معطوفة مع ما بعدها على ما قبلها. وإنما جاز ذلك؛ لأن الفاعل واحد في المعطوف، والمعطوف عليه. ولولا ذلك، لوجب العطف بـ{ لا }؛ كأن يقال:{ وما أريد منكم... ولا تريدون مني }. وعلى هذا جاء النفي في قوله تعالى:
? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ.. ?(يونس: 61).
فقوله تعالى:? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ? كلام مستأنف، وهو عبارة عن خطابين للرسول صلى الله عليه وسلم: الأول منهما عام بجميع شؤونه عليه الصلاة والسلام. والثاني منهما خاص؛ لكنه مندرج تحت عموم الأول. وإنما خُصَّ من العموم؛ لأن القرآن الكريم هو أعظم شؤونه عليه الصلاة والسلام. والغرض منهما بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان- عليه الصلاة والسلام- عليها في الماضي، والحاضر، والتي يكون عليها في المستقبل؛ ولهذا عطف الثاني على الأول بـ{ ما }.
ومثلهما في ذلك قوله تعالى:? وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ? إلا أن الخطاب به عام، يشمل أهل الأرض جميعهم، ويدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون دخولاً أوليًّا. والغرض منه بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان أهل الأرض عليها في الماضي والحاضر، والتي يكونون عليها في المستقبل.(1/261)
ولأجل ما تقدَّم من نفي الديمومة والاستمرار في الأفعال الثلاثة السابقة، على سبيل الاستغراق والشمول، صيغت تلك الأفعال بصيغ المضارع المنفي، فعمَّ النفي فيها كل جزء من أجزاء الزمن، دون قيد يقيِّده بزمن معيَّن. ويدلك على ذلك الاستثناء في قوله تعالى:? إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ? فهو استثناء مفرغ من عموم الأحوال، التي اقتضاها عموم الشأن، وعموم التلاوة، وعموم العمل. والمراد: أنه تعالى شاهد- أي: رقيب- على أهل الأرض جميعهم بما كان منهم، وبما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع، يحصي عليهم أعمالهم؛ وكأنه قيل:{ وما كنت وتكون في شأن، وما تلوت، وما تتلو فيه من قرآن، وما عملتم، وما تعملون من عمل؛ إذ أفضتم وتفيضون فيه، إلا كنا عليكم شهودًا }.
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث، المتعلقة بتلك الأفعال، والواقعة في سياق النفي، أن ما حصل في الماضي، وما يحصل في الحال، والمستقبل من تلك الأفعال سواء، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز.
ولما كان قوله تعالى:? إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ? فيه تحذير وتنبيه، عدل عن خطاب الخصوص في قوله:? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ? إلى خطاب العموم بقوله:? وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ?، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به، فعبَّر في مقام الخصوص في الأول بالشأن؛ لأن عمل العظيم عظيم، وعبَّر في مقام العموم في الثاني بالعمل العام للعظيم والحقير.
ثم واجه تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالخطاب وحده بقوله:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ.. ?، تشريفًا له وتعظيمًا. وجاء به منفيًّا بـ{ ما } على سبيل الاستغراق والشمول؛ لأنه استئناف مبيِّن لما قبله ومؤكِّد له.(1/262)
وقد كان من آثار اختلاف هذا الخطاب خصوصًا وعمومًا، ثم خصوصًا، اختلاف النفي بـ{ ما } في الفعلين:{ ما تكون، وما تتلو }، وبـ{ لا } في الفعل:{ ولا تعملون }، وبـ{ ما } في فعل العزوب:{ وما يعزب }.
وجاء الخطاب في قوله تعالى:{ ولا تعملون } منفيًّا بـ{ لا } بعد الواو العاطفة، دون{ ما }؛ ليدخل فيه الخطابان الأولان. ولو نفي بـ{ ما }، فقيل:{ ما تكون، وما تتلو، وما تعملون }، لكان خطابًا مستأنفًا غير معطوف على ما قبله، وحينئذ لا يصح دخول الخطابين الأولين فيه.
وجاء الخطاب في قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ?؛ لأنه استئناف مؤكِّد لما قبله، خلافًا لمن ذهب إلى أنه معطوف؛ لأنه لا يجوز عطف نفي على آخر إلا بـ{ لا }. ولو كان معطوفًا، لوجب أن يقال:{ ولا يعزب عن ربك من مثقال ذرة }؛ كما قيل قبله:? وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ?. ولما جاء منفيًّا بـ{ ما }، علم أن المراد به الاستئناف، خلافًا لقوله تعالى في آية سبأ:? عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:? عَالِمِ الْغَيْبِ ? جاء تعقيبًا على جملة القسم:? قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ?؛ ليعلم الناس جميعًا أن إتيان الساعة من الغيب، الذي تفرَّد به الله، الذي يعلم ببواطن الأمور دقيقها وجليلها. فقوله تعالى:? قُلْ بَلَى ? رد لقولهم:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?، وإثبات لما نفوه. وقوله تعالى:? وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? تكرير لإِيجابه، مؤكَّدًا بالقسم، مقرِّرًا لوصف المقسم به بصفات تقرِّر إمكانه، وتنفي استبعاده؛ وكأنه قيل:
{ قل، وربي، العالم بوقت قيامها، لتأتينكم، لا يعزب عنه مثقال ذرة }(1/263)
فقوله تعالى:? عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? هو من جملة الردِّ على قولهم:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?؛ ولهذا جاء منفيًّا بـ{ لا }؛ لأن من مواضع { لا }- على ما سيأتي- أن تكون ردًّا على كلام سابق.
والفرق بين:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?، و ? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?: أن الأول نفي لإتيان الساعة في المستقبل؛ لأنه مقيَّد بقرينة تدل على ذلك، وهي أنهم أخبروا عن إتيان الساعة في المستقبل؛ لأن إتيانها لا يكون في الحال. وأما الثاني فهو نفي للعزوب في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنه مطلق، لم يقيَّد بقرينة تدل على حصره في زمن معيَّن.
فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا فرق بين قوله تعالى:? مَا يَعْزُبُ ?، وقوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ ?، من حيث دلالة كل منهما على دوام نفي العزوب واستمراره، على سبيل الاستغراق والشمول، دون قيد يقيِّده بزمن معيَّن.
وأما القول بأن { مَا يَعْزُبُ } هو نفي للعزوب في الحاضر بدليل نفيه بـ{ ما }، وأن { لَا يَعْزُبُ } هو نفي للعزوب في المستقبل بدليل نفيه بـ{ لا }، فهو قول فاسد؛ لأنه يلزم من كل منهما نفي العزوب عن الله سبحانه في زمن، وإثباته له سبحانه في زمن آخر، وهذا باطل.
ومن هنا لا يصح حصر النفي الأول في الحال، والثاني في الاستقبال، إلا بوجود قرينة تقيِّده بأحدهما؛ كأن يقال:{ ما يعزب الآن، ولا يعزب غدًا }. أما إذا قيل:{ ما يعزب، ولا يعزب }، على الإطلاق، فليس للنفي فيهما من دلالة سوى نفي العزوب على الدوام والاستمرار دون قيد.
وإلى نحو هذا أشار الزركشي بقوله:” وقد يُنفَى المضارع مُرادًا به نَفْيُ الدوام؛ كقوله تعالى:? عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? “. ثم قال في معرض حديثه عن{ لا }:” وقيل يُنفَى بها الحاضر على التشبيه بـ{ ما }؛ كقولك في جواب من قال:{ زيد يكتب الآن: لا يكتب } “.(1/264)
ففرَّق بين نفي الدوام، الذي لا يتقيَّد بزمن معيَّن، وبين نفي الحاضر، فالأول مطلق، والثاني مقيَّد. وبذلك يعلم أن أداة النفي ليست بقرينة على معنى الزمن؛ لأن ذلك ليس من وظائفها، وإنما هو من وظائف القرائن اللفظية والمعنوية، التي تصحب الفعل؛ ولهذا تسمَّى قيودًا على الفعل؛ لأنها هي التي تحدِّد علاقته بالزمان.
تأمل قوله تعالى:? تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ?(إبراهيم: 25)، كيف قيَّد إتيان الشجرة أُكُلَها بالظرف { كل حين }. ولو قيل:{ تؤتي أكلها } على الإطلاق، لدل ذلك على أن هذه الشجرة تؤتي أكلها على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع، وهو خلاف المراد.
ثم تأمل قوله تعالى في سورة الجن:? وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ?(الجن: 9)، كيف قيَّد الجن استماعهم بالظرف { الآن }، فدل على الحال، رغم تعليقه بأداة الشرط. ولو قيل:{ فمن لا يستمع الآن، لا يجد له شهابًا رصدًا }، لما كان بينه، وبين الإثبات فرق، من حيث دلالة كل منهما على الحال.
وأما من ذهب إلى أن { الآن } معناه هنا: القرب مجازًا، فيصح مع الماضي والمستقبل. أو أنه ظرف للحال، واتُّسِع فيه، فاستعمل للاستقبال، فليس بشيء؛ لأن قولهم:? فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ ? نصٌّ على الاستماع في الحال، بدليل قولهم قبله:? وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ?. وكذلك قوله تعالى:? فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ?(البقرة: 187) هو أمر بمباشرة الفعل في الحال، وإن كان مستقبلاً؛ ولهذا عقَّب تعالى عليه بقوله:? وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ?(البقرة: 187).(1/265)
وأما قول سليمان عليه السلام:? مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ?(النمل: 20) فإنه يدل على نفي الرؤية في الحال؛ لأن المراد: ما لي لا أرى الهدهد الآن. بدليل قوله تعالى قبله:? وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ ?(النمل: 20). ودلالته على الحال ليست بمستفادة- على ما قيل- من أداة النفي{ لا }؛ بل هو مستفاد مما تضمنه قوله:{ ما لي لا أَرَى } ؟ من الدلالة على الحال. فهو استفهام عن شيء، حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد. والمعنى: أغاب عني الآن، فلم أره في حالة التفقد ؟
ونحو ذلك قول صاحب ياسين:? وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ?(يس: 22). أي: وما لي لا أعبد الآن الذي فطرني ؟ أي: لا شيء يمنعني من ذلك؛ وكأنه يرد بذلك على قومه، الذين أنكروا عليه عبادته للذي فطره؛ لأن صيغة:{ ما لي لا أفعل } ؟ صيغة استفهام إنكاري، يوردها المتكلم في الردِّ على من أنكر عليه فعلاً. أو ملكه العجب من فعله؛ كما في آية الهدهد.
ونحو ذلك قوله تعالى آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:? قُُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ?(الكافرون: 1- 2). أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، بدليل مقابلته بقوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?(الكافرون: 3).(1/266)
ولما كان أكثر النحاة والمفسرين على القول بأن { ما } لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، فسَّر الزمخشري قوله تعالى:? وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ?(الحجر: 11) على أنه حكاية حال ماضية، وفسَّره الألوسي على أن المراد به الاستقبال، مع أن دلالته على دوام النفي واستمراره ظاهرة، بدليل قوله تعالى:? إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ?؛ فإنه يدل على تكرر ذلك منهم، وأنه سنتهم، وسجيَّة لهم. فقوله:{ كَانُواْ } دل على أنه سنتهم، وسجية لهم، وقوله:{ يَسْتَهْزِئُونَ } دل على تكرره منهم. والمعنى: ما يأتيهم من رسول في حال من الأحوال، وزمن من الأزمان، إلا كانوا مستهزئين به لاهين عنه.
نخلص مما تقدم إلى أن نفي العزوب في قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ?، وقوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ? لا يدل على الحال، والاستقبال، إلا بوجود قرينة تقيِّده بأحد الزمانين. ولما كانت هذه القرينة غير موجودة، كانت دلالة نفي العزوب في الآيتين على الدوام والاستمرار، على سبيل الاستغراق والشمول هي المرادة، ولا ينبغي لأحد العدول عنها إلى غيرها إلا بوجود قرينة. وأنه ليس من فرق بين نفيه بـ{ ما }، ونفيه بـ{ لا }، وإن كانت الثانية- على ما يقال- أرسخ قدمًا في النفي من الأولى، وأوسع منها في نفي المضارع، وأدلَّ على انتفائه في المستقبل.
وإذا ثبت ذلك، فالسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا: متى ينفى بـ{ ما }، ومتى ينفى بـ{ لا } ؟ والجواب عن ذلك يكون بمعرفة ما بين الأداتين من فرق في الاستعمال. ويبدو هذا الفرق من وجوه:(1/267)
الوجه الأول: أن { ما } تكون جوابًا عن دعوى، وأن { لا } تكون جوابًا عن استفهام، وهذه تحذَف الجمل بعدها كثيرًا، بخلاف الأولى. يقال لك:{ أتقول كذا } ؟ فتجيب بقولك:{ لا }. والأصل:{ لا، أقول }، فتذكر أداة النفي مستغنيًا بها عن الفعل. وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:? يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ?(الأعراف: 187).
فقوله تعالى:? لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ? جملة مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة؛ فهو من جملة الجواب عن سؤالهم عن وقت مجيء الساعة ولهذا جاء منفيًّا بـ{ لا }.
ويقال لك:{ فلان يقول كذا }. أي: يدِّعي أنه يقول كذا، فيكون الجواب:{ ما يقول }. ولا يجوز أن تجيب بقولك:{ لا أقول }. وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:? وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ?(الجاثية: 32).
فأجابوا بقولهم:? مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ?؛ لأنهم اعتبروا قوله تعالى:? وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا ? مجرد ادعاء، لا صحَّة له، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا !
والوجه الثاني: أن { لا } تكون ردًّا لكلام سابق؛ لأنه ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، فيقال لمن أثبت لزيد قيامًا، فقال:{ يقوم زيد }، يقال له:{ لا }. أي:{ لا، يقوم }، فيوقف عليها كما يوقف عليها في جواب السؤال، ثم يستأنف الكلام بعدها. ولا يجوز ذلك في { ما }؛ لأنه لا ينفى بـ{ ما } أبدًا إلا ما بعدها. تأمل قوله تعالى:
? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ?(النساء: 65)(1/268)
كيف جاءت { لا } بعد الفاء ردًّا لكلام سبق. أي: فلا يكون الأمر كما زعموا أنهم يؤمنون. ثم استؤنف القسم بعدها بقوله تعالى:? وَرَبِّكَ ?، وأجيب عنه بقوله:? لاَ يُؤْمِنُونَ ?. ولا يجوز أن يقال:{ فما، وربك لا يؤمنون }، للسبب الذي تقدم ذكره.
ومما يحمل على ذلك قول عمر رضي الله عنه، وقد أفطر يومًا في رمضان، فظن أن الشمس قد غربت، ثم طلعت: ” لا، نقضيه ما تجانفنا الإثم فيه “؛ وذلك أن قائلاً قال له: قد أثمنا، فقال: لا، نقضيه. فقوله:{ لا } ردٌّ لكلامه:{ قد أثمنا }، ثم استأنف فقال:{ نقضيه }.
ونحو ذلك قوله تعالى:? لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? تأمل كيف نفى عليه الصلاة والسلام عبادة ما يعبد المشركون بـ{ لا }، ولم ينفه بـ{ ما }، مع أنه يريد نفي العبادة في الحاضر. والمعنى: لا أعبد الآن ما تعبدون. والسر في ذلك أن { لا } ردٌّ لما قبلها؛ ألا ترى أنهم قالوا:” يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم: ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ?، إلى آخر السورة ؟
والوجه الثالث: أن { لا } ينفَى بها الجنس على سبيل الاستغراق والشمول؛ سواء كان المنفي اسمًا؛ كقوله تعالى:? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ?(البقرة:2)، أم كان فعلاً؛ كقوله تعالى:? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ?(الأنعام: 103)، وقوله تعالى:? لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ?(الإسراء: 88)، وقوله تعالى:? وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ?(الجمعة: 7)، وقوله تعالى:? إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ?(آل عمران: 5).(1/269)
تأمل كيف جاء النفْيُ في ذلك كله بـ{ لا } نفيًا دائمًا على سبيل الاستغراق والشمول. ومثله في ذلك قوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?.
وأما { ما } فيحتمل النفي بها استغراق الجنس كله، ويحتمل نفي فرد واحد من أفراده؛ ولهذا يجوز أن تقول:{ ما يوجد في الدار رجل، بل رجلين }، ولا يجوز ذلك في { لا }. فإذا أريد نفي الجنس بـ{ ما } على سبيل الاستغراق والشمول، وجب أن تصحبها { من } الاستغراقيَّة، فتقول:{ ما يوجد من رجل في الدار }؛ ونحو ذلك قوله تعالى:? وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ?(فاطر: 13). ومثله قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ?. ومن هنا يخطىء كل من يقول بزيادة { من } في هذه الآية، ونحوها، كما يخطىء كل من يقول: إن قوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?، ونحوه لا يفيد معنى الاستغراق.
بقي أن تعلم أن الفرق بين قول الذين كفروا:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?(سبأ: 3)، وقولهم:? مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ? ؟ هو أن الأول قالوه على سبيل القطع والجزم؛ إما جهلاً، وإما تعنُّتًا. وأما الثاني فقالوه على سبيل الظن، بدليل تعقيبهم عليه بقولهم:? إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ?(الجاثية: 32).
والوجه الرابع: إذا كان الكلام منفيًّا بـ{ ما }، أو بـ{ لا }، وعطف عليه كلام آخر، وجب أن يكون المعطوف منفيًّا بـ{ لا }، إلا إذا كان الفاعل في المعطوف والمعطوف عليه واحدًا، أو كان المعطوف من جنس المعطوف عليه. ومثال الأول ما تقدم من قوله تعالى::? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ?(يونس: 61).(1/270)
ومثال الثاني قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ?، وقوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ?. فعطف قوله:? وَلاَ فِي السَّمَاء ?، وقوله:? وَلَا فِي الْأَرْضِ ? على ما قبلهما.
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن { لا }- هذه- جيء بها بعد الواو العاطفة زائدة، توكيدًا للنفي، وهي ليست كذلك؛ لأنه لو قيل:
{ ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، والسماء }، بدون { لا }، احتمل أن يكون المراد: نفيُ العزوب عنه سبحانه في كل من الأرض، والسماء على كل حال. أو نفيه عنه سبحانه في أحداهما، دون الأخرى. فلما جيء بـ{ لا } بعد الواو العاطفة، صار الكلام نصًّا في المعنى الأول، ولم يبق للاحتمال الثاني أيُّ جود.
ومثلهما في ذلك قوله تعالى:? وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(الأنعام: 59). وقوله تعالى:? لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ?(البقرة: 255).
رابعًا- وممَّا يسأل عنه أيضًا في هاتين الآيتين: لمَ قدِّم لفظ { الأرض } على لفظ { السماء } في قوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ?، وأخِّر عن لفظ { السموات } في قوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ? ؟(1/271)
ويجاب عن ذلك بأن حق { السماء } أن تقدم على { الأرض }؛ إلا أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى شهادته على أحوال أهل الأرض، وأعمالهم بقوله:? وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ?، وأعمالهم إنما تكون في الأرض، ثم وصل بذلك قوله سبحانه:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ?، ناسب ذلك كله تقديم لفظ ? الْأَرْضِ ? على لفظ ? السَّمَاءِ ?. وهذا بخلاف الآية الثانية؛ إذ قدِّم فيها لفظ ? السَّمَاوَاتِ ? على لفظ ? الْأَرْضِ ?؛ لأنها تنتظم في سياق علم الغيب.
وفي الحكمة من ذلك قال ابن قيِّم الجوزيَّة:” وأما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى؛ وهو أن السموات والأرض تذكر غالبًا في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته وربوبيته.. وأما تقديم الأرض عليها في قوله:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ?، وتأخيرها عنها في ( سبأ )، فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في ( سبأ ) في ضمن قول الكفار:? لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ?، كيف قدم السموات هنا؛ لأن الساعة إنما تأتي من قبلها، وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ وتنشأ. وأما تقديم الأرض على السماء، في سورة ( يونس ) فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر، وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيء، اقتضى ذلك ذكر محلهم، وهو الأرض قبل ذكر السماء “.(1/272)
خامسًا- ولما ذكر تعالى أنه ما يعزب، ولا يعزب عنه أدق الأشياء، التي لا يعرف المخاطبون أصغر منها، وهي الذرة، بدأ سبحانه وتعالى بذكرها أولاً، ثم أبان لهم بالعطف عليها أنه يوجد ما هو أصغر منها. وهنا ينطلق الذهن في المصغرات إلى مقدار، يستحيل عليه تصوره. ثم عطف عليه بعد ذلك ما هو أكبر. وهنا ينطلق الذهن إلى الأشياء الكبيرة العظيمة، التي لا يستطيع التصور الإحاطة بها، فشمل النص كل شيء. ومعلوم أن من علم أدق الأشياء وأخفاها، كان علمه متعلقًا بأكبر الأشياء وأظهرها.
وقرأ الجمهور:? وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?، بفتح الراء في { أصغرَ }، و{ أكبرَ }، عطفًا على ? مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ?، باعتبار لفظه؛ إلا أن لفظهما غير منصرف، فكان مفتوحًا.
وقرأ حمزة:? وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ ?، بضم الراء فيهما، عطفًا على ? مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ?، باعتبار محله؛ لأنه فاعل. ونظيره على القراءتين قولك:{ ما أتاني من أحد عاقلٌ، وعاقلٍ }، بضم اللام في عاقل، وكسرها. وكذا قوله تعالى:? مَالَكُمْ مّنْ إلهٍ غَيْرُهُ ?(الأعراف:59)، بضمِّ الراء في غيره، وكسرها.
ويقوي العطفَ على القراءتين أنه لم يقرأ في قوله تعالى:? لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?، إلا بالضم.
وقيل: لو صح هذا العطف، لصار تقدير هذه الآية: وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا أصغرَ من ذلك وأكبرَ، إلا في كتاب فيعزب، وحينئذ يلزم أن يكون الشيء، الذي في الكتاب، خارجًا عن علم الله تعالى، وهذا مشكل.(1/273)
ولهذا ذهب الزمخشري تابعًا لاختيار الزجاج إلى أن قوله تعالى:? وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ? جملة مستقلة عما قبلها، وليست معطوفة عليه. والوجه النصب على نفي الجنس، والوجه الرفع على الابتداء. والخبر على الوجهين:? فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?.
ويرد على ذلك بنحو قوله تعالى:? وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?(الأنعام: 95)؛ إذ لا يمكن أن يحمل ذلك على نفي الجنس.
أما الجرجاني فقد ذهب إلى أن الكلام قد تمَّ وانقطع عند قوله تعالى:? وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ ?، ثم وقع الابتداء بكلام آخر؛ وهو قوله:? إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ?. أي: وهو أيضًا في كتاب مبين. قال: والعرب تضع { إلا } موضع { واو النسق } كثيرًا، على معنى الابتداء “.
وهذا الوجه- على ما قال الرازي- في غاية التعسف. والإنصاف- على ما قال الألوسي- أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك، ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء { إلا } بمعنى:{ الواو }.
وأجاب بعضهم بأن الإشكال في الآية الكريمة إنما يكون على تقدير اتصال الاستثناء، وأما على تقدير انقطاعه، فيصير التقدير:{ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر؛ لكن هو في كتاب مبين }. وبهذا التقدير يزول الإشكال، وإليه ذهب أبو البقاء العكبري.(1/274)
وأجاب بعضهم الآخر على تقدير اتصال الاستثناء بأنه على حدِّ قوله تعالى:? لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ?(الدخان: 56). فالمعنى: لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح، الذي هو محل صور معلوماته، تعالى شأنه، بناء على تفسير الكتاب المبين به. أو: إلا ما في علمه، بناء على تفسير الكتاب المبين بالعلم. فإن عُدَّ ذلك من العزوب، فهو عازب عن علمه. وظاهرٌ أنه ليس من العزوب قطعًا، فلا يعزب عن علمه شيء قطعًا.
ونقل عن بعض المحققين قوله في دفع هذا الإشكال بأن العزوب عبارة عن مطلق البعد، وأن الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير وساطة؛ كالملائكة والسموات والأرض. وقسم آخر أوجده الله تعالى بوساطة القسم الأول؛ مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون.. ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود. فالمعنى: ما يبعد عن مرتبة وجوده من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا وهو في كتاب مبين، وهو كتاب كتبه الله تعالى، وأثبت صور تلك المعلومات فيه. ومتى كان الأمر كذلك، فقد كان عالمًا بها، محيطًا بأحوالها.
وإثبات العزوب بمعنى: البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد- على ما قال الألوسي- لا محذور فيه، وهو وجه دقيق، إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء، وإن خالف ما هم عليه في الجملة.. ويؤيده أن سورة ( سبأ ) جاءت مستهلة بالحمد لله تعالى على نعمة الإيجاد الثاني، وهو البعث.
وذكر المفسرون أجوبة أخرى غير التي ذكرتها، لا تخلو من التكلف. ويبدو مما تقدم أن أقل الأقوال تكلفًا على ما قال الألوسي:” القول بانقطاع الاستثناء في الآية، وأجلها قدرًا، وأدقها سرًّا القول باتصاله، وإخراج الكلام مخرج قوله تعالى:
? وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ?(النساء: 23)(1/275)
ونظائره الكثيرة، نثرًا ونظمًا، ولا عيب فيه، إلا أن الآية عليه أبلغ، فليفهم“.
وقال ابن عاشور:” وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة، وأصغرَ منها وأكبرَ. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى: لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، إلا في حال كونه في كتاب مبين. أي: إلا معلومًا مكتوبًا. ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين، لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني “.
فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله تعالى، وأن مخلوقًا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذه الحكم والأسرار أبدًا !
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة الكافرون
قال الله جل وعلا:? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?(الكافرون: 1- 6).(1/276)
أولاً- لم يكن العرب في جاهليتهم الأولى يجحدون الله تعالى؛ ولكنهم كانوا لا يعرفونه بحقيقته، التي وصف بها نفسه، والتي عرفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؛ ولهذا كانوا يشركون به آلهتهم في العبادة، وكانوا لا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. لقد كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وأنه الخالق للسموات والأرض، والخالق لذواتهم؛ ولكنهم مع إيمانهم به، كان الشرك يفسد عليهم تصورهم؛ كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم. وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية؛ لأن اليهود كانوا يقولون: عزيرٌ ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن، على اعتبار قرابتهم من الله- على حدِّ زعمهم- فكانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقاً؛ لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب من نسبة عزير وعيسى.. وكله شرك، وليس في الشرك خيار.
ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول:? إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?(الأنعام: 161)، قالوا: نحن على دين إبراهيم، فما حاجتنا- إذًا- إلى ترك ما نحن عليه، واتباع محمد ؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطًا بينهم، وبينه، فعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه، وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط !(1/277)
ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بوجود الله مع عبادة آلهة أخرى معه، كان يشعرهم أن المسافة بينهم، وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية؛ كما يفعلون في التجارة تمامًا. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا. وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق؛ وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان- جاهلية الأمس، وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء- إن الهوة بينها، وبين الإسلام لا تُعْبَرُ، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة، ولا صلة، ولا مساومة؛ وإنما هو النضال الكامل، الذي يستحيل فيه التوفيق بين الحق، والباطل !(1/278)
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يساوم فيه المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، ويدهنون له؛ ليدهن لهم ويلين، كما يودون، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه؛ ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يساوم فيه، ولا يدهن، ولا يلين، حتى وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون، ويعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الطغاة المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب، أو من بعيد، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرُّهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه؛ حيث يقول له سبحانه:? فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ?(القلم: 8) !
وروى ابن اسحق في سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال:” اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة- فيما بلغني- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم:
? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?(1/279)
وهكذا بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، نزلت هذه السورة الكريمة؛ لتحسم كل شبهة واهية، وتقطع الطريق على كل محاولة رخيصة، ومساومة مضحكة، وتفصل فصلاً حاسمًا بين عبادة الحق وعبادة الباطل، وتفرق نهائيًاً بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل، ولا كثير.
ثانيًا- وافتتاح السورة الكريمة بهذا الأمر الإلهي الحاسم:? قُلْ ?، لإِظهار العناية بما بعد القول، وهو افتتاح موح بأن أمر هذه العقيدة هو أمر الله تعالى وحده، ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ إنما هو الله الآمر، الذي لا مردَّ لأمره، والحاكم، الذي لا رادَّ لحكمه. ? قُلْ ?: ? يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? !
وإنما ابتدىء الخطاب بهذا النداء ? يَا أَيُّهَا ?، الذي يجمع بين نداء النفس، ونداء القلب، ونداء الروح؛ لأن النداء به يستدعي إقبال المنادَى على ما سيلقى عليه، بنفسه، وقلبه، وروحه.
و? الْكَافِرُونَ ? جمع: كافر، صفة فاعل، من: كفر يكفر. وتعريفه للجنس، فيعمُّ كل كافر. والكفر في اللغة: ستر الشئ. ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الارض. وكفْر النعمة وكفْرانها: سترها، بترك أداء شكرها. قال تعالى:? فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ?(الأنبياء: 94).
وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة، أو النبوة. واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر، واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران، والكفور يستعمل فيهما جميعًا. قال تعالى:? فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ?(الإسراء: 99).
وجاء الأمر- هنا- بندائهم بوصف{ الكافرين }:? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ?، وجاء في سورة الزمر بندائهم بوصف{ الجاهلين }:? قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ?(الزمر: 64).(1/280)
وبيانه: أن هذه السورة نزلت فيهم بتمامها، وليس كذلك سورة الزمَر؛ ولهذا كان لا بدَّ من أن تكون المبالغة بالوصف فيها أبلغَ وأشدَّ. ولا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقتهم، وأشدُّ وقعًا عليهم من لفظ { الكافرين }. ثم إنه لا يوجد لفظ أبشع، ولا أشنع من هذا اللفظ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق. قال القرطبي:” قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا:? يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? ! أن يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم:? يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? ! وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر “.
ولكون هذا اللفظ صفة ذمٍّ عند جميع الخلق، ويتضمَّن مع الذمِّ الإهانة، لم يقع الخطاب به في القرآن في غير موضعين، هذا أحدهما، والثاني قوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ?(التحريم: 7).
والفرق بين الوصفين أن ? الَّذِينَ كَفَرُوا ? يحتمل أن يكونوا قد آمنوا، ثم كفروا. أما ? الْكَافِرُونَ ? فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم، ثابتة فيهم، وأنهم ليسوا أصحاب عقيدة، يؤمنون بأنها الحق؛ لأنهم ليسوا على دين، خلافًا لما كانوا يدَّعون من أنهم على دين إبراهيم عليه السلام؛ وإنما هم أصحاب ظواهر، يهمهم أن يستروها؛ لأنهم كافرون، ولا التقاء بين الكفر، والإيمان في طريق.
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاحها بهذا الخطاب، بحقيقة الانفصال، الذي لا يرجَى معه اتصال بين الكفر والإيمان، والحق والباطل !
ولسائل أن يسأل: لمَ جاء خطابهم في قوله تعالى:? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ?، بوساطة الأمر ? قُلْ ?، وجاء بدونه في قوله تعالى:
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ?(التحريم: 7) ؟(1/281)
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب في سورة ( التحريم )؛ إنما هو خطاب لهم يوم القيامة، وهو يوم لا يكون فيه الرسول رسولاً إليهم؛ ولهذا جاء خطابهم بدون وساطة الأمر ? قُلْ ?. ثم إنهم في ذلك اليوم يكونون مطيعين، لا كافرين؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى بقوله:? الَّذِينَ كَفَرُوا ?.
أما الخطاب في سورة ( الكافرون ) فهو خطاب لهم في الدنيا، وأنهم كانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم؛ فلهذا جاء خطابهم بوساطة الأمر ? قُلْ ?. وفي ذلك إشارة إلى أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له، لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرَّأ الله تعالى منه، ويكون هو أيضًا بريئًا من الله تعالى ورسوله.
ثالثًا- وقوله:? لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? جواب للنداء، وهو نفي للحال، ويقابله قوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?. أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم تعبدون الآن ما أعبد أنا.
أما قوله:? وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ? فهو نفي للمستقبل، ويقابله قوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?. أي: ولا أعبد أنا في المستقبل، ما عبدتم أنتم في الماضي. ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد الآن، وفي المستقبل.
وعلى هذا فلا تكرار أصلاً في السورة، خلافًا لمن زعم أن هذا تكرار، الغرض منه التوكيد. وبهذا الذي ذكرت تكون الآيات الكريمة قد استوفت أقسام النفي عن عبادته صلى الله عليه وسلم، وعبادة الكافرين، في الماضي، والحاضر، والمستقبل، بأوجز لفظ، وأخصره، وأبينه.(1/282)
ثم إن في تكرير الأفعال بلفظ الحال والمستقبل، حين أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وتكريرها بلفظ الماضي، حين أخبر عنهم، سرٌّ بديع من أسرار البيان، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ، والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده عليه الصلاة والسلام واحد في الحال، وفي المآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً، ولا يبغي عنه حولاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين، وأغراضهم، فهم بصدَد أن يعبدوا اليوم معبودًا، وغدًا يعبدون غيره.
رابعًا- وقال:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ?، فعبَّر عن معبوده بـ? مَا ? دون ? مَنْ ?؛ لأن المراد التعبير عن معبوده عليه الصلاة والسلام على الإطلاق دون تخصيص؛ لأن امتناعهم عن عبادة الله تعالى ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم كانوا يعبدون الله؛ ولكنهم كانوا جاهلين به؛ ولهذا ناسب إيقاع ? مَا ? عليه دون ? مَنْ ? لمَا في الأولى من دلالة على الإبهام، والوقوع على الجنس العام.
وهذا ما أجاب به الشيخ السهلي رحمه الله، ثم ذكر جوابًا آخر؛ وهو:” أنهم كانوا يشتهون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسدًا له، وأنفة من اتباعه، فهم لا يعبدون معبوده، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه صلى الله عليه وسلم، وشهوة منهم لمخالفته في العبادة، كائنًا ما كان معبوده، وإن لم يكن معبوده إلا الحق سبحانه وتعالى.. فعلى هذا لا يصح في النظم البديع، والمعنى الرفيع إلا ? مَا ?، لإبهامها، ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية “.(1/283)
وأقرب من هذا وذاك- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة-:” هو أن المقصود هنا ذكر المعبود، الموصوف بكونه أهلاً للعبادة، مستحقًا لها، فأتى بـ? مَا ? الدالة على هذا المعنى؛ كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي، الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظ ? مَنْ ?، لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفًا، لا إنه جهة العبادة. ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلاً لأن يعبد تعريف محض، أو وصف مقتض لعبادته.. فتأمله، فإنه بديعٌ جدًّا “.
خامسًا- ومن يتأمل صيغ النفي في السورة الكريمة، يجد أن النفي لم يأت في حق الكافرين إلا بصيغة الفاعل:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ ?. وأما في جهة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء النفي بالفعل المضارع:? لا أَعْبُدُ ? تارة، وبصيغة الفاعل:? وَلا أَنَا عَابِدٌ ? تارة أخرى؛ وذلك- والله أعلم- لنكتة بديعة، وهي أن المقصود الأعظم من ذلك براءته صلى الله عليه وسلم، من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت؛ ولهذا أتى في هذا النفي بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت؛ فأفاد في النفي الأول أن تلك العبادة لا تقع منه أبدًا، وأفاد في النفي الثاني أن تلك العبادة ليست من وصفه، ولا من شأنه؛ فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: عبادة غير الله تعالى لا تكون فعلاً لي، ولا وصفًا من أوصافي، فأتى بنفييْن لمنفيَّين مقصودين بالنفي.
وأما في حق الكافرين فإنما أتى بصيغة الفاعل الدالة على الوصف والثبوت دون الفعل؛ فأفاد ذلك أن الوصف الثابت اللازم، العائد لله تعالى، منتفٍ عن الكافرين؛ لأن هذا الوصف ليس ثابتًا لهم؛ وإنما هو ثابت لمن خصَّ الله تعالى وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيها أحدًا.(1/284)
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:” فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيَّها أنه لا يوصف بأنه عابدٌ لله تعالى، وأنه عَبْدُهُ المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته، وتبتَّل إليه تبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه، وإن عبده وأشرك به غيره، فليس بعابدٍ لله تعالى، ولا عَبْدًا له سبحانه. وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتيْ الإخلاص، والتي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهمًا من عنده.. فلله الحمد والمِنَّة “.
سادسًا- ومن أسرار هذه السورة، التي لا يكاد يُفطَن إليها أن النفي فيها أتى بأداة النفي { لا }، ولم يأت بالأداة { ما }، مع أن نفي الحاضر الدائم والمستمر بـ{ ما } أولى من نفيه بـ{ لا }، وأكثر منه استعمالاً. والسر في ذلك أن { ما } لا ينفى بها في الكلام إلا ما بعدها، وأنها لا تكون إلا جوابًا عن الدعوى. أما { لا } فينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، وأنها تكون جوابًا عن السؤال، وتكون ردًّا لكلام سبق. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن { لا }، إذا نفي بها المضارع، فإنها تدل على نفيه نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن، بدون قرينة تصحبها؛ كقوله تعالى:? عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ?(سبأ: 3). أما { ما } فلا تدل على نفي المضارع على سبيل الاستغراق والشمول إلا بوجود قرينة تصحبها، وهي{ من } الاستغراقية؛ كقوله تعالى:? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ?(يونس: 61).(1/285)
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة قد اشتملت على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها- فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين؛ ولهذا جيء بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:? لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? براءة محضة. وقوله:? وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ? إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ?(الزخرف: 26- 27)، وطابقت قول الفئة الموحِّدين:? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ?(الكهف: 16)، فانتظمت بذلك حقيقة { لا إله إلا الله }.
ولهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة ( قل هو الله أحد )، في سنة الفجر، وسنة المغرب؛ فإن هاتين السورتين ( سورتي الإخلاص ) قد اشتملتا على نوعَيْ التوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:(1/286)
النوع الأول: توحيد العلم والاعتقاد، المتضمِّن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليق به، من الشرك والكفر، والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد، فيكون له مِثْل. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛ فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله من الشريك أصلاً وفرعًا، وشبهًا ومثلاً.. فهذا هو توحيد العلم والاعتقاد.
والنوع الثاني: توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرَك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود. وسورة ( الكافرون ) مشتملة على هذا النوع من نوعيْ التوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعيْ التوحيد، وأخلصتا له.
سابعًا- ومن أسرار هذه السورة العظيمة ما تضمنه قوله تعالى في ختامها من التأكيد:? لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?.
والسؤال هنا: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم ؟ والجواب: أن النفي في الآيات السابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده؛ كما أفاد إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر، الذي هو حظهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، ولي أرضي. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهم فيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيدُ والإيمان، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشركُ بالله تعالى والكفر به، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.(1/287)
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم في هذه الآية على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون في أول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغة وأربابها، وبيان ذلك:
أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد، والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف، والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم، ونداءً على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسم هو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي !
ولهذا كان تقديم قوله تعالى:? لَكُمْ دِينُكُمْ ? على قوله:? وَلِيَ دِينِ ? هنا أبلغ وأحسن؛ وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموه بالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم !!
وذكر ابن قيِّم الجوزيَّة وجهًا آخر، وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من دينهم، ومعبودهم- هذا هو لبُّها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكمِّلاً لبراءته، ومحققًا لها. فلما كان المقصود براءته من دينهم، بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله تعالى:? لَكُمْ دِينُكُمْ ? مطابقًا لهذا المعنى. أي: لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه؛ بل هو دين تختصون به أنتم، فطابق آخر السورة أولها.
فتأمل هذه الأسرار البديعة المعجزة، واللطائف الدقيقة، التي تشهد أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، وأنه الأعلى في الفصاحة، والبلاغة، والبيان !
معجزة الترتيل في بيان المعاني والأحكام
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري(1/288)
القرآن الكريم كتاب الله المعجز يجب أن يقرأ بالوجه المخصوص الذي أنزله الله به.
قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18]
وقال تعالى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزّمِّل: 4]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل).
لذا فإنه يجب علينا أن نقرأ القرآن كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكما قرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على أصحابه بتؤدة واطمئنان وتأن وترسل مع إعطاء الحروف حقها من المخارج والصفات. ومستحقها من المد والغنّة والإظهار والإدغام والإخفاء والتفخيم والترقيق وتجويد الحروف ومعرفة الوقف والابتداء ..الخ.
وفي هذه الدراسة الموجزة يتبين لنا أن قراءة القرآن الكريم وتلاوته طبقاً لما أنزل وحسب أحكام التلاوة تظهر لنا المعاني الحقيقية للنص القرآني بآفاقها الواسعة.. بل إننا يمكن لنا أن نستنتج منها أحكاماً في قضايا معينة.
إن هذا الموضوع يجب أن يهتم به أهل الفكر الإسلامي في كل بقاع الدنيا لأنه يحتاج إلى دراسات وأبحاث مستفيضة..
إنه وجه عظيم من أوجه معجزات القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه.. لا يمكن لفرد أو لأفراد أن يحيطوا بعلمه...
ولكن يجب عليهم المحاولة والتدبر والتفقه.
إن هذه الدراسة الموجزة تعتبر مقدمة أو مدخلاً لهذا الموضوع المذهل وهو بيان معاني وأحكام القرآن الكريم من خلال أحكام التلاوة.
1- أمثلة في بيان المعنى من خلال مد بعض الحروف
إن المد في القراءة لبعض أحرف الكلمة القرآنية يعتبر ظاهرة من ظواهر زيادة أحرفها، وكما سبق أن ذكرنا في هذه الدراسة أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .. لذا فإن ظاهرة المد لبعض حروف كلمات القرآن مدّاً زائداً على المد الأصلي الطبيعي حين التلاوة يدل على تفخيم هذه الكلمة وزيادة معناها ..(1/289)
ونستعرض فيما يلي أمثلة من الكلمات القرآنية التي يجب مدّ بعض حروفها مداً زائداً لنعرف أن هذا المدّ لم يأت عبثاً، وإنما جاء لبيان أهمية هذه الكلمة وأنها تدل على شيء مخصوص وغير عادي .
ومثل هذه الكلمات كثيرة جداً في القرآن الكريم إنما سنذكر بعضها حسب الآتي إنما سنذكر بعضها حسب الآتي:
الطامة: { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [النازعات: 34].
السماء: { وَالسَّمَآءَ بِنَاءً } [البقرة: 22].
جان: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن: 39].
الطائفين: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة: 125].
حينما تنظر إلى هذه الكلمات نجد أن كل منها يدل على لشيء عظيم غير عادي . لذا جاء المد ليزيد المعنى .. وحينما نقارن المدّ في كلمة (الطآمة) بعدم وجوده في كلمة قرآنية أخرى قريبة في المعنى وهي (القارعة) نجد أن عدم وجود المد في القارعة مطلوب بشدة لتحقيق معناها وهو أنها (تقرع) آذان الناس وهو شيء لا يسلتزم زمناً فهو لحظي ليدل على الفجاءة .. ولا يحتاج مدّاً أو مدة ..
كذلك فإننا حينما نتدبر سورة (الكافرون)..
نجد أنه حينما يذكر القرآن (ما تعبدون) و(ما عبدتم) فإنه لا يوجد مدّ على كلمة (ما) للدلالة على تحقير ما يعبدون غير أنه حين يذكر (ما أعبد) وقد جاءت مرتين نجد أنه يوجد مدّ على كلمة (ما) لتدل على عظمة ورفعة ما يعبده الرسول صلى الله عليه وسلم ...
حينما نرجع إلى أحكام التلاوة في المد نجد أن المد قد جاء لأن الحرف الذي تلا المد هو (الهمزة) ..
وهذا الحكم يوضح إعجاز القرآن في اختيار الحروف التي تبدأ بها الكلمات القرآنية لتبين المعنى على أكمل وجه .. كذلك فإننا حينما نتكلم عن المد الجائز المنفصل (مد الصلة الطويلة) وهو المد المتولد من هاء الضمير المكسورة أو المضمومة الواقعة بين متحركين ثانيهما همز نذكر المثالين الآتيين:(1/290)
- { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } [البقرة: 131].
وجاء مد الصلاة الطويلة ليدل على عظمة الرب سبحانه .
- { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91].
جاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة قدر الله سبحانه .
وبالنسبة للمد اللازم المثقل (لوجود التشديد بعد حرف المد) نذكر المثال الآتي:
- { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7].
نجد أن كلمة (الضالين) ممدودة مداً لازماً مثقلاً مقداره ست حركات .. على عكس كلمة (المغضوب عليهم) بدون مد ..
ويدل مدّ كلمة (الضالين) على كثيرة هؤلاء الضالين ووفرتهم وهم (النصارى) وذلك بالمقارنة (بالمغضوب عليهم) وهم اليهود حيث جاءت بدون مد لتدل قلة عددهم..
الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب
ورد في مصحف المدينة النبوية في اصطلاحات الضبط ما يلي: (والقاعدة أن حفصاً عن عاصم يصل كل هاء ضمير للمفرد الغائب بواو لفظية إذا كانت مضمومة .. وياء لفظية إذا كانت مكسورة بشرط أن يتحرك ما قبل هذه الهاء وما بعدها). وقد استثنى من ذلك ما يأتي:
(1) الهاء من لفظ (يرضه) في سورة الزمر فإن حفصاً ضمها بدون صلة .
(2) الهاء من لفظ (أرجه) في سورتي الأعراف والشعراء فإنه سكّنها .
(3) الهاء من لفظ (فألقه) في سورة النمل فإنه سكنها أيضاً .
وحينما نتدبر سبب هذا الاستثناء يتجلى ذلك حين نرجع إلى الآيات الكريمة التي وردت فيها هذه الألفاظ حسب الآتي:
- كلمة (يرضه) وردت في الآية 7 من سورة الزمر: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر: 7] ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بفورية رضا الله عن شكر عباده .(1/291)
- كلمة (أرجه) وردت في الآية 11 من سورة الأعراف والآية رقم 36 من سورة الشعراء عن موسى وهارون عليهما السلام { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بتقليل شأنهما عليهما السلام في نظر ملأ فرعون حيث كانوا يعتبرونهما ساحرين .
- كلمة (فألقه) وردت في الآية 28 من سورة النمل { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ } [النمل: 28] ولم ترد هنا الصلة لتوحي بتقليل شأن قوم سبأ في نظر سليمان عليه السلام وكذلك بطلب سرعة إلقاء الكتاب .
ومن خلال ما سبق تتبين لنا الحكمة في الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب في بعض الآيات القرآنية لتوضح المعنى المراد أجمل وأدق توضيح وبيان .. وأن ترتيل القرآن كما أنزل له فائدة كبرى في توضيح المعاني وإبرازها بجلاء .
2- أمثلة في بيان المعنى من خلال صفات الحروف:
من المعروف في أحكام التلاوة أن لكل حرف مخرجاً يخرج منه وكيفية تميزه في المخرج وهذه الكيفية في صفة الحرف ...
وسنعرض في هذا الموضوع لأمثلة من إعجاز القرآن في مسألة التلاوة والتي تساعد في توضيح المعاني المقصودة ...
حروف الاستعلاء:
حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء ..
وحرف (ص) من حروف الاستعلاء في الارتفاع ..
وحينما نتلو الآيتين الكريمتين التاليتين:
- {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [صـ : 9].
- { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية: 22].
إن كلمة (مصيطر) وكذلك كلمة (المصيطرون) في الأصل تكتب بحروف (س) أي (مسيطر)، (المسيطرون) ولكن حيث أن حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء .. فإنه لن يؤدي المعنى المراد وهو التحكم والسيطرة والقوة والاستعلاء.. لذا جاءت تلاوة القرآن لهذه الكلمة باستخدام حرف (ص) وهو حرف من حروف الاستعلاء .. وذلك ليؤكد المعنى وتكون التلاوة موضحة أعظم توضيح للمعنى المراد ...
- حروف القلقة وحرف الامتداد:(1/292)
القلقة تعني التحريك أي: إبراز صوت زائد للحرف بعد ضغطه .. ما يجعل اللسان يتقلقل بها عند النطق .. وحروف القلقة خمسة هي (ق، ط، ب، ج، د) .
أما حرف الامتداد فهو حرف واحد هو (ض) ويعني الامتداد هو امتداد الصوت من أول اللسان إلى آخره.. ويعني الامتداد أيضاً (القبض) على الحرف حتى لا يتحرك أو يتقلقل .. في حالة السكون .
وحينما نقرأ الآيات التي وردت بها حروف قلقلة خاصة القلقلة الكبرى وهي حالة إذا ما سكنت حروف القلقلة آخر الكلمة نجد أن هذه القلقلة تعطي معنى واسعاً للكلمة تعتبر كأنها زادت حروفها حرفاً وزيادة مبنى الكلمة وحي بزيادة معناها .. ونضرب فيما يلي أمثلة في هذا المجال:
- قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1-2] .
وقلقلة (ق) في كلمة (خلق) تعطي معنى واسعاً لخلق الله حيث أنه لا يوجد حدود للخلق .. كذلك كلمة (علق) فهي توحي بالأعداد الكبيرة العالقة من مَنْيِ الذكر ..
كذلك حينما ترد الكلمات القرآنية (أولو الألباب – العذاب – الحق – الأسباط – الأحزاب – أزواج – الميعاد .... الخ) فإن هذا يزيد في معنى هذه الكلمات ويحفزنا على إعطاء الآيات الواردة بها مزيداً من العناية والتدبر ..
أما بخصوص حرف (ض) في حالة سكونه فإنه يجب الإمساك به بقوة حتى لا يتقلقل أثناء التلاوة .. ومثال ذلك:
- قال تعالى: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } [الفرقان: 46].
ويدل سكون حرف (ض) وعدم قلقلته على تأكيد معنى كلمة (القبض) التي ورد بها هذا الحرف .. وعدم إمكانية تحريك هذا القبض أو زحزحته ...
حروف التفخيم والترقيق:
تفخيم بعض الحروف أثناء التلاوة يزيد في توضيح معاني الكلمات القرآنية والآيات الواردة بها ..(1/293)
كذلك فإن ترقيق الحروف الأخرى يساعد أيضاً في بيان المعاني المقصودة .. ويأتي ذلك حسب الحالة .. وحروف التفخيم هي نفسها حروف الاستعلاء (خ، ص، ض، غ، ط، ق، ظ).
وكذلك حرف (ر) في بعض الأحوال حسب التفاصيل الواردة في أحكام التلاوة ..
كذلك فإن (لام) لفظ الجلالة (الله) تفخم إذا سبقتها حروف بفتح أو ضم .. (مثل قل هو الله أحد) .. يفعل الله ما يشاء ..
وترقق اللام في لفظ الجلالة إذا سبقتها حروف بكسر مثل (بسم الله بالحمد لله) أما باقي الحروف فتأتي في حالة ترقيق ..
وأعتقد أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات واسعة في أصول الحروف والكلمات المتكونة منها .. وأرجو أن يكون هناك متسع لاستكمال هذه الدراسة ..
أمثلة في بيان المعنى من خلال إدغام المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين:
إدغام المتماثلين: هو أن يتحد الحرفان مخرجاً وصفة .
إدغام المتجانسين: هو أن يتفق الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
إدغام المتقاربين: هو أن يتقارب الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
كما سبق أن ذكرنا فإن الإدغام الكامل بدون غنّة يدل على التصاق الكلمتين التصاقاً كاملاً مما يوحي بقطعية الأمر وعدم وجود أي فاصل أو مسافة زمنية وكذلك يدل على العجلة الفائقة .
ونضرب فيما يلي أمثلة لكل نوع من أنواع هذا الإدغام لنتبين المعنى الذي أضافه وبينه:
أ- إدغام المتماثلين:
- قال تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء: 78].
حين تلاوة كلمة (يدرككم) نجد أن الكاف الساكنة الأولى قد أدغمت في الكاف الثانية فأصبحت حرفاً واحداً مشدداً وأصبحت تقرأ (يدركَم) والإدغام يوحي بنقص أحرف الكلمة مما يدل على سرعة الموت في إدراك من قضى عليه الموت...
- قال تعالى: { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ } [النمل: 28].(1/294)
إدغام حرفي (الباء) يدل على السرعة التي طلب بها سليمان عليه السلام من الهدهد أن يطير بها إلى ملكة سبأ والذي يؤكد ذلك أن الآية رقم 29 التي تلت هذه الآية: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل: 29]. أي: أنه لم يظهر هناك أي زمن بين أمر سليمان للهدهد واستلام الملكة للكتاب ..
ب- إدغام المتجانسين:
وذلك للحروف (ت، د، ط) وللحروف (ت، ذ، ظ) وللحروف (ب، م) .
- قال تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة: 256].
إدغام (الدال) في (التاء) يدل على قطعية بيان الرشد .
- قال تعالى: { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } [يونس: 89].
إدغام (التاء) في (الدال) يدل على سرعة استجابة الله لدعوة موسى وهارون على فرعون وملئه بالا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ..
ج- إدغام المتقاربين:
وذلك للحروف (ل، ر) وللحروف (ق، ك)
- قال تعالى: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه: 114].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة وينطق بهما راء مشددة .. ويأتي هذا الإدغام ليبين ضرورة التعجيل في دعاء الله بزيادة العلم وإبراز قيمة العلم ..
قال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 158].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة .. ويدل هذا الإدغام على سرعة رفع الله لعيسى عليه السلام وإنقاذه من اليهود والحاكم الروماني ..
د- الإشمام
الإشمام في التلاوة هو ضم الشفتين كمن يريد النطق (بضمة) ولكنه في الحقيقة ينطقها (فتحة) .
وقد جاء هذا الحكم في تلاوة قوله تعالى: { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف: 11]. وقراءة الميم قبيل النون المشددة في كلمة (تأمنا) هي ما يسمى بالإشمام ..(1/295)
وحين نقرأ الميم في هذه الكلمة بالفتحة وشفتانا مضمومتان فينتج عن ذلك نطق يدل على التردد وعدم الثقة في إجابة الطلب .. وهو بالفعل ما كان عليه إخوة يوسف حينما طلبوا من أبيهم أن يرسله معهم لأنهم كانوا يكيدون لأخيهم وكانوا في ريبهم يترددون .. لذا كان هذا الحكم في التلاوة ليوضح المعنى أصدق توضيح ..
باقي الأحكام التلاوة:
إن هذا الموضوع يحتاج مزيداً من البحث والتدبر وفي هذا متسع لجميع الباحثين والذين أرجو الله أن يوفقهم للتفقه في علوم القرآن الكريم الذي لا ينضب معينه.
كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة
بقلم أ. د. مصطفى مُسلم
ويطلق الأسلوب في اللغة على الطريق الممتد، ويقال للسطر من النخيل أسلوب، والأسلوب الطريق والوجه والمذهب، والأسلوب الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه.
وفي اصطلاح البلاغيين:هو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، أو هو العبارات اللفظية المنسّقة لأداء المعاني.
فالأسلوب القرآني:هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه[1]، ولقد تواضع العلماء قديماً وحديثاً على أن للقرآن أسلوباً خاصاً به مغايراً لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف.
وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه [2] (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك، يزعُمُ أن الله أرسله، قلتُ: فما يقول الناس، قال : يقولون شاعر، كاهن، ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون).
ولقد أبرز العلماء ميزات للأسلوب القرآني اختص بها من بين سائر الكلام، فمن هذه الميزات:
أولاً: المرونة والمطاوعة في التأويل:(1/296)
نجد في الأسلوب القرآني مرونة في التأويل ومطاوعة على التقليب بحيث لا يدانيه أسلوب من الأساليب، وهذه المرونة في التأويل لا تحتمل الآراء المتصادمة أو المتناقضة وإنما مرونة تجعله واسع الدلالة سعة المورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريّانة راضية.
فالأسلوب القرآني يشفي قلوب العامة ويكفي الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير وسواد الناس ويملأ فراغ نفوسهم بالترغيب والترهيب والجمال الأخاذ في تعابيره ومشاهده، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكرة، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون ومنتهاه ونظامه ودقة صنعه وإبداعه.
وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور وظل رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن الأسلوب القرآني لم يستغلق فهمه على العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ولم يكن لهم إلا الفطرة السليمة الذوّاقة للجمال، وفهمه وتفاعل معه من جاء بعد ذلك من أهل العلوم والأفكار، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد.
والمعهود من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه بل كلما كان نصاً في معناه كان أدنى إلى البلاغة، وكيفما قلبته رأيته وجهاً واحداً وصفةً واحدة لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين، وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه.(1/297)
لقد فهم علماء السلف رضوان الله عليهم الآيات الكريمة : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ)[سورة القيامة:3]،(والأرض بعد ذلك دحاها)[النازعات:30]، غير ما فهمه العلماء المتأخرين بعد تطور العلوم الطبية والفلكية ولم يبعد عن الصواب من قال: (الزمن خير مفسر للقرآن). وما ذاك إلا لأن القرآن كتاب الإنسانية الخالدة الذي لا يستطيع جيل من الأجيال استفراغ ما فيه من كنوز العلوم والحكم والحقائق.
ثانياً: اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير:
من السمات البارزة للأسلوب القرآني هو اعتماده الطريقة التصويرية للتعبير عن المعاني والأفكار التي يريد إيضاحها، وساء كانت معاني ذهنية مجردة، أو قصصاً غابرة، أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات.
إن الأسلوب القرآني يحمل تاليه إلى أجواء الصور وكأنه ينظر في تفصيلات الصورة المجسّمة أمامه، وكأن المشهد يجري أمامه حيّاً متحرّكاً، ولا شكل أن الفكرة أو المعنى الذي يراد إيضاحه يكون أقرب إلى الفهم وأوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجرّداً من تلك الصور الحية، ويكفي لبيان هذه الميزة أن نتصور هذه المعاني كلها في صورها التجريدية ثم نقارنها بالصورة التي وضعها فيها القرآن الكريم، فمثلاً:
أ معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان: إذا أردنا أن نتصور هذا المعنى مجرّداً في الذهن يمكن أن نقول: إنهم ينفردن أشد النفرة من دعوة الإيمان فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برودة وسكون، ولنمعن النظر في الأسلوب القرآني وهو يصوّر لنا هذا المعنى في هذه الصور الغريبة (فما لهم عن التذكرة معرضون* كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة )[المدثر:49ـ 51].(1/298)
فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال: السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.
لقد شبه الله تعالى فرار الكفار عن تذكرة النبي صلى الله عليه وسلم كفرار حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدُعون إلى الإيمان، أنظر أخي إلى جمالية هذا التشبيه الرائع الذي لا يصدر إلا عن إله عالم بخبايا النفس الإنسانية طبعاً هذا التشبيه له عدة مدلولات منها شدة فرارهم من النبي، وسخرية من سلوكم الغير مبرر
ب ومعنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله ! يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردّة، كأن، يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرَّداً باهتاً.
ولكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الحج: 73].
فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة:
(لن يخلقوا ذُباباً)درجة (ولو اجتمعوا له) وهذه أخرى، (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) وهذه ثالثة، والاقتران بين الطالب والمطلوب(ضعف الطالب والمطلوب)وهي الرابعة.
إن الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين، ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟
كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة. إن هؤلاء الآلهة (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له).(1/299)
والذباب صغير حقير ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل، إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم والهزيل.
فليست المعجزات هي خلق الهائل من الأحياء إنما هي خلق الخلية الحية كالهباء. والصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة والربط بينها وبين مخلوق حقير. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ.
ت ومعنى انتهاء الكون ثم محاسبة الناس على أعمالهم ودخول المحسنين الجنة والمسيئين النار، ولذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب وتبكيتهم: كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة وهي حقائق لم تقع بعد. فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة.
ولكن التعبير القرآني وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاهٍ حافل بالحركة وكأن المرء ـ حين يقرؤها ـ يعيش أجوائها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال وتخضع لقوة الجبار وتتشوّق لمرافقة السعداء.(1/300)
فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ {68} وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69} وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75} [سورة الزمر:66ـ75].(1/301)
إنه مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً ثم يسير وئيداً حتى تهدأ كل حركة ويسكن كل شيء ويخيّم على الساحة جلال الصمت ورهبة الخشوع.
ويبدأ المشهد بالأرض جميعاً في قبضة ذي الجلال، وها هي السماوات جميعاً مطوّيات بيمينه.
إنها صورة يرتجف لها الحسّ ويعجز عن تصويرها الخيال، ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقياً على ظهرها من الأحياء. ولا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية (فإذا هم قيام ينظرون). و يغير ضجيج وعجيج، تجتمع الخلائق. فعرض ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام.
(أشرقت الأرض بنور ربها) أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض، أشرقت بالنور الهادئ (بنور ربها) فإذا هي تكاد تشفّ من الإشراق، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء)، وطوي كل خصام وجدال في هذا المشهد خاصة (وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ).
فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال ولا إلى صوت واحد يرتفع.
وهكذا تجمل هنا عملية الحساب والجزاء، لأن المقام مقام روعة وجلال.
وإذا تم الحساب وعرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) حتى إذا وصلوا إليها بعيداً هناك استقبلتهم حزنتها بتسجيل استحقاقهم لها وتذكيرهم بما جاء بهم إليها (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) فالموقف موقف إذعان واعتراف وتسليم (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى).(1/302)
وكذلك وجه الذين اتقوا ربهم إلى الجنة حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) وارتفعت أصوات أهل الجنة بالحمد والدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ).
ثم يختم الشريط المصور بما يلقي في النفس روعة ورهبة وجلالاً تتسق مع المشهد كله وتختمه خير ختام(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثالثاً: طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المُحاجة والاستدلال:
لقد أورد القرآن الكريم من أفانين القول في سياق محاجّة الكفار وتصحيح زيغ المحرّفين والوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقات متقاربة أو متباعدة، فالنفس الإنسانية لا تستطيع التحول في لحظات عابرة في جميع الاتجاهات بل تتأثر بحالة معينة.
ولا تستطيع التحول عنها إلى أتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة.
أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية، وأحياناً تكون مترادفة. فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى، ومن مرئيات الناس ومألوفاتهم والتدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون(1/303)
لنتأمل قوله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {67} لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68} فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنفال:67 ـ 69].
هاتان الآيتان نزلتا بعد إطلاق أسرى بدر وقبول الفداء منهم . وقد بدأتا بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمتا بإقرارها وتطييب النفوس بها بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام ـ لو كان عن النفس مصدره ـ يمكن أن يصدر عنها آخره ولمّا تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب وبين ابتسامة الرضى والاستحسان ؟ إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له ولرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل.
فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر المحمود وتسجيله على ما فيه من تقريع علني وتغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالاً طيبة ؟
إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا شخصيتين منفصلتين وان هذا صوت سيد يقول لعبده: لقد أخطأت ولكني عفوت عنك وأذنت لك[3].(1/304)
ومن الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تامل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ {57} أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ {61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ {62} أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ{73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: 57ـ74].
ومثل هذه الإشارات ترد كثيراً في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس.
إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة ولكن الإلف والعادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها.(1/305)
إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده، وهذا القرآن قرآنه. ومن ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضيع الإعجاز فيها.
يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون، سرّ القدرة العظيمة وسرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر .. (ألست بربكم )[الأعراف: 172].
إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق.
والقرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.
وأي إنسان علي ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي إنسان مهما كان بدائياً لم يشهد نشأة جنينية ونشأ حياة نباتية ومسقط ماء وموقد نار ولحظة وفاة؟
إن انفراد الأسلوب القرآني بهذه الميزات لهو دليل مصدره الإلهي فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.
فالحذّاق من الكتّاب عندما يقرأون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة وحسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيراً من أوصافه النفسية والخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل ودراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة.(1/306)
ولا شكل أن هذا إدراك شيء أعظم وأرقى من العلوم الظاهرة والتي تقف بأصحابها عند جودة الأسلوب ومتانته وقوة السبك ورصانته، فإذا كان الأدباء وأهل البلاغة يدركون هذه الحقائق بعد العلوم الاكتسابية التي تعلّموها ومارسوها فإن العربي الذوّاقة مواطن الجمال في الكلام، لا شك أنه كان من أعرف الناس بما وراء الألفاظ والكلمات وكان يدرك بنظرته السليمة وسليقته الصافية حقيقة الذات التي وراء الأسلوب.
إن العربي الذواقة لجمال القول أدرك أسلوب القرآن المتميز وعرف أن سبب هذا التميز هو أن القرآن من مصدر غير مصادر كلام البشر ومن ذات غير مخلوقة لذا تميز الأسلوب عن أساليب المخلوق، فما دامت قوة الخلق والإبداع من العدم ليس في مقدور البشر بل وكل المخلوقات فلن يستطيع أحد منهم إيجاد أسلوب يشبه أو يقارب الأسلوب القرآني.
ولعل هذا الإدراك هو الذي منع العقلاء وأهل الفصاحة واللسن من سائر العرب من محاكاة القرآن. ومن تعرّض لمحاكاته صار أضحوكة بين الناس لأنه حاول أن يخرج عن طبيعته وذاته ونفسيته إلى محاكاة الذات الإلهية. أورد الإمام ابن كثير في تفسيره قال : (.. سألت الصدّيق بعض أصحاب مسيلمة الكذاب بعد أن رجعوا إلى دين الله أن يقرأوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة.
فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا عليهم شيئاً منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم، فقرأوا عليه قوله : (والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً واللاقمات لقماً إهالة وسمناً، إن قريشاً قوم يعتدون)، وقوله : (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين) إلى غير ذلك من هذياناته، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إل ـ أي إله)[4](1/307)
لقد أدرك الصدّيق رضي الله عنه بحسه المرهف وذوقه السليم النفسية التي خرجت منها العبارات والتراكيب وطريقة صياغتها والصبغة الخاصة بنفسية قائلها، إنها طبيعة بشرية وليست صادرة عن الخالق سبحانه وتعالى.
فإن الفرق بين القرآن العظيم وكلام البشر كالفرق بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوق.
المصدر :كتاب مباحث في إعجاز القرآن بقلم أ.د . مصطفى مسلم 143 ـ154
من أسرار الإعجاز البياني في القرآن
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
هناك من العلماء من يرى أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير إلا في بعض الألفاظ الغريبة على القارئ وهذا يستدعي توضيحاً له أو تقريباً. وإلا في بعض آيات الأحكام والمجملات المبينة بالسنة وما عدا ذلك لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان أو توضيح.
ويستدل أصحاب هذا الرأي بآيات القرآن الكريم التي تدل على أنه كتاب مبين وأن آياته بينات. وأنه أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه.
فكيف يحتاج هو إلى بيان وهو في حد ذاته بيان؟(1) قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)[المائدة: 15].
وقال تعالى : (طس تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)[النمل: 1].
وقال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر)[القمر: 17].
ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر.
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة.
إن القرآن يشرح ذلك بوضوح (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[النساء: 82].(1/308)
إننا نجد في هذه الآيات المقياس الواضح الذي يبين أنه لا شيء في القرآن يتعارض مع شيء آخر فيه. فإذا وجدنا أن تفسيراً ما للقرآن يتعارض مع جزء آخر فيه. فذلك دليل في حد ذاته على أن ذلك التفسير ليس من عند الله بل من عند غير الله بكل تأكيد.
فالمقياس القرآني القطعي لاختيار أي تفسير هو أن يكون مطابقاً للدين كله كمجموعة. أما إثبات نظرية أو رأي ما باستخدام نوع معين من الآيات دون النظر إلى الآيات الأخرى أو إذا وجدت أن تفسيراً ما للدين لا يوافق القرآن كله فتأكد أنه ليس تفسيراً للقرآن. وإنما هو تفسير لأفكار ذاتية(2).
قال تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكَّر إلا أولوا الألباب)[آل عمران: 7].
إن أية قضية أو نظرية أو تفسير يجب عرضه على القرآن كله وليس على مجموعة آيات منه وتدبر مدى توافق هذا التفسير مع القرآن ككل مع الإستناد إلى السنة وأقوال الصحابة: " إن وجدت".
ونورد فيما يلي محاولة لفهم معاني بعض الألفاظ والجمل والآيات القرآنية بعد عرضها على القرآن الكريم ككل باستخدام جهاز الكمبيوتر.
وهي محاولة لفهم القرآن بالقرآن. ولقد روعي في هذه الدراسة البحث عن تكرار اللفظ أو الجملة القرآنية في القرآن كله بالإضافة إلى معرفة جو ومعاني الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ أو الجملة وكذلك الآيات التي قبلها والتي بعدها حتى يمكن الإلمام بالمعنى من جميع جوانبه.
1- الإسراء (بعبده)... والمعراج (بصاحبكم)
وردت معجزة الإسراء في آية واحدة في القرآن، وجاءت كلمة (أسرى) مرة واحدة في القرآن وكلمة (بعبده) مرة واحدة في القرآن الكريم كله.(1/309)
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في الإسراء بالعبودة الكاملة لله (بعبده).
ووردت معجزة المعراج في سورة واحدة هي سورة النجم:
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم: 1-18].
وقد وصف الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، بـ(صاحبكم).
حينما نتدبر كلمة (بعبده) فإنها تعني أنه (بشر) مثلكم تعرفونه وتصاحبكم.
في حالة الإسراء ذكر الله { لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا } وفي حالة المعراج ذكر الله { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }.
إن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنه رغم (بشرية) الرسول فقد عرج به إلى السماوات العلى ووصل إلى سدرة المنتهى وبلغ الأفق الأعلى ثم دنا وتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من الحضرة الإلهية، (كما سيأتي بيانه لاحقاً) ورأى من آيات ربه الكبرى.
إن بشرية الإنسان لا تنفي أنه بسلطان من الله فإنه يصل إلى أعلى عليين.(1/310)
{ { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33].
ولقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو من الإنس) من أقطار السماوات والأرض بسلطان من الله.
أما بالنسبة للإسراء فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ولم يقل بنبيه أو برسوله وإنما كان كذلك لأنه أراد أن يفتح باب السريان (الإسراء) للتابعين، فأعلمنا بأن الإسراء من بساط العبودية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له كمال العبودية، فكان له كمال الإسراء، أُسري بروحه وجسمه وظاهره وباطنه، والأولياء لهم قسط من العبودية فلهم قسط من الإسراء يسري بأرواحهم لا بأجسادهم (من كتاب لطائف المنن لابن عطاء السكندري).
كذلك فإن الله لم يختم آية الإسراء بالقدرة أو بالعزة أو القوة وإنما ختمها بأنه (هو السميع البصير) وهي تعني أن الله سبحانه وتعالى قد سمع دعاء محمد صلى الله عليه وسلم وبَصُر بحالته حينما آذاه الناس وهان عليهم فأكرهم اله بمعجزة الإسراء فإن كان الناس قد بعدوا عنه فقد اقترب هو من الله.
وتعني الآية أيضاً فتوحات الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين كلما صبروا على البلاء واستقاموا على الطريقة، فإنه هو السميع البصير يقربهم إليه نجيّاً ويريهم من آياته إنه هو السميع البصير.
2- غلام حليم و غلام عليم
بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم هو إسماعيل عليه السلام ثم بشرته بغلام عليم هو إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل).
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسماعيل عليه السلام: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101].(1/311)
أي: أن صفة إسماعيل عليه السلام المميزة أنه (حليم) وهي صفة والده إبراهيم عليه السلام حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } [هود: 75].
ويقول الله سبحانه وتعالى في شأن البشرى بولادة إسحاق عليه السلام: { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات: 28].
أي: أن صفة إسحاق عليه السلام المميزة هو أنه (عليم).
إسماعيل عليه السلام هو جد محمد صلى الله عليه وسلم.
وإسحاق عليه السلام هو جد بني إسرائيل.
حلم إسماعيل:
والحلم الذي هو الصفة المميزة لإسماعيل عليه السلام يعني: الصبر والإرادة والسكون والعقل السليم، وهو ضد الطيش ولو جمعنا كل مناحي الحلم فإنه يكون (التقوى) بكل معناها من حب الله وخشيته والصفح الجميل.
يصف الله إسماعيل عليه السلام في سورة مريم آية: 54، 55: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا }.
إسماعيل عليه السلام كان صادق الوعد، حينما أسلم وجهه له ساعة الذبح راضياً بقضاء الله {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات: 102].
إن ذلك كان منتهى الإيمان بالله من الأب المحسن إبراهيم عليه السلام ومن الابن الصابر إسماعيل عليه السلام.
علم إسحاق ومن ورائه يعقوب (إسرائيل)(1/312)
وصف الله سبحانه وتعالى إسحاق بالعلم والذي ورثه بنو إسرائيل (بنو يعقوب بن إسحاق)، وكان من المفترض أن يستخدم بنو إسرائيل هذا العلم الوراثي في حسن عبادتهم لله والتفكر في آياته.. غير أن أكثرهم استغل هذا العلم في ماديات صرفة ولم يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، بل أغرقوا أنفسهم في الماديات وظلموا أنفسهم وقد قال الله في شأن إبراهيم عليه السلام، وشأن ذريته: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات: 109-113].
كذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذرية إبراهيم عليه السلام:
{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [البقرة: 124].
إن الله سبحانه وتعالى بين لإبراهيم عليه السلام أن ذريته لن تكون كلها من الصالحين وأن ذلك يعتم على استجابتهم لما يحييهم بما أنزله على رسله إليهم من البينات والزبر والكتاب المبين، امتحن الله بني إسرائيل (فضلهم على العالمين) واختارهم على علم على العالمين، فكيف كانت استجابتهم لله ؟... ظلم بنو إسرائيل أنفسهم على مدى التاريخ.
وكانوا يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعصون الله فيما أمرهم وينقضون ميثاقهم مع الله... إنهم يحاربون كل من يقول لهم توجهوا بقلوبكم إلى الله واتركوا الحب الشديد لماديات وآمنوا بالله الذي ليس كمثله شيء...(1/313)
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه... يتحايلون على أوامر الله حينما قال لهم لا تعتدوا في السبت، ويتشددون في أي أمر حينما قال لهم موسى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة: 67] فاشتطوا في الأمر... استكبروا بالعلم الذي أورثوه.. ولم يؤمنوا إلا بالأشياء المادية أما الناحية الروحية... أما الحلم فقد بعدوا عنه لدرجة أنه من فرط ماديتهم قالوا لموسى عليه السلام: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } [الأعراف: 138] كذلك فإنهم طلبوا إلهاً مادياً يلمسونه بأيديهم وصنعوا عجلاً جسدياً مادياً.. لم يقبلوا بأن ينزل لهم المن والسلوى من السماء.. ولكنهم فضلوا طعام الأرض... كل توجههم كان للأرض ولم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء... { { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة: 61] لقد استبدلوا الأرض بالسماء استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وكان هو ذلك مبدأهم وحتى الآن.
إن العلم الوراثي الذي وهبه الله لبني إسرائيل واختارهم على العلامين به { { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32].
وامتحنهم الله به ليعلم هل يشكرون أم يكفرون فلم يرعوا هذا العلم واتجهوا به فقط إلى الماديات وبالرغم من أنهم أصبحوا بهذا العلم الوراثي أساطين في الاقتصاد إلا أنهم استغلوه في إفساد الأرض وإفساد الذمم والربا والمكر والألاعيب وإشعال الحروب. فغضب اله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً شديداً.(1/314)
وبعد اختبار الله لبني إسرائيل بهذا العلم... وإظهارهم للعالمين بأنهم قوم سوء... شاء الله أن يكون خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل عليه السلام ذرية الحلم والتقوى ووهب الله له العلم المباشر من الله سبحانه وتعالى... قرآناً كريماً غير ذي عوج.. فكان المسلمون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله.. { { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].
الأجر مرتين والعذاب ضعفين... للقمم
يقول الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 165 من سورة الأنعام: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وضع الله للناس درجات في الحياة الدنيا لتستقيم عمارة الأرض لأنه لا يمكن أن يكون الناس كلهم في درجة واحدة.. لا يمكن أن تستقيم عمارة الأرض بجعل الناس كلهم قادة.. أو كلهم علماء.. أو كلهم في وظيفة واحدة.. لا بد من وظائف متعددة ودرجات متفاوتة.. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله في الآية 32 من سورة الزخرف:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف: 32].(1/315)
غير أن هذا التمييز لدرجات ادنيا ليس هو تكريم وإنما هو ابتلاء واختبار { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [المائدة: 48]. وتكون النتيجة كما يذكرها الله سبحانه وتعالى في الآيات من 37 حتى 41 من سورة النازعات: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
إلا أن وضع الناس على درجات مختلفة في الحياة الدنيا يجعل من ذوي السلطة منهم وذي الشأن والملأ والشهرة تأثيراً كبيراً في حياة عامة الناس... فهم أولو القوة والسلطة والبطش.. كما أن أصحاب الشهرة منهم يمثلون لعامة الشعب قدوة وأنموذجاً يتطلعون إليه. فيتحدثون عنهم في مجالسهم.. ويروون القصص والحكايات.. ويتتبعون أخبارهم وكل ما يدور حولهم... ويكونون على رأس كل موضوعاتهم واهتماماتهم...
إن تأثير أي واحد من أولي الشهرة وأصحاب القمم في أي مجال يساوي تأثير آلاف أو ملايين الناس العاديين... لذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يعاملهم معاملة الناس العاديين.. إن الحسنة من الواحد منهم لا تعادل الحسنة من المرء العادي وكذلك السيئة منه لا تعادل السيئة من المرء العادي..
إن خطأ الكبير كبير... وحسنة الكبير كبيرة..
لقد وضع الله سبحانه وتعالى ميزاناً دقيقاً في آيات القرآن الكريم، إنه ميزان العدل المطلق { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن: 7-9].
وكان الوزن هو مقياس الأجر.. والوزن هو قيمة العمل وتأثيره.
وتأتي آيات كثيرة في القرآن الكريم توضح مسؤولية ووزن أصحاب القمم والسلطة والشهرة والقيادة والأجر المقابل.. ونورد هذه الأمثلة:
نساء النبي:(1/316)
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب الآية 30، 31:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }.
إن نساء النبي هن أمهات المؤمنين.. هن القمم.. وأحد مراجع السنة.. تأثيرهن ليس كتأثير النساء العاديات: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [الأحزاب: 32].
لذلك فقد كان الأجر مرتين.. والعذاب ضعفين.
المنافقون:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة الآية 101:
{ { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة: 101].
إن المنافقين تأثيرهم ووزنهم ليس تأثيراً عادياً.. إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.. إنهم يشوّهون العقيدة ويخدعون المؤمنين.. ويضربون الأمثال السيئة للذين لم يؤمنوا بعد.. إنهم وبال على الإيمان لذلك كان لا بد من عذابهم مرتين مرة بسبب الكفر ومرة بسبب إظهار إيمان غير حقيقي.....
اليهود والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات 52-54:
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.(1/317)
إن اليهود بوجه عام متعنتون في الدين.. يعلمون الحق ولا يتبعونه.. يقولون سمعنا وعصينا لذلك جاء الأمر مرتين لهؤلاء الذين جاهدوا هذه الطبيعة السيئة وانتصروا على أنفسهم.. وخرجوا من أمر اليهودية المتعنتة وصبروا على أذى بقية قومهم... واصبحوا قمماً إيمانية تبين كذاب بني إسرائيل وإصرارهم على الباطل... وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الكريم.
القمم والكبراء في الضلال:
يقول الله سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء القسم في الضلال والإضلال:
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [هود: 20].
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 67-68].
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38].
إن هؤلاء القمم في الضلال والإضلال يستحقون العذاب ضعفين بما لهم من تأثير في باقي الناس المعاديين وبما لهم من سطوة وقوة وقهر وبريق وإعلام وإعلان وشهرة...
قمم الضلال والإضلال... وجزاء التوبة
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان الآيات 68-70:(1/318)
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }.
هؤلاء القمم الذين ضلوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض.. أشركوا بالله.. وقتلوا النفس التي حرم الله بغير الحق، وزنوا.. ثم أفاقوا واهتدوا إلى الحق وجاهدوا أنفسهم وشهرتهم وسطوتهم وانتصروا على كل الهالات والبريق الذي يحوطهم وعلى كل الشلل والأصحاب والأخدان وحاشية السوء.. وتابوا إلى الله وأنابوا إليه وعملوا الصالحات وانتقلوا بزاوية مقدارها 180 درجة من الشمال إلى اليمين.. غفر الله لهم ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم.. ونقل أعمالهم وسيئاتهم من الشمال إلى اليمين.. فتبدلت السيئات إلى حسنات وتضاعف أجرهم جزاء بما صبروا على شهوات النفس.... وجزاء على ما يحدثه هذا التبدل كما أفاق هؤلاء القمم.. ويرجع الناس وينيبوا إلى الله ويسلموا له... كما أسلم الكبراء...
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.. فقد كان في أول الدعوة يرجو إسلام عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبو جهل) بما لهم من أثر في الناس العاديين..
الملوك والقياصرة والأكاسرة وقمم السلطة:
في رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القياصرة والأكاسرة والتي دعاهم فيها إلى الإسلام كان صلب الرسالة هو الآتي: ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ).(1/319)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الإسلام هؤلاء القمم في شعوبهم... وأنهم حينما يسلمون فإنهم يساعدون في إزالة الغشاوة عن أعين الناس العاديين.. ويلفتونهم إلى الحق لهم من قوة جذب وبريق.. هذا بالإضافة إلى انتصار هؤلاء القمم على أنفسهم وكبريائهم وسلطاتهم وعروشهم ومساواتهم بعامة الناس حب مبادئ الإسلام.. لذلك كان الأجر مرتين..
الأجر مرتين.. للصابرين
عندما صبر سيدنا إبراهيم عليه السلام على البلاء المبين بذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، بشره الله بإسحاق نبياً من الصالحين.
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات: 112].
وبذلك أعطاه اله أجراً مرتين بما صبر على البلاء العظيم بفقد ابنه الوحيد.. فأعطاه ابناً آخر نبياً من الصالحين..
كذلك فإنه عندما صبر أيوب عليه السلام على النصب والعذاب وعلى فقد أهله وهبه الله أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لأولي الألباب.. لقد منحه الله الأجر مرتين..
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [ص: 43].
القمم بوجه عام في المجتمع:(1/320)
إن القرآن الكريم يزخر بالأمثلة والنماذج التي توضح لنا عدالة الله سبحانه وتعالى في الجزاء.. إنها تحث هؤلاء القمم في السلطة وفي الإعلام وفي الإعلان وفي كافة نواحي المسؤولية.. على الانتصار على نوازع النفس البشرية والتحول إلى أصحاب اليمين ويؤجرهم مرتين لما لهم من تأثير على عامة الناس... وهذا الأجر مرتين يعني ضعف أقصى أجر يمنحه الله للناس المؤمنين العاديين.. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله يضاعف هذا الأجر العادي أضعافاً مضاعفة. كما أن هناك رضوان من الله أكبر وبذلك يكون الأجر مرتين هو ضعف هذه المضاعفات جميعاً.. هناك أمر آخر.. إن القمم مستويات.. وأي مسؤول له تأثير في موظفيه يعتبر قمة في هذا النوع من المسؤولية كما أن أي شخص في أي مكان له أي تأثير على شخص أو أشخاص آخرين هو قمة في الموقف.. وكذلك الحال بالنسبة للأب أو الأم في الأسرة.. والمدرس في الفصل.. والمدير في الإدارة.. والرئيس في المرؤوسين.. والكاتب الذي ينشر فكره.. والممثل الذي يؤدي دوراً.. والإعلامي.. والصحفي.. والفنان.. والفنانة. والعالم والفقيه والواعظ.. الخ.
إن هؤلاء جميعاً يؤتون أجرهم مرتين حسب نصر القرآن إذا صبروا وآمنوا ورعوا الله في مسؤولياتهم.. ويضاعف لهم العذاب إذا ضلوا وأضلوا.. كما أن هؤلاء الذين أفسدوا في الأرض.. ثم عرفوا الحق وتابوا إلى الله ورجعوا عن غوايتهم وإغوائهم للناس.. فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً..
أما هؤلاء الناس لا يملكون مصيرهم.. وليس لهم من الأمر شيء مثل (ما ملكت أيمانكم) فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء: 25].
أنزل – نزّل
أنزل: تعني الإنزال مرة واحدة أو جملة واحدة.
نزل: تعني الإنزال على مراحل أو أجزاء متفرقة.(1/321)
والقرآن الكريم أنزله الله سبحانه وتعالى جملة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان إلى السماء الدنيا حسب الروايات المتعددة في هذا المجال وحسب ما توحي به نصوص الآيات الكريمة التي وردت في نزول القرآن الكريم.. ثم نزله سبحانه وتعالى تنزيلاً على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة وذلك لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك للرد على أسئلة وأمثلة المشركين وأهل الكتاب، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى في الآية 32 والآية 33 من سورة الفرقان: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }.
وإنزال القرآن الكريم جملة واحدة في ليلة واحدة ورد في الآيتين الكريمتين:
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1].
- { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3].
وفي تحديد الشهر الذي أنزل فيه القرآن جملة واحدة ورد ذلك في الآية الكريمة:
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } [البقرة: 185].
كذلك فإن ما يؤكد إنزال القرآن الكريم جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم تنزله على مراحل من السماء الدنيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو ما ذكرته الجن في سورة الجن عن نزول القرآن الكريم:
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } [الجن: 8-9].
وهذا الوصف يوضح العناية والحفظ الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أثناء تنزله من السماء الدنيا إلى الأرض.(1/322)
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يذكر في الآية 210 من سورة الشعراء: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ }. والكلام هنا عن التنزيل بين السماء الدنيا والأرض حيث توجد الشياطين.
كما يقول سبحانه وتعالى في الآية 9 من سورة الحجر:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
وقد استخدم القرآن كلمة (نزلنا) بدلاً من أنزلنا) ليبين لنا أن هذا الذكر قد حفظه الله من الشياطين أثناء فترة تنزله من السماء الدنيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاث وعشرين سنة. كما أنه سيحفظه من شياطين الإنس والجن إلى قيام الساعة..
أما في إنزال القرآن الكريم جملة واحدة من عند الله إلى السماء الدنيا فهناك الملأ الأعلى والملائكة المطهرون ولا يحتاج الأمر إلى ذكر الحفظ لأنه لا توجد شياطين في منطقة الملأ الأعلى...
السنة والعام والحول
القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. وإحكام الآيات يعني إحكام الألفاظ والكلمات.. إن كل كلمة قرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الجملة القرآنية والجملة القرآنية تؤدي معناها (تماماً على الذي أحسن) في الآية القرآنية وهكذا... ليكون القرآن الكريم كتاب محكم الآيات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
وكثير من الناس لا يجدون فرقاً في استخدام كلمات السنة والعام والحول ويعتقدون أنها كلمات مترادفة.. لو استبدلت مواقعها لما تغير معناها..
غير أن القرآن الحكيم يحدد المعنى للكلمة القرآنية بكل دقة ويوحي إلينا هذا المعنى من خلال سياق الجملة القرآنية، الآية والسورة.. وكذلك من خلال ربط الآيات القرآنية ببعضها.. فما أوجز من معنى في مكان.. يفسره الله سبحانه وتعالى لنا في مكان آخر..(1/323)
وكما سبق لي أن أوضحت في هذه الدراسة أن هناك آيات قرآنية أو جملاً قرآنية يرد فيها لؤلؤة أو مفتاحاً لبيان معنى معين قد يكون معلقاً على الفهم العام وبتدبر هذه الآية القرآنية وبربطها مع الآيات القرآنية الأخرى ذات العلاقة يظهر المعنى واضحاً جلياً..
ولنتدبر بعض الآيات التي تعتبر مفاتيح لمعنى السنة والعام والتي تربط بين السنة والعام:
قال الله سبحانه وتعالى في الآية رقم 14 من سورة العنكبوت:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [العنكبوت: 14].
وقال سبحانه وتعالى في الآيات 47-49 من سورة يوسف:
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
في الآيات السابقة نجد أنه حيثما ترد السنة أو السنين فذلك يعني الشدة والتعب والدأب والظلم والطول.. وعلى العكس حيثما يرد العام فذلك يعني السهولة واليسر والرخاء وقصر المدة.
ففي المثال الأول والخاص بمدة الرسالة التي قضاها نوح عليه السلام في قومه بما فيها من شدة ونصب وتكذيب واستهزاء.. ثم ما كان من يسر ورجاء لنوح عليه السلام بعد الطوفان الذي أغرق الكافرين وبعد أن عاش مع المؤمنين.. فقد ذكر القرآن الكريم أن نوحاً عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً..
أي أنه لبث في الشدة 950 سنة وفي الرخاء بعد إهلاك الكافرين الطوفان خمسين عاماً.(1/324)
وفي المثال الثاني من سورة يوسف فقد جاءت{ سبع سنين } مع العمل الدءوب والجهد والتعب ثم جاءت (سبع شداد) وهي صفة للسنين مع الضنك والجدب..
أما لفظ (العام) فقد جاء مع (الغيث) و(المطر) وكثرة العلة واليسر والرخاء..
{ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }.
السنة:
حينما نرجع إلى جميع آيات القرآن الكريم التي وردت فيها (سنة) و(سنين) لوجدنا صفة الشدة والطول هي الغالبة على المعنى وقد وردت في القرآن الكريم 20 مرة نذكر بعض الأمثلة منها:
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [الأعراف: 130].
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف: 11].
{ { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [الشعراء: 205].
{ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18].
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [طه: 40].
وهذه الآية فيها لفتة عظيمة حيث تدل على الأجل الذي قضاه موسى عليه السلام في مدين وأن هذا الأجل هو عشر حجج حينما خيّره والد الفتاة { { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } [القصص: 27].
وقد جاءت الآية بأن موسى عليه السلام قد لبث سنين في أهل مدين وبالمعنى الخاص بالسنين وهو طول المدة فإن ذلك يعني أن موسى عليه السلام قد قضى أطول الأجلين أي عشرة سنوات.. وبالطبع فإن هذه خصوصية النبوة وهي إتمام الخير.. لاحظ معي أيها القارئ الكريم هذه الدقة في القرآن وأن أي كلمة لا تأتي عفواً.. وإنما هي الحكمة..
العام:(1/325)
وردت كلمة عام وعامين في القرآن الكريم 10 مرات وهي تعني اليسر والرخاء وقلة المدة أو قصرها حسب الحالة النفسية للشخص أو الأشخاص.. ونذكر فيما يلي أمثلة من ذلك:
{ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة: 126].
وتعني: قصر المدة التي تتم خلالها الفتنة.
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49].
وهي تعني اليسر والرجاء.
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
وهي تعني الحب والفرح بالوليد خلال فترة الرضاعة.
الحول:
الحول يعني العام الذي يتم فيه فعل الشيء بلا انقطاع فمعناه يختف عن معنى السنة ويختلف كذلك عن معنى العام لأن السنة والعام هي فترات زمنية يأتي خلال أي جزء منها الحدث أو الفعل وليس شرطاً أن يكون الحدث أو الفعل مستمراً خلالها، أما الحول فيكون الحدث أو الفعل فيه مستمراً بدون انقطاع.. ونذكر الآيتين اللتين ورد فيهما الحول:
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240].
وهي تعني أن يكون المتاع طوال العام مستمراً بدون انقطاع.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233].
وهي تعني أن الرضاعة مستمرة بلا انقطاع طوال العامين.. { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].
من الدراسة السابقة يتبين لنا الفروق الجوهرية بين معنى السنة ومعنى العام ومعنى الحول وأنها يجب أن يتم فهمهما على النحو الصحيح حتى نتدبر آيات القرآن ونفهمها على أحسن وجه.
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ(1/326)
قال تعالى:? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?(البقرة:23-24)
أولاً-بعد أن قرَّر الله تعالى في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم في قوله تعالى:
? قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ?(الإسراء: 88)
وتحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أنيأتوا:
? بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ?(يونس: 37)
و?بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ?(هود: 13)
و? بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ?(الطور: 34)
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال، هي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية لله الواحد القهار. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:
فهو أولاً تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى، دلالة على أن مقام العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام، يدعى إليه بشر، ويدعى به كذلك.(1/327)
وهو ثانيًا تقرير لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده, واطِّراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي- وهو أعلى مقام- يدعَى بالعبودية لله الخالق, ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في جميع الكفار. وروي عن ابن عباس ومقاتل: أنها نزلت في اليهود. وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه. والأظهر هو القول الأول.
ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الإلهية والوحدانية، شرع سبحانه في تقرير النبوة، واحتج بهذه الآية الكريمة على صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به من القرآن، وأنه من عنده وكلامه، الذي يتكلم به، وأنه ليس من صنعة البشر، ولا من كلامهم.
وتقرير الإلهية والوحدانية،وتقرير النبوة توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالآية، وإن سيقت لبيان الإعجاز، إلا أن الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة.
ثانيًا- قوله تعالى:
? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?
تنبيه على أن القرآن، الذي نزَّله الله تعالى على عبده، لا رَيْبَ فيه؛ كما قال تعالى في أول السورة:
? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ?(البقرة: 2)
فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل الاستغراق.
وتنكير الرَّيْب، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً، لسطوع ما يدفعه، وقوة ما يزيله. ومثله في ذلك قوله تعالى:
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ?(الحج: 5)(1/328)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم بالشئ أمرًا مَّا، فينكشف عمَّا تتوَّهمه. وحقيقته: قَلَقُ النفس. يقال: رابني الشيء، وأرابني. وقيل: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة. والرِّيبةُ: اسم من الرَّيْب. والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة. وقد أثبت الله تعالى وقوع الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين، فقال:
? وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ?(الحديد: 14)
ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب، والمؤمنين، فقال:
? وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ?(المدّثر: 31)
وقوله تعالى:? رَيْبَ الْمَنُونِ ?(الطور: 30)، سمَّاه رَيْبًا، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون، من جهة وقته، لا من جهة كونه.
وقال تعالى هنا:
? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ?(البقرة: 23)، وقال في يونس:
? إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي?(يونس: 104)
فاستعمل الرَّيْب في الأول، والشَّكَّ في الثاني. والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء. أماالرَّيْبُ فهو شَكٌّ بتهمة، وهو من قولهم: رَابَ: حقَّق التهمة. قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ **إنما الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون، مع شكِّهم في القرآن، يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن، وأعانه عليه قوم آخرون، نفى الله تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى:
? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ?(البقرة: 2)
ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :
? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ?(البقرة: 23)(1/329)
وأما قوله تعالى:? إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي ?(يونس: 104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة.
فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون في القرآن رَيْبٌ، ثم خاطب المشركين بقوله:
? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ?(البقرة: 23) ؟
فالجواب: أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وبين نفي الرَّيب عن القرآن؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة. أي: ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ، ولا يكون فيه، ولا يدل على نفي الارتياب فيه؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين.
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى:? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ?، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون، والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم. والحالُّ في قوله تعالى:? لاَ رَيْبَ فِيهِ ?مَنفيُّ، والمحلُّ هو الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن.
ووجهُ الإتيان بـ? فِيْ ?الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب، وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف. واستعارة? فِيْ ?لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب؛ كقولهم:”هو في نعمة “.
وفي قوله تعالى:? نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ?التفات؛ لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ لأن قبله قوله تعالى:
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?(البقرة: 21)، وقوله تعالى:
? فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ?(البقرة: 22)
فلو جرى الكلام على هذا السياق، لكان نظم الكلام هكذا:
? مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه ?(1/330)
لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزَّل، والمنزَّل عليه ما لا يؤدِّيه ضمير غائب، لا سيَّما كونه أتى بـ{ نَا }المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر. ونظير ذلك قوله تعالى:
? وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَمِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ?(الأنعام:99)
وفي تعدي ? نَزَّلَ ?بـ? عَلَى ?إشارة إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه، وتمكُّنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف? إِلَى ?؛ فإنها تدل على الانتهاء والوصول؛ كما في قوله تعالى:
? وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ?(الأنعام: 111)
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة، وكانت? إِنْ ? الشرطية؛ إنما تدخل على المُمْكن، أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه، ادَّعى بعضهم أنَّ? إِنْ ? هنا معناها:? إِذَا ?؛ لأن? إِذَا ? تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه. ومذهب المحققين أنَّ ? إِنْ ? لا تكون بمعنى:? إِذَا ?. والذي قالوه: إن الواقع- ولا بد- يعلق بـ? إِذَا ?. وأما ما يجوز أن يقع، وأن لا يقع، فهو الذي يعلق بـ? إِنْ ? ، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع.
وقوله تعالى:? فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?أمرٌ من الإتيان، وهو المجيء بسهولة، كيفما كان. يقال: أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا، إذا جاء به بسهولة ويسر. وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم، أو العقل والعلم. تأمل قوله تعالى:
? قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ*قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ?
(النمل: 39- 40 )
كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب، وهو رجل من أهل الحكمة، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس، وتغلب على العفريت، مع ما فيه من قوة وشدة، بقوة العلم !(1/331)
وصيغة الأمر? فَأْتُوا ?للتهكم، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز؛ لأن المراد بها ليس طلب ذلك منهم، بل المراد بها إظهار عجزهم.
والمعروف أن الأمر ضد النهي، وهو طلب الفعل، وصيغته: افعل، وليفعل. وهي حقيقة في الإيجاب؛ نحو قوله تعالى:
? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ?(البقرة: 43)، وقوله تعالى:
? فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ?(النساء: 102). ومثل ذلك قوله تعالى:
? فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?- ? فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ?
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا؛ بل إنما قال عقب كل منهما:
? إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?
ومثل ذلك قوله تعالى:
? قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ?(آل عمران: 93)
?قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ?
(القصص: 49)
? قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ?(الأحقاف: 4)
?فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?(الصافات: 157)
? فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ?(القلم: 41)
وعلى هذا التقدير، ووجود ذلك الشرط، يجب الإتيان بالشيء المأمور به.
أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر:
? فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ?(البقرة: 258)(1/332)
والتنوين في ? ِسُورَةٍ ? للتنكير. أي: ائتوا بسورة مَّا، وهي القطعة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات. وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله:? مِنْ مِثْلِهِ ? على قولين:
أحدهما:أنه يعود على قوله تعالى:? مِمَّا نَزَّلْنَا ?. أي: على القرآن. والثاني:أنه يعود على قوله تعالى:? عَبْدِنَا ?. أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب هو القول الأول، وهو قول أكثر المفسرين.
واختلفوا في المراد بالمثلية على كون الضمير عائدًا على القرآن على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التفسير الصحيح؛ لأنها مبنيَّة على فهم غير صحيح لمعنى المثل أولاً. وأن قائلوها لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء، وقوله ثانيًا. وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه، أو يشار إليه، وهذه الأقوال هي كما ذكرها أبو حيَّان:
الأول:من مثله، في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
الثاني:من مثله، في غيوبه من إخباره بما كان، وبما يكون.
الثالث:من مثله، في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ، والقصص والأمثال.
الرابع:من مثله، في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس:من مثله، أي: من كلام العرب، الذي هو من جنسه.
السادس:من مثله، في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه.
السابع:من مثله، في دوام آياته، وكثرة معجزاته.
الثامن:من مثله، أي: في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله.
ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر المِثل في قوله:? مِنْ مِثْلِهِ ? هو على سبيل الفرض. ومذهب بعضهم أن المراد به: كلام العرب، الذي هو من جنسه، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض.(1/333)
ثم اختلفوا في معنى ? مِنْ ?، فقيل: هي للتبعيض، وهو مذهب الجمهور. وقيل: هي لبيان الجنس، وإليه ذهب الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ، وغيرهما. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة؛ ولهذا حذفت في قوله تعالى:
? فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ?(يونس: 38)
أما كون ? مِنْ ?لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز على مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين. وليس في قوله تعالى:
? فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ?(يونس: 38)
دليل على زيادتها؛ لأن المراد به: فأتوا بكلام مثل القرآن. أو بقرآن مثل القرآن. وإذا كان كذلك، فلا وجه لدخول? مِنْ ?فيه.
وأما قوله تعالى:? بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?(البقرة: 23) فالمراد به: فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن، طويلة كانت، أو قصيرة؛ لأن لفظ ? سُورَة ? يعمُّ كل سورة في القرآن؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، فتعمُّ؛ كما هي في سياق النفي.وعليه فإن? مِنْ ? فيه لابتداء الغاية، وهي متعلقة بقوله:? فَأْتُوا ?.
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو كالمراد بها في قوله تعالى:
? قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ?(الإسراء: 88)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق:? لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ?، المذكور على هذا الرابط:
فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ثالثًا- لما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك، والتظافر والتعاون والتناصر، فقال سبحانه:
? وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?(1/334)
وصيغة الأمر هنا:? ادْعُوا ?للإباحة، بخلاف صيغة الأمر قبلها، فتلك للتهكم بهم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك. وفسر بعضهم الدعاء- هنا- بطلب الغوث. يقال: دعا فلانًا: استغاث به. وبالاستحضار. يقال: دعا فلان فلانًا إلى الحاكم، استحضره إليه.
والشهداء في قوله تعالى:? شُهَدَاءَكُمْ ?مقيَّد بلفظه، وهو جمع: شهيد، بمعنى: شاهد، من شهد، إذا حضر. وجيء به على: فعيل، لما فيه من المبالغة؛ وكأنه تعالى أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة، يصلحون أن تقام بهم الحجة. والشهيد كما قال الراغب: كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد؛ ولذا سمُّوا غيره: مُخلِفًا.
وقوله تعالى:? إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?عبارة شرطية، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها. وفيها إثارة لحماسهم، أو تهكم بهم. والمعنى المراد: إن كنتم صادقين، فأتوا بسورة من مثله.
رابعًا- ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل سبحانه إلى إرشادهم، فقال لهم:
? فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?(البقرة: 24)، فذكر أمرين:
أحدهما:أنهم لم يفعلوا.
والثاني:أنهم لن يفعلوا أبدًا؛ لأنهم ليسوا بقادرين على ذلك.
ولذلك أمرهم تعالى باتقاء النار، التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم.
وأتى بـ? إِنْ ? الشرطية، التي تدل على إمكان ما بعدها وعدم إمكانه، ولم يأت بـ? إِذَا ?، التي تدل على تحقق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم؛ كما يقول القائل: إن غلبتك، لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب.
و? لَنْ ? لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لن يأتوا ? بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ?؛ وذلك مبالغة في التحدي، وإفحامًا لهم. ولو كان في طاقتهم تكذيبه، ما توانوا عنه لحظة واحدة.(1/335)
وقال تعالى:? فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ?، ولم يقل سبحانه:? فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا ?؛ لأن{ فَعَلَ } عامٌّ في الأفعال كلها، ويجري مجرى الكناية، فيعبَّر به عن كل فعل، إيجازًا واختصارًا، وحيث أطلق في كلام الله تعالى، فهو محمول على الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ?(الفيل: 1). وقوله تعالى:
? وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ?(إبراهيم: 45)
وجملة ? لَنْ تَفْعَلُوا ? اعتراضية بين الشرط وجوابه، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى؛ لأنه لما قال تعالى:? فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ?، وكان معناه: نفي في المستقبل، مخرجًا ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لن يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم. وفي ذلك إثارة لهممهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة:
أحدهما:صحة كون المتحدَّى به معجزًا، وأنه من عند الله تعالى.
والثاني:الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل.
ولما كان الفعل المنفي بـ?لَمْ ? في قوله تعالى:? وَلَمْ تَفْعَلُوا ?مرادًا به الاستقبال، لدخول أداة الشرط عليه، حسُن تأكيده بقوله:? وَلَنْ تَفْعَلُوا ?. وكان من حقه أن يؤكَّد بقول:? وَلَا تَفْعَلُون ?، فيقال:
?فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون ?؛ لأن قبله في أول السورة:
? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ?(البقرة: 2)
و? لاَ رَيْبَ فِيهِ ? نفيٌ لجنس الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول. وهذا النفي يناسبه أن يقال:? وَلَا تَفْعَلُون ?؛ كما قال تعالى في آية الإسراء :
? قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ?(الإسراء: 88)(1/336)
والسر في هذا العدول من النفي بـ? لَا ? إلى النفي بـ? لَنْ ? أن العرب تنفي بـ? لَنْ ? ما كان ممكنًا عند المخاطب، مظنونًا أنه سيكون، فتقول: لن يكون، لما يمكن أن يكون؛ لأن ? لَنْ ? فيها معنى? أَنْ ?. و? أَنْ ? تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. وإذا كان الأمر عندهم على الشك، لا على الظن: أيكون، أم لا يكون ؟ قالوا في النفي: لا يكون.
وقوله تعالى:
? فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?
جواب للشرط. ولقائل أن يقول: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار. فاتقاء النار يوجب ترك العناد. فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله:? فَاتَّقُوا النَّارَ ? قائمًا مقام قوله:{ فاتركوا العناد }. وهذا هو الإيجاز، الذي هو أحد أبواب البلاغة. وفيه تهويل لشأن العناد؛ لإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار.
و? النَّاسُ ?يراد به: الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار، وإن كان لفظه عامًا. و? الْحِجَارَةُ ?يراد بها: الأصنام. وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار، فدل على أنها نار ممتازة من النيران، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة؛ وذلك يدل- أيضًا- على قوتها من وجهين:
الأول:أن سائر النيران، إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولاً بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه، أو إحماؤه. وهذه توقد بنفس ما تحرق.
والثاني:أنها لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر.
والوَقود، بفتح الواو، هو ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه، كما قال تعالى:
? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ?(الجن: 15)(1/337)
وإنما قرن الله سبحانه الناس بالحجارة، وجعلها معهم وقودًا؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصنامًا، وجعلوها لله أندادًا، وعبدوها من دونه سبحانه. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله:
? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ?(الأنبياء: 98- 99).
وهذه الآية مفسرة لها، فقوله تعالى:
? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ? في معنى: ? النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ?
وقوله:? حَصَبُ جَهَنَّمَ ?في معنى:? وَقُودُهَا ? .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم، وجعلها الله عذابهم، قرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم.
ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين، الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة، فشحوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم، فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى بقوله:
? يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ?(التوبة: 35)
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن، لقوله تعالى:? أُعِدَّتْ ?.أي: أرصدت وهيئت. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك؛ منها:” تحاجَّت الجنة والنار “.
ومنها:” استأذنت النار ربها، فقالت: ربِّ ! أكل بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف “.
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه:” سمعنا وجبة، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم، منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها “.(1/338)
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة، التي تؤكد على أن النار، التي أعدَّها الله تعالى للكافرين، وجعل وقودها الناس والحجارة، موجودة، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
البصر والبصيرة
د. محمد السقا عيد
ماجستير وأخصائى جراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصرية
البصر أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم حولنا نتأثر به ونؤثر فيه.
والبصر حاسة الرؤية كوظيفة جسدية وحاسة الإدراك كأداة سلوكية فنحن لا نبصر الشيء أي نراه فقط ولكننا نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية. وفي مختار الصحاح "بصير بالشيء أي عليم به فهو بصير" ومنها قوله تعالى:(بصرت بما لم يبصروا به) والتبصر هو التأمل والتعرف والتبصير التعريف والإفصاح
ومنه قوله (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) والابصار لا يكون مجرد فعل ورد فعل وانما يكون عملية تفاعل متكاملة .فنرى الشيء وندركه ونحلله ونكون عاطفة نحوه سلبية أو إيجابية ونسمى هذا الشعور حالة انفعال .
وحاسّة البصر نافذة من نوافد المعرفة، فبها نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً ، لكنّ الاعتماد على البصر وحده في التشخيص والتمييز والمعرفة غير كاف، إذ لا بدّ من مرجع آخر نرجع إليه في رفع الالتباس والغموض، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به الظلمة العقلية، وهذا الضوء هو (البصيرة).
وقد ميز الله الانسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة والخطأ والتعلم بالشرطية والتقليدية والمحاكاة إلى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل.(1/339)
وقد خاطب الله الإنسان في أكثر من موقع قال تعالى"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وتفسير الآية يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الإنسان لا تتحقق إلا إذا وصل درجة من العقل ترقي به إلى الملاحظة والاستنتاج والاستدلال والتحليل وفي الحياة العامة نلاحظ عند عامة الناس.
إن كثيراً من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشيء والقدرة على إدراكه والصبر في تحليله ووسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل.
ألا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات هذه الكلمة أو ذلك الفعل قد سقط في الخندق الذي يفصل بين البصر والبصيرة .وما كل ذي عينين بالفعل يبصر ولا كل ذي كفين يعطي فيؤجر.
والسؤال الآن ما هي البصيرة ؟
البصيرة هي الحجة والاستبصار في الشيء في قوله تعالى( بل الإنسان على نفسه بصيرة)
ونفاذ البصيرة يعني قوة الفراسة وشدة المراس وقوة الحنكة والقدرة على تخطي العقبات الحالية بالخيرات السباقة المتراكمة بتطويعها وترويضها والاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة.
وقد تطلق البصيرة على العلم واليقين، كما في قوله تعالى( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...)
وقد تطلق على نور القلب كما يطلق البصر على نور العين.
قال الراغب البصر يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة والبصيرة هي هذه القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه ، وهي ما نصطلح عليها اليوم بـ (الوعي) فقد يكون الانسان ذا بصر حاذق لكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة ، ولذا اعتبر القرآن أن رؤية البصيرة أهم بكثير من رؤية البصر وذلك في قوله تعالى:(فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(1/340)
والبصيرة هي أعلى القدرات التعليمية الفطرية، ولربما انفرد الإنسان بها، إذ يصعب قياس هذه القدرة مخبرياً ……
وهذه القدرة تتفاوت قوتها بين أفراد البشر … صحيح أننا كلنا نشعر بها حين نواجه مشكلة أعياناً حلها ثم (يأتى الجواب كلمح البرق) ولربما جاء الحل نتيجة تفكير طويل انشغل به الدماغ من حيث لا ندرى.
فالقدرة على النفاذ إلى كنه الأمور وخفايا المعضلات ملكة لا نعرف أحكامها الآلية العصبية، ونسميها بأسماء كثيرة (إلهام ، رؤية ، بصيرة ، النظر الثاقب ، أو النفاذ) وهى ليست القدرة على التحليل المنطقي والحساب أو الرياضيات ، أو البلاغة.
وحادثة رؤية سيدنا عمر بين الخطاب رضي الله عنه لسارية ومناداته له بمقولته الشهيرة " يا سارية الجبل " رغم بعد المسافة التي بينهما عن مجال البصر العادي هو نقلة للرؤية عبر الضوء السريع، فألقيت في الشبكية فحذر عمر سارية ، وتلك حادثة بأمر الله تعالى حيث سخر الله الضوء لسيدنا عمر (فحدث تغير فسيولوجي في البصر والبصيرة) نقل له هذه اللقطة عبر الشعاع الضوئي تأييداً ونصراً لمن ينصره.
وهذا أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى امرأة في الطريق فتعجبه فيطيل النظر إليها ، ثم يدخل هذا الصحابي على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه فيبادره بقوله : أما يستحى أحدكم أن يدخل على أمير المؤمنين وفى عينيه آثار الزنا؟ … فيتعجب الصحابي من معرفة سيدنا عثمان لذلك بالرغم من أن أحداً لم يره ، فيبادر سيدنا عثمان بقوله : أوحى أُنزل بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له سيدنا عثمان : اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.
وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث. تتشابه الأشياء، أو إنّها تصبح أشباحاً لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة، وآخر عديم البصيرة.(1/341)
فالأوّل لا يقع ضحيّة الخداع والتغرير والتزوير، والثاني عرضة لذلك كلّه أمّا النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف، وما هو عدل وما هو ظلم، وما هو حق وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنّه مستقيم في فكره وفي عمله .
النموذج الأوّل إذن هو النموذج السالب الذي لا يعطي للحياة شيئاً بل يتسبّب في المتاعب لنفسه ولغيره.
والنموذج الثاني هو النموذج الموجب الذي يأخذ من الحياة ويعطيها وقد صوّر القرآن المميز بين الاثنين في قوله تعالى(أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتّبع أمّن لا يهدِّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) وفي قوله تعالى : (أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ).
إنّ الجواب على التساؤل القرآني واضح ، فالذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشيء ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً.
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.
يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: 22)
- ويقول سبحانه: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" ( الأنعام122).(1/342)
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد – بل لكل حي ناطق – كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1/24).فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل.
قال ابن القيم – رحمه الله – قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين "
قال مجاهد يعني للمتفرسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110)
من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة القيامة(1/343)
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ?1? وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?2? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ?3? بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?4? بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ?5? يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ?6? فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ?7? وَخَسَفَ الْقَمَرُ ?8? وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ?9? يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ?10? كَلَّا لَا وَزَرَ ?11? إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ?12? يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ?13? بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ?14? وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ?15? لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ?16? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ?17? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ?18? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ?19? كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ?20? وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ?21? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ?22? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?23? وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ?24? تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ?25? كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ?26? وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ?27? وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ?28? وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ?29? إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ?30? فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ?31? وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ?32? ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ?33? أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?34? ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?35? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ?36? أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ?37? ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ?38? فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ?39? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ(1/344)
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ?40?
أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف، وآياتها أربعون، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء، الذي هو أحد أركان الإيمان، وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعلى حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛ ولذلك سمِّيت:{ سورة القيامة }.
تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ، لا ريب فيه. ثم تذكر طرفًا من ذلك اليوم المهول، الذي يتحيَّر فيه البصر، ويُخْسَف فيه القمر، ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء.
وتتحدَّث السورة الكريمة عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم، عند تلاوة جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة جبريل عليه السلام، ويحرِّك لسانه معه؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره الله تعالى أن يستمع للتلاوة، ولا يحرِّك لسانه به.
وتذكر السورة الكريمة انقسام الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء. فالسعداء وجوههم مضيئة، تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الرب جل وعلا.. والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة.
ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء عند الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإنسان من الكرب والضِّيق ما لم يكن في الحسبان. وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية.
ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز، الذي أعجز أرباب الفصاحة والبيان. وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة:
1-سر دخول ? لَا ?النافية على الفعل ? أُقْسِمُ ? في الآية الأولى والثانية:
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?(القيامة: 1- 2)(1/345)
ويكاد يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن ? لَا ?هذه زائدة لتوكيد القسم، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم، وذهب آخرون إلى أنها نافية لكلام تقدم ذكره، ثم ابتدىء بالقسم، إلى غير ذلك من الأقوال. ومن العلماء المعاصرين، الذين تحدثوا عن الخلاف في ? لَا ? هذه الدكتور فاضل السامرَّائي، وهو أشهر من أن يعرَّف به، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف { لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في سورة { البلد }، وقد سأل السؤال الآتي: ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم أجاب بقوله:” أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا. كل القسم في القرآن ورد باستخدام ( لا )؛ كقوله تعالى:( لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس )، ( فلا وربّك لا يؤمنون ).. وهكذا في القرآن كله..
فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ): كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا، يقولون:( لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى:( أقسم )، مثال قولنا: والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون: هي للنفي. أي: نفي القسم. والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه، فلا داعي للقسم.. وقسم قال: إنها تنفي لغرض الاهتمام؛ كأن تقول: لا أوصيك بفلان، بمعنى: لا أحتاج لأن أوصيك.
وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام “.(1/346)
هذا ما قاله فضيلته بنصِّه، وهو مدوَّن في كتاب، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على الهواء، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل، حتى يستطيع فهمه؛ لأنه أشبه بالألغاز؛ وإلا فكيف يمكن أن يفهم قولهم:( والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. ولو قلنا: لا والله لا أفعل، معناها: لا أفعل. لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة ).
أو كيف يمكن أن يفهم قوله:( وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور، على أنها توكيد للقسم، بمعنى:{ أقسم بهذا البلد }. إذن الغرض للتوكيد؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام ).
هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم. وبين قوله تعالى:{ لا أقسم }، وقوله تعالى:{ فلا وربك لا يؤمنون }..
وكأن الدكتور فاضل أحس بما في كلامه من اضطراب وخلط، فرجع عنه في حديثه عن { لمسات بيانية في سورة القيامة } إلى القول:” وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية، تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا. أو لا أريد أن أحلف؛ لأن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله- لأن الحلف بالله عظيم- إن الأمر على غير ما تظن، فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر.. أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد... “(1/347)
ومثل هذا الخلط نجده عند الطاهر ابن عاشور، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ?(الواقعة: 75):” و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد. وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم. وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم؛ لأن الأمر واضح الثبوت. ثم كثر هذا الاستعمال، فصار مرادًا تأكيد الخبر، فساوى القسم، بدليل قوله عقبه:{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } “.
ثم قوله في سورة البلد:”و{ لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم، وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف( لا ) كالمزيد كما تقدم عند قوله تعالى:{ فلا أقسم بمواقع النجوم }(الواقعة: 75) “.
لاحظوا قوله:” و{ لا أقسم } بمعنى: أقسم، و( لا ) مزيدة للتوكيد “.
ثم تأملوا قوله:” وأصلها: نافية، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم “، وقوله:” وأصلها: أنها امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث “،وتذكروا أن المقسم- هنا- هو الله عز وجل !
والله جل شأنه عندما يقول:? لَا أُقْسِمُ بِكَذَا ? فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط، وهو أنه تعالى ليس بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم عليه حقٌّ، لا ريب فيه ! لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه وثبوته؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة. والفرق واضح كل الوضوح بين أن نقول:{ أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }، وبين أن نقول:{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق }. فالأول يجعل من البعث أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب، بخلاف الثاني.(1/348)
وإذا علمنا الفرق بين الجملتين أدركنا سرَّ دخول ? لَا ?النافية على فعل القسم في هذه السورة، وفي غيرها من السور، التي يكون فيها ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة.
ومن هنا يمكننا القول بأن ? لَا أُقْسِمُ ?في القرآن، ليس بقسم مباشر، ولا هو نفي للقسم أو نفي لغيره؛ بل هو تلويح بالقسم، وعدول عنه لعدم الحاجة إليه. وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر، وهو أسلوب، ذو تأثير في تقرير الحقيقة، التي لا تحتاج إلى القسم؛ لأنها ثابتة واضحة.. وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني، الذي ما زال الناس في تفسيره يتخبطون !
وأما الفرق بين ? لَا ?في قوله تعالى:? لَا أُقْسِمُبِكَذَا ?، وبينها في قوله تعالى:? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ?(النساء: 65) فيبينه أن الأولى موصولة بالقسم، وأن الثانية منفصلة عنه، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما.
وأما الفرق بين نفي القسم، ونفي الحاجة إلى القسم، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء بقولها:”وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون?لَا ?لنفي القسم- كما قال بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم؛ كما يهدي إليه البيان القرآني.. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد، والتقرير؛ لأنه يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام. والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى الانتباه، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى القسم، فنقول لمن نثق فيه: لا تقسم. أو: من غير يمين، مقررين بذلك أنه موضع ثقتنا، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا “.(1/349)
وأما القول بأن{ لا أقسم } بمعنى:{ أقسم }، بدليل قوله تعالى:? وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?(الواقعة: 76 )فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقاله{ دخول{ لا } النافية على فعل القسم}، والموجود على هذا الرابط:
http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=1294&select_page=9
وفيه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي.
2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل? نَجْمَع ? بـ? لََنْ ?، وتخيصه بـ{ العظام }، في قوله تعالى:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ?(القيامة: 3)
ولمَّا عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح به، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال:
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?، ? لَتُبْعَثُنَّ ?
ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة، وجيء به في صورة أخرى؛ كأنها ابتداء لحديث، بعد التنبيه إليه، بهذا المطلع، الذي يوقظ الحس والمشاعر:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ?(القيامة: 3)
وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حيًّا! وهي مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا ! وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عنهم:
? وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ? *? أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ?(الواقعة: 47- 48)
والقرآن الكريم يردُّ عليهم، فيقول سبحانه:
? قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ? * ? لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?(الواقعة: 49- 50)(1/350)
ونحو ذلك قوله تعالى:
? وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ?(يس:78)
ويأتي الرد من الله تعالى:
? قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ?(يس: 79)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ?(القيامة: 3)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه:
? بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?(القيامة: 4)
والمعنى: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة، ونجعلها كما كانت قبل الموت، فكيف بالعظام الكبار.
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى، في آخر السورة، فقال سبحانه:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى *أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ?(القيامة: 36- 40)
والاستفهام في قوله تعالى:? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ? لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه. والتعريف في? الْإِنْسَانُ ? تعريف الجنس، والمراد به هنا جنس الكافر، المنكر للبعث.(1/351)
وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب النفس، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد البلى. وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله، الذي خلقها أول مرة، سبحانه وتعالى! قال ابن قيِّم الجوزيَّة:”الذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا، سوى الصغار السَّمسَميَّات، التي أحكمت بها مفاصل الأصابع، والتي في الحنجرة.. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً. فإن كانت المفاصل هي العظام، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا، لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم. وإن كان المراد بالمفاصل المواضع، التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام.. فتأمله !“.
3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ اختيار لفظ البنان وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى:
? بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?(القيامة: 4)
و? بَلَى ?حرف جواب، ولها موضعان:
الموضع الأول:أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها؛ كقوله تعالى:
? مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ?(النحل: 28)
أي: بلى ! قد عملتم السوء.
والموضع الثاني:أن تقع جوابًا لاستفهام، دخل عليه نفي حقيقة، فيصير معناها التصديق لما قبلها؛ كقولك: ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول: بلى ! أي: كنت صديقي. ومنه قوله تعالى:
? أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ? ؟ ? قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ?(الملك: 8- 9)
فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها، وفي الأول ردُّ لما قبلها، وتكذيب.
ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا؛ حقيقيًّا كان، أو مجازيًّا.
فالمجازي كقوله تعالى:
? أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ? ؟? قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ?(الأعراف: 172)(1/352)
أي: بلى! أنت ربنا ! فان الاستفهام هنا ليس على حقيقته؛ بل هو للتقرير. لكنهم اجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ? بَلَى ?. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما:” لو قالوا: نعم، لكفروا “. ووجهه أن لفظة { نعم }تصديق لما بعد الهمزة؛ نفيًا كان، أو إثباتًا.
والحقيقي كقوله تعالى:
? أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ? ؟? بَلَى ?(الزخرف: 80)
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ? ؟ ? بَلَى قَادِرِينَ ?(القيامة: 3- 4)
ومن ثمَّ قال الجمهور: التقدير: بلى! نجمعها قادرين؛ لأن الحسبان؛ إنما يقع من الإنسان على نفي جمع العظام، و? بَلَى ?إثبات فعل النفي، فينبغي أن يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب.
وقوله تعالى:? قَادِرِينَ ?حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر، وفيه بعد الدلالة على التقييد، تأكيد لمعنى الجمع؛ لأن الجمع من الأفعال، التي لا بدَّ فيها من القدرة، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة، فقد أُكِّدَ .
والبنان في قوله تعالى:? عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?يطلق في اللغة، ويراد به: الأصابع، وأطرافها. وقيل: سمِّيت الأصابع بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال، التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها. وقال تعالى:
? وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ?(الأنفال: 12)
أي: الأصابع، أو أطرافها؛ لأجل أنهم بها يقاتلون؛ فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه. والمراد بها في قوله تعالى:
? بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?(القيامة: 4)(1/353)
أطراف الأصابع. وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع أجزاء الإنسان المتفرقة، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك؛ إذ تؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها؛ بل تُسوَّى تسويةً كاملة، مهما صغُرت ودقَّت! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ { البنان} بالذكر- هنا- دون غيره.
وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر؛ إذ تبين أن البشرية بأسرها، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها بميزة، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم، حتى الأب مع ابنه، تلك الميزة هي اختلاف البنان، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان. فثبت بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية، ونشأ عن ذلك علم، سمِّي:{ علم تحقيق الشخصيَّة }.
فإذا كان الأمر كذلك، وقد أخبر تعالى أنه قادر على جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته، فكيف يستبعد الجاحد على من هذه قدرته، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟
وبالتالي فالآية نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة، حتى أصغر وأدق جزء منها، ودليلٌ على أن بدن الإنسان يتفرق، ولا ينعدم.
وهكذا نرى أن قوله تعالى:? أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ?يدل على معنى، لم يكشف العلم سره، إلا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر. وصدق رب العزة حين قال:
? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ?(فصلت: 53)
4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار:(1/354)
ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.
أ-أما التكرار في الآيتين: الأولى والثانية:
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ?*? وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?(القيامة: 1- 2)
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.
والثاني: أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.
والثالث: أنه لم يقسم بهما.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:? لَا أُقْسِمُ ? ليس بقسم مباشر؛ بل هو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه. وأن ? لَا ? جيء بها قبل الفعل ? أُقْسِمُ ?، لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض آخر. وهذا هو سرُّ البيان فيها. وأما تكرارها مع الفعل? أُقْسِمُ ?ففيه سرٌّ آخرُ من أسرار البيان، وبيان ذلك أنه لو قيل:
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?، احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين.
والثاني: نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، دون الآخر.
وأما قوله تعالى:
? لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ?
فيدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين. وهذا يعني أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة، وإيقاع النفس اللوَّامة؛ وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية، التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة.(1/355)
أما يوم القيامة فقد ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره، وسيمر بنا شيء من هذا الوصف.. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة، كلها متقاربة المعنى، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. وعنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
يقول سيد قطب رحمه الله:” فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة ! “.
? بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ?(القيامة: 5- 6)
والسؤال بـ? أَيَّانَ ?هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة هذا اللجام؛ لينطلق في الشر والفجور، بلا حساب ليوم الحساب.
ومن ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ..(1/356)
? فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ *كَلَّا لَا وَزَرَ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ *بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ?(القيامة: 7- 15)
ب- وأما التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة:
? وَخَسَفَ الْقَمَرُ ? *? وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ?(القيامة: 8- 9)
فالمراد به تكرار لفظ { القمر }. والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية بغير الخبر في الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس. وخسفه معناه: ذهاب ضوئه وإظلامه. قال أبو حاتم محمد بن إدريس:” إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف “.
وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية، لاجتماع الشمس والقمر. ولو قيل: طلع الشمس والقمر، بدلاً من جمع الشمس والقمر، لقبح؛ كما يقبح أن يقال: قام هند وزيد، إلا أن يراد بالواو: الواو الجامعة، لا العاطفة. وأما في الآية الكريمة فلا بد أن تكون الواو جامعة، وهي التي تسمَّى واو المعيَّة، ولفظ الجمع قبلها يقتضي ذلك، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:
? وَجُمِعَ بين الشَّمْس وَالْقَمَر ?.
وقيل في المراد من جمعهما: أن الله تعالى يجمع بينهما يوم القيامة، ويلقيهما في النار؛ ليكونا عذابًا على الكفار. وفي تنوير المقباس من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما:” يجمع بينهما كالثورين المقرونين العقيرين الأسودين فيرمَي بهما في حجاب النور “.
وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون. أي: يحدث وقت التحام الشمس والقمر. في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب، وتوابعها، فتصطدم ببعضها، وتتحطم، ثم تتناثر.(1/357)
ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة، وسينجذب القمر الى مركزه الأصلي، وهو الشمس.
ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له، نشر في هذه الموسوعة تحت عنوان{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }، أن علماء الفلك يخبرون بنتيجة حساباتهم أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام، وفي تلك اللحظة سيكبر حجم الشمس، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر، وسيتم اجتماع الشمس والقمر!“.
ثم قال:”منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران الأرض يتباطأ مع الزمن، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجياً وبمعدل/ 4 سم كل عام.
وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 بالمائة أكبر من بعده الحالي. أي: أنه سيكون أقرب إلى الشمس، عند هذه المرحلة سوف يتحطم القمر، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال.. وبالتالي سيكون القمر أول من يجتمع مع الشمس، ويتأثر بحرارتها.. في ذلك الوقت سيكون طول اليوم على الأرض/ 47 ضعف اليوم الحالي، وسيصبح طول الشهر/ 47 يومًا.
ويؤكد العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات، تعرضت لها الأرض قبل{ 4.5 } بليون سنة، فتناثرت أجزاء من الأرض، وبدأت تدور حولها، ثم تجمعت وشكلت القمر. والقمر يبعد عن الأرض{ 385 } ألف كيلو متر وسطياً، هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة، استمرت آلاف الملايين من السنوات، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس، ويكون الاجتماع بينهما.. ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر واقتراب القمر من الشمس واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم الكون “.
فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر، وإن كان الكل أمام القدرة الإلهية سواء !(1/358)
ج- وأما التكرار في الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين:
? أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?*? ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?(القيامة: 34- 35)
فقد جاء فيهما لفظ?أَوْلَى ?مكررًا أربع مرات. والغرض من هذا التكرار المبالغة في التهديد والوعيد. والخطاب لأبي جهل، عمرو بن هشام، الذي تقدم وصفه في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين، وهي قوله تعالى:
? فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ? *? وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? * ? ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ?(القيامة: 31- 33)
وكان يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالاً بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر؛ كأنما فعل شيئًا يذكر.
والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه? يَتَمَطَّى ?، وهو ذاهب إلى أهله. أي: يمطُّ في ظهره، ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا !
والله تعالى يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد، فيقول سبحانه:
? أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى *ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?
وهو تعبير اصطلاحي، يتضمن التهديد والوعيد. ومعناها: قاربك ما تكره، فاحذره. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ، وهو القرب.
وفي ( زاد المسير ) لابن الجوزيِّ:”قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد. وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان، إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وَلِيَكَ المكروه، يا أبا جهل ! “.
وقال الكرماني في ( أسرار التكرار ):”فإن قوله:? أَوْلَى ?تامٌّ في الذمِّ، بدليل قوله:? فَأَوْلَى لَهُمْ ?(محمد: 20)، فإن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنه للتهديد؛ وإنما كرَّرها؛ لأن المعنى: أولى لك الموت، فأولى لك العذاب في القبر، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة، وأولى لك عذاب النار، نعوذ بالله من شرها “.(1/359)
وفي المستدرك على الصحيحين: عن سعيد بن جبير، قال:”قلت لابن عباس رضي الله عنهما:? أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شيءٌ أنزله الله ؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله الله “.
وفي لباب النقول في أسباب النزوللجلال الدين السيوطي:” أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك:
? أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ?
قال: فنزع ثوبه من يده، فقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ، وأنا العزيز الكريم. فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيَّره بكلمته، ونزل فيه:
? ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ?(الدخان: 49) “.
5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّالتقديم والتأخير:
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ. وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها.
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ، أو على ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية:
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ?(القيامة: 12)
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ?(القيامة: 30)
? إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ?(القيامة: 17)
? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ?(القيامة: 19)
ففي الآية الأولى قُدِّم الخبر?إِلَى رَبِّكَ ?على المبتدأ? الْمُسْتَقَرُّ ?، والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص، مع تحسين اللفظ. والمعنى: أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة، لا إلى غيره، فلا مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه.
قال الزمخشري:”أي: استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصِبوا إليه. أو: إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره؛ كقوله:
? لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ?(غافر: 16).(1/360)
أو: إلى ربك مستقرُّهم. أي: موضع قرارهم، من جنة، أو نار “.
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى:
? إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ? ? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ?(القيامة: 17- 19)
أي: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات قراءته في لسانه، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه. فالله سبحانه تكفل بجمعه، وقرآنه، وبيانه. وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين على مر الدهور والعصور، الغائصين في مكنوناته، المتحيرين في أسرار إعجازه. وهذا يعني: أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر، ولم يقتصر على زمن دون زمن.
أما لفظ { قرآن }هنا فهو مصدر:{ قرأ }، جيء به بدلاً من { قراءة }؛ ليدل على المبالغة في القراءة. هذا أصله، ثم أطلق على الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار علمًا عليه. ومثله في دلالته على المبالغة:{ فرقان }، و{ غفران }، و{ شكران }، و{ كفران }.
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى: عاملها، فنلاحظه في الآيات الآتية:
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ?(القيامة: 12)
? بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ?(القيامة: 14)
? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ?(القيامة: 22)
? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?(القيامة: 23)
? وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ?(القيامة: 24)
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ?(القيامة: 30)
ففي هذه الآيات تقدم الظرف، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو العربي مصطلح{ العامل }. والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص، وهو الغرض نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات، التي تقدَّم ذكرها قبل هذه الآيات. وفي قوله تعالى:
? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?(القيامة: 23)
قال الزمخشري:”تنظر إلى ربها خاصَّة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول “.(1/361)
واستطرد الزمخشري قائلاً:”ألا ترى إلى قوله:
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ?(القيامة: 12)
?إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ?(القيامة: 30)
? إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ?(الشورى: 53)
َ? إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ?(آل عمران: 28)
?َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? (البقرة: 28)
? عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ?(هود: 88)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! “.
ومصطلح{ المفعول }يطلق- عند النحاة- ويراد به: شبه الجملة؛ كما يراد به: المفعول به.
وذكر الهاشمي في{ جواهر البلاغة } من فوائد التقديم: ما يفيد زيادة في المعنى، مع تحسين في اللفظ، ثم قال:”وذلك هو الغاية القصوى، وإليه المرجع في فنون البلاغة، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا.. انظر إلى قوله تعالى:
? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?(القيامة: 22- 23)
تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص، وأن النظر لا يكون إلا لله، مع جَوْدَة الصياغة، وتناسق السجَع “.
6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول{ الواو }على { لو } الشرطية، في قوله تعالى:
? بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ?(القيامة: 14- 15)
و? بَلِ? للإضراب الانتقالي، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة:
? يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ?(القيامة: 13)
إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله. فالمعنى: بل الإنسان حجَّة بيِّنة على نفسه يوم القيامة، وشاهد عليها وحده بما جنت، وارتكبت من الموبقات، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ بذلك..
? يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?(النور: 24)
ولهذا لا يحتاج إلى غيره؛ لينبئه بأعماله. ألا ترى إلى قوله:(1/362)
? يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ? *? وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ?(الحاقة: 25)
وهو كقوله تعالى:
? اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ?(الإسراء: 14)
فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة؛ مثلها في قوله تعالى:
? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ?(يوسف: 108)
والتاء فيها للمبالغة؛ كما في{ راوية }، و{ علاَّمة }، و{ ونسَّابة }.
وقيل: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب؛ كما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين. وقيل: البصيرة: العقل، الذي تظهر به المعاني والحقائق؛ كما أنّ البصر إدراك العين، الذي تتجلى به الأجسام. وتجمع على بصائر. قال تعالى:
? قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ?(104)
والمعنى المراد من الآية أن الإنسان بصير على نفسه، رغم المعاذير، التي يأتي بها. وهذا ما أفادته { الواو }الداخلة على ?لَوْ ?في العبارة الشرطية، التي جاءت قيدًا على الجملة قبلها. ولولا هذه الواو، لكان إلقاء المعاذير شرطًا في كون الإنسان بصير على نفسه، فجاءت الواو لتحصن المعنى..
? بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ?
ومثل ذلك قوله تعالى:
? وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ?(البقرة: 221)
? وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ?(يوسف: 17)
7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول { الباء }على خبر المنفي بـ{ ليس }، في قوله تعالى:
? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ?(القيامة: 40)(1/363)
لما ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله:
? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ?(القيامة: 40)
وهذه الحقيقة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا، هي إحدى الحقائق الكبيرة، التي عرضتها السورة الكريمة، إلى جانب مشهد يوم القيامة، وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة وقلق في مواجهة الأحداث الغالبة، حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس، وهي تروغ من هنا ومن هناك؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل الإنسان الكافر عن يوم القيامة، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب، واستهانة بها، ولجاج في الفجور.
وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله- حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها، وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة، ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا، يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بيِّنة، لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشيًّا مع التقدير والتدبير، الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.. وهذا هو الإيقاع، الذي تمسُّ السورة به القلوب، وهي تقول في أولها:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ?(القيامة: 3)
ثم تقول في آخرها:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ?(القيامة:36- 40)(1/364)
وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة، ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان. وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ?
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة، لا علة لها، ولا هدف، ولا غاية.. أرحام تدفع، وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب زائل من متاع الحيوان.
فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء، ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.
وهذه اللمسة: ? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ? هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض، يأتي سبحانه وتعالى بالدلائل الواقعة البسيطة، التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى، التي يدركها الإنسان بفطرته السليمة:
? أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى *ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى *فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ?(القيامة:36- 39)
وأمام هذه الحقيقة، التي تفرض نفسها فرضًا على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق، التي تعالجها السورة:
? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ? ؟(1/365)
وجمهور العلماء على القول بأن همزة الاستفهام، إذا دخلت على النفي؛ كما في هذه الآية:? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ?، أفادت معنى التحقيق والتقرير، وأن الباءالداخلة على الخبر ? بِقَادِرٍ ? زائدة للتوكيد، وعليه يكون قوله تعالى:
? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ?، وقولهم في تقديره:
{ أليس ذلك قادرًا} ، سواء في المعنى.
وفي الحقيقة أن الهمزة الداخلة على النفي لا تفيد معنى التقرير في الجمل المنفية، إلا بدخول { الباء }على خبر المنفي، أو ما يقوم مقامه. وبعبارة أخرى: التقرير لا يستفاد من دخول الهمزة على النفي؛ وإنما يستفاد من دخول الباء على الخبر الواقع في سياق هذا المنفي. ونحو ذلك قوله تعالى:
? أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ?(الأنعام: 53)
? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ?(الزمر: 36)
? أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ?(الزمر: 37)
? أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ?(التين: 8)
فالنفي في هذه الآيات جميعًا، ونحوها قد انتقض، وخرج إلى إثبات حاسم، مرادًا به التقرير. أما الإثبات فمستفاد من دخول { الهمزة }على ? لَيْسَ ?. وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على الخبر. وهذا هو سرُّ الإعجاز البياني في هذه الباء، التي حكموا عليها ظلمًا وعدوانًا بالزيادة !(1/366)
ثالثًا- وبعدُ.. فإنه ينفد القول، وما تنفد كلمات ربي، وما تنطوي عليه من أسرار البيان. وإن كنت قد اكتفيت بهذا القدر مما ذكرت من هذه الأسرار المبهرة في هذه السورة الكريمة، فأرجو ألا يظن أحد أنني قد أتيت على كل ما فيها من أسرار؛ فإنه لا يزال فيها الكثير مما أجهله، إذا ما قيس بالقليل، الذي أزعم أنني أعلمه، فما يعلم أسرار كلمات ربك إلا هو، سبحانه وتعالى أن يحيط بهذه الأسرار مخلوق من مخلوقاته. فتبارك من أودع كلامه هذه الأسرار، التي هي أجل وأعظم من أن تدركها العقول، فإن ما ظهر لنا منها بالنسبة إلى ما خفي يسيرٌ يسير.. والحمد لله رب العالمين !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية
الختام
يقول الشيخ / خالد الراشد حفظه الله تعالى وفك أسره وكربه
فى رائعته (( الذى يراك حين تقوم ))
وأي عنوان أحلى وأجمل من هذا !..
أي أسطر أجمل من تلك التي تتكلم عن الله ، وعن عظمته ، وبرّه ، ورحمته ..
لن أذكر للموضوع عناصراً ..
بل سأدع العناصر تسوق بعضها بعضاً حتى الختام ..
فهيا ننطلق ..
الدافع للموضوع ..
ما نراه من كثرة الفواحش والمنكرات .. ما نلمسه من ضعف الوازع عن المحرمات ..
وما تأتي به الأخبار عن ضعف التربية .. وقلة المراقبة في الخلوات ..
هذا يتساهل في النظر .. وذاك يمارس عادات ..
وآخر يأكل الربا .. وآخر يتمايل مع الغنا ..
أحبتي ..
كثير من الناس وجودهم كالعدم .. لم يتأملوا دلائل الوحدانية ..
ولم يقفوا عند أوامر الله ونواهيه ..
هم { كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ..
إن وافق الشرع مرادهم قبلوه ..
وإن لم يوافق تركوه ..
إن حصلوا على الدرهم والدينار رضوا وأخذوه .. ولم يبالوا أمن حلال أم حرام كسبوه ..
إن سهلت الصلاة فعلوها .. وإن لم تسهل تركوها ..
أحبتي ..
من تفكَّر في العواقب ؛ أخذ الحذر .. ومن أيقن بطول الطريق ؛ تأهب للسفر ..
تمضي السنون وتنقضي الأيام
والناس تسعى للحياة بغفلة(1/367)
والمال أصبح جمعه كتهجدٍ
قد زيَّن الشيطان كل رذيلةٍ
يا نفس يكفي ! فالذنوب كثيرة
هل تعلمي اليوم المحدد وقته؟!
ماذا تقول إذا حُملت جنازة
هذا السؤال فهل علمت جوابه
ماذا نصيرك إنَّ روحك غرغرت
اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي ... والناس تلهو والأنام نيام
لم يذكروا القرآن والإسلام
وتمتع الشهوات صار قيام
والناس تفعل ما تريد حرام
إنَّ الغرور يسبب الإجرام
الله يعلم وحده العلام
ودُفنت في القبر الشديد ظلام
ماذا تجيب إذا نطقت كلام
جاء المُفَّرط كي يقول ختام
وغداً تموت وتُرفع الأقلام
يُروى أنَّ عيسى ابن مريم عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها : كم تزوَّجت ؟!.. فقالت : لا أحصيهم ..كثير ..
فقال : أكلّهم مات عنك ؛ أو كلهم طلقك ؟!.. قالت : بل كلهم قتلت .. بل كلهم قتلت ..
فقال عيسى عليه السلام :
بؤساً لأزواجك الباقين ؛ كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضيين ..
بؤساً لأزواجك الباقين ؛ كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضيين ..
اعلم رعاك الله ..
واسمعي بارك الله فيكِ ..
لا يُقطع الطريق إلا .. بالصبر والتسلية ..
كما قيل :
فإن تشكَّت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
حُكي عن بشر الحافي أنه سار ومعه رجل .. سارا في طريق طويل ..
فعطش صاحبه فقال له : نشرب من هذه البئر ..
فقال بشر : اصبر إلى البئر الأخرى .. فلما وصلا إليها قال له : اصبر إلى البئر الأخرى ..
فما زال يعلله ويصبره ..
ثم قال : هكذا تنقطع الدنيا ..بالصبر والتصبير ..
فدرّب النفس على هذا الأصل .. وتلطف بها ..…وعدها الجميل .. لتصبر على ما قد حُمَّلت ..
كان بعض السلف يقول لنفسه :
والله ما أريد بمنعك هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك ..
وقال أبو يزيد :
ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي ؛ حتى سقتها وهي تضحك _ يعني أكرهتها على العمل حتى استقامت برضاها _ ..
فمن هجر اللذات حصل على المنى
ففي قمع أهواء النفس اعتزازها(1/368)
... ومن أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد
وفي نيلها ما تشتهي ذلّ سرمد
آية ومعنى ..
قال سبحانه : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
قال السعدي رحمه الله : وأعظم مساعد للعبد على القيام بما أُمر به الاعتماد على ربه ، والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور ، فذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } ..
والتوكل..
هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المدافع ، ودفع المضار ، مع ثقته بالله ، وحسن ظنه بحصول مطلوبه فإنه .. عزيز رحيم ..
بعزته يقدر على إيصال الخير ، ودفع الشر عن عبده وأمته ... وكل ذلك برحمته ..
ثم نبهه عند فعل الأوامر ، وترك النواهي باستحضار قرب الله ، والنزول في منزل الإحسان فقال : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } ..
أي يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي .. الصلاة .. يراك .. وقت قيامك وتقلبك راكعاً ساجداً ..
خصها بالذكر _ يعني الصلاة _ لفضلها ولشرفها ..
ولا بدَّ من استحضار القلب حين فعلها ؛ لأنه من استحضر فيها قرب ربه خشع، وذلَّ، وأكملها ..
وبتكميلها يكمل سائر عمله ..
ويستعين بها على جميع أموره ..
ثم قال : { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
أي :
السميع : لسائر الأصوات على اختلاف تشتتها وتنوعها ..
والعليم : الذي أحاط بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة ..
فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به ، وعلمه بما ينطوي قلبه من الهمّ والعزم والنيات يعينه على بلوغ منزلة الإحسان ..
فما هو الإحسان ؟!..
الإحسان ..
جاء في الحديث الصحيح عند مسلم في حديث وصف الإسلام والإيمان لما سُأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال :(1/369)
( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ..
نعم يراك .. نعم يراك .. ويعلم سرك ونجواك .. في الصحراء يراك .. في الجو أو في السماء يراك ..
إن كنت وحيداً يراك ..
إن كنت في جمعٍ يراك ..
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }..
معنى الإحسان .. استحضار عظمة الله ومراقبته في كل حال ..
فما هي .. المراقبة ؟!..
قال ابن القيم رحمه الله في " مدارج السالكين " :
من منازل { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } منزلة المراقبة ..
وهي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه..
فاستدامته لهذا العلم ، واليقين بذلك هي المراقبة ..
وهي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه .. رقيب عليه .. ناظر إليه .. سامع لقوله ..
مطلع على عمله ..
ومن راقب الله في خواطره ؛ عصمه الله في حركات جوارحه ..
قال أحدهم : والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه ..
قال ذو النون : علامة المراقبة .. إيثار ما أنزل الله .. وتعظيم ما عظَّم الله ..
وتصغير ما صغَّر الله ..
وقال إبراهيم الخوَّاص : المراقبة ..
خلوص السرّ والعلن لله جلَّ في علاه .. من علم .. أنَّ الله يراه حيث كان ..
وأنَّ الله مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانتيته ..
واستحضر ذلك في خلوته .. أوجب له ذلك العلم واليقين .. ترك المعاصي والذنوب ..
كان بعض السلف يقول لأصحابه : زهّدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أنَّ الله يراه فتركه من خشيته جلَّ في علاه ؛ أو كما قال ..
وقال الشافعي : أعزّ الأشياء ثلاثة .. الجود من قلة .. والورع في خلوة ..
وكلمة الحق عند من يُرجى أو يُخاف ..
وقالوا : أعظم العبادات مراقبة الله في سائر الأوقات ..
قال ابن القيم :
والمراقبة ..(1/370)
هي التعبد بأسمائه : الرقيب .. الحفيظ .. العليم .. السميع .. البصير ..
فمن عقل هذه الأسماء وتعبَّد بمقتضاها حصلت له المراقبة ..
فهيا معاً أحبتي ننظر في معاني هذه الأسماء وآثارها ..
من آثار هذه المعاني والصفات ..
اعلم بارك لله فيك .. واعلمي رعاكِ الله..
إنَّ أسماء الله الحسنى هي التي .. أثبتها الله تعالى لنفسه ..
وأثبتها له عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآمن بها جميع المؤمنين ..
قال الله تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..
وقال : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } ..
وقال : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى } ..
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر ) ..
ومعنى أحصاها : أي حفظها ، وعدها ، واستوفاها ، وعمل بمقتضاها ..
فكما أنَّ القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه دون العمل به ..
كذلك أسماء الله وصفاته ..
لا بدَّ أن نعلم أنَّ أسماء الله ليست منحصرة في التسعة والتسعين المذكورة في..
حديث أبي هريرة .. ولا فيما استخرجه العلماء من القرآن ..
ولا فيما علمته الرسل والملائكة وجميع المخلوقين ..
لحديث ابن مسعود عند أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(1/371)
( ما أصاب أحداً قط همّ ولا حَزن فقال : اللهم إنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ؛ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك ، أنزلته في كتابك أو استأثرت عليه في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ؛ من قالها أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً )..
فقيل يا رسول الله : أفلا نتعلمها ؟!..
فقال : ( بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها ) ..
فتعلموها رعاكم الله .. تعلموها وعلموها رعاكم ..
واعلم ، واعلمي ..
أنَّ من أسماء الله عز وجل ما لا يُطلق عليه إلا مقترناً بمقابله ..
فإذا أُطلق وحده أوهم نقصاً _تعالى الله عن ذلك _ ..
فمنها ..
المعطي المانع .. والضار النافع .. والقابض الباسط .. والمعز المذل .. والخافض الرافع ..
فلا تُطلق على انفرادها .. بل لا بدَّ من ازدواجها بمقابلها ..
إذ لم تُذكر في القرآن والسنة إلا كذلك ..
ومن ذلك ..
المنتقم ؛لم يأتِ في القرآن إلا مضافاً إلى ذي ، كقوله : { عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } ..
أو مقيداً بالمجرمين كقوله : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ..
ومما يجب علمه أيضاً ..
أنه ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجلّ على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة ..
وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال في ذات الله عز وجلّ ..
لكن لا يجوز أن يُشتق له تعالى اسم منها ولا تُطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات كقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ..
وقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ..
وقوله : { نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } ..(1/372)
وقوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ..
فلا يُطلق على الله تعالى مخادع ، ولا ماكر ، ولا ناسٍ ، ولا مستهزئ ، ونحو ذلك _ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً _ ..
ولا يُقال : الله يستهزئ ، ويخادع ، ويمكر ، وينسى على سبيل الإطلاق _ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً _ ..
ولكن هذا فعله بالمخادعين ، ومكره بالماكرين ، واستهزاؤه بالمستهزئين ، ونسيانه للذين نسوه ..وهي في هذا السياق مدح وكمال ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وفي كتاب الله من ذكر أسماءه وصفاته أكثر من ذكر آيات الجنة والنار .. وإنَّ الآيات المتضمنة لأسمائه وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد ..
من أسمائه جلَّ في علاه ..
الرقيب ..
ورد هذا الاسم في القرآن ثلاث من القرآن ..
في سورة المائدة في قوله تعالى مخاطباً عيسى عليه السلام يوم القيامة في مشهد عظيم وموقف جسيم { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } .. { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ..(1/373)
فمن هم الناجحون في ذلك اليوم !!.. من هم الناجون في ذلك اليوم !!..
اسمعوا رعاكم الله ..
قال الله : { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } ..
لن ينجوا إلا أهل الصدق والإخلاص ..
{ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ..
وجاء ذكر الرقيب في قوله تعالى في أول آية من سورة النساء { يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً } .. { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً } ..
قال ابن جرير في قوله : { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً } يعني أنَّ الله لم يزل عليكم رقيباً حفيظاً محيصاً عليكم أعمالكم متفقداً أحوالكم ..
وجاء ذكر الرقيب في سورة الأحزاب في قوله جل في علاه { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } ..
قال الزجَّاج :
الرقيب .. هو الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }..
وقال الحليمي : الرقيب .. هو الذي لا يغفل عما خلق ..
وفي نونية ابن القيم :
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال والأركان
قال السعدي : الرقيب .. المطلع ما أكنته الصدور ، القائم على كل نفس بما كسبت ، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير ..
فهو سبحانه ..
رقيب ..
على الأشياء بعلمه الذي وسع كل شيء { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}..(1/374)
وهو رقيب .. على الأشياء ببصره الذي { الذي لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ..
وهو رقيب .. على الأشياء بسمعه المدرك لكل حركة وكلام ..
فأين أثر هذا في حياتنا !!.. أين أثر هذا في حياتنا !!..
أنه يسمع ، ويرى ، و { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ..
أين أثر هذا في تصرفناتنا ؛ في معاملاتنا ؛ في عباداتنا !!..
جاء في السير بعد معركة بدر وبعد أن عادت قريش تجر أذيال الهزيمة وبعد أن تلقت درساً في معسكر الإيمان ..
قعد صفوان بن أمية وعمير بن وهب في الحجر فأخذا يتذاكران أصحاب القليب.
وكان صفوان بن أمية قد قُتل أبوه وأخوه يوم بدر ..
فقال عمير لصفوان لولا صبية صغار لا أحد يرعاهم بعدي وديون ركبتني لذهبت إلى المدينة وقتلت محمداً ..
فقال صفوان : دينك عليّ ، وأنا أرعى صغارك على أن تقتل محمداً .. فاتفقا .. ولا ثالث معهما إلا الله ..
الله الذي { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }..
وصل عميرٌ إلى المدينة متظاهراً بأنه جاء لدفع الفداء عن ابنه وهب الذي كان أسيراً عند المسلمين ..
فرآه عمر رضي الله عنه فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وقال : يا رسول هذا عدو الله عمير جاء متوشحاً سيفه ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادخلوه علي ) .. فجاء به عمر وقد اخذ بتلابيبه فأوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( أرسله يا عمر ) .. ثم قال : ( ادنو يا عمير ) ..
فدنا ؛ ثم قال : أنعم صباحاً يا محمد _ وكانت هذه تحية الجاهليه _..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ؛ أكرمنا بالسلام تحية أهل الجنة { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } ) .. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما جاء بك يا عمير ؟! ) .. فقال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه ..(1/375)
قال : ( فما بال السيف في عنقك ؟! ) .. قال : قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر .. قال : ( اصدقني يا عمير .. اصدقني يا عمير ما الذي جئت من أجله ؟ ) ..
قال : ما جئت إلا لذاك ..
قال : ( اسمع بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت أنت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً ، فتحمّل لك صفوان بن أمية بالدين ورعاية العيال ؛ على أن تقتلني له والله حائل بينك وبين ذلك .. والله حائل بينك وبين ذلك ) ..
فقال عمير : أشهد أنك رسول الله ؛ قد كنّا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء .. وما يتنزل عليك من الوحي .. وهذا أمر لم يحضره إلا وأنا وصفوان ..
والله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله .. والله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله .. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .. فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق .. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فقهوا أخاكم في دينه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا أسيره ) ..
الله أكبر ..
ولا إله إلا الله ..
تدبر في قوله جل في علاه : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً }..
أين أثر هذه الآيات في حياتنا ؟!..
بل أين أثر قوله جلَّ في علاه :{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }..
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة
ألم ترَ أنَّ اليوم أسرع ذاهبٍ
... خلوت ، ولكن قل عليَّ رقيب
ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وأنَّ غداً للناظرين قريب
قال ابن كثير : إنَّ عميراً هذا بعد أن هداه الله للإسلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى مكة ليكون داعية إلى الإسلام ..(1/376)
فقال : يا رسول الله إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله ؛ شديد الأذى لمن كان على دين الله ، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم ..
فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ..
فلحق بمكة ، وكان صفوان يتوقع وصوله بين آونة وأخرى ، فكان يسأل عنه الركبان ؛ حتى قدم راكب قبل عمير ؛ فأخبر صفوان عن إسلامه فغضب غضباً شديداً وحلف أن لا يكلمه أبداً ولا ينفعه نفعاً أبداً ..
قال ابن اسحاق : فلما قدم عمير مكة وكان شجاعاً مهيباً جاهر أهل مكة بإسلامه ولم يجرؤوا على التعرض له وأخذ يدعو إلى الإسلام ..
أسألك بالله من أين أتت الشجاعة ؟!!.. من أين أتت الشجاعة ؟!..
لما دخل موسى وهارون على فرعون { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } .. { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ..
فأخذ عمير يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذىً شديداً ..
فأسلم على يديه خلق كثير .. لكن قل لي .. وقولي لي ..
كيف أسلم عمير !!..
أسلم يوم استشعر .. عظمة الله .. ورقابة الله .. وإحاطة الله بكل شيء .. فهلا استشعرنا ذلك .. واستشعرنا قوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .. { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .. { لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء }..
ومن أسمائه جل في علاه ..
الحفيظ .. وهو الذي حفظ خلقه .. وأحاط علمه بما أوجده ..
وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات .. ولطف بهم في الحركات والسكنات ..(1/377)
وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها .. هل تعلم معنى ( احفظ الله يحفظك ) ؟!..
معناها احفظ .. حدود الله .. وحقوقه .. وأوامره .. ونواهيه ..
وحفظ ذلك هو الوقوف ..
عند أوامره بالامتثال .. وعند نواهيه بالاجتناب .. وعند حدوده فلا نتجاوزها ..
المعنى ..
فعل الواجبات جميعاً .. وترك المحرمات جميعاً ..
وقد مدح الله عباده الذين يحفظون حدوده فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة فقال ؛ من صفاتهم { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ } ..{ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ..
نعم بشرهم .. إذا حفظوا أوامره ، وحدوده ..
حفظهم في ؛ دينهم ودنياهم ، وفي أولاهم وأخراهم ..
ومن أعظم ما يجب على العباد حفظه من حقوق الله هو :
التوحيد .. وهو أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ..
روى البخاري من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ بن جبل ) .. قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .. قال : ( هل تدري ما حق الله على العباد ؟) .. قال : قلت : الله ورسوله أعلم ..
قال : ( فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) ..
ثم سار ساعة ، ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) .. قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ..
قال : ( هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ).. قال : قلت : الله ورسوله أعلم ..…
قال : ( إن فعلوا ذلك فحقهم عليه أن لا يعذبهم ) ..
( حقهم عليه ألا يعذبهم ) ..
فهذا هو الحق العظيم الذي أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يحفظوه ويراعوه ..(1/378)
ومن أجل حفظه أرسل الله الرسل ، وأنزل الكتب ، وكان الله رقيباً على الجميع { لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}..
…فمن حفظ توحيده في الدنيا .. حفظه الله تعالى من عذابه يوم القيامة ..
وسلمه ، وأمّنه ، وكان له عند الله عهداً أن .. يدخله الجنة .. ويجيره من النار ..
وإن عذّب بسبب ذنوبه إن لم يتب منها فإنه أيضاً محفوظ بتوحيده من الخلود في النار مع الكفار الذين ضيعوا هذا الحق العظيم ..
ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات:
الصلاة ..الصلاة ..
وما أدراك ما الصلاة ..
قال سبحانه :{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } ..
وقال : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ..
فمن حافظ على الصلوات ..
وحفظ أركانها ..
حفظه الله من نقمته وعذابه ..
وكانت له نجاة يوم القيامة ..
قال صلى الله عليه وسلم :
( اكلفوا من العمل ما تطيقون واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) ..
قال ابن القيم رحمه الله :
والصلاة :
مجلبة للرزق .. حافظة للصحة .. دافعة للأذى .. مطردة للأدواء .. مقوية للقلب ..
مبيضة للوجه .. مفرحة للنفس .. مذهبة للكسل .. منشطة للجوارح .. ممدة للقوة ..
شارحة للصدر .. مغذية للروح .. منوّرة للقلب .. حافظة للنعمة .. دافعة للنقمة ..
جالبة للبركة .. مبعدة من الشيطان .. مقربة للرحمن ..
وللصلاة تأثر عجيب ..
في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ودفع المواد الرديئة عنهما ..
وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية ؛ إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم ..
وللصلاة تأثير عجيب ..
في دفع شرور الدنيا لا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً ..
فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة ..
وسرّ ذلك ..(1/379)
أنَّ الصلاة صلة بالله عز وجلّ .. وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجلّ .. تُفتح عليه من الأبواب خيراتها .. وتُقطع عنه من الشرور أسبابها ..
تأمل في قوله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل :
( يا ابن آدم اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره ) ..
ومن حفظ الله للمصلين ..
أنَّ صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ..
أما من ضيعها ..
فقد توعده الله بالهلاك والشر العظيم ..
قال سبحانه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً } ..
فكيف هي صلاتنا !!..
هل حفظناها !!..
هل راقبنا الله فيها !!..
هل تدبرنا قوله : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }!!..
كم مرة تفوتك صلاة الجماعة !!.. كم مرة تفوتك تكبيرة الإحرام !!..
كم مرة تنام عن الصلاة المكتوبة !!..
والله ..
لن يستقيم الحال ..
والله ..
لن يستقيم الحال إلا إذا .. استقام العبد والأمة في أداء الصلاة ..
ومما أُمرنا بحفظه:
السمع ، والبصر ، والفؤاد ..
قال سبحانه : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ..
فاحفظ سمعك ؛ فلا تسمع إلا ما يرضيه .. واحفظ بصرك ؛ فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه ..
واحفظ قلبك ؛ فلا يمتلئ إلا بما يحبه ويرضيه .. واحفظ عقلك ؛ فلا تفكر إلا في طاعته ومراضيه ..
ومما أُمرنا بحفظه : الفروج ..
قال سبحانه : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } ..
وقال سبحانه :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ..
ومدح الله المؤمنين والمؤمنات بذلك فقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }..
ومما أُمرنا بحفظه : الأيمان ..الحلف والقسم(1/380)
فقال سبحانه : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } ..
وقال : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ } ..
لأنَّ حفظ اليمين يدل على إيمان المرء وورعه ..
فكثير من الناس يتساهل في الحلف والقسم وقد تلزمه الكفارة وهو لا يدري أو يعجز عنها فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه ..
وبالجملة ..
فالعبد والأمة كل مأمور ..
بحفظ دينه أجمع ..
فلا يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته ..
بل هو مطيع لربه على أي حال وفي كل زمان ومكان ..
لأنَّ ربه يراه ويسمع سره ونجواه ..
وكلما كان وفاء العبد والأمة بحفظ حدود الله وشرائعه أعظم ..
كان حفظ الله له ولها مثل ذلك ..
قال سبحانه : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } ..
وقال : { فََاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ..
وقال : { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ..
ومن أسمائه سبحانه :
السميع ..
قال جل في علاه { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
أي تسمع وتجيب ..
فقال عن نفسه : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }..
وقال عن نفسه : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } ..
فهو سميع لأقوال عباده ..
وحركات مخلوقاته ..
يسمع السر وأخفى ..(1/381)
{سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ..
فهو سميع ..
ذو سمع بلا تكييف ولا تشبيه ،ولا تمثيل ..
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها ..
قالت : قال لي : أنت عليَّ كظهر أمي ..
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله ما أراك إلا قد حرمت عليه )..
تشتكي وترفع شكواها إلى الله ..
فقالت : يا رسول الله إنَّ لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إلي جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ..
فقال _ بأبي هو وأمي _ : ( والله ما أراك إلا قد حرمت عليه )..
قالت تجادل وتشتكي وترفع شكواها إلى الله :
لقد أفنى شبابي ، وأفنى مالي ..
فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله ما أراك إلا قد حرمت عليه )..
وما هي إلا لحظات إلا وجواب ربها يأتيها ، ويواسيها ، ويرفع عنها الظلم والعدوان ..(1/382)
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } ..
تقول عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ..
لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وتجادله وأنا في ناحية البيت ما بيني وبينها إلا ستار ..والله ما سمعت شيئاً من كلامها ..
وفي رواية : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات..
تأمل في قوله ..
يوم ناداه زكريا نداءً خفياً فسمع الصوت وأجاب الدعاء ..
عند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا ..
فقال : ( أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، تدعون سمعياً بصيراً قريباً ) ..
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ..
سار عمر يوماً ومعه أبو عبيدة فالتقته امرأة في الطريق فقالت :
إيه يا عمر ..
لقد كنت تسمى عميراً تصارع الفتيان في أسواق عكاظ ، ثم ما لبثت أن سميت عمراً ، ثم ما لبثت حتى أصبحت أميراً للمؤمنين ..
فاتقي الله يا عمر واعلم أن الله ساءلك عن الرعية كيف رعيتها ..
فبكى عمر بكاءً شديداً..
فلام أبو عبيدة المرأة على قسوتها على عمر ..
فقال له عمر : دعها يا أبا عبيدة ..دعها يا أبا عبيد ..
فهذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات ..
فهذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات ..
فحري على عمر أن يسمع قولها ..
سبحانه ..
سميع لدعاء الخلق وألفاظهم ..
عند تفرقهم وعند اجتماعهم ..(1/383)
لا تختلف عليه اللهجات ولا اللغات ..
ما يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول ..
وقد يعجز القائل عن التعبير عن مراده والله يعلم ذلك فيعطيه الذي في قلبه..
وجاء اسمه السميع مقترناً بغيره من الأسماء ..
{ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .. { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .. { سَمِيعٌ قَرِيبٌ } ..
وهي تدل على الإحاطة بالمخلوقات كلها ..
وأن الله محيط بها .. لا يفوته شيء منها .. ولا يخفى عليه ..
بل الجميع تحت .. سمعه .. وبصره .. وعلمه ..
وفي ذلك ..
تنبيه للعاقل .. وتذكير للغافل ..
كي يراقب نفسه وما يصدر عنها من أقوال وأفعال ..
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ..
ومتى آمن الناس بذلك وتذكروه ..
فإنَّ أحوالهم تتغير .. من القبيح إلى الحسن .. ومن الشر إلى الخير ..
وإذا تناسوا ذلك .. فسدت أخلاقهم وأعمالهم ..
ومن أسمائه جلَّ في علاه :
البصير .. أي له بصر يرى به سبحانه ..
ويعني كذلك أنه ذو البصيرة بالأشياء الخبير بها ..
يبصر كل شيء كبُر أو صغر .. يبصر ما تحت الأرض .. وما فوق السماء .. وما في أعماق البحار ..
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ..
لا تراه في الدنيا العيون .. ولا تخالطه الظنون .. ولا تغيره الحوادث والسنون ..
لا تواري عنه سماءٌ سماءا.. ولا أرض أرضا .. ولا جبل ما في وعره .. ولا بحر ما في قعره ..
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ..
هذه آثار وأخبار نعرفها تمام المعرفة .. لكن أين أثرها في حياتنا ؟!..
سمع عمر ليلة عجوزاً تقول لبنيتها : امزجي اللبن بالماء ..
فقالت البنية : أما علمت يا جدة أن أمير المؤمنين عمر نهى عن مزج اللبن بالماء..
فقالت العجوز في لحظة غفلة : وأين عمر حتى يرانا ؟!..
فقالت المؤمنة الموقنة بنظر الله : أن كان عمر لا يرانا ..(1/384)
إن كان عمر لا يرانا فربُّ عمر يرانا ..
قصة نعرفها .. يعرفها الكبير والصغير .. لكن أين أثرها في حياتنا وفي معاملاتنا ؟!..
وفي ليلة أخرى يتجول عمر فإذا بامرأة في ظلام الليل تردد هذه الأبيات :
تطاول هذا الليل واسوَّد جانبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني
... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
لحرّك من هذا السرير جوانبه
وحفظاً لبعلي أن تُنال مراكبه
الله أكبر ..
عظموا الله فراقبوه .. واستحيوا منه فهابوه ..
الله أكبر ..
عُظّم الآمر فعُظّمت الأوامر ..
إليك مزيد ..
مرَّ ابن عمر على رويعي غنم في صحراء فقال له امتحاناً :
بعنا من هذه الشياه.. فقال : أنا مملوك ومؤتمن .. أنا مملكوك ومؤتمن ..
فقال ابن عمر ممتحناً إيمانه : قل للمالك أكلها الذئب ..
فقال رويعي الغنم الذي امتلأ قلبه خشية من الله :
وماذا أقول لله !!.. ماذا أقول لله !!..
إن قلت للمالك أكلها الذئب .. فماذا أقول لله !!..
ماذا أقول إذا نطقت الجوارح والأركان { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ..
فبكى ابن عمر وأرسل إليه من يعتقه وقال له :
كلمة أعتقتك في الدنيا .. كلمة أعتقتك في الدنيا ..
أسأل الله ان تعتقك يوم أن تلقاه .. أسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه ..
قال بقلب مليء بالإيمان ومراقبة الرحمن :
ماذا أقول لله ..
هذه أخبار كلنا يعرفها وسمعها مرات ومرات ..
لكن أيها الغالي ..
أيتها الغالية ..
أين أثر هذا في حياتنا ؟!.. أين أثر هذا في حياتنا ؟!..
ومن معاني البصير ..
أي الخبير بأحوالهم وأفعالهم ..
يعلم ..
من يستحق الهداية .. ومن يستحق الغواية ..
{ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } .. { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } ..(1/385)
ومن أسمائه سبحانه :
العليم .. الذي يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن لو كان كيف سيكون ..
عليم بكل ما أخفته صدور خلقه .. من كفر وإيمان .. وحق وباطل .. وخير وشر ..
العالم بالسرائر والخفيات هو { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ..
قال السعدي : وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والاسرار والإعلان ، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات ، وبالعالم العلوي والسفلي ، وبالماضي والحاضر والمستقبل ..
فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ..
قال ابن القيم في نونيته :
وهو العليم أحاط علماً بالذي في
وبكل شيء علمه سبحانه
وكذا يعلم ما يكون غداً وما قد
وكذاك أمر لم يكن لو كان
... الكون من سرّ ومن إعلان
فهو المحيط وليس ذا نسيان
كان والموجود في ذا الآن
كيف يكون ذا الأمر ذا إمكان
تأمل وتدبر في قوله ..
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ..
وتأمل في قوله ..
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ، ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } ..
هذه بعض من أسمائه وصفاته جلَّ في علاه ..(1/386)
فأين أثرها في حياتنا ؟!.. أين الإيمان في حياتنا ؟!..
أين أثر الإحسان في معاملاتنا وفي عبادتنا ؟!..
إذا أردت أن تعرف مدى إيمانك ..
فراقب نفسك في الخلوات.. راقب نفسك في الخلوات ..
إنَّ الإيمان لا يظهر ..
في صلاة ركعتين ، أو صيام نهار ..
بل يظهر .. في مجاهدة النفس والهوى ..
والله ..
ما صعد يوسف عليه والسلام ولا سعُد ..
إلا في مثل ذلك المقام ..
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } ..{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ..
من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله .. رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ..
وآخر دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال : إني أخاف الله .. فقال: إني أخاف الله ..
أف للذنوب .. أف للذنوب .. ما أقبح آثارها .. وما أسوأ أخبارها ..
وهل تحدث الذنوب إلا .. في الغفلات ، والخلوات..
يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي ..
قل من أنت ؟!.. وما علمك ؟!.. وإلى أي مقام ارتفع قدرك ؟!..
بالله عليك ..
أتدري من الرجل ؟!!..
الرجل والله ..
من إذا خلا بما يحب من المحرم .. وقدر عليه .. تذكر ، وتفكر ، وعلم ..
أنَّ الله يراه ..
ونظر إلى نظر الحق إليه .. فاستحى من ربه .. كيف يعصاه وهو يراه ..
كيف يعصاه وهو يراه ..
هيهات ..هيهات ..
والله ..
لن تنال ولاية الله .. حتى تكون معاملتك له خالصة ..
والله ..
لن تنال ولايته .. حتى تترك شهواتك .. وتصبر على مكروهاتك .. وتبذل نفسك لمرضاته ..
إنَّ أقواماً أحبهم فأحبوه .. إنَّّ أقواماً أحبهم فأحبوه ..
واشتاق للقياهم ، فاشتاقوا إليه ..
رأى عبد الله بن عمرو الأنصاري ليلة أُحد أنه يُقتل فأوصى جابراً بأمه وأخواته خيراً ، فقالت الأم : أين الملتقى يا أبا جابر ؟!.. قال : الملتقى الجنة ..
أين الملتقى يا أبا جابر ؟!.. قال : الملتقى الجنة ..
فخرج يريد الموت ويتمناه ..(1/387)
فأعطاه الله ما تمنى مقبلاً غير مدبر .. فحزن عليه ابنه جابر ..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
( والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعته ، والله يا جابر إنَّ الله كلَّم أباك كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان ..
والله يا جابر إنَّ الله كلَّم أباك كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان .. فقال : تمنى يا عبدي ..
فقال : أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ..
قال : إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون ، فتمنى يا عبدي ..
قال : ربي أن ترضى عني ؛ فإني قد رضيت عنك .. قال : ربي أن ترضى عني ؛ فإني قد رضيت عنك ..
قال : فإني أحللت عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً ..
ثم جعل الله روحه وأرواح أخوانه الذين قتلوا معه في حواصل طير خضر ترد الجنة ..
فتأكل من ثمارها .. وتشرب من أنهارها .. وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ..
حتى يرث الله الأرض ومن عليها ) ..
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }..
في كل يوم للجنان قوافلٌ
ماذا أقول بوصف ما قاموا به
لله درّ ضياغم من أسدنا
من عاص للحياة مجاهداً
... شهداء راضٍ عنهم العلاَّم
عجزَّ البيان وجفَّت الأقلام
بعظائم الأعمال فيها قاموا
وسلاحه الإيمان والإقدام
عظموا الله فخافوه ..
نعم .. عظموه فخافوه .. فعظموا أوامره ونواهييه .. كيف لا يعظمونه ..
كيف لا يعظمونه { وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ..
كيف لا يعظمونه وهو { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ..(1/388)
روى الترمذي في الحديث الصحيح عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } ..
قال قرأها حتى ختمها ثم قال :
( إني أرى ما لا ترون ..وأسمع ما لا تسمعون ..أطت السماء وحقّ لها أن تئط ..
ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومَلَك ساجد ، وملك قائم ..والله لو تعلمون ما أعلم ..
والله لو تعلمون ما أعلم ..لضحكتم قليلاً ..ولبكيتم كثيراً ..
وما تلذذتم بالنساء على الفرش ..…ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى ) ..
ومعنى الحديث : لو علمتم ما أعلم ..من عظمته جلَّ في علاه .. وانتقامه ممن يعصيه ..
لطال بكاؤكم ، وحزنكم ، وخوفكم مما ينتظركم .. ولما ضحكتم أصلاً ..
يا مدمن الذنب أما تستحي
غرك من ربك إمهاله
... الله في الخلوة ثانيك
وستره طول مساويك
اسمع فضيحة العصاة يوم القيامة .. اسمع فضيحة العصاة يوم القيامة ..
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}..
إياك ..
والاغترار بحلمه وكرمه .. فكم قد استدرج من عاصي .. وقصم من جبَّار وظالم ..
إذا همت النفس بالمعصية .. فذكرها بنظر الله .. لا يكن الله أهون الناظرين إليك ..
لا يكن الله أهون الناظرين إليك ..
إذا خلوت يوماً بريبة
فقل لها استحي من نظر الإله
... والنفس داعية إلى العصيان
إنَّ الذي خلق الظلام يراني
الله ..الله ..
في مراقبة الحق جل في علاه..
الله ..الله ..
في الخلوات ..
الله ..الله ..
في البواطن ..
الله ..الله ..
في النيات .. فإنَّ عليكم من الله عيناً ناظرة ..
{ فسبحان الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ..} ..
{ فسبحان الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ..
راقب العواقب تسلم لا تمل مع الهوى فتندم(1/389)
أين لذة المعصية !!..
أين تعب الطاعة !!..
رحل كلٌ بما فيه .. رحل كلٌ بما فيه ..
فليت الذنوب إذا تخلَّت خلَّت ..
إن كنت تعتقد أنه لا يراك .. …إن كنت تعتقد أنه لا يراك ..
فما أعظم كفرك !!..
وإن كنت تعصيه مع علمك باطلاعه عليك ..
فما أشد وقاحتك !!.. فما أشد وقاحتك !!..
وما أقل حياك !!..
اقبل الموعظة .. اعمل بالنصيحة ..
لأنه من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ، كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } ..
يا مسكين .. بأي بدن ستقف بين يدي الله !..
وبأي لسان ستجيب !.. أعدَّ للسؤال جواباً ..
وللجواب صواباً ..
فما أعددت للنجاة .. من عظيم عقاب الله .. وأليم عذابه ..
لا يندفع ذلك إلا .. بحصن التوحيد .. وخندق الطاعات ..
اللهم أحينا مسلمين ، وتوفنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ..
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ..
ونسألك قول الحق في الرضا والغضب ..
ونسألك القصد في الفقر والغنى ..
ونسألك الرضا بعد القضا ، وبرد العيش بعد الموت ..
ونسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ..
اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين يا ربَّ العالمين ..
اللهم إنك ترى ما حلَّ بأخواننا في العراق ، وما حلَّ بأخواننا في فلسطين ، وما حلَّ بهم في الشيشان ، وأفغانستان ..
اللهم إنك ترى مكانهم ، وتسمع كلامهم .. رحماك بهم .. يا أرحم الراحمين ..
اللهم رحماك بالأطفال الرضّع ، ورحماك بالشيوخ الركّع ، رحماك بالبهائم الرتّع.(1/390)
اللهم إنهم خائفون فأمنهم .. اللهم إنهم خائفون ..اللهم إنهم مظلمون ..
اللهم انصر من نصرهم .. اللهم اخذل من خذلهم ..
اللهم لا تدع للكافرين .. قوة في الأرض إلا دمرتها ..
ولا قوة في السماء إلا أسقطتها .. ولا قوة في البحر إلا أغرقتها ..
اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض .. وما نزل من السماء ..
اللهم اقلب عليهم البحر ناراً .. والسماء شهباً وإعصاراً ..
اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك ..
احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه يا ربَّ العالمين ..
أصلح ولاة أمورنا ..
وفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك يا ربَّ العالمين ..
اللهم أقم علم الجهاد ، وأقمع علم أهل الشرك والزيغ والفساد ..
ابرم لأمتنا أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ، يُؤمر فيه بالمعروف ، ويُنهى فيه عن المنكر يا ربَّ العالمين ..
ارحم ضعفنا وتقصيرنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا يا أرحم الراحمين..
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين وآخر دعوانا
{ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
والله تعالى نسأله القبول والمثوبة
جامعه ومؤلفه ومرتبه
الفقير إلى عفو ربه
أبا كفاح الدين
أحمد بن محمد السعيد العزيزى
سبّّط ابن دقيق العيد
رحمه الله وجعل أعلى عليين مثواه
3 / 11 / 2007(1/391)