مذهب العصرنة
الشيخ :د. محمد القحطاني حفظه الله .
الشيخ د .سفر بن عبدالرحمن الحوالي
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
* نشأة مذهب عصرنة الإسلام
إنَّ التيار الوارد السؤال عنه لم ينشأ في فراغ، فإننا أحياناً نكثر في الحديث عن الغزو الفكري، وعن خطط الأعداء، وهذا أمر مهم جداً، ولكنه ينبغي علينا أن لا نهمل الأمر الذي يمكن كيد الأعداء منا، ذلكم هو الخلل الذي يرتكبه المسلم على مستوى الأمة أو الفرد فتحل العقوبة، وقد حدث على اجتهاد بسيط من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أُحد أن نزلت آيات قرآنية ترسم منهج المحاسبة: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]^.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[والله ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله تبارك وتعالى .مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152]^ : ]]^ فالشاهد أنه لم ينشأ هذا التيار وغيره من الأفكار الضارة إلا حين ابتعد أهل السنة والجماعة عن المنهاج الرباني، وحين سيطرت الخرافة على معظم رقعة العالم الإسلامي، حتى جاء في وقت من الأوقات كان المدخل الوحيد لهذا الدين هو الصوفية ، ويرددون مقولتهم المشهورة: من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان.
وذكر الشيخ/ محمد رشيد رضا طرفة مضحكة مبكية: أنه لما قدمت جحافل استالين للاستيلاء على الممالك الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي ، ذهب الناس في تلك الفترة إلى العلماء فقالوا: هاهي الجيوش الملحدة قد قدمت، فما الحل تجاه الكفرة الملاحدة؟(1/1)
فانظروا إلى الإجابة، وانظروا إلى الواقع العملي، إن هؤلاء العلماء لم يرشدوا الأمة إلى مصدر العزة وإلى الرجوع إلى دين الله، والاعتصام بالحبل المتين، وإنما لجئوا إلى الخرافة، فقال لهم الشيوخ: المسألة بسيطة، نذهب إلى قبر الولي النقشبندي ، فإذا اقتربت الجيوش طفنا بقبر "نقشبند " ونستغيث به فبلحظة يخرج يده ثم بإشارة يمسح هذه الجيوش الملحدة.
فذهبت هذه الجموع المستغفلة لتطوف بقبر "نقشبند "، وتقول: يا نقشبند انقذنا من استالين ، يا نقشبند انقذنا من استالين ، وينتظرون اليد المباركة متى تخرج لتدمير جحافل استالين ، وفي أول ضربة تقول الإحصائيات في العشرة الأيام الأولى أنه ذهب ثلاثة ملايين قتيل.
إذاً غفلة أهل الحق هي التي تسمح بانتشار الباطل، والتيار الذي نتحدث عنه هو أنه نشأ جيل يسمى جيل الهزيمة، موجود في قلوبهم حب للإسلام، ويريدون التلفيق -ولا أسميه التوفيق- بين الحضارة الغربية التي بهرت الناس وبين هذا الإسلام، فينظرون إلى الكافر على أنه في المكان العالي، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم أقزام، وحققوا ما صبا إليه الاستعمار، من أنه وجد في هذه الفترة التي نشأ فيها هذا التيار جيل ينتسب إلى الإسلام تربى على المبادئ والأفكار الغربية.
ونشأ هؤلاء الذين يريدون أن يبرزوا للناس أنهم علماء متحضرين أو كما يسمون الإسلام "المودرن"، ويطوعون الفتاوى المطلوب تطويعها؛ لأن هناك صنماً يخشى من جبروته وهو الاستشراق ، فيبررون بهذه الفتاوى ما يجعلهم يقفون أمام المستشرقين وأذنابهم على أنهم أصحاب رقي، وأصحاب تطور، ويمكن أن يوفقوا بين الحضارة الغربية، والإسلام وهؤلاء يقول فيهم الشاعر:
لكيما يقال الشيخ حرٌ ضميره فيبلغ عند القوم مرتبة كبرى
* مبادئ مذهب عصرنة الإسلام(1/2)
هذا التيار تبنى المنهج الاعتزالي، وهو تقديم العقل على الشرع، وتعلمون أن من بدهيات معتقد أهل السنة والجماعة ، أن الوحي وحي الله، والعقل خلق الله، ومحال أن يكون هناك تعارض بين وحيه وخلقه، وإنما ينشأ التعارض في العقول التي لم تتنور بنور الوحيين الكتاب والسنة.
وسأذكر كلمة أرى أنه من المناسب ذكرها؛ لأننا سنمر على شخصيات لها وزنها -كما يقولون: حنة، ورنة- فتبرز علامات الاستفهام هل مثل هؤلاء الأقزام الصغار يرقب أولئك العمالقة، فأعجبتني كلمة لرجل رائد -رحمة الله عليه- هو الدكتور/ محمد محمد حسين في كتابه "الإسلام والحضارة الغربية " وهي كلمة في تقويم الرجال يقول رحمة الله عليه.
''ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال، لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى أن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ، في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهجون فيه ولا يغضبون حين يوصف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا يقبلون أن يوصف بهم زعماؤهم المعصومون.
فيقبلون أن يوسم سيف الله المسلول خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة في حروب الردة طمعاً في زوجته، ويرددون ما شاع حول ذلك من أكاذيب.
ويقبلون أن يلطخ تاريخ ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه بما ألصقه به ابن سبأ اليهودي من تهم، ويقبلون ما يرويه الأصبهاني في كتابه الأغاني في سكينة بنت -سيد شباب أهل الجنة- الحسين رضي الله عنهما من أخبار اللهو والمجون.(1/3)
ويرددون ما يذاع من أخبار هارون الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ثم أصبح في أوهام أبناء هذا الجيل رمزاً للخلاعة والترف، بل كاد يصبح رمزاً للإسراف في طلب الشهوات، وصورة من صور أبطال ألف ليلة وليلة، يقبلون ذلك كله ثم يرفضون أن يمس أحد أصنامهم بما هو أيسر منه، ويحكمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين، ويأبون على مخالفيهم الرأي في هذه الحرية، يخطئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين ويجرحونهم بالظنون والأوهام، يثورون لتخطي ساداتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة'' هذه كلمة لا بد أن ننتبه لها فإنها كلمة حق.
إن من أسباب أو من عوامل نجاح الفكر الصليبي اليهودي فيه هو زعزعة الثقة عند الأجيال المتأخرة بسلفها الصالح، وكما قال أحد المستشرقين: '' إننا قد خدعنا الأمة المسلمة فيما يسمى بالتنقيب عن الآثار، ونخدعهم بأن هذا كنز حصلنا عليه، وإن هذا علم ومدنية وحضارة وتأريخ، وليس هذا هو هدفنا الأول، وإنما هدفنا الأول أن نزعزع ولاء المسلم القائم في البراءة من كل معبود ومرغوب من دون الله، ونزعزع ولاءه لدينه الذي يعتقده، وما يصوره له هذا الدين تجاه الحضارات السابقة، فإن قرآنه يصور الحضارات السابقة على أنها كفر وجاهلية، ونحن نصورها له على أنها تقدم وحضارة، فإذا تزعزع ولاؤه بين الاثنين فهذا يكفينا ''.(1/4)
وبالفعل خرج جيل الهزيمة، وخرجت بعض الأسماء من أمثال "رفاعة الطهطاوي ، والكواكبي ، وجمال الدين الأفغاني ، وخير الدين ، ومحمد عبده " وتوالت البعثات الخارجية، ورجعوا يكتبون الإبريز في تاريخ باريز ، ويقولون: إن رقص الفتيات من الرياضة، فأنتم أناس أصحاب تحجر، ولا تدرون ما الذي يدور في العالم، وستمر أسماء أخرى مثل : "فتحي عثمان ، وفهمي هويدي " الذين يكتبون بكل وقاحة أن فقهاء المسلمين قد اعتدوا على تاريخ الإنسانية بآرائهم، ومن ثم فلا بد من إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين المسلمين وبين الأمم الأخرى، فإن ما يصور في تاريخ المسلمين أن هناك دار إسلام ودار كفر، قد آن الأوان بعد قيام المنظمات الدولية لإلغاء هذا، ومسحه حتى من على الكتب التي في الرفوف، بل ويكتب فهمي هويدي كتاباً يسميه: العلاقة بين المسلمين والآخرين أشواك وعقبات على الطريق ، هذا ما أستطيع أن أقوله، وأكتفي بهذا.
شكر الله للشيخ هذا التوضيح، وهذا البيان.
* والدكتور/سفر يبين لنا زيادة على ذلك الأفكار العامة لهذا التيار، ووجه الخطورة فيها.
قال الشيخ : سفر الحوالي حفظه الله .
الحمد لله، في الواقع أنه من الصعب جداً استعراض هذا الاتجاه بالتفصيل، ولا سيما أنه لا يمثل منهجاً فكرياً موحداً، وهو منهج سلبي -إن صح التعبير- بمعنى: أن القاسم المشترك الذي يربطه والذي يجمعه وينتظمه هو هذا الموقف من الإسلام الحق ومن السنة وأهلها المتمسكين بها كما أنزله الله، وكما كان السلف الصالح يجمعهم مخالفة ذلك، وانتهاج مناهج شتى بعد ذلك بحسب التربية الفكرية، وبحسب التوجيه الذي يوجهون به، وبحسب التبعية، فكل منهم يتبع سيداً في الشرق أو في الغرب، فلا يجمعهم في الحقيقة إلا هذا.(1/5)
فمن هنا تجدون تحفظاً من الجميع على تسميتهم المعتزلة بإطلاق، فهم ليسوا بمعتزلة جدد بالمعنى الكامل، لكنهم أقرب ما يكونون إلى ذلك، لأنهم يدعون أو يزعمون أو ينتحلون الانتساب إلى المنهج العقلي، وبعضهم يصرح بهذا وربما سمع به أو سمعه الكثير أن هذا من منهج المعتزلة ، وذلك ستار ومنفذ لما بعد ذلك إذ منهج الاعتزال هو في الحقيقة أخف مما يدعون إليه، لكنه أعم من المناهج الأخرى، التي لا يستطيعون التسلل من خلالها، ولا سيما مع هذا الإعجاب الغربي بالمنهج الاعتزالي، لأنه يستقي مصادره من الجاهلية أو الوثنية الإغريقية التي هي منبع الحضارة الغربية نفسها، ومن هنا يريدون عوداً على بدء، فتلقي الحضارة الإغريقية القديمة التي مرت خلال الاعتزال، وخلال الفلسفة التي تسمى إسلامية بالحضارة الغربية المعاصرة، وكأنهما شقان انفصلا في القرون الوسطى، والتقيا الآن بعد أن كانا ملتقيين في المنبع والأصل وهو الحضارة أو الفكر الإغريقي.
أقول : لذلك لا نستطيع التفصيل فيه ولكن يمكن أن نوجز بأن نضع أسساً عريضة أو قواعد عامة، لهذا الاتجاه ولهذا التيار.
وأول شيء يلفت النظر فيه: هو أنه يهدم العلوم المعيارية الأساسية في الفكر الإسلامي، وفي العلم الإسلامي، بمعنى: أن الجديد فيه: أن المعتزلة على سبيل المثال يتكلمون في أمور الاعتقاد، وفي أمور الغيب، ولكنهم لم يتعرضوا في الجوانب الاجتماعية والأحكام، والجوانب الأخلاقية، وما أشبه ذلك، فكان الأمر محصوراً عندهم بما يسمى الإلهيات وما يتعلق بها.(1/6)
وهكذا كان بحث الحضارة الغربية القديمة الإغريقية واليونانية في مباحث الإلهيات كما دونها "أرسطو وأفلاطون " وهؤلاء زادوا على ذلك، بأنهم ضربوا المجتمع الإسلامي في صميمه بالقضاء على هذه العلوم المعيارية جميعاً حتى في أصول الفقه وأصول التفسير وأصول الحديث، كل هذه العلوم هي محط نقدهم الذي لا ينتهي عند حد، كان الفلاسفة والفلسفة الإسلامية تقول: ''ما الدين والشريعة إلا سياسة مدنية'' ، فهم على الأقل كانوا يرون أن الدين يصلح شريعة للعامة.
أيضاً يقولون: ''إنه لم يطرق العالم شريعة أكمل من شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'' فهي عندهم تصلح للعامة أما العقول الراقية والحكماء، فالحكمة هي التي تصلح لهم -كما يقولون ويدعون- جاء هؤلاء فأتوا بالطامة التي لم يقلها أولئك، وهي أنه حتى في واقع المجتمع وللعامة لا يصلح هذا الدين أن يطبق.
والكلمة التي قالها "كرومر " في كتابه "مصر الحديثة ": ''إن الإسلام ناجح كدين، ولكنه فاشل كنظام اجتماعي'' جاء هؤلاء المجرمون وهم ممن ينتسبون إلى الإسلام، وإلى الأمة المؤمنة فمدوا هذه العبارة وجعلوها كالنموذج أو كالمنهج لهم، ومن هنا -كما أشرنا- ضربوا أصول الفقه والأحكام الشرعية عامة بما يتفق مع الحضارة الغربية، حيث الموجهون، وحيث الأسياد.
الحجاب -مثلاً- ماذا قالوا عنه، وهو مما لم تتعرض له الفرق القديمة، أو عرض له كتطبيقات بناءً على أصول عند الباطنية ثم انتهت، قال هؤلاء : إن حجاب المرأة المسلمة تقليد وعادة موروثة، ومهما تعاقبت عليه القرون فهو عادة من عادات الفرس أو الترك.(1/7)
أما الإسلام الذي يريدونه، وفي هذا العصر بالذات فهو أن يكون المجتمع -لا يقولون: مختلط- لكن يقولون: ليس منفصلاً كما كان في القرون الأولى، وليس مختلطاً كما قد يفهم البعض منا، ولكن نريد المجتمع المحتشم تعمل المرأة مع الرجل، فيتلاقيان في الدوائر الحكومية وفي المدارس وفي كل مكان ولكن كما يقولون محتشمة.
تمييعهم للأحكام الفقهية
لقد جاءوا إلى الشذوذات الفقهية، ونذكر واحداً منهم وهو مصطفى المراغي فعندما اجتمعت لجنة التقنين في مصر قال "للسنهوري " ومن معه: ''ضعوا أي شيء ترونه مناسباً للمصلحة وللواقع وللعصر ضعوه كما تشاءون، وأنا مستعد أن أخرِّجه على أي قول من أقوال الفقهاء في أحد المذاهب الأربعة أو في بعضها إما قول ضعيف أو راجح أو مرجوح''
وتنسب عبارة مثل تلك إلى الشيخ "الشرقاوي " بالنسبة إلى ما يتعلق بقانون "نابليون " عندما عرضه عليه "الخديوي " المهم أن الواقع هو الذي يوجه الشرع، من أين نأخذ الدين؟
نأخذه من الواقع، وأي واقع؟!
هو الواقع المساير لركب الحياة، والحضارة الغربية.
وجد من علماء المسلمين من أفتى بأن سماع الغناء والموسيقى لا بأس به، وهذا شذوذ، ومن تتبع رخص العلماء تزندق كما قال الفقهاء، جاء هؤلاء وجمعوا شذوذات أخرى، وإذا بنا نجدها في كتاب متداول اسمه "آراء تقدمية في الفكر الإسلامي " للدكتور/ محمد حسني عثمان جمعها، وسماها بهذا الاسم، ويقول في كتابه "الإسلام وتطوره ": ''إنه قد نشرت الصحافة الغربية أن أحد الكاردينات الكبار -مقرب جداً من البابا- قد سار في شوارع روما ، وفي صدره صورة "صوفيا لوريل " الممثلة الإيطالية، قال: فمتى يأتي اليوم الذي نرى فيه أحد شيوخ الأزهر وهو يمشي وعلى صدره صورة إحدى الممثلات؟!''(1/8)
إذاً هم يريدون أن يهدموا هذا المجتمع، الحجاب، الغناء، العفة، الفضيلة، أحدهم ينشر مذكرات هي الآن تنشر تقريباً في جرائد، وفي مجلات يذكر قصته مع الحب، ويذكر فيها قصته مع الغناء، ويتحدث بكل صراحة ووضوح وأن هذا رأيه، وأن الحب يجب أن يكون كذلك، وأن هذا هو حقيقة الإسلام، والجديد الذي عملوه أن ما كان ينادى به قبل أربعين أو خمسين سنة على أنه إباحية وينادى به هكذا بوضوح: اتبعوا الغرب فيه، الآن يقال: اتبعوا هذا فهو حقيقة الإسلام.
في مجال العقيدة -أيضاً- أصبحنا نعجب والله، فهناك مجلات وملاحق لجرائد يومية مشهورة لا تخفى على أحد تتحدث عن الأضرحة، وعن المزارات، والقبور، والمشاهد -سبحان الله!- ما هذا الدين الجديد؟
هذا الذي كان رجعية وتأخر، فالآن هناك اتجاه مرذول ومرفوض ومحارَبٌ بكل قسوة وهذا الاتجاه هم الأصوليون، وهناك اتجاه يوسع له المجال، وتفتح له الأبواب لينشر، وهو الذي يصور أدنى وأحط مرحلة وصلت إليها الأمة الإسلامية، بل أحط ما يمكن أن يصل إليه الإنسان -أي إنسان- وهو أسفل سافلين، وهو الوقوع في الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعبادة الموتى والقبور من دون الله، ملاحق للأهرام ولغير الأهرام ، وحتى المجلات الإباحية وبعض المجلات الخليجية، والجرائد الخليجية الإباحية تأتي وتتحدث عن الأضرحة والمزارات في كثير من الدول، وعن الأولياء والموالد والكرامات، حتى في مجال العقيدة البحتة تدخّلوا ليفرضوا هذا الدين الجديد الذي يريدون أن يشتتوا به ما كانت عليه الأمة.
أعود وأقول: ما معنى أن يتعرض لأصول الفقه -مثلاً- ولهدمه والإتيان بأصول فقه جديد؟(1/9)
"جولدزيهر " في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة " يقول: ''إن المسلمين أرادوا ضمان تطور الإسلام مع العصور، فاستحدثوا أصلاً ثالثاً بعد الكتاب والسنة وهو الإجماع، فإذا رأوا أن أمراً ما في عصر من العصور قد وقع واستقر؛ جاءوا وقالوا: من باب عموم البلوى، وكذا، ونجمع عليه فيجمعون فيصبح من الدين، وتلزم به الأمة'' أي جعلهم كالفاتيكان ، هذا كلام "جولدزيهر ".
ويظهر بعض الدعاة والذين يدعون إلى الإسلام وينتسبون إليه ولهم دعوات، ويقول : الإجماع يمكن أن تجمع مدرسة ثانوية على شيء ويكون هذا إجماعا، الإجماع الواسع، والقياس الواسع، وبدعوى ماذا؟
بدعوى التجديد، والتطوير، والتطبيق العصري لهذا الدين كما يزعمون.
طعنهم في السنة
علم "أصول الحديث" نعم هوجمت السنة من قبل "النظام ، والعلاف "، وقالوا في خبر الآحاد ما قالوا، وقالوا في الأحاديث التي تخالف العقل ما قالوا، هؤلاء هم زعماء الاعتزال الأوائل، لكن لم يجرءوا على ما جرأ عليه هؤلاء من هدم هذا الأصل نفسه.
إن الميزة التي يذكرها علماؤنا في كتب المصطلح، وهو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شرف هذه الأمة بالسند، وبحفظ هذا الدين، وقال علماؤنا: ''إن العلم هذا دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم''
وهؤلاء يريدون أن يهدموه، فأخذوا يطعنون في علماء الأمة، ويطعنون في علم المصطلح وفي علم الرجال ومن ذلك -وهي طامة كبرى، ورحم الله الأستاذ الدكتور/ محمد محمد حسين كما قرأ الدكتور محمد في كلامه- طعنهم في الصحابة الكرام بما لم يجرؤ عليه إلا الروافض وأشباههم، عندما يقولون: كيف يقول علماء المصطلح: إن الصحابة كلهم عدول؟!
من أين جاءت القداسة لهم؟!
ويقولون: كيف يقال إن الصحيحين كل ما فيهما صحيح؟
وهل الصحابة معصومون؟
هل البخاري ومسلم معصوم؟
مع أنه لم يتكلم أحد مِنْ علماء المسلمين بعصمة أحد، فمَنْ مِنْ علماء الرجال ادعى العصمة لأبي بكر أو لعمر فضلاًَ عن البخاري وغيره؟(1/10)
المسألة معايير وعلوم معياريه مؤصلة مقعدة، ما قال أحد عصمة، وإنما قال ثقةٌ ثبتٌ، أو صدوقٌ، أو ضعيف إلى آخره.
هم أتوا ليلبسوا على الناس، فقالوا: هل هم معصومون؟!
فإذا لم يكونوا معصومين، فهم مخطئون وهكذا، وما دام أنهم مخطئون فلا نأخذ أقوالهم، ويردون ما شاءوا كما شاءوا من هذه العلوم.
إن السنة النبوية هوجمت في هذه الأيام وما تزال تهاجم، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد أن يكشف خبيئة هؤلاء الأقوام، وفي إحدى الجرائد المحسوبة على المسلمين نشرت موضوعاً حول السنة وتنقيتها، وأراد الله أن تظهر الحقيقة عندما قال أحد هؤلاء الرافضين للسنة في معرض رده للأحاديث الصحيحة كأحاديث {لا يقتل مسلم بكافر } قال : ''كيف لو أن رجلاً عربياً قتل مهندساً أمريكياً مسيحياً أو يهودياً؟!'' هذه هي القضية والمشكلة عندهم، أي لو كان المقصود مهندساً هندياً ليس هناك مشكلة، لكن يكون مهندساً أمريكياً، ولا يقتل به فغير معقول أن لا يقتل به العربي؛ بل لابد أن يقتل!
ولهذا لما تكلموا -وعن الحجاب من هنا نعرف كيف ضربوا الحجاب! وكيف حاربوه! قالت إحداهن وهي "أمينة السعيد " وهي آخر الجيل الهالك: النقاب بدأ ينتشر في الجامعات المصرية!، وتصرخ وتولول في جرائد كثيرة على أن جهودها ضاعت، وأن الحجاب بدأ يرجع، وأن النقاب بدأ يرجع من جديد، لكن لم يؤبه لها، فيأتي شيوخ معممون من دعاة هذا الاتجاه فيقول: أنا أذكر لكم قصة، كيف أنه في أحد مؤتمرات المستشرقين عقد مؤتمر عن الحجاب، وأرادوا تشويه الصورة، فجاءوا بامرأة أوروبية، وعملوا لها حجاباً ونقاباً، وأخرجوها فجأة على المسرح أمام الجمهور، فاشمأزوا، ونفروا، وتضايقوا وقالوا: هكذا تريدون المرأة كان هذا جواباً، فلا يحتاج أن نبحث عن حجاب المرأة في الإسلام، أي يكفي أن عقول الخواجات استبشعوا ذلك، فإذاً ليس هناك داع أن نناقشه.(1/11)
وهكذا كل سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المهم أن يرضى عنا الغرب بعضهم يصرح وبعضهم يلمح، وهذا الذي يعرف من لحن أقوالهم.
طعنهم في علماء الأمة
إذاً: هدموا الشريعة، وهدموا العقيدة، هدموا مبدأ الجهاد، والموالاة والمعاداة كما تفضل الدكتور/ محمد عندما قالوا: إن دار الحرب ودار الإسلام من العنصرية العصبية التي أوجدها فقهاء المسلمين،
وصرح بذلك حسين أحمد أمين
تلك العصا من هذه العصية ولا تلد الحية إلا حية
حسين بن أحمد أمين قرأت له في مجلة كل العرب عندما قال: ''السلفية هم النازية العصرية؛ لأنهم يرون لهم امتياز عن الناس'' عندما تقول أنت: إن المسلم خير من الكافر كما قال الله، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثورون، ولكن انظروا حتى تعرفوا هؤلاء القوم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118] وتعرفوا من يوالون، انظروا متى تثور أقلامهم، فعندما يكتب في الصحافة الغربية، وينشر في وسائل الدعاية الغربية من حط للإسلام والمسلمين، بل لشخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى ما ينشر فيه حط وإهانة لشخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصحابة الكرام لا تشارك أقلامهم الدنسة فيه بشيء، فإذا جاء ما فيه نوع من التعرض للإنسان الغربي أو الأوروبي، فإنهم يثورون ويقومون ويقولون: هذه من عنصرية فقهاء الإسلام.
ومن جهلهم ما ادعوه -وكثيراً ما يرددونه- أن المسلمين لا يؤمنو بالديمقراطية ، يقولون: إن الإسلام ديموقراطي -بزعمهم- ويقولون: إن فقهاء المسلمين هم أبعد شيء عن البحث في أمور السياسة والحكم، لأنهم لم يخوضوا في هذا المجال.
ولأقوالهم السابقة أهداف منها:
أنهم يتصدروا الكلام في هذه القضايا، وكأنهم هم الذين أحدثوها.(1/12)
ومنها أن يقال: إن الأمة مادام لا تاريخ لها ولا كتابة لها في مجال السياسة والإمامة، فإذاً عليها أن تستورد ذلك من الغرب، ولا حرج ولا غضاضة في ذلك، ويقولون: انظروا إلى كتب الفقه، تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره لا تجد فيه إلا الطهارة، والحيض، والنفاس، ثم الحدود، والمعاملات، فلا تجد فيه الإمامة، ولا الخلافة، ولا الفقه السياسي والبرلمان، ولا صلاحيات الملوك، أو صلاحيات المجالس النيابية، هذا دليل على ماذا؟
على أن المسلمين لم يبحثوا هذه الأمور! وأن الفقه الإسلامي عاجز وقاصر عنها، فإذن نستكمل ذلك من القوانين الوضعية، ونقبل اجتهادات هؤلاء المجددين -بزعمهم- وهكذا يلبسون على الجهال، ولا يمضي ذلك إلا على الجهال.
ومن آخر ما أحدثوه -وقد نشر ذلك في جريدة أخبار اليوم قبل فترة من الزمن- أنهم يريدون تأسيس فلسفة إسلامية معاصرة، وقد وجدت في أمريكا مجموعة تسمى الفلسفة الخالدة، ويقولون: نستمد من ابن عربي ومن ابن سينا ومن أفلاطون ومن ديكارت وغيرهم.
قالوا: إنه لا بد من تأسيس فلسفة إسلامية جديدة، وعلم كلام جديد، وقد أسسوا لذلك بعض الدور أو بعض المعاهد في أمريكا ويريدون أيضاً افتتاح ما يشابه ذلك في بعض البلاد الإسلامية لإنشاء فلسفة حديثة.(1/13)
حقيقة لا نستطيع أن نأتي على كل ما يمكن أو على شيء مما يهدف إليه هذا التيار، وإنما نحب أن نذكر أن هذا التيار الوافد خطر جداً، وأنه يأتي بديلاً عن التيارات أو الاتجاهات التي تساقطت أو تهالكت -والحمد لله- كالقومية والاشتراكية والعلمانية الصريحة أيضاً في ثوبها المكشوف، كل هذه تهاوت وتهالكت، ويراد لهذا التيار عالمياً ودولياً أن يكون بديلاً للواقع الإسلامي، ليضرب به شباب الصحوة والدعوة الإسلامية، الذين يريدون العودة إلى الكتاب والسنة، وإلى منهج السلف الصالح هذا هو الهدف العام الذي يريده هؤلاء وأتباعهم بعثرة الطريق أمام الصحوة الإسلامية، ولهذا يرددون الشعارات نفسها التي رددها أولئك في الغرب: الانفتاح، التعددية، المناخ السياسي، الحرية السياسية إلى غير ذلك، يرددون مطالب قد أكل الدهر عليها وشرب فيما مضى، ولكنها تلبس اليوم ثوباً إسلامياً فضفاضاً.
فالإسلام عندهم ليس عقيدة، وليس ديناً بالمعنى الذي نفهمه نحن، بل الإسلام عندهم هو نظرية للحياة، وفكرة اجتماعية، ومبادئ عامة وليست أحكاماً ملزمةً من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن هنا فإن صور التدين -كما يقولون- تتعدد بحسب البيئات والأحوال والمجتمعات، والكل يلبس هذا الثوب الفضفاض الواسع، وهو ثوب الإسلام.
إذاً الإسلام عندهم مجرد رموز وشعارات قابلة للتغيير أو للتطوير كما يشاءون، المهم أن يكون في الشكل أو في الصورة التي ترضي أولئك الحاقدين من المستشرقين ومن وراءهم.(1/14)
والشيء الجديد الذي لا بد أن نقوله وأن نضيفه أيضاً: هو أنه منذ أن تزعمت الولايات المتحدة الأمريكية العالم الغربي الصليبي، وبعد أن وصل الغرب إلى ما وصل إليه من أجهزة للرصد، وللتحليل، وللدراسة المتعمقة التخصصية في مجالات محاربة الإسلام، أصبح الوضع أشد خطورة؛ لأنه لا يبدو بالشكل الذي يمكن أن يثير المسلمين، وإنما يأتي بشكل ردود فعل، أو نوع من الإشارات لرصد ردود الفعل إليها، ثم خطوة بعد خطوة.
ومما نشر واشتهر أن الاستخبارات الأمريكية عام (1983م) بعد عدة أحداث حدثت في المنطقة الإسلامية، أنها عقدت أكثر من مائة ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية؛ أي: بمعدل كل ثلاثة أيام ندوة علمية متخصصة، وقد نشر في "الوطن العربي " وفي مجلة المجتمع وغيرهما بعض محاضر للجان العليا في الكونجرس، وما دار فيها من دراسات بشأن بعض ما يتعلق بالصحوة الإسلامية، والقنبلة الإسلامية التي يقولون إن "ضياء الحق " كان يريد أن يفجرها.
وموضوع الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلبيني، والجهاد الإرتيري والذي وقف الرئيس كارتر بنفسه لإجهاضه.
وكذلك في كل مكان نجد هذه الخطط، ولكنها بهدوء، وبنعومة شديدة، وبدراسة متأنية، فالحرب الآن لم تعد بالشكل الذي كان من السذاجة أيام كرومر ودنلوب وإنما ترقى الأمر إلى أجهزة متخصصة للرصد وللتحليل بطريقة استقرائية علمية، ثم بعد ذلك تكون التجارب الواقعية.
وقد يصل الأمر -وهذا ملاحظ في الساحة الإسلامية- أحياناً إلى أن تتدخل الدول الغربية لمصلحة إحدى الطوائف التي تنادي بهذا الإسلام إما إفراجاً عنها، وإما تيسيراً لها، وإما سماحاً لها بتكوين بعض الأحزاب، وذلك لهذا الغرض نفسه، لغرض أن لا يوجد التيار الآخر الذي هو أشد خطورة، والذي بدأ يقض مضاجعهم، وهو الاتجاه الذي يدعو إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح .(1/15)
وأختم هذا بالتذكير بأنا لا نقول: هذا الكلام إلا للتذكير بخطر هذا التيار وضرورة معرفته وإلا فإن النصر لهذا الدين بإذن الله،، وما هذا إلا ابتلاء وعداوة من ضمن العداوات، وسوف ينتصر أهل الحق، وسوف تظهر الطائفة المنصورة وتتغلب، ويبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار -بإذن الله- لكن ذلك لن يكون إلا على جسور مضنية من الدماء والجهود، والتضحيات، هذه سنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في خلقه، والحمد لله رب العالمين.(1/16)