دروس فتح المجيد
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله... أما بعد:
فنبدأ بإذن الله تبارك وتعالى وبحوله وقوته، في هذه الحلقات العلمية، في شرح كتاب التوحيد ، الموسوم بفتح المجيد ، والتوحيد لا يخفى على أحد من المسلمين أهميته؛ ولكن ربما غفل الإنسان عن أهمية بعض ما يعلم أنه أهم الأمور، مع عامل الزمن والغفلة والتكرار.
فأعظم قضية وواجب، وأعظم ما شرعه الله تبارك وتعالى هو توحيده عز وجل ومعرفته، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو إمام الهدى، وإمام الموحدين، وهو الذي بعثه الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، فدعا إلى الله، وجاهد فيه حق جهاده- إنما جاء ليحقق كلمة التوحيد، ويدعو إليها.
وأعظم ما نهى الله عنه رسوله، وحذره منه؛ هو الشرك، الذي هو ضد التوحيد، فأمره الله تبارك وتعالى بقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وقال: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:123] وهذا هو التوحيد، ثم قال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].(1/1)
فالله تبارك وتعالى يخاطب بهذه الآية داعية التوحيد العظيم، وإمام الموحدين، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65] فكل الرسل أوحى الله إليهم؛ بهذا الأمر العظيم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] فإذا كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحذر رسوله ومصطفاه وخيرته من خلقة محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ من الشرك، فيجب علينا نحن الضعفاء، والذي احتمال وقوعنا في الشرك وارد أن نحذر منه، أما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالاحتمال فيه غير وارد، ولكن التحذير له من باب التذكير.
فالواجب علينا أشد في أن نتحرى معرفة التوحيد، ومعرفة ضده وهو الشرك، فنوحد الله تبارك وتعالى، ونعبده وحده لا شريك له، ونتجنب الشرك الذي هو بهذه المنزلة، والمثابة، والخطورة.
وسوف نختار بإذن الله في هذه الدروس بعض الأبواب من كتاب فتح المجيد وعندما أقول: قال الشارح، فإنما أعني به شارح كتاب التوحيد : الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله، وعندما أنتقل إلى الكلام على الشرح المذكور؛ فأصدر كلامي بلفظ: أقول.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ''باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه } ''.(1/2)
قال الشارح: '' قول المصنف: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، باب خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا.
قلت: ويجوز أن يكون مبتدأً خبره محذوف، تقديره: هذا، و(ما) يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر. ''.
'' قول المصنف: وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] قال ابن جرير : حدثني المثنى -وساق بسنده- عن الربيع بن أنس قال: الإيمان: الإخلاص لله وحده.
وقال ابن كثير في الآية: أي: هؤلاء الذين اخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
وقال ابن زيد ، وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
وعن ابن مسعود : { لما نزلت هذه الآية، قالوا: فأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] }.
وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: { لما نزلت: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟! قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] }.(1/3)
ولأحمد بنحوه، عن عبد الله قال: { لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسول الله! فأيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ إنما هو الشرك }.
وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب، وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا ''.
أقول: المقصود من قوله: باب فضل التوحيد، أي: يجب علينا وينبغي أن نعرف فضل التوحيد، وأن نعرف ما الذي يكفره التوحيد من الذنوب.
فالإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، جعل العنوان: '' باب فضل التوحيد وما يكفر به من الذنوب '' ثم ذكر قول الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فذكر هذه الآية في هذا الباب، والباب عنوانه: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، فكيف يأتي بهذه الآية وهي: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
فنقول: أنه جاء بها لمناسبة عظيمة واضحة، وهي ما ذكره في الشرح، من تفسير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تفسير ابن كثير رحمه الله، ثم ذكر الشارح قول ابن زيد ، وابن إسحاق : هذه من الله، فما معنى هذه من الله؟ ثم قال: على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
معنى قوله: هذه من الله، يقصد بها قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فالله تبارك وتعالى فصل بهذه الآية بين إبراهيم وقومه.(1/4)
قصة المجادلة بين إبراهيم وقومه
إذن نحتاج أن نعرف ما هي المشكلة التي كانت بين إبراهيم وقومه؟ وما هي علاقة الموضوع بالشرك والتوحيد؟ ولماذا فصل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم بهذه الآية؟ ثم ما معنى هذا الفصل؟
فأما ما وقع بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه، فقد ذكره الله تبارك وتعالى قبل هذه الآية في قصة في سورة الأنعام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] فكان قوم إبراهيم عليه السلام يعبدون الكواكب، ويبنون الهياكل لعبادتها، وينحتون التماثيل ويعبدونها من دون الله، كما بين الله تبارك وتعالى في كتابه.
فالله تبارك وتعالى أراد أن يجعل إبراهيم عليه السلام من الموقنين: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76] فهو يسأل قومه الذين يعبدون الكواكب: هل هذا ربه؟ وهذا من المناظرة والمجادلة والمحاجة: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76] ومعنى أفل، أي: غاب وغرب وذهب، فإله يعبد ويرجى ويخشى ويدعى ويستجار به ويستغاث به، وعند الهموم والمصائب والنوازل يكون الاضطرار إليه، والحاجة إليه، والافتقار إليه، وإذا بهذا الإله يغيب ويذهب ويأفل عن عبيده، هذا ليس إلهاً.
فقال: قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه العقل الراجح،والبيان والحجة على قومه.(1/5)
ثم قال: فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] والقمر أكبر وأوضح وأجلى للناظرين من ذلك الكوكب: فَلَمَّا أَفَلَ حدث نفس الشيء للقمر أيضاً، فهو يغيب ويأفل ويذهب: قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] وانتظر، فإذا بالشمس: فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78] فالشمس أكبر من القمر.
أي: إن كانت الألوهية بالنور أو كانت بالحجم، فإذا الشمس أولى بالعبادة من القمر ومن ذلك الكوكب، وهذا على سبيل المحاجة، لأن قومه لا يعبدون الشمس، وقد ذكر الله سبحانه تعالى أن أمة من الأمم كانت تعبد الشمس من دون الله، وهم قوم سبأ: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24] لكن قوم إبراهيم عليه السلام لم يكونوا مثل قوم سبأ يعبدون الشمس -علماً أن عباد الشمس إلى الآن موجودين- ولكن أراد أن يجادلهم.
قال هذا أكبر: فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] فالآن ليس هناك مجال للمجادلة، فهذا الكبير وهذا الذي قد يُعظَّم، وقد ينظر إليه على أنه هو المستحق للعبادة من دون الكواكب الأخرى غاب، فأنا بريء منه، وبريء منكم ومن شرككم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].
إذاً وجَّه إبراهيم الخليل وجهه لله الذي فطر السماوات والأرض، والذي خلق الشمس والقمر، والكواكب، وخلق العباد هؤلاء، وخلق المعبودات المنحوتات: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96] كيف تنحته بيدك وتعبده، والله خلقك، وخلق هذا الصنم المنحوت المعبود؟!(1/6)
إذاًَ أعلن إبراهيم عليه السلام عبوديته لله، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:79] فوجه وجهه، وتوجه بوجهه هو تعبير عن الاتجاه الكلي، فهو لا يلتفت إلى غير الله، فالشرك التفات إلى غير الله، وإنما يوجه وجهه إلى الله بالتوحيد الخالص.
إذن فالاتجاه إلى الله وتوحيد الله، هذا هو ما فطن إليه إبراهيم عليه السلام، وألزم به قومه: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80] فلم يسلم له قومه، بل جادلوه فيما قاله، ولا بد من المحاجة والمجادلة: قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] أي: أتحاجوني في الله، وهذه المجادلة والمحاجة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد هداني، وعرفت التوحيد! وعرفت أنه الواحد الأحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه المستحق للعبادة: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:80-81] فوصل الجدال والنقاش بين إبراهيم وقومه إلى هذه النقطة، حيث خوفوه بالآلهة أنها سوف تنتقم منه، إذ كيف يكفر بمعبوداتهم.
والآن كثير من الناس إذا قلت: هذا القبر أو غيره -مما يعبد من دون الله- لا يذهب إليه ليستشفى به، وهو لا يشفي، فإنهم يقولون: لا تذكره بسوء، ولا تتكلم فيه، لأنك لو ذكرته في غير الخير فسينتقم منك، فهم يحاولون أن يخيفوا المؤمن الموحد، وهم على الشرك والعياذ بالله.(1/7)
فإبراهيم عليه السلام يقول: أنا أخاف، وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل عليكم به سلطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]؟
فهنا فريقان، كل منهما يدعي أنه على الحق، وأن الآخر يجب أن يخاف من معبوده: إبراهيم عليه السلام يقول: أنا على الحق وربي الله، ويجب أن تخافوا من الله تبارك وتعالى، لأنكم مشركون، وقومه يزعمون أنهم على الحق، وأن آلهتهم هي الآلهة المعبودة، ويخوفون إبراهيم عليه السلام بهذه الآلهة، فأي الفريقين أحق بالأمن؟
قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:82-83] فهذه فصلٌ من الله تعالى بين الفريقين.
فمن هو الآمن إذن؟
الإجابة صريحة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أن لهم الأمن وهم مهتدون.
ولقد سمعنا -كما في الشرح- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية وقرأها على الصحابة رضي الله عنهم شق عليهم ذلك، لأنهم يتدبرون كتاب الله، وإلا فنحن نقرأ هذه الآية، ولكن ربما لا نلقي لها بالاً أبداً -والله المستعان- لكن هم لما سمعوا الآية: { قالوا: يا رسول الله! أيُّنا لم يظلم نفسه؟! } وكيف ننال الأمن، وكيف ننال الهداية، ونحن ظالمون لأنفسنا؟ فخافوا وشق ذلك عليهم.
معنى الظلم في قوله تعالى : ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح: {ليس بذاك } أي: ليس المقصود بالظلم في الآية الذنب.(1/8)
وكلنا مذنبون وكل بني آدم خطاء، ولو لم نذنب فنستغفر الله لجاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقوم غيرنا فيذنبون ويستغفرون، وهذا من فضل الله.
ثم قال: {ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] } وهذا العبد الصالح هو لقمان الذي ذكره الله تعالى في سورة لقمان .
فتبين إذاً بهذا أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم خافوا وظنوا أنه لا أمن ولا هداية إلا لمن يجتنب الذنوب.
وقالوا: لا يمكن لإنسان ألا تقع منه ذنوب، فطمأنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن قال: إن هذا الظلم هو الشرك.
ولم يلبسوا معناها: لم يخلطوا، ولم يشوبوا إيمانهم -وتوحيدهم- وإخلاصهم بظلم.
إذاً المؤمنون الموحدون الذين لم يخلطوا هذا التوحيد والإيمان، والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بشرك: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فلهم الأمن ولهم الاهتداء.
فاطمأنت نفوس الصحابة رضي الله عنهم بهذا.
لكن يضل هناك إشكال قائم، فلا بد أن يطرح سؤال وهو: الذي يرتكب الذنوب والمعاصي هل هو آمن ما لم يشرك؟
حكم الإنسان الموحد من أهل المعاصي
الإنسان الموحد الذي ليس عنده شائبة من شوائب الشرك لكن لديه معاصي وذنوب، فهل هذا آمن؟
الأمر فيه تفصيل، ولذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله يفصل لنا شيئاً من هذا:(1/9)
قال الشارح: '' '' قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى: والذي شق عليهم: أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دلهم على أن الشرك ظلمٌ في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32].
وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه، بذنب إذا لم يتب، كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يا رسول الله! أيّنا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك الَّأواء؟ فذلك ما تجزون به } فبين أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب.
فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقاً.
بمعنى: أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء، بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.(1/10)
وليس مراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {إنما هو الشرك } أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن: تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولا بد لهم من دخول الجنة.
وقوله: { إنما هو الشرك } إن أراد الأكبر فمقصوده: أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وُعد به المشركون، من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك، يقال: ظلم العبد نفسه، كبخله - لحب المال - ببعض الواجب، هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى، حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار، انتهى ملخصاً ''.
أقول: كلام شَيْخ الإِسْلامِ عظيم جداً، وقد لا نستوعب فهمه كله، ولكن نلخص القضايا الأساسية.
أولاً: نفهم أن الإنسان الذي يحقق التوحيد، والذي وعده الله تبارك وتعالى بالأمن والاهتداء، هو الذي لم يلبس ولم يخلط إيمانه بظلم، ولا يعني ذلك أن يحصل الاهتداء التام والأمن التام له إذا كان لديه معاصي وذنوب وكبائر.
لأن الأمن التام والاهتداء التام لا يكون إلا لمن سلم من الشرك، ومن الذنوب والمعاصي.
وأما من حقق التوحيد وسلم من الشرك -والآن نأخذ الشرك على أنه الشرك الأكبر حتى لا تختلط الأفهام- ولكنه ارتكب الذنوب والمعاصي، فهل هذا آمن أم خائف؟
نقول: هذا له أمن ناقص، واهتداء ناقص، والذي أنقص أمنه وأنقص اهتداءه هو الذنوب والمعاصي، فهي تؤثر وإن كان محققاً ومستكملاً للتوحيد، لأن لها أثراً وعلاقة، كما سنوضح ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.(1/11)
ومن الذي ليس له أمن ولا اهتداء بالإطلاق؟
هو المشرك الذي أشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] فهذا ليس له أمن، ولا اهتداء لا في الدنيا ولا في الآخرة.
إذاً من حقق التوحيد، وقام بحقوق التوحيد، بأداء الفرائض وترك ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ له الأمن والاهتداء التامين بإذن الله.
والناس في ذلك درجات؛ لأن المؤمنين يتفاوتون ويتفاضلون، وليسوا سواء في الإيمان والتوحيد، فعندما خاف الصحابة الكرام، خافوا لأنهم يعلمون أن الإنسان لا يُصطفى ويُجتبى وليس له أمنٌ ولا اهتداء، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32] وهم الصحابة رضي الله عنهم والمؤمنون، وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامة، فهذه هي الأمة المصطفاة.
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ [فاطر:32] أي: الدين والقرآن والنبوة، أورثها الله تعالى بعد بني إسرائيل، وبعد من ضل وكذَّب وجحد من الأمم، هذه الأمة المصطفاة، التي اختارها الله واصطفاها، ولكن هذه الأمة المصطفاة على مراتب، فما هي هذه المراتب؟
وهذه المراتب هي: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32] وهنا يأتي إشكال، وهو: كيف تكون هذه الأمة المصطفاة ثلاثة مراتب؟ وهل ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن الناس يكونون أصنافاً ثلاثة أو ما يشبه ذلك في آية أخرى؟(1/12)
نعم. في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً [الواقعة:7] فحصل إشكال بين الصحابة، وليس بين الذين من بعدهم، في الثلاثة الأقسام التي في سورة فاطر، هل هي التي ذكرها الله تعالى في سورة الواقعة: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً [الواقعة:7] والأزواج الثلاثة التي في سورة الواقعة هم السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وهنا في هذه الآية هم: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] ولن ندخل في تفاصيل الخلاف، لكن المهم أن من الصحابة من قال: إن الثلاثة هنا هي الثلاثة هناك، فإذن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي اصطفاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم الظالم لنفسه، وهذا هو الذي يقع في الشرك على هذا القول، والواقع في الشرك هم من أصحاب الشمال، ومنهم المقتصد وهم أصحاب اليمين، ومنهم سابق بالخيرات وهؤلاء السابقون في الواقعة، إذن الثلاثة هنا هي الثلاثة هناك، ولكن هذا قول مرجوح.(1/13)
فعائشة رضي الله عنها لما سُئلت قالت: [[الظالم لنفسه مثلي ومثلك وهذا من تواضعها رضي الله عنها ]] ومعناه: أن الظالم لنفسه هو المذنب المقصر، وحاشاها رضي الله عنها أن تشرك بالله أو أحد من الصحابة، أو أن تقرَّ بالشرك، لكن كلام عائشة رضي الله عنها هو الراجح، وإن كان ابن مسعود رضي الله عنه قال بالقول الأول، وذلك بدلالة الآيات التي بعد هذه الآية في سورة فاطر، لما قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:32-36].
إذاً لو قرأنا الآيات فإننا نجد ولا سيما بعد أن ذكر الطائفة الرابعة: َالَّذِينَ كَفَرُوا [فاطر:36] أن الصنف الرابع ليس من الثلاثة الطوائف، وليس من الأمة المصطفاة، لأنه قال: الَّذِينَ كَفَرُوا [فاطر:36].
إذاً المؤمنون ثلاثة أصناف، والكفار صنف واحد، وهؤلاء لهم النار نسأل الله العفو والعافية.
فإذاً الأقسام التي في سورة الواقعة ثلاثة، لكنها في سورة فاطر تكون أربعة، وهؤلاء الأربعة نأخذهم بحسب الفضل:
الدرجة الأولى: السابقون(1/14)
أولاً: السابقون -وإن كانت الآية قدمت أصحاب اليمين- وهم الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولا بالذنوب والمعاصي، فالسابق هو الذي يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنوافل بعد الفرائض، وهذا التفسير هو أحد المعاني للسابق وهو أجلاها، فهو كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه } فأعظم شيء نتقرب به إلى الله هو فرائض الله، وبعد ذلك: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه } فالذين يأتون بالنوافل: كذكر الله، والصدقات، والصلوات، والجهاد النافلة، والإنفاق في فعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر النافلة، وقد أتى بما عليه من الواجبات، ولكنه يتطوع بهذا، فمن يأتي بالنوافل، ويجتنب الشبهات، ويتورع عن الحرام، فهو قد أتى بدرجة أعلى من درجة الالتزام بالحلال والحرام والواجب والمنهي عنه.
إذاً هؤلاء هم السابقون.
الدرجة الثانية: المقتصد
ثانياً: المقتصد: وهو وسط، ليس من الظالمين لأنفسهم، ولا من السابقين بالخيرات.
والمقتصد هو: الذي يأتي بالواجبات، ويجتنب المحرمات، لكن لا يزيد على ذلك بالنوافل، ولا يجتنب المكروهات التي إن تركها العبد فهو مأجور، وإن فعلها فهو غير آثم، فهذا درجة أقل، فهو إنسان مقتصد يعمل الطاعات، ويؤدي فرائض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقوم بما أمر الله، لكن لا يسابق ولا يسارع بالخيرات.
ففرق بين إنسان يؤذن المؤذن فيكف عن عمله الذي بيده ويأتي إلى بيت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو إنسان إذا سمع ذكر الله جاء إليه من أي مكان، وسابق إليه، وزاحم بالركب، ليستمع ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليسارع بالخيرات، وهذا هو السابق، وبين من يؤدي ما افترضه الله عليه ويكتفي به، وما عدا ذلك يتركه للسابقين، فهذا هو المقتصد.
الدرجة الثالثة: الظالم لنفسه(1/15)
ثالثاً: الظالم لنفسه: وهو الذي يترك بعض الواجبات -ولا نقول كلها- ويرتكب بعض المنهيات وبعض المحرمات.
فهذه هي الأقسام الثلاثة،وهي في المؤمنين وفي أهل التوحيد، فكيف يكون أمنهم واهتداؤهم؟
حتى نربط هذه الآيات بآية الأنعام التي هي موضوع الباب: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
نقول: أكملهم أمناً واهتداءً هم: السابقون، ثم المقتصد، وأما الظالم لنفسه فهو على خطر، وإن كان له أمن، ونجزم نحن أنه سيحصل له بإذن الله، أما ما عدا ذلك فهو تحت مشيئة الله، فالأمن المؤكد له بما أنه موحد، والكلام هذا عن الموحد الذي اجتنب الشرك، أنه مجزوم ومقطوع له بأنه لا يخلد في النار إن دخلها، ولكن هل يأمن أول الأمر؟ وهل يأمن يوم الفزع الأكبر؟ وهل يأمن عندما تنشر الصحف؟ وهل يأمن عند عبور الجسر؟
كله هذا الله أعلم به، فهو تحت مشيئة الله، لكن الشيء الذي نجزم به؛ أنه لا يخلد في النار، ولا يمكن أن أحداً من أهل التوحيد يخلد في النار -بإذن الله- إن دخلها.
فهذا هو فضل التوحيد، فالباب: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وهذا فضل عظيم، وهو أقل الفضل الذي هو مقطوع به -وما قبله قد يأتي إن شاء الله أيضاً- لأن المؤمنين الموحدين لا يخلدون أبداً في النار، بل من دخلها يخرج بشفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبشفاعة الشافعين من الملائكة، وعباد الله الصالحين، والشهداء، وكل من أذن الله له أن يشفع، حيث يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة أن يخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم مرة ثانية يأمرهم أن يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثالثة يُخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان.(1/16)
وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- هم أهل أمن في النهاية، ولكن بعد سكرات الموت، وبعد الحساب الشديد في القبر، وبعد الموقف يوم القيامة والأهوال، وبعد عبور الجسر والوقوع والسقوط منه في النار -نسأل الله العفو والعافية- بعد آماد الله يعلمها، وهذا خطر عظيم ولا شك؛ حتى لا نستهين بالذنوب.
لكن نقول: التوحيد يظل له فضله وأهميته حيث أنهم في النهاية يخرجون.
وهنا سؤال وهو: كيف يعرفهم الشفعاء، إذا أذاً الله سبحانه للشافعين أن يشفعوا، فيخرجون أهل النار الموحدين منها، والنار فيها الكفار وفيها العصاة من الموحدين، فكيف يميز المؤمن من الكافر؟
بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا فقال: {يعرفونهم بأثر السجود } فأثر السجود واضح في جباههم، وهذا يعني أن الذي لا يصلي لا ينجو، فعلى هذا الحديث وأدلة أخرى كثيرة -لكن نأخذ العبرة الآن من هذا الحديث- يكون تارك الصلاة الذي لا يصلي ولا يسجد لله، من أين له أثر للسجود؟ لا أثر فيه للسجود، إذاً فلا يعرف، ولا يشفع له الشافعون، وقد قال الله حاكياً مقالهم في النار: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:43-48] نسأل الله العفو والعافية.
فتارك الصلاة ليس بمسلم، وليس بمؤمن، ولا تنفعه شفاعة، فتارك الصلاة إذاً داخل فيمن لبس وغطى وشاب إيمانه بظلم، بمعنى الظلم الأكبر، وهو الكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا ليس له أمن ولا اهتداء مطلقاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهو مثل فرعون وهامان ، ومثل عباد الأصنام، وعباد الطواغيت، مثله مثلهم، سواء بسواء، لا علامة للسجود لديه ولا أثر، ولذلك فإنه يُحرم من شفاعة الشافعين.(1/17)
أما أهل الشفاعة فهم أصحاب الذنوب التي دون ذلك، وإن كانوا متوعدين بالنار، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشفِّع فيهم، ما داموا من أهل التوحيد، ولم يصل بهم الذنب إلى ترك الصلاة أو إلى الكفر، وذلك كالذين توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنار -في القرآن مثلاً أو في الأحاديث- من أصحاب الذنوب والمعاصي،كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً [النساء:10].
وكذلك ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] إذاً الزنا من الذنوب المتوعد عليها بالنار وقتل النفس وشرب الخمر إلا من تاب، فنقول: من تاب من شرك أكبر، أو شرك أصغر، أو بدعة، أو معصية، ولو كانت ذنوبه تبلغ عنان السماء، أو مثل الجبال، إذا تاب، تاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وغفر له، ولقي الله كمن لا ذنب له، لكن كلامنا فيمن يلقى الله وهو بهذه الحالة بدون توبة، فهؤلاء هم الذين يكونون من أصحاب الوعيد، بمعنى أنه متوعد بها، وقد يدخل وقد لا يدخل.
فمثلاً: إنسان أكل مال يتيم، أو زنى، أو سرق، أو شرب الخمر، أو فعل أمراً موبقاً -كبيرة من الكبائر- فنقول: فاعل هذا الذنب متوعد بالنار، وهو من أهل الوعيد، لكن لا نقطع أو نجزم بأنه سيدخل النار، ولا نقول عن رجل معين: إن الله لا يغفر له، وإنه لا بد أن يدخل النار.(1/18)
لأن الأعمال يوم القيامة توزن عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن لا ندري لعل هذا الإنسان له أعمال صالحة لا نعلمها، فنحن نعلم أنه فاعل لهذا الذنب، ولذلك نعظه ونخوفه بعذاب الله من هذا الذنب، وإذا عُلم أنه مات وهو مصر على هذا الذنب نخاف عليه منه، ونقول: إنه داخل في هذا الوعيد، لكن لا نعلم الحقيقة، لأنه قد يكون له صدقة لا نعلمها، وقد يكون له أمر بمعروف ونهي عن منكر نحن لا نعلمه، وقد يكون له محافظة على الصلاة... وهكذا.
لأن الإنسان تجتمع فيه الطاعة والمعصية، وهذه من عجائب الإنسان.
فرب إنسان مقيم لحدود الله، وفرائض الله، ومشتغل بطاعة الله، ويفعل فاحشة وموبقة -نسأل الله العفو والعافية- وهذا واقع.
ورب إنسان وقعت منه هذه الفاحشة، واشتهر بها، وعرف عند الناس بها، وله طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعلمها الناس، يتقرب بها ويعملها، فربما في الميزان ترجح هذه الطاعة بتلك المعصية، مثل البغي الزانية من بني إسرائيل التي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصتها، والتي غفر الله لها لأنها سقت الكلب، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، فأي مخلوق وأي حيوان له كبد؛ حتى وإن كان الكلب فيه أجر الصدقة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فهذه بغي زانية، لكنها لما رأت الكلب يلهث، أخذت خفها وملأته بالماء وسقته فشكر الله لها وغفر لها، سبحان الله!(1/19)
فالزنا لا تخفى شناعته وبشاعته: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً [النساء:22] لكن مع الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصدقة أو باستغفار أو بذكر أو بعمل من أعمال الخير، قد لا يلقي له الإنسان بالاً، أو كلمة حق قد لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وتكفر عنه من الخطايا والذنوب ما لا يخطر له على بال، كما إن الإنسان قد يقول الكلمة من سخط الله، ومن غضب الله، لا يلقي لها بالاً كاستهزاء بالدين، أو استهزاء بأهل الدين تهوي به في النار سبعين خريفاً -نسأل الله العفو والعافية-.
فنقول: مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يرجون للمحسن الثواب، ويخافون على المذنب والمسيء العقاب، لكن لا يقطعون لهذا بالجنة ولا يقطعون لهذا بالنار، إلا من جاء الدليل صريحاً فيه أنه من أهل النار، فنقطع له بذلك، أما الباقون فنرجو للمحسنين منهم الثواب، ونخاف على المسيئين منهم العقاب.
فإذاً عرفنا أن هؤلاء الثلاثة: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فهؤلاء لهم نصيب من الأمن إن شاء الله، والفضل كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن وفقهم للتوحيد، وحصول الأمن إما كلياً أو جزئياً سببه التوحيد، وأنهم ليسوا من أهل الشرك.
أما من كان من أهل الشرك، وأشرك بالله الشرك الأكبر، فهذا باتفاق أهل السنة أنه لا أمن له ولا اهتداء.
الكلام على تسمية بعض السلف الذنوب شركاً
وبقيت القضية الأخيرة التي ذكرها شَيْخ الإِسْلامِ وهي أن بعض السلف لم يحصروا اسم الشرك في الشرك الأكبر، فالذي يشرب الخمر -وهذا ليس مشركاً ولا يسمى مشركاً بمجرد أنه يشرب الخمر أو يزني أو يرتكب أي محرم- يسميه بعض السلف مشركاً، باعتبار أنه اتخذ إلهه هواه، ويعدون ذلك نوعاً من الشرك.(1/20)
وهذا بلا ريب أنه يجرح ويقدح في كمال توحيده، لأن الموحد التوحيد الكامل لا يأتي منه هذه الفعال، فالذي يفعل ذلك فإنه يقدح في كمال توحيده وإيمانه، فلذلك بعض السلف يسمي اتباع الهوى شركاً، ويقول: إنه من الشرك، فعلى هذا المعنى يكون شركاً أصغر، ويقابل عندنا نحن الظالم لنفسه، فيبقى أن كلمة الشرك في محلها، وإن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {ليس بذاك } أي: ليس الشرك، ولكن فهم السلف الصالح ، أنه الشرك، وليس الشرك الأكبر الذي حذر منه لقمان عليه السلام ابنه، ولا ريب أنه أعظم شيء، وهو المحبط للعمل، أما ما دونه من المعاصي وإن كان يحذر منها؛ لكنها شرك أصغر، فعلى هذا يكون الظلم في هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] يمكن أن يفسر بأنه ثلاثة أنواع، كما تقدم في كلامه رحمه الله.
النوع الأول: الظلم الأكبر، وهو: الشرك بالله، وهو الذي لا أمن معه ولا هداية.
النوع الثاني: ظلم العبد للناس وللعباد، وهذا ظلم عظيم، وهو الذي يقول الله تبارك وتعالى عنه، في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا } ويقول عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الظلم ظلمات يوم القيامة } فظلم الإنسان للإنسان مرتبته تقع بعد الظلم الأكبر.
النوع الثالث: أن يظلم العبد نفسه بالذنوب والمعاصي.
فإذاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] فلم يشركوا بالله، ولم يظلموا عباد الله، ولم يظلموا أنفسهم بالمعاصي، هؤلاء لهم الأمن والاهتداء الكامل يوم القيامة.
وأما من شاب توحيده وإخلاصه وإيمانه بالشرك الأكبر، فليس له أمن ولا اهتداء، وأما من خلط إيمانه بظلم للعباد، أو بظلم لنفسه بالذنوب والمعاصي، فهذا حاله كما قد بينا في الظالم لنفسه.(1/21)
قال المصنف: '' وقال ابن القيم رحمه الله قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] وقال الصحابة: {وأينا يا رسول الله! لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] }.
فلما أشكل عليهم المراد بالظلم، وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه -أيَّ ظلم كان- لم يكن آمناً ولا مهتدياً.
فأجابهم صلوات الله وسلامه عليه: بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك.
وهذا -والله- هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك، الذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام، رافع للأمن وللهدى المطلق التام، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله، فالمطلق للمطلق، والحصَّة للحصة. انتهى ملخصاً ''
وأقول: هذا مثل ما تقدم، فقوله: المطلق للمطلق، أي الذي سلم مطلقاً من الشرك والذنوب، له الأمن المطلق، والحصَّة بالحصَّة، أي بقدر ما يكون الظلم يكون النقص في الأمن والاهتداء.
قول المصنف رحمه الله: '' وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل } أخرجاه ''.
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.
حكم النطق بكلمة التوحيد مجردة(1/22)
''قوله: من شهد أن لا إله إلا الله، أي: من تكلم بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً -فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما- كما قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] وقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل -قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح- فغير نافع بالإجماع.
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب.
وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة ، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان.
وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً ''.
أقول: كلام العلماء رحمهم الله كثير في هذا الموضوع، كما سمعتم في كلام القرطبي وغيره أيضاً.
والمقصود: أن حديث عبادة بن الصامت الصحابي البدري، أحد النقباء، الذين كانوا نقباء الأنصار رضي الله عنهم، ويكفي أنه شهد بدراً فضلاً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فليس وراء هذا الفضل من فضل إلا من كان أفضل من أهل بدر ، كالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وهم من ضمنهم، ولكنهم أفضل.
وفي هذا الحديث يحدث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمداً عبده ورسوله } ومعنى ذلك أن الجزاء في النهاية إدخال الله له الجنة على ما كان من العمل.(1/23)
والباب: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، فكلمة التوحيد هي التي بها يكفر الله تعالى الذنوب، ويدخل الإنسان الجنة، على ما كان من عمل، فهذه الكلمة أو الشهادة بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الإله المعبود لا شريك له، والشهادة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عبد الله ورسوله، هذه هي كلمة التوحيد، والذي يحقق التوحيد هو الذي يحقق هذه الكلمة.
معنى وحقيقة كلمة التوحيد
كل إنسان يقول كلمة التوحيد أو يدَّعيها من المسلمين، فهل المقصود بقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) أي: من قالها ونطق باللسان قائلاً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أنه يدخله الله الجنة على ما كان من عمل، أي: على أي عمل كان؟
هذا -طبعاً- غير معقول عند المؤمن الذي يعقل عن الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال المؤلف: في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله } ليس المراد بها مجرد النطق، ولكن لا بد فيها من العلم واليقين، واستدل بقول الله تبارك وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فلا يكفي النطق، ولا يكفي أن يقول الإنسان أنا أشهد أن لا إله إلا الله،بل يجب عليه العلم أنه لا إله إلا الله، كما في الآية: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] أي: وهم يعلمون شهادة الحق.
معنى كلمة: أشهد
والشهادة أمرها عظيم، فكلمة الشهادة أو أشهد ليس معناها أنا أقول، أو أقرر، أو أظن، أو ربما!! ولننظر إلى الشهادة في أمور الدنيا، فأنت إذا ذهبت إلى المحكمة، وقلت للقاضي: يمكن وأتوقع أنه كذا فهل سيقبل شهادتك؟ لا. بل لا يسميها شهادة أصلاً.
فما معنى الشهادة؟
ورد في الحديث وإن كان فيه ضعف قال: {على مثلها فاشهد } أي: على مثل الشمس.(1/24)
فالشهادة تحتاج أن تكون جازماً ومستيقناً وعالماً بها، فعندما يقول العبد المؤمن: أشهد أن لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة، التي تعدل وترجح بالسماوات والأرض ومن فيهن غير الله، يجب أن يقولها عن علم ويقين وليس مجرد النطق أو التلفظ باللسان.
وهذا الذي وقع فيه -مع الأسف- أكثر الناس، حيث ظنوا أن معنى أننا أمة التوحيد، وأننا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أننا نشهد أن لا إله إلا الله، وأننا نقولها باللسان فقط.
فإذا سمع الواحد منهم من يحذر من الشرك، وينهى عن الشرك، فإنه يقول: هذه أعمال المشركين والكفار واليهود، وهذا يقول لا إله إلا الله! فنقول: هل كل من قال لا إله إلا الله يسلم من الشرك؟
وهل كل من قال لا إله إلا الله يصبح له الأمن التام والاهتداء التام؟
قول لا إله إلا الله له حالات:
أحوال الناطق بكلمة التوحيد
الحالة الأولى: إن كان في المعركة: كما في حديث أسامة رضي الله عنه، إن كنا في المعركة، نجاهد الكفار، ونقاتلهم ونحاربهم، فقال الرجل من الكفار: لا إله إلا الله فهل نقبل منه ونكف عنه؟
فأسامة بن زيد رضي الله عنه قتل رجلاً من المشركين في الحرب، بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد استعظم ذلك، واستفضعه: {أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله، إنما قالها يتعوذ بها من السيف } أي: لما رأى السيف يهوي عليه أراد أن يتعوذ بها عن السيف فقالها، فلم يكن قصده الإسلام، قال: {أشققت عن قلبه } فانظروا كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة ونبي الهدى يعلمنا أن لنا الظاهر في هذه الحالة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله فعلينا أن نكف، ونرفع عنه السيف.
الحالة الثانية: في حالة الاستقرار: من نطقها فإننا نتركه يعمل، لكن هل نتركه يعمل ما يشاء، ونقول: قد قال ذلك اليوم لا إله إلا الله؟(1/25)
هذا الذي يظنه كثير من الناس اليوم، فيقول أحدهم: أنا ولدت من أب مسلم وأم مسلمة، والحمد لله، والمجتمع مسلم، وكلنا نقول: لا إله إلا الله، إذاً لا إله إلا الله تكفي وحدها!
فنقول لهؤلاء: الدخول في الإسلام وإثباته وأحكام الإسلام شيء، وتحقيقه شيء آخر، يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى } وقد يكونون منافقين غير صادقين، لكن نحن لنا الظاهر.
وفي الحديث الآخر: {من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا } أي: في الأحكام.
فيجب أن نفطن وأن نفقه هذه الحقيقة، فبالنسبة للأحكام نجري أحكام الإسلام على كل من أظهر الإسلام وأظهر الشهادتين، بأن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأدى الصلاة وآتى الزكاة فهذا نجري عليه أحكام الإسلام.
وبالمناسبة قد يقول بعض الناس: في حديث: {بني الإسلام على خمس } ذكر خمسة، وهنا ذكر ثلاثة: الشهادتين والصلاة والزكاة، فأين الركنان الآخران؟
فيقال: يمكن أن يكون في نهار رمضان مفطراً لعذر، وقد يكون مفطراً ولا يدرى عنه، وأما الحج فلأنه مرة واحدة في العمر، فيمكن ألا يحج هذه السنة، ويريد الحج في التي تليها، ولذلك بنيت الأحكام الظاهرة على الأمور الواضحة الظاهرة، مثل الصلاة، فهي شعيرة واضحة وظاهرة لا بد أن تؤدى، والزكاة لأنها كل عام تؤخذ ويأخذها الإمام أو نائبه، فهذه تؤدى، فمن جحدها ولم يأتِ بها -وهي حق الإسلام- يعاقب بالعقوبات الشرعية المعروفة.
فالمقصود أن من أقام الصلاة، وآتى الزكاة بعد الشهادتين، فهذا مسلم، نقر له بالإسلام، أي: له علينا الحقوق الشرعية.(1/26)
مثلاً: إذا مات علينا أن نغسله ونكفِّنه، ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين، فهذا حق له نعامله به، وإذا جاء إلى بيت المال -الذي جعله الله سبحانه للمسلمين عامة- فنعطيه منه، وهذا حق من حقوقه.
إذاً له ما لنا وعليه ما علينا، لا نغشه ولا نظلمه فإذا قال أحد: هذا منافق وكذاب، وقد يكون عرفه في لحن القول، لكن ما لم يظهر ما يناقض هذا الأمر بأمر شرعي يستحق عليه العقوبة فنظل نحن نعامله ظاهراً على أنه مسلم، فإذا تزوج وعقد كان زواجه صحيحاً، وإذا باع فبيعه صحيح، ولا يمنع من دخول الحرمين، وأحكام المسلمين كلها تجري عليه.
لكن المشكلة، أنَّا نخلط بين إجراء الأحكام وبين حقيقة الإيمان، فنجري له أحكام الإسلام نعم، لكن هل هو محقق للإيمان، كلنا ينظر إلى نفسه أولاً ثم إلى غيره.
حقيقة الإيمان
فإن تحقيق الإيمان يكون بأربعة أشياء: بقول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، ولا تكون شهادة أن لا إله إلا الله إلا بذلك، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ويقولها بلسانه ويقولها بقلبه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال لا إله إلا الله يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه }.
فهذه هي حقيقة الإيمان الذي ينجو صاحبه عند الله فعلاً، أما الذي ينجو من سيف المؤمنين في الدنيا -فقط- ونجري عليه أحكام المسلمين في الدنيا، لكنه لا ينجو عند الله فهو الذي يتلبس بالشرك، وهذا ليس فيه فائدة، وإنما نحن نتكلم في النجاة عند الله ظاهراً وباطناً.
ويجب أن نعلم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله بلسانه فليس بمسلم، فمن لم يقر بلسانه بشهادة أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بمسلم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو كافر وهذا معلوم، ولكن ننبه عليه لوجود من شكك فيه وذكر فرقاً بينهما من الفرق.(1/27)
وكذلك يجب أن نعلم أنه لا بد من اعتقاد القلب: فقد كان المنافقون يقولون -إذا جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نشهد إنك لرسول الله، وهم أمام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنطق باللسان موجود، ولكن في الواقع شهد الله تبارك وتعالى عليهم أنهم كاذبون في شهادتهم، فهؤلاء لا تنفعهم الشهادة باللسان لأنهم لم يشهدوا بقلوبهم، فلا بد من شهادة القلب، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتصديق القلب بذلك.
إذاً الإيمان عندنا يتركب من أربعة أشياء: القول وعرفنا أنه قول باللسان، وقول بالقلب، ومعناه: الإقرار والإذعان والاعتقاد في القلب بأن الله تعالى واحد، وأنه المعبود المستحق للعبادة وحده لا شريك له، والاعتقاد بالقلب بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد الله ورسوله، وهذا هو الاعتقاد.
ثم العمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فما هو عمل القلب؟
قول القلب هو: الإقرار والاعتقاد، أما عمل القلب فهو اليقين، والإخلاص، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والرجاء، والخوف، والإنابة، والصبر، والإخبات، والانقياد، والإسلام، والإذعان، والتسليم، والرضا بحكم الله وبقدر الله، إذن هذه هي أعمال القلب، وأعمال، القلب أعظم الأعمال وكل العبادات تتفرع منها.
فلا بد من الإيمان القلبي الذي هو قول القلب وعمل القلب.
ثم إن شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الكلمة العظيمة, التي نشترط أن تقال باللسان، وأن تقال بالقلب, بمعنى الإقرار والاعتقاد والتصديق، بالإضافة إلى عمل القلب والجوارح بمقتضاها، وبهذا يستكمل الإيمان، عندما نقول ذلك فإننا نريد أن نبين كيف نستكمل الإيمان، وأن نبين للناس معنى الإيمان في منهج أهل السنة والجماعة .
ونستعرض هنا بعض الأدلة, التي تبين لنا أن من لم يكن كذلك فإنه ليس مسلماً ولا مؤمناً.
الركن الأول: قول القلب(1/28)
أولاً: الذين يقولون لا إله إلا الله بألسنتهم، ولكن لا يقولون ذلك بقلوبهم, ولم يقروا بقلوبهم - أي: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم - فهؤلاء ليسوا مسلمين, ولا يوجد أحد يقول: هؤلاء مسلمون، لأنه يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وإن شهد أن لا إله إلا الله أن محمداً رسول الله، وإن أعطيناه أحكام الإسلام الظاهرة -كما تقدم- لكن هو عند الله تبارك وتعالى ليس مسلماً لأن قلبه لم يذعن, ولم يقر, ولم يشهد بقلبه بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والفرقة والطائفة التي ذكرها الله تعالى في القرآن كثيراً, والتي تقول بلسانها لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تقر بقلبها هم: المنافقون.
والمنافقون ليسوا مسلمين, ولا يعدون من المؤمنين, ولذلك يدعوهم الله سبحانه إلى الإيمان وإلى الإخلاص، كما في سورة التوبة وسورة المنافقين وسورة النساء وغيرها؛ لأنهم إن قالوا لا إله إلا الله بألسنتهم لا يقولونها بقلوبهم، ولا يعتقدونها ولم يخلصوا فيها، فليسوا صادقين في قولها، ولهذا يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
وهذه الآية قد قالها بعد التعقيب على أحداث غزوة تبوك , حيث نزلت سورة التوبة, وفضح الله تعالى المنافقين فيها، وختمها بهذه الآية العظيمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] فلا بد من الصدق في قولها، وأما الكذب فمهما قالوا كلمة التوحيد وشهدوا بها, فالله يعلم إنهم لكاذبون, وهؤلاء شهادتهم باطلة, ولا تنفعهم عند الله.
الركن الثاني: قول اللسان(1/29)
إذا جاءنا أناس ُمقرُّون بقلوبهم, أي: في قلوبهم يصدقون ويقرون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لكن لم يقولوها بألسنتهم, ولم يظهروها, ولم يذعنوا بها بألسنتهم, فهؤلاء كفار، ويمكن بعض الناس يقول: هذا عرف بقلبه وأقر بقلبه.
فنقول له: لا بد من القول باللسان, والإقرار بذلك, ولا يكفي مجرد معرفة الحق أو التصديق به بالقلب، دون أن يقول الإنسان ذلك، ومن عرف وصدق وأيقن حقاً بأن لا إله إلا الله فلا بد أن يقولها، وهذا نماذجه كثيرة، فهو ليس مجرد كلام أو تمثيل لاستكمال القسمة الرباعية، بل كثير جداً في القديم والحديث, فيوجد من يعلم ويشهد أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويشهد أن القرآن حق بقلبه، لكنه لا يذعن لذلك ولا يظهره، فهؤلاء ليسوا مسلمين؛ بل هم من الكافرين, ولا ينجون من النار، ولا يعتبرون مسلمين أبداً.
مثال ذلك: المستشرقون، أو الكُتَّاب الأوروبيون من اليهود والنصارى وغيرهم الذين يثنون في كتاباتهم -الآن- على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حق، وأن ما جاء به حق، وأن القرآن عظيم، ويقولون: هذا مصلح ومجدد عظيم إلى آخره، فهذا لا يأخذ أي حكم من أحكام الإسلام، وإن أقرّ بوجود الله، لأن وجود الله قضية غير مختلف فيها في الأمم الماضية.
فوجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر مفروغ منه، دلت عليه الفطرة والعقل والشواهد في الأنفس وفي الآفاق، قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] حتى المنافقون والمشركون وكفار قريش الذين أنكروا رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛كانوا يقرون بأن خالق السماوات والأرض ومدبر الأمر والرازق هو الله إلى آخر ما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه، لكن لم ينفعهم ذلك أبداً.(1/30)
فكون هؤلاء الناس يقولون إن الإسلام حق, دون أن يقروا وينطقوا بالشهادتين؛ لا يدخلهم في الإسلام.
وأيضاً من عرف الحق بقلبه، وأنكر بلسانه, وهؤلاء ذكر الله تبارك وتعالى لهم مثلاً في القرآن, وبين لنا أنواعاً منهم في القرآن، فكتاب الله هو كتاب الهداية, وكتاب التوحيد الخالص, وقد ذكر الله منهم فرعون وقومه، فقال الله تعالى فيهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فأنكروا آيات الله, لكن في قرارة أنفسهم يعلمون أنها الحق، ولهذا قال موسى عليه السلام لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] ففرعون في قرارة نفسه يعلم الحق, ولهذا لما اشتد الجدل بينه وبين موسى عليه السلام، وأراد أن يعمي القضية قال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر:36-37] وهذا من باب تضييع القضية, وإشغال الناس وإلهائهم عنها.
وإلا فالحقيقة أن هناك إقراراً بوجود الله, وبصدق رسالة موسى عليه السلام, وإن قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فمهما جحد فهو مستيقن في نفسه بأن هذا حق، ولكنه العناد, والكبر والطغيان نسأل الله العفو والعافية.
فمن عرف هذه المعرفة القلبية -أن الدين حق- ثم كابر وعاند رسول رب العالمين, لم تنفعه تلك المعرفة, لأنه جحد بها.(1/31)
وذلك -أيضاً- ككفار قريش، حيث كانوا يعلمون في أنفسهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق، حتى أبو جهل عدو الله لم يكن عنده ذرة من الشك، في أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، لكن يقول: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان -يعني نتسابق سباق عنصرية جاهلية قبلية- سقوا وسقينا, ورفدوا ورفدنا, وأطعموا وأطعمنا، وفي المعارك وفي كل شيء نسابقهم، وننافسهم فلما قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟
إذاً أحسن شيء نكفر به، والعياذ بالله. فلنعتبر ولننظر كيف يودي العناد والكبر بصاحبه.
ومثل هذا العناد العنصري الجاهلي عناد اليهود لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً, فاليهود ذكر الله عنهم أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوراة، وهذا هو سبب مجيئهم إلى المدينة وخيبر .
حيث قرأ اليهود في التوراة وفي أخبار رسلهم، أنه سيخرج في آخر الزمان نبي, وسيكون مهاجره -أي موضع هجرته- أرضاً ذات نخل بين حرتين، فبعضهم عندما وصل إلى خيبر , ورأى النخل, ورأى الأرض كأنها حرة، بقي فيها، وبعضهم لما تقدم إلى المدينة ورأى الأرض والنخل بين حرتين بقوا فيها، وأخذوا ينتظرون مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقصصهم في هذا عجيبة وكثيرة، وكما في حديث زيد بن سعنة عندما سُئل حبر يهودي عن موعد خروج نبي آخر الزمان، فنظر فإذا أحد الصحابة من الأنصار غلام صغير، قال: [[إن يعش هذا الغلام يدركه ]] حتى أنهم كانوا يعرفون أنه سوف يأتي في وقت قريب.
ولما قدم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهجرة, خرج أحدهم في المدينة ، ويقول: ''يا بني قيلة! هذا صاحبكم '' عرفه ولم تره العيون بعد.(1/32)
وهكذا يظهر جلياً أنهم كانوا يقرون ويعلمون صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا الإقرار لم ينفعهم، وقد جاء منهم اثنان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وشهدا بالرسالة وهم عنده, ومع ذلك لم يُعد ذلك منهم إيماناً, أو إسلاماً, كما في الحديث الذي رواه أحمد وهو حديث صحيح: { أن حبرين من أحبار اليهود, قال أحدهما للآخر: تعال نذهب إلى هذا النبي ونسأله } وهذا الكلام لم يسمعه منهم أحد، وإنما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيما بعد ما دار بينهما، فرواه الصحابي رضي الله عنه: { فقال له صاحبه: لا تقل إنه نبي } وهو يقصد تذكيره بأنهم متفقون على جحد نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته، وإن كانوا يعلمون أنه نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: { فإنه إن بلغه ذلك يكن له أربعة أعين } أي: يأخذه الكبر, ويفرح بشهادتنا له بالنبوة، فنحن لا نشهد له، وهذا حسدٌ من عند أنفسهم,كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فذهبا إليه وقالا: يا محمد، أخبرنا عن التسع آيات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موسى وهارون, فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأنعام:151] } إلى آخر آيات الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على كل نبي، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهذا من حكمة الدعوة- عدل عن الجواب، ولم يخبرهم بالآيات -التي هي: الجراد, والقمل, والدم, والضفادع- بل عدل عن ذلك إلى ما هو أهم وأحوج, وإلى ما يجب أن يعلموه.(1/33)
وقد أنزل الله على موسى وكل رسول هذه الوصايا العشر, التي افتتحت بتوحيد الله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151] أن يوحد الله, ويُعبد وحده لا شريك له، واختتمت بالتحذير من البدعة ومن الابتداع والإحداث في الدين.
وما أكثر ما ابتدع اليهود والنصارى, وهو واقع في هذه الأمة،وقد قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] { فلما قرأ ذلك، قالا: نشهد أنك نبي، وأرادا أن ينصرفا } وهذا هو الشاهد، فهل نفعتهم هذه الشهادة؟
فهم عندهم يقين, وصدق وإقرار أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يلزم من ذلك الإيمان والاتباع.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ما يمنعكما أن تتبعاني -أن تتبعا ما جئت به من الحق-؟ قالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال من ذرية داود نبي } أي: أنت من ذرية إسماعيل، والله تعالى قد أخبرنا وأعطانا أنه لا يزال من ذرية داود نبي، فكونك من بني إسماعيل يجعلنا نكفر برسالتك، وإلا فأنت نبي، ولو كنت من آل داود لآمنا بك، سبحان الله!
فالقضية عندهم قضية نسب وعنصرية، وكما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه, وأنهم شعب الله المختار، أي: إن كان جاءنا الداعية من بني فلان قبلناه, وإن كان من بني فلان لم نقبله، نعوذ بالله! إن كانت الفتوى جاءت من المكان الفلاني قبلنا، وإن كانت من فلان فلا، فهذه عنصرية وجاهلية. فالحق يقبل والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، لكنه الحسد الذي أخذ بالقلوب, وقد كفروا بما أنزل الله تبارك وتعالى على داود وعيسى وموسى, وعلى من جاء من ذرية داود, والسبب هو الكبر والعناد والحسد.(1/34)
إذاً لم ينفع اليهود وأهل الكتاب أنهم يعرفون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقول بعضهم لبعض انه نبي, لأن الواجب عليهم أن يتبعوه ويذعنوا له. وينقادوا لأمره ولدينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة كون الإنسان مسلماً أو مؤمناً.
وهناك مثال أوضح من هذا كله، وهو من يعلم أن الإسلام حق، ويقف ينصر الدين, ويدعو الناس إلى كف الأذى عن هذا الدين, ويحامي وينافح ويكافح دونه؛ ولكنه هو لم يشهد ولم يقل كلمة الحق ويذعن، فلم ينفعه ذلك, ولا يعد من المسلمين.
وهذا ما فعله عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو طالب ، فإنه أكبر من حمى دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصره وآزره حتى لما حُصر المؤمنون في الشعب حُصر معهم، فكان في كل أمر من الأمور يكون ظاهره مع المسلمين ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعلم أنه على الحق، لأنه لا يوجد أحد يؤازر أحداً, ويتحمل الشدائد والتعب والبلوى والأذى ويظن أنه كاذب، وقد صرح بذلك:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فكان يخاف أن يعيّر, ويقال: إنه ترك ملة عبد المطلب .
وهذه العادات -اتباع الآباء والأجداد- هي مشكلة الناس في كل زمان ومكان: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] فمهما قيل ومهما جاء بالآيات, وحتى لو قال لهم الرسول: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24] قالوا: لا. وكذبوا وأعرضوا, فالحق عندهم هو ما عليه الآباء والأجداد, وما كانوا عليه هم من العادات والتقاليد.(1/35)
وهذه مشكلة كثير من الكفار ومنهم أبو طالب ، فمع نصرته وتأييده للدعوة, يأتيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو على وشك الموت ويقول: {يا عم! كلمة أحاج لك بها عند الله } فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد منه -فقط- أن يشهد أن لا إله إلا الله, وأن يقولها مع علمه أنها الحق، ولكنه تردد، وكان عدو الله الشيطان أبو لهب يقول: { أترغب عن ملة عبد المطلب؟! }.
فكان هناك داعيان يتنافسان عنده: داعي الخير والهدى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يطلب منه كلمة ينجو بها من النار، وهذا بفضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، والآخر يقول تترك ملة عبد المطلب ، فكان آخر ما قال: {هو على ملة عبد المطلب } نسأل الله العفو والعافية.
فحزن وأسف وتألم لذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] سبحان الله! فلم ينفع أبا طالب أنه كان عالماً بالحق وعارفاً به ومدافعاً عنه, لم ينفعه ذلك؛ لأنه لم يقر به بلسانه ويذعن له ويصبح من أهله.
إذاً عرفنا -الآن- أهمية تصديق القلب للسان, فالمنافقون لم تصدق قلوبهم ما قالوا بألسنتهم؛ فكانوا كافرين غير مسلمين، وعرفنا أيضاً أهمية أن اللسان يجب أن يصدق القلب, فمن عرف الحق بقلبه ولكن لم يصدق ذلك بالإقرار باللسان فهذا أيضاً لا يعد من المسلمين.
الركن الثالث: عمل الجوارح
أما عمل الجوارح فهذا من تركه بالكلية -أي: إنسان ترك عمل الجوارح كله, فلا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، ولا أي عمل من أعمال الجوارح، لم يعمل بشيء منها, ويقول أشهد أن لا إله الله- فهذا لا من المسلمين ولا يعد من المؤمنين؛ لأنا قد بينا أن تارك الصلاة كافر، فكيف من ترك كل أعمال الإيمان بالجوارح -نسأل الله العفو والعافية-.(1/36)
فهذا أيضاً وإن ادعى وإن قال وزعم بلسانه أنه مسلم, وإن كان اسمه في الهوية مسلماً, وأمه فلانة مسلمة, وأبوه فلان من أسماء المسلمين؛ فلا ينفعه ذلك, ولا يعد مسلماً إلا بأن يؤدي الصلاة ويؤدي أعمال الجوارح الأخرى, ولكن لو نقصت بعض أعمال الجوارح، أو بعض الواجبات -التي لا يكفر تاركها- فإنه لا يخرج صاحبها من الإيمان.
فشهادة أن لا إله إلا الله، إقرارها باللسان لا يتفاوت الناس فيه، فيجب أن يقولها بلسانه، وأيضاً التصديق بها بالقلب لا بد من حصوله، لكن الأعمال يتفاوت الناس فيها, ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وستون -وفي رواية بضع وسبعون شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان } فهذه الشعب يتفاوت الناس فيها, فواحدٌ يعمل ثلاثين شعبة, وآخر أربعين, وبعضهم يستكمل الشعب.. وهكذا.
فهذه الأعمال تتفاوت؛ لكن من ترك الشعب كلها؛ فليس بمسلم.
فالناس يتفاوتون ويختلفون في الشعب, فبعضهم أكثر من بعض.
وكذلك في أعمال القلب الباطنة وشعب الإيمان الباطنة، مثل ما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الحياء، ومثل اليقين, فاليقين يتفاوت الناس فيه، والإخلاص، والصدق، والإخبات، والإنابة, والرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة، والتوكل، والصبر.
الركن الرابع عمل القلب(1/37)
كل ما سبق من أعمال القلب التي لا يمكن أن يكون الإنسان حقاً شاهداً أن لا إله إلا الله إلا بها -بقدر منها- فالإنسان الذي ليس عنده يقين -مثلاً- ويشك في شهادة أن لا إله إلا الله, وإن قالها بلسانه, فهذا لا يعد مسلماً, لأنه يشك في ذلك: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم:10] فلا بد فيها من اليقين, ولهذا شرط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال: لا إله إلا الله غير شاك فيها دخل الجنة } فهذا لم يأت بشرط من شروط لا إله إلا الله, وهو شرط اليقين، وهو لا بد منه.
والعلم لا بد منه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وكذلك الإخلاص؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].
إذاً من لم يخلص دينه لله, ومن أشرك مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، في محبته أو عبادته أو خوفه أو رجائه أو في أي نوع من أنواع العبادة فإنه لا يكون مسلماً.
ولا بد أيضاً من الإخلاص لله في قولها، ولا بد من التوكل والاستعانة بالله تبارك وتعالى، لأننا نقول في صلاتنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المرجو وحده, الذي يرجى ويخاف ويتوجه إليه بالعبادة، ومع ذلك هو أيضاً المستعان، فهو إن لم يعنا ويوفقنا للحق في هذه العبادة, وللهدى وللسنة، فربما عبدناه على ضلالة فلم ينفعنا ذلك، وإن وفقنا إلى هذه العبادة والطاعة والخير, فالفضل له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه هو الذي هدانا, ولهذا يقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] وقال المهاجرون والأنصار:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا(1/38)
فمهما أطعناه واجتهدنا في طاعته, فالفضل له أولاً وآخراً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا بد من التوكل عليه: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:29] فمع الإيمان الاستعانة والتوكل، ومع ذلك الصبر, وهذا من أعظم أعمال القلوب, التي يحقق الإنسان بها إيمانه, وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
حيث أنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً حقاً إلا بالصبر, وقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الصبر في كتابه في تسعين موضعاً أو أكثر, كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، والصبر ثلاثة أنواع:
1-الصبر على الطاعة.
2- الصبر عن المعصية.
3- الصبر على الأقدار.
الصبر على الطاعة
فالصبر على الطاعة -مثلاً- كاستيقاظ الإنسان مبكراً, وهو ربما يكون سهراناً أو متعباً, أو الجو بارد, أو أي عذر من الأعذار؛ لكن إذا حان وقت صلاة الفجر فإنه يقوم ويصبر على الطاعة, ويمشي إلى بيت الله سبحانه, ويستجيب إلى المنادي إذا نادى: حي على الصلاة, حي على الفلاح, فهذا صبر على الطاعة.
ويصبر على الصيام وإن كان هناك تعب أو حرارة أو عطش أو مشقة؛ مما لم يرخص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه.
وفي الزكاة والصدقات والنفقات الواجبة, يصبر على أن يؤديها, وإن كان الإنسان لحب الخير لشديد؛ ولكن لا بد أن يصبر على ذلك لأنه في ذات الله، ويصبر على الحج... وهكذا.
فهذا هو الصبر على الطاعة.
الصبر عن المعصية
والنوع الآخر: الصبر عن المعصية، فالنفس تتطلع إلى النظر المحرم والفاحشة -نعوذ بالله- وأكل الربا، وإلى أكل أموال اليتامى، والأخذ من حقوق الناس، وتشتهي أن تتحدث وتتكلم في أعراض الناس, فإذا بدأ الحديث والكلام عن أعراض الناس، فإنها ينبسط وترتاح, وتوجد الرغبات والشهوات؛ ولكن حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فالإنسان يجب أن يصبر عن المعاصي، ويكف نفسه عنها.
الصبر على الأقدار(1/39)
والثالث: الصبر على الأقدار، وضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مثلاً لابن آدم فقال: { هذا الأمل } والأمل نافذ وبعيد, والإنسان الذي عمره خمسين أو ستين سنة, يؤمل إلى ما بعد المائة أو المائتين أو أكثر، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يشيب ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص وطول الأمل } فكلما ازداد عمره، ازداد الحرص وطول الأمل عنده، فسبحان الله! دائماً الكبار أحرص من الصغار على الدنيا وعلى عدم إضاعة أي شيء, وعلى عدم التفريط في أي شيء, وهذا كلام حق من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيؤمل الإنسان الأمل البعيد، والأجل يقطعه.
وهناك قصة واقعية مشهورة، تقول: إن أحد التجار تعاقد مع شركة على مصنع, وهو كبير في السن -عمره فوق الستين سنة- وقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع في الإنتاج ولا يتعطل بالكلية؟
قالوا: يمكن أن يستمر مائتي سنة.
والشركة أصحابها كفار، فقدروا أن المصنع سيستمر مائتي سنة ولا يتعطل.
قال التاجر: وبعدها أأقفله؟!
فهذا التاجر عمره قرب الستين, ولكن الإنسان ينسى، ويظن أنه باقي, وأن عمره ممدود لكن الأجل يقطعه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم السهام قبل الأجل, فهناك العوارض: مصيبة أو مشكلة أو مرض أو خسارة لا يخلو منها أي إنسان.. فهذه هي حقيقة الحياة, ولهذا لا بد في هذه الحياة من الصبر.
وهذا الصبر واليقين أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على من جاء بهما ورفعه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فالذين يجمع الله لهم بمنه, وفضله, وتوفيقه بين الصبر واليقين؛ يكونون أئمة هداة يهدون بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ويقتدى بهم، وهذه لا تجتمع إلا لمن وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا بقية أعمال القلوب.(1/40)
ونكون بهذا -إن شاء الله- قد أتينا على قول اللسان, وقول القلب -أي إقراره وتصديقه- وعمل الجوارح وأعمال القلب, على إيجاز في ذلك, وننتقل إلى معنى شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشارح: '' وقوله: { وأن محمداً عبده ورسوله } أي: وشهد بذلك, وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل.
ومعنى العبد هنا: المملوك العابد، أي: أنه مملوك لله تبارك وتعالى، والعبودية الخاصة وصفه كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36] فأعلى مراتب العبد, العبودية الخاصة والرسالة.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، وأما الربوبية والإلهية: فهما حق الله تعالى، لا يشاركه في شيء منهما ملك مقرب, ولا نبي مرسل ''.
أهم وصفين للرسول صلى الله عليه وسلم
أقول: قوله: { وأن محمداً عبده ورسوله } في هذا الحديث جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بين وصفين هما أشرف وأعظم الأوصاف، وهما العبودية والرسالة.
فما المقصود بالعبودية وعباد الله كثير؟
كلنا عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنا عبد الله, وهذا عبد الله ونوح عبد الله وإبراهيم عبد الله، فلماذا نقول ونشهد: أن محمداً عبده ورسوله؟ ألسنا كلنا عباد الله، بل جميع الناس حتى الكفار عباد الله، لكنهم عباده بالقهر وإن لم يعبدوه بالرضا والاختيار، فليس هو المتفرد وحده بالعبودية لله؟!
والجواب: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استكمل العبودية.(1/41)
أي: العبد الكامل في العبودية, الذي لم يبلغ أحد من الناس درجته ومنزلته في كمال العبودية، ولهذا في أعظم تكريم وأعظم موقف من مواقف التكريم, التي لم يعطها بشرٌ على الإطلاق, ولم تقع لأحد, وهي الإسراء والمعراج لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصفه الله تبارك وتعالى بقوله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] فاختياره سبحانه لهذه الكلمة في هذا المقام العظيم, يدل على أن لها معنى, وهو العبودية الكاملة.
أي: العبد الذي استخلصه واصطفاه واختاره، وخيرته من خلقه أجمعين، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ستكمل مراتب العبودية.
وكذلك في يوم القيامة: عبد واحد فقط من عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حينما يحشر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأولين والآخرين, ويجمعهم على صعيد واحد, وتكون الشمس منهم على قدر ميل, ويشتد الكرب, ويعظم البلاء والهول, ويريد الناس من يشفع إلى الله تبارك وتعالى ليفض هذا الموقف, وليفصل بين الناس في هذا الموقف، حين يغضب الجبار تبارك وتعالى غضباً لم يغضب قبله مثله, ولا يغضب بعده مثله، فيكون هذا العبد هو صاحب الوسيلة, والدرجة الرفيعة، وهذا العبد هو الذي يسجد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيقال له: {ارفع رأسك, وسل تعط, واشفع تشفع } وهذا هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبده الذي حقق العبودية الكاملة لله تبارك وتعالى جهاداً في سبيل الله, ودعوة إلى الله, وصبراً على الأذى الذي لقيه من أجل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وعبادة لربه, فقام الليل حتى تفطرت قدماه، أعرف الناس بالله تبارك وتعالى, وأخشاهم لله, وأطوعهم لله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا عبد الله.(1/42)
أما: ورسوله، فالرسل كثير، أليس نوح وإبراهيم وموسى رسل الله عليهم السلام؟ بلى. ولكن رسوله الذي هو أعظم وأفضل رسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] والله فضّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرسل بفضائل كثيرة, ومن أوضحها وأجلاها: أنه خاتم النبيين والمرسلين صلوات لله وسلامه عليه, وأن رسالته عامة للثقلين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] أما من قبله فكان النبي منهم يبعث إلى قومه خاصة.
فعندما نقول محمد عبد الله ورسوله, نكون قد مدحناه, وأثنينا عليه صلوات الله وسلامه عليه, بأفضل وأعظم وصفين له.
فهو العبد الكامل العبودية الذي بلغ الكمال والغاية فيها، وهو كذلك أكمل الرسل في الرسالة حيث بعثه الله سبحانه للناس كافة، وجعل شريعته ناسخة لما قبله ومهيمنة عليه، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعيسى عليه السلام وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومن أولي العزم, إذا نزل في آخر الزمان فإنه لا يحكم إلا بشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً هذه هي ميزة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العبيد كافة, وعلى الرسل كافة أنه بلغ الغاية في هاتين الصفتين، فهو خير عباد الله، وخير رسل الله, وهو المستحق لأن يقال: عبد الله ورسوله، وخير ما يمدح ويثنى عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يقال: عبد الله ورسوله.
وهذا الذي جهله كثير من الناس, فجهلوا حقيقة هذا الكمال, وكما سيذكر الشيخ الشارح، في بيان أن هذين الوصفين لهما هدف, وغاية, وحكمة أن يكون الوصف بالعبودية وبالرسالة.
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإفراط والتفريط(1/43)
قال الشارح: '' { وقوله: عبده ورسوله } أتى بهاتين الصفتين, وجمعهما دفعاً للإفراط والتفريط.
فإن كثيراً ممن يدعي أنه من أمته: أفرط بالغلو قولاً وفعلاً، وفرّط بترك متابعته، وأعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به, وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه, بصرفها عن مدلولها، والصدوف عن الانقياد لها مع اطِّراحها، فإن شهادة أن محمداً رسول الله: تقتضي الإيمان به, وتصديقه فيما أخبر, وطاعته فيما أمر, والانتهاء عمّا عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يُقدَّم عليه قول أحد كائناً من كان، والواقع اليوم وقبله ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك! فالله المستعان ''.
أقول: الشيخ رحمه الله يقول: إن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { عبد الله ورسوله } فيها دفع لجانبي الإفراط والتفريط, وعادة الناس -إلا من رحم الله وثبته على الصراط المستقيم- إما أن يفرط وإما أن يفرّط، وليس هذا خاصاً بنظرة الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو حكمهم عليه, بل حتى في أحكام الناس اليومية تقريباً، فالواحد منا يمدح فلاناً، أو يمدح الشيء حتى يغلو فيه بالمرة، وإما يقول: ليس فيه خير، ولا يساوي شيئاً.
فالعدل قليل, وأقل شيء في الناس هو القصد والتوسط والعدل، لكن هذه هي حقيقة الدين بالنسبة لما يتعلق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالألوهية لله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والربوبية لله وحده، ولها أوصافها ولها خصائصها، وأما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو عبد الله ورسوله.
الغلو في صفاته صلى الله عليه وسلم
فقوله: { عبده } يدفع بذلك جانب الذين يغلون في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونه إلهاً من دون الله.(1/44)
سبحان الله!! رسول التوحيد وداعية التوحيد وعدو الشرك الأكبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي جاهد المشركين بلسانه وبيده وبسيفه، والذي كل دعوته في توحيد الله, وكل ما جاء به من شرع مرتبط بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي بعض من يدعي أنه من أمته, فيغلو فيه, ويجعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزلة الألوهية!
وهذا كثير كما ذكر الشيخ، فلم يجعله عبداً لله, بل جعله نداً وإلهاً مع الله، تعالى الله عما يصفون. ثم يقولون: نحن نحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن حبهم هذا يكون بجعله شريكاً لله عز وجل.
فمنهم من يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب كله, أي: مطلع على الغيب -تعالى الله عما يشركون- وهذا باطل بنص كتاب الله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] سبحان الله! عنده مفاتح الغيب ولا يعلمها إلا هو، ويقول عن نبيه: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50] وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188].
فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب, وقد ضلت ناقته, فقال المنافقون المستهزئون الساخرون: هذا محمد، يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ضاعت ناقته وما وجدها، فلما أوحى الله إليه من السماء، قال: {إن أناساً قالوا كذا وكذا، وقد أخبرني الله تعالى بموضعها، وإني لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه } إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الجن:27].(1/45)
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقال فيه: إنه يعلم الغيب, فهو لا يعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولا يعلم الغيب أحد إلا الله, ولكن الله تعالى يظهر ويطلع بعض خلقه على شيء من أمور الغيب, لحكمة له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وآيات لرسله صلوات الله وسلامه عليهم.
ومن الناس من يجعلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شريكاً ونداً لله في الدعاء والعبادة، فيقولون: يا محمد! يا رسول الله! يا نبي الله! فيكون قد دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تعالى يقول: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18] ويقول: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً [الجن:20] ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدعاء هو العبادة } ويقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
فالذي يدعو غير الله يكون قد عبد غير الله, وأشرك به، وإن قال يا محمد! أو يا جبريل! أو يا علي ! أو يا حسين -كما يقول الروافض قبحهم الله- فهذا شرك, وهذا دعاء لغير الله, وهو من الشرك الأكبر -نسأل الله العفو والعافية-.
وإنما ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أو استغاث به, أو استجار به, أو أعطاه شيئاً من خصائص الألوهية, فهذا لم يراع أنه عبد الله، بل جعله نده وشريكه، وما أكثر من قالوا بذلك.
ولكن -والحمد لله- قد انتشر في أماكن كثيرة, وظهر على أيدي كثير من الدعاة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعطى شيئاً من خصائص الألوهية أو الربوبية, وإنما هو عبد لله على ما ذكرنا.
التفريط في أخباره وشرعه صلى الله عليه وسلم(1/46)
ثم فصّل الشيخ في مسألة "ورسوله" أي: من الناس من يأتي بجانب التفريط, فيعلم أنه عبد, ولا يجعله إلهاً ولا نداً لله, ولا شريكاً له, لكنه لا يؤمن بالشق الثاني, وهو قوله: ورسوله.
كما قال الشيخ: أنه يقدم كلام الناس، وأهواء الناس, والجماعة، وعادات القبيلة، على كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سبحان الله! إذاً أين الشهادة له بالرسالة؟!
أركان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
إن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر.
فأي شيء يخبرنا به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصدقه، فإن لم نصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معنى ذلك أننا ما شهدنا أنه رسول الله حقاً، وقد يخبرنا بأشياء تستغربها عقولنا، وأيُّ شيء عقولنا نحن؟ وماذا كانت؟ وماذا أغنت عنا هذه العقول قبل أن يأتينا هذا النور وهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
ألم يكن عند العرب حكماء؟ كان عندهم شعراء، فكان زهير ينظم القصيدة من الحول إلى الحول، وتسمى الحوليات، كلها حكم وعبر، فلم تنفعهم هذه العقول والآراء والحكم، ولم تغن عنهم ولم تخرجهم من الظلمات إلى النور.
فالبعض -والعياذ بالله- يأتيه الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فيقول: هذا لا يصح في العقل, والعقل لا يصدقه!
فهذه العقول لا تغني شيئاً لمن لم ينقد ويسلم ويستسلم ويصدق بكل ما أخبر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أخبرنا عن الله آمنا بالله تبارك وتعالى، وإذا أخبرنا عن ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل, ويقول هل من داع, هل من سائل, هل من مستغفر، آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا أن الله تعالى فوق العرش استوى -كما في القرآن- آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا أن النار حال أهلها كذا وكذا، وأن الجنة فيها كذا وكذا، آمنا وصدقنا.(1/47)
وإذا أخبرنا بأن القبر إما نعيم, وإما عذاب, وبيِّن وفصِّل لنا ذلك، وكل شيء وصل إلينا عن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول: آمنا وصدقنا.
وإذا أخبرنا بما رأى ليلة الإسراء والمعراج, فلا يحصل لدينا أي اعتراض, حتى الذباب أخبرنا أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، فلا نقول: هذا ناقل للجراثيم، وكل الجراثيم من الذباب، ولا يصح أن أحد جناحيه دواء، إن من قال ذلك فليعلم أنه لم يؤمن ويصدق، فلا بد أن يقول: آمنا وصدقنا.
والمهم أن يصح عنه أنه قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما إذا كان الحديث ضعيفاً أو موضوعاً أو مكذوباً، فهذا لا نؤمن به؛ لأنه ليس من كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولكن إذا ثبت أنه من كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنؤمن ونصدق به، وبكل ما يخبرنا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا تصديقه فيما أخبر.
وأما طاعته فيما أمر: فلا يأمرنا بأمر فنقول: لا نستطيع.
ومثلما ذكر الشيخ أن بعض القضاة والمفتين وهذا كان في تلك الأزمنة حيث كان القاضي منهم يحكم بما أنزل الله؛ ولكن يخالف بعض الأحكام, ويقول: المذهب عندنا كذا، فتقول له: الحديث صحيح, فيقول: لكن المذهب يقول كذا، سبحان الله العظيم! هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي وإمام المذهب لولا اتباعه له ما كان إماماً, ولا صاحب مذهب، ثم يأتي أتباعهم فيتمسكون بالمذهب ويتركون الحديث!
لكن هذه أخف على ما فيه ممن جاء بعدهم.
حيث جئنا في العصور المتأخرة -والله المستعان- نشهد أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن أصبح التحاكم ليس من الشرع بالكلية, فالمذاهب وإن كان فيها مخالفات أو أخطاء، لكنها مستمدة من الشرع.
أما الآن فأصبح التحاكم إلى القوانين الوضعية، كقانون نابليون .(1/48)
ونابليون هذا ليس رسولاً جديداً، ولم يدع أنه رسول أو مصلح أو مفكر أو محقق، لكنه رجلٌ أصدر قانوناً -ومن أحكام نابليون بعد الثورة الفرنسية- ونابليون هذا نصراني, لكن الثورة الفرنسية كما نقرأ لها -مع الأسف- يقولون: باريس عاصمة النور، ويقولون: الثورة الفرنسية فجر الإنسانية وهي التي أعطت الإنسان حق الإنسانية, وحرية الإنسان, وهذا من آدابها, ومن أخلاقها.
فمن أحكام نابليون أن الزنا من حق الزوج، أما في النصرانية فالزنا حرام, والعقوبة عليه الرجم في التوراة، والتوراة هي شريعة النصارى مع اليهود، فشريعتهم واحدة.
أما نابليون فقال: الزنا من حق الزوج، بشرط أن يكون الزنا على فراش الزوجية، أي: في بيت الزوج، فإذا زنت الزوجة خارج البيت فليس للرجل حق.
ثانياً: إذا سمح لها بالزنا فهذا من حقه, وإذا لم يسمح لها تغرم أو تسجن لمدة معينة.
ومع الأسف أن أكثر الدول التي تدعي أنها تحكم بالإسلام, وتدعي أنها تشهد بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأحكام والقوانين الوضعية فيها على هذا الأساس، وهو أن الزنا حق للزوج، ولا يوجد فيها رجم أو لا جلد.
فنحن هنا -مثلاً- نسمع عن الرجم والجلد، لكن في دول أخرى كثيرة -إن لم تكن جميعاً- لا تعرف رجماً أو جلداً أو أمراً من أوامر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق في هذا الأمر.
فالمسألة مسألة حرية شخصية، فإذا استغاثت المرأة بالشرطة فهذه تغاث, وتكون الدعوى دعوى اغتصاب فقط، وهذا يعاقب، وعندهم عقوبات معينة. أما إذا كان بالتراضي فالأمر مباح.
فهذه هي شريعة نابليون .(1/49)
فإذا طبقها شخص, وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فإنه لا يكون شاهداً ولم يشهد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- الشهادة, لأن شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتضي وتستوجب وتتضمن وحقيقتها؛ أنها تصديقه فيما أخبر, وطاعته فيما أمر، وذلك بإقامة دينه صلوات الله وسلامه عليه, والتحاكم إليه وحده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وإلى شرعه وسنته:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
وهناك من يحكِّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن في نفسه حرج.
فمثلاً: رجل ملتزم بالدين ويقول: لابد أن تبقى المرأة في البيت, وتحتجب عن الأجانب, وهذا هو الدين، لكن في النفس بعض الاستنكار, ويود لو كان الحكم غير هذا, فهذا هو الحرج، وكثير من الناس فيهم هذا.
مثلاً: إذا علم أنه لا يجوز أن تبعث المرأة للدراسة وحدها في الخارج, فيلتزم بهذا الأمر, ويقول: آمنا بالله تبارك وتعالى وسلمنا لحكمه, ولكن النفس فيها شيء، فهو يقول: إنه في عصر الحضارة وعصر التقدم, فهل من المعقول أن نقول المرأة والمرأة..؟
وكذلك الربا يقول بعض الناس: آمنا أن الربا حرام، فلن نضع أموالنا في البنوك الربوية, ثم تجده يقول: لكن الاقتصاد والحياة المتشابكة والأوضاع العالمية.
فهذا الذي يطيع وفي قلبه حرج هو لم يشهد حق الشهادة؛ بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف بالذي لم يذعن ولم يطع: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] ولا يكفي أنك تحكمه، بل لا بد أن ينتفي الحرج من نفسك، فقال في آخر الآية: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] أي: انقياد تام لا مدافعة أو منازعة أو معارضة فيه.(1/50)
فإذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فنقول: انتهينا, ولا يوجد أي نقاش. وتعذر بالواقع، ولا يقول: علم النفس, أو علم الاجتماع, أو خبراء الاقتصاد، فلا ننظر إلى هذا كله أبداً ما دام قد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وليقل غيره ما يشاء.
حتى في تربية أبنائنا, قالوا: لا تضربوا الولد, فالمدرس في كثير من المدارس إذا أتى بعصا يعاقب, لأن التربية الحديثة عندهم -التربية نوعان: التربية القديمة والتربية الحديثة، فالتربية القديمة تشتمل على العصا والإرهاب في جملة وسائلها الجديدة- تشتمل على ديمقراطية وانفتاح وحرية.
وإذا قلت لهم: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر }.
قالوا: التربية الحديثة تقول: إن الضرب غير صحيح في التربية مطلقاً، فيكون هذا الشخص مقتنعاً بأن الحديث صحيح، ثم تجده يقول: عندي مشكلة المسائل الحديثة, والدراسات الحديثة, وعلماء النفس الحديثين, وعلم الاجتماع الحديث، سبحان الله! هل هذا كله يساوي ذرة أمام كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! والله لا يساوي شيئاً، لا في الأخلاق كما مثلنا بما يتعلق بالمرأة, ولا في الأحكام كما مثلنا بالزنا.(1/51)
وكذلك في الآداب العامة, فلا يمكن -حتى في الهدي الظاهر- أن يكون هناك هدي أهدى من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن نعارض هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، فعندما يأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعفاء اللحية, وإحفاء الشوارب -مثلاً- فلا نقول: لا بأس هي من الدين، ثم نبدأ نعلل ونتعذر عن التطبيق, فهذا هو الذي في نفسه حرج, ولم يسلم ويذعن، ولو أقر بأنه صادق، فيجب أن يقر ويذعن, ولا يبقى في نفسه حرج, ويسلم تسليماً بأن سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في اللحية, أو السواك، أو تقصير الثوب، وأي عمل آخر- هي خير وبركة، وإن كان الإيمان الباطن هو الأساس، ولا شك في ذلك, ولا نطالب بالهدي الظاهر دون الهدي الباطن، ولا أحد يطالب بذلك من المؤمنين أو من الدعاة.
وبعض الناس يقول: لكن البعض يأخذ الشكليات والقشور، وهذا خطأ، فالإسلام كله لب، ولا يوجد فيه قشور، فكله لب وكله يؤخذ، وإنما فيه ظاهر وباطن، والإيمان الباطن أفضل وأعظم، وهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا } ولكن الإيمان الظاهر واجب, ولا بد منه, ما كان منه واجباً, وما كان منه مستحباً بحسب الأحكام، لكن تركه بالكلية علامة على ضعف أو نقص أو فقدان الإيمان الباطن.(1/52)
إذاً هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكله, ونومه, وثيابه, وفي سمته, ومظهره، هو أفضل وأكمل هدي، وهو الذي يقتدى به ولا يقدم عليه قول أو رأي أحد, ولا هدي أحد، ولا اجتهاد أو اقتراح أي إنسان كائناً من كان، حتى وإن كان من خيار الناس, وابن عباس رضي الله عنه يقول: [[يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر و عمر ]] فأفضل الناس في هذه الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هما أبو بكر وعمر ، ومع ذلك لا يجوز لأحد؛ إذا قيل: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو حدّث أحد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أن يقول: لا أبو بكر قال: كذا, أو عمر قال: كذا، فكيف بغيرهم مثل الأئمة الأربعة, أو أي إنسان كائنا من كان! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] فالكلام كله كلام الله ورسوله, والهدي هدي الله ورسوله, ولا كلام لأحد مع هذين.
فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ودين الإسلام يقوم على أصلين:
الأصل الأول: ألا يعبد إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
الأصل الثاني: ألا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا معنى شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/53)
فنعبده وحده ولا نتوجه لغيره بالعبادة، ونعبده كما عبده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس هناك طريق إلى الله, والجنة إلا طريق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو قال شخص: أنا سوف أجتهد أكثر, وسوف أفعل أشياء ما فعلها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيها مصلحة وخير كثير, فيقال له: قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فمهما أدى الرأي والاجتهاد إلى أن هذا حق أو خير أو فيه مصلحة فلا يجوز أن نعبد الله إلا بما شرع الله.
فلا ندعو إلى الله إلا كما دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا نصلي إلا كما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونحج كما حج، ونصوم كما صام, ونذكر الله كما ذكر, ولا سبيل غير سبيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا صدقناه فيما أخبر, وأطعناه فيما أمر, واجتنبنا ما عنه نهى وزجر, وعبدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما شرع، ولم نعبده بالآراء والأهواء والبدع، فنكون بذلك قد حققنا -إن شاء الله- شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشارح: '' قوله: وأن عيسى عبد الله ورسوله أي: خلافاً لما يعتقده النصارى, أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، قال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91].(1/54)
فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله, على علم ويقين بأنه مملوك لله, خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فليس رباً ولا إلهاً, سبحان الله عما يشركون! قال تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم:29-30].
وقال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً [النساء:172] ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود: أنه ولد بغي -لعنهم الله تعالى-.
فلا يصح إسلام أحد -علم ما كانوا يقولونه- حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: إنه عبد الله ورسوله ''.
أقول: إن موضوع عيسى عليه السلام هو -الآن وفي كل العصور- أكبر قضية خلافية بين أصحاب الأديان ذات الكتب المنزلة، ففي العالم -الآن- يوجد أديان ليس لها كتب كالهندوسية في الهند , والبوذية وعباد النيران, والأحجار والأبقار في الهند والصين واليابان وكوريا وغيرها، فهؤلاء ليس لهم كتاب, أو لا يدعون ذلك.
أما أصحاب الكتب والرسالات الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلامية، هذه الأديان الكتابية، فالمعركة والخلاف والصراع الأكبر دائر بينها في قضية عيسى عليه السلام، وخاصة مع النصارى, بحيث لو حُلت هذه القضية, لانتهت المشكلة تقريباً.
فهي أكبر قضية موجودة، وهذه هي أقوال هذه الأديان الثلاثة في عيسى عليه السلام.
عيسى عليه السلام عند النصارى(1/55)
أولاً: يقول فيه النصارى الذين يتبعونه, ويدعون أنهم على دينه؛ إنه إله، أو ابن الله, أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وزعموا أنه ابن الله لأن مريم عليها السلام جاءت به تحمله من غير أب، فقالوا: كيف يكون ابن من غير أب, فجعلوه ابن الله -تعالى الله عن ذلك- مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر في سورة مريم جعل الآية والنطق والشهادة من فمه هو عليه السلام: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29] فمريم لم تتكلم, لأنهم يشكون فيها أنه -والعياذ بالله- من الزنا؛ ولكن أشارت إليه بأنه هو الذي يجيبكم إذا كان عندكم شك, فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] فهو عبد الله, وهذا الذي نقوله: أن عيسى عبد الله ورسوله.
فأول ما نطق عيسى, قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] وسمعوا ذلك ونقلوه؛ ولكن بعد ذلك قالوا: هو ابن الله, أو هو إله, أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يصفون- فيسبون الله تبارك وتعالى -وما ينبغي لهم ذلك- هذه المسبة العظيمة, بأن يجعلوا له صاحبة وولداً، وقد قال سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].
فهذا هو ديننا -والحمد لله- نحن المسلمين, فنحن نخالفهم في هذا مخالفة صريحة واضحة, وكل مسلم -والحمد لله- يعلم ذلك، فنحن نشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يلد ولم يولد, وأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
عيسى عليه السلام عند اليهود
ثانياً: أما اليهود فقالوا: إنه ابن زنا -نعوذ بالله من ذلك وقبحهم الله, ولعنوا بما قالوا- فقالوا على مريم بهتاناً عظيماً, وافتروا عليها هذا الإفك العظيم, ورموها هذا الرمي بهذه الفاحشة.
عيسى عليه السلام عند المسلمين(1/56)
ثالثاً: فكانت الأديان الثلاثة, لها آراء ثلاثة: القول بأنه إله, والقول بأنه ابن زنا -عياذاً بالله- وليس برسول، وهؤلاء اليهود والنصارى.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه, فتوسطوا, وقالوا: هو عبد الله ورسوله، ليس بإله فنغلو فيه، وليس بابن زنا -نعوذ بالله تبارك وتعالى- فنفرط كما قالت اليهود، بل هو عبد الله ورسوله.
وهذه القضية -هي الآن- معركة مستمرة, وهي معركتنا مع النصارى في هذه الأيام, فالنصارى يريدون بكل الوسائل أن يغيروا عقول المسلمين, وأن يفسدوا عليهم عقيدتهم ودينهم, وأن يجعلوا طوائف منهم تتنصر وترتد عن الإسلام, وتشهد بأن عيسى بن الله -تعالى الله عما يصفون- وأنه الذي فدى العالم, وأنه المخلص الذي خلصهم، وأنه قد صلب, والله تعالى يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].
ولذلك إذاعات الإنجيل وصوت الإنجيل وساعة الإصلاح -كما تسمعونها في الإذاعات- تزاحم إذاعة القرآن, وتزاحم الإذاعات الأخرى, فأكثر دول العالم تبث هذه الإذاعات، وكثير من بلاد العالم الإسلامي, مثل أندونيسيا وبنجلادش ، وبسبب الجوع والفقر والحاجة -كما في بعض دول أفريقيا أيضاً- نُصِّر أبناء المسلمين فيها.
وهم الآن يشترون أطفال المسلمين في أفريقيا ، ويذهبون بهم إلى السويد , والنرويج , والدانمارك وكندا وغيرها ويربوهم ليصبحوا نصارى، ويعلموهم دينهم، وهذا شيء واضح ومعلوم لدى العالم كله.(1/57)
وهذه هي حقيقة العالم الإنساني المتحضر المتطور, الذي يدّعي العدل والإنسانية والمساواة التي هي في الحقيقة لغير المسلمين، ومع ذلك فهم مجتهدون في هذا الباطل وفي هذا الكفر، الذي يسألهم الله تعالى يوم القيامة عنه ويكذبهم عيسى عليه السلام: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116] فيكذبهم عيسى يوم القيامة, ويكذبهم الله عز وجل في ذلك.
ومع ذلك فهذه العقيدة الباطلة أصبح يراد لها أن تنتشر في بلاد المسلمين, وهذه المجلات التي تضع ركن التعارف -صفحتين- حيث يرسل الشخص صورته -طفل أو شاب- ويضع الهواية: المراسلة, أو كذا, فيأتي هؤلاء المجرمون النصارى، فيجدون مكتوباً الهواية المراسلة والعنوان موجود، فيرسلون إليه على عنوانه أو صندوق البريد أو المؤسسة, الإنجيل وبعض النشرات, والكتب، وتقع في يد جاهل أو امرأة, وأكثر الناس على جهل, فيقع في قلبه شيء من هذه العقائد الباطلة -والعياذ بالله- وهذا دليل أو جزء من أدلة كثيرة على خطر هذه المجلات وفسادها، ما عدا المجلات الإسلامية الطيبة.
فهم الآن يريدون أن يدخلوا إلى بلاد المسلمين بأي طريقة من الطرق, ويظهرون أمامنا أنهم يحترمون الأديان, وأن الإنسان حر يدين بما يشاء، وأن من حقوق الإنسان أن يعتقد ما يشاء, فإذا جئنا عند التطبيق وجدناهم يقصدون بهذا أن المسلم يجوز أن يرتد ويصبح من النصارى -والعياذ بالله- وكثير من الناس يخفى عليهم هذا, وقد يظنون أن هذا شيء بعيد أو مستبعد.
والحقيقة أن هذا الأمر واقع، والأمثلة والشواهد عليه كثيرة, لا يتسع المقام لها.(1/58)
ولكن من ضعف إيماننا وتخاذلنا وهواننا على الله -ونعوذ بالله- وعلى أهل الأديان, أنه حتى النصارى طمعوا فينا، وأصبحوا يطمعون أن يخرجوا المسلم من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إلى أن يشهد بأن عيسى ابن الله أو أنه هو الإله -تعالى الله عما يصفون-.
ونضطر للوقوف عن إكمال باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، ولنشرع في باب آخر مهم، وهو باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأهميته في حياتنا، وفي واقعنا، وكل الأبواب مهمة بلا ريب.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: '' باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: {إلى أن يوحدوا الله }- فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب } أخرجاه ".(1/59)
أقول: جعل الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه لهذا الباب عنواناً وهو: "الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" ضمن كتاب التوحيد ، ولا شك أن المناسبة والعلاقة بين الباب وبين كتاب التوحيد واضحة، إذ أن الكتاب عن التوحيد، وهذا الباب هو الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو الدعاء إلى توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا تجدون أن الشيخ لما ذكر حديث معاذ ، أتى بالرواية التي فيها: { إلى شهادة أن لا إله إلا الله } والرواية الأخرى التي فيها: { إلى أن يوحدوا الله } فشهادة أن لا إله إلا الله هي التوحيد، والكتاب كتاب التوحيد ،فهو يريد رحمه الله أن يبين لنا أهمية وضرورة الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
وقد ذكر في صدر هذا الباب قول الله تبارك وتعالى من آخر سورة يوسف: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهذه الآية تستحق وقفة طويلة جداً.
وهذه الوقفة سببها أن منهج الدعوة كله مُتضمَن فيها، لكن لا نستطيع الآن أن نوفي الآية حقها، ولكن سنشير إليها فقط إشارة لمناسبة ورودها في هذا الباب.
أولاً: في الجملة الأولى: يقول الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله وخيرته من خلقه؛ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام الدعاة، وسيد الهداة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] فيأمره ربه تبارك وتعالى أن يقول للناس ولكل من يصلح له الخطاب: هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: هذه طريقتي وقضيتي وشأني ووظيفتي ومنهجي.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا هو منهجه وسبيله وعمله ودعوته، وكل إنسان له منهج في هذه الحياة،وكل مخلوق، وكل بشر في هذه الدنيا له هدف يريد أن يحققه، وله منهج يسير عليه.(1/60)
والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجز له ربه تبارك وتعالى منهجه وسبيله في هذه الآية، كما بين له في الآية الأخرى من أواخر سورة النحل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فبين له هنالك كيفية الدعوة وأسلوبها.
وهاتان الآيتان إذا فقهناهما حق الفقه والمعرفة، نستطيع أن نعرف الدعوة غايةً وأسلوباً، دون أن نحتاج إلى منهج آخر من اجتهاد الناس أخطئوا أو أصابوا.
فالدعوة هي طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبيله، فهو ليس زعيماً ولا ملكاً سياسياً يريد أن يفرض سلطاناً، ولا صاحب أو طالب مال أو جاه أو شهرة، أو شهوة، كما يفعل أكثر الناس عادة، فالدعوة إلى الله تعالى هي عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهي تبعاً لذلك عمل من بعده، قال: وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].
الدعوة إلى الله وحده
و نقف وقفة عند قوله: إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] فكثير من الناس يدعون، بل في الحقيقة لو تأملنا فإنا لا نجد أحداً في هذه الدنيا إلا وهو داعية يدعو إلى شيء ما، فأنت لو جلست مع أي إنسان ستجد عنده فكرة سيطرت على فكره واهتمامه، فهو يدعو إليها، ويحب أن الناس جميعاً يكونون عليها، وكل إنسان له رأي، وله هدف، سواء كانت نظرته عامة، بحيث يخطط للعالم أجمع، أو نظرة محلية يخطط لمدرسته أو لقريته، أو لبيته وأسرته، المهم أن لديه منهجاً معيناً.
فكل إنسان داعية، وكل إنسان يدعو إلى شيء ما، ولكن ميزة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه أنهم يدعون إلى الله وحده لا شريك له، وكفى بالله تبارك وتعالى وكيلاً، وكفى به حسيباً.(1/61)
والدعوة إلى الله عنوان يدعيه وينتسب إليه كثير من الناس -غير الذين يدعون إلى ضلالات وشرك وإلحاد- ممن يدعون إلى الإسلام، وكلهم يرفعون راية الدعوة إلى الله، ولكن هنا يجب أن نقف ويجب أن نتأمل، كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى في تعقيباته ورسائله: أن بعض الناس قد يدعو إلى نفسه.
فكثيرٌ من الناس عنوانه الدعوة إلى الله، ولكن عمله دعوة إلى غير الله -نسأل الله العفو والعافية- وإن كان يدعي الدعوة إلى الله، فقد يدعو الناس إلى شيء غير الله عز وجل كأن يدعوهم إلى رأي ارتآه، ويرى أنه دين الله، وليس هو دين الله، أو إلى إمام وإن كان من أئمة الدين، أو إلى رأي معين، أو طائفة أو فرقة من الفرق، يدعو إليها ويجتهد في الدعوة إليها، ويقول: إنه يدعو إلى الله، وهو في الحقيقة يدعو إلى ما دعا إليه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه } فكذلك من كان يدعو إلى الله، فدعوته إلى الله، ومن كان يدعو إلى غير الله فهو يدعو إلى ما دعا إليه، وإن لبَّس على الناس بأنه يدعو إلى الله.
علامة الداعية إلى الله
إن علامة الإنسان الذي يدعو إلى الله، هو أن يكون مؤمناً بطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متبعاً لسنته وسبيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، فيهمه أكبر الهم ويسعى غاية الجهد؛ لأن يعرف الناس ربهم ويوحدونه، ويعبدونه، ولو لم يذكر هو أو لم يعرف، ولا يدعوهم إلى شيء غير الله، كائناً ما كان ذلك الشيء، بل إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/62)
إن تكلم فحثاً على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن أمر فبما أمر به الله، وإن نهى فعما نهى عنه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهدفه وغايته هو ذات الله تبارك وتعالى، فهو يحب في الله، ويبغض في الله، وليس له هدف غير ذلك: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].
الدعوة إلى الله على بصيرة
وهنا أيضاً وقفة قصيرة، عند قوله تعالى: عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فالبصيرة من مقتضاياتها العلم، والدعوة إن لم تكن على علم فليست على بصيرة قطعاً، والذي لا علم لديه فليس لديه بصيرة.
ومع العلم أيضاً فقه الدعوة، ولا بد منه، فنعرف كيفية دعوة الناس، ومخاطبتهم وكيفية التعامل معهم، وهذا أيضاً من ضمن البصيرة.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، ضربوا لنا أروع الأمثال في منهج وأسلوب الدعوة إلى الله على بصيرة، ويشهد لحسن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبصيرته أن آمنت به تلك الأمم، فآمن به كفار قريش بعد الجدال والمعاندة.
فيأتيه الرجل الذي لا يعرف شيئاً من دين الله، ولا يفقه شيئاً من أمر الله، فيترفق به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبين له، كما فعل مع الأعرابي الذي بال في المسجد، وكما فعل مع معاوية بن الحسن السلمي لما تكلم في الصلاة، وغيرها وقائع كثيرة.
فكل من رأى هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو رأى الصحابة من بعده يحبهم، ويؤمن بما يدعون إليه، ويستجيب لهم إلا من كتب الله عليه الضلالة، فهم دعوا إلى الله على نور وبرهان وبالأسلوب الحسن الحكيم.(1/63)
ثم قال: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] وفي هذا تنبيه وتوجيه لنا نحن أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه يجب أن نكون كذلك أيضاً، وأن تكون طريقنا وسبيلنا وهمنا الدعوة إلى الله، وهذا لا يعني أن نعطل أعمالنا، بل يدعو كل إنسان منا في واقع عمله.
فالتاجر يدعو إلى الله في تجارته، والفلاح في فلاحته، والطالب في طلبه للعلم، والموظف في وظيفته، وكل إنسان يكون داعية إلى الله، ويكون سالكاً لمنهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
غاية الدعوة إلى الله
ثم قال: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] في هذا تنزيه لله تبارك وتعالى، وهذا أمر عظيم وهو أن تنزه وتقدس الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهو الخاتمة، البراءة والتبرؤ من الشرك ومن المشركين، فدعوتنا أولها الدعوة إلى الله، وخاتمتها -وهي معها دائماً- البراءة من الشرك والمشركين، وهذه هي غاية الدعوة.
فغاية ما نسعى إليه دائماً هو تحقيق توحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبراءة من الشرك والمشركين.
ولهذا عقب رحمه الله على ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه لما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن ، ولنا أيضاً وقفات مع هذا الحديث.
سبب اختيار معاذ دون غيره
أولاً: اختيار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ رضي الله عنه، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.(1/64)
وأيضاً: لم يختر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مثلاً- خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص ، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن ؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين, ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن ،كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
وقد قال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ ! إني أحبك } وهذه الدنيا وأي إنسان كائناً من كان، لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى قول خليل الرحمن وحبيبه ومصطفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ ! إني أحبك } فهذه الكلمة أكبر وسام، وأعظم شرف، حيث يكفي أن يحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمرء مع من أحب، وهذه تزكية من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإرساله إلى اليمن تزكية أخرى، ثم أوصاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن مجموع القصة والأحاديث الأخرى نعلم أن في الأمر وصيتين:
الأولى: وصية لمعاذ رضي الله عنه في نفسه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثانية: وصية له في منهجه في الدعوة.
وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ في نفسه(1/65)
أما وصيته التي أوصاه بها في نفسه فقال له: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن } وهذه وصية في المعاملة وفي الجانب الإداري، وفي الجانب الشخصي: { اتق الله حيثما كنت } أميراً أو مأموراً، حيث ما كان موقعك أو وظيفتك أو عملك، وهذه وصية جامعة مانعة، والجملة الأولى: { اتق الله حيثما كنت } وضح بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ ولنا جميعاً كيف نتعامل مع الله بالتقوى.
وكيف نتعامل مع أنفسنا، قال: { وأتبع السيئة الحسنة تمحها } فالنفس هذه لوامة مذنبة خاطئة، ودائماً لو أطعتها لأوردتك الموارد والمهالك، فكلما عصت الله، وكلما ارتكبت السيئة فأتبعها حسنة تمحها، واجعل من نفسك رقيباً عليها، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن توزن، وتزود للعرض الأكبر بين يدي الله تبارك وتعالى.
فإذا أخطأت خطيئة فأتبعها حسنة: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
ثم قال له: { وخالق الناس بخلق حسن } وهي في كيفية التعامل مع الناس بالأخلاق الحسنة، فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الجامع المانع،وفي هذه الوصية لمعاذ رضي الله عنه عند ذهابه إلى اليمن ، كيف يتعامل مع الله، وكيف يتعامل مع نفسه وهواه، وكيف يتعامل مع الناس، ثم أوصاه بالوصية التي هي موضوع درسنا، وهي بالنسبة لذهابه إلى اليمن .(1/66)
واليمن أرض مباركة طيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فضّل أهل اليمن بقبول البشرى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدموا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الوفود، وجاء وفد بني تميم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اقبلوا البشرى يا بني تميم! قال بنو تميم: قد بشرتنا فأعطنا } فهم جاءوا يريدون العطاء، ومعنى كلامهم: نحن نعرف الذي عندك، تريد أن تقول: اتقوا الله، والجنة والنار... هذا معروف، لكن نحن نريد دراهم! وهذا كحال كثير من الناس اليوم، الذين يقدمون ويحبون العاجلة، ويؤثرون الحياة الدنيا على البشرى والخير والفائدة، وعلى الكنز الذي لا يفنى عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو النعيم الدائم.
قالوا: {قد بشرتنا فأعطنا، قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ! قالوا: قبلنا يا رسول الله } فقبلوا وجلسوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حديث آخر وهو حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الذي له مجال غير هذا المجال.
فالمقصود أن هؤلاء القوم قدموا وأذعنوا وآمنوا من غير جهاد، فدخلوا في الإسلام طواعية، وآمنوا بهذا الدين، وأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل إليهم من يعلمهم، ومن يفقههم، فأرسل معاذاً رضي الله عنه.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في منهج الدعوة
ثم افتتح الوصية بقوله: { إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب } وهذه هي الحكمة والبصيرة في الدعوة، حيث يبين له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هم المدعوون، لأن الخطاب يختلف عندما تذهب إلى أناس تاركين للصلاة عما إذا لو كنت تذهب إلى أناس يصلون؛ لكن مرضهم الغيبة والنميمة والفساد في الأرض.(1/67)
ويختلف إذا كنت تذهب إلى أناس من أهل الخمر والزنا والفجور، أو من أهل الشرك وأهل البدع، والبدع أنواع، فلا تذهب تخاطبهم عن بدعة ليست عندهم وعندهم بدع وعادات وتقاليد أخرى، فتتكلم في واد وهم في وادٍ، هذا ليس من أسلوب الدعوة.
فبين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستعد ويتهيأ، لأنهم من أهل الكتاب، وذلك لأن أهل الكتاب عندهم حجج وجدل، وقد عانى منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة ، ومعاذ رضي الله عنه يعرفهم، ويعرف اليهود وما عندهم، فقوله: { تأتي قوماً من أهل الكتاب } فيها بيان لنا نحن جميعاً بضرورة معرفة المدعوين إذا أردنا أن ندعوهم.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فهذه هي الكلمة العظيمة التي حولها يدندن كل الدعاة، الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض، فإذا قيل: هم يحتاجون إلى الأخلاق الطيبة، ويحتاجون أن يدعو إلى ذكر الله، ويحتاجون أن يدعو إلى الآداب والمعاملات الحسنة، وأمور كثيرة جداً يحتاج أهل اليمن وأهل الكتاب وغيرهم إليها، والناس في كل زمان ومكان يحتاجون إليها.
فنقول: لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدد، ولم يتركها لنا ولاجتهادنا، ولم يتركها لآرائنا أو آراء شيوخنا، بل حدد بقوله: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فهي أول الأمر وآخره.
فإذا أردنا أن ندعو الناس فلنبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله، وهنا يقول بعض الناس: الشهادة موجودة، وإذا كانت موجودة، فلننتقل إلى ما بعدها، والحديث بين لنا ما بعدها، فنقول: هل فعلاً هي موجودة ونتأكد؟(1/68)
لو كانت شهادة أن لا إله إلا الله موجودة حقيقة في هذه الأمة،وما ينقصها إلا الأخلاق أو الآداب أو المعاملات أو أي شيء، فهل سيكون حالها من الضعف والذل والهوان والانحطاط والفرقة كما هو حالنا الآن؟! مستحيل أبداً، لأن الله كتب العزة، والنصر والتوفيق والتأييد لأمة التوحيد، وكما تقدم في في آية الأنعام، أن الأمن والهداية لمن جاء بالتوحيد وحققه.
أما الذنوب فلا يخلو مجتمع منها، ولكن لأن الأمر واقع، وهو أن التوحيد وحقيقة الشهادة ضعيفة أو قليلة بل مفقودة في بعض المجتمعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله تبارك وتعالى.
فأول ما نبدأ به إذا ذهبنا إلى أي بيئة أو إلى أي إنسان؛ أن نخاطبه بهذا الشيء، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله } فكل واحد منا ينظر إلى نفسه، وإلى هذا الدين، وإلى حال المدعوين أجمعين، فدخولنا في هذا الدين بشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو رمزنا وشعارنا وعنواننا، وإذا أراد أحد أن يُسلم على يديك، فلا بد أن تبين له شهادة أن لا إله إلا الله وأن تدعوه لها، فهذا أول ما يدخل به الإنسان في الإسلام.
وإذا جئت عند إنسان في الاحتضار في نهاية الحياة، وهو أن يسلم الروح، فإنك تعلمه وتلقنه شهادة أن لا إله إلا الله.
فشهادة أن لا إله إلا الله هي أول الأمر وآخره، فأول ما نبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله، وآخر ما ندعو إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وما بينهما كله دعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإن دعوت إلى صلاة أو زكاة أو أي شيء فلأنها من حقوق وواجبات ومكملات شهادة أن لا إله إلا الله.
فإذا قلنا: إن أول شيء ندعو إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله، فكلمة أول هنا تحتمل معنيين كلاهما حق:
المعنى الأول: بمعنى نبدأ بها قبل غيرها، كما نقول: أول شيء، بمعنى الذي لا يسبقه غيره.
والمعنى الآخر: أول ما ندعو إليه، أي: أهم شيء ندعو إليه.(1/69)
فهي في الحقيقة الأولى وبها يبدأ، وهي الأولى أيضاً من جهة أنها أهم شيء، فشهادة أن لا إله إلا الله هي أول الأمر وآخره.
وقال رحمه الله: وفي رواية: { إلى أن يوحدوا الله } وفي الحقيقة هي ثلاث روايات في هذا الحديث كلها صحيحة، وبعضها يشرح معنى بعض.
ففي رواية: {إلى شهادة أن لا إله إلا الله } وفي رواية {إلى أن يوحدوا الله } وفي رواية {إلى أن يعبدوا الله } وهنا نستطيع أن نقول: إن هذا تصرّف من الراوي بالمعنى، والمعاني كلها حق، وكلها تدل على شيء واحد، فشهادة أن لا إله إلا الله، هي توحيد الله وهي عبادة الله.
فإن دعونا إلى عبادة الله فمعناه أننا ندعو إلى التوحيد، وإن دعونا إلى التوحيد فمعناه أننا ندعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فكل هذه المعاني حق وكلها صحيحة، وأياً كان الأمر فلا اختلاف على الإطلاق بين هذه الروايات فالمعنى واحد، وهو البدء بالتوحيد وبالشهادتين.
ثم أخبره وأمره بعد ذلك: { فإن هم أطاعوك لذلك } إذاً لا ينتقل إلى شيء بعدها، والمعركة تظل فيها هي، فمن دعوناه إلى شهادة أن لا إله إلا الله ولم يطع، فالأمر فيه ثلاث خيارات دائماً، عرضها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر قادة جيوشه بها، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم: إما الإسلام، وإما السيف،وإما الجزية، ولا يوجد غير هذه الثلاث.
فلا يوجد أخوة إنسانية يختلط الكفار فيها بالمؤمنين، ويقولون: كلنا أسرة إنسانية، ففي شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يوجد بيننا وبينهم إلا السيف، والله تعالى ينصر من يشاء، وقد وعد وتأذن بأن ينصر عباده المؤمنين المتقين: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40](1/70)
فالإسلام إذا قبلوه فهذا هو المطلب الأساس، ولا حاجة حينئذٍ إلى جهادهم ولا إلى الجزية، بل لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فأولاً: الإسلام فإن قبلوه فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، فإن أبو الإسلام فالسيف أو الجزية.
والجزية يدفعونها: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] بصغار وذل وخضوع والتزام لأحكام الإسلام، ولا يوجد مع الكفار غير هذه الأحكام الثلاثة،وحالة الصلح معهم أو العهد بيننا وبينهم حالة مؤقتة.
لكن هذه هي الأحكام الأصلية الثابتة من حيث المبدأ، ويمكن أن نتصالح مع بعض الكفار فترة من الزمن، وهؤلاء يسمونهم المصالحين أو المعاهدين.
لكن الأصل إن هذا الصلح ينتهي: إما إلى أن يسلموا، أو يكابروا ويعاندوا وينقضوا العهد فالقتال، أو يدفعوا الجزية.
وهذه المعاملة ربانية إلهية،وهي التي يجب أن تكون بين المسلمين وبين الكافرين.
وبعد أن نبين لهم التوحيد ويستجيبوا لكلمة التوحيد وللشهادتين، يكون البيان للركن الثاني.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس عبثاً أن جعل أركان الإسلام خمسة، وأن يكون أولها الشهادتين، ثم ثانيها الصلاة، ثم ثالثها الزكاة، فهذه لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى.(1/71)
وقد ذكر الله في القرآن؛ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث هذه الأحكام مرتبة، يقول الله تبارك وتعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] وفي الآية الأخرى يقول فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5] وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } وهذا الحديث يقول فيه: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة } فيوجد فرق في أن يكون الإنسان منا طالب علم، ووفقه الله أن يتفطن لهذا الشيء، وهذه الثلاثة بالذات، فيدعو إليها وبين أن يكون غير ذلك.
وكما هو واضح أن هذا هو منهج الدعوة إلى الله، وبعض العلماء ذكر بعض الحِكَم في إيراد هذه الثلاث دون الصوم والحج،وليس هذا تقليلاً من شأن الصيام والحج، لأن الصوم كانت الدعوة إليه والأحكام المترتبة عليه أقل من الزكاة والصلاة؛ لأنه عبادة خفية وخاصة بالإنسان، وكل إنسان يستطيع أن يقول لك: أنا صائم، والحج لأنه مرة واحدة في العمر، فكان إجراء أغلب أحكام الإسلام لا يكون إلا بهذه الثلاثة: الشهادتين والصلاة والزكاة.
فهذه هي أهم الأركان، ولذلك دعا إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وأمر معاذاً رضي الله عنه أن يدعو إليها.
التدرج في دعوة الناس(1/72)
كلنا نريد الحق وهدفنا الحق في دعوتنا، ونرجو أن نكون مخلصين -إن شاء الله- جميعاً في دعوتنا إلى الله، لذلك نبدأ بما بدأ الله به، وندعو إلى ما دعا الله تبارك وتعالى إليه، في أسرتنا وفي مجتمعنا، وفي أي مكان نذهب إليه، فهذا هو منهج الدعوة، ندعو أولاً إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -مع الإخلاص- وعلى بصيرة، وندعو إلى أن يوحد الله، وألا يعبد إلا الله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] فهذه هي دعوة جميع الرسل الذين أرسلهم الله، وذكر الله تبارك وتعالى لنا في القرآن نوح، وهود إلى عاد، وصالح إلى ثمود وغيرهم،كلٌ منهم يقول لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] إذاً هذا أول شيء، وهو أعظم ما ندعو إليه.
ثم ندعو الناس بعد ذلك -في الأهمية والوقت- إلى أداء الصلاة، لأنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم بعد ذلك ندعوهم إلى الزكاة والأخلاق والآداب والمعاملات، ولا نقلل من أهميتها، ولكنها بعد ذلك.
فالإنسان إذا وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق التوحيد، وعرف الله حق المعرفة، وصلى الصلاة كما أمر الله تبارك وتعالى، وزكى ماله وتصدق، هذا في الحقيقة لن يرتكب -بإذن الله تعالى- محرمات، وإن وقع فيها فهو على سبيل الخطأ العاثر، ولكن إذا تحقق لديه هذا الأصل فقد تحققت القاعدة القوية التي يبنى عليها إيمانه والتي يكون كل الأعمال محورها ومرجعها إليها.(1/73)
ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الصحيح- يرسل السرية من الجيش للجهاد في سبيل الله، فيأمرهم أن يذهبوا في الليل وينتظروا، فإن سمعوا الأذان وإلا أغاروا، وهذا من أحكام التعامل، أما إذا كان يأتي على بعض القرى حالات لا يؤذن فيها، أو أفراداً لا يجيبون داعي الله سبحانه فهذا شيء آخر، ولكن الكلام هنا في المجتمعات، فالمجتمع الذي لا يؤذن فيه، يستحق أن يجاهد، وأن يغار عليه،ولا يكفي اسم الإسلام وأن الإنسان مسلم، بل لا بد أن يَصْدق الإنسان إذا قال أنا مسلم، فيشهد أن لا إله إلا الله ويرفع بها صوته،وينادي بها،ويجتمعون في بيت الله لتحقيقها وأداء الصلاة.
وإن كان الأمر غير ذلك فيجب أن يجاهدوا، ولو أن قوماً أقاموا الصلاة؛ ولكن تركوا الأذان وجب جهادهم على المسلمين على ترك هذه الشعيرة العظيمة، فيجب علينا أن لا نستهين كما هو الحال عند بعض الناس بالشعائر، ويجب أن نقدرها حق قدرها، فرفع كلمة الله، ورفع الأذان،والصدع بشهادة أن لا إله إلا الله في الآفاق، هذا مطلب وشعيرة عظيمة، والاجتماع في بيوت الله لأداء الصلاة شعيرة عظيمة أيضاً.
فلا يقل الإنسان: الحمد لله أصلي بعض الأوقات في المسجد، وبعض الأوقات في البيت، فإن هذه مسألة أهم مما قد يتصور كثير من الناس، ولا نستطيع أن نوردها بالتفصيل فيما يتعلق بصفة أو بأحكام صلاة الجماعة، وصفة الأمة المؤمنة التي تقيم شعائر الله حقاً، كما أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تقدم الكلام عن باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وعلى باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وعرفنا والحمد لله أهمية هذه الشهادة وحقيقتها ومضمونها.(1/74)
ثم إن الشيخ الإمام المؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه عقد باباً خاصاً بعنوان: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وأراد رحمه الله تعالى من هذا الباب أن يبين لنا أن دعوة التوحيد التي دعا إليها متبعاً في ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء جميعاً من قبل؛ إنما هي دعوة إلى ما تضمنه القرآن الكريم من بيان التوحيد، وحقيقته، وبيان ما يضاده وهو الشرك.
فمعنى أن لا إله إلا الله، ومعنى التوحيد الذي هو ديننا -ولله الحمد- نأخذه من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بذلك يريد أن يرد على الذين غيروا مفهوم لا إله إلا الله ومعنى التوحيد وحقيقة الشرك، فجعلوا الناس يقعون ويتلبسون بالشرك الأكبر وهم يقولون لهم مع ذلك: إنكم موحدون، ولم تنقضوا توحيدكم، وإن الشرك حالة وصفة أخرى.
والإمام رحمه الله ذكر أربع آيات من كتاب الله تعالى، وهي تبين لنا معنى لا إله إلا الله وحقيقة التوحيد.
قال المصنف رحمه الله: '' باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57] وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28] وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] ''(1/75)
تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)
أقول: هذه هي الآيات، ونشرع الآن في تفسير وبيان الآية الأولى، وبيان دلالتها على معنى لا إله إلا الله.
يقول الله تبارك وتعالى قبلها: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:56-57].
فيوضح الله في هذه الآية معنىً عظيماً جداً، ويرد رداً جامعاً مانعاً على الذين عبدوا من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أي معبود كان، وكما تعلمون أن أعظم من عبد من دون الله هم الصالحون: إما الملائكة أو الأنبياء أو من دونهم من الصالحين من عباد الله الأتقياء ممن يسمون أولياء، وهذا أكثر شرك وأول شرك وقع في بني آدم.
فإن الله خلق بني آدم جميعاً على التوحيد: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة:213] وقد فسرها علماء التفسير ومنهم ابن عباس رضي الله عنه وبعض تلاميذه، قال: [[كان الناس أمة واحدة على التوحيد فأشركوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ]].
وقال ابن عباس رضي الله عنه: [[كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون كلها على التوحيد ]] وفي الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: {وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين }.(1/76)
فالأصل في الإنسانية جميعاً هو التوحيد، وقد خلق الله تعالى آدم على التوحيد، فهو نبي مؤمن موحد، وبقيت ذريته عشرة قرون على التوحيد، والأصل أيضاً في كل إنسان أنه يولد على التوحيد: {كل مولود يولد على الفطرة } حتى وإن ولد في أمريكا أو الصين أو الهند بين البوذيين، أو اليهود أو النصارى، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد على الفطرة } وفي بعض الروايات، قال: {على هذه الملة } أي: على الإسلام: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه } ولم يقل في أي رواية من الروايات: أو يمسلمانه أبداً، لأنه مولود على الفطرة.
والفطرة هي الإسلام، وإنما يكون التغيير والتبديل بصرفه عن الفطرة، قال: {كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء } فعندما تلد البهيمة بهيمة، تلدها كاملة سوية الخلقة، ولكن الذي يجذعها ويقطع أذنها أو يشقها بعلامة معينة هم الناس، فلا تُولد بهيمة مجذوعة مشقوقه بعلامة معينة كما كان يفعل الجاهليون.
وكذلك الناس لا يولد أحد مشرك أبداً، وإنما يولد على هذه الملة، ويولد على الفطرة والتوحيد.
فيأتي الذين كتب الله عليهم الشقاوة والشرك، والأبوان هم أهم شيء في ذلك، لكن قد يكون غير الأبوين، مثل المجتمع أو دعاة الضلال، فالتربية هي التي تحرف الطفل وتصرفه وتجرفه عن التوحيد إلى الشرك، ولذلك كان ما بين آدم وبين نوح على التوحيد، حتى وقع الشرك في قوم نوح.
أول شرك وقع في الأرض(1/77)
وقد وقع الشرك في قوم نوح بعبادة وتعظيم الصالحين والعباد: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23] فهذه أسماء رجال صالحين، كانوا عباداً يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان الناس يحبونهم ويقدرونهم ويعظمونهم لما يرون فيهم من شدة الاجتهاد في العبادة، فلما ماتوا جاءهم الشيطان، وقال: لو صورتموهم حتى تذكروهم، فإذا تذكرتم هؤلاء الصالحين الأخيار عبدتم الله كعبادتهم.
وانظروا كيف المدخل الخبيث لعدو الله، فصوروهم ونحتوا الأصنام على صورهم، وبقوا على هذا زمناً حتى نسخ العلم، ودائماً يأتي جيل فيزين له الشيطان ما لم يزين للأول، فجاء الشيطان للأجيال المتأخرة، فقال: اعبدوهم وادعوهم، فهؤلاء واسطة ووسيلة وشفعاء عند الله، وهؤلاء قوم مقربون عند الله، وإذا عبدتموهم قربوكم إلى الله، وأنتم مذنبون مساكين وضعفاء وعندكم ذنوب وخطايا، أما هؤلاء فإنهم عبدوا الله، وبلغوا مراتب العبودية العليا، ولهم عند الله شأن وجاه، فإذا دعوتم الله بواسطتهم، أو دعوتموهم هم فإنهم يكونوا شفعاء لكم عند الله.
فعبدوهم من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأصبحوا آلهة معبودة من دون الله.
فهذا هو أصل الشرك في العالم.(1/78)
ثم جاء من بعدهم من عبد الأنبياء، وقلَّ أن يُعلم مكان فيه قبر نبي إلا ويأتي إليه الناس فيعبدونه من دون الله، ونحن في هذه البلاد -بحمد لله- قد حماها الله بدعوة الشيخ الإمام المجدد من هذا الشرك، ولو أن فيها من يريد أن يحيي الوثنية، ولكنهم مخذولون بإذن الله، ولن تقوم لهم راية ولا شأن ولا كلمة، لكن في غير هذه البلد تجد العجب العجاب من عبادة القبور والأولياء، لا يكاد يوجد بلد إلا وفيه قبر النبي فلان، أو الولي فلان، أو السيد فلان، أو السيدة فلانة، وهذا في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلا القلة القليلة التي فيها من يدعو إلى الله، وهؤلاء ينبزون بأشد الألقاب، ويقال: إنهم خارجون على المذاهب، وإنهم خوارج ووهابية ، ويسبونهم بأشنع السب لأنهم يوحدون الله.
أما الكثرة الكافرة فهم يعبدون الأولياء، ويعبدون قبور الصالحين، وقد لا يكونون من الصالحين، بل قد لا يكون هناك قبور أصلاً أو مقبورون، فبعضها أُحدث على أنه قبر، وهو ليس بقبر في الحقيقة، لأنه إذا لم يكن فيه ميت فليس بقبر.
فالمقصود أن هذا الشرك العظيم هوشرك الجاهلية الأولى، وهو كذلك الشرك الذي ما يزال إلى هذا اليوم، وهو أعظم وأظهر أنواع الشرك.
الأدلة على فساد شرك الدعاء
فشرك العبادة ودعاء غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الشرك الأكبر، والإمام رحمه الله في هذه الآية، أراد أن يبين لنا كيف نتجنب هذا الشرك، وكيف رد الله على هؤلاء المشركين، فقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً [الإسراء:56] ومعنى الآية: ادعوا كل من تزعمون أنه إله من دون الله أن يكشف عنكم الضر وأن يحوله إلى غيركم فلن يستطيع كائناً من كان!(1/79)
فهؤلاء الأموات -وأفضل من في الأموات الأنبياء- كانوا يدعون الله، ويتضرعون إلى الله، وكانوا فقراء إلى الله، وكانوا محتاجين إلى الله، وكانوا لا يملكون نفعاً ولا ضراً لأنفسهم ولا لأحد من الخلق إلا ما شاء الله، فكيف يعبدون؟!
وكيف يدعون من دون الله وهم لا يملكون شيئاً من ذلك؟!
ثم جاءت الحجة الدامغة، والبرهان القاطع، فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] أولئك الذين يدعون، وفي قراءة: أولئك الذين تدعون، والمعنى واحد لا يختلف، وهو: أن المدعوين المعبودين من دون الله سواءً كانوا من الملائكة أو الأنبياء أو أي عبد صالح عبد من دون الله، أومن الجن ألذين أسلموا -كما فسرها بعض السلف : [[أنهم كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي العباد يعبدونهم ]] يقول الله تعالىفيهم: أنهم أنفسهم يتقربون إلى الله، ويبتغون إليه الوسيلة، فهم أنفسهم يعبدون الله، ويدعون الله وحده لا شريك له، وهم أنفسهم يريدون أن يكون بينهم وبين الله محبة وصلة وقربة، وأن ينالوا عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدرجات العليا، ويفوزوا برضاه، وهم أنفسهم يخافون من الله، ومن عذابه وعقابه، وهم أنفسهم يطمعون في رحمة الله، ويرجون ما عنده.
إذاً إذا كان هذا هو حال المعبودين، فكيف يُعبدون من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
فكل الشرك الموجود -الآن- في العالم وفي القديم والحديث، يقال: أنه توسل، وينكرون أنه شرك، والتوسل فيه خلاف عندهم، بعضهم يقول: لا بأس به، وبعضهم يقول: إنه واجب، فيجعلون الشرك كله من التوسل، وهذه الآية ترد عليهم، كما يرد عليهم قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35].
إذاً نحتاج أن نعرف ما هي الوسيلة؟(1/80)
التوسل إلى الشيء معناه: التوصل إليه، والوسيلة إلى الله معناها: ما نتوصل به إلى الله، وما نتقرب به إليه، وما نتزلف به إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليقربنا منه، ويوصلنا إلى مرضاته.
فهذه هي الوسيلة.
فإذاً نحتاج أن نعرف ما هي الوسيلة؟ وما هو التوسل؟ وما هي أنواع التوسل؟ وما هي أحكامه؟
أعظم الوسائل إلى الله
فأما الوسيلة:
فأعظم وسيلة هي الإسلام والتوحيد، وبذلك فسرها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، ولا يكون العبد مسلماً إلا إذا وحد الله، وهذا ضد ما يفعلونه تماماً.
فأعظم شيء نتوسل به إلى الله هو توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك إذا أردنا أن نسأل الله فإن من خير ما نسأله به؛ أن نسأله ونتضرع إليه بأنا نشهد أن لا إله إلا هو، فنتوسل إليه بتوحيده، ودعاؤنا لربنا وتوسلنا له في الدعاء بالتوحيد دليل على أن أعظم الأعمال التي نتوسل بها هو التوحيد، لأن الدعاء منه دعاء عبادة، ومنه دعاء مسألة.
فدعاء العبادة مثل الصلاة والشهادة: فالصلاة دعاء، وشهادة أن لا إله إلا الله دعاء.
ودعاء المسألة هوالتضرع والسؤال، وهو أن تسأل ربك شيئاً، فإذا كان خير ما تسأل ربك به هو توحيد الله، فإذاً خير ما نتوسل به إلى الله أيضاً من الأعمال والعبادات والطاعات هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/81)
فلو أن أحداً أراد أن يتقرب إلى الله بالشرك وبعبادة غير الله فهذا لا يكون متوسلاً إلى الله، بل يكون مطروداً من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) [المائدة:72] ولا يكون هذا متوسلاً إلى الله وهو متباغض إلى الله، بفعل أكبر وأعظم ذنب عصي الله تبارك وتعالى به: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فلا يمكن أبداً أن يكون أعظم الذنوب هو ما نتوسل به إلى المحبوب والمعبود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً أعظم ما نتوسل به إلى الله هو توحيد الله تبارك وتعالى، والانقياد والإذعان والطاعة له، وهؤلاء العباد الصالحون من الأنبياء والملائكة إنما عظمت منزلتهم وقيمتهم وكانوا أولياء؛ بتوحيدهم لله.
فلذلك نحن نتوسل إلى الله بأعظم الوسائل وهو التوحيد، والوسيلة التي أمر الله أن نتخذها إليه أعظم شيء فيها هو توحيده، ثم طاعته، بجميع أنواع الطاعات، وأولها الصلاة، فكل ما فرضه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه } فكل العبادات والفرائض نتقرب بها إلى الله، فهذا هو معنى التوسل.
فأتوسل إلى الله معناها: أتقرب إليه وأسعى لنيل رضاه بهذه العبادة: بدعائه، وذكره، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة دينه، وبكل شيء يرضيه، فأنا بهذا التوسل أسعى إلى رضاه سبحانه وأطمع في رحمته، وأن أنال الفوز بجنته وأن يعافيني من ناره.
وهكذا كل عبد من عباد الله الصالحين، وهذا هو التوسل المشروع، وهو دين الإسلام كله.
أما جانب الدعاء منه، فندعو الله تبارك وتعالى دعاء المسألة، وندعو الله دعاءً مشروعاً، ونتوسل إليه توسلاً مشروعاً بأحد أمرين:
أنواع التوسل المشروع(1/82)
الأمر الأول: بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته، يقول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] فندعو الله بأسمائه فنقول: يا غفار اغفر لي، يا رحيم يا رحمن ارحمني، يا كريم ارزقني، أو تفضل علي.
فأيُّ اسم من أسماء الله تدعو الله تعالى به، وتتوسل إليه، وتسأل الله به، فهو خير وأفضل أنواع الدعاء.
فندعو الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وندعوه ونتضرع ونتوسل إليه، بتحقيقنا التوحيد والإيمان.
الأمر الثاني: أن نتوسل إلى الله بأعمالنا الصالحة، فندعو الله بأعمالنا التي عملناها خالصة لوجه الله، والتي تقربنا بها إليه، وأعظم وأفضل هذه الأعمال هو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فلما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله }.
والإيمان -الذي هو التوحيد- نتوسل به إلى الله: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193] فأولو الألباب الذين أثنى الله تعالى عليهم وذكر أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم -وهذا هو غاية الذكر وغاية العبادة- يتوسلون إلى الله بالإيمان، ولم يتوسلوا إليه بذات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل سألوه بالإيمان به.
ومن أعظم الأدلة على ذلك، وأوضحها أيضاً، { قصة الثلاثة الذين آواهم المطر إلى كهف فأطبقت عليهم الصخرة } فتوسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة.
أفلم يكن عندهم أنبياء حتى يتوسلوا بهم؟
إن هؤلاء مؤمنون لا شك في ذلك، وجاءهم الإيمان عن طريق الرسل والأنبياء الذين دلوهم على الإيمان، لأنهم أناس عاديون، ليسوا برسل أو أنبياء، ولا مشهود لهم بالصلاح والتقوى، فهم أناس من عامة الناس.(1/83)
لكن الله أراد أن يبتليهم بهذه الصخرة، فلم يتوسلوا بالذوات وبالمخلوقين، ولكنهم توسلوا إلى الله، وقبل الله توسلهم بأعمالهم الصالحة التي عملوها خالصة لوجه الله.
فتوسل الأول إلى الله ببر الوالدين، وبر الوالدين نعم العمل الصالح: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] فجعل الله تبارك وتعالى أعظم حق بعد حقه تعالى -وهو توحيده- هو حق الوالدين, فكذلك أعظم ذنب بعد الشرك بالله هو عقوق الوالدين، وعندما سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيُّ الذنب أعظم؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين } فهذا أعظم حق يراعى، وإن أهدر فهو أعظم حق أهدر بعد حق الله.
فتوسل إلى الله ببر الوالدين، وتضرع إلى الله: { اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وخالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً }
وتوسل الثاني وتضرع إلى الله بالعفة عن الزنا، لأنه كان له ابنة عم ذات منصب وجمال، وكان يريدها على الفاحشة، ولكنها امتنعت منه، حتى جاءت واحتاجت إليه، فأعطاها الدنانير، وقعد منها مقعد الرجل من أهله فذكرته بالله، فاتقى الله، وتركها لوجه الله.
وهذا العمل لا يضيع عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فذرة من العمل لا تضيع، إن كان خيراً وجده.
وإن كان شراً وجده، فهذه العفة عما حرم الله، وهذا العزوف عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، وحجز النفس عن الشهوات المحرمة، نفعه في وقت هو أحوج ما يكون إلى المنفعة، فسأل الله: { يا رب! إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم؛ فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً } أكثر من الأول، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وهذا الحديث عظيم، ويحتاج إلى درس بل دروس بالنسبة لما فيه من الآيات والعبر: بالنسبة لحقّ الوالدين، ثم بالنسبة لترك ما حرم الله تبارك وتعالى، وأثر ذلك في الخير والنعمة والبركة. ثم يأتي النوع الثالث.(1/84)
فالرجل الثالث توسل إلى الله بأداء حقوق الناس.
فإيفاء الناس حقهم، ورحمة الخلق والإحسان إلى خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأعمال الصالحة العظيمة.
وقد كان عند هذا الرجل أجير، فذهب ولم يأخذ أجرته، فنمى ماله حتى أصبح شعاباً من الإبل والبقر والغنم، فلما جاء صاحب المال، يريد أن يأخذ ماله، قال له: هذا مالك، فقال: أتهزأ بي يا عبد الله -فهو يعرف أنه اشتغل عنده مدة من الزمن، وأن ماله عنده بضع دنانير، وهذه شعاب من بهيمة الأنعام، وهي أفضل الأموال وأزكاها- فقال له: لا. ولكن هذا مالك، وحقك. فهو فعل ذلك لوجه الله.
فيا من تأكلون حقوق العمال الأجراء والعباد! انظروا كيف نفعه هذا في وقت هو أحوج ما يكون إليه، وذلك لما وفاه أجره وأعطاه حقه, وبالإحسان إليه زيادة عن حقه لوجه الله، وما كان ذلك الرجل يريده ولا يطلبه أو يتوقعه، قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60] فمن أحسن إلى خلق الله ابتغاء وجه الله أحسن الله تبارك وتعالى إليه في الدنيا والآخرة.
ففرجت عنهم الصخرة وخرجوا، وهذا من فضل الله ونعمته تبارك وتعالى عليهم.
فالشاهد أنهم دعوا الله وتضرعوا وتوسلوا إليه بأعمال صالحة فعلوها.
فإذا أردنا أن نبتغي إلى الله الوسيلة، فالواجب علينا أن نعمل أعمالاً صالحة خالصةً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإذا جاء وقت الشدة والضيق والكرب في الدنيا أو في الآخرة، نضرع إلى الله بهذه الأعمال الصالحة، فإن قبلها الله نفعنا ذلك عنده.
فإذا أردنا أن يكون عندنا ذخائر وعدة وسلاح نواجه به الأزمات والمخاطر والهموم والمشاكل -وهذه لا يخلو منها أحد- فلنعد عملاً خالصاً لوجه الله، ولو أن تذكر الله تعالى وحدك ولا يعلم بك إلا الله.
ادع لأخيك بظهر الغيب وهو لا يعلم ولا يعرفك أو يلقك أو يرك.
أصلح بين الناس لوجه الله تبارك وتعالى.(1/85)
أو اعمل أي معروف، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، حتى ولو كان إلى البهائم، أحسن إليها وهي لا تشكر، ولا تمنه عليها.
وسوف تجد أن ذلك ينفعك بإذن الله، فترفع يديك وتسأل الله في وقت أزمة أو شدة، كما سألوه هؤلاء الثلاثة، فيفرج الله تبارك وتعالى عنك الغم، ويكشف عنك الكرب بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما دعاء غيره: فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً [الإسراء:56] وهم عباد أمثالنا.
فكل من عُبد من دون الله -من هؤلاء المسمين بالصالحين أوالأولياء أو السادة- لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
فالتوسل المشروع المحمود يكون بالدعاء: بأن ندعوه بأسمائه الحسنى، أو بأعمال صالحة نعملها، ورأسها وأفضلها هو توحيد الله والإيمان به.
ثم كما قدمنا وفي هذا الحديث -مثلاً- ما يتعلق بحقوق الوالدين وبر الوالدين، وما يتعلق بالكف عن محارم الله مع القدرة عليها، وما يتعلق بإعطاء الناس حقوقهم والإحسان إليهم مع إمكان عدم ذلك.
فهذه وغيرها من الأعمال الصالحة هي التي يكون بها التوسل المشروع، وهي الوسيلة الصحيحة المحمودة، فهذا هو النوع الأول.
التوسل الشركي
والنوع الثاني من أنواع الوسيلة: هي الوسيلة الشركية.
فالتوسل الشركي الذي يكون صاحبه مشركاً بالله هو أن يتوسل الإنسان إلى الله -بزعمه وفي نظره- بدعاء أحد من المخلوقين، ويعبده كما كان الجاهليون يقولون، ففي الآية: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاء لنا عند الله بما لهم من الجاه والقيمة والمنزلة عند الله.
فدعوا غير الله، وعبدوا غيره، زاعمين أنه يقربهم إلى الله، فكان المشركون إذا حجوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.(1/86)
فالمشركون لم يكونوا يعتقدون أن الآلهة المعبودات التي يعبدونها من دون الله أنها تملك الأشياء، أو أنها تخلق أو ترزق أبداً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]. وقال تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] فكانوا يعتقدون أن الخالق والرازق والمحيي والمميت والذي يدبر الأمر وينزل الغيث هو الله وحده، لكن هذه تقرب إلى الله، وتشفع عنده، ولا تملك شيئاً إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
إذاً فمادام الله يملكه وما ملك، فلماذا لا تدعو الله وحده؟!
جاءهم الشيطان بشبهة، وهي التي يقولها إلى اليوم عباد الأصنام والقبور، يقولون: أنت ضعيف ومذنب ومسكين، فكيف تدعو الله مباشرة؟!
ادع الله عن طريق هؤلاء الصالحين؛ لأن لهم جاهاً ومنزلة وقيمة عظيمة، أما أنت فليس لك قيمة عند الله، فكيف تدعو الله؟!
ولكن هذا ليس مما شرعه الله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر:60] وقال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] فالله لم يقل أنه يجيب المؤمن إذا دعاه، نعم إن أعظم من يستجيب لهم هم المؤمنون، لكنه قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ أو ليس الله هو الذي يغيث الكافرين إذا ركبوا البحر وجاءهم الموج من كل مكان، فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين، فينجيهم ولكن: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
إذاً الله تعالى يغيث المضطر، ويستجيب له ولو كان كافراً، وبعض الناس قد تخفى عليه هذه الحقيقة، فيقول: كيف استجاب له؟!
فالاستجابة موجودة، وكثير من الكفار إلى هذا اليوم يذكر أنه وقع في أزمة كحادث طائرة، أو في حادث سفينة، فيقول: تضرعت، ودعوت الخالق فأنجاني، وهذا في كتاب الله.(1/87)
فالله تبارك وتعالى هو الذي يغيث؛ لأنه إذا لم يغثه الله فمن يغيثه، فلا أحد يملك لأحد شيئاً، فإذا تضرع إلى الله أغاثه الله ولو كان كافراً، لكن مشكلته أنه إذا خرج ونجا نسي ما كان يدعو من قبل، وعاد إلى دينه الأول.
فالمضطر والمظلوم وإن كان كافراً يستجاب له؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يجيب المضطرين إلا هو، ولا يغيث المظلومين والملهوفين إلا هو، فلو لم يغثهم فكيف تكون الحياة، ومن الذي يتولى ذلك؟
فإذا كان يغيث الكافر إذا دعاه، فما ظنك بالموحد المذنب؟
فمن خير ما يفعله المذنبون والمجرمون والعصاة أن يطرقوا باب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى:25] وقال: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] فهذا شأنه سبحانه، فهو يريد العباد أن يتوبوا، ويدعوهم ليتوبوا: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] {يبسط يده بالليل ليتبوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل } فالله يدعو الخاطئين والمذنبين والمجرمين ليدعوه فيتوب عليهم، وأن يستغفروه فيغفر لهم، وأن يقبلوا عليه فيقبل عليهم سبحانه.
فجاء هؤلاء المشركون دعاة الضلالة ليحرمونا من هذه المعاني، وجعلوها محصورة في الشرك الذي لا يقبله الله، بل هو مردود على صاحبه.(1/88)
والتوسل الذي جعله الله تبارك وتعالى باباً عظيماً من أبواب الخير، وهو أنفع الأبواب، ضيقوه جداً وما جعلوه إلا بشيء واحد، وفيه بدعة إن لم يكن فيه شرك، وهو ذوات الأنبياء وذوات الصالحين، فلذلك نقول هذه شبهة داحضة، وما دام أولئك المدعوون المعبودون يدعون الله فنحن أيضاً ندعو الله، وإن كان فينا من الذنوب ما فينا، لكن هو المدعو وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ندعوه ونتضرع إليه، ولن يرد من دعاه، ولن يحرم من سأله أبداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والدعاء أمره عظيم وشأنه جليل، وحسبنا أن نقول: إن دعاء غير الله هو الشرك الأكبر، فإذا قال: يا بدوي ! أو يا حسين ! أو يا عباس ! كائناً من كان؛ فهذا مشرك الشرك الأكبر، إذا كان دعا غير الله معتقداً أنه يستجيب له، ولو قال: لا أنا لا أقصد أنه إليه، بل أنا أقصد فقط التقرب إلى الله بدعائه، فهذا ما قاله المشركون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] فهذه شبهة المشركين الأولين.
إذاً نحن ندعو الله، ولو أن هؤلاء الناس الذين يعبدون غير الله تأملوا حال المدعوين؛ لكانوا كما قال الله في الآية السابقة التي دحض بها كل شبهة.
من أشكال التوسل الشركي في العالم
وأكثر ما يقع الشرك اليوم في الأرض من الروافض الذين يعبدون الحسين بن علي رضي الله عنهما، وعن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمعين، فيتعلقون به أشد من تعلقهم بالله، فيجتمعون وينوحون ويبكون ويقرءون القصائد والمراثي الطويلة، والسبب في بكائهم أن في هذه القصائد والأشعار أنه مات ضعيفاً وحيداً في الصحراء، وأنه مات عطشاناً، وأن أعداءه تكالبوا عليه وقتلوا ابنه.(1/89)
وهم يزيدون من عندهم أشياء وتفاصيل، وكلما ذكروا شيئاً منها يزدادون في البكاء، فإذا انتهوا من العويل والنياحة، قالوا: ندعو الحسين ، سبحان الله! هو لم يملك لنفسه شيئاً، وهو في تلك الحالة وفي ذلك الكرب في يوم كربلاء ، ففي ذلك الموقف، لم يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فقتله أولئك القوم ولم يستطع أن يفعل لنفسه شيئاً، فكيف تعبدونه من دون الله؟!
وهم أيضاً يعبدون علياً رضي الله عنه، وهو الذي كم أصابه من مشكلات ومواقف في يوم صفين وفي غيرها! ثم خرجت عليه الخوارج ، وانقسمت عليه الأمة، وفقد بعض الأقاليم من ولايته، وتعب تعباً شديداً، ولم يكن يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، حتى جاءه الشقي عبد الرحمن بن ملجم ، فضربه بالسيف على هامته، فمات رضي الله عنه بعد أيام من ضربة هذا الشقي.
فأين نفعه لنفسه؟! وأين كشف الضر عن نفسه، حتى يملك لكم كشف الضر وتحويله عنكم؟! ومع ذلك يدعونه من دون الله!!
فإذا ذهبت إلى بعض البلاد -مثلاً مصر - فإنك ترى شيئاً عجيباً جداً، فإنك تجدهم يقولون: رأس الحسين مدفون هاهنا، فيقولون رأس الحسين ولا يقولون الحسين كله، وهذا بغض النظر عن أنه كيف يعبد في كربلاء ، ويعبد في العراق في النجف ، ويعبد في دمشق ، ويقال: أنه مدفون هناك، ويعبد في مصر ويقال: هنا رأس الحسين ، مع أن هذا الضريح لم يبن إلا بعد ثلاثمائة سنة من وفاته.
ثم أنك تجد هناك شيئاً عجيباً من الزحام والدعاء والتضرع حول ما يدعون أنه قبر رأس الحسين .
فإذا كان هذا رأسه الذي فصل عن جسده -وهذا غير حقيقة ولكن تنزلاً، إذا افترض أن هذا الرأس قطع- وجيء به من كربلاء في العراق ودفن في مصر ، فهل هذا مبرر أو موجب لعبادته ودعائه من دون الله، أو هو دليل على فقره وعجزه وضعفه، حيث يقطع رأسه وحمل إلى هذه البلاد، ولم يستطع أن يدفع عن نفسه أي شيء؟!
لكن ليس للمشركين عقول، وإنما أمرهم أحد أمرين:(1/90)
1- إما جهلة مقلدون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] فلا يوجد أقل تفكير، بل تقليد أعمى.
2- وإما محتالون ولصوص ومجرمون يأكلون السحت، فيأتي عند القبر ويقول: ماذا تريد من الحسين ؟ هل تريد الزوجة؟ إو إذا كانت فتاة، هل تريدين زوجاً أو خطيباً؟ والذي يريد المال موجود... وهكذا.
فتدفع للسدنة عند الضريح مبلغاً من المال، وهم يسمحون لطالب الحاجة أن يدعو، والمهم أن تدفع شيئاً للسيد -للبدوي أو للحسين أو لنفسية ، أو غيرهم- وهذا النذر لا يأخذه صاحب القبر، وأحياناً لا يوجد قبر أصلاً، كالقبر المزعوم أنه للحسين وهو لا يوجد أصلاً فيه شيء.
فالذي يأخذ المال هم السدنة، فهم يضحكون على عقول الناس، ويجمعون هذه الأموال ويستفيدون منها.
ولذلك من القصص العجيبة جداً: أنه يوجد ضريح ضخم في أحد البلاد، يسمونه ضريح الخواجة، وهذا القبر لرجل هولندي -وكما تعرفون أن أي رجل أوروبي يسميه بعض الناس خواجة- وكان قد جاء في قناة السويس عاملاً في الشركة التي جاءت لتحفر القناة، فسقط في البحيرة فغرق فيها، ثم طفت الجثة على سطح الماء، فسحبوا الجثة وحفروا لها ودفنوها، ثم بنوا عليها ضريحاً.
فهذا نصراني كافر وإلى الآن يدعونه، ويسمونه ضريح الخواجة.
وأشد من هذا ما يحكى -ويقال أنه متواتر وأنه حصل أكثر من مرة-: أن بعض اللصوص المجرمين ذهبوا يقطعون الطريق، ويحتالون على الناس، فما وجدوا شيئاً يحتالون به على الناس، وكانوا رجلين ومعهم حمار، فذبحوا الحمار ودفنوه، وبنوا عليه قبة، وجلسوا على الطريق، ومن مرّ من عندهم قالوا له: هذا ضريح الشيخ فلان، ومع المدة كثر الناس الزائرون للضريح، وكثرت الأموال والنذور.
فبدل أن كانوا يريدون أن ينهبوا الناس؛ أصبح الناس هم الذين يعطونهم طواعية للشيخ وللولي.(1/91)
حتى جاء يوم من الأيام فاختلفا، فقال أحدهما للآخر: احلف بالله أنك ما غششتني، فقال: والله العظيم لم أغشك، فقال له: لا. لا أقبل إلا بواسطة الولي -والعياذ بالله، فمن شركهم بالله لا يقبلون الحلف بالله، وهذا شيء معروف الآن، فإذا حلفت بالله فقد يقبل وقد لا يقبل، لكن إذا حلفت بالشيخ فإنه مباشرة يصدق، مثلاً الشيخ عبد القادر الجيلاني كان في الهند أو في أفريقيا ، أو في أي بلاد إذا حلف بحياة الشيخ فإنه يصدق مباشرة- فلما حلف له على حياة الشيخ أنه لم يغشه قال: تحلف ونحن دفناه سوياً! أي: نحن الاثنين نعرف من هو المدفون.
فيظهر من ذلك أنه حتى الذين دفنوه صدقوا؛ لأن الكذب إذا كثر وانتشر وجبل عليه الناس فإنهم يصدقونه، وهذه قضية نفسية، وقد قيل: إن أشعب الطماع مرّ به أطفال، فقالوا: يا أشعب ! يا طماع! وآذوه وهو في الطريق، فقال: اذهبوا إلى بيت آل فلان فإن فيه وليمة كبيرة، فالأطفال قالوا: هذا أشعب وأكيد أنه يعرف الولائم فصدقوه وذهبوا، ثم بعد قليل فكّر، ثم تبعهم، فقيل له: لماذا تبعتهم؟ قال: يمكن يكون صحيح. وهذا يقع أحياناً، وهو الذي قال لهم هذه الكذبة.
فكذلك بعض الناس يكون هو أول من يبتدع الشرك، وأول من يحدثه، ثم يصدق ذلك، وهذه تسمى الحيل النفسية.
فكثير من الناس يحتال، فيقول للناس: أنا فعلت وأعطيت وعندي، وهو كاذب، ثم ينقل الناس هذا الكلام عنه، وبعد فترة يأتيه الشيطان فيصدق أنه كذلك، وهو الذي يكون ابتدعها من عنده.
وهذا حتى تعلموا مكر هؤلاء المكارين.(1/92)
فهؤلاء شياطين الإنس والجن، يضحكون على الناس حتى أصبح الإنسان العاقل اللبيب، أو من يبحث عن الإسلام لو جاء إلى بلاد المسلمين، كما هو الحال في كثير من الأوروبيين الآن والأمريكيين -كثير منهم حيارى ضائعين، وتائهين يبحثون عن دين- إذا جاء إلى بلاد المسلمين يريد الإسلام، فيقال له: هذا هو الإسلام، فيجد عبادة القبور، ودعاء الموتى، والاستغاثة بهم، وهم عندهم عبادة القديسين والمسيح في دينهم المحرف.
فيقول: هذا الذي هربت منه، واعتقدت أنه خرافة، ثم أجده عند المسلمين، فلا يؤمن أيضاً.
فهذا شرك، وفيه أيضاً صد عن سبيل الله تبارك وتعالى، فهذا هو التوسل الشركي، وهو يملأ الأرض إلا ما رحم الله تبارك وتعالى.
وهم يريدون أن يحيوه حتى في هذه البلاد الطاهرة، فيقولون: لماذا لا تُبنى القبور وتعظم؟ وهذا ليس من الشرك، وأنتم تكفرون الناس، وهذا يقول لا إله إلا الله فكيف تقول: أنه مشرك.
فنقول: إذا قال لا إله إلا الله ونقضها، مثلما إذا توضأ ونقض وضوءه، أو صلى وأبطل صلاته، وكما ترون تبدأ البدع شيئاً فشيئاً.
ولذلك ما يفعل عند قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استقبال الناس للقبر واستدبارهم للقبلة ليدعون، فهذا وإن دعوا الله تبارك وتعالى فهو من وسائل الشرك، فيوماً ما -بل هو واقع الآن- سوف يأتي بعض الناس ويدعو ويقول: يا رسول الله! ويظن أنه لم يأت من بلاد بعيدة إلا لزيارة قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولدعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا هو الشرك الأكبر -والعياذ بالله- وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي حمى التوحيد، ودافع عنه، وجاهد في الله حق جهاده، حتى لا يعبد إلا الله، ومع ذلك يتخذ وسيلة.(1/93)
وأحياناً يعرض في التلفاز أناس عند القبور يدعون، فيقول بعض الناس: لو كان شركاً هذا أو فيه شيء ما كان ليعرض في التلفاز، وهذا من الاقتداء بمن ليس بقدوة، وهذا من مصائب الناس، أنهم يرون الآيات الواضحة والأحاديث الصحيحة في الشرك، ولكنهم يتركونها ويقولون: هذا يعرض في التلفاز ولو كان فيه شيء لما عرض.
إذاً فيستدبر الإنسان القبلة، ويستقبل القبر ويدعو، فحتى لو دعا الله فإن هذا بدعة، وإنما الصحيح والمشروع أن الإنسان إذا زار المدينة فينوي بالزيارة زيارة المسجد لا القبر، فإذا زرنا المسجد وزرنا المدينة فإننا نسلم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، وأيضاً نزور البقيع .
وهذه هي الزيارة الشرعية، وأيضاً إن كنت في أي مكان وزرت المقابر زيارة شرعية بآدابها الشرعية، فهذا فيها أجر عظيم، وفيها تذكير بالآخرة، ونحن مأمورون بها لأنها تذكرنا بالآخرة.
فالذي يزور القبر، ويسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحبيه، ثم يدعو ويستغيث عند القبر، وعند البقيع ، أو عند شهداء أحد ، أو عند أي مقبرة من المقابر، فهذا لا يجوز، بل ندعو الله وحده، ولا نشرك به أحداً.
التوسل البدعي
ثم النوع الثالث من أنواع التوسل: هو التوسل البدعي، وقد عرفنا التوسل الشرعي، وعرفنا التوسل الشركي، والثالث هو: التوسل البدعي.(1/94)
التوسل البدعي هو أن يكون المدعو هو الله، لكن يدعى الله تبارك وتعالى بغير ما شرع، فلا يدعو الله بأسمائه الحسنى أو بالأعمال الصالحة، ولكن يدعو الله فيقول: اللهم إني أسألك برسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أسألك بفلان، أو بحق فلان، أو بجاه فلان، وكثير من الناس يقولون: بجاه محمد أو بجاه نبيك، فإذا قيل لهم: هذا التوسل غير مشروع، قالوا: بل هذا توسل صحيح ومشروع، ولكن أنتم تكرهون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نعوذ بالله- ولو لم تكونوا تكرهونه لكنتم تتوسلون به إلى الله، لأنه هو أعظم وسيلة.
فنقول: أما كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم واسطة بين الله تعالى وبين عباده فلا شك عندنا في ذلك، ولكنه واسطة بلاغ، أما كونه واسطة عبادة لا ترفع إلى الله إلا عن طريقه، فهذا هو دين النصارى واليهود والمشركين.
أما دعاؤه فهو شرك، وأما دعاء الله بجاهه أو بذاته، فبيننا وبينكم الدليل، وبيننا وبينكم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلم يكن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتوسلون إلى الله بجاه أو ذات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقولون: نسألك بمحمد، أو يا رب نسألك بجاه نبيك، وهذه الأدلة بين أيدينا، ونذكر دليلاً واحداً صحيحاً لا شك عندنا وعند أهل البدع في صحته، وهو الاستسقاء.
فقد استسقى الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر بن الخطاب وخرجوا للاستسقاء وكان عمر رضي الله عنه معهم فقال: [[اللهم إنا كنا نتوسل إليك بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن نتوسل إليك بعم نبيك، يا عباس ! قم فادع الله ]] فقام العباس فدعا وأمَّن المسلمون.
فإذا قال المخالف: هذا دليل على أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقولون: اللهم إنا نسألك بنبيك.(1/95)
قلنا: هذا الدليل هو دليلنا نحن عليكم، وليس كما تفهمون، لأنه إن كان المقصود جاهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يموت بموته؛ لأن جاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله عظيم، ومنزلته عند الله عظيمة، في حياته وبعد مماته.
وإنما عدل الصحابة عن التوسل به إلى التوسل بعمه، وذلك لأن المقصود أنه في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يدعو لهم وهم يخرجون معه، والآن بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمه العباس يدعو لهم.
وهذا واضح والحمد لله، وشبهتهم داحضة.
فالصحابة رضي الله عنهم علموا أنه بموت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبح لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يستطيع أن يدعو لأحد كما كان في حياته، حيث كانوا يأتون إليه ويقولون: ادع الله -يا رسول الله- ليفرج عنا، كما جاءوا إليه وهو في ظل الكعبة وقالوا: يا رسول الله! إن قريشاً قد آذونا، فادع الله لنا.
أما بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يأتون إلى من رأوا فيه الصلاح، وهكذا المسلمون في أي وقت من الأوقات لو كانوا يريدون الاستسقاء أو غيره، فإنهم يذهبون إلى من فيه الخير والصلاح من عباد الله، من أهل الفضل والدعوة، ويقولون: ادع الله لنا أن يسقينا، وهذا هو المشروع، وليس فيه توسل لا بالذات أو بالجاه.
فإذاً التوسل أو دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحق فلان، أو بجاه فلان، هو توسل بدعي، أي: ليس مشروعاً، لأنه لو كان مشروعاً لما كان بدعياً، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وليس هو شركاً؛ لأنه دعا الله، لكن لو قال: يا حسين ! يا علي ! يا عباس ! فإنه يكون شركاً.(1/96)
فهذه هي أنواع التوسل الثلاثة: الشرعي والبدعي والشركي، وعرفنا أن من يدعون ويعبدون من دون الله، من الأنبياء والصالحين هم أنفسهم كانوا يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد قال تعالى فيهم: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57].
والعبادة تكون بثلاثة أركان:
1- الحب.
2- الخوف.
3- الرجاء.
وهذه الآية تضمنت أركان العبودية، فهم يحبونه ويبتغون إليه الوسيلة أيهم أقرب، وهذا هو الحب.
ويرجون رحمته، وهذا هو الرجاء.
ويخافون عذابه، وهذا هو الخوف.
فهذه هي أركان العبادة الثلاثة: الحب والخوف والرجاء.
والسلف الصالح لهم كلمة عظيمة في من يعبد الله بشيء ويترك بقيتها، أي: الذي يأتى بركن من هذه الأركان الثلاثة، ويترك الأركان الأخرى.
الركن الأول: الحب
فقالوا: '' من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق '' كما قالت اليهود والنصارى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فيقول الزنديق: أنا أحبه، وإذا أحببته وأحبني، فإن الحبيب يعفو عن حبيبه، ومهما أخطأ الحبيب على حبيبه فإنه لا يؤاخذه.
فيستحل المحرمات ويقول: نحن نعصي الله ونحبه -تعالى الله عما يقولون- فهم لا يخافون عذابه ولا يرجون رحمته، ويقولون: نحن لا نعبده من أجل الجنة أو من أجل النار، ويقولون: أنتم تجار، تعبدونه من أجل الجنة والنار، أما نحن فنعبده لذاته -محبة فقط- فهؤلاء زنادقة، لأن الأنبياء والرسل عبدوا الله بالثلاثة.
الركن الثاني: الخوف(1/97)
'' ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري '' ومعنى حروري أي خارجي، لأن الخوارج كانوا في مدينة إسمها حروراء قالت عائشة رضي الله عنها، لما سئلت{ : لِم تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة: قالت أحرورية أنت؟ } فهذا هو مذهب الخوارج بدع وابتداع، أي: تريدين أن تقيسي بعقلك وتقضين الصلاة أيضاً؟! فهذا ديننا، والدين لا نسأل فيه ولا نجادل، فالذين عبدوا الله بالخوف هم الخوارج فكانوا يقومون الليل، ويصومون النهار، ويقرءون القرآن، وكانت عبادتهم كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابه: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم } فعندهم خوف فقط، ولا يوجد رجاء، أو محبه، فلم ينفعهم ذلك، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية } إذا رميت الرمية واخترقها السهم وخرج منها.
فهم خرجوا من الدين ومرقوا من الدين.
الركن الثالث: الرجاء(1/98)
'' ومن عبد الله بالرجاء وحده، فهو مرجئ '' وهذا حال أكثر الناس، وإن كان لا يعرف معنى الإرجاء، لكن حاله يدل على ذلك، فتجده يقول: الله غفور رحيم، ونحن من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلما تنصحه في شيء يأتيك بالرجاء، أما والخوف -الله شديد العقاب- فهذا لا يريدونه، والنار لا تذكرها، حتى أن بعضهم بلغت به الوقاحة والسوء، أن يقول: إنه عندما نعلم الأولاد -وهذا كتب في الجرائد- في المرحلة الابتدائية القرآن فيقرءون: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]... وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] ثم يقول المدرس: هذا في النار، يقولون: إن هذه تخيف الأطفال، فهم لا يريدون ذكر النار، فتجدهم يقولون: نحن مسلمون ومتمسكون، والإسلام عقيدتنا وشريعتنا... ومن هذا الكلام، وكأننا لم ننقص عما كان عليه الصحابة، إلا أنهم رأوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن لم نره، فكل أعمالنا شرعية، وأي عمل يعمله الواحد ليس فيه أي خطأ أو قصور، وبعض العلماء يقولون: الدين يسر لا تتشدد فيه.
فهؤلاء يعبدون الله بالرجاء فقط، وينسون الحب، ولو أحبوه لخافوا منه، ولو أحبوه لاستحيوا منه، لأن '' الحياء حياء المحبين '' كما يقول ابن القيم رحمه الله، فإذا أحببت أحداً فإنك تستحي منه أن يراك على شيء لا يعجبه، فكذلك لو أحبوا الله عز وجل لاستحيوا منه، ولما جاهروه بالمعاصي.
إذاً نكون -بإذن الله- قد بينا ما في هذه الآية من دحض لشبهة المشركين، وبيان لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وأنواع التوسل الثلاثة، وأركان العبادة الثلاثة التي اشتملت عليها الآية، وهي آية عظيمة، وكل كتاب الله عظيم، ولو أننا توسعنا في أي آية من كتاب الله، وأخذنا ما فيها من العبر والفوائد، لطال المقام وضاق الوقت.(1/99)
ولذلك نطلب من أنفسنا ومن إخواننا -دائماً وأبداً- الرجوع في المواعظ إلى المواعظ القرآنية، لا إلى الأمثال والحكم وإن كانت تنفع، لكن نجعلها تكميلاً وتحسيناً، والرجوع في العقيدة إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرجوع في الأحكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففيهما البيان والهدى والشفاء والموعظة.
حكم استشعار الأمن في الدنيا
السؤال: الذي يستشعر أنه آمن في الدنيا، هل هذا هو الأمن المقصود في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] وهل يكون مخطئاًَ أو مصيباً بهذا الشعور؟
الجواب: الأخ يتعرض لموضوع الأمن في هذه الدنيا، فهو يقول: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] هل هذا الأمن يكون في الدنيا، والذي يستشعر هذا الأمن في الدنيا هل يكون مخطئاً أم مصيباً؟
فنقول: هناك تفصيل لا بد أن يكون في هذه المسألة:
أولاً: هذا الأمن وهذا الاهتداء: أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] هو للمؤمن الموحد في الدنيا والآخرة ولا ريب في ذلك، وأعظم أمن يأمنه الإنسان في الدنيا، هو أن يطمئن قلبه بذكر الله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فيأمن بذلك ويسكن إليه، والاهتداء بأن يكون مستقيماً، كما ندعو ربنا تبارك وتعالى في كل ركعة: اهدنا الصراط المستقيم ) ولكن هذا الأمن والاهتداء لا يكون لمن أعرض عن ذكر الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فمن أعرض عن ذكر الله ليس له أمن حتى في هذه الدنيا، فلا يطمئن أو يأمن ولا يستقر له قرار أبداً، ولو أوتي من كنوز الدنيا جميعاً.(1/100)
وهذه الدول التي يسمونها متطورة ومتقدمة، وكل الرفاهية الدنيوية موجودة، مع ذلك يوجد الشقاء فيها، حيث الانتحار والقلق والجرائم والفساد والتفكك العائلي، شيء رهيب جداً، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى هل يعني ذلك الأمن أن الإنسان يأمن أنه ليس منافقاً، وليس مشركاً؟
ليس هذا هو المقصود، بل الواجب في هذا أن نخاف منه، يقول الحسن البصري رحمه الله عن النفاق: [[ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق ]] فالمؤمن يخاف من النفاق، ويقول ابن أبي مليكة وهو من التابعين: [[أدركت ثلاثين -وفي بعض الروايات قال: ثمانين- من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلهم يخشى على نفسه النفاق ]].
ولهذا لما قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والحديث له طرق يشد بعضها بعضاً- لما سألت عائشة رضي الله عنها: هل هم الذين يزنون ويسكرون ويتبرجون في الأسواق، ويتعاطون المحرمات -والعياذ بالله- فهؤلاء يفعلونها ويخافون من الله، فهل هؤلاء هم المقصودون في الآية؟
لا، هؤلاء ليسوا مقصودين في الآية، بل هم الذين يصلون ويصومون ويحجون ويزكون، ويفعلون الطاعات، ولكن يخافون ألا تقبل منهم.
فإذاً المؤمن مهما اجتهد واستقام فإنه يضل خائفاً، حتى قال بعض الصحابة: [[لو وضعت قدمي اليمنى في الجنة، ما أمنت حتى أضع الأخرى ]] وهذا من شدة خوفهم رضي الله عنهم، فالمؤمن يخاف من هذه الناحية، لكن هو مطمئن -والحمد لله- من ناحية أخرى أنه عرف الله، واطمأن بذكر الله، فهو مرتاح من هذا الجانب.
ولذلك ما أصابه من مصيبة أو هم أو غم أو أذى؛ فإنه دائماً يسكن ويشعر بهذا الاطمئنان الذي لا يجده أحد أبداً إلا من كان مؤمناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ففرق بين هذا وبين هذا.(1/101)
مرتكب الكبيرة والمبتدع هل يكون مع أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال
السؤال: الزاني والقاتل وآكل مال اليتيم إذا لم يتوبوا هل يأخذون صحائفهم باليمين أم بالشمال؟ وصاحب البدعة إذا لم يتب هل يأخذ الصحيفة باليمين أو بالشمال؟ وما صحة الحديث: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب: هذه قضية فيها إشكال، وهي أننا قلنا: أن أصحاب الكبائر هم من أهل الوعيد.
وداخلون في الوعيد فيأتي الإشكال عند بعض الناس، يقول: عندما يموت الإنسان تأتيه الملائكة، إما أن تأتيه ملائكة الرحمة، وهذا ليس فيه إشكال،إن جاءته باعتبار أنه من المقربين أو من أصحاب اليمين. وهذا واضح.
فالقسم الرابع في سورة فاطر، الذين هم الكفار -أصحاب الشمال- مصيرهم معروف.
لكن الإشكال في الثالث الذي في سورة فاطر أي: الظالم لنفسه.
فمثلاً: مرتكب الكبيرة عند الموت هل يموت ويُتوفى على أنه من أصحاب اليمين أم على أنه من أصحاب الشمال؟ فالزاني وشارب الخمر والمهمل في صلاة الجماعة ومن يعق والديه ومن يتعامل بالربا، هذا نحن متفقون قطعاً أنه ليس من المقربين أو السابقين.
فإما أنه في أصحاب اليمين، وهذا فيه إشكال، إذ كيف يوضع معهم، وهو متوعد أنه من أهل النار.
وإن قلنا: أنه مع الكفار، فهؤلاء كفار وهو ليس بكافر.
فنقول: حل هذا الإشكال من جهتين:
الجهة الأولى: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن يعبر ويبين لنا أعظم الأمور، وغاياتها، أي: عندما يتكلم عن المؤمنين يعطينا غاية وكمال الإيمان, وعندما يتكلم عن الشرك والكفر فإنه يعطينا غاية وكمال الكفر وحقيقتة الكاملة، ولا يبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما كان دون ذلك من درجات، مثل البيان الشافي الكامل الكافي لهؤلاء.(1/102)
فهذا القرآن فرقان يفرق بين الكفار المؤمنين، فهما خطان واضحان متمايزان، لكن كون أهل الوجوه أو الصحائف المبيضة بعضها أكثر بياضاً من بعض، وكون هذه القلوب بعضها أكثر إيماناً من بعض، فهذا شيء آخر غير مسألة بيان هذا من ذاك.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبين لنا المؤمنين أصحاب الدرجة العليا في الإيمان، وعندما يتكلم عن الكافرين يبين لنا الصورة المطلقة من الكفر، وهم الجاحدون المكذبون الذين لا يعرفون الله أبداً.
وأما ما دون ذلك فالتفصيل متروكٌ فيه، وليس هو السائد والأغلب في القرآن، ولكن جاءت السنة ففصلت فيه أكثر.
الجهة الثانية: أن هذه مراحل وعقبات طويلة، فلا ننظر لها من زاوية أخذ الصحائف، أو ملائكة العذاب عندما تأتيه فقط، بل نقول: الإنسان خاتمته بمجموع أعماله -بمجموع العمل الصالح أو مجموع العمل السيئ- فهذا المذنب لو فرضنا أنه آكل مال يتيم،أو زانٍ هذا إن كان مجموع عمله -والله تعالى عليم بما يفعلون: لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، وقال تعالى: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس:44] وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] ولا يضيع الله تعالى عملاً من عملك-.
فإن كان هذا الإنسان مجموع أعماله تغطي على تلك الكبيرة ولا تؤثر فيها، فهذا يكون حشره وموته؛ مع أصحاب اليمين ويأتونه ملائكة الرحمة ليحشر ويصنف مع أصحاب اليمين، وهذا مع وجود الكبيرة، لأن حسناته كثيرة غطت على سيئاته، فهذا احتمال.(1/103)
والاحتمال الآخر: أنه ينال في الدنيا من العذاب، والابتلاء الذي يعاقب به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصحاب الذنوب، ثم يعذب في سكرات الموت، وقد لا يكفي هذا لتكفير هذه الخطيئة، بل زيادة على ذلك أنه يعذب ويمحص في قبره -نسأل الله العفو والعافية- لأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
وبعض أهل الكبائر لا يكفي فيه عذاب الدنيا والنصب والهم والغم، وما يبتلى به عند الموت، ولا ما يبتلى به في قبره من العذاب، بل يعذب في عرصات القيامة، فيكون المؤمنون في ظل العرش، يوم لا ظل إلا ظل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وهو ظل العرش- وفي ذلك الأمن: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الانبياء:103] فرحين آمنين مطمئنين، وأما هو فهو خائف وجل يعاني من العذاب: من عذاب الموقف وأهواله، ومن كربات يوم القيامة، وما أعظمها من أهوال.
ولكن إذا جاءت الصحف ونصبت الموازين وتجلى الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، قد يُكتفى بما عذب به في الموقف والقبر، وعند الموت، وفي الدنيا ويُعفى عنه. فهذا أيضاً درجة.
ودرجة أخرى، أنه قد لا يكتفى بذلك، بل يُزاد على ذلك بأن يحاسبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويناقشه، فيعذب ويقرر بذنوبه، وتشهد على بعضهم جوارحهم، وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، ثم يأتي يأخذ الصحيفة بشماله، ويأتي لجواز الصراط أو الجسر: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] فهو يريد أن يتجاوز فتختطفه الكلاليب -نسأل الله العفو والعافية- زيادة على ذلك لوجود الذنوب والكبائر، ولأنها تطغى على الحسنات فاستحق أن يدخل النار -نسأل الله العفو والعافية-.(1/104)
ثم الذين يُخرجون من النار -وقد اتفقنا أن الموحد لا يخلد في النار، ولا يبقى فيها أبد الآبدين كالكفار، وإنما يبقى فيها أهلها الذين هم أهلها، وهم الكفار والمشركون ومنهم تاركو الصلاة كما بينا- هؤلاء أيضاً درجات، فالعذاب في النار دركات، وليسوا سواءً، وكذلك الخروج ليس سواءً، فالذي في قلبه أدنى مثقال ذرة أسرع خروجاً من الذي في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة، وهذا يخرج قبل من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة كما سمعنا في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه.
إذاً المسألة تتفاوت وتتدرج في مقامات وعقبات، وكلها عقبات أمام العاصي -نسأل الله العفو والعافية-.
فيجب على كل إنسان يعصي الله تعالى بهذه الكبائر، أن يتصور هذه العقبات، وهذه الأهوال أمامه، وأن يبادر ويمحو هذا كله بالتوبة النصوح كما تقدم، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، والإسلام يجبُّ ما قبله , والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فإذا لقي الله تعالى تائباً، ولو لم يتب إلا قبل أن يغرغر -ولننظر إلى الله، وسعة فضله، كيف نخطئ نحن على أنفسنا بأن لا نتوب ولا نستغفر- فمن تاب قبل أن يغرغر وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، غفر الله تعالى له وقبل توبته، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
فإذاً الواجب المبادرة إلى التوبة والاستغفار من هذه الكبائر.
وأما صاحب البدعة فهو كصاحب الكبيرة كما ذكرنا، وهذا إذا كانت البدعة لا تخرج من الملة كما ذكرنا، وإذا كانت بدعة مكفرة فهو من الكفار ومن الصنف الثالث في سورة الواقعة، والرابع في سورة فاطر.
وأما حديث: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها } فالحديث صحيح، وممن رواه بطرقه الإمام ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى في كتابه: السنة ، وجاء في بعض الروايات حجب، وفي بعضها حجز، وهذا دليل على خطر البدعة وأنها أخطر من الذنوب الأخرى.
حكم التوبة من الذنب ثم العودة إليه(1/105)
السؤال: ما حكم من يفعل الذنب ثم يتوب، ثم يعود إلى الذنب ثم يتوب وهكذا يستمر حاله؟
الجواب: فرق بين من يذنب ويتوب ثم يعود، ثم يذنب ويتوب ويعود وهكذا باستمرار، وهو يفعل ذلك استمراءً واستهزاءً ولا مبالاة، ثم يقول: استغفر الله وتبت إليه، ثم يرجع إلى الذنب.
وبين إنسان تاب توبة نصوحة صادقة ثم غلبه شيطانه وهواه فوقع في الذنب، فهذا كلما جُدد له الذنب، يجب عليه أن يجدد التوبة، فهذا مسكين لأنه في معركة، لا هو انتصر فيها وقام، ولا هو غُلب فيها. فهو يَغلب مرة، ويُغلب مرة، لكن الواجب في هذه الحالة أن يتقوى؛ لأن العدو -الشيطان، والنفس، والشهوة- مجتمعون عليه، فعليه أن يستعين بالله، ويقوي إيمانه، إذ ما يدريه أن يدركه الأجل، وهو في حالة الهزيمة أو الضعف وهو مغلوب مرتكب لهذه الفاحشة -نسأل الله العافية-.
ولذلك سوء الخاتمة مما ينبغي أن نتنبه له، وكان السلف الصالح يتنبهون له، فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها } وليس معنى ذلك كما قد يفهم، أنه كان يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر فقط وهو في الحقيقة مشرك ومستهتر وتارك لما أمر الله ولا يبالي به، فإذا جاء الموت عمل بعمل أهل النار، أي: أظهر عمل أهل النار فيدخلها، فليس هذا هو المعنى الصحيح للحديث.
ولكن المعنى الصحيح للحديث: إن الإيمان يزيد وينقص، والإنسان مجتهد يعمل بعمل أهل الجنة، ولكن يضعف دائماً، والنفس البشرية تضعف، فمن كُتبت له سوء الخاتمة -وهذا الذي يجب أن نخاف منه جميعاً- هو من يأتيه الأجل وهو في حالة السقوط، وفي حالة الضعف.(1/106)
والواحد منا يصلي الفجر في خشوع وإيمان وطمأنينة، فيأتي الظهر وكأنه مجبور على دخول المسجد، وهذا ملاحظ ونشعر به، فانتبه أن تلقى الله وأنت في حالة الضعف، وحاول دائماً أن تجتهد وأن تكون في حالة قوة الإيمان وزيادة الإيمان والنشاط للطاعة، وكل النفوس تضعف؛ لكن المهم أن تظل نفسك دائماً متحفزة لأن تكون من أهل السبق والمسابقة والمسارعة في الخيرات والطاعات.
فإذا جاء الأجل ولم تكن على الطاعة الكاملة، فلتكن على سبيل الإدراك لها والسعي لها لحصولها ولا تكن في حالة السقوط -نسأل الله العفو والعافية- كالإنسان الذي ختم له ومات، ولم يصل الفريضة، مع أنه يصلي، لكن تلك الفريضة تركها تكاسلاً عنها؛ فمات ولم يصل، فهذا هو سوء الخاتمة -نسأل الله العفو والعافية-.
وأيضاً رجل -مثلاً- لم يكن مستمراًَ في الفاحشة ولم يكن يزني، فزنى مرة ثم مات -نسأل الله العفو والعافية- أو شرب الخمر ثم مات وهو سكران وهو لم يكن فيما قبل -فعلاً- يشرب الخمر أو يزني.
فهذا مما ينبغي أن ننبه إليه في مسألة التوبة وسوء الخاتمة، فكلما أذنبنا نجدد التوبة والاستغفار، ولنعلم أن هذا العدو لن يدعنا، ولنستعين عليه بالله، ولنقل إياك نعبد وإياك نستعين، فلا بد من الاستعانة وهي أعظم أعمال القلوب.
حكم بعض الكلمات التي يطلقها العامة
السؤال: هل من الشرك بالله أن يقول الإنسان لأخيه: ادخل بالرحمن، وأن يقول أحدهم: الله بالوجود، وغيرها من الألفاظ المنتشرة بكثرة هاهنا؟
الجواب: إذا قال: ادخل بالرحمن، أو قال: معك الرحمن، فبعض الإخوة ينكر هذا، وهذا ليس فيه شيء، فالرحمن معنا بنصره وحفظه وتوفيقه وتأييده، ومن هذه المعاني: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
والمعية معيتان: معية عامة للناس جميعاً: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] أي: بعلمه.(1/107)
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعلمه واطلاعه هو مع الناس جميعاً ودائماً أين ما كانوا، كما بين الله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] وهو بذاته تبارك وتعالى فوق العرش: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استواءه على العرش في سبع آيات من القرآن، وذكر علوه في آيات من القرآن وأحاديث لا تحصى ولا تعد.
فهو تعالى بذاته فوق العرش، لكن بعلمه معنا ومع الناس جميعاً، ولكن هو بحفظه ونصره وتأييده مع المتقين: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] ومعنى ذلك أنه معهم بحفظه وتأييده، فإذا قلت: كان الله معك، فهو دعاء لك بأن يكون الله معك، أو معك الرحمن بهذا المعنى، فهذه حق وصحيح، ويجب أن نحمل الألفاظ المحمل الحسن -إن شاء الله تعالى-.
والله في الوجود ليس فيها شيء أيضاً، بأن يقول: الله في الوجود، أو الله بالوجود، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام:165] إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] فالكلام الذي تقوله العامة بمعنى: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس بغائب عنا، وليس أصم ولا غائباً، كما بيَّن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه، وإنما هو معنا ومطلع علينا.
هم إذاً أرادوا الخير، فقالوا: الله في الوجود، أي: يمكن أن يرحمنا، وإذا أرادوا الشر، قالوا: الله في الوجود، أي يمكن أن يعذبنا، وينتقم من العاصي، فالكلام -إن شاء الله- صحيح، ولا أرى أن ندقق على العامة خاصة في بعض الألفاظ التي نحن طلبة العلم نستخدم ما هو أفضل منها، إنما الذي ينبغي أن نرفق بهم، وأن نعلمهم العبارة الصحيحة، إما صحيحة لغة وشرعاً، أو على الأقل صحيحة شرعاً، وإن كانت بلغتهم أو بلهجتهم العامية.
حكم الألعاب البهلوانية(1/108)
السؤال: حدث يوم الأربعاء الموافق 26/12 حفل ختامي للتنشيط السياحي الذي أقيم في ملعب الفرح على الطريق العام، وبدأ الحفل بالقرآن، وبعض الكلمات وأغاني، ومن ضمن الفقرات خرج رجل يسمى البهلوان إلى وسط المتفرجين، وأحضر معه سيخاً حديدياً، ووضع طرفه في الأرض والطرف الآخر في عينه، ورأى المتفرجون بأنه ثنى السيخ بعينه، وأُحضر له لوح خشبي ممتلئ بالمسامير الحادة، ووضعه على ظهره، وجاءوا بصخرة يحملها أربعة أشخاص، ووضعوها على صدره، وجاءوا بمطرقة ضخمة وفجروا تلك الصخرة على ظهره، وقام وليس به شيء ونزع قميصه، وأراه الجمهور وهو مخرق من جهة ظهره، وقد أصبح حديث الألسن.
نأمل توضيح ذلك هل هذا من السحر أم أن من قدرته أن يفعل ذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: نقول ما فائدة عرض هذه العروض؟ إن كانت تعرض على سبيل أن هذا من الأولياء أو الصالحين، أو العباد الذين لهم كرامات؛ فهذا له جواب.
وعباد الهنود -الآن- يدعون الأمريكيين والأوروبيين إلى دينهم، وليس عندهم دين يدعون إليه، وليس عندهم حقائق يدعون إليها، فيذهبون إلى المدن الكبرى هناك، في نيويورك ، وكاليفورنيا ، وواشنطن ، ولندن ، ويلعبون مثل هذه الألعاب، فيأتي رجل ويدق السيخ في رأسه، ويفعل بالحديد مثلما فعل هؤلاء، ويأخذ حديدة محماة على النار حتى تكون حمراء، ويضعها على الثاني إلى غير ذلك. وهذا قطعاً من السحر ومن استخدام الشياطين -نسأل الله العفو والعافية-.
ولهذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، لما ناظر البطائحية من الصوفية المشركين بالله -والبطائحية الرفاعية هم جماعة وأتباع ما يسمونه الشيخ أحمد الرفاعي - قالوا: علامة أنه على الحق أو أنك أنت على الحق: أن نوقد ناراً وندخلها نحن أو أنت.(1/109)
وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله كان فطناً ولم يكن مثلنا يُضحك عليه، قال للحاكم: نعم. بشرط أن نغسل جلودنا بالنشادر، ثم ندخل أيدينا، فقالوا: هاتوا الحطب، قال: لا نحتاج حطباً كثيراً، يكفي الواحد أن يدخل يديه، لكن المهم أن ندهن أيدينا بالنشادر، فلما رأوا الجد نكلوا ونكثوا.
إذاً فيها حيل شيطانية.
وهذه القصة ذكرها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بنفسه، وذكرها ابن كثير وغيرهم من المؤرخين في حياته رحمهم الله.
فهؤلاء سحرة يجب أن يقتلوا، وبعض الناس لا يقول: أنه ولي، ولا يريد بذلك أن يعظمه الناس تعظيم عبادة، ولكن يعظمونه تعظيم بطولة، فهو نجم وبطل، كلاعبي السيرك -مثلاً- أو غير ذلك، وهذا أيضاً فيه نوع من الاستعانة بالجن والشياطين، أو نوع من التحايل، كأن يضع حديداً مخفياً ولكن لا يراه الناس، ويضربون الحديد، ويظن الناس أنهم يضربونه، لأن كل فن أهله أعرف به، حتى الحيل، وكل شيء أهله أعرف بطريقته وأساليبه.
فإما أن تكون حيلاً وهذه ليس فيها إشكال إلا من جهة أنها توهم الناس فيظنون أن هذا خارق للأسباب.
فالصحابة رضي الله عنهم عندما كانوا يُضربون بالسيوف فإنهم يموتون، مثلما حصل لحمزة رضي الله تعالى عنه، فهل هذا الذي لم يتأثر بالضرب أفضل من حمزة أو أنه أقوى منه؟!
فهذا العمل -لا شك- يُحدث ارتباكاً للناس؛ لأن من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ربط الأسباب بالمسببات، فجعل لكل شيء سبباً، فلو تحركت كأس من مكانها بدون أي سبب فإن كل الناس تندهش! فالله فطر الناس جميعاً على هذا، حتى الصغار والكبار، حتى الجهلة لا بد عندهم من الأسباب.
فمن الأسباب المعروفة أن شخصاً نضع على بطنه صخرة، أنه يموت، فكيف يأتي واحد وتوضع الصخرة على بطنه ومع ذلك لا يضره؟!(1/110)
فنكون بهذا هدمنا قاعدة متعارف عليها قطعاً، وهي قاعدة الأسباب والمسببات، فهذا يؤدي إلى إرباك في العقل، وهذا الارتباك منه يدخل الفساد والشر والشرك والإلحاد؛ لأن الله تعالى لم يفضلنا إلا بهذه العقول، ولم يأمرنا أن نسير في الأرض ونضرب في مناكبها إلا بناءً على أن هناك أسباباً معينة، إذا أخذنا بها نلنا ما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا ضاعت هذه الارتباطات العادية -وهي الأسباب والمسببات- فإننا نتيه بعد ذلك، ويصير الواحد منا يصدّق ما لا يُصدَّق، وينكر ما لا يجوز إنكاره.
فهي على أي حال من المنكر الذي يجب أن يحارب، وفيما أعلم أن هذا ممنوع، فقبل حوالي عشرين سنة من الآن، ونحن ما زلنا طلاباً في المدرسة، جاءت فرقة هندية، وأرادت ان تعمل سيركاً في الباحة ، فمُنعوا وجاء أمر بمنعهم من إقامته، بسبب أنه كان يشتمل على هذه الألعاب البهلوانية كما يسمونها.
حكم التعامل مع البنوك
السؤال: أنه سُئل بعض العلماء عن شركة الراجحي أنها تشتري سيارات ثم تبيعها للمواطنين بالتقسيط، فقالوا: لا بأس بذلك، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب: ليس هذا كل ما في الأمر، لكن بعض الناس قالوا: إذا كانت الشركة تتعامل بالربا، وكانت هذه المضاربة إسلامية فلا بأس بذلك؛ لأن المعاملات الربوية في البنوك لا تمنع أو تحرم المعاملات الإسلامية فيها.
والصحيح أن هناك فرقاً بين العقد المنفصل وبين ما كان من ضمن العملية الربوية، أي: أن الأصل في البنوك والتمويل هو: الائتمان والإقراظ والإيداع، هذا هو عمل البنوك، لكن كون الواحد مرابياً لكنه -مثلاً- يبيع الأسمنت، أو مواد بناء، أو أخشاباً وعمل فيها مضاربة، فإن هذا العمل يعتبر صحيحاً وخارجاً عن الربا.(1/111)
فهذا العمل غير العمل الذي هو عمل البنك الأساسي، الذي يكون فيه البنك مكاناً للتسجيل والقيد، حيث أن الإنسان يودع المال في البنك، ويقول له البنك: ماذا تريد، هل مضاربة إسلامية أو على عادتنا -أي بطريقة الربا-؟ قال: لا. أنالا أريد رباً.
فهذا الأمر يعتبر استهزاء بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستهزاء بأهل الدين الذين يذهبون إليهم ويقولون لهم هذا الكلام.
والمقصود أن المرابي لوعمل أي عمل آخر خارج الربا فإن هذا العمل يعتبر حلالاً، ولا نقول: إن كل معاملات المرابي حرام، لكن إذا كانت مما يدخل من ضمن عملية الربا من التمويل والإئتمان والإيداع...إلى آخره -كما تتعامل به البنوك- فهذا هو الحرام.
فهذا المال الذي تتعامل به البنوك حرام، وهذا يقع كل يوم، وليس في كل شهر -مثلاً- أو سنة، حيث يقفّل الرصيد كل يوم على مبلغ معين، وتتم المقاصّة في مؤسسة النقد بين البنوك، ماذا أخذ، وماذا أعطى؟ فهم لا يقولون: هذا احسبوه مع حق الإسلام وهذا احسبوه مع الربا، بل كله مختلط ليس فيه فرق، ولا نضحك على أنفسنا.
حكم طلب الدعاء من أهل الخير والصلاح
السؤال: ما حكم طلب الدعاء ممن يظن به الخير والصلاح كالعلماء؟ وهل طلبه منهم من التواصي المشروع أم لا؟
الجواب: شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله يقول: ليس به بأس، ويستدل بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر : { لا تنسنا يا أخي من دعائك }.
فطلب الدعاء من الصالحين لا بأس به -إن شاء الله- وجائز، ولكن هناك فرق بين الجائز وبين المندوب إليه أو المطلوب والمستحب والمشروع.
فالواجب أو المطلوب أو المشروع في الدعاء هو أن يُدعى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مباشرة، ودعاء العبد لربه بنفسه قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، لكن أن يطلب من غيره أن يدعوَ له -أي: أخ في الله صالح أو من العلماء- فهذا جائز، وأيهما أفضل الجائز أم المشروع والمندوب؟(1/112)
المشروع أفضل، فلا يجعل ذلك على سبيل الاتكال فلا يدعو الله، وإنما يظل يذهب ويزور الصالحين وأهل الخير ويقول: ادع لي، ولا يدعو الله هو، بل الصحيح أن تدعو الله، وهذا هو القاعدة والأصل، ولا بأس أن تقول لأحد إخوانك: ادع لي.
حكم قول القائل: لو لا الله وفلان، ولولا العالم الفلاني
السؤال: قول الناس: لولا الله وفلان، ولولا العالم الفلاني، هل هذا من التوسل المحرم؟
الجواب: هذا من الألفاظ الشركية، وهو من شرك الألفاظ، كقول: ما شاء الله وشئت، فعندما قالها الرجل، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أجعلتني لله ندّاً؟! قل ما شاء الله وحده } والحلف بغير الله بغير نيّة تعظيم المحلوف به كتعظيم الله، أو أن يقول لولا الله وفلان، هذا من شرك الألفاظ، وهو شرك أصغر، ولكنه ذريعة ووسيلة إلى الشرك الأكبر.
وإذا اقترن به اعتقاد صاحبه أن هذا المحلوف به أو هذا الذي قيل فيه لولا فلان أنه هو فعلاً الذي يؤثر تأثيراً مستقلاً بذلك، وهو صاحب الأمر والتدبير والشأن، فإن ذلك يكون شركاً أكبر.
وكثير من الروافض والصوفية -والعياذ بالله- يعتقدون أن الله تعالى فوّض الأمور إلى الأولياء، فأعطى عبد القادر الجيلاني مفاتيح الأقاليم السبعة، أو أعطى كل واحد من الأولياء مفتاح إقليم من الأقاليم، وأنه يدبّر ويرزق ويحيي ويميت -والعياذُ بالله- وهذا شرك أكبر.
إذاً إذا قال: لولا عبد القادر الجيلاني لم يحصل شيء، بنية التفويض في التصرف، فهذا شرك أكبر، أما إن قال: لولا فلان ما جاء كذا، فهذا من الألفاظ الشركية التي يتحرز منها، لأنها قد توهم وقد تؤدي للشرك الكبر، فيقول الإنسان: لولا الله ثم فلان.
حكم دفن أطفال الكفار في مقابر المسلمين
السؤال: يقول الأخ: إذا مات طفل من أبوين نصرانيين في بلد الإسلام، فهل يدفن في مقابر المسلمين نظراً لفطرته، أو ماذا يعمل به وهذه واقعة في إحدى المستشفيات.(1/113)
الجواب: هذا مما يبين لنا خطر ومخالفة وإجرام وذنب من يستقدم الكفار إلى جزيرة العرب ، لأنه لا يجتمع فيها دينان، وهذه من الشواهد ومن الأدلة على صحة وتأكيد هذا الخطر.
فإن المعصية إذا ارتكبت فإنها تستتبع وتستلزم معاصي، فلمّا أدخلناهم بلادنا، وعصينا الله ورسوله، وأتينا بهم إلى بلاد الإسلام الطاهرة، جاءت مشاكل إذا ماتوا، أو مات أطفالهم.
وقد قال بعض الناس: أحسن شيء أن نفعل لهم مقبرة خاصة، وهذا يمكن أن يكون اجتهاداً أو غفلة أوجهلاً، وقالوا: لماذا لا نجعل في كل مدينة مقبرة للكفار؟ فهم يريدون أن يجعلوا لهم وقفاً في بلاد المسلمين، فيزورونهم ويأتي إليهم أهلوهم، ويوماً من الأيام يطالبون بالأرض.
فهذا من غاية الغفلة والغباوة، فإنه لا يجوز دخولهم فكيف نجعل لهم مقبرة؟!
وبالنسبة للطفل فإن الطفل تبعٌ لأبويه في الأحكام، فلذلك الطفل النصراني يعتبر من النصارى، والطفل اليهودي يعتبر من اليهود ما دام أبواه موجودين، ويخرج من هذا الحكم في حالة ما إذا وجدته في بلد فيها مسلمون وفيها كفار، أو في حي من أحياء اليهود والنصارى، وهو مولود، لا يعلم له أب -فهو لقيط- فأخذته أنت، فهذا يكون حكمه الإسلام؛ لأن الأبوين ليس لهما عليه ولاية، أو سلطة.
فالطفل يعتبر تبعاً لأبويه، ولهذا لا يجوز أن يقبر في مقابر المسلمين.
حكم الالتزام ببعض الأدعية عند العزاء والجنازة
السؤال: ما حكم الالتزام ببعض الأدعية عند العزاء والمشي بالجنازة؟
الجواب: كثير من الناس يردد عبارات غير مشروعة في العزاء والجنازة، مثلاً: ارحم ارحم، أو يقرءون الفاتحة وهم يحملون الجنازة، أو أي شيء غير مشروع، وهذا كله بدعة، وإنما السنّة في مثل هذا هو الدعاء، فكل إنسان يدعو للميت بالرحمة والاستغفار، ويتذكر الآخرة، ويمشي في الجنازة، وله في ذلك من الأجر قيراط -إن شاء الله تعالى-.(1/114)
وأمّا الدعاء بعد الدفن فهو الدعاء بالتثبيت، لأنه في تلك اللحظة يُسأل، ولا بأس أن يدعو الإنسان بأي أدعية، ويتضرع إلى الله بأنواع من التضرعات والتوسلات التي ذكرناها في أسماء الله وصفاته، بأن يثبته، وهذا لا بأس به ما دام لم يلتزم دعاءً معيناً، ويظن أن هذا الدعاء هو المشروع، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشرعه.
كيفية الرد على من يؤول آيات المعية
السؤال: الله تبارك وتعالى يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] فإذا سألنا أحد أين الله؟ نقول له: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { سأل الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء } فيقول: بل معنا في كل مكان، وهذه الآية دليل على ذلك، فكيف نوفق بين هذا وذاك؟
الجواب: الله تعالى معنا في كل مكان بعلمه وهذه الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [المجادلة:7] وفي آخرها قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7] فإذاً هو معنا بعلمه، لكن بذاته عزّ وجل على العرش استوى.
إذاً لا يوجد إشكال والحمد لله.
وفي الآية الأخرى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] قال بعض أهل البدع: إذاً هو في الأرض موجود وفي السماء موجود بذاته، فنقول لهم: هذا المعنى لا يصح، بل الصحيح أنه في الأرض إله معبود، وفي السماء إله معبود، وهو المستحق وحده للعبادة.(1/115)
حكم قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بحبي للصالحين
السؤال: هل يجوز أن يقول أحد: اللهم إنّي أتوسل إليك بحبّي للصالحين من العلماء والدعاة؟
الجواب: قوله: اللهم إني أتوسل إليك بأني أحبّ فلاناً، وما أحببته إلاّ فيك، ولوجهك الكريم -مثلاً- فهذا صحيح وجائز، لأن الحب في الله أوثق عرى الإيمان، فإذا دعوت الله بالحب في الله، فقد دعوته بأمرٍ وعمل صالحٍ مشروع فلا بأس بذلك -إن شاء الله-.
حكم الواسطة في طلب غرض دنيوي
السؤال: ما رأيك في الواسطة التي يتوسط بها الناس للحصول على عمل، هل فيها شرك؟
الجواب: إذا كان شخص يريد واسطة لوظيفة أو عمل فهذا لا يعتبر شركاً، بل هذه أسباب دنيوية.
لكن: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85] فهذا حسب النوع، إن رأيت شاباً محتاجاً وتوسطت في إدارة من الإدارات، ليعمل شاب جيد، وفي وظيفة طيبة، فهذا لا بأس به.
وإمّا إن كان -والعياذ بالله- العمل شر أو فساد، كالخمر أو الزنا، أو فيه رشوة، أو الواسطة هذه حجبت حقاً لأحد، أو حرمت إنساناً من حقه، أو أعطت ظالماً وكبتت مظلوماً، فهذه تكون شفاعة محرمة.
الدليل على وجود صحوة إسلامية في خارج المملكة
السؤال: هل هناك صحوة إسلامية خارج المملكة ، وإذا كان ذلك صحيحاً، فما دليلكم على ذلك؟
الجواب: نعم هناك صحوة موجودة -والحمد لله- في كل مكان، والأدلّة على ذلك أنهم يطالبوننا كل يوم، وكل حين بإرسال الكتب والدعاة، وهم يصبرون على ما يصبر عليه الشباب هنا، وهم في مصر والجزائر وغيرها من البلاد يتحملون ما لا نتحمل، فنحن هنا نجد معنا على الحق أنصاراً وأعواناً، ومجتمعنا يقبل الخير -والحمد لله- وعندنا بعض الأحكام المقامة، لكن هناك تجد القوانين الوضعية والمجتمعات تنكر عليهم، ومع ذلك يقاومون ويطبقون السنة.(1/116)
فالفتيات محجبات، والشباب على السنة -إن شاء الله- في إيمانهم، وكذلك في مظهرهم، ويدعون إلى الله، ويؤذون في سبيل الله، وكثير من الدول وخاصّة التقدمية ، وكذلك البعثية ، السجون فيها ممتلئة إلى الآن وإلى هذه اللحظة من الشباب المؤمن، حتى في أمريكا بلد الفساد والإلحاد تجدهم من جميع الدول -من المملكة وخارجها- يعيشون هناك عيشة الأطهار الأبرار في مجتمع الكفار الفجّار، فهذا موجود والحمد لله.
هل قبر الحسين في القاهرة؟
السؤال: أخ يقول: سمعت من أحد المشايخ أن الذي في مكان قبر الحسين في القاهرة هو مكان لرجل نصراني، فما صحة هذا؟
الجواب: أنا لا أعرف هذا ولا أجزم بذلك، لكن الحسين ليس موجوداً هناك لا كله ولا رأسه، وهذا مؤكد قطعاً.
نصيحة حول كيفية الدعوة
السؤال: أنا مصري أعمل هنا، وإذا ذهبت إلى القاهرة أريد أن أوضح للناس فساد ما يعتقدونه في قبر الحسين ولا أستطيع، فما هي الطريقة التي تنصح بها لإنكار هذا المنكر العظيم؟
الجواب: أولاً: نسأل الله أن يوفق هذا الأخ الكريم، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، وجعلنا الله وإياكم جميعاً ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهذا من فضل الله عز وجلّ أن يكون فينا دائماً ممّن إذا سمع شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استجاب، فهذا الأخ نوّر الله قلبه، وعرف أن هناك واجباً عليه ما دام عرف التوحيد أنه إذا ذهب إلى بلاده أن يدعوهم إليه، وأن يحذّرهم من الشرك.(1/117)
أمّا الطريقة، فعليك بالوسيلة التي ذكرها الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] فخذ الناس بالإقناع رويداً رويداً، إبدأ بأقاربك، مثلاً: زوجتك أو أقاربك أو أعمامك أو زملاؤك بمن يثق بكلامك، ومن يحبه واطرح الموضوع كقضية عقلية هادئة، وبيّن له بالأدلة الشرعية المبسطة، وبين له الذي ينفع والذي يضر، فإذا جئتهم بالأسلوب الطيب -إن شاء الله- يُلين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لك قلوبهم.
كيفية إزالة مواطن الشرك
السؤال: في منطقتنا مكانٌ يسمى جبل لقمان ويدّعون: أن قبر لقمان فيه، ويقوم بعض الناس بدعائه فما العمل؟
الجواب: هذه أول مرة أسمعها، وقد كانت عندنا شركيات، وكان الناس يذهبون للجبال والقبور، فإن كان بقي أحد يذهب إليه ولو نادراً، أو قد يعاد الذهاب إليه فيجب إزالته بالكلية، ومن فعل ذلك فليحتسب الأجر العظيم عند الله، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرسل علياً رضي الله عنه على أن: {لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا صورة إلا طسمها } وكما أرسل خالداً رضي الله عنه فقطع رأس العزى.
فهذا يحتسب الأجر العظيم عند الله، ففي بعض المناطق في جهة ينبع وما حولها كُتب عنها، فجاء الدفاع المدني وفجّر صخورها بأمر من رجال سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله، فهذه تفجّر وتزال وإن كانت نسيت بالمرّة -فالحمد لله- ونسأل الله أن تنسى نهائياً.
حكم قول القائل اشفع لي يا محمد!
السؤال: ما حكم من يقول: اشفع لي يا محمد؟
الجواب: هذا دعاء لغير الله وهو من الشرك الأكبر، ولكن نسأل الله ونقول: اللهم شفّع فيَّ رسولك، فنسأل الشفاعة من الله، وندعو الله أن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة.
معنى قوله تعالى: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)(1/118)
السؤال: ما معنى قول الله تعالى: وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44]؟
الجواب: المعنى: أن الله تعالى أمر السماء أن تقلع عن المطر، وأمر الأرض أن تتشربه فغاب في الأرض، ومعنى غاب أي: هبط ونزل في الأرض، واستوت على الجودي أي: استقرت السفينة على جبلٍ يسمى الجودي، ولو سأل سائل: أين يقع، وكم طوله، تقول: هذا لا يهمنا ولم يتعبدنا الله بذلك.
حكم من توفي وبقي عليه يوم من شهر رمضان، وحكم الصيام عنه
السؤال: الأخ يقول: إن جدته توفيت وبقي عليها يوم من شهر رمضان، فإذا صامت ابنتها عنها، فما الحكم؟
الجواب: إذا صامت ابنتها عنها فهم مأجورون على ذلك، وإن لم يفعلوا فالصيام على أيّة حال قد سقط عنها لعجزها.
حكم إرسال البنات للسكن في السكن الداخلي للجامعات
السؤال: مسألة أن بعض الآباء من منطقة يرسل بناته إلى منطقة أخرى، ويقول: لم يقبلوها في المدارس التي في الباحة ، فنرسلها لجدة ، وقال: تسكن في السكن الداخلي، فما حكم ذلك؟
الجواب: عجيب جدّاً، والله لو تعلمون ما الذي يجري وماذا جرى في السكن الداخلي في جامعة جدة وغيرها! لكان الإنسان يحبس ابنته بالسلاسل، ولو تعيش صمّاء بكماء عمياء، وليس فقط ألا تتعلم وألا تأخذ الجامعة، فهناك تحدثت مصائب وفتن، فهم عندهم إذن بالرحلات الجماعية إلى البحر، ورحلات تسويقية، وحضور حفلات، وخروج مع الزميلات، فضلاً عمّا يحدث داخل السكن من أمور وهي ثابتة، والهيئات تتابعها، والدعاة يلاحقونها، وبعض المخلصين في الجامعة يتابعها.(1/119)
فحقيقة أنه شيء عجيب جدّاً أنك تجد الرجل فيه الدين والأصالة والعادات الطيبة، ثم يرسل ابنته هناك، يقولون له: أين ابنتك؟ قال: في السكن الجامعي،لماذا؟ قال: من أجل أن تأخذ شهادة، سبحان الله! يكتب في الجرائد تقريباً كل يوم أن أخذ البنت للشهادة العليا أصبح سبباً في حرمانها من الزواج، فماذا أفادت هذه الشهادة؟! حيث تصبح المتخرجة من الجامعة ترضى أن تكون زوجة لرجل طاعن في السن، والأمر ليس فيه شيء، لكن هي ترى أنها حُرمت، وترى أنها تصبح زوجة ثانية، وأيضاً أمر الزوجة الثانية ليس فيه شيء، لكن هي ترى أن أختها التي في المتوسطة أو في الثانوي، أخذت شاباً وارتاحت، وهي أخذت كبيراً أو زوج الثانية، ولا يوجد أمامها إلا ذلك، وإلا لن تتزوج، فأصبح تعليمها نكبةً عليها -نسأل الله العفو والعافية-.
كيفية دعوة الشباب المسلم إلى الالتزام
السؤال: كيف ندعو الشباب المسلم غير الملتزم إلى الالتزام، وما هو أول شيء ندعوهم إليه؟
الجواب: يجب عليك أن تتعرف عليه قبل أن تدعوه، أي: هل هو من أهل اللهو والغناء، فإذاً ندعوه إلى معرفة الله، وتعظيمه، وتعظيم أمره، ونخوفه بالله واليوم الآخر، ثم ندخل في النصيحة إلى أن يترك هذه المعصية، وليس من الضرورة أن نبدأ بها أول مرة، ولكن المهم أن يكون في أذهاننا أن يترك ما هو عليه.
وإن كان آكل ربا، ومحافظ على الصلاة في نفس الوقت فإذا جئته وذكرته بالصلاة، ووجوب الصلاة، وأهميتها وضرورتها، وما أعد الله للمحافظين عليها، قال: الحمد لله هذه كلها نفعلها، وإن شاء الله لا نقصر فيها، والمصيبة الكبرى عنده في الربا، فنحتاج أولاً أن نعرف واقعه ثم ندعوه.
ولو كان من أهل البدع -وبعض البدع مكفرة ومخرجة من الملة- فلا ينفعه صلاة أو جهاد، ولا أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر إن كانت البدعة مما يخرج من الملة -نسأل الله العفو والعافية-.
فإذاً نحن نتعرف على الشاب ثم ندعوه إن شاء الله.(1/120)
توضيح للثلاثة المقصودين في قول النصارى: ثالث ثلاثة
السؤال: نرجو توضيح من هم الثلاثة المقصودون في قول النصارى: ثالث ثلاثة؟
الجواب: النصارى من شركهم يستفتحون صلاتهم ومواعظهم في كنائسهم بقولهم: باسم الأب والابن وروح القدس، وهذه هي الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، لكن كما قال ابن القيم رحمه الله قال: '' لو اجتمع من النصارى عشرة نفر لتفرقوا في عقيدتهم على أحد عشر قولاً '' فإذا فتح أحدكم -ولا نعني أي أحد لكن من يعرف هذه الأديان وضلالها وباطلها- ليسمع ساعة الإفساد التي يسمونها ساعة الإصلاح في مونتكارلو وغيرها، فيجد أن المذيع لا يستطيع أن يحدد بالضبط العقيدة، حيث لو حدد لاختلفوا فيه، فهو يقول: إنه المسيح والمخلص والمنقذ وكذا، والثلاثة واحد والواحد ثلاثة، لكن العلاقة بين هذه الثلاثة يقولون: هذا سر، علينا أن نؤمن ولا نفكر، كيف تؤمن بهذا الضلال ولا تفكر فيه؟!
فالحمد لله الذي ميزنا بالتوحيد، ففي أوروبا وأمريكا تجد الإنسان من عباقرة العلم الدنيوي، في علم الفلك أو علم الفضاء أو علم الذرة، وفي العلوم الطبيعية والتجريبية، فإذا سألته عن دينه يستحي -والله أكثرهم يستحي- وبعضهم يقول: اترك جانب الدين، لا أريد أن أتكلم فيه،وإذا رأى أن المسألة فيها إلزام يقول عن نفسه: أنه غير متدين أصلاً، لأن ليس عنده شيء يدافع عنه.
وإذا تكلمت مع أستاذ رياضيات مثلاً -وكل واحد يعرف مبادئ الرياضيات- تقول له: كيف هذا واحد وهذا واحد وهذا واحد، وأنتم تقولون: الأب، والابن، وروح القدس، إله واحد، فكيف الثلاثة واحد؟! فيقول لك: لا أعرف.
وأكثر الغربيين المفكرين يريح نفسه، ويقول لك: هذا موضوع الدين لا أفتحه ولا يهمني، لكن إذا كان شخص منهم متعصب، ممن يريدون أن ينصّروا -وهؤلاء خطرهم عظيم- فإنه يقول: لا. هذه عقيدة عظيمة، وهذا سر، وإذا سمعت كلامه وفلسفته، وذهبت إلى غيره فإنك تلاحظ كلاماً آخر، وغيره كلام ثالثاً... وهكذا.(1/121)
وكل كنيسة لها مذهب، فالبروتستانت لهم رأي، والكاثوليك لهم رأي، وكل واحد له رأي، وكل شخص يفسر ويترجم على حسب هواه، والقصص الواقعية في هذا الشأن كثيرة.
وقد قال لي أخ قابلته وكان نصرانياً ثم هداه الله للإسلام، وهو رجل آتاه الله ذكاءً وفهماً، فسألته فقال: أنا ألخص لك الموضوع في كلمة واحدة، الإسلام دين بلا رجال، والنصرانية رجال بلا دين.
فالإسلام دين حق وقوة لكن من يدعو إليه وينشره ويطبقه، ومن يقيمه حتى يراه الناس؟
نحن إن دعونا الناس إلى الإسلام بأقوالنا، فأعمالنا تقول لهم لا تفعلوا، وهذه حقيقة، وإن لم نعترف بالحق فلا خير فينا أصلاً، فيجب أن نعترف بقاعدة العيب والخطأ.
وهذا الغرب على ما فيه من ضلال وكفر وظلمات، هم مثل ناس في الظلام، لكن وضعوا علامات وأعمدة، فيمكن للواحد أن يمسك بهذه أو بهذه، فهم لم يروا شيئاً، وهم في ظلام،ولم يدخلوا الجنة،ولم يروا النور؛ لكن بناءً على هذه العلامات وتمسكهم بها،قاموا في الدنيا،واستعمروا العالم، وفرضوا فكرهم وثقافتهم ورأيهم وهم أصغر قارة في العالم، وكانوا أمنع الناس من ظلم الملوك،وأرأفهم بالضعيف والمسكين،كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عنهم، وهذا موجود في أوروبا ، وأمريكا ، فالإنسان هنالك له دينه، ويستطيع أن يتكلم ويطالب، والنظام هو المهيمن على حياتهم، ولا يوجد وساطات.
لكن نحن في النور، والحمد لله مثل الشمس في رابعة النهار، لكن نمشي وبعضنا يصدم بعضاً، وبعضنا يضرب في بعض، فلا نستطيع أن نمشي في خط مستقيم، مع أننا في النور، وهذا الفارق بيننا وبينهم، فمع أنهم في الظلام إلا أنهم تمسكوا بالنظام والعدل وبأشياء غطت ما عندهم، فتكلمهم في أي موضوع إلا الدين فهم يستحون ويخجلون منه، أما المسلمون -والله المستعان- فدين ولكن بلا رجال.
حكم بعض الجماعات التي تدعو إلى الله وأصلها يحتوي على الشرك(1/122)
السؤال: يقول: بعض الجماعات تدعو إلى الله، ولكن أصلها يحتوي على الشرك، سواءً كان في المؤسسين،أو في بعض الأفراد وهي خارج هذه البلاد، وبعض الجماعات أول ما تدعو إلى أن يكون الإنسان بنفسه داعية؟
الجواب: من يدعو إلى الله وهو متلبس بالشرك، هذا في الحقيقة لم يدع إلى الله.
وإذا كان أول ما ندعو إليه هو التوحيد وترك الشرك، وهو متلبس في الشرك،فلا فائدة ولا خير في ذلك كما أشرنا.
وكون الإنسان أول ما يلتزم يُجعل داعية،هذا من الغلط الذي لا تقره العقول السليمة فضلاً عن أحكام الشرع، كيف تأتي بإنسان جاهل، ثم تجعله يدعو ويتكلم؟!
وهذه مشكلة، فإذا الأعمى قاد الأعمى سقطا معاً في الحفرة، لكن يجب أن تكون الأمة المدعوة يقودها الدعاة والعلماء الربانيون، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79].
منزلة الولاء والبراء من التوحيد
السؤال: هل صحيح أن التوحيد له هذه الأقسام الثلاثة فقط: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، أم أن هناك أقساماً أخرى، وهل الولاء والبراء -مثلاً- من التوحيد، فهو يدخل في الأنواع الثلاثة؟
الجواب: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، هذا أعظم شيء أمر الله تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وحث عليه الإسلام؛ بعد الشهادتين، فهو من جملة الاعتقادات، ومن الأحكام العملية المتعلقة بالاعتقادات، وهي جزء من الشهادتين.
والركن الثاني هو الصلاة، لكن من حيث أن حقوق لا إله إلا الله الاعتقادية القلبية كثيرة، فمن أعظمها ولازمها المعاداة للكفار.
وعندما يقول إنسان: لا إله إلا الله، فإن لها ركنين: النفي والإثبات.(1/123)
فالنفي: لا إله، وهي نفي الألوهية عما سوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويدخل في ذلك النفي، البراءة من الشرك والمشركين، فلا يعقل أن شخصاً يقول: أنا أتبرأ من الشرك؛ لكن تجده يحب المشركين: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149] إلى آخر الآيات.
فهذه قضية مهمة جداً، وهي داخلة ضمن تحقيق توحيد الألوهية، وإن لم نجعلها قسماً من أقسام التوحيد.
سبب حالة الذل والهوان في الأمة
السؤال: موضوع الموالاة والمعاداة، وأن الإسلام حكمه في التعامل مع الكفار، لا بد من الإسلام أو السيف أو الجزية، وأن واقعنا الآن هو غير ذلك، فهل هو عبارة عن صلح دائم إلى قيام الساعة؟
الجواب: ليس هذا صلحاً، والصلح لا يدوم إلى قيام الساعة، بل المسألة مسألة ذل، لقد ضربت علينا الذلة والمسكنة -والعياذ بالله-.
لأننا حل بنا ما حل ببني إسرائيل، أعرضوا وأعرضنا، وأنكروا وأنكرنا-والحمد لله الطائفة المنصورة موجودة، ولكن نتكلم الآن عن عموم الأمة- وعطلوا حدود الله وعطلناها، وأكلوا الربا وأكلناه، ما فعله بنو إسرائيل واستحقوا به الذله والمسكنة فعلناه -والعياذ بالله- فلا بد إذاً أن نأخذ نصيباً من ذلك.(1/124)
وإن كنا -ولله الحمد- نحن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنا طائفة منصورة ، لأن بني إسرائيل كلهم قد ضلوا وانحرفوا إلا بقايا قليلة منهم، ولم يكن فيهم ربانيون وأحبار ينهونهم.
فالمقصود أنا لما أخذنا نصيباً وافراً من اتباع اليهود والنصارى، أصابنا حظ كبير مما توعد الله به اليهود والنصارى، ولا يُعقل أو يُتخيل أن الله يعذب اليهود لأنهم أكلة ربا، ونحن أكلة ربا يبارك لنا ويعزنا وينصرنا، فإنه ليس بين الله سبحانه تعالى وبين أحد من خلقه نسب أبداً، فإبراهيم عليه السلام يقول الله تعالى عنه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] وحق لإنسان أن يريد الخير له ولذريته، فقال له ربه: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فلا مجاملة، من ظلم من أبنائك يعامل معاملة الظالمين، معاملة النمرود ، أو فرعون، فنحن الآن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعمل أعمال اليهود وأخلاق اليهود، ونقول: أين النصر الذي وعد الله به المسلمين؟
فحالنا اليوم هو سبب لهذا الذل، وأكبر علامة على هذا الذل، أن الدويلة اليهودية -لم نكن نسميها في السابق إلا دويله وعصابات، والآن لم نعد نسميها عصابات، لأنها أصحبت أمة- الصهيونية تضرب مقراً في تونس على بعد خمسة أو ستة آلاف كيلو متر عنها، وتضرب في العراق على مسافة ألف كيلو متر، وتهدد بضرب المفاعل الذي في باكستان ، وتفرض رهبة على المنطقة كلها، وهم عددهم يقال: ثلاثة ملايين أو أربعة، وماذا يصنعوا لو وصلوا إلى عشرة مليون أمام ألف مليون؟!
فالقضية ليست قضية عدد، حتى نعرف أنه ما كان هذا الذل والهوان؛ إلا لأنا عصينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/125)
فأصبح المجرمون هؤلاء يصولون ويجولون؛ ولو قمنا لله قومة حق لنصرنا الله على أعدائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا أصبحت القضية عندنا كما ذكر السائل كأنه صلح دائم مع الكفار -والله المستعان- نسترضيهم وغاية ما نفعل أننا نشجب العدوان.
حكم السحر وعلاجه
السؤال: انتشر السحر في هذه الأيام بشكل كبير، فما هو تعليق فضيلتكم على هذا؟ وما هو علاج السحر؟
الجواب: أقول: -ومع الأسف- إن السحر انتشر في هذه الأيام بشكل مذهل، وربما انتشر في بعض البيوت، وأقول هذا تنبيهاً للإخوة الكرام الذين لا يدرون بانتشاره عن طريق النساء والزبانية الأخفياء، والمداخل الخفية دائماً،ولو فتشتم البيوت لوجدتم شيئاً عجيباً من هذا، لأنه مما يبلغنا ومما يكتب إلينا ونكلف به شيء عجيب، وبالذات في بعض المناطق. فبعض النساء لا تريد أن يتزوج زوجها عليها، فما الحل؟
فكرت وسألت فقيل لها: هاتِ مائة ريال وأعطيك ورقة تضعينها في المطبخ أو في غرفة النوم, ثم لا يعود زوجك يفكر في غيرك أبداً، ولا يسمع ولا يبصر غيرك، وقد تؤثر هذه الورقة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر التأثير، فقال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].(1/126)
فالسحر منتشر، وإن لم يكن هنا بكثرة فهو منتشر في تهامة ، وهذا السحر كفر باعتراف معلمي السحر، فالذين علموا الناس السحر -هاروت وماروت- اعترفوا بذلك، وهذا ليس كلام أحد من الناس، بل كلام رب العالمين، يقول تبارك وتعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] فهم يقولون: تعال نعلمك، وإنما نحن فتنة فلا تكفر، فلا يشك أحد بعد هذا أن السحر كفر، وكيف يكون هذا السحر إلا بالذبح للجن، وإهانة القرآن -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وأعطيكم علامة، والعلامات كثيرة، والسحر كثير:
أي شخص يسمونه طبيباً، إذا ذهب إليه شخص، أول خطوة يبدؤها يقول له: ما اسمك؟ واسم أمك؟ فاعرف أن هذا مشعوذ ساحر كاهن دجال، فهذا أول شيء يبدأ به معك، ثم يريد يعرف نجمك، وقد يأتي زوجان مع كل واحد منهما برج، وزوجان آخران معهما البرجان نفسهما، فنجد أن الزوجين الأوليين متفقان تماماً، وأن الآخرين مختلفان تماماً. وهذا واقع في حياة الناس، ولكنهم يضحكون بهذه الأبراج على البسطاء.
ولهذا لو كان هؤلاء الذين يقولون: نحن نفك السحر لوجه الله، ولا نتعامل إلا مع الجن المؤمنين الطيبين، ونحن نفعل الخير، لو كانوا كذلك فليظهروا أنفسهم وأعمالهم، وليبينوها للناس، ويناقشهم في ذلك من يناقشهم، ويقبل ذلك من يقبل، لكن هذا التستر وهذا التخفي، لو كان عنده حق لماذا يخاف؟
ولو رأى هذا الساحر سيارة حكومية، أو رجل أمن، فإنه يقول: ما دام رجل أمن أو سيارة حكومية، فقد جاءوا يقبضون عليَّ؛ لأنه يعرف أنه مذنب -يكاد المجرم أن يقول خذوني-.(1/127)
ولا أنقل هذا من فراغ، فبعض من تاب الله عليه وهداه، أقر بهذا، يقول: جلسنا نضحك عليهم عشرين سنة، والذي يقول: عشر سنين، والآن نريد أن نتوب إلى الله.
وأما علاج السحر المشروع فيمكن -والحمد لله- وإن كان صعباً والوقاية أفضل؛ لأن الوقاية أفضل من العلاج، والوقاية بالأذكار اليومية المعروفة، ومنها آية الكرسي والمعوذتين، فهذه هي الوقاية وغيرها، لكن إن وقع فعلاجه صعب، ولا بد من الصبر فيه، ومن علاجه هذه الآيات، وهذه الأذكار، مع ما ذكره بعض العلماء أيضاً من الأدوية المادية، مثل أن يؤخذ سبع ورقات من سدر وتدق وتستخدم، وهذه بعض العلماء يذكرها، ولا أرى أن يلتزم بها، ولكن أقول: أي علاج مادي يمكن أن ينفع فليسلكه الإنسان، ولكن يُجتنب هؤلاء الدجالون المشعوذون.
حكم استثمار الأموال بطريقة مشروعة في البنوك الربوية
السؤال: هل استثمار الأموال على أساس الربح والخسارة في البنوك حلال أو حرام؟
الجواب: إذا كان الإنسان يريد أن يعمل عملاً على أساس الربح والخسارة مع أي إنسان،فهذا هو الأصل في المعاملات.
فالأصل أنَّا إذا أردنا أن نعمل شركة أن تكون كذلك، لكن لو فرضنا أن هذه المعاملة أو غيرها من المعاملات الجائزة نريد أن نتعامل بها مع البنك، فإنا نكون قد أعنا هؤلاء، فهو يأتي ويقول لك: أنتم تخافون منا من أجل أننا نعطيكم فائدة مضمونة، فالآن لم نعد نضمن لك الفائدة، اعطنا الفلوس وإن خسرنا أنت شريكنا، وإن ربحنا أنت شريكنا، ثم يأتيك مرة ويقول: ربحت (10%) فيعطيك، ومرة يقول: خسرنا (10%) وترد له العشرة، وهو لم يتغير شيء في عمله.(1/128)
فنحن -بإذن الله- لا أحد يضحك علينا، وخاصة في الدنيا، فعندما نقول لهم: غيروا، نريد أن يغيروا الربا الذي توعد الله عليه بالحرب، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية } فشخص عنده بيتين، أو بيت واحد فيه غرفتين: غرفة يعقد فيها بالحلال، والأخرى للحرام، تريد الحلال هنا، والذي يريد الحرام في الغرفة الثانية، فلا نقول: هذا عنده حلال.
فهذا مثل البنوك، يقول: نتعامل بالربا مع طوائف من الناس، لكن هؤلاء المتدينين كيف نأتي بأموالهم؟ فيفتح فرعاً في نفس البنك للمعاملات الإسلامية، والغرفة والمكتب والمدير واحد، والإدارة العامة واحدة، فهؤلاء يضحكون علينا، وهذا هو حالهم.
من بدع الجنائز
السؤال: هناك بدع تتعلق بالجنائز، مثل أن يجتمع الناس في مكان ويقرءون رياض الصالحين بشكل جماعي، ويصفون صفوفاً، فما رأيكم في هذا؟
الجواب: بدع الجنائز كثيرة، ومن العجيب أنه ظهر عندنا بدع لم نكن نظن أن الأمر يصل إليها.
فمثلاً: كنا نعرف بعض البدع ثم الحمد لله ظهر العلم والخير والنور ووزعت فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فكان لها أثر طيب، ولكن بقي بعض الناس أدخلوا بعض التحسينات في البدع، فمثلاً: وُجد أن بعض الناس يقرأ من كتاب رياض الصالحين أثناء العزاء على الميت على شكل صفوف وعلى نمط معين من الكلام.
فإذا جاء شخص يقول: هذه بدعة، فإنهم يقولون: ماذا تقول؟! قراءة كتاب رياض الصالحين بدعة! والعلماء كلهم يقولون: إنه كتاب طيب.(1/129)
فيقولون: ما رأيك في الكتاب؟ فيقول: كتاب طيب، لكن البدعة ليست طيبة، فهذا شيء ما شرعه الله، فقراءة رياض الصالحين في العزاء وكذلك الوقوف بشكل معين ورص الصفوف وقراءة كلام معين والتكلف في العزاء هذه كلها مخالفات، وديننا كله قائم على اليسر والبساطة والفطرة، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعزون أهل الميت في الطريق أو في المسجد أو عند المقبرة بكلمة: أحسن الله عزاءكم، وعظم الله أجركم، لله ما أخذ ولله ما أعطى، رحم الله ميتكم، ومثل هذه الأمور، فيكتب له أو يكلمه، وانتهى الأمر بعد ذلك.
فالعادات السيئة التي -للأسف- بدأت تنتشر عندنا من صف الناس صفوفاً ثم الجلوس ثم قراءة رياض الصالحين أو غير ه،هذه كلها من البدع، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } حتى لو كان قراءة قرآن أو حديث لكنه على وجه بدعي فهو مردود على صاحبه، ويجب على الإنسان ألا يذهب أو يجلس مع هؤلاء، فإذا كنت أنت تعرف الميت وتريد أن تعزي أهله فعزه بالوجه الذي ذكرنا سابقاً، وإن كنت لا تعرفه وإنما مجاملة للناس فهذا ذنب، ولا يصبح هذا عزاء في الحقيقة، ولكن مجاملة للجماعة، ولكن الإنسان يدعو للمسلمين بالمغفرة والرحمة والله أعلم.
حكم الذبائح والولائم في العزاء
السؤال: ما حكم الذبائح والولائم في بيت الميت، حيث أن أهل الميت هم الذين يقدمون هذا؟(1/130)
الجواب: هذه تصبح بدعة مركبة، حيث تكثر الولائم والذبائح، وكأن الأمر انقلب إلى عيد ومهرجان، فإن كانت الولائم من نفقة الورثة، أي: من مال الميت، فهذه مصيبة على مصيبة، وهذا سحت وحرام، فلا يجوز أن يؤخذ مال أحد إلا بطيب نفس منه، وخاصة إن كانوا عجائز وأرامل -مثلاً- أو أطفال صغار، من قال لنا: أن نأتي على مال هؤلاء الأطفال، ونذبح منه ما نشاء ونتغدى، فهل هذه أجرة الدفن؟ هذا لا يجوز، وإن كان من مال متبرع فالمتبرع يقتفي أثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً } فيصنع طعاماً ويقدمه لأهل الميت. لكن من أين جاءت البدعة؟ من التزام الذبح والاجتماع، وكما كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون الاجتماع على العزاء من النياحة, والنياحة قد غلّظ فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حكم استقدام الكفار للعمل في جزيرة العرب
السؤال: يقول: لدينا عمال هندوس يعبدون الأبقار من دون الله، وقد عرضنا على بعضهم الإسلام فرفضوا بحجة أن أهلهم سيقتلونهم إذا أسلموا، فماذا يجب علينا تجاههم؟
الجواب:
أولاً: يجب أن نعلم جميعاً أنه لا يجوز أن يجتمع في جزيرة العرب دينان، وجزيرة العرب تشمل من أطراف العراق والشام شمالاً، إلى البحر العربي وخليج عدن جنوباً، والخليج شرقاً والبحر الأحمر غرباً، حتى يدخل فيها جميع دول الخليج ، وقال بعض العلماء: يدخل فيها البصرة أيضاً، أي: جنوب العراق وبادية الشام ، فكل هذا جزيرة العرب ، ولا يجتمع في جزيرة العرب دينان.
فقد أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أنهم كانوا في خيبر ، وكانوا كالرقيق يعملون في الأرض، ويزرعونها للمسلمين، فهم كالعبيد، ومع ذلك أخرجهم عمر رضي الله عنه وأجلاهم إلى بلاد الشام .(1/131)
فلا يجوز استقدام العمال من غير المسلمين إلى جزيرة العرب بأكملها، بما فيها دول الخليج واليمن ، فضلاً عن هذه البلاد التي فيها الحرمان الشريفان، وقد أفتى العلماء بذلك، ومنها فتوى طويلة لسماحة شيخنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظة الله في كتابه مجموع الفتاوى المطبوع، بيَّن فيها هذه الأدلة وأكثر منها.
فلا يجوز لأي إنسان منا أن يستقدم عمالاً كفاراً، ثم ألا تدرون أن الكفار يتقوون بما نعطيهم على المسلمين، وأن هذا فيه موالاة ومحبة لهم، وفيه تعظيم وتقدير لهم، وهذا كله نحن منهيون عنه.
فلا يجوز أن نستقدم العمال الكفار، ولا يقل شخص: لم أعلم، فالذي يقول: لم أعلم العجب منه أكثر من الذي يقول: لم أجد؛ لأن الذي لا يعلم معنى ذلك أن الإنسان لم يجعل موضوع الدين وارداً على ذهنه أصلاً، فذهب إلى هناك وأخذ، مثل الذي يروح إلى سوق الغنم، ويشتري كم رأس غنم وينصرف ولا يسأل، فهذا يذهب إلى بلاد فيها مسلمون وكفار، وفيها أبرار وفجار، ثم لا يسأل، وتقول: لم أعرف، وعندما رجعت إلى هنا علمت أنهم هندوس، فهذا الكلام لا يجوز ولا ينبغي.
وفي دول معروف أن الأغلبية فيها كفار، مثل كوريا والفلبين والصين وتايوان ، ففي هذه البلدان أكثرهم أو كلهم كفار إلا النادر، وهذا كما في كوريا .
أما الذين معهم عمال هنا في البلاد فيجب عليه أن يسفره، ويخرجه من جزيرة العرب ، وليس لأحد عذر في هذا، لأن البديل موجود، وإلا يكون الأمر كما كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان والياً على الكوفة ، فاستخدم كاتباً نصرانياً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: [[بلغني أن لديك كاتباً نصرانياً فأبعده ]].(1/132)
وهذا لم يكن في جزيرة العرب ، لكن لأنه كاتب تمر عليه بعض معاملات وأمور من أمور المسلمين فلا يجوز، فقال: [[إنه يحسن الحساب ]] وذكر أن عنده خبرة في الأمور، ونحن من أجل خبرته أتينا به، فكتب إليه رضي الله عنه: [[إذا جاءك كتابي هذا فهب أن النصراني مات، والسلام ]] إذا مات النصراني ماذا تفعل؟ فعمر رضي الله عنه جعلك أمام أمر واقع.
ثم إن هؤلاء -والله- لا يضمرون لنا إلا الغش في الدنيا والآخرة.
أما الذين لا ينهانا الله عنهم، فهم الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، فهؤلاء لا ينهانا أن نبرهم ونحسن إليهم، كما بين الله تعالى في سورة الممتحنة.
فهذه حالة المسلمين لما كانوا في المدينة ولهم أقرباء كانوا في مكة ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يتحرجون من معاملتهم بعد أن أنزل الله أول السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1] فبين الله تعالى أنه من كان من الأقارب، أو في حالة كون الإسلام والدعوة في أول أمرها، أو إذا ابتعثت إلى أمريكا مثلاً، واضطررت إلى ذلك، وأنت بين قوم كفار، فلا ينهانا ديننا عن الصلة لأهل الصلة والبر كالوالدين وإن كانا كافرين، قال تعالى: فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] أو الإحسان والعدل، فنحن لا نظلمهم التعامل وإن كانوا كفاراً.
فانتشار الكفار في هذه البلد الطاهرة شيء عجيب.(1/133)
ثم عذره في عدم الإسلام هو ليس بعذر، يقول: أخاف أن يقتلوني، فنقول: يجب على الإنسان أن يعلم أن هذا الدين نجاة من عذاب الدنيا والآخرة، وخروج من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن كل عبادة العباد أو الأبقار أو الأحجار أو الأشخاص أو البشر أو الزعماء؛ إلى عبادة الله وحده.
فهذه قضية يهون أمامها أي شيء، ثم نحن الدعاة علينا أن ندعوه حتى يتمكن الإيمان من قلبه -بإذن الله تعالى- وسوف يهون بعد ذلك كل شيء عليه، ويضحي بكل شيء.
ومما نقوله له: أنه يوجد في الهند مسلمون وفي غيرها فلم يقتلوا، وإن قتلوا فلا بد من الصبر، ويوجد من أسلم وكان هداية قريته على يده -والحمد لله- وهذا موجود في الهند وغيرها، فلا عذر لأحد في أن يضل على شركه وكفره ولكن: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106] إذا آمن ورأى أنهم يكرهونه على الكفر،فهذا قد أعذره الله تبارك وتعالى.
حكم اختلاط المرأة وتبرجها في الأسواق
السؤال: ما حكم اختلاط المرأة وتبرجها في الأسواق؟
الجواب: مسألة الكشف والاختلاط والتبرج في الأسواق، ابتلينا بها كما ابتليت المناطق الأخرى بالممرضات، وبالمدرسات الأجنبيات كما يقال، ثم العادات القديمة التي عندنا من السابق، وهي الكشف على ابن العم وابن الخال والقريب والجماعة أحياناً، وإذا بها حزمة مركبة من الأخطاء نرتكبها يومياً.(1/134)
وأمر مهم جداً وهو أمر الفصل بين الذكور والإناث والحجاب والمحافظة على العرض والغيرة، وهذه من الأمور التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهذه من الأمور التي يفرق بها بين المجتمع المسلم الحقيقي وبين الادعاء، فإذا ذهبت إلى أي بلد في العالم ووجدت النساء يتحجبن، قلت: هذا بلد طيب، وتثني عليه، وإذا وجدتهن متبرجات تعرف أن هذا بلد سوء وفجور وفساد، وهذا من الأمور التي فطر عليها الناس، حتى الذي لا يصلي يحكم على الناس من خلال نظرته في حرصهم على الأعراض، ويحكم على المجتمعات من خلال أعراضها أيضاً.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {الحمو الموت } وهذا لما سئل عن الحمو، والحمو هو قريب الزوج، والموت: هذه العبارة نحن نعرف معناها، فإذا قيل لك ما رأيك في فلان، قال: الموت، فهذه العبارة لا تحتاج إلى شرح، بمعنى أن الضرر الحاصل منه في الحقيقة أنه أكبر من جهة أن دخوله وخروجه غير مستنكر.
فالإنسان الغريب في القرية، من المستغرب أن يدخل في بيت فلان والرجل في العمل أو غيره، لكن أخوه أو قريبه يدخل بغطاء الشيطان: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما } فالتقاء الشرارة مع البارود أو البترول، هذا إذا حدث دون انتباه من الناس؛ فهو أخطر من حدوثه بمكان والدفاع المدني موجود، لكن هذه المشكلة الآن تقع في البيوت.
مثلاً: هذا بيتي وهذا بيته قريب، والزنا -والعياذ بالله- أنواع، ودرجات في التحريم، ومن أعظم أنواع الزنا كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبد الله بن مسعود -: {أن تزاني حليلة جارك } فالزنا بزوجة الجار أكبر من غيره -والعياذ بالله- وكله كبيرة وشر وفاحشة.(1/135)
وهذا لأن هذا الجار قرب الدار، وليس غريباً أن هذا يذهب عند هذا، أو أن هذه تذهب عند الجيران، وهكذا كلما كان الاقتراب من الشر أكثر،كلما كانت الحدود الشرعية أقوى، مثل سد المياه، كلما كان عند التيار كان السد منيعاً وأقوى، وهكذا حكمة الله، وهي أعظم حكمة، وهو أحكم الحاكمين.
ولذلك جعل الحمو الموت، حيث إن المرأة تكشف على أهل الزوج أو أقاربه ممن ليسوا من محارمها أو تختلط بهم، أو تضحك معهم، وتحصل زيارات وعلاقات، ثم تكون -والعياذ بالله- الفاحشة.
وعندما نقول تكون الفاحشة، لا يُفهم أن الدين أو الشرع ما حرمها إلا من أجل أن الزنا سيقع،ويقول -إن شاء الله- أهلي ما يفعلون، وهذا الظن بجميع المسلمين، لكن الزنا درجات: {العين تزني وزناها النظر، واليد تزني، والفم يزني، والقلب يزني، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } فالنظر من أنواع الزنا، وسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زنا، ولهذا حتى لو كانت ليست جارة أو قريبة ولا أي شيء، لو نظر إليها الإنسان في مجلة من هذه المجلات السخيفة، التي كل واحدة لها اسم كبير مثل مجلة النهضة ، ومجلة اليقظة ، ومجلة التضامن ، وفيها صور، فهذا زنا، والنظر إلى صورة المرأة زنا، والذي سماه زنا هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بد أن يؤدي إلى شيء، وأقل ما يؤدي إليه هو اشغال القلب، وتحريكه بالشهوات -نسأل الله العفو والعافية- وإن لم يفعلها فقد شغل قلبه بها.(1/136)
وهذه قضية مهمة جداً، فالعمر -والله- محدود، وكل شخص يجب أن يعلم أن العمر محدود، والساعات محدودة، وليس عند الإنسان طاقة أعظم من طاقة هذا القلب والفكر، فإذا أشغلت هذه الطاقة الفكرية في ذكر الله، والتفكر في الآخرة، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفيما ينفعك في دنياك، فقد أشغلتها بالخير، وإلا فستصبح الشهوات والمحرمات تدور في ذهنك، وتفكر فيها، وتهوى هذه، وتتمنى هذه، وتعشق هذه، وتريد أن تتعرف على هذه، وضاع العمر في معصية، فشغل القلب بغير ذكر الله سبحانه، صرف لأعظم طاقة، وأفضل مجهود، وأهم قضية في حياتك وعمرك، فيما يريده أعداء الله من الإنس والجن.
حيث أنهم يريدون أن يشغلوا أوقات الشباب ويضيعوها بهذا الشيء، فتدور حول الشهوات، والمتاع الفارغ، واللذات المحرمة فتخسر جهدك العقلي والقلبي، وهي أعظم خسارة، وكثير من الناس إذا ضاعت مائة ريال يتأسف ويندم، لكن إذا ضيع يوماً، فلا يأسف عليه وهذا خطأ، فإذا ضيعت يوماً أو ساعة لم تذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها، كانت حسرة يوم القيامة، فما بالك إذا كان الذهن مشغولاً بهذه الصور، والنظر إليها، وإذا كان الفكر يدور حولها،والهم فيها، فهذا إضاعة للعمر، ومدخل للشيطان أن يدعو الإنسان إلى أي فاحشة.
وهذا يورث ظلمة في القلب، وانقطاعاً عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويورث أن الإنسان إذا جاء إلى المسجد يأتي وهذه الشهوة مسيطرة عليه، تشوش عليه باله، وإن لم يأت إلى الصلاة فهذا أدهى وأمر -نسأل الله العفو والعافية- فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، ففتنة النساء هي أعظم فتنة كما ذكر ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حكم إضاعة الوقت فيما حرم الله
السؤال: أكثر شباب المنطقة يسهرون ليلهم إلى ما قبل صلاة الصبح، وينام إلى صلاة العصر، ونعرف منهم أناساً لا يصلون، فما رأيكم؟(1/137)
الجواب: هؤلاء هم الرفقة السيئة، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحشر المرء مع من أحب } حيث يحشر هؤلاء يوم القيامة في زمرة أصحاب الدخان والشيشة والأفلام والمخدرات واللغو والباطل، والحلف بغير الله.
ولو لم يكن إلا إضاعة الوقت، فإضاعة الوقت في شيء لا فائدة فيه خسارة كبيرة، فما بالك إذا أضاعه فيما هو محرم، وأعظم من ذلك إذا أدى إلى ضياع صلاة الفجر والظهر.
فهذا الرجل السهران إلى الفجر، الذي ينام مع الأذان إذا جاءته سكتة قلبية في نومه، كما يحصل لبعض الناس فمات، فعلى أي ملة يموت، أيموت على ملة الإسلام -نسأل الله العفو والعافية-؟!
فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟!
وأي مصيبة يمكن أن تحيق بأي إنسان أو تحيط به أعظم من هذه؟!
هذا لو فقد أهله أو ماله، أو جاء عدو واجتاح بيته، وأخذ أهله وقتلهم، لكان ذلك أهون أو مساوياً لمن فاتته الصلاة، وهذا مثال ضربه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الدنيا،لمن ضيع أوقات الصلاة، أو فريضة من الفرائض، فكيف من يختار ذلك، ويسهر عمداً،ثم ينام عن هذه الفريضة - نسأل الله العافية- ويعلم أنه لن يصليها؟!
بعض وسائل إدخال السحر إلى البيوت
السؤال: وجدت في بيتنا ورقة مكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم، واسم الوالدة بلون أصفر، والورقة ملفوفة بخيط تحت فراش أبي، فأخذتها الوالدة وأنا معها فأحرقناها، هل هذه ورقة سحر؟
الجواب: الظاهر والغالب أن هذه ورقة سحر -نعوذ بالله من ذلك- ولا بد أنه وضعها شخص ممن يدخلون البيت.
وفي هذه المناسبة كثير من الناس -وهذه وقائع مشهودة- سحروا عن طريق الخادمات، ولا تقل هذه خادمة مغفلة لا تفهم شيئاً، بل إن هذا أمر عادي جداً عندها، فربما تصنعه بنفسها، أو تكتب لمن يصنعه وتضعه، وقد حدثت عدة حالات.(1/138)
ودائماً الذنب والمعصية تستتبع مصائب ومعاصي، ومنها معصية استقدام النساء بلا محارم، وإسكانهن في البيوت مع الرجال والأولاد -نسأل الله العافية- وما ينتج عن ذلك من مصائب.
الوقاية من السحر
السؤال: هل المداومة على أذكار الصباح تقينا من السحر؟
الجواب: نعم. المداومة على هذه الأذكار -إن شاء الله- تمنع وقوع السحر، وإذا ابتلى الله عبداً وأراد أن يبتليه فإنه يبتليه وإن أخذ بالأسباب، لكن يجب علينا أن نأخذ بالأسباب، والله أعلم.
السبب في غضب الله يوم القيامة
السؤال: ذكرتم أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، فما سبب غضبه عز وجل؟
الجواب: هو كما جاء في الحديث نفسه -في حديث الشفاعة-: فإن الله قد غضب غضباً لم يغضب قبله ولم يغضب بعده مثله } وسبب ذلك أن هذا اليوم هو يوم الفصل, ويوم الحساب, وكل الظلمة والطواغيت والمجرمين، وكل من أمهلهم الله سبحانه ومن أنظرهم الله سبحانه مجتمعون، وهذه هي ساعة الانتقام من الجميع -نسأل الله العفو والعافية- وليس هناك غضب أشد منه.
ويغضب عز وجل في هذه الدنيا, كأن يغضب على أمم, كما غضب على قوم نوح فأغرقهم, وعلى عاد فأرسل عليهم الريح العقيم، وعلى ثمود فأخذتهم الصيحة، ولكن الغضب يوم القيامة على كل من كفر وعصى وكذب وجحد وأنكر, فذلك الموقف هو أعظم المواقف، ليس قبله ولا بعده مثله.
حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال: بعض الناس إذا أصابتهم مصيبة يقول: يا محمد! أو يا نبي الله! فما حكم ذلك؟(1/139)
الجواب: هذا دعاء لغير الله, فيجب عليه أن يشهد أن لا إله إلا الله, وأن يستغفر الله ويتوب، وألا يدعو إلا الله, وكما قال صلىالله عليه وسلم { الدعاء هو العبادة } فهذا قد عبد غير الله بدعائه, وعليه أن يقول: يا رب! يا الله! يا رحمان! يا رحيم! يا غفور! يا عزيز! فيدعو الله سبحانه بأسمائه الحسنى: لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] فهكذا أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما دعاء غير الله فشرك.
حكم طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال: بعض الناس يقول: الشفاعة يا محمد, أو يا علي ! وهذا يشيع في العوام، فما حكم ذلك؟
الجواب: الشفاعة لا تطلب إلا من الله تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وأما الشافعين فقال فيهم: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] فلا بد من إذن الله سبحانه للشافع ورضى الله تبارك وتعالى عن المشفوع له، ولا نطلبها من المخلوق.
ولهذا في حديث الشفاعة أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنفسه يسجد تحت العرش, ويحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويثني عليه بمحامد يلهمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إياها، حتى يقال له: {ارفع رأسك, وسل تعط, واشفع تشفع }.
إذاً فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب حتى يؤذن له، فكيف يدعى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وكيف يطلب منه هذا؟! فهذا من الشرك.
حكم الاستهزاء بآيات الله ورسله
السؤال: يقول الأخ من يستهزئ بآيات الله ورسله، هل يعطى أحكام الإسلام الظاهرة؟(1/140)
الجواب: في غزوة تبوك استهزأ المنافقون بالقراء من الصحابة، وقالوا: ''ما رأينا مثل هؤلاء القوم أوسع بطوناً, وأجبن عند اللقاء'' فسخروا واستهزءوا بحملة الدين وليس بالدين، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يقول: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] إذاً الاستهزاء بمن يحملون هذه الرسالة هو استهزاء بها، لأن المقصود الطعن فيها هي.
أما إن كان الإنسان يقصد مجرد شخص الداعية فقط، فهذه كبيرة من الكبائر، لكن إن كان المقصود ما يدعو إليه من الحق والخير والهدى، فهذا استهزاء بالله تبارك وتعالى وآياته ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان لم يذكر الله وآيات الله ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ذكر الداعية أو العالم أو القارئ أو الشيخ.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرهم على ظاهرهم -لكن من يستهزأ بالدين ويعلن بذلك لا يقر على ظاهره ولا يعطى أحكام الإسلام الظاهرة- لأنهم جاءوا ليعتذرون ويقولون: والله ما كنا إلا نخوض ونلعب, ولذلك يقول الله: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] فالذي يبدر منه شيء, ويحلف أنه لا يقصد الاستهزاء ويعتذر, فهذا نَكِل قلبه إلى الله.
ولكن من أظهر شيئاً ولم يرجع عنه ويقول: هذه هي الحرية, فهذا هو الذي يحكم بردته, ويجب قتله ردة، فلذلك يعطون الأحكام الظاهرة إذا حلفوا وادعوا الرجعة وأنهم لم يقصدوا، فإذا جاءوا بعذر مقبول شرعاً, يرفع عنهم السيف, ويوكل أمرهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حقيقة شعار الثورة الفرنسية
السؤال: هل من الممكن ذكر شعار الثورة الفرنسية عندما قامت؛ حتى يعرف كذب الصحافة وجهلها, حينما تصفها بأنها أعطت الإنسان الحرية؟
الجواب: الثورة الفرنسية قامت تدعو إلى ثلاث شعارات: الحرية, والإخاء, والمساواة.(1/141)
وحقيقة نحن لا نظلم الثورة الفرنسية, فنحن المسلمين لا نظلم أحداً, لا أمة, ولا طائفة!
فالثورة الفرنسية بالنسبة لأوروبا أعطتها حرية, وإخاء, ومساواة؛ لأنهم ما كانوا يعيشون إلا في حكم الإقطاع، فكان الإقطاعي يملك الأرض ومن فيها, ويتحكم في خلق الله كما يشاء، ورجال الدين -الأحبار والرهبان- الذين ذكرهم الله في القرآن: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34] كانوا يملكون الأراضي ويتحكمون بعباد الله، فكان هناك ظلم شديد جداً.
أما الملوك الذين ثارت عليهم الثورة، فكانوا يدعون أن الله تعالى أعطاهم من عنده هذا الحكم, وفوضهم ليتحكموا بالعباد كما يشاءون، ويسمون هذا الحق الإلهي للملوك.
فأمام هذا خرجت الثورة الفرنسية تقول: لا. المواطنون كلهم سواء في الحقوق والواجبات، ففرحت أوروبا ، وهذا صحيح وشيء جيد.
فأول من دعا الإنسان الأوروبي إلى الحرية, والإخاء, والمساواة من الأوروبيين هو الثورة الفرنسية، وقد أعطاهم إياها رسول الهدى محمد صلى الله عليهم ولكنهم ما قبلوها، فقد كتب إلى ملكهم هرقل عظيم الروم: { من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل عظيم الروم, السلام على من اتبع الهدى, أما بعد: فأسلم تسلم، وإن لم تسلم فإنما عليك إثم الآريسيين } قيل: هم الفلاحون، وقيل هم فرقة آريوس .
فالشاهد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى هذا الملك, الذي كان رجال الدين, والإقطاعيون كلهم تحت حكمه, فإذا لم يسلم فعليه إثم هؤلاء, لأنهم مقهورون -كما يقال طبقة مضطهدة- فهذه الطبقة لا تملك شيئاً, ولا تملك حرية الاعتقاد, ولا تعرف الحق إلا عن طريق ملوكها وأحبارها ورهبانها.(1/142)
وعرض عليهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك في القرآن، فالإسلام دخل إلى الأندلس , وجنوب إيطاليا , وجنوب فرنسا ، ولكنهم رفضوا دين الله, ورفضوا الإخاء الحقيقي, والحرية والمساواة الحقيقية, وقد أوضحها الله تعالى في كتابه, ورفع الظلم ونهى عنه, فرفضوا ذلك كله, وما عرفوه إلا عندما جاء عن طريق ثورتهم الفرنسية.
والحقيقة أنها جاءت بظلم آخر, فالثورة الفرنسية رفعت ظلم الإقطاعيين, وجاءت بظلم الرأسماليين، فدفعت ظلم الملوك, وجاءت بظلم نابليون وأمثاله، وهكذا لا يمكن للناس أن يتحقق لهم العدل إلا بدين الله وبشرعه.
حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال: ما حكم من يحلف بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يقول: وحياتك؟
الجواب: هذا من الشرك، إن حلف به معتقداً أن له ما لله تعالى من التعظيم, فهذا شرك أكبر، وإن كان مما يغلب على اللسان ويسبق عليه، يقول: والنبي, أو وحياتك, أو وكذا، فهذا من شرك الألفاظ, وهو أكبر من الكبائر لأنه شرك، وإن كان لا يخرج من الملة، ولكن يجب على الإنسان أن يتوب منه.
كيف يكون الإيمان بعذاب القبر
السؤال: كيف يتحقق عذاب القبر أو نعيمه لمن مات حرقاً مثلما يفعله كفار الهند عندما يحرقون موتاهم حتى يصبحوا رماداً، ويقومون بنثره في البحر، أو عندما يموت أحد كأن يأكله حوت -مثلاً- أفيدونا؟
الجواب: أولاً: هذا من أمر الغيب, وكل شيء أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نؤمن ونصدق به, شاهدناه أم لم نشاهده، ولا نقول: كيف! ففي أمر الغيب لا نقول كيف، ولكن نسلم.(1/143)
ثانياً: إن القبر كلمة تطلق على الدار التي بين الدنيا والآخرة، وبعض الناس يفهم فقط أن القبر هو هذه الحفرة، فالقبر معناه البرزخ: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] فمعناه الدار التي بين الدارين, والبرزخ بين الدارين -بين الدنيا والآخرة- فإن كان حرقاً, أو في البحر, أو في أي مكان, فيقال في قبره، أي: في داره التي هي بين الدارين، لكن لأن الأغلب أن الناس يدفنون في الحالات الطبيعية في القبور، فيطلق القبر عليها على سبيل التغليب.
ثالثاً: أن الله تبارك وتعالى ضرب لنا أمثلة, وهي كثيرة جداً, ولكن نأخذ مثلاً واحداً منها: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ [الزمر:42].
فالموت موتان: موت كامل كلي, وهو الذي نسميه نحن الموت, والموت الآخر موت جزئي ناقص وهو: النوم، وفي الآية دليل على هذا.
فقد تجد إنساناً نائماً, فتقول: اتركوه يرتاح, فإذا أيقظته, قال لك: يا ليتك أيقظتني قبل قليل, فتقول له: لماذا؟ يقول: كنت في مصيبة, وفي كرب, فمثلاً رأى أنه غرق في البحر, وأنت كنت تراه أمامك جثة هادئة، وهو يعاني من هذه الرؤيا, ويقوم متعباً, يجد الإرهاق والإجهاد, كأنه فعلاً كان يصارع البحر، سبحان الله العظيم! وتقول له: كان قصدي أن ترتاح.
فهذا مثل وعبرة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكذلك في القبر, تمر على القبور, فتقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، ولكن ما أدراك ماذا ينال هذا الميت من العذاب أو النعيم، نسأل الله العفو والعافية ونسأل الله لنا ولكم النعيم, ونعوذ بالله من عذاب القبر وجحيمه.(1/144)
فهذه الوفاة التي تحدث لنا جميعاً كل يوم -وهي النوم- نعتبر منها بالوفاة الأخرى، فنحن نرى المقابر, أو نرى جنازة, لكن هذا في غاية النعيم, وذاك في غاية العذاب -والعياذ بالله- كما أن بعض الناس يرى في منامه رؤيا حسنة، ويقول: ليتك تركتني، فقد كنت في سعادة ونعيم, ويقول الآخر: ليتك أيقظتني, فقد كنت في شقاء وعذاب, وهكذا، مع أن الحال أمامك واحد، والأمثلة كثيرة جداً ولكن نكتفي بهذا.
ونكرر القول الأول: أن المسألة إيمان، وأول ما وصف الله تعالى المؤمنين، قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فنؤمن بالغيب, حتى ولو كانت أفهامنا وعقولنا تقصر عن إدراك حقائقه، فالرجل الذي {قال لأولاده إذا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروا نصفي في البحر, ونصفي في البر، فوالله لو قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فجمعه الله تعالى بقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فقال الله تبارك وتعالى له: يا عبدي! لما فعلت ذلك، قال: خوفك يا رب، فغفر الله له }.
الشاهد أنه مهما نقول: هذا في البحر, وهذا في البر، هي مسألة كن وانتهى الأمر, والله تبارك وتعالى قادر على كل شيء سبحانه.
سبب اجتماع اليهود والنصارى على المسلمين
السؤال: إن اليهود يتهمون عيسى بأنه ابن زنا، ومع ذلك نرى توافقاً بين الكنائس اليهودية والنصرانية . فكيف هذا؟
الجواب: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] فاليهود والنصارى في حقيقتهم أعداء ويتحاربون, ويكذب بعضهم بعضاً, ويكفر بعضهم بعضاً, ولكنهم متعاونون يداً واحدة ومتناصرون على المسلمين, فهذا حالهم.(1/145)
فإسرائيل تفعل المصيبة، وأمريكا تتخذ الفيتو هناك، وبينهم في الحقيقة خلاف شديد.
فالرئيس الأمريكي كارتر أكبر داعية للتنصير في العالم, وقد جاء إلى أفغانستان وباكستان والسودان والحبشة وكثير من الدول ينشر فيها النصرانية ، ومع ذلك هو مع اليهود، واليهود يكفرونه ويكذبون بكتابه, ولا يصدقون بعيسى, ويكذبون بالإنجيل، ولكن مع هذه العداوة فاليهود والنصارى يد واحدة علينا، وهذا من هواننا على الله؛ لأنه إذا عصاه من يعرفه، سلط عليه من لا يعرفه، فتكالبت علينا الأمم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وتداعت كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فعندما تركنا الإيمان الصحيح والعقيدة الصحيحة, والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ اجتمعوا علينا.
فهم كما ذكر الله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] واليهود أنفسهم مختلفون, وهم طوائف، والنصارى مختلفون, وهم طوائف، لكن يتوحدون بل توحدت معهم اليابان والصين والهند كلهم ضدنا, ففي أي يوم تفتح الإذاعات العالمية تسمع: المسلمون في سيرلانكا أو الهند أو الصين أو إقريقيا يذبحون، ولو أن أحداً حلف -أظنه لا يحنث- أنه لا يمر يوم إلا وللمسلمين مذبحة أو مصيبة أو فتنة في أي مكان، على يد الهنود أو الصينيين أو في أمريكا أو أوروبا أو في أي مكان.
لقد هانوا على الله, لما تركوا كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فسلط الله عليهم أعداءهم.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا, وأن يعيد هذه الأمة إلى رشدها وصوابها، وأن يلهمها الخير في الاعتقاد والقول والعمل إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين.(1/146)