حاجتنا إلى الإيمان
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده من المعاصي معصوماًَ، ولا تجعل معنا ولا فينا شقياً ولا محروماً.
أما بعد:
يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] ويقول جل شأنه كما روى ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث القدسي: {يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً }.
فالله تبارك وتعالى غنيٌ عنا، ونحن الفقراء المحتاجون إليه، وإنَّ أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الأخرى، هو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لا نجاح لنا ولا فلاح ولا سعادة ولا طمأنينة لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، ولا في أنفسنا، ولا في أسرنا، ومجتمعنا، وأمتنا إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى.(1/1)
والله تبارك وتعالى من رحمته بعباده، ومن لطفه، ومن كرمه وعظيم منّه، لم يتركنا هملاً ويدعنا عبثاً، بل أرسل إلينا رسولاً بين لنا الإيمان، وأوضح لنا الطريق، وأبان لنا الحجة، وأظهر الله تبارك وتعالى به دينه على العالمين، وبيَّن لنا ما يسعدنا وما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة، فإذا اتبعنا ما أنزله الله تبارك وتعالى على هذا النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتمسكنا به؛ تغير حالنا من الذل إلى العز، ومن الشتات والفرقة إلى الألفة والمحبة، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الضياع والتشرد إلى الاستقامة والتقوى، ويحدث التغير الذي لا يمكن أن يحدث في أي مجتمع ولا في أية أمة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى.
وإن ما تعيشه أمتنا الإسلامية اليوم شرقاً وغرباًُ، لجدير بكل مسلم أن يقف عنده، وأن يتأمله، وأن يفكر في أسبابه ودواعيه، وبالتالي يبحث عن الحل الذي لا حل غيره، وهو الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كل ما نعانيه من الأمراض ومن الأدواء ومن العلل لا يكون شفاؤها ودواؤها إلا بالرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/2)
إن الحاجة إلى الإيمان ضرورية، فهو لا يغني عنه أي شيء، ولا أي نوع من أنواع العلم والثقافة، ولا التقدم الحضاري بأي شكل من الأشكال، بل حتى الرقي المادي ورغد العيش والرفاهية المادية لا تتحقق حقيقةً إلا بالإيمان بالله وبالالتجاء إلى الله، عبادةًَ واستعانة؛ ولذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] ويقول الله تبارك وتعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] والله تبارك وتعالى ذكر في آي كثيرة ما يدل على أن مسألة الرزق والطمأنينة، والعيش الهنيء الكريم لا يمكن أن يكون إلا بالإيمان بالله، وباللجوء إليه، كما قال نبي الله نوح لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
فيتبدل الحال من الفقر والجدب والقحط إلى الرغد والنعيم والحياة الكريمة، وذلك إذا اصطفانا الله عز وجل ورجعنا وتبنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أثرُ الإيمان في فتوحات المسلمين
ولنضرب أمثلة على ذلك مما يتعلق بواقع الجهاد، وحركة الجهاد، وكيف يغير الإيمان المؤمن والأمة المؤمنة في هذا المجال: ماذا كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام وقبل الإيمان؟!
وماذا كان جهادهم؟!
وعلى من كانوا يغيرون؟!
يقول شاعرهم:
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا(1/3)
فهم يتخاصمون لأتفه الأسباب! فيغير بعضهم على بعض، ويسلب بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، وإذا غزا أحدهم فأصاب قطيعاً من الغنم أو الإبل، افتخر بذلك في قصيدةٍ عصماء؛ لأنه حقق هذا الانتصار العظيم!!
والمنتمي إلى هذه الأمة الجاهلية نظرته محدودة، وفكره قاصر، وعقله محدود، وتأملاته وفكره لا يخرج عن دوائر معينه مظلمة، لكنهم لما آمنوا بالله وبرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل بقي ذلك الغزو والنهب والسلب ومعاداة الجيران والقبائل المجاورة؟ لا، بل ذهب ذلك كله، وتحولت هذه الأمة إلى أعظم أمةٍ فاتحةٍ في تاريخ الإنسانية، كما شهد بذلك أكبر فاتحٍ في تاريخ أوروبا التي يقدسها المغرورون من المسلمين، إنه نابليون ، يقول: نابليون في كلمة مشهورة عنه لما استعرض الفتوحات: إن العرب قد فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن.
وإذا نقلنا أي كلمة عن أي كافر فلابد أن نتأمل وندقق فيها ولا نأخذها أخذ الأعمى، فكلمة العرب لا محل لها؛ لأن العرب كان حالهم في الجاهلية هو ما قدمنا، إذاً الذين فتحوا هم المسلمون وليس العرب؛ هذا أولاً.
ثانياً: أنهم لم يفتحوا نصف الدنيا فقط؛ لأن الغربيين نظرتهم دائماً إلى أن أوروبا وأمريكا هي نصف العالم أو أكثر وبقية العالم غير معتبر، لكن في الحقيقة وفي الواقع أن المسلمين لما انطلقوا في الفتوح، فتحوا معظم العالم إلا المناطق الهمجية، ومنها العالم الهمجي الأوروبي الذي كان يعيش في عصور الظلمات والانحطاط.
إذاً المسلمون فتحوا معظم الدنيا في نصف قرن!! أي في خمسين سنة!! فهل كان الأمر مجرد انتصار عسكري ثم ينتهي ويضمحل مثلما هو الحال في الاستعمار!!
لا، بل كان الفتح فتحاً للقلوب وفتحاً للأرواح، وكان طمأنينة وأمناً وسلاماً، فكيف تغير التخطيط العسكري عند الإنسان الجاهلي ليصبح في الإسلام على هذا المستوى وبهذه العظمة؟!
أثر الإيمان في عمر
ماذا كان عمر بن الخطاب في الجاهلية؟!(1/4)
لو لم يأتِ الإسلام لما بلغنا أي شيء عن عمر ولما عرفنا من هو عمر رضي الله عنه، لكن لما أسلم وغيره الإيمان، ماذا أصبح؟!
نأخذ مثالاً من حياة عمر فيما يتعلق بموضوع الجهاد والتخطيط العسكري، حيث أرسل عمر رضي الله عنه الجيوش لمحاربة الفرس، ولاحظ أن المسلمين لم يقولوا نبدأ بالفرس ونترك الروم، أو نبدأ بالروم ونترك الفرس -مع أنهما أقوى دولتين تتحكمان في العالم- أو كيف نحارب تلك الدولتين في وقت واحد وعددنا قليل؟!
نعم هذا صحيح، إلا أن العدة أقل بكثير!! وكل ما يمكن أن يقال بالنظرة المادية وفي التخطيط المادي العسكري يمكن أن يقال هنا، إلا أن هناك إسلاماً يحارب كفراً، وهذا هو الميزان الذي يرجح دائماً في أية معركة وهو أن الإيمان ينتصر على الكفر بإذن الله!!
وكان العرب قبل الإسلام لا يطمحون ولا يطمعون، بل ولا يتخيلون أنهم يحاربون كسرى وحده أو هرقل وحده، فضلاً عن أن يحاربوا الاثنين معاً.
وأذكر مثالاً واحداً وهو أن كسرى ملك الفرس وملك العجم الذي كان يحكم شرق الدنيا في تلك الفترة كانت له بضائع وقوافل مشهورة عند العرب، وتأتي في أسواق العرب، حيث تنطلق وتخرج من المدائن -العاصمة ومقر المُلك- ثم تأتي الحيرة ، ثم تنزل فتجتاز جزيرة العرب كلها، وتمر في أسواق العرب جميعاً، العرب الذي ينهب بعضهم بعضاً من أجل شاةٍ، لكن ما كان أحد يجرؤ أن يقترب من قافلة كسرى، لماذا؟
لأنه كسرى!! ومن الذي يتجرأ عليه؟
أمة مرعوبة، لا يمكن أن يتجرأ أحد على أكبر وأعظم دولة في العالم.
فلما جاء الإسلام، وانطلقت الجيوش إلى هناك، جمع عمر رضي الله عنه الجيوش وأرسلهم، وأخذ يفكر من يختار لحرب الفرس، فوفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سعد بن أبي وقاص ، القائد المشهور، وماذا كان سعد في الجاهلية؟!
وماذا كان قبل الإيمان؟!
لم يكن شيئاًَ مذكوراً.(1/5)
أرسل سعداً وهو يعلم أن هذه المعركة هي أعظم معركة في تاريخ الفتوحات الإسلامية التي خاضها المسلمون مع الفرس، فماذا صنع عمر ؟
قال له عمر رضي الله عنه -وعمر لم يكن لديه خرائط للمناطق، ولم يكن لديه وسائل للاتصال المباشر-: إذا نزلت بأرضٍ، فأرسل السرايا، واكتب لي عنها -أي: يكتب له عن طبيعة الأرض- وأنا أوافيك كيف تفعل، فعندما وصلوا إلى أول العراق ، كتبوا له بأن الأرض كذا وكذا وكذا.
فجاء الرد من المدينة : تقدموا عن المدر واجعلوا المزارع من ورائكم، فإن نصركم الله تعالى تقدمتم، وإن كانت الأخرى ترجعون إلى المدر وإلى المزارع وإلى المياه، هذا عمر الذي كان في الجاهلية أعرابياً، ولا يدري ولا يعرف ما هي الخطط، ولا يعرف إلا الكر والفر، فقد كان هذا الذي تعرفه العرب في تاريخها العسكري فقط، لكن الإيمان غيَّر عمر ، فلم يعد عمر ذلك الجاهلي، بل أصبح ذلك الرجل الذي يدير أعظم دولة في عصره بأعظم وأفضل إدارة، وليست القضية هي عسكرية عمر كما يقول البعض، لا، بل القضية هي قضية إيمان يفجر العبقريات، لو أتيت إلى طفل صغير عمره خمس سنوات بالإيمان، لحفظ القرآن، ولعمل الأعاجيب، ولأصبح خطيباً أو عالماً وهو دون العشرين؛ كما كان علماء السلف الصالح .
إذاً: السر هو في الإيمان الذي يفجر الطاقات، وليس مجرد العبقرية التي في الأشخاص.
وكتب الله تعالى النصر العظيم في القادسية ، وكان عمر رضي الله عنه يخرج إلى ظهر المدينة كل يوم، ويتحرق ويتألم منتظراً الأخبار، لأنها معركة حاسمة.
بل إن أكثر المسلمين كانوا يختارون قتال الروم، ولا يختارون قتال الفرس؛ لأن قتال الفرس كان أشد، فكانوا يريدون أن يذهبوا إلى مصر والشام ولا يريدون فارس.(1/6)
وكان عمر رضي الله عنه يخاف عليهم خوفاً شديداً حتى قال: [[وددت لو أن بيني وبين فارس بحراً فلا يصلون إلينا ولا نصل إليهم ]] فلما كتب الله النصر، أرسل سعد رسولاً من عنده، وذهب يحث الناقة ويطوي القفار؛ ليبشر المسلمين بالنصر المبين، ووصل إلى قرب المدينة وإذا بهذا الرجل -عمر - جالس، يتحرق ويتألم وينتظر! فقال: من أنت؟
فقال: دعني أريد أن أبشر المسلمين وأن أبشر أمير المؤمنين، فيقول: من أنت وماذا تريد؟
فقال: الحمد لله رب العالمين، نصر الله المسلمين، وأريد أن أبشر أمير المؤمنين، ويحث الناقة لتسرع، وعمر رضي الله عنه يسرع على رجليه ولا يلحقه، ولم يقل له: أنا أمير المؤمنين، حتى دخلا إلى المدينة ، وكانت فرحة الانتصار تحث رجلي عمر رضي الله عنه، وهو يسابق الناقة حتى دخلا المدينة ، فاستقبله الناس، وقالوا: أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين.
فقال الرجل: رحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا قلت لي أنك أمير المؤمنين فأحملك وأبشرك.
ثم أخبره بما حدث من النصر المبين.
وهذا النصر بعد القادسية ، أعقبه أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دخل إلى المدائن ! العاصمة التي لا نظير في الدنيا لها في تلك الأيام!!
وكانت علامات الترقي والرتب العسكرية عند الفرس باللآلئ النادرة الثمينة!! فمن كان في رأسه لؤلؤة قيمتها مائة ألف، فهو قائد كبير مثل رستم أو ماهان ، وما كان قيمتها عشرة آلاف دينار فهو أقل وهكذا، أي: كانت الرتب بالدرر الغالية جداً، فكيف تتصورون عاصمة ملك هؤلاء الناس؟!
لما خرج كسرى من المدائن لم يخرج معه إلا ألف طباخ وسائس للصقور والحيوانات!! وكان يبكي ويتحسر أنه خرج من عاصمته ودخلها المسلمون، ولم يأخذ معه إلا ألفاً فقط! فكم كان عنده من الحواشي ومن الملك ومن الخدم ومن الأبهة في البيت الأبيض؟!(1/7)
كذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك كان اسمه البيت الأبيض، وتعجب المسلمون ودهشوا مما رأوا فيه من اللآلئ ومن اليواقيت ومن أصناف الحضارة المدهشة التي لم يحلموا أن يروها قط؛ فلما فتحوها ودخل سعد رضي الله عنه القصر سجد سجود الشكر وأخذ يقرأ قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29].
فتركوا هذا النعيم، وتركوا هذه البهجة، وهذا الملك لما مقتهم الله عز وجل وهانوا عليه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، ثم صلى لله شكراً على هذا النصر المبين.
الإيمان والأمانة
إن الإيمان يهذب النفوس، ويربيها، فليس هناك للانتصار زهو ولا خيلاء ولا كبرياء، إنما هو السجود لله عز وجل والاتعاظ والاعتبار بما جعل الله من عقوبة لمن عصاه ولمن خالف أمره واتبع غير سبيله.
وكان من أعجب ما أخذوا من الغنائم البساط، -بساط كسرى- وهذا البساط كان كبير الطول والعرض، وكان كسرى إذا جاء الشتاء يشتاق إلى الربيع، فأمر المهرة والمهندسين والفنيين، فصنعوا له هذا البساط العظيم، وجعلوا اليواقيت فيه مثلما تنبت الأزهار في الربيع ملونة بالألوان المعروفة، فأخذوا اللآلئ واليواقيت والجواهر ولونوها بلون الأزهار، وغرسوها في هذا البساط العظيم، فيجلس كسرى في إيوانه في وسط هذا البساط العجيب، ولم يكن لدى أحد من ملوك الأرض مثل هذا البساط، ولكن ماذا يفعل المسلمون؟
لابد أن يبعثوا بكل هذه الغنائم إلى بيت المال ليقسمها عمر رضي الله عنه، ويعطي من شاء، كما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيكف كان العمل؟(1/8)
ليس هناك من وسيلة لنقل هذا البساط كاملاً، فقالوا لابد أن نقطعه، ويحمل كل جمل ما يستطيع، فقطعه سعد رضي الله عنه ومن معه، حتى أوصلوه إلى المدينة ، وقالوا لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: ألا نريك يا أمير المؤمنين كيف كان يجلس كسرى؟! ففرشوا ذلك البساط، وضموا كل قطعة إلى الأخرى، وعمر رضي الله عنه واقف يتأمل ويتفحص، ويتعجب حيث لم تنقص منه لؤلؤة واحدة، فقال: [[إن قوماً أدوا هذا لأمناء ]] أي: أن جيش المسلمين جيش أمين حين أدى ذلك، لأن ياقوتة واحدة يضعها في جيبه قيمتها بعشرة آلاف دينار! ولم يكن العرب قبل الإسلام يحلمون بألف ولا بمائة درهم أن يكسبها الواحد من أموال كسرى، لكن عمر وجد البساط كاملاً!! فتعجب من هذه الأمانة! وكان بجواره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: [[يا أمير المؤمنين عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا ]] أي: لو أنك خنت لخانوا، فهؤلاء جيشك تربوا على الإيمان الذي تربيت عليه.
إنها الأمانة التي فقدتها الأمة الإسلامية، لأن هؤلاء القوم لم يخرجوا إلا ابتغاء وجه الله، وإنما كانوا يقاتلون في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وماذا تساوي يواقيت كسرى بالنسبة إلى جنات النعيم؟!
وماذا يساوي أخذ شيء من هذه الدنيا الفانية إذا كان الإنسان متوعداً عليه بغضب من الله عز وجل ونارٍ في الدار الآخرة، فلذلك أدوا تلك الغنائم كاملة وشهد لهم عمر رضي الله عنه بالأمانة.
الإيمان والانقلاب الشامل
مثال: آخر: لما كان المسلمون في الحال التي كانوا عليها قبل الإسلام، والتي قال لهم كسرى فيها: كنتم تأكلون الميتة، وتقطعون الرحم، وتنهبون الطريق، وتفعلون وتفعلون، فما الذي جاء بكم؟!(1/9)
إن كان ذلكم الجوع أطعمناكم، وإن كان العري كسيناكم، وإن كان الظلم أمّرنا عليكم ملكاً عادلاً، فقالوا له: أيها الملك، قد كان فينا مثل ما تقول وأعظم، ولكن الله بعث فينا نبياً هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وأنزل عليه الهدى والنور المبين، فاتبعناه وآمنا به، فابتعثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لنخرج العباد من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. لأن السعة والسعادة والطمأنينة لا تكون إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن أول لحظة أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها إبليس وأبانا آدم عليه السلام قال: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] فهذه تكفل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:124-125] وذلك لأن الأصل أن الإنسان يحشر يوم القيامة مثلما كان في الدنيا ولذلك فإنه هنا يقول: أنا لم أكن أعمى حتى تحشرني يوم القيامة أعمى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126] أي: بسبب أنك تعاليت عن كتاب الله وتعاليت عن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن اتباع أمر الله؛ فاليوم تحشر أعمى.
الإيمان والتخطيط الاستراتيجي(1/10)
ومثال آخر يبين ذلك أيضاً ويجليه وهو: عندما زحفت جيوش المسلمين إلى الغرب ففتحت أفريقيا كلها، ودخل عقبة بن نافع المحيط بفرسه حتى كاد أن يغيب في الماء، وقال: والله لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضتها غازياً في سبيل الله، فلما جاء موسى بن نصير وطارق بن زياد ، أخذوا السفن واقتحموا البحر إلى الأندلس ثم اقتحمت الجيوش إلى جنوب فرنسا إلى قرب مدينة بواتييه ، وهنالك دارت المعركة الكبرى، التي تسمى: بلاط الشهداء.
وكان التخطيط الذي كان يريده المسلمون هو أن يفتحوا فرنسا ، ثم يلتفوا شرقاً إلى وسط أوروبا ثم إلى شرق أوروبا -هنغاريا وبلغاريا - ثم إلى تركيا ، ثم يفتحون القسطنطينية ، ثم يرجعون إلى بلاد الشام ، إلى دمشق وإلى الخليفة، وأي أنهم كانوا يخططون لأكبر عملية التفاف عسكرية في التاريخ، بحيث يكون البحر الأبيض كله ضمن دائرة مرسومة.
سبحان الله! كيف رسمت هذه العقول هذه الخطة؟!
وكيف فكروا فيها بغض النظر عن نجاحها وعن تنفيذها؟!
لكن كيف خرج هؤلاء الأعراب؟!
ومن أية كلية عسكرية تخرجوا؟!
وعلى أية بعثة حصلوا؟!
حتى أصبح لديهم هذا التخطيط الرهيب الذي لم يكن يدور في خلد أي أعرابي!! ولم يكن العرب يعرفون ماذا يحيط بهم من الدنيا في الجاهلية، ولم يكونوا يعرفون الجغرافيا ولا الجهات ولا ركبوا البحر، وكان أخطر وأخوف شيء لديهم هو البحر، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح: { شهيد البحر مثل شهيدي البر } وهذه بشرى لأصحاب القواعد البحرية؛ لأن المقاتل في البحر يتحمل أعظم مما يتحمله غيره، فالمقصود أن هذه الفكرة وهذا التخطيط لم يكن عن دراسة عسكرية، ولم يحصل لهم ذلك، فما الذي فجر هذه الطاقات؟!
إنه الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الإيمان والرخاء والأمن
ونأخذ الموضوع من زاوية أخرى، كيف كانت حياة المسلمين؟
كيف كان المجتمع المسلم يعيش؟(1/11)
لم يوجد في الدنيا كلها مجتمع يتمتع بالطمأنينة والرخاء والأمن مثل المجتمع المسلم الذي كان يقيم كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فاض المال حتى كانت الزكاة يدور بها الجباة في الأرض، فلا يجدون من يأخذها! ولا أحد يأخذها، حتى لو كان أحدهم قليل المال، فلديه من القناعة القلبية ما يغنيه، فلا تنافس ولا تهالك بينهم على الدنيا!! على عكس ما آل إليه المسلمون بعد ذلك، يريدون أن يأخذوا المال من أي مصدر كان، سواء كان حلالاً أم حراماً، وهكذا كان الوضع من الناحية الأمنية، حيث كان الأمن في ذلك الوقت شيء لا يمكن أن يتصور، مع أنهم كانوا يملكون مساحات واسعة جداً: الصين كانت قد خضعت للمسلمين والهند والأندلس وجنوب فرنسا ، وليس هناك وسائل للاتصال إلا الدواب، والنقل عن طريقها، ومع ذلك تمتعت بأمن لم يكن له أي نظير في تاريخ الإنسانية.
الإيمان وامتثال الأوامر
ولنأخذ مثالاً على ذلك، لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان العرب يشربون الخمر، وبقي الأمر كذلك إلى أول الإسلام، ونزل الأمر بتحريمها تدريجياً، ولما نزل الأمر الصريح فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا انتهينا، ولما نادى المنادي في المدينة : إن الله تعالى قد حرم الخمر، ماذا حصل؟!
أريقت الخمور في جميع أنحاء المدينة حتى جرت في الشوارع والأزقة كالأنهار!! بلا تفتيش ولا لجنة ولا هيئة ولاشيء من هذا القبيل!! لأن الإيمان بالله عز وجل قد ثبت في قلوبهم؛ وعندما كان يوجد هناك احتمال أنها حلال أو حرام، كانت موجودة طبيعياً وعفوياًَ، لكن عندما أصبحت حراماً، قالوا: انتهينا انتهينا يا رب العالمين، فأراقوها وتخلصوا من أذاها؛ فهل هذا العمل هين على النفوس؟!
وهل هذا هين على إنسان يدمن الخمر أن يترك الخمر؟!(1/12)
صعب جداً، فكم من إنسان يقول: يا ليتني أترك الدخان! لكن لا أستطيع، وشارب الخمر لا يجاهر بذلك لكن المدخن يقول ذلك، لأن الإدمان شيء يملك الأعصاب، ويملك الحس، لكن مع الإيمان لا يوجد شيء اسمه إدمان، ولا يوجد شيء اسمه مستحيل، فمع الإيمان بالله عز وجل رفضت الخمر وأريقت، وصحت القلوب، وصحت العقول من الخمر، لماذا؟
لأن القلوب عامرة بالإيمان بالله عز جل، فهي مستعدة لتنفيذ أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومثال آخر في المجتمع المسلم، حيث كان في أول الإسلام يمشي الرجال والنساء ويعرف بعضهم بعضاً، ويرى الرجل المرأة فيعرف أنها فلانة بنت فلان، ولم يكن قد نزل الحجاب، فلما أن أنزل الله الأمر بالحجاب التزم المسلمون بذلك من أول لحظة، حتى كان الإنسان ينظر إلى النساء وهن كالغربان، لا يرى فيهن أي شيء ظاهر على الإطلاق، فهل من السهل أن الإنسان يحجب زوجته إذا كانت طول حياته كاشفة؟!
ثم يمنع الذي ليس محرماً لها، مثل ابن العم وابن الخال وكل من ليس بمحرم لها أن يراها، هذه عمليه صعبه جداً، وكل من عاناها يعرف صعوبتها، لكن مع الإيمان ليس هناك صعب، وليس هناك مستحيل.(1/13)
ولننظر إلى واقعنا المعاصر، ولا نتعرض إلى موضوع الحجاب، لأنه من المستحيل في الجاهلية المعاصرة، أن يكون هناك حجاب، لأن في قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] إشارة إلى الجاهلية الكبرى التي ستأتي، والتي يتعدى تبرجها جميع الحدود إلى حد العري في العالم وكل ذلك باسم التقدم والتطور ولا تقدم ولا تطور إلا بالإيمان بالله عز وجل، وأذكر موقفاً عجيباً وهو أنه: لما خرجت أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى منهكة مجهدة، رغم أنها كانت منتصرة، وكان فيها من العقلاء من يفكر في مستقبلها -وكل أمة فيها من العقلاء من يفكر في أمرها حتى الأمم الكافرة- فقالوا: يجب علينا أن نحرم الخمر، والأطباء قدموا التقارير عن أضرار الخمر، والمصلحون الاجتماعيون كتبوا وتكلموا عن أضرارا الخمر وأقنعوا الحكومة المركزية أن الخمر أضرارها عظيمة جداً، فأعلنت أمريكا رسمياً تحريم الخمر، وأعلن ذلك في جميع أنواع الدعاية، وجندت الجنود وجميع هيئات ولجان التفتيش لمحاربة الخمر، وجندت الجنود -أيضاً- على مداخل البلد حتى يمنع الاستيراد، وفي الداخل أقفلت المصانع وحوربت، وكانت حركة عجيبة جداًَ، بالإضافة إلى الإعلان في الصحف والنشرات والملصقات، كل ذلك أتُّخذ من أجل أن يقتنع الشعب الأمريكي بترك الخمر، واستمروا على ذلك فترة، ثم طلبت الحكومة التقارير عما حدث، وإذا بالتقارير تقول: إن الخمر يشرب أكثر مما كان!! وإن الخمر أصبح فناً لا تستطيع الجهات الرسمية أن تلاحقه!! فقالوا: استمروا وزيدوا في الدعاية وزيدوا في النفقة ولا يمكن أن نتراجع، فزادوا واجتهدوا، ثم جاءت التقارير تقول أيضاً: زادت الخمر وزاد تهريب الخمر، وزادت مصانع الخمر، واللجان التي تفتش عن شرب الخمر هي التي تشربها! وهي التي تبني المصانع من أجلها!! أمر مستحيل لا يمكن!! وعرض الموضوع على الإدارة(1/14)
المركزية وعلى الكونجرس وبحث ثم بحث.. وأخيراً: أعلنت أمريكا فشلها وأعلنت أن الخمر حلال!!
لماذا لم ينجحوا؟
ولماذا في المجتمع المسلم أريقت في لحظات وانتهت المشكلة؟
ولماذا هذه الدول التي يقال: إنها متقدمة ومتطورة فشلت في ذلك، هل هو نقص في التكنولوجيا؟!
وهل هو نقص في وسائل المراقبة؟!
أو نقص في الإمكانات البشرية؟!
أو في فن الدعاية؟!
إنه شيء واحد ننساه ونغفل عنه، إنه الإيمان!!
بلا إيمان لا يمكن أن يستقيم الإنسان -لا فرداً ولا أمة- ولا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً حقيقياً أبداً إلا إذا كان مؤمناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مطبقاً لما جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحذافيره، فيترقى في درجات الخير وفي الرقي وفي الكرامة وفي العزة، بقدر ما يترقى في الاجتهاد لتطبيق هذا الدين في نفسه وفي مجتمعه وفي أمته، فرداً كان أو أمة لا يختلف الحال، هذا هو الأساس الذي لابد أن يدور عليه صلاح الأمم جميعاً.
والعجيب أنهم في أمريكا ، أصبحوا يفرحون إذا جاء الدعاة من العالم الإسلامي، رغم أنهم يذهبون وهم لا يجيدون اللغة الإنجليزية إلا قليلاً، ولا يحسنون أيضاً عرض الإسلام، لكن هؤلاء الدعاة تفرح أمريكا بهم!! فماذا تصنع معهم؟
الحكومة الأمريكية تأخذهم وتدخلهم إلى السجون، ليعلموا المجرمين الإسلام، فيخرج الإنسان من أعتى درجات الإجرام في السجون، ليصبح إنساناًَ مهذباً سليماً، سبحان الله! وبعضهم قد يأتي إلى بلاد الإسلام إذا أسلم، وكتب الله له الهداية، وكثير من الذين يذهبون للبعثات هناك ويوفقهم الله إلى الاستقامة والدعوة، يعلمون هذه الحقيقة فالجهات المختصة هناك تفرح أن يأتي إنسان ليعظ ويدعو إلى الإسلام، لأنها تجد تأثير الإيمان في نفوس هؤلاء الناس!
فلماذا إذن هم لا يؤمنون بالله؟!(1/15)
قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
فهم يأنفون أن يتبعوا ديناًَ أُنزل إلى العرب قبل أربعة عشر قرناً، وكان نبيه يركب الجمل، وينام على الحصير، وهم في أبهة التقدم والرقي الحضاري والمادي! ومن هنا جاءت العقوبة، من الاستكبار على الله عز وجل جاءتهم العقوبة، وستأتيهم، وستأتي كل من عصى الله عز وجل: أبى الله إلا أن يذل من عصاه، كائناً من كان وبمقدار المعصية يكون الذل.
أذلهم الله حتى بأصغر مخلوقاته، كما قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] منها الهربز، ومنها الإيدز، ومنها الجرائم، ومنها ومنها.. فلابد من عقوبات لكل أمة تنحرف عن طاعة الله سواء كانت كافرة أم مسلمة ثم عصت الله حتى لو كان فرداً عصى الله عز وجل فلا بد أن يلاقي جزاء معصيته!! وهم لن يؤمنوا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] فهم يرون أن ما عندهم من العلم يكفيهم ويغنيهم عن الدين، فلسان حالهم يقول: ماذا تريدون؟
تريدون أن تحلوا المشاكل الاجتماعية فعندنا علماء الاجتماع المتخصصون المهرة الحاصلون على أعلى الدرجات، فلا حاجة لنا إلى الإسلام ليصحح أوضاعنا الاجتماعية، أم تريدون إصلاح النفوس؟
فلا حاجة لنا إلى الإيمان ليصحح نفوسنا؛ لأن عندنا علماء النفس والمختبرات والعلاج النفسي، فهكذا فرحوا بما عندهم من العلم.
وإن مصير ذلك هو الخسران؛ لأنه لا سعادة ولا طمأنينة لكل تلك المجتمعات، فهم ينتحرون، والأسرة الواحدة متفككة، وهناك حربان أعلنتهما أمريكا وهي أرقى دول العالم وأقواها في التكنولوجيا والمادة :
الأولى: حرب النجوم مع بقية الدول العظمى.
والحرب الأخرى هي: الحرب على المخدرات!(1/16)
فهل تتوقعون أن نتيجة الحرب على المخدرات تختلف عن نتيجة الحرب على الخمر؟!
لا نقول هذا من أجل أن نعرِّض أو نشمت بالمجتمعات الأخرى غيرنا، لا، لكننا نقول ذلك لأننا في حاجة إلى أن نعرف حقيقة ديننا، ولأن أكثر ما جعلنا نعرض عن ديننا أننا بُهِرْنا وخُدِعْنا بهذه الدول، وأعمانا ما وصلت إليه من التطور عن الإيمان الذي تفتقده، ولهذا تجد المسلم يعمل مع الكافر في عمل واحد أو يعاشره أو يخالطه أو يراه، ولا يخطر بباله أنني أنا مسلم وأنا مؤمن، وأن لديّ من الخير ومن السعادة ما لا يمكن أن يملكه هذا الفرد ولا دولته ولا أمته، فأصبح الإنسان المسلم ينظر إليه، ويقول: هؤلاء الناس عندهم المناصب، والمراتب، وعندهم الدنيا، والحضارة، والرقي، ولو أنه يعلم قيمة الإيمان بالله عز وجل لعلم أن ما أنعم الله عليه به من الإيمان أعظم من كل نعيم الدنيا ولو كان أعظم رجل من الكفار في ذلك، فإن العجوز المسلمة أو راعي الغنم المسلم الساذج المريض العليل هو أكرم وأفضل، ولديه نعمة أعظم مما عند عظيم العظماء من أهل الكفر والضلال؛ لأن الأساس في ذلك هو الإيمان!!
وإذا أردنا أن نتأكد من ذلك، فلننظر إلى النتيجة، لأن العبرة بالنتيجة والعبرة بالعاقبة، فماذا يقول الكفار يوم القيامة؟!
نحن الذين نملك كل شيء! ونسيطر على العالم! ونخضع البشرية! لا، بل يقول الكافر كما في الآية: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40]؛ لأنهم يرون البهائم والحشرات يقال لها: كوني تراباً، فيتمنى أنه خلق بهيمةً عجماء؛ لأنه لم يكن مؤمناً بالله عز وجل، فيتمنى أن يكون تراباً كالبهائم فقط!!
إذاً: ما قيمة هذا العمر المحدود؟!
خمسون أو سبعون أو عشرون سنة، ما قيمته بالنسبة لموقف يوم القيامة؟!
وهو خمسون ألف سنة!! هذا اليوم الذي هو: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:10] هذا اليوم العظيم الرهيب عليهم، هل نغبطهم أنهم في هذا الدنيا تمتعوا بهذا المتاع الفاني؟!(1/17)
هذا المتاع الذي نملك منه ونملك مثله ولله الحمد، ومع ذلك لدينا -أيضاً- النعمة الكبرى التي يجب أن نستشعرها، فهل قدرنا هذه النعمة؟!
وهل عرفنا أن هذا الإيمان هو النعمة العظمى؟!
ومن أعظم شكر هذه النعمة أن نستقيم على الإيمان، وأن نستمر عليه، وأن نثبت أنفسنا وأمتنا ومجتمعاتنا عليه، فلا يوجد طمأنينة ولا سكينة إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
انظروا إلى جانب واحد من جوانب الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الركن السادس من أركان الإيمان، فكثير من المسلمين لا يدركون قيمة الإيمان بالقدر، مع أننا نقول: هذا قدر الله، حتى الذين تمسكهم بالدين ضعيف فإنهم لا يقنطون، ولا يجزعون، وهذه النعمة نحن لا ندركها، حيث نقول: قدر الله كل شيء، لكن لو عرفنا أن من أعظم أسباب التفكك في الغرب، والانتحار الذي أصبح يعذب الكثير منهم، هو انعدام الإيمان بالقدر! فلو أن الإنسان يؤمن بالقدر، ويؤمن بأنه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] فإذا فشل في تجارته، أو فشل حزبه في الانتخابات، أو فشل في دراسته، أو فشل في الحكم -كما يقولون- أو فشل في أي شيء، يقول: يمكن أن يكون هناك خير في البديل، لكن عند الغرب لا يوجد هذا، فإذا فشل انتحر وانتهى الأمر، فليس هناك بديل لأن هذا الكافر يعيش في ألم، ويعيش في ضنك ويعيش في مأساة رهيبة.(1/18)
وأذكر أنني قرأت لأحد العلماء الكبار وهو متخصص في الدارسات الاجتماعية ومن أكبر العلماء في أمريكا عنوان كتابه: المجتمع الأمريكي عارياً ، أي: مكشوفاً، وكان يتقدم بذلك الكلام لينصح أمته، وينصح بني دينه، وينصح بني جنسه، فيقول: إني أتعجب أننا نتنافس ونتسابق في إرسال أفراد منا إلى الكواكب الأخرى في الفضاء، والفرد الواحد منا لا يستطيع أن يخرج للتنزه في الحديقة المجاوره لمنزلة ليلاً!! وهذا الكلام لم يقله رجل مسلم، ولا قاله هو من باب الشماتة؛ بل إنه يقدم لأمته الحل، فيقول: نحن استطعنا أن نرسل الإنسان إلى الفضاء، لكن لا نقدر أن نخرج من البيت إلى الحديقة المجاورة في الليل! لأن العصابات تختطفه، لماذا؟ لأنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً[طه:124].
فما هو الذي يجب أن نتمسك به أولاً، وأن نتأمله، وأن نتدبره، وأن نجعله معيار حياتنا ومنهاجها؟
إنه كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا الذي بين أيدينا، فهل علمنا أبناءنا تعظيم كتاب الله؟!
وهل علمناهم حفظ كتاب الله بقدر الاستطاعة؟!
وهل ألزمنا أنفسنا بالوقوف حيث أمر الله في كتابه، والانتهاء عما نهى الله عنه في كتابه؟!
وهل جعلناه منهاج حياتنا في العمل، وفي البيت، وفي المدرسة، وفي المجتمع، وفي الأمة ككل؟!
إننا لا نحتاج إلى إجابة، بل إننا نقول: بقدر ما تجدون عندنا -كأفراد أو مجتمع- من الطمأنينة ومن الرخاء ومن النعمة، فهو بقدر ما لدينا من الإيمان ومن التصديق بكتاب الله، وبقدر فقدنا ذلك فاعلموا أننا نفقد التمسك بكتاب الله بقدر ذلك أيضاً، هذا هو المعيار.(1/19)
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال حتى عن أهل الكتاب من قبلنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] سبحان الله!! إذا أقمنا كتاب الله؛ فإننا سنأكل من فوقنا ومن تحت أرجلنا، أي: تأتينا النعم من السماء والأرض، ويأتينا النعيم، ويأتينا النصر، ويأتينا العلم، ويأتينا كل ما يطمح إليه الفرد وما تطمح إليه الأمة والجماعة والمجتمع، فهذا كتاب الله بين أيدينا، ما تغير منه -ولله الحمد- حرفٌ واحد، وهذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا في السنة الصحيحة، نستطيع أن نرى كيف كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل، وكيف كان يتعبد، وكيف كان يجاهد، وكيف كان في بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف كان في مجتمعه، وكيف كان حسن خلقه، وأين نحن من حسن خلقه؟!
ونحن المسلمين كم بيننا من العداوات، بين الزميل وزميله، وكم من المشاحنات بين الجار وجاره، إلا من وفقه الله تبارك وتعالى، وما الذي يقضي على أمراض القلوب هذه جميعاً؟!
إنه الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن الإيمان بالله يجعل الإيثار والتضحية محل الأثرة ومحل المعاندة، والإيمان بالله تعالى يجعل الإنسان يقر بخطئه، ومن منا اليوم يقر بخطئه؟!
إن هذا أصعب شيء على النفوس أن يقول الإنسان منا: نعم أنا الذي أخطأت، وأنا مستعد أن أتحمل نتيجة خطئي، كم فينا من شجاع يمكن أن يقول ذلك؟!
الأمانة والصدق والوفاء بالوعد... كل هذا مما يأمرنا به ديننا، وهي من شعب الإيمان التي إذا عملنا بها تغيرت حياتنا تماماً.(1/20)
وقد ذكر لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسئلة الأربعة التي تكون في امتحان الآخرة، وهو امتحان يختلف كثيراً في كل شيء عن امتحانات الدنيا، فامتحانات الدنيا لا تعلم أسئلتها، لكن امتحان يوم القيامة أربعة أسئلة معروفة، وكلها إجباري، ولو تأملها الإنسان منا لاستطاع أن يضع الإجابة من الآن، فما الفرق بين أنك تضعها الآن أو تضعها من بعد؟!
وكلنا قريباً سوف نُسأل هذه الأسئلة، فلنستعد للإجابة من الآن، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره: فيما أفناه، وعن شبابه: فيما أبلاه، وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه: ماذا عمل به }.
المال تسأل عنه: أخذت المال من حلال, فهل أنفقته في حرام؟
ولا يمكن أن تكون النجاة ولا النجاح إذا كان كذلك.. والسؤال الرابع وعن علمه ماذا عمل به؟
فالحمد لله أنه لم يسألنا عن علم العلماء, لكن سألنا عن علمنا نحن, فيكفيك هذا العلم الذي تعلمته, تعلم أن الخيانة حرام؟
يكفيك.. تعلم أن الغناء وسماع الموسيقى حرام؟
يكفيك..تعلم أن النظر إلى المرأة الأجنبية سواء في الشارع, أو في المجلة حرام؟
يكفيك أن تعلم أنه حرام, وليس لك عذر: كان كذا وكل الناس كذا, هذه المعاذير كثيرة لكنها لا تفيد وكل نفس بشرية تأتي بالمعاذير: بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:15].(1/21)
إذا اهتدى يقول: الحمد لله اهتديت وتركت هذه الأشياء, وهو من قبل يقول: كل الناس يفعلوا هذا، وهذا ليس فيه شيء!! بل هناك شيء عظيم جداً، إما السعادة والطمأنينة في الدنيا، والنجاة من عذاب الله في الآخرة, وإما الشقاوة والمعيشة الضنك في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة!! فكل ما نعلم أنه حرام نجتنبه, وكل ما نعلم أنه واجب نحرص عليه, الصلاةُ جماعةً واجبٌ, فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعذر حتى الأعمى! مع أنه أعمى ولا قائد له!! وفي المدينة ليس فيها كهرباء ولا أنوار!!! ومع ذلك لم يعذره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بترك الجماعة؛ فمن الذي يعذرمنا -والحمد لله- كل شيء مهيأ، المساجد مكيفة, والطرق آمنة, والأنوار مضاءة, ولا يوجد أي عذر أبداً.
وكلنا نعلم أن صلة الأرحام واجبة, وهي من شعب الإيمان، ونحن نحتاج الإيمان فلنصل أرحامنا, ولنعلم أن الأمانة والإخلاص في العمل, وأن طاعة الرئيس أو القائد في طاعة الله عز وجل, ولا بد منها لنجاح العمل ولتحقيقه, ولنعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نرحم وأن نشفق على من ولانا الله أمره، وعلى من كان تحت قيادتنا, وهكذا.. أمور كثيرة جداً, ولا يوجد واحد منا إلا وهو مسئول من جهة ومرءوس من جهة أخرى, ولا يوجد أحد إلا وهو قريب للناس, وله أقرباء من ناحية أخرى, وهكذا.
فيجب علينا جميعاً أن نقف حيثما أمر الله, ونعرض أحوالنا جميعاً على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] ولو علمنا ذلك وعملنا به, فهل يعز على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبدل حالنا إلى ما هو أفضل منه؟ وهل يعز على الله عز وجل أن يرزقنا النصر كما رزق الصحابة الأولين؟(1/22)
أبداً، نحن الآن نملك من القوة المادية ما لم يملكه الصحابة الأولون، ونعرف من أنواع الخبرات العالمية ما لم تكن لديهم, فإذا تمسكنا بكتاب الله وعرفنا حقيقة الإيمان, ونعمة الإيمان, واهتدينا بهديه, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تكفل وتأذن أن يعيد لنا ذلك الملك وذلك النصر, كما قال لمن قبلنا من بني إسرائيل: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، فكذلك هذه الأمة؛ إن عادت للمعاصي؛ عاد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها بالعقوبة، وإن رجعت لدين الله, فإنه يرجع إليها السعادة والنصر والفلاح والقوة.
وأختم قولي بوصية الله الكبرى الخالدة: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، فهذه وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا جميعاً، أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأن نؤمن به حق الإيمان, وأن نعلم حقيقة إيماننا؛ فنحمد الله على هذه النعمة، ونشكره على أن منّ علينا بها.
هل يدخل الجنة من لم يعمل خيراً قط؟
السؤال: إن الله يخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط؟
فكيف تردون على هذه الشبهة؟(1/23)
الجواب: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب أنه لن يُدخل الجنة إلا نفساً مؤمنة, كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومن نقض الإيمان لن يدخل الجنة أبداً, ومن ذلك مثلاً: ترك الصلاة, من ترك الصلاة عامداً متعمداًَ فإنه كافر, حرم الله تعالى عليه الجنة, كما أجمع على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم, لكن هذه الرواية: {إن الله يخرج أقواماً لم يعملوا خيراً قط } جاءت ضمن حديث طويل, هو حديث الشفاعة, وقد رواه البخاري , ومسلم , حيث يجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الخلائق يوم القيامة, ثم يأمر من كان يعبد شيئاً أن يتبعه, فيتبع الذين كانوا يعبدون الطواغيت الطواغيت, ويتبع عبدة الكواكب الكواكب, وكل قوم يتبعون ما يعبدون فلا يبقى إلا المؤمنون الذين يعرفون ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, بالعلامة: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] إلى آخر الحديث الطويل, والمهم أنه بعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, يتحنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويرحم خلقه, وهناك أناس لم يكتب لهم الخلود في النار, فهؤلاء يخرجون من النار, فيأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء أن يخرجوهم من النار, وفي نفس هذا الحديث يقول: فيعرفونهم بعلامة السجود, كيف يعرف النبيون والصالحون والملائكة من الشفعاء أن هذا الإنسان يستحق أن يخرج من النار, ويدخل الجنة؟
بعلامة السجود, يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تأكل النار من ابن آدم إلا أعضاء السجود } إلا آثار السجود, لا تأكلها النار, ولذلك يعرفونهم بها.
إذاً، نفهم من هذا أن تارك الصلاة ليس من هؤلاء, وأن قوله: "لم يعملوا خيراً قط" لا يعني أنهم لم يكونوا مصلين, ولا مزكين, لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوماً جالساً مع أصحابه, فقال لهم: {أتدرون من المفلس؟(1/24)
قالوا: المفلس يا رسول الله، من لا درهم له ولا متاع، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة -يعني أنواع من العبادات- فيأتي وقد ظلم هذا, وشتم هذا, وأخذ مال هذا, فيؤخذ من حسناته فيعطى لهم, حتى إذا نفدت، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه, ثم يلقى في النار } فهذا لم يعمل خيراً, وإن كان يصلي وكان عنده عبادة، لكن ما كان عنده خير, لماذا لم يعمل خيراً؟
لأن الخير ذهب بذهاب الحسنات، وبقي فيه أثر السجود.
وأيضاً الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب إلى العابد، فسأله فقال: لا توبة لك, فأكمل به المائة, وبعد موته جاءت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب واختصمت فيه, قالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط, كيف لم يعمل خيراً قط؟
ألم يتب؟
أليست التوبة عملاً؟
بل هي من أفضل الأعمال، ومع ذلك قيل فيه: لم يعمل خيراً قط.
وأيضاً حديث الرجل الذي قال لأهله: إذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروا نصفي في البحر, ونصفي في البر, فوالله لئن قدر الله عليّ، ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كان رجل ممن قبلكم لم يعمل خيراً قط } كيف لم يعمل خيراً قط؟
الرواية الأخرى وضحت ذلك, أنه {أسرف على نفسه بالمعاصي } -بالزنا والخمر والفواحش- فما بقي للصلاة أي أثر على نفسه, حتى قيل عنه: { لم يعمل خيراً قط } ثم أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البر والبحر, فجمع كلٌ ما فيه، فيبعثه وهو القدير على كل شيء, ويقول: {عبدي لم فعلت ذلك؟ يقول: خوفك يا رب! }
فليس هو الكفر ولا إنكار البعث؛ لكن خوفك يا رب، فيغفر الله له لخوفه من الله, وإلا فإن الاعتقاد بإن الله لا يقدر أن يجمعه إذا كان رماداً -كما يفهم من كلام الرجل وفعله- لا يصح أبداً ولا يجوز أن يعتقده.(1/25)
وليس هناك حالة فيها أنهم لم يعملوا خيراً قط، لا صلاة ولا صيام ولا أي عمل إلا حالة واحدة، يخرجون من النار ولم يكونوا من أهل الصلاة والإيمان، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كما روى ذلك حذيفة رضي الله تعالى عنه: {يدرس الإسلام -أي يضمحل- كما يدرس الثوب الخلق, حتى لا يدرى ما صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا صدقة, فيبقى الرجل الهرم والمرأة العجوز, يقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله, فنحن نقول هذه الكلمة, فقال أحد التابعين لحذيفة رضي الله عنه: فما تغنيهم لا إله إلا الله؟! فقال حذيفة رضي الله عنه: تنجيهم من النار } فشرار الخلق عند الله هم الذين يأتون في آخر الزمان, وهم هؤلاء, بعد أن رفع القرآن ورفع العلم, ولا يدرون عن أي شيء, ويرتكبون الموبقات والمعاصي, أهم شيء عندهم هو تكرير كلمة لا إله إلا الله, أدركنا آباءنا يقولونها، فهؤلاء تنجيهم من النار , لأنهم ما أدركوا شيئاً من الدين, لكن من يعلم أن الصلاة واجبة وكذلك الزكاة والحج وترك الخمر وترك الزنا وترك الفواحش, ثم يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله, ولا يؤثر عليّ ترك الأعمال ,فنقول له: هؤلاء لم يعلموا بالواجبات حتى يعملوا بها، أما أنت فقد علمت بها فلا يشملك حكمهم، فكيف تقارن نفسك بهؤلاء وهم في حالة الجهل, وأنت في ديار العلم!!
والناس فيما يتعلق بالإيمان والعقيدة يعتمدون على أن المسلم من يشهد أن لا إله إلا الله فقط، كما هو مذهب المرجئة ، أما المذهب الحق وهو ما عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته، فلا بد من العمل، وقد أجمع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر.
توبة القاتل وأحاديث الوعيد
السؤال: {أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة } حديث صحيح, كيف نوفق بين هذا, وبين قبول الله توبة الكافر, أو العاصي, لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر }؟(1/26)
الجواب:هذا من أحاديث الوعيد, وأحاديث الوعيد نؤمن بها, ونبقيها على عمومها في الوعيد {إن الله حجب التوبة عن صاحب البدعة } فقد يتوب أصحاب البدع, لكن نبقي لهم أحاديث الوعيد, ونبقيها على ظاهرها, ومما يخرج من الجدال أن القاتل يتوب فيما بينه وبين ربه عز وجل, ولكنه لما قتل نفساً, فلا بد من القصاص منه لأن هذا حق أولياء المقتول إلا أن يعفوا، وبقي حق المقتول لأنه تتعلق ذمته بثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، وحق أولياء المقتول مثلاً: إذا أخذت على إنسان مالاً حراماً, فإنك تؤاخذ من جهتين: من جهة أنك عصيت أمر الله عز وجل, ومن جهة أنه حق للمخلوق, فلا بد للإنسان أن يستغفر الله, وأن يرجع حق المخلوق.
وهكذا القاتل إن أراد المخرج من ذلك, فإن عليه أولاً أن يتوب إلى الله مهما كان -والتوبة تقبل بإذن الله- ويقبل الله توبة العبد بأن يتوب ويقلع عن هذا الذنب, ومن أعظم ما يكفر ذلك -كما جاء في الحديث- أن يُقتل في سبيل الله عز وجل, وإذا لم يتح له ذلك فإنه يتوب ويتصدق ويجاهد بالأعمال الصالحة, لعل الله أن يكفر عنه, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة إذا بعث هذا وذاك في موقف الحساب، فإنه يحكم بينهما، ويقتص للمظلوم، حتى إنه {يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء } أي: الشاة التي لها قرون والشاة التي ليس لها قرون إذا نطحتها، وإذا رأى الله صدق توبته وكانت له أعمال صالحة، فإنه يرضي خصمه برفع منزلته ويعفو عنه برحمته.
حقيقة قضية تحرير المرأة
السؤال: أشرتم فضيلتكم بأن الدين يأمر نساء المسلمين بالقرار في بيوتهن, فهل يتفضل فضيلتكم بالإشارة إلى المخططات التي يخططها أعداء الإسلام للعمل على تحرير المرأة في المجتمع من دينها, وجعلها مثل المرأة الغربية؟(1/27)
الجواب: أولاً: كلمة (تحرير المرأة) لم تعرفها الأمة الإسلامية في كل عقودها إلا من أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأول من ابتدع هذه الفكرة وهذه الكلمة هو رجل نصراني قبطي من مصر , بإيعاز من المستعمرين الإنجليز, وأخذوا يخططون في إخراج المرأة المسلمة من بيتها, ويسمون ذلك تحريراً لها, وكما قال أحد زعماء فرنسا : إن الذي هزم فرنسا في الجزائر هي المرأة المسلمة المحجبة فلا بد أن يعملوا على إخراجها من الحجاب, لأنها ترضع الطفل، وترضعه مع اللبن كراهية المستعمر من أعداء الله, فإذا تبرجت وخرجت، وتولت تربية الطفل المحاضن, أو تكون التي تولته كافرة, قضوا على هذه الأمة.
فأول من بدأ هذه الدعوة هم هؤلاء, واستمروا على ذلك, وعقد في شهر محرم من هذه السنة مؤتمراً سموه المؤتمر الثاني للمرأة العربية, عقد في القاهرة , ونشرت جريدة عكاظ خبر تفاصيل ما دار في ذلك المؤتمر, لأن مندوبة الجريدة حضرت المؤتمر, فذكرت ما دار في المؤتمر إلى أن قالت: وبعد أن تهجموا على الإسلام, وشنعوا عليه, قامت إحدى المؤتمرات فسألت رئيسة المؤتمر، وقالت: من أين يمول هذا المؤتمر؟
فقالت: من مؤسسة سبأ و.. وذكرت شركات يهودية صهيونية معروفة، فانفض الاجتماع، وخرجت أكثر المؤتمرات, وهن متبرجات أصلاً, وجئن من بلادهن ليطالبن بتحرير المرأة, وليس عندهن تمسك بالدين, لكن لما علمن أن الصهيونية العالمية هي التي تمول هذا المؤتمر, انسحبن وخرج أكثرهن, وفشل المؤتمر.(1/28)
حتى هذه المجلات النسائية, وعروض الأزياء, وأمثالها، وكل هذه الأعمال -في الغالب- وراءها اليهود, وقد ذكروا ذلك في البروتوكولات والمخططات, التي كتبها حكماء صهيون، فهم يريدون أن يفسدوا الإنسانية، ويفسدوا المرأة عن طريق الفن, وعن طريق التمثيل, وعن طريق الألعاب, وعن طريق الرياضة, وغير ذلك، ليضمنوا إخراج الأميين -أي غير اليهود- من بيوتهم وأوطانهم ولذلك قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] أي: غير اليهود قالوا: حتى نخرجهم من دينهم، ويصبحوا عبيداً لنا, ولن تقوم مملكة داود كما يسمونها لتحكم العالم إلا على أنقاض الأديان والأخلاق الموجودة عند العالم, فلا بد أن ينتشر الفساد في العالم.
فلذلك اليهود وراء دور السينما الضخمة, وهم وراء كل المصائب المكشوفة في الأفلام والصحف والكتب وغير ذلك, وهم وراء تجارة المخدرات, فكل هذه الأمور الخبيثة وراءها اليهود, ومن أعظم ما يريدونه من مجتمعاتنا المسلمة هو إخراج المرأة من بيتها، وأن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.
حكم تارك الصلاة
السؤال: هل تارك الصلاة كسلاً كافر مخلد في النار؟
أم أنه يعذب على قدر ذنوبه وبعد ذلك يدخل الجنة؟
الجواب: الذي يترك الصلاة جحوداً هذا لا إشكال في كفره, لأنه لو جحد غير ذلك من الواجبات وحتى المستحبات كفر, وأما الذي يترك الصلاة مع إقراره أنها واجبة, ولكنه لا يصلي فيتركها باستمرار وانقطاع، فلا حظ له في الإسلام, قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بين العبد وبين الكفر -أو قال: الشرك- ترك الصلاة } والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد أن يحرق بيوت الذين يصلون في بيوتهم, أي الذي يتخلفون عن صلاة الجماعة, فما بالكم بالذي لا يصلي, ويقول: أنا متكاسل، فهل هذا العذر مقبول حتى عند أدنى إنسان؟!(1/29)
فكيف يتكاسل عن هذا الواجب بعد توحيد الله عز وجل والشهادتين؟!
فمن تركها تركاً كلياًَ وإن كان تكاسلاً أو إهمالاً فإنه يكفر, أما إذا صلى فرضاً وترك فرضاً, فإنه يدخل في الإيمان متى صلى, ويخرج منه متى ترك, فهو منافق متردد بين الحالين، إما أن يستمر في أداء الصلاة ويثبت على الإسلام, وإما أن ينقطع عنها بالكلية ويثبت على الكفر.
خطر الشيعة
السؤال: نحن هذه الأيام نعمل مع الجماعة الذين يسمون الشيعة في بعض مناطق المسلمين، وعندهم كثير من المبتدعات، فما حكم الإسلام فيهم؟
الجواب: لقد بعث الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به الناس، وكان له أصحاب ملازمون له، أخذوا عنه هديه وسنته، ونقلوا لنا هذا الدين كاملاً، ثم جاء هؤلاء الشيعة فقالوا: إن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم كفار إلا أربعة: علي والمقداد وسلمان وعمار وهذا عجيب! فمن أين جاءنا القرآن؟!
ومن أين جاءتنا السنة؟!
أليس ذلك عن طريق هؤلاء، فإذا كانوا كلهم مرتدين، فمن المسلم إذن؟!
ومن أين أتى هذا الدين؟!
قالوا: ما أتى هذا العلم إلا عن طريق علي وأهل بيته، ثم بعد ذلك العلم الذي لدى علي وأهل بيته, ولا يعرفه إلا الخواص الذين كانوا يعيشون معهم, وليس العلم الظاهر الذي عند الناس من معاني الصلاة والزكاة، بل معانيها وسائر الدين من قرآن وسنة عند علي ثم من كان إماماً بعده إلى أن انتهت إلى الإمام الثاني عشر وكانت معه، ثم دخل بها السرداب وأخذ الكتب كلها معه، وغاب ولن يخرج إلا في آخر الزمان، فعند ذلك إذا خرج يخرج بالعلم والشريعة، إذاً أين الإسلام؟
إذا كان الإسلام الذي نعرفه منافياً لما عند علي ، وما عند علي دخل في السرداب، فعلى هذا الزعم الباطل ليس هناك إسلام، فعطلوا الأحكام، ولهذا -مثلاً- صلاة الجمعة عندهم مجرد سنة، هل يريد اليهود أعظم من ترك صلاة الجمعة؟!(1/30)
وليس عندهم -أيضاً- جهاد، ويقولون: لا نجاهد إلا إذا خرج الإمام من السرداب.
فهم قد خالفوا المسلمين في أصول الدين وفروعه، ومن أعظم المخالفات قولهم: إن القرآن ناقص ومحرف، وإن القرآن الكامل موجود مع الإمام الثاني عشر في السرداب، وهؤلاء القوم من خبثهم على الإسلام يجرّون أعظم الضرر على المسلمين، وقد ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في كتاب منهاج السنة النبوية , ذكر أصلهم, ومنشأهم, وكلامهم بالتفصيل, ونقض كلامهم بالتفصيل, وذكر حقيقة مهمة جداً, وهي أن هؤلاء القوم دائماً مع أعداء الله, يوالون اليهود والنصارى والمغول والتتار, وكل من يهاجم بلاد المسلمين فإنهم يكونون معه ضد المسلمين، وهم يلتمسون محاربة أهل السنة ، ولو بالوقوف مع الكافرين.
معنى رب العزة
السؤال: قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:180] والعزة صفة للرب تبارك وتعالى, فكيف تكون مربوبة, وكيف يكون التوفيق؟
الجواب: لقد انفرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعزة، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10] وهي من صفاته، ورب العزة بمعنى كافلها, كما يقال: فلان رب الدار, أي: فلان صاحب الدار, فهو صاحب العزة, , فليس هناك إشكال والحمد لله.
أول الخلق
السؤال: يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أول ما خلق الله القلم } الحديث, ويقال: إن العرش أول ما خلق فما الصحيح؟
وإذا كان العرش هو المخلوق أولاً فكيف يكون التوفيق؟(1/31)
الجواب: الصحيح أن أول المخلوقات بالنسبة للعالم الذي نعرفه نحن هو العرش, أما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فكتب مقادير كل شيء, قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة } فليس معنى الحديث أن القلم هو أول المخلوقات, بل معناه أنه في بداية خلق الله للقلم, قال له: اكتب، فليس هناك تعارض.
التسخط عند المصائب
السؤال: بعض الناس يقول: أنا مؤمن أن الله قدر لي الخير والشر ولكل الناس، ولكن لماذا يقدر الشر لي دون سواي؟
فكيف نرد على مثل هؤلاء؟
الجواب: الذي يقول: لماذا خصني الله عز وجل بالشر, وقدر الخير لغيري ينبغي له بل يجب أن يخاف الله وأن يتوب, من هذا القول وليقل: قدّر الله وما شاء فعل, وأن يحمد الله عز وجل على كل ما أصابه, فقد قال جل شأنه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] فلو أن هذا الإنسان تذكر أن هناك الكثير قد عفا الله عنه, وهو إن وقع في هذه المصيبة فقد عوقب بها بسبب ذنب واحد أو اثنين، ثم إنها خير للمؤمن, حتى الشوكة يشاكها المؤمن خير له, إذا صبر واحتسب.
المشغولون بالأعمال العسكرية وطلب العلم
السؤال: بحكم ما نحن فيه من عمل عسكري فليس في وسعنا تعلم العلوم الشرعية, فهل يجب علينا تعلم كل العلوم الشرعية أم ماذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: لا يجب على العاملين في السلك العسكري أن يتعلموا العلوم الشرعية, كما أنه لا يجب عليّ أن أكون ضابطاً أو قائداً؛ لأن الله تعالى قد هيأ كل إنسان لثغرة من ثغور الإسلام, فالجنود على ثغرة عظيمة، وهي ثغرة الجهاد لإعلاء كلمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, والدفاع عن المقدسات، وعن الدين، وعن هذه الأمة المسلمة, إذا أخلصوا لله بعملهم، وليس هناك عمل يعادل الرباط في سبيل الله.(1/32)
ولكن مع ذلك, يجب على كل مسلم بقدر ما يستطيع أن يزود نفسه بالعلم الذي يعينه على أن يعبد الله تعالى عبادة صحيحة, كأن يحضر حلقات العلم, وأن يقرأ, فكلما ازداد علماً ازداد من الخير, ولذلك توزع الكتب, وتفتح المكتبات, والشئون الدينية تقوم بالواجب, وتستدعي المحاضرين وأمثال ذلك من الجهود التي لو قوبلت بالرغبة والمبادرة لحصل الخير العظيم.
أما الوجوب فلا يجب عليهم أن يكونوا علماء في الشريعة ليسوا مقصرين في ذلك, وإنما كل إنسان بحسب اختصاصه, وبحسب مجاله, نسأل الله تعالى أن يعين كل مسلم فيما اختص به, وأن يوفقه إلى أن يحقق النجاح للإسلام من الثغرة التي هو فيها, وألا يؤتى الإسلام من قبله.
التداوي بالمحظورات
السؤال: يوجد لدي ولد مريض بالتخلف العقلي, وقرر الدكتور إعطاءه مخدراً بقدر (75%)، وإلا مات فما الحكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب: بلا شك أن الضرورات تبيح المحظورات, هذه قاعدة شرعية معروفة، ولكن لا نتساهل في هذا الأمر, بل الأحوط للإنسان أن ينظر إلى حال هذا الطبيب, فإن كان مسلماً ديناً فالحمد لله، وإن كان غير ذلك، فليتأكد من حذق الطبيب, وليتأكد أنه من الناحية العلمية لا يوجد إلا هذا المخدر, فعلى الإنسان أن يحتاط ويبذل الوسائل والأسباب, فإن لم يكن من وسيلة إلا ما حرم الله عز وجل, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يؤاخذه في هذه الحالة.
توضيح لقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات
السؤال: يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما جعل الله دواءً أمتي فيما حرم عليها } فهل هناك تعارض مع القاعدة التي أشرتم إليها؟(1/33)
الجواب: بلا شك أن لكل داء دواء, علمه من علمه, وجهله من جهله, فإذا كان مما أحلّ الله, فليس في ذلك شيء، ولكن إذا كان الدواء محرماً الآن فيجب أن نعمل بالاحتياط, ويبحث ويتأكد، فإذا لم يجد غيره، فإنه يستخدمه، فإذا وجد بعد ذلك دواء غير محرم ولو بعد سنة كأن يصنع عندنا أو في أمريكا أو غيرها، فإنه يحرم عند ذلك استعمال الدواء المحرم، فلا تعارض بين هذا وهذا, لأنه على مستوى الأمة ككل, لم يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شفاءها ولا دواءها فيما حرم عليها ولله الحمد, لكن في الحالة الخاصة هذه, فإذا كنا لا نجد فلم يحرج الله علينا.
الدعوة والعلم
السؤال: فضيلة الشيخ: هل يجوز الدعوة لهذا الدين العظيم بعلم قاصر بأمور الإسلام، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: الناس في هذا الأمر على طرفين:
الأول: طرف يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على زعمه, فيقف ويتكلم ويحاضر ويدعو، ولكن على جهل في التوحيد الذي هو الأساس، ثم في بقية الأحكام!! وهذا لا يجوز؛ لعدة أمور منها: القول على الله بدون علم, وهذا من أكبر الفواحش, يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33], فجعل القول على الله بغير علم بعد الشرك, لأنه أعظم خطورة من الشرك, ومنها: أنه يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو لم يقله, فينطبق عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار }, وفي رواية: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار }.(1/34)
الثاني: الطرف الآخر يقول: أنا لا أدعو إلى الله -وقد يكون عالماً- لأني لا أستطيع أن أجيب على أسئلة الحاضرين في الصلاة أو في الزكاة أو في المعاملات أو في الربا أو غيرها، فالأحسن لي ألا أدعو!!
فنقول له: يا أخي! قم ادعُ الناس إلى التوحيد الذي تعرفه, وإذا سألوك عن الربا, قل لهم: اسألوا العلماء, لكن أنت إذا كنت تعرف أن الزنا حرام, فبين لهم أحكام الزنا, وحرمته والوعيد فيه.
فالمقصود أن كل ما تعلم أنه من دين الله عز وجل, فيجب أن تدعو إلى الله به, وما لا تعلم فقل: لا أعلم, ولو أننا لم ندع إلى الله إلا إذا كنا مثل العلماء الكبار, لما وقف خطيب جمعة ولا واعظ ولا ناصح ولا محاضر, لأننا طلاب علم, لكن نقول: الذي نعلمه ندعو إليه، ومع ذلك نحرص على طلب العلم, ونحرص أن نتعلم, وندعو الناس إلى ما نتعلم، ونتأكد من صحته, وهذا هو طريق الدعوة إلى الله، كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فإذا تعلمت التوحيد فادع إليه, وإذا تعلمت الأحكام فعلِّمها, وإذا حفظت القرآن فحفِّظه, وهكذا , هذا هو الطريق الوسط الذي يجب أن نكون عليه.
حكم العقيقة عن الطفل المتوفى وعن السقط
السؤال: ما حكم العقيقة؟
وهل أعق عن مولود توُفي بعد الولادة؟
ثانياً: إذا نزل المولود ميتاً أيلزم عنه عقيقة؟
الجواب: العقيقة سنة مؤكدة، وإذا عققت عن الميت فلا بأس، وفي ذلك أجر إن شاء الله، ولكنها ليست واجبة, وأما الأجر فيثبت، بل هي من أعظم الصدقات, وهذا المولود وإن كان ميتاً, إذا احتسبت وصبرت فإنه ينفعك خيراً من الحي, وسيكون فرطاً شفيعاً لك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بإذن الله.
وسائل تقوية الإيمان
السؤال: أنا شاب أرجو الله أن أكون متمسكاً بدين الله, وأريد أن أقوي ديني, فبماذا تنصحونني أن أفعل لكي أقوي ديني وإيماني؟(1/35)
الجواب: أنصح نفسي وأخي بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في السر والعلن, وقراءة القرآن, والمحافظة على صلوات الجماعة, والمحافظة على ذكر الله, والمحافظة على حلقات الذكر, حيث ما يذكر الله عز وجل, وقراءة القرآن وسماعه وتدبره ومعرفة تفسيره هي الأساس, ويستطيع الإنسان أن يقرأ كتب التفسير, أو يسمعها من الأشرطة؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هيأ لنا الآن من وسائل تقوية الإيمان الشيء الكثير, ومن ذلك أيضاً التفكر في مخلوقات الله في السماوات والأرض, والتفكر في حالك أيها الإنسان وفي نفسك, في ضعفها, وفقرها, وذلها, وحاجتها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن ذلك زيارة القبور, وزيارة المرضى, وكل ما يقربك ويذكرك بالآخرة, ويذكرك بمصيرك ولقاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وذكر الموت, كل ذلك مما يُقوي الإيمان, وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان الإحسان: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك } هذه هي الدرجة العليا التي ينبغي للمسلم أن يطمح بالعمل أن يصل إليها, وأن يجاهد نفسه ليحقق منها ما استطاع.
تعليق شيء من القرآن
السؤال: ما حكم من كتب شيئاً من آيات الله ثم ربطه في معصمه، جزاكم الله خيراً؟
الجواب: تعليق شيء من القرآن بدعة, فإنه يؤدي إلى امتهان القرآن وإلى الدخول به إلى الخلاء، وإلى ما أشبه ذلك, وإن كان المعلَّق شيئاً مما يكتبه الدجالون والمشعوذون, فإن هذا من الشرك, فلا يجوز أن يعلق ما يسمونه (الحجاب) ولو قالوا فيه آيات, وكثير من الناس لما فكوا الورق ما وجدوا آيات, وإنما وجدوا فيها طلاسم السحرة, التي هي رموز لا يفهمها إلا هم, فلا يعلق شيئاً من ذلك.(1/36)
وقد بين لنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الطريقة وهي الرقية, فيرقي الإنسان نفسه, وإن رقاه أحد الصالحين من المؤمنين فهذه فيها شفاء وفيها خير, وتطرد الشياطين بذكر الله عز وجل, وكل هذه وسائل للعلاج الصحيح السليم.
ويجب علينا جميعاً أن ننبذ البدع؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وأعظم ذنب هو الشرك, وتعليق أي شيء من التمائم, أو الأمور المجهولة أو الكتابات التي يكتبها هؤلاء الدجالون, هذه من ذرائع الشرك، وإذا اعتقد الإنسان فيها أنها تضر وتنفع, فقد أشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ومن يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
واجبنا نحو الصوفية
السؤال: ما هو واجبنا نحو الصوفية الذين يعيشون بيننا ونعلم عنهم ذلك؟
الجواب: الضلالات كثيرة, وواجبنا هو أن نسعى إلى حماية أنفسنا من البدع والضلال, ثم أن ننصح هؤلاء الناس وندعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة, ما دامت تنفع معهم, فإن لم تنفع معهم, فلا بأس بمجادلتهم, وقد يكون واجباً, ولكن بالتي هي أحسن, لإقامة الحجة عليهم, وإظهار الحق.
فالسكوت عن المنكر لا يجوز, وأعظم منكر هو الشرك ثم الابتداع في الدين, لكن المقاومة تكون بالحكمة وبالمنهج السليم الذي يكون أصلح وأنفع لشفاء هذا المريض, وليس لاستئصاله.
حكم صلاة الجماعة
السؤال: صديقي يتخلف عن صلاة الجماعة, وكثيراً ما أنصحه, أرجو منكم أن تذكروا حكم من يتخلف عن صلاة الجماعة؟(1/37)
الجواب: قد أوردنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار }, ويقول: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية: {لولا ما فيها من النساء والذرية } أي: ما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك إلا الأطفال والنساء الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة.
وهذا الإنسان ينصح بذلك لما نعلمه جميعاً من حكم صلاة الجماعة, وهو الوجوب، فقد قال بعض العلماء: إن الصلاة في البيت مع استطاعته أن يذهب إلى المسجد غير مقبولة, أما الحديث المعروف أنها في البيت بدرجة وفي المسجد بسبع وعشرين درجة, قال بعض العلماء: هو من صلى في البيت ومنعه مانع من غير الأعذار الشرعية, كأن لم يستطع الذهاب للمسجد للإرهاق, أو تكاسل قليلاً ولم يهتم, لكنه يريد أن يصلي صلاة الجماعة ففاتته، فله درجة, لكن إذا كان عازماً ألا يذهب إلى المسجد أصلاً, قال بعض العلماء: إنه ليس له صلاة, بمعنى أنه أدى الصلاة في البيت فقط وليس له أجرها، فلماذا يلجئ الإنسان نفسه إلى ذلك؟!
العلمانية فكر إلحادي
السؤال: نرجو من فضيلتكم أن تبين لنا ما هي العلمانية ، ومن أسسها، وما هي أهدافها باختصار؟(1/38)
الجواب: العلمانية فكرة إلحادي أوروبي نشأ في أوروبا , معناه: أن تفصل الحياة عن الدين, وأن يكون الدين في دائرة معينة, وهو أن تعبد الله في الكنيسة فقط, وجعلوا رجال الدين متخصصين وهمهم وغايتهم أنهم يعرفون الناس بما في الإنجيل, ولا يتصرفون في الحياة العامة على الإطلاق, لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الشئون الاجتماعية, ولا في جميع أمور الحياة, قالوا: هذه تخرج عن الدين، ويشرعون شريعتهم من عند أنفسهم, بالبرلمانات وفي اللجان وفي رجال القانون وأمثال ذلك, وأُبقي للدين أي: الكنيسة فقط, فلما جاءوا إلينا قالوا المسجد فقط, فلا تقام أحكام الإسلام, ولا حدوده, من الولاء والبراء, ومعاداة المشركين, وموالاة المؤمنين, فلا يريدون إقامة الحدود, ولا يريدون أن تكون مناهج التعليم إسلامية, ولا يريدون أن يكون الإعلام إسلامياً, ولا يريدون أن يكون الاقتصاد إسلامياً, ويقولون: الدين ليس له دخل في السياسة، والدين فقط أن تصلي إذا أحببت, هذا هو مجمل مفهوم العلمانية .(1/39)
وأول دولة علمانية قامت في العصر الحديث هي فرنسا بعد الثورة الفرنسية, وأول دولة علمانية في العالم الإسلامي هي تركيا , ثم أصاب الداء وانتشر في بعض الدول, وبعضها أقل من بعض, وبعض المجتمعات تتفاوت في تطبيق العلمانية , وكثير من المسلمين, تسرب إليهم هذا المبدأ عن جهل أو عن تقليد للغرب, فيقول: هذا الدين ليس له دخل في شئون الحياة -والعياذ بالله- وهذا من الكفر؛ لأنه إنكار لما أنزله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأحكام الشاملة الكاملة الخالدة إلى قيام الساعة, ولأنه شرك في عبادة الله وطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, لأن الله عز وجل أخبر عن اليهود النصارى فقال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال عدي بن حاتم لما قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه هذه الآية: يا رسول الله! ما عبدناهم -وكان قبل ذلك نصرانياً- قال: {ألم يكونوا يحلون لكم الحرام، ويحرمون عليكم الحلال, فتتبعوهم, قال: بلى, قال: فتلك عبادتكم إياهم } أي: أصبحوا أرباباً لكم نتيجة ذلك؛ والتحليل والتحريم في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي الشئون المدنية وفي الشئون العسكرية، وفي أي مجال هو لله وحده: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] ومن قال غير ذلك؛ فإنه معترض على كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حكم من لم تبلغه دعوة الإسلام
السؤال: أنت تقول: إن الإنسان الكافر يوم القيامة يتمنى أن يصبح تراباً مثل الحيوانات الأخرى، فهل المسلمون مكلفون بدعوة هذا الشخص الكافر؟
وهل هؤلاء يعذرون بجهلهم في هذه الأمور, أمور التوحيد والإيمان -أي: الأشخاص البعيدون عن أهل التوحيد والإيمان؟(1/40)
الجواب: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] ويقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] فواجب علينا أن ندعو الكفار إلى الإسلام, وأوجب من ذلك أن ندعو أنفسنا، وأن نقيم الدين في أنفسنا نحن وقد أقام أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, الدين في أنفسهم, وفي نفس الوقت دعوا غيرهم، فنشروا الإيمان والدين والخير في العالم، ومع ذلك فإنه مهما دعونا فلا بد أن يبقى كفار, وهؤلاء الكفار لا يهمنا حكمهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, أي: نحن نجزم ونعتقد أنهم لن يدخلوا الجنة, وأنهم كفار وهم مخلدون في النار, لكن فلاناً منهم في جزيرة بعيدة نائية لم يعلم ما هو الإيمان، وما سمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فهذا علمه وحكمه عند الله.(1/41)
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أرحم منا, وهو أحكم الحاكمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم؛ ولهذا يمتحن الله سبحانه في يوم القيامة هؤلاء الكفار الذين يعتذرون ويقولون: ما بلَغَنا الدين وما سمعنا به, وكذلك الرجل الهرم ممن لم يسمع بالدين, أو المجنون أو الصغير, ممن مات قبل أن يبلغه الدين -هذا غير أطفال المسلمين- فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمتحنهم في عرصات القيامة، فمن عصى منهم وكفر دخل النار, ومن أطاع دخل الجنة, والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي ثم يموت, إلا كان من أهل النار } أي: من سمع به أنه نبي؛ أما من لم يبلغه ومن لم يسمع شيئاً، فهذا في الدنيا على كفره؛ أما يوم القيامة فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتولى أمره، فيختبره في عرصات القيامة، أو يعذره بما شاء، فهذا أمر بينه وبين ربه جل وعلا.(1/42)