الحلم والمستقبل .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لينا كيلاني
الحلم والمستقبل
- قصص للأطفال -
منشورات اتحاد الكتاب العرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1997
الغلاف للفنان :
الحلم والمستقبل
عامر وماهر أخوان يحب أحدهما الآخر حباً كبيراً... وهما مثل صديقين متفاهمين منسجمين... لايتشاجران... ولايتخاصمان.
ماهر الأول في صفه دائماً... وكذلك عامر. وهما لايفترقان إلا قليلاً عندما ينصرف أحدهما إلى هوايته الخاصة.
هواية عامر أن يتطلع إلى السماء ويتعرف إلى النجوم وأسمائها، ومواقعها، وأبراجها...
ويحلم أن يكون في المستقبل رائد فضاء.. بينما يبحث ماهر في الأرض وينقب عن حجر فضي مشع سمع عنه، وقالوا إن فيه معدنا نادراً، وهو يأمل في المستقبل أن يصبح من العلماء.
وبما أن الطفلين يعيشان منذ ولادتهما في منطقة اكتشاف وتنقيب عن البترول، وضمن مدينة عملية صناعية حيث يتوفر لها المناخ الطبيعي والعلمي فقد تعلق كل منهما بهوايته بتشجيع من الأبوين، وأصدقاء الأسرة من العلماء والخبراء.
وفي ليلة ربيعية، والسماء مشحونة بغيوم سوداء، والعاصفة توشك أن تهب رجع الطفلان من المدرسة متعبين، قال ماهر لعامر:
ـ أنت لاتنظر نحو السماء ياعامر... طبعاً لن ترى نجومك وأبراجك من وراء الغيوم.
قال عامر:
ـ وأنت أيضاً تتعجل في مشيتك كأنك لاتهتم بما يصادفك من أحجار.
وضحك الاثنان معاً لأنهما يعرفان جيداً أن هذا ليس وقت الهوايات فالامتحان قريب، وعليهما أن ينصرفا للدراسة، ثم إن جو اليوم لايساعدهما على ذلك.(1/1)
وبعد أن انتهيا من دراستهما وذهبا إلى النوم كانت العاصفة قد انفجرت، فهطلت الأمطار بغزارة، وقصف الرعد، ولمع البرق، وحملت الريح الشديدة ذرات التراب الذي يهبط أحياناً على مثل هذه المناطق في الصحراء فيغطيها بطبقة كثيفة كأنها رداء من (الطمي) الأحمر. قفز ماهر وهو الأصغر إلى فراش عامر الذي كان يتابع ظهور البرق واختفائه، فضحك منه قائلاً:
ـ هل تخاف ياعامر من العاصفة؟ .. أنا لاأعرفك جباناً.
ارتبك عامر وأجاب:
ـ لا ... ولكنني أشعر بالبرد.
فقال ماهر:
ـ لماذا لانتحدث قليلاً قبل أن ننام؟
قال عامر:
ـ حسناً... أحدثك عن نجمي الذي رأيته مرة واحدة في الصيف الماضي ثم اختفى عني.
هل تتذكر تلك الليلة التي ذهبنا فيها مع بعض العلماء إلى الصحراء؟
أجاب ماهر:
ـ نعم أتذكر... وهل نسيت أنت ذلك الحجر المشع الذي لمحته في أعماق تلك البئر البترولية المهجورة؟
وظل الإثنان يتحدثان... حتى وجد عامر نفسه رغم العاصفة في قلب الصحراء.
المطر يبلله... والهواء يقذفه كالكرة من جانب إلى آخر، والرعد يدوي بينما البرق يضيء له مكان نجمه الضائع فيصفق فرحاً وسروراً.
وكذلك وجد ماهر نفسه وقد تدلى بحبل متين إلى أعماق البئر، وقبض بيديه الاثنتين على الحجر الفضي، وهو يهتف: وجدته... وجدته... انه لي.
ورغم التراب الذي كان يتساقط فوقه وقلة الهواء فقد كان يحاول الخروج بعد أن حصل على حجره الثمين وهو مصرّ على ألا يفقده من بين يديه.
وهكذا ناما طوال الليل... وعندما استيقظا وأخذ كل منهما يحكي للآخر ماذا رأى في الحلم، كان الأب يدخل غرفة طفليه ليطمئن عليهما. وعندما وجدهما صامتين حزينين تعجب مما بهما.
سأل عامر:
ـ هل تتحقق الأحلام ياأبي؟
وسأل ماهر:
ـ ألا يمكن العثور على أحجار فضية ثمينة ومشعة؟
ولأن الأب كان يعرف هواية طفليه فقد أجاب:(1/2)
ـ إذا سعى أحدنا وراء أحلامه فلابد أن تتحقق... ثم أن الطبيعة غنية جداً بعناصرها، ومعادنها، والإنسان يكتشف كنوزها كل يوم.
وهنا دخلت (سلمى) الصغيرة وراء أمها وهي تعانق دميتها وتقول:
ـ أنا لم أفهم شيئاً يابابا مما قلت... ماذا قلت؟
أجاب الأب وهو يضحك:
ـ ستفهمين يوماً ما كل شيء... كل شيء.
(((
حكاية البنات الثلاث
تلك الليلة كانت عاصفة، والبنات الثلاث الصغيرات في أسرتهن. الهواء يصفر كعواء كلاب جائعة، وأغصان الشجر تصفق مهتاجة وكأنها تتقصف. لم يكن يشعرن بالبرد، فالغرفة دافئة والأغطية صوفية ناعمة.
الأم التي يحلو لها في مثل هذه الليلة أن تستعيد حكايات جدتها تقول:
ـ كان ياما كان... في قديم الزمان..
تقاطعها الكبرى:
ـ عرفنا الحكاية.. كان هناك ثلاث بنات يغزلن... حتى يأكلن.
ترد الأم وهي تتنهد:
ـ لا... لم تحزري.. ليست هذه هي الحكاية.
تنبر الوسطى:
ـ ثلاث بنات خياطات... يشتغلن في قصر السلطان... والصغيرة اسمها (حب الرمان)..
وهي التي أضاعت (الكشتبان).
تضحك الأم وتقول:
ـ بل الوسطى التي اسمها حب الرمان... وهي التي عن قصد وعمد رمت في الماء الكشتبان.
تكمل الصغرى:
ـ ذلك لأنها كسولة... وملولة. لاتحب الإبرة والخيطان... وتتلهى مع أولاد الجيران.
الكبرى تسأل:
ـ وما اسم البنت الأولى إذن؟
تقول الأم:
ـ قمر الزمان...
ـ والثالثة؟ /تسأل الصغرى/
تجيب الأم:
ـ اسمها نيسان.
وبينما الأم ترد الأغطية فوق البنات صرخن محتجات:
ـ نريد حلماً... لاحكاية. نريد حلماً.. حلم... حلم.
ـ حسناً../تقول الأم/ ـ أغلقن النوافذ.. وأطفئن النور ولتطلب كل واحدة منكن حلماً لها.. وسأضعه قبل أن أنصرف تحت مخدتها.
قالت الكبرى:
- أنت اعطينا ياأمي .. أنت اعطينا . دائماً أنت تعطيننا أكثر من أحلامنا
ـ أعطيك مهراً أشقر جميلاً... بل أبيض.. تكبرين ويكبر معك، وتصبحين فارسة.
همست الكبرى لأختيها:(1/3)
ـ وكيف سأتصرف مع الحصان الصغير؟ كيف سأعتني به.. بطعامه وشرابه.. بنومه وصحوه..بلهوه وجريه؟ لا.. لا أريد.. لماذا لاتعطيني أمي سيارة بيضاء ونظيفة أدير محركها في لحظة فتحملني إلى حيث أشاء؟
قالت الأم للوسطى:
ـ وأنت أعطيك خمسة أرانب بيضاء جميلة... تلك التي في الحديقة. تلاعبينها كالقطط، وتتسلين بمنظرها... بتكاثرها وتوالدها.
همست الوسطى لأختيها:
ـ ولماذا لاتعطيني فراء هذه الأرانب؟ فأصنع منها قبعة وقفازات، وربما صنعت معطفاً.
قالت لها الكبرى وهي تضحك:
ـ والخياطات الثلاث سيساعدنك في ذلك.
أكملت الوسطى:
ـ بل هما اثنتان.. لأن الصغرى عاقبوها فطردوها من العمل.. وأنزلوها إلى المطبخ لتقشر الثوم والبصل.
وقبل أن تعطي الأم للصغرى أي شيء بادرتها هذه قائلة:
ـ أما أنا فأريد فراشة ملونة... أجنحتها زرقاء ووردية... لابل صفراء وبنفسجية.. تنتقل بين الزهور بلطف وحبور... تنشر الأحلام وتطويها. أليست أميرة الطبيعة في جبالها وبساتينها وبراريها؟
وقبل أن تتم كلامها كانت قد استغرقت في النوم.
عند الفجر اشتدت العاصفة أكثر وأكثر.. حطمت النوافذ والأبواب.. اقتلعت الخزانات.. كسرت المرايا... بعثرت الثياب.. وأطارت كل شيء. وأفاق الجميع خائفين مذعورين.
وقفت الأم مع بناتها الثلاث.. حائرات واجمات.. فلا بيت يأوين إليه.. ولاسيارة يركبنها.. وهن يرتجفن من البرد.
صهل حصان صغير عن بعد كأنما هو يعلن عن نفسه.
قالت الكبرى:
ـ هذا حصاني.. ماكان أغباني ظننت أن الحلم لن يتحقق.
وقالت الوسطى وهي تمد يديها الباردتين إلى قفص الأرانب:
ـ ما أجملها.. ما أدفأها.. ماأنعمها... عددها أكثر من خمسة... سبعة... عشرة، لاأدري ، كنت أحبها ولاأدري. تحتاج صغارها من يرعاها... وأنا سأرعاها.
أما الصغرى فقد نظرت حولها ولم تكن هناك فراشة واحدة بعد العاصفة فقد جرفتها كلها، قالت:(1/4)
ـ لكنني أنا دوماً معي حلمي... فراشتي هنا في قلبي.. لا هنا في رأسي... لا هنا في عيني...
ودمعت عيناها وهي ترى أجنحة الفراش تتطاير في الهواء، وظلت تردد:
ـ آه... ما أجملها فراشة... فراشتي.
(((
رنا البردانة
لم يعرف أحد إلى أين توجهت رنا بعد أن خرجت من المخيم لأنه لم ينتبه إليها أحد. فالجميع مشغولون بما حدث في الصباح الباكر من اعتداء جنود الاحتلال على البيوت. لقد هجموا على الأبواب فحطموها، وعلى الرجال فساقوهم إلى الساحة... أما الفتيان فلم يتركوا منهم واحداً بل جروهم كلهم إلى السيارات العسكرية.
وصرخت النساء... وبكى الأطفال الصغار كما لو أن ناراً تحرقهم. وتعالت الأصوات من كل جانب عندما سدد جندي الرصاص على فتى رمى مجموعة الجنود بزجاجة حارقة. وقع انفجار، وتكاثر الدخان وارتمى الفتى قتيلاً.
رنا الصغيرة النحيلة كانت في الطابق العلوي في بيتهم المتهدم ورأت كل شيء... وبما أن الفتى القتيل كان ابن عمتها، وكانت تحبه كثيراً فقد قالت في نفسها:
ـ لماذا لاأختبئ وراء ذلك السور قريباً من السيارات العسكرية وأرمي جنود الاحتلال بالحجارة؟
ولم تشاور عمتها التي تعيش معها بعد أن ماتت أمها... ولم تشاور غيرها، فهي تدرك جيداً أنهم لن يمانعوا ماداموا جميعاً يجابهون الأعداء.
وبسرعة دخلت رنا إلى غرفتها الخالية من الأثاث ماعدا فراش واطئ، وصندوق تضع فيه ثيابها... بحثت عن معطفها الشتوي الطويل... ولما لم تجده نثرت كل أشياء الصندوق، ثم تذكرت أنهم وضعوه تحت الفراش ليغدو سميكاً.
سحبته بعنف وارتدته والطقس صيف... والحر شديد.
تسللت وراء البيوت وأخذت تجمع ما أمكنها من الحجارة، وتضعها في جيوب المعطف. ولما وجدت أنها لم تتسع لأكثر من عدد محدود، مزقت بطانة المعطف وحشته بالحجارة الصغيرة، ثم سارت متثاقلة وليس في قدمها إلا حذاء كبير مهترئ من البلاستيك تلبسه عمتها أثناء نشر الغسيل.(1/5)
ولمح أحد الجنودبنتاً صغيرة تمشي ببطء كما لو أنها تسير فوق بيض. ارتعدت عندما تقدم منها، واصفرّ لونها. قال لها:
ـ إلى أين أنت ذاهبة ياقردة؟ ألا ترين أنه ممنوع المرور؟
ارتبكت رنا، ثم نظرت بعينين مذعورتين إلى نفسها، واستجمعت جرأتها وقالت:
ـ أنا مريضة... وذاهبة لعند خالتي قرب السور، لأنه لم يعد أحد في البيت.
تأملها الجندي، ثم قال:
ـ ولماذا هذا المعطف ونحن في عز الصيف؟
قالت:
ـ إنا بردانة... مصابة بالحمى..
ولم يكمل أسئلته حتى كانت قد بدأت تبتعد بخطوات ثابتة، متهيئة لأن تهرب لو حاول أن يقبض عليها. ولكنه أدار وجهه عنها وهو غير مطمئن تماماً، فهؤلاء السكان يملكون من الجرأة والذكاء مالم يكونوا يتصورونه هم المحتلون حاملو الحضارة كما يعتقدون، ممكن أن الطفلة مصابة بالحمى... أو بلوثة في عقلها. ممكن. فكر بهذا ثم انصرف عنها.
رنا لم تكن مصابة بالحمى.. ولا بلوثة في عقلها... لكنها حيلتها ضد عدوها وإلا قبض عليها وفعل بها مايفعلونه بغيرها. وإذا لم تقل ذلك فكيف تنجو منه، وتحقق غايتها؟
وصلت رنا إلى السور وسرعان مانزعت المعطف وأفرغت مافيه من الحجارة أمامها، وأخذت تقذفها حجراً حجراً، وكلما رمت واحداً خبأت رأسها لحظات، ثم رفعته بحذر حتى إذا لم تجد أحداً يراها قذفت الآخر... وهكذا.
كانت تقفز من الفرح، وتدلك يديها كلما أصاب الحجر جندياً، ولم تشعر إلا بيد كالحديد تقبض على عنقها، ثم تصفعها بقوة جعلت الدم ينفر من فمها.
كان ذلك الجندي الذي تركها تمر وقد اعتقد أنها مريضة وبردانة قال بغضب:
ـ أهذه أنت إذن.. مريضة وبردانة... وتذهبين إلى خالتك؟
هيا... سآخذك إلى جهنم أنت وخالتك... هناك أدفأ... ونخلص منكم. أين بيت خالتك؟(1/6)
وتكورت رنا مثل قطة مدهوسة عندما أمرها الجندي أن تمشي أمامه... ماذا تفعل؟ لم يعد أمامها إلا الاستسلام. لكن رنا أمسكت بالمعطف... تظاهرت أنها تجمعه لتأخذه معها. انحنى الجندي ليبعدها عنه... رمته فوق رأسه، ثم التقطت الحجر الوحيد المتبقي على الأرض... وبينما كان يصرخ ويحاول التملص من المعطف كانت رنا قد اختفت بين البيوت قرب السور.
وعندما كان الجندي يسأل زملاءه: هل رأوا بنتاً صغيرة ترتدي معطفاً شتوياً طويلاً سميكاً؟ كانوا يهزؤون به ويقولون: هل هناك من يرتدي معطفاً في عز الصيف؟
قوة الحياة
على قمة تلة خضراء عالية في بلاد بعيدة كان يعيش صبي صغير مع جده العجوز الذي يرعاه ويحبه كثيراً.
وإذ كان الجد يخرج كل يوم إلى حقله ليعمل فيه طوال النهار، كان الصبي يخرج كل صباح مع شروق الشمس ليقف على قمة التلة العالية ينظر إلى الأفق ويفتح رئتيه لهواء الصباح النقي.
فما تلبث الشمس أن تغمره بنورها، وتغمره معها سعادة كبيرة عندما يشعر بقوة أشعتها تتغلغل في جسمه. كان يحب الشمس فهي تسكب ضياءها في بريق عينيه، وفي تألق خصلات شعره الذهبية، وفي لون بشرته المسمر، وهي التي تسكب في جسده قوة خارقة تمنح الحياة لكل ماحولها من الأشياء.
وكان ينظر من قمة التلة إلى البعيد فيرى بحراً واسعاً أزرق اللون يتماوج على سطحه انعكاس أشعة الشمس كأنه ماس متدفق.
كان ذلك يسحره ويشده لمغامرة جديدة فقد اعتاد أن يرافق جده في مغامرات كثيرة يكتشف فيها العالم من حوله.
ولكن الجد الآن أصبح طاعناً في السن وها هو يقول له:
ـ لقد تقدمت بي السنون يابني... ولابد لي من أن أرحل عنك قريباً. عليك أن تتسلح بالمعرفة والعمل الدؤوب.(1/7)
وكان الجد وهو رجل حكيم متواضع وبسيط يعرف أن حفيده ليس صبياً عادياً ويعرف أن الشمس تمنحه كل يوم قوتها الخارقة فيصبح قادراً على أن يعيد الحياة إلى ماحوله ماأن يمسك به بيديه القويتين. ولكن الشمس عندما كانت تغيب تغيب معها قوة الصبي.
لقد سمعه ذات مرة يقول لوردة الصباح الذابلة:
لاتحزني يانبتتي العزيزة سأسكب في عروقك قوتي فتسري الحياة في نسغك.
ويقول لكلبه الأسمر وهو يمسح على جسمه الصغير:
لقد أصبحت هرماً يارفيقي وكنت معي دوماً لم تفارقني يوماً....لن أدعك تموت.. سأعيد الحياة إلى جسمك الهزيل هذا.
ولكن الصبي لم يكن ليدرك أن جده عندما كان يأخذه معه إلى الحقل ويطلب منه أن يزرع الزرع ويعتني به ويحصد ثماره بعد مدة يريده أن يعتمد على قوة الحياة الحقيقية وهي العمل.
وذات يوم تأخر الصبي عند قمة التلة الخضراء على غير عادته حتى أوشكت الشمس على المغيب. وقبل أن يعود إلى البيت أسرع يجمع أغصان الشجرة الكبيرة التي كسرتهاالعاصفة وأخذ يغرسها في الأرض من جديد وضوء الشمس يملأ عينيه والأمل يملأ صدره بأنها ستصبح أشجاراً قوية كأمها الشجرة الكبيرة.
وعندما وصل إلى بيته وجد جده وقد فارق الحياة، فأسرع نحوه وهو يظن أن قوته الخارقة ستجعل جده يعيش من جديد، ولكنه عندما التفت نحو السماء ناظراً إلى الشمس وجدها قد غابت ولم تخلف وراءها في الأفق سوى شعاع أحمر ضعيف، وعندما أمسك بالعجوز بيديه القويتين لم تعد إليه الحياة.
لقد عجزت قوته الخارقة عن أن تمنح الحياة حتى لأحب الناس إلى قلبه.
فأطرق والحزن يملأ عينيه وفكر طويلاً. وأدرك أنه يمكن للحياة أن تستمر فقط من خلال الجد والعمل، وأن عليه أن يعتمد على نفسه وعلى دأبه لا على ما منحته إياه الطبيعة.
(((
سامر والقسمة على ثلاثة(1/8)
سامر يخرج إلى البرية حائراً... يسير وهو يعد: واحد، اثنان، ثلاثة.... ترى لمن يعطي هذه القطع الفضية التي معه؟... معلمه يقول له: أنت بارع في الحساب يا سامر... والمدرسة تقدم له مكافأة... جده قال له: هل تعطيها لمن يحزر؟ أو من يفكر؟ أو من يدبر؟.
مامعنى ذلك؟.. من يحزر أي من يعتمد على الحظ والمصادفة. ومن يفكر أي من يستعمل عقله أمام الأمور. أما من يدبر فلاشك أنه من يتصرف حسب ماتقتضي الظروف.
سامر لديه لكل قطعة سؤال، ومن يعرف الإجابة ينال القطعة. أخذ يمر على القرى القريبة من بلدته وكان عددها ثلاثاً.
في الأولى رأى الناس يحركون أيديهم وكأنهم يحصدون القمح.. يحركونها حركات رتيبة وبطيئة ومملة لكنهم لايتوقفون... إنه حصاد وهمي.. فلا قمح أمامهم.. ولامناجل في أيديهم.. ولاشيء سوى هذا الانهماك الفارغ كأنهم يجمعون الهواء.
عندما سأل سامر أحد المارين بالقرية وكان شيخاً وقوراً قال:
ـ هؤلاء يابني قاطفو النجوم... زارعو الأحلام، إنهم يتصورون أنهم شقوا الأرض وزرعوا، وسقوا واستنبتوا، وما عليهم الآن سوى أن يحصدوا.
وها أنت ترى أنها أحلام في أحلام... وأن الحصاد مجرد كلام... ومن زرع وهماً حصد الكثير من الأوهام.
لم ينتبه هؤلاء الناس لسامر عندما دخل بينهم. حاول أن يحاورهم لكن أحداً منهم لم يكلمه، ولم تتوقف أيديهم عن الدوران بينما عيونهم تتطلع إلى السماء.
تعجب سامر من حال هؤلاء الناس وسار في الطريق إلى القرية الثانية... وجد أناساً أصحاء أشداء، عضلاتهم مفتولة، وأجسامهم قوية، وهم منهمكون في كسر الحجارة وحملها ونقلها... والعرق يتصبب من جباههم... ملامحهم جامدة كالصخر... ووجوههم مقطبة وكأنها لم تعرف الابتسام... ولاأحد منهم يتوقف دقيقة أو يستريح لحظة.
سأل سامر أحد المارين بالقرية وكان رجلاً جسيماً قوياً فقال:(1/9)
ـ هؤلاء يابني حاملو الأسرار...محطمو الأحجار... إنهم يعملون ولايتكلمون... يشقون ويتعبون ولايسألون.. همهم أن يبذلوا الجهود تلو الجهود حتى ولو لم ينالوا أي مردود... يعملون ولايتذمرون.. ويقنعون بالرغيف وحبات الزيتون.
هؤلاء الناس لم يتيحوا لسامر أن يدخل بينهم... بل نهروه وطردوه... ووقفوا سداً في وجهه ومنعوه.. فلم يجد أمامه سوى أن يتابع طريقه.
في القرية الثالثة وجد جموعاً من الناس كسالى حيارى..يجلسون على الأرض ينصتون بآذان طويلة ونفوس عليلة... وكلما علت الأصوات أو تداخلت أو تقاطعت كانوا يديرون نحوها آذاناً كالأبواق تلتقط كل شيء من كل الجهات والآفاق. أمورهم فوضى... وحياتهم بلاجدوى.. فهم أناس عاطلون معطلون... وهم يحسبون أنفسهم في قلب المعركة يقاتلون.
وعندما سأل سامر أحد المارين بالقرية... وكان رجلاً نحيلاً طويلاً، هادئاً عميقاً قال له:
ـ هؤلاء يابني أشقى الناس... فهم أهل الوسواس... لايكفيهم أنهم لايفهمون مايسمعون... بل هم لايدركون مايفعلون. يأخذون الأصوات ويتركون الأصداء... وتضيع أفكارهم بين أرض وسماء.
حاول سامر أن يدخل بينهم.. أن يفهم منهم أو عنهم لكنهم كانوا عنه مشغولين... وبأعباء مايسمعون منهمكين.
خرج من القرية الثالثة وهو يداعب قطعة فضية، ويقول: واحد، اثنان، ثلاثة. القسمة على ثلاثة. ظهرت له الساحرة العجوز وأعطته كيساً وإبرة وخيطاً، وقالت له:
ـ ضع فيه كل ماتريد... واحبسه في هذا الكيس الجديد... ثم أطلقه فينطلق كما الماردالعنيد.. من قمقم الحديد.
قالت هذا ثم اختفت مع الهواء.. فتعجب سامر ثم قذف بالقطعة الأولى فارتفعت عالياً عالياً في الجوثم تكسرت إلى آلاف النجوم الصغيرة البراقة... أخذت النجوم تهوي نحوه كحبات البرد فبدأ يجمعها ويعبئها بالكيس حتى ظن أنه امتلأ.(1/10)
تنهد تعباً.. ثم مشى ومشى حتى صادف بيادر الحصاد، والقمح الذهبي الناضج يتكدس فوق بعضه بعضاً، وتلفحه حرارة الشمس، فتح الكيس مرة ثانية وأخذ يحشوه بالسنابل المليئة حتى ظن أنه امتلأ.
جلس ليستريح قليلاً فهبطت نحوه العصافير والطيور المغردة وهي تصدح بأعذب الألحان، فتهرب منها الأصداء كأسراب الحمام، تساءل سامر: ترى هل أستطيع أن أختزن الأصداء أيضاً؟
تذكر ماقالته العجوز: تستطيع أن تضع في هذا الكيس كل شيء... كل شيء.
لم يلبث أن أغمض عينيه وترك الأصوت تمر عبر أذنيه، ثم فتح الكيس ولامس أطرافه بأصابعه كما لو أنه يعزف فأحس أن الأصداء تسللت كالنسيم إلى داخله فتركها تفعل مدة طويلة، ثم أغلق كيسه وحمله ومضى.
كان يصفر ويغني مردداً: واحد، اثنان، ثلاثة... القسمة على ثلاثة. فتذكر أهل القرية الأولى الذين يزرعون النجوم ويقطفون الأحلام فأسرع نحوهم متحمساً، ثم مد يده إلى الكيس فأخرج سنابل القمح، وقدمها لهم ففرحوا بها وأسرعوا بزرعها.
توجه إلى القرية الثانية حيث الذين يحملون الأسرار ويكسرون الأحجار... فتح الكيس ونثر عليهم نجوم الأحلام فأشرقت وجوههم... وابتسموا.. جففوا عرقهم، وجلسوا يستريحون وقد التمعت عيونهم ببريق الأمل. أخذوا يبنون قصور الأماني للمستقبل، ويزينونها بقطع النجوم، متناسين التعب وكل الهموم.
أما أولئك الحيارى الكسالى... ذوو الآذان الطويلة.. والنفوس العليلة... الذين يلتقطون الأصوات بلا أصداء حتى لو كان حفيف الشجر أو همس الماء، فقد نفض بين أيديهم كل ما تبقى معهم في الكيس متمنياً أن يظل معهم ، وأن يكون لهم خير جليس.. يسمع كلامهم ويفهمهم من خلال لغة حوارهم.
رفع سامر الكيس فأحس أن حمله خفيف..وكأن ليس فيه الا هواء لطيف .لكنه في الحقيقة كان يحتوي على سؤال جوابه عند سامر بألف جواب: هل القسمة على ثلاثة كان فيها العدل ..أم الجهل؟(1/11)
تحير سامر وهو البارع في الحساب،لكنه فكر وأعطى على الفور الجواب انها القسمة...القسمة.
ومضى يعد : واحد ..اثنان ..ثلاثة ...القسمة على ثلاثة.
(((
انتظار العش من جديد ..
عندما جاء العمال ليقوموا بالقطع التجديدي لاشجار الشارع العام، سمعت ريما ضجيجاوأصواتا كثيرة فأسرعت تطل من نافذة غرفتها .فوجدتهم وقد اتوا بسلم حديدي طويل وبمنشار كهربائي برتقالي اللون ،وأخذوا يشيرون إلى الشجرة الباسقة التي تمتد فروعها نحو نافذة ريما، وأحدهم يقول : لنبدأ بهذه الشجرة الكبيرة أولاً.
عند ذلك دخلت أخت ريما الصغيرة إلى الغرفة وركضت نحو النافذة وهي تصيح:ريما ..ريما..إنهم يقطعون الشجرة التي تحبينها ، أوقفيهم ....لماذا لا تقولين لهم شيئاً ؟ ألم تري ماذا يفعلون ؟
ضحكت ريما وهي تنظر إلى أختها وقالت :
-وهل تعتقدين أنهم سيقطعون الشجرة كلها ؟....لا، إنهم فقط يجرون القطع التجديدي للأشجار فيقطعون الأغصان الكبيرة الممتدة والمتشابكة.
-ولماذا يقطعونها ؟إن منظرها جميل !
-ولكنها تحجب الضوء عن باقي أجزاء الشجرة .وهم اذا يقطعونها يعطون الشجرة أيضاً شكلاً أجمل ويعيدون إليها حيويتها.
ولما كانت ريما منشغلة بحديثها مع أختها الصغيرة لم تنتبه لما كان يجري في الخارج .
كانت مجموعة العصافير التي تسكن الشجرة تتعالى أصواتها وهي تتشاور فيما بيتها عما يمكنها عمله ما داموا سيقطعون أغصان الشجرة ..وهم قد بنوا عليها أعشاشهم منذ شهور!....
لا بد لهم إذن من أن يهاجروا ...ولكن أين ؟
وارتفعت أصواتهم أكثر وازدادت حدة وعصبية ، حتى إن العمال عدلوا عن رأيهم وقرروا أولاً أن يبدأوا أولاً بقطع أغصان الأشجار التي تقع في نهاية الشارع.
وفي صباح اليوم التالي عندما فتحت ريما نافذة غرفتها سمعت أصوات العصافير وهي تزقزق عاليا،ولما نظرت إلى الشجرة الكبيرة وجدتها وقد قطع ما كان عليها من أغصان ، فتساءلت :
-اين ذهبت تلك العصافير يا ترى ؟..(1/12)
لابد أنها في مكان قريب ...
ولم تبحث ريما طويلاً ثم قالت :
-أجل إنها هناك في حديقة الجيران على شجرة السرو الهرمة ذات الأوراق الأبرية كأنها الأشواك .
وبينما هي تفكر اذا بعصفور هرم يفرد جناحيه حائما حول الشجرة الكبيرة ثم ما لبث أن حط عليها وهو ينظر إلى باقي العصافير وهي تروح و تجيء حاملة بأفواهها عيدانا من القش .
وقف العصفور الهرم طويلاً وهو حزين كئيب وبينما هو كذلك حطت بقربه مجموعة من العصافير الفتية، فتقدم منه أحدها وقال :
- هل ستطول غربتنا عن المسكن الذي ولدنا فيه واعتدنا أن نعيش فيه منذ طفولتنا ؟...صمت العصفور الهرم قليلاً ثم أجاب :
-...لا بد من أن نبني معاً العش من جديد ....
وطار عالياً ولحقت به بقية العصافير .
بقيت ريما في نافذتها تراقب جموع العصافير وهي تعمل منهمكة في بناء أعشاش جديدة لها ، وتراقب العصفور الهرم وهو يشجع الصغار منهم ويساعدهم ويبث الأمل في نفوسهم .كان يعرف أن الشجرة سرعان ما تمتد فروعها من جديد وتكسوها الأوراق الخضر الفتية بغزارة، وعند ذلك يمكن لهم أن يعودوا اليها مرة أخرى .
ولما أغلقت ريما زجاج النافذة وأغمضت عينيها رأت كم سيكون ربيع الشجرة الكبيرة جميلاً وأخضر هذا العام تسكنه العصافير وتملؤه بالبهجة .
(((
بين الجد واللعب..
- كمال: هات الحجارة يا جمال ..
- سهى: ها هي هنا يا كمال ..العصا والحبال
- نهى: اسرعوا يا أولاد ..خبئوا البنادق ..
- جمال : سوف نرمي في وجوههم هذه الزجاجات المليئة بالوقود أيضاً ...
- كمال : ضاحكاً : هذه حجارة كبيرة حادة الأطراف تصلح لأن تشج الرؤوس ..
- نهى : أجل سوف نخيفهم بها أيضاً
- جمال : هيا لنختبئ اسمع وقع خطوات
- سهى : إليَّ بالذخيرة يا نهى ...(1/13)
- كمال : ها هم قادمون ...استعدوا..سوف ننجح هذه المرة ..وكما في كل مرة ..كان الرجل الشرير الذي تسلل إلى القرية يريد أن يسرق بيت الاولاد .. وقد دبر خطته الماكرة بكل خبث ودهاء .لكنه ما ان مر قرب النافذة وسمع ماكان يقوله الأولاد حتى ارتعد وخاف، واختبأ إلى جانب البيت لايجرؤ على الحراك، ثم قال في نفسه !
ـ ماذا أفعل؟!.. لقد سمعوا وقع أقدامي وتهيأوا .. يا إلهي.. الهروب أحسن... الهروب أحسن وإلا أوقعت نفسي في مأزق... هؤلاء الأطفال ليسوا هينين...
وانسل الرجل الشرير ببطء مثل نمس في الظلام، وما لبث أن أطلق ساقيه للريح يعدو دون أن يجرؤ على الالتفات نحو الوراء..
والحقيقة أن سهى ونهى وكمال وجمال كانوا يقلدون المشاهد التي رأوها في التلفزيون عن أطفال الانتفاضة ويكررون العبارات التي سمعوها وهم يتخيلون أنفسهم في الأرض المحتلة، وقد انضموا إلى أبناء الانتفاضة يدافعون عن أرضهم وعن حقوقهم بكل بسالة وشجاعة..
لكن الرجل الشرير لم يكن يعلم أن الأولاد هذه المرة كانوا (فقط) يلعبون.
(((
الشجرة الأم
استيقظ طارق يوم عيد الشجرة متأخراً على غير عادته... وكان يبدو عليه الحزن. ولما سأل أمه عن أخوته وقالت له انهم ذهبوا ليغرسوا اشجاراً اضطرب وقلق. قال بغيظ:
ـ ومتى ذهبوا ياأمي؟
أجابت:
- منذ الصباح الباكر .. ألم يوصوكم في المدرسة أنه يجب أن يغرس كل منكم شجرة ؟ ألم ينبهوكم إلى أهمية الشجرة؟
قال :
ـ نعم.. لقد أوصتنا المعلمة بذلك... وشرحت لنا عن غرس الشجرة في عيد الشجرة، أما أنا فلا أريد أن أفعل.
قالت الأم بهدوء وحنان:
ـ ولماذا ياصغيري الحبيب؟... كنت أتوقع أن تستيقظ قبلهم، وتذهب معهم. لم يبق أحد من أولاد الجيران إلا وقد حمل غرسته وذهب.. ليتك نظرت إلى تلاميذ المدراس وهم يمرون من أمام البيت في الباصات مع أشجارهم وهو يغنون ويضحكون في طريقهم إلى الجبل لغرسها. إنه عيد يابني فلاتحرم نفسك منه..!(1/14)
قال طارق وقد بدأ يشعر بالغيرة والندم:
ـ لكن الطقس باردجداً ياأمي. ستتجمد أصابعي لو حفرت التراب، وأقدامي ستصقع.
أجابت:
ـ ومعطفك السميك ذو القبعة هل نسيته؟ وقفازاتك الصوفية ألا تحمي أصابعك؟ أما قدماك فما أظن أنهما ستصقعان وأنت تحتذي حذاءك الجلدي المبطن بالفرو!
صمت طارق حائراً وأخذ يجول في أنحاء البيت حتى وقعت عينه على التحفة الزجاجية الجميلة التي تحفظ صور العائلة وهي على شكل شجرة، ووقف يتأملها.
قالت الأم:
ـ هل ترى إلى شجرة العائلة هذه؟ إن الأشجار كذلك.. هي عائلات... أم وأب وأولاد. وهي تسعد مثلنا إن اجتمعت مع بعضها بعضاً وتكاثرت، فأعطت أشجاراً صغيرة. إن الشجرة هي الحياة يابني ولولاها ماعرفنا الفواكه والثمار.. ولا الظلال ومناظر الجمال. إضافة إلى أننا ننتفع بأخشابها وبما تسببه لنا من أمطار، ثم هل نسيت أن الأشجار تنقي الهواء وتساعدنا على أن نعيش بصحة جيدة.
صمت طارق مفكراً وقال:
ـ حسناً... أنا أريد إذن أن أغرس شجرة.. فهل شجرتي ستصبح أماً؟
أجابت الأم بفرح:
ـ طبعاً... طبعاًيابني. كلما كبرت ستكبر شجرتك معك، وعندما تصبح أنت أباً تصبح هي أماً لأشجار صغيرة أخرى هي عائلتها، وستكون فخوراً جداً بأنك زرعتها.
أسرع طارق إلى خزانة ثيابه ليخرج معطفه وقفازاته، سأل أمه بلهفة:
ـ هل أستطيع أن ألحق... أخوتي والجميع؟
ضحكت الأم وقالت:
ـ كنت أعرف أنك ستطلب مني ذلك... شجرتك في الحوض أمام الباب في كيس صغير شفاف... وإنا كما تراني قد ارتديت ثيابي هيا بنا...
وانطلق طارق مع أمه فرحاً يقفز بخطوات واسعة... واتجها نحو الجبل وهما يغنيان للشجرة... شجرة الحياة أنشودة الحياة.
(((
صديقة أم عدوة..!
في الصحراء الواسعة وتحت أشعة الشمس المحرقة عاشت فوق الرمال منذ زمن بعيد مجموعات كثيرة من الأفاعي. كان منها الكبير ومنها الصغير، منها المرقط والملون، ومنها ماكان قاتماً أو بلون الرمال حتى لاتميزه عنها.(1/15)
وكانت مجموعات الأفاعي تزحف في أرجاء الصحراء تارة باحثة عن فريسة لها، وتارة أخرى هاربة من عدو يطاردها. وفي الصيف عندما تشتد حرارة الصحراء تنسل إلى باطن الرمال لتهرب من وهج الحرارة اللافح الذي يتعبها ويذهب بنشاطها وقوتها حتى تغدو غير قادرة على الحراك.
فكرت جماعة منها أن تهاجر عن أرض الصحراء اللاهبة نحو الواحات الرطبة حيث الظل كثير والطعام وفير. أما جدة الحيات فلم تشجع الجماعة المهاجرة، بل على العكس قالت:
ـ لقد اعتدنا أن نعيش في الصحارى، ولعلي لا أجد في الواحات شروطاً للعيش أفضل. حذار أيتها الحيات... فكم من المفاجآت تنتظركن في الموطن الجديد.
وفي إحدى الواحات الخضراء أخذت الحيات المهاجرة ترتع فرحة في بقعة منها مستمتعة بالطقس العذب وبشروط السكن المريح ناسية موطنها الأول في الصحراء.
حتى أتت مجموعة من فتيان الكشافة وقرروا أن يخيموا فوق أرض الحيات، قال لهم رئيسهم:
ـ أشعلوا بعض النيران المتفرقة من حولكم فهي تطرد الحيوانات الخبيثة.
وما هي إلا دقائق حتى امتد لهيب النار إلى حيث الحيات فخرجت من أوكارها وقد شعرت بالخطر وهي غاضبة ناقمة.
لم تدر الحية الفضية ذات الألوان المتماوجة ماكان من أمر رفيقاتها فقد كانت تلهو مسرورة مع أحد الأطفال الذي عقد معها صداقة، وكانت تحلم بأنها أصبحت ملكة الحيات جميعاً وهو يقول لها:
ـ كم أنت جميلة ياصديقتي الحية. عيناك تبرقان كأنهما جوهرتان نادرتان. وجلدك اللماع الأملس كم هو ناعم. أحب أن أنظر إليك وأنت تنسلين بخفة يتمايل معها جسمك الطويل الرشيق.
قالت الحية الفضية وهي ترفع رأسها عالياً:
ـ شكراً لك يا صديقي... فأنت تقدر جمالي حق قدره... وأنا أعدك بأنني سأظل صديقة وفية لك، وسأبقي أنيابي السامة بعيدة عن جسمك الطري ولاأسبب لك أي أذى.(1/16)
وبينما هي تنسحب مزهوة حالمة كانت يدا الطفل تمتدان إلى نبتة من الفطر الأبيض الطري مثل قطعة جبن شهية دون أن يدري أنه من الأنواع السامة. فالتفتت الحية ورأت هذا المشهد وإذا بها تعود مسرعة لتنقذه، وما كان منها إلا أن أبرزت نابيها الحادين وغرزت جزءاً منهما في جسم الطفل حتى تسربت كمية صغيرة من السم تعدل من تأثير سموم الفطر.
استلقت الحية متعبة بينما الصبي يسترد أنفاسه ويغمره عرق غزير. لكن من رآه في هذه الحالة وآثار أنياب الحية لاتزال ظاهرة على يده تيقن أنها هي التي غدرت به وآذته، فهجم بعضهم عليها وقتلها.
أما الطبيب فبعد أن قام بفحوصه على الطفل وسأله عما جرى له تأكد أنه لولا هذا السم الذي غرزته الحية في جسمه لما استطاع أن يتغلب على سم الفطر. فسم الأفعى قاتل كما هو بمقدار معين ترياق شاف.
وهكذا انقسم الناس بين صديق للحية وبين عدو لها، واحتارت الأفاعي متى تكون مسالمة وديعة ومتى تفتك بالناس وظلت سمعتها على هذه الحالة... هل هي صديقة أم عدوة !...
(((
طائرة سلمى الورقية..
عندما صعدنا إلى سطح منزلنا الريفي الواطئ، كان أخي (سالم) قد صنع طائرات ورقية كثيرة، وناداني لكي أربطها بالخيوط ثم نطلقها معاً نحو السهل، وبما أنني كنت أشعر بمتعة كبيرة وأنا أراها ترفرف كالفراشات فقدأغلقت أذني عن صوت أختي الذي كان كان يرن في أنحاء البيت وهي تناديني كي ألعب معها. هذه المرة كانت الطائرات من الورق المقوى... لونها أزرق رمادي ... ومصممة بشكل متقن كا لو أنها طائرات حقيقية، وقال (سالم):
ـ انظري هذه ياسلمى أنها من معدن شفاف ورقيق هي أوراق القصدير التي خبأها خالد عندما أتتنا هدية خالنا صالح.
تقول سلمى:
ـ آه... لاتذكرني بالهدية ياسالم... فأنا مقهورة منذ ذلك اليوم. لماذا أخفت أمنا كل تلك الأشياء الجميلة؟
أجاب سالم:
ـ ليس هذا وقته الآن. تعالي الحقي بي إلى السطح قبل أن تفطن أمنا لوجودنا في البيت.
ترد سلمى:(1/17)
ـ سأذهب معك بشرط...
يقول سالم:
ـ أي شرط؟ كنت ستزعلين لو أطلقت طائرتي دون أن تشاهديها.
تجيب سلمى:
ـ كنت سأزعل... ولكن لماذا لم تعطني أمي قطعة قماش جميلة أخيطها ثوباً؟
قالت هذا بينما يسحبها سالم من يدها... قلبها يرفرف كعصفور... لم يكن لديها مثل هذه الأحاسيس نحو الأشياء... تتذكر جدتها وهي تبتسم، وتقول لها:
ـ أنت تكبرين بسرعة ياسلمى...
وأمها تعاملها على أنها طفلة صغيرة... لكنها أصبحت في سن الحادية عشرة... وأنها قريباً ستنهي دراستها الابتدائية. ومادامت (الضيعة) صغيرة إلى هذا الحدوليس فيها مدرسة ثانوية ولا إعدادية فهي حتماً ستنتقل إلى (البلد)، وستكون مثل ابنة عمها (فرح) التي تعلمت حتى المرحلة الجامعية.
فوق السطح تقف سلمى والسهل يمتد أمامها مثل بساط أخضر جميل... تتمنى لو أنها تطير منه وتزقزق مثل عصفورة... أصبحت لا تحب الألعاب التي تخص الصغار.. لكن قصتها مع الطائرات عجيبة... دائماً تحلم بأنها يوماً ما ستركب طائرة..أو ربما تقودها ، من يدري؟ لم ؟ ألا تقود النساء السيارات ؟ ماالفرق ؟ .. صحيح أن قيادة الطائرة أصعب كما تتصور لكن الأمر واحد. أحلامها ترفعها فوق بلاط السطح خفيفة مثل ريشة في الهواء... تحس أنه ينبت لها جناحان... هل سيطول الزمن حتى يأتي هذا المستقبل الذي يحدثونها عنه؟ أمس كتبت في درس التعبير أنها تريد أن تكون طائراً حراً.
صوت الأم يأتي من بعيد وهي تنادي: سلمى.. سلمى... أين أنت؟
تتنبه سلمى، فتنسحب من حلمها وتهرع نحو أمها.
أمام باب المنزل تستقبل الأسرة الخال الذي عاد من المغترب محملاً بالهدايا والأشواق. ومن بين الهمسات والقبلات والأحاديث كانت سلمى تلتصق بخالها، فقد افتقدته كثيراً، يبادرها فيقول:
ـ هيه... وأنت ياسلمى... متى ستبدأ إجازتك المدرسية؟
تتنهد سلمى وتقول:
ـ ليست المشكلة هي الإجازة ياخالي... إنها المرحلة الدراسية القادمة.
يضحك الخال ويقول:(1/18)
ـ ومالمشكلة في المرحلة القادمة؟ ألن تذهبي إلى المدرسة من جديد؟
تجيب سلمى:
ـ وأين هي المدرسة... في قريتنا لاتوجد سوى مدرسة ابتدائية واحدة... ألا تعرف ذلك؟
يفكر الخال ويهز رأسه:
ـ هكذا إذن.
سلمى تشرد بعيداً.. الجميع يضحكون ويتحدثون وهم مبتهجون بزيارة القريب الذي كان غائباً.
في زاوية الغرفة الخال والأم يهمسان بحديث لم تسمع منه سلمى ولاكلمة واحدة...
وفجأة يقترب الخال منها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة بدت معها أسنانه البيضاء، وهو يقول:
ـ ما رأيك ياسلمى أن تذهبي معي أثناء الإجازة في عودتي للمغترب؟
ترد سلمى:
ـ ولكن ياخالي...
يقاطعها:
ـ وقبل افتتاح المدرسة تعودين مع زوجتي وأولادي إلى البلد حيث المدارس متوفرة هناك فتقيمين معهم.
تقفز سلمى فرحة وتقول:
- أحقاً هذا يا خالي .. هل هذا ممكن يا أمي تبتسم الأم وتقول :
ـ ولم لا... أليس هذا حلاً معقولاً؟
تنظر سلمى من النافذة فترى الطائرات الورقية التي أطلقتها مع سالم تكبر وتكبر حتى تملأ السماء، وترتفع عالياً حتى تغيب بين الغيوم. وتسمع دوياً هائلاً ما يلبث أن يخفت تدريجياً، فتتنهد وكأنها أصبحت على مقعد الطائرة أمام نافذة صغيرة جداً ولكنها تطل منها على البحار والجبال والسهول.
(((
حرية للجميع..
الطفلة (سوسو) تقول لنفسها وهي ترى قطها (عنبر) يموء مواء شديداً قرب الباب:
ـ ليذهب عن بيتي إلى الأزقة والشوارع... إنه قط غدّار. لقد دللته وقدمت له كل حبي ورعايتي، ولم أقصر عليه بشيء... حتى أنني أخذت من مصروفي الخاص فاشتريت له لحماً ولبناً عندما غابت أمي عن البيت.
وفتحت له الباب فأسرع يركض باتجاه الحديقة. وعادت مهمومة وكأنها فقدت عزيزاً. (عنبر) قط أليف وجميل، أشهب اللون، منقط بالأبيض وكأنه نمر، وهي تحبه كثيراً.
ربته منذ تركته أمه تحت شجرة وعمره ثلاثة أيام، فكيف ينساها ويتركها؟ ولكنها لاتريد أن تحجزه عندها بالقوة، وإذا أراد أن يذهب فليفعل.(1/19)
وفكرت في حوائجه الصغيرة .. فراشه، وصحنه، ووعاء الماء، ماذا ستفعل بها؟ هل سترميها إلى الخارج وراءه أم تحتفظ بها لقط آخر؟.. ولكن لا.. كل القطط كذلك.إنها غدّارة، وليس عندها وفاء لأصحابها.
وعاد القط يموء من جديد قرب الباب مواء كله توسل واستعطاف، فأسرعت (سوسو) لتقول له:
ـ ماذا تريد مني أيها الناكر الجميل؟ اذهب عني... وستعرف قيمة حبي لك عندما تتشرد في الشوارع، ولاتجد الطعام والمأوى.
وما إن فتحت الباب حتى انسل من الحديقة عنكبوت كبير. صرخت (سوسو) عندما أسرع القط (عنبر) فانقض عليه وأنشب فيه أظافره، وظل يضربه حتى فارق الحياة.
قالت (سوسو):
ـ شكراً ياعنبر... كان العنكبوت سيؤذي أخي الصغير النائم في فراشه الآن. أنت قط جيد... ادخل.
أجاب القط:
ـ أنا قط جيد ولكني لن ادخل. أنا أحب أن أعيش معك لكنني أحب حريتي أكثر. كنت صغيراً وكنت بحاجة إلى من يرعاني ويطعمني، وها أنا قد رددت لك شيئاً من فضلك علي.. اتركيني في هذه الحديقة، سأتجول في الطرقات كما أشاء ثم أعود إليك.
ورضيت (سوسو) بهذا فما أغلى الحرية على المخلوق، وهي نفسها لم تعد أمها تحجزها في البيت أو في الحديقة بل هي تذهب إلى المدرسة، وإلى رفيقاتها وقريباتها، كما أنها تسرح وتمرح في النزهات. فلماذا لايكون عنبر كذلك؟ لكنها تذكرت شيئاً هاماً، فتحت الباب وقالت:
ـ عنبر... عنبر.. إياك أن تؤذي نفسك وتتعرض لغدر الكلاب أو الأشرار أو عجلات السيارات.. وانتبه أن تأكل طعاماً مسموماً وقذراً. وعندما تعود ستجد مأواك في الحديقة وكذلك طعامك.
وانتبهت (سوسو) وهي تدخل إلى البيت بارتياح لأن عنبر قتل العنكبوت ولم يأكله، وأنه عندما غادر الحديقة كان يمشي على الرصيف حذراً متنبهاً لأخطار الشارع.
فهرس :
1. الحلم والمستقبل ...
2. حكاية البنات الثلاث ...
3. رنا البردانة ...
4. قوة الحياة ...
5. سامر والقسمة على ثلاثة ...
6. انتظار العش من جديد ...
7. بين الجد واللعب ...
8. الشجرة الأم ...(1/20)
9. صديقة أم عدوة! ...
10. طائرة سلمى الورقية ...
11. حرية للجميع ...
صدر للمؤلفة :
1. العصافير لاتحب الزجاج ... بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب ... 1979
2. الجزيرة السعيدة ... اتحاد الكتاب العرب ... ط1-1981
ط2-1983
3. الطائر الذي وجد صوته ... دار الجليل ... 1984
4. مغارة الكنز ... دار الجليل ... 1985
5. أصدقاء الطبيعة ... دار الجليل ... 1986
6. العصافير تعقد مؤتمرها ... دار الجليل ... 1987
7. رحلة الأمل ... اتحاد الكتاب العرب ... 1987
8. السمكة المغرورة ... وزارة الثقافة ... 1988
9. مغامرات الكلب فوفو ... وزارة الثقافة ... 1989
10. الضفدع روغ ... اتحاد الكتاب العرب ... 1989
11. أخي محمد ... دار قوس قزح ... 1989
12. الخبز المر ... دار قوس قزح ... 1989
13. أنا عربي ... دار قوس قزح ... 1989
14. فارس الشجاع ... دار قوس قزح ... 1989
15. ريما والبطة أم الخير ... دار طلاس ... 1990
16. القطة مياو ... دار قوس قزح ... 1991
17. الغزالة ريم ... اتحاد الكتاب العرب ... 1991
18. عيد ميلاد سعيد ... اليونيسيف ... 1993
19. الديك كوكو ... وزارة الثقافة ... 1994
20. الأفعى سامو ... وزارة الثقافة ... 1994
21. الأحلام الذهبية ... دار الأهرام ... 1995
22. النملة نمنم ... دار المعارف ... 1995
23. إلى 39ـ سلسلة رحلات عصفور وعصفورة في بلاد الدنيا (17 جزء ) ... دار الكتاب المصري اللبناني ... 1995
40 السمكة سيرا ... اتحاد الكتاب العرب ... 1995
41 السلحفاة نسمة ... وزارة الثقافة ... 1995
42 رحلة في عالم مجهول (رواية) ... وزارة الثقافة ... 1995
43 سندريللا عام 2000 (رواية) ... وزارة الثقافة ... 1996(1/21)