الحقائق العظمى
فى حياة الإنسان
تأليف
د / محمود عبده عبد الرازق
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كانت أكبر الحقائق وأعظمها فى حياة الإنسان هى حقيقة الإنسان نفسه فإنه من العيب أن يكون جاهلا بها ، فلو سألت نفسك :
ما الذى يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان الإنسان هو المخلوق الوحيد المستفيد ممن حوله من الكائنات ولا يستفاد منه ؟ ولماذا وجد فى الحياة مميزا عن غيره على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد النظر بها مرة أخرى فى صفحة الحياه .
أحيانا يجد الإنسان خواطر متعددة تتردد علي نفسه ، ويسبح معها فى لحظات الهدوء إلى مسافة بعيدة ، حتى إذا أحس بالغرق أو الحيره فى متاهة التأمل ، عاد مستيقظا إلى واقع الحياة يتناسى خطرات النفس ويهملها ، ويتهرب من الإجابة المقنعة التى يقدمها لنفسه حتى تهدأ وتطمئن ، لكنها فى الحقيقة كانت جوله مع خطرات النفس انهزم فيها وولى مدبرا ، وسوف تتكرر بالضرورة إلى أن ينتصر أو يموت مهزوما .
ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا تركه الله يوسوس لنا بالعصيان ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمى نفسه من كيد الشيطان ؟
ألم تسأل نفسك مرة عن تفسير مقنع لنشأة الخلق أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء فى وجود خالق صنع الأشياء وأوجدها على النظام البديع الذى نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير صانع مبدع ، كذلك لا يمكن
أيضا أن تستمر فى وجودها بغير إرادته !!(1/1)
لكن ما هى الحكمة التى قام عليها وجود الكائنات فى الأرض أو فى السماوات ؟ صحيح أن العقلاء يقرون بوجد حكمة بالغة فى صنع الأشياء ، وكذلك فى كلام الله الذى نزل من السماء ، كما قال الله عز وجل : { وَما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الدخان/39:38] لكن كيف نصل إلى العلم بها ؟
ألم ترغب يوما من الأيام أن ترى مجتمعا طاهرا من الآثام ، الناس فيه نسيج واحد يحب بعضهم البعض ، ويخاف الإنسان على أخيه الإنسان ؟ لم يتكالب أغلب الناس على الشهوات ويجعلون الغاية من حياتهم السعى خلف النساء وامتلاك المال وتحصيل أسباب الغنى والترف ؟ لماذا كان الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغنى والفقير ، والأعمى والبصير ، والجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس أمة واحدة ، يستوون فى المسكن والملبس والمطعم ؟
هل يمكن للإنسان أن يجيب عن هذه الخواطر وغيرها بمفرده ، دون هداية حقيقية تأخذ بيديه من ظلمات الحيرة ؟
لهذا ولغيره كتبت ما وفقنى الله فيه لتفسر الحقائق العظمى فى حياة الإنسان وعلاقته بمن حوله من الكائنات ، منتهجا فى ذلك منهج السلف الصالح ، الذين أكدوا أنه لا تعارض بين العقل الصريح أو النقل الصحيح المتمثل فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل العقل يشهد للنقل ويؤيده لأن المصدر واحد ، فالذى خلق العقل هو الذى أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يرسل إليه
ما يفسده .
ولو حدث تعارض بين العقل ورسالة السماء ، فذلك لسببين ، إما أن النقل لم يثبت فينسب الإنسان إلى دين الله ما ليس منه ، كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ، وإما أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح .(1/2)
وقبل البدأ فى الموضوع أنبه على أن اقتناع القارئ بالحقيقة يرجع إلي صدقه هو فى وزن الأمور ، لا سيما إذا اتصف بحسن القصد وسلامة النية ، فالإجابة عن هذه الأسئلة تعبر عن وجهة النظر الإسلامية ، مستندة إلى الأدلة الصافية المعتمدة فى الإسلام ، ثم دلالة العقل والفطرة .
وللعاقل أن يتساءل فى كل خطوة يخطوها عند قراءته لكل صفحة : هل وجهة النظر الإسلامية فى هذه الجزئية مقنعه ؟ وهل هى مقنعة لا باعتبار النظر إليها بذاتها بل باعتبار النظر إلى كل ما جاء فى الموضوع جملة ؟ وإذا لم تكن مقنعة ، فما هى الإجابة البديلة لهذه المسائل العظيمة التى يواجه بها نفسه قبل أن يقدمها لغيره ؟
أسأل الله أن يهدينا إلى ما يحبه ويرضاه ، وأن يغفر لنا ذنوبنا يوم نلقاه ، وأن ينفع بهذا العمل من أراد العلم بسر الحياه ..
وكتبه أبو عبد الرزاق
د/ محمود عبده عبد الرازق
المرج - القاهرة
الفصل الأول
أقوال وأراء حول الوصف الذى يتميز به الإنسان
عمن حوله من الكائنات وموقف القرآن منها ؟
تمهيد
إن أعظم ما يتبادر إلى الأذهان ، أن يسأل الإنسان نفسه : ما الذى أتميز به عن الحيوان ، أو غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هى قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات من حوله ؟ تلك القيمة التى جعلته أعلى منزلة من غيره يستفيد ممن حوله من الكائنات ولا يستفاد منه ؟
لقد اختلف الناس فى ذلك اختلافا شديدا ولا زالوا ، وانحصر الخلاف فى عدة آراء عقلية ، هى أهم ما ورد فى المسألة من جهود فكرية ، قدمها الإنسان .
ولنطرح الآن بعض الأسئلة ، التى تمثل آراء العلماء وأقوال المفكرين أصحاب الفلسفات المختلفة ، ثم نرى هل قدموا الحل المقنع الذى يشبع رغبة الإنسان ، وما هو موقف القرآن من ذلك ؟
هل ما يميز الإنسان عن غيره
أنه حيوان ناطق ؟
ربما يقول قائل : تميز الإنسان عن سائر الكائنات من حوله بأنه حيوان ناطق له القدرة على الكلام ، وهذا ما يميزه عن سائر الحيوان ومن حوله ؟!(1/3)
وهذا الكلام فيه نظر من الناحية العقلية ، فنحن نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش فى جماعات متوافقات متفاهمات يساعد بعضهم البعض ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبة متكلمة فيما بينها ، على طريقة يعلمها خالقها ومن دبر أمرها غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم ، فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر الذين يتكلمون بلغة أخرى ونعجز عن فهمها ، ويستطيع المتخصصون فى دارسة العلوم المختلفة كعلم الحيوان والنبات والفزياء والكمياء أن يؤكدوا بيقين هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلى النمل أو النحل أو الحيتان أو الطير ، كلها متوافقة متفاهمة وإن كنا لا ندرى كيف تتكلم ؟
فإذا تساءلنا وقلنا : هل فى الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان دون غيره ؟
إذا طالعنا القرآن الذى يمثل عمدة الوحى عند المسلمين وجدنا أنه ينفى أن يكون الإنسان هو الوحيد المتكلم ، وبقية المخلوقات من حوله صماء ، فالله تعالى ذكر أن كل شئ فى المخلوقات له لغة ومنطق وكلام ويتخاطب مع إخوانه فى انسجام ، كما أن كل مخلوق له قول ولغة تخصة يتحدث بها مع بنى جنسه ، شأنهم فى ذلك شأن البشر ، ويتنوعون على اختلافهم فى اللغات والأجناس والصور .
فكما أن الإنسان يفهم لغه أخيه الإنسان ، الذى يتكلم بنفس اللسان ، كذلك موقف الإنسان من اللغة التى تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ورموزا وشفرة ، وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون فى إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله .
واللَّه سبحانه وتعالى يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُون } [النور/41] .(1/4)
وقال عن السماوات والأرض ومن فيهن :
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
[الإسراء/44] .
وقال سبحانه فى إثبات منطق الجبال وتسبيحها لله بالغدو والآصال ، تسبح مع داود عليه السلام :
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ } [ص/18] فناداها ربها وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها :
? { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }
[سبأ/10] .
فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا فى غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ذاكرات ساجدات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .
ومن ثم لم يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات من حوله بأنه متكلم ناطق ؟
ومن عجائب ما جاء فى القرآن فى شأن النبى سليمان عليه وعلى نبيناأفضل الصلاة والسلام ، أن الله علمه لغة الطير ، وأنه كلم النملة والهدهد ، وكان له مع هذه الكائنات شأن عجيب ، فقال تعالى مبيننا السبب فى ذلك :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } [النمل/16:15] قال المفسرون : علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال (انظر زاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزى طبعة المكتب الإسلامى بيروت سنة 1404ه، ح6ص159 )
فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ولذا قال الله بعدها :
{(1/5)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }
[النمل/19:17] .
وقد كان فى منطق الهدهد ما يدل على فصاحة القول من خلال دقة كلماته ، والحكمة البالغة فى عباراته وحسن التعبير عن مراداته ، قال تعالى :
{(1/6)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل/31:20] .
فالنملة إذا تتكلم وتتحاور مع إخوانها فى كل آن ولو أدركنا منطقها كما أدركه سليمان ، لعلمنا أنها لا تقل عن الإنسان شيئا فى إمكانية النطق والبيان ، ولكن بالكيفية التى تناسبها ، وعلى الوضع الذى أراده خالقها ، وما يقال في النمل يقال فى الهدهد وبقية المخلوقات .(1/7)
وقد يعترض معترض من المسلمين أو غيرهم ويقول : كيف يكون للحجارة والمعادن قول وكلام ، ونحن نراها لا تتكلم ولا نسمع منها الكلام ؟ وقد ذكر الله فى خير الكلام ، فى قصة إبراهيم عليه السلام ، لما قال له قومه بعد أن حطم الأصنام : { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ }
[الأنبياء/65:62] .
وقال الله منكرا على بنى إسرائيل أنهم عبدوا العجل من دون اللَّه :
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } [الأعراف/148] فكيف يكون للحجارة بعد هذا قول ولغة وكلام ؟
وجواب ذلك أن يقال : كل نوع من المخلوقات متكلم ناطق على وضع مخصوص وكيفية يعلمها الله كما قال سبحانه وتعالى :
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت/21] .
والشاهد هنا قوله : الذى أنطق كل شئ ، لكن من أدرك القول والكلام لشئ ما سماه ناطقا ، وسماه أصما أبكما على اعتبار انعدام الفهم والاستجابة ، فيمكن أن نسمى الإنسان أبكما على اعتبار عدم الفهم والاستجابة للغة ما ، كقول القائل العربى عن الأعجمى : هذا لا يتكلم أى لا يتكلم العربية ، وكوصف الله للمنافقين والكافرين بالصمم والبكم فى قوله تعالى :
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة/18] .
مع أنهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة أو كقوله :
{(1/8)
إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } [الأنفال/22] .
وقوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام/39] .
ومن ثم فإن النمل مثلا باعتبار جنسه ، كلُُ يَفْهَمُ كَلامَ الآخر ، والمدرك لقولهم ، العالم بمفردات الخطاب بينهم يمكن أن يسمعهم وهم يتخاطبون ويتفاهمون ؟
وقد سبق أن سليمان سمعهم وهم يتكلمون ، بأن جنده ربما لا يشعرون بمقتل النمل :
{ حَتَى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُون } [النمل/18] .
فكل نوع من المخلوقات له قول وكلام يليق به وهو متكلم ناطق ، سواء تكلمت شفتاه ، أو كان بغير فاه وسواء أدركنا قوله أو لم ندركه ، أو اعتبره البعض متكلما أو لم يعتبره ، فالحقيقة التى يصدقها العقل ولا يشك فيها أن الله الذى خلق جميع الكائنات يعلم منطقهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ويرى صلاتهم جميعا ، فهو الذى أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عدداً فقال :
{ أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُون } [النور/41] .
فالطيور لها قول باعتبار جنسها ولكنها صماء باعتبار عدم قدرتها على النطق بكلام البشر ، والحيوانات لها قول باعتبار جنسها ، لكنها خرساء باعتبار النظر إلى
قول البشر .
ولا شك أن الذى خلق الحيوان على هذا الحال قادر على تكوينه على أى وضع شاء ، إن شاء أنطقه بكلام
البشر وأحسن من كلام البشر .(1/9)
والعقل لا يمنع ذلك ، لأنه طالما أن الله خلقه فهو قادر على أن ينطقه بأى لغة يريدها ، وقد ثبت عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا .
فَقَالَتْ : إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ .
فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تتَكَلَّمُ ؟
فَقَالَ : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ، وَبَيْنمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ .
فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ : هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي ، فَمَنْ لَهَا يَوْمَ
السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي ؟
فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ ؟
قَالَ : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ) (متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب المناقب برقم (3471) ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة برقم (2388) .)
ومن حديث عبد الله بن جعفر رضى الله عنه قال : ( فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ ، فَسَكَتَ فَقَالَ : مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟
فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ .(1/10)
فَقَالَ : أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا ؟ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ ) (رواه أبوداود ح3ص23رقم 2549 وقال الشيخ الألباني : صحيح والحاكم فى المستدرك ح2ص109رقم 2485 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .)
وإذا نظرنا بنظرة عصرية ، وتكلمنا بلهجة علمية نخاطب أصحاب العلوم المادية ، وجدنا أن المادة تتكون كما هو مفهوم ، وعند الدارسين لذلك معلوم ، تتكون من مجموعة من الذرات المتنوعة ، كل ذرة لها نظام معلوم فى تركيبها ، ولجميع الذرات قانون فى مداراتها ، ينظم التكافؤ لكل ذرة فى علاقتها بأختها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً .
ولولا معرفةُ الإنسان لتركيب الذرة منذ حين ، وبعد جهل به دام آلاف السنين ، ما استطعنا أن نعلم أن المادة فى عناصرها ، عبارة عن أخوات من الذرات تتماسك فى مجموعات ، يسمونها جزَيْئِيَّات .
ولولا أن الذرات متكاتفات متماسكات ، متفاهمات متخاطبات ، وفق رموز وشفرات ، ما ظهرت لنا المواد فى صورتها التى نراها ، وإلا فاسئل عالم الفزياء أو الكمياء ، كيف سيتكون جزئُ الماء ، إذا لم تتحد ذرتان من الهيدروجين ، مع ذرة واحدة من الأكسجين ؟
ولولا أنهم علموا بوجود الطاقة الهائلة ، المدفونة فى باطن النواة المتعادلة ، وخصوصا الذرات القابلة للتمزق والشتات ، الذرات المشعات ، لولا أنهم علموا لهجة خطابها ، والقوانين التى تتعامل بها ، لما عكفوا على البحث لتفجيرها ، حتى ظهرت لنا القنابل الذرية والرؤوس النووية .
فلما فهم الإنسان لغة المادة ، وفهموا النظام فى تركيبها ، تمكنوا من استغلالها ، وحسن استخدامها لمنفعة البشرية أو هلاكها .(1/11)
وعلى ذلك فالحجارة والمعادن يراها الجاهل بحقيقتها صماء ، ويراها عالم الفزياء والكمياء ، الِكْتُرُونَاتٍ متحركةً سالبةً ، وبُرُوتُونَاتٍ جاذبةً موجبةً ، ونِيُوتْرُونَاتٍ متعادلةً ساكنةً ، لهم دستور ونظام ، وقانون وأحكام والذرات فى ذلك متماسكة ، لا تمل ولا تختل ، ولا تعتل ولا تنحل ، إلا إذا شاء اللَّه لها الفناء وتحولت إلى صورة من صور الطاقة .
فالكل متكلم ناطق بكيفية تليق به ربما نجهلها لكن اللَّه يعلمها وتسبح ويسمعها فقال :
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران/6:5] .
فمن بداهة العقل ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ؟
وإذا كان الحيوان لا يتكلم بقولنا ولا ينطق بكلامنا ، فنحن أيضا نعجز عن الكلام مع هذه المخلوقات كأفراد جنسها .
والمتخصصون من العلماء يعلمون أن لغتهم أشد تعقيدا
من لغة الإنسان ، وتحتاج منا لو أردنا التعرف على شفرة الخطاب بينها وفك رموزها وألغازها إلى دراسة علمية شاقة ، يقدرها علماء الحيوان على وجه الخصوص .
هل ما يميز الإنسان عن غيره
أنه عاقل ؟
إذا لم يكن الإنسان متميزا بالنطق والكلام ، فهل يتميز عن غيره بأنه عاقل حكيم ، يحرص على نفعه ودفعه ما يضره ؟
من وجهة النظر العقلية نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل نصيبا ، وأكثر معيبا ، وقبل إقامة البرهان على ذلك لا بد من معرفة المقصود بالعقل ؟
فالعقل آلة غيبية تابعة للروح وموضوعة فى الجانب الغيببى من الإنسان لا نعرف كيفيتها ، ولكننا نتعرف على وجودها، ووجود أوصافها ، من خلال أفعال الإنسان فى ظاهر البدن ، فيقال : هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء ، وهذا مجنون إذا لم يتصف بها .(1/12)
كما أن هذه الآلة تقوم بتحصيل المعلومات عن طريق الحواس التى تمثل وسيلة الإدراك الظاهر ، والحواس هى المسئولة عن إدخال المعلومات إلى الإنسان وإخراجها ، ثم تخزنها فى ذاكرة الإنسان بعد تحليلها وتصنيف الحدث المرافق لها (انظر بتصرف التعريفات للجرجانى ، تحقيق إبراهيم الأبيارى ، طبعة دار الكتاب العربى ، الطبعة الأولى سنة 1405هح2ص196 وما بعدها ، وانظر أيضا ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه ، للحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق حسين القوتلى ، طبعة دار الفكر بيروت ص200 وما بعدها )
والغاية الرئيسية من وجود العقل ، تعريف الإنسان بما ينفعه أو يضره ، وكيف يحصِّل الخير الأعلى والأفضل دائما ، من خلال برامج دقيقة للموازنة بين الخير والشر ، إما يعرفها بالممارسة والتجربة أو يُعَرِّفُها له من صنعه .
فالعقل شأنه شأن العقل الألكترونى ( الكمبيوتر ) لكن هذا من صنع البشر ، وهذا من صنع خالق البشر
وشتان بين هذا وذاك .
ولما كان عظم المنفعة من أجهزة الكمبيوتر يرتبط طرديا مع البرامج العلمية الحديثة ، الدقيقة والمتطورة كان عظم المنفعة من العقل البشرى ، يرتبط أيضا مع التزام الإنسان بالمناهج الدقيقة التى وضعها خالقه سبحانه وتعالى ، لأن علم الله ليس كمثله شئ فيه ، فلو وضع للإنسان منهجا ونظاما ، ودستورا وأحكاما ، كان الكمال كله فيه ، وكان صلاح العقل فى اتباعة .
ومما لا شك فيه أننا نرى الكائنات حريصة كل الحرص فى حياتها على نفعها ، ودفع ما يضرها ، وهذه صفة العقلاء ، ويمكن للقارئ أن يجري تجربة بسيطة تدلل على ذلك ، بأن يأخذ نملة ويضعها فى طبق فارغ جاف ، فيه بعض قطرات من الماء ، وينظر إلى النملة وهى تجرى فى الطبق ثم يسأل نفسه :
كيف تتمكن النملة فى حساباتها من الابتعاد عن
الماء ؟ ولماذا ؟ وكيف علمت أن الماء يغرقها فيهلكها ؟
أو اسأل نفسك بعض هذه الأسئلة :(1/13)
ما الذى يجعل النبات يميل إلى ضوء الشمس دائما ؟ وكيف يقوم بحساب حساسية الضوء فى مكانه ؟
وكيف يحسب الطائر عوامل الاتزان فى الهواء أثناء الطيران ؟ أليست لديه تكنولوجيا أعلى وأرقى من عقول البشر ؟
هل درس الطائر فى معاهد الطيران ؟ أم أنه يجهل قوانين الحركة لنيوتن ؟
واسأل نفسك من هذا القبيل عن جميع الأشياء من حولك حتى تتأكد أن الإنسان ليس وحده العاقل ؟
بل يمكن القول إنه أقل من غيره عقلا وأردأ فى حساباته العقلية ، ودليل ذلك أن العقل الإلكترونى فى حساب عمليات الجمع يقول : (1+1+1=3) ومن المستحيل أن تكون النتيجة عنده (1+1+1=1) فهذا
لا يقبله بحال من الأحوال .
ولكن هذا مقبول عند كثير من عقلاء الأرض الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، أو قالوا :
( بالحقيقة نؤمن بإله واحد ، الله الآب ، ضابط الكل خالق السموات والأرض ، ما يرى وما لا يرى ، ونؤمن برب واحد ، يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولود من الآب ، قبل كل الدهور ، إله حق من إله ، مساو للآب في الجوهر ، ونؤمن بالروح القدس ، الحق المنبثق من الآب ، المسجود له ، والمجد مع الآب والإبن ) (قانون الإيمان عند النصارى ، وضع الجزء الأول منه فى مجمع نيقيه سنة 325م ، والثانى في مجمع القسطنطينية سنة 381م ، انظر المناظرة التقريرية لرحمة الله هندى ، تحقيق د/محمد عبد الحليم مصطفى ، مطبعة الجبلاوى القاهرة ، الطبعة الأولى سنة 1405هص166 . )
فكيف ندعى أن الإنسان الذى هذا شأنه يتميز عن غيره بالعقل ؟
إن العقل السليم لا يقبل إلا التوحيد ، ومن المحال عند العقلاء أن يكون الخالق إلهين اثنين متعادلين فى وصف القدرة ، لأنه إذا أراد أحدهما شيئا ولم يرده الآخر ، فمن القادر منهما على تنفيذ مراده ؟
عند ذلك لابد أن يكون الإله واحدا ، وسيعود الأمر بدلالة العقل حتما إلى وجود إله قوى قادر والآخر عاجز عن تحقيق مراده .(1/14)
قال الله تعالى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون/91] .
وقال أيضا : { أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ، لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، لا يُسْأَلُ عَما يَفْعلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء/25:21] .
وقد أخبرنا الله فى القرآن عن رأى السماوات والأرض والجبال فى قول الإنسان اتخذ الله ولدا ، وأنهن يرفضن ذلك بشدة فقال :
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم/95:88] .(1/15)
ومن المعلوم فى الفطرة السليمة ، أن العاقل هو الحريص على جلب المنفعة وتحصيلها وحب الخيرات وتفضيلها ، ولا نجد عاقلا يفضل الخير الأدنى على الخير الأعلى ، والعاقل أيضا ، حريص على دفع المضرة وإبعادها ، كما أنه يتحمل ضرراً أدنى ، ليحصل على منفعة أعلى ، ويضحى بالقليل ليحصِّل الكثير ، ويحرص بفطرته على الباقى ، ويزهد بسليقتة فى الفانى ، فالمريض يتحمل مرارة الدواء من أجل إدراك الشفاء .
هذه أوصاف العقلاء فى كل فطرة ، ومن هنا دعى الإسلام إلى إيثار ما عند الله فى الجنة على أنها أعلى الخيرات فلا يفضل المسلم نعيم الدنيا على نعيم الآخرة ولا يؤثر عذاب الآخرة على بعض الابتلاءات فى الدنيا ، قال تعالى :
{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [الأعلى/19:9] .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه قَالَ :
((1/16)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) (أخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة برقم (2807) )
والقرآن يخبرنا أن المعرض عن ربه يعترف على نفسه أن الله منحه آلة العقل لم ينتفع بها ، وأنه لم يكن عاقلا ولا راشدا ، قال تعالى : { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك/11:7] .
وعلى ذلك نصل إلى أن الإنسان على العموم لم يتميز عمن حوله بالعقل والحكمة إذ يشاركهم فى ذلك على الأقل ، وهم أفضل منطقا وعقلا وأحكم قولاً وفعلا فى موازين النفع والضرر .
هل ما يميز الإنسان عن غيره
أنه اجتماعى ؟(1/17)
الاجتماعية صفة الإنسان عند علماء الاجتماع فيمكن على حد قولهم أن يقيم الأمم والحضارات ويضع المجالس والوزارات ، وله دستور ومؤسسات وبقية المخلوقات همجية عشوائية ، لا تتصف بالاجتماعية ؟ !
إن الواقع يشهد بغير ذلك ، فأبحاث علم الحيوان تؤكد أنها أممية حضارية ، فالنحل مثلاً يقيم دولة متكاملة ، فى كل خلية كاملة ، وله دستور ثابت ، ونظام محكم ، لا يحتال عليه أحد بالتزوير والتبديل ، كما هو شأن الإنسان الذى يبحث عن ثغرة فى القوانين ، ليجد مخرجا لأطماعه وطغيانه ، وجرمه وعصيانه ، والقانون عاجز عن ضبطه وردعه ، ووقفه ومنعه ، هذا شأن البشر مع البشر ، ولا نجد ذلك فى غير البشر وأفعال البشر .
إن المخلوقات لهن قانون صارم ، ينفذن أمره ومقتضاه لا مكان للمخالف منهن بينهن ، وربما مصيره عندهن الموت ، فلا حق للمخالف منهن فى الحياة .
نرى ذلك باديا واضحا ، وظاهرا جليا ، فى مجتمعات النمل والحيتان ، والطير والحيوان ، والقرآن يذكر ذلك فى كل وضوح وبيان :
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام/38] .
وقال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل/69:68] .
هل ما يميز الإنسان عن غيره
أنه عابد لله ؟
إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات فى النطق والعقل ، أو التوافق الاجتماعي ، فهل يتميز عنهن بأنه عابد لله ؟(1/18)
وقبل إقامة البرهان على أنه لا ينفرد بذلك ، لا بد من معرفة معنى العبادة ، فالعبادة هى الخضوع التام المقترن بالإرادة والمحبة وتعظيم المحبوب ، فإن كان الخضوع والطاعة عن إكراه فلا تسمى عبادة .
وإذا كان السجود للمعبود يجعل المرء على أعلى درجات الحب والقرب من ربه ، كما ثبت فى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسولَ اللَّه قَالَ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ منْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) (أخرجه مسلم فى كتاب الصلاة برقم (482) . ) فإن ذلك كائن فى بقية المخلوقات ، إذ عبر الله عن كمال طاعتها ، وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها على قوانينها بلفظ السجود ، وإن كنا لانعلم كيفية حدوث السجود منها .
بل إن المقارنة بين الإنسان وغيره من المخلوقات فى العبادة تُظهر تفوق المخلوقات عليه فى هذه الصفة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [الحج/18] .
فاللَّه عبر عن سجودهن جميعا بالعموم ، فكلهن ساجدات بلا استثناء ولا تتخلف واحدة منهن عن السجود ، ولما عبر عن سجود الإنسان عبر بالخصوص فالبعض يسجد لله ، والبعض لا يسجد مطلقا :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [الفرقان/62:60] .(1/19)
كما أخبرنا الله أن الهدهد أنكر علي ملكة اليمن فى عصر سليمان أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله :
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [النمل/26:22] .
وعن أَبَى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ : ( سمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، فَأَمرَ بِقَرْيَةِ النَّملِ فَأُحْرِقَتْ ، فَأَوْحى اللَّه إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ ) (أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير برقم (3019) .)
وعن عبد الله بن مسعود قال :
( كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ) (أخرجه البخارى برقم (3386) حـ3ص1312.) .
صحيح أنه ورد فى القرآن أن الله خلق الإنسان للعبادة فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات/56] لكن العبادة ليست وصفه الذى يميزه عن غيره لقوله تعالى:
{(1/20)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء/44] .
هل ما يميز الإنسان عن غيره
أنه حر مكلف مسئول ؟
لم يبق الا أن نقول تميز الإنسان عن غيره بأنه حر مكلف مسئول ؟ وهذا الوصف ليس للكائنات الأخرى على الأرض ؟!
وهذا الوصف أيضا لا ينفرد به الإنسان لأن غيره من الكائنات يتصف به ، فمن ناحية الحرية ، ما الذى يمنع الطير والحيوان أن يبحث عن طعامه وشرابه حيث يشاء كالإنسان سواء بسواء ، بل هم أكثر حرية منه فى ذلك ؟
والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، والقرآن أيضا يقرر ذلك بوضوح ، فالله أوحى إلى النحل كما تقدم أن تبحث عن رزقها حيث تشاء وتأكل من الثمرات ما تشاء ، فقال تعالى :
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ
بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل/69:68] .
ومن جهة الحرية والمسئولية أخبرنا الله عن مخلوقات غيبية حية تعيش مع الإنسان تشاركه هذه الصفة ، تراه ولا يراها ، هؤلاء هم الجن والشياطين ، فقال تعالى :
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف/27] .
كما أن الجن مكلف بشريعة الإنسان ، واللَّه أعطاهم العلم والإرادة والحرية والاستطاعة ، وهم مسئولون عن أفعالهم محاسبون فى أعمالهم ، فقال تعالى :
{(1/21)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الأحقاف/32:29] .
وقال تعالى فى إثبات الحرية لهم أن يؤمنوا أو يكفروا :
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [الجن/11] .
وقال سبحانه عن محاسبتهم عن أفعالهم :
{ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن/15:14] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهُمَا قَالَ :
((1/22)
انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لَكُمْ ، فَقَالُوا حِيلَ بَيْننَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ ، قَالُوا : مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ ، وَهُوَ يُصلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ ، اسْتَمَعُوا لَهُ ، فَقَالُوا : هَذَا وَاللَّه الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ منَ الْجِنِّ } [الجن/1] (متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب الأذان برقم (773) ومسلم فى كتاب الصلاة برقم (449) .)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ :
((1/23)
إِنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ قَدْ أَسْلَمُوا ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيؤْذِنْهُ ثَلاثًا ، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ ) (أخرجه مسلم فى كتاب السلام برقم (2236) والْعَوَامِرِ ما يسكن المكان من الأحياء ولا يفارقه .)
كل ذلك يدل على أن الإنس يشترك مع الجن فى وصف الحرية والمسئولية .
الفصل الثانى
كيف نتعرف على الوصف الذى يميز
الإنسان عن غيره ؟
إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره بالنطق أو العقل أو صفة الاجتماعية أو العبودية والحرية فما هو الوصف الذى انفرد به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟
وهنا يعجز العقل الإنسانى بمفرده عن تقديم الإجابة المقنعة ، فكل ما قدمه من إجابات فكرية ، عليها تعقيبات عقلية ، أو اعتراضات نقلية ، وكل فيلسوف مهما بلغ علمه أو بلغت حكمته لن يتمكن بالعقل وحده من تقديم الإجابة التى تتوافق مع العقول السليمة ، والفطرة المستقيمة .
ولذا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلى طريق آخر نتعرف من خلاله على الوصف الذى يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟
إن العقلاء يعلمون علم اليقين أن المصنع الذى ينتج جهاز ما أو آلة ما يضع دليلا مرفقا لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة التى تمكن الإنسان من تشغيل الأجهزة .
ولو حدث عطب أو خلل نتيجة الالتزام بالنظام الموضوع للتشغيل ، فالشركة المنتجة هى الوحيدة المسئولة عن الضمان وإصلاح الخلل .
ولما كان أولى من يبين خصائص المنتجات ويشرح نظام المصنوعات هو المنتج الصانع ، فإن من العقل والمنطق والحكمة أن تأتى الإجابة عن الوصف الذى تميز به الإنسان ممن صنع الإنسان وخلقه ، وخلق سائر الأشياء من حوله ، ووضع لها البرامج والنظم التى تسير عليها وفق إرادته سبحانه وتعالى .(1/24)
فالخالق هو وحده العليم الخبير الذى يمكنه أن يشرح التفاصيل المطلوبة فى تركيب الإنسان وعلاقته بالعالم الذى يعيش فيه ، ويبين أسباب ذلك للعقلاء ، وصاحب الفطرة السليمة يحترم ذلك .
ومعلوم لدى كل العقلاء أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء وصانع الإنسان فى عصرنا هذا ممتنع ، لأن الوحى قد انقطع بموت الأنبياء ، ومن ثم فإن المصدر الوحيد المتاح فى التعرف على كلام الله وخطابه هو رسالة السماء ، سواء التى أنزلت على موسى أو عيسى أو محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، فالمهم أن نظفر من خطاب الله على ما نريد .
غير أن السؤال الذى يطرح نفسه على العقلاء ، ويشاركنى فى ذلك القراء ، هو السؤال عن توثيق المصادر السماوية ومدى ثبوتها ، والتأكد بالفعل أن هذه الرسالة التى يحملها النبى المعين هى رسالة الله فعلا وأن ما جاء فيها هو كلام الله حقا ؟
ولذا وجب الآن على أصحاب الأديان أن يوثقوا لنا نسبة الكتاب السماوى المعين إلى الرسول المعين .
فللقارئ من اليهود أن يسأل علماء اليهود : هل التوراة الموجودة بأيديكم حاليا هى التى كتبها الله لرسوله موسى عليه السلام فى الألواح ؟ وما الدليل على ذلك ؟
وأين الألواح التى نزلت من السماء وتسلمها موسى عند جبل الطور بسيناء كما تقول التوراة الحالية ، وهل هى موجودة الآن أم مفقودة ؟
فإذا اطمأن القارئ إلى إجابة مقنعة منهم فله أن يسألهم بعد ذلك ، هل ورد فى التوراة وصف للإنسان يتميز به عن غيره ، ويمكن من خلاله تفسير الحقائق العظمى فى حياة الإنسان ؟ وما هو ؟
وكذلك للقارئ المسيحى أن يسأل علماء النصارى : هل الأناجيل الموجودة حاليا هى التى أوحى الله بها إلى رسوله عيسى عليه السلام ؟(1/25)
وأين النسخة الأصلية التى أملاها عيسى بن مريم للحواريين ؟ وهل سمع أصحاب الأناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا هذه الأناجيل من عيسى عليه السلام سماعا مباشرا ؟ أم وصل إليهم الإنجيل كسند متصل بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ؟
فإذا اطمأن القارئ إلى إجابة مقنعة ، فله أن يسأل بعد ذلك هل ورد فى الإنجيل وصف للإنسان يتميز به عن غيره ، ويمكن من خلاله تفسير الحقائق العظمى فى حياة الإنسان ؟ وما هو ؟
وللقارئ أن يسأل علماء المسلمين : هل القرآن الموجود حاليا بأيدى المسلمين هو النسخة الأصلية التى أوحى الله بها لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؟
فإذا اطمأن القارئ إلى إجابة مقنعة ، فله أن يسأل بعد ذلك : هل ورد فى القرآن وصفا للإنسان يتميز به عن غيره ؟ وما هو ؟
وباعتبار أن الخطاب فى هذا الكتاب موجه إلى عقلاء الناس من كاتب مسلم يعرض تفسير الحقائق العظمى فى حياة الإنسان من خلال موافقة العقل والفطرة لما ورد فى القرآن ، فلا بد من الإجابة عن هذه الأسئلة .
فالسؤال الأول : هل القرآن الموجود حاليا بأيدى المسلمين هو النسخة الأصلية التى أوحى الله بها لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم?؟
يجيب عن ذلك أحد الباحثين المتخصصين فى مقارنة الأديان من غير المسلمين ، وهو المستشرق الفرنسى مورس بوكاى إذ يقول :
((1/26)
صحة النص القرآنى المنزل على محمد لا تقبل الجدل ، وتعطى النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن فى هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد وسبب ذلك أن القرآن قد دون فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض النص القرآنى لأى تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا ) ( انظر التوراة والإنجيل والقرآن والعلم لموريس بوكاى ترجمة حسن خالد طبعة المكتب الإسلامى بيروت سنة1990م ص151 ونحيل القارئ إلى ما كتبه هذا المستشرق فى كتابه دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة طبعة دار المعارف لبنان سنة 1977 . )
لقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم? كتَّابا للوحى كان يملى عليهم ما جاءه من كلام الله ، ويأمرهم بكتابة ما ينزل من القرآن أولا بأول ، وهؤلاء الكتاب معروفون بالإسم فردا فردا ، ويمكن للقارئ أن ينظر التفصيل فى علوم القرآن عند المسلمين ، هذا بالإضافة إلى حفظ أعداد كبيرة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم?للقرآن كله كلمة كلمة ، وهم أيضا معروفون بالإسم فردا فردا .
ثم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم?استنسخ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه ، وهو من خيار أصحاب الرسول وصهره وخليفة المسلمين ، استنسخ عدة نسخ من القرآن موجودة بذاتها إلى الآن ، يمكن للقارئ أن يطلع على بعضها فى المدينة المنورة وفى مكة المكرمة وبعض البلاد الإسلامية الأخرى ، ومنها يطبع القرآن ويتداوله الناس فى كل مكان .
وقد ميز الله القرآن عن سائر ما سبق من الرسالات ، بأنه النص الوحيد فى العالم ، حتى عصرنا الحاضر الذى يقرأ بنفس أسلوب الوحى الأول ، بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته ، كنظم معجز يتحدى العالم أجمع ، كى يأتوا بمثله كما قال سبحانه :
{(1/27)
قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء/88] .
وقال أيضا : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [يونس/38] .
ليس هذا وفقط ، ولكن ميز الله القرآن أيضا بأن تكفل بحفظه وبقائه إلى يوم القيامة دون تحريف ، وذلك من خلال أمرين اثنين :
الأمر الأول : أن الله حفظه قرآنا يتلى ومنهجا ثابتا لا يتغير ، فهيأ الأسباب لحفظ القرآن والسنة على الدوام ، فقال تعالى فى حفظ منهجه :
{ إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر/9] .
فلا يستطيع أحد فى العالم أن يدرج فيه حرف أو كلمة أو تشكيل مخالف لما هو عليه الآن إلا وتمكن المسلمون من اكتشاف التزوير إذا وقع تحت سمعهم وأبصارهم .
وفى حفظ السنة تميزت الأمة الإسلامية فى براعة نادرة بالأسانيد ، ووضع قواعدها التى تميز بين المقبول والمردود أو الصحيح والضعيف ، مما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث الذى يعد من خصائص الفكر الإسلامى .
ويكفى للتدليل على ذلك أن تنظر أيها القارئ نظرة عابرة إلى ما انتجه المسلمون حتى الآن فى المكتبة الإسلامية من علوم قائمة على خدمة القرآن والسنة ، وخصوصا ما ظهر من البرامج الحديثة والمتطورة التى يسخدم فيها العقل الألكترونى الكمبيوتر .
الأمر الثانى : أن الله حفظه واقعا مرئيا بوجود من يطبقه على نفسه من بنى الإنسان حتى قيام الساعة ، لتقام بهم الحجة على غيرهم .(1/28)
فقد يدعى أحدهم أن القرآن منهج مثالى لا يصلح فى هذا الزمان ، أو يمكن أن يطبق فى مكان دون آخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجود طائفة تلتزم أحكام القرآن فى واقعية مستمرة إلى قيام الساعة : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) (أخرجه مسلم عن ثوبان رضى الله عنه فى كتاب الإمارة برقم (1920) . )
أما السؤال الثانى : هل ورد فى القرآن وصف يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ وما هو ؟
والجواب : نعم ، ورد فى القرآن وصف يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ، جاء فى قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] حيث استخلف الله الإنسان فى الأرض وخوله فيها على سبيل الأمانة فترة مؤقتة ، فقال لملائكته عن بداية حياة الإنسان : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] وقال عن نهاية حياته : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام/94]
فاستخلاف الإنسان فى الأرض وتخويله فيها هو الوصف الذى تميز به عمن حوله من الكائنات ، كما أنه يوضح الرؤية الصحيحة للعلاقة بين اللَّه والإنسان والعالم الذى نعيش فيه وسيأتى الحديث عن ذلك بالتفصيل .
ولكن هناك سؤال سيطرح نفسه فى أذهان العقلاء ولا مفر من الإجابة عنه وهو : لماذا استخلف الله الإنسان فى الأرض على وجه الخصوص ولم يستخلف غيره ؟ أو لماذا اختار اللَّه الإنسان ليخوله فى الأرض ، ويكرمَه بهذه المنزلة الرفيعة التى قال عنها :
{(1/29)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } [الإسراء/70] فهل هناك سبب وجيه لذلك ؟ وهل الإنسان مجبور على ذلك التفضيل والتكريم ؟ أم له دور معقول وهو عن ذلك مسئول ؟
لأنه ربما يحتج إنسان على ربه ويدعى أنه لا يرغب فى أن يكون مستخلفا فى الأرض من حيث المبدأ ؟ فالأمر يحتاج إلى إجابة مقنعة تشبع رغبة العقلاء ، وتتوافق مع الفطرة السليمة .
لماذا استخلف الله الإنسان فى الأرض
على وجه الخصوص ؟
بالاعتماد على العقل وحده لا يستطيع الإنسان أن يجيب عن هذا السؤال ، ولكن الإجابة نتلمسها من صانع الإنسان الذى أنزل له القرآن .
فالقرآن يبين أن السبب فى استخلاف الإنسان فى الأرض ، هو أنه المخلوق الوحيد الذى قبل الأمانة حين عرضها علي الكائنات من حوله ، فقال تعالى :
{ إِنا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [الأحزاب/72] .
والسؤال الآن : ما هو تفصيل موضوع الأمانه التى ذكرها القرآن والتى عرضت على السماوات والأرض والجبال ؟
يجيبنا القرآن عن ذلك ويبين أنه فى منشأ الكون قبل تركيبه على الوضع الحالى كانت الساء دخانا ملتصقا بالأرض ، وكانت الجبال فى وضع تجعل الأرض مضطربة غير مستقرة بعكس حالها الآن ، فقال تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء/30] ومعنى الرتق هو الالتحام والالتصاق ، وقال أيضا عن السماء وهى دخان فى بداية تهيئة العالم قبل الوضع الحالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت/11] .(1/30)
ثم بين القرآن أن الله خلق الإنسان من تراب اختلط بالماء حتى صار طينا ، ثم تجفف الطين فصار صلصالا وحمأ مسنونا ، ورد ذلك فى قوله تعالى عن خلق الإنسان من تراب : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [الروم/20] وقال عن خلقه من الماء : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } [الفرقان/54] أما خلقه من الطين فقد ورد فى قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ } [السجدة/7] وأما خلقه من صلصال وحمأ مسنون فقد ورد فى قوله : { خلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } [الرحمن/14] وقوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } [الحجر/28] ثم سواه الله على هيئة معتدلة قويمة ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار/8:6] .
ثم بعد ذلك عرض على السماوات والأرض والجبال والإنسان قبول الأمانة أو رفضها ، فقال الله تعالى : { إِنا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [الأحزاب/72] .
فالله يخبرنا أنه ابتلى هذه المخلوقات وخيرها فى حمل أمانة معينة ، من قبلها يكلفه الله بالحفاظ عليها ومراعاتها على الطريقة التى يشرعها له ؟
توجه هذا العرض والتخيير إلى السماوات والأرض والجبال ، وكذلك الإنسان بنص القرآن ، والعقلاء يفهمون من هذه الآية اللوازم الآتية :(1/31)
أولا : أن المخلوقات التى خيرت فى حمل الأمانة أو رفضها وهى السماوات والأرض والجبال والإنسان ، كانت على درجة واحدة فى إمكانية القبول أو الرفض ، فلهن إرادة حرة مخيرة وليست مجبرة ، فعلم العقلاء أنه لولا أن لهن اختيارا حرا ما عرض اللَّه عليهن قبول الأمانة أو رفضها ، ولما عبر عن رأيهن بقوله عنهن : { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } فالإباء والرفض والخوف والإشفاق عكسه القبول والرغبة والموافقة ، وهذا دليل على أن الله خيرهن دون جبر منه عليهن ، فى قولهن أو فعلهن .
ثانيا : أن هذه المخلوقات التى عرضت عليها الأمانة ، لهن عقل ووعى ويتصفن بإدراك وفهم ، لأنه لا معنى لتخييرهن ، فى أمر لا يعرفن عنه شيئا ، فهذا نوع من العبث ، لا يقبله العاقل على نفسه فضلا عن ربه ، فهل يعقل أن تخير أميا لا يعرف الكتابة مطلقا فى أن يكتب العربية أو الانجليزية ؟
ثالثا : أن الإنسان له وجود غيبى يسبق الزمان الحالى ، أعنى الزمان الناشىء عن دوران الأرض حول نفسها مرة كل يوم ، وحول الشمس مرة كل عام ، وهذا يؤيده أيضا آيات أخرى كثيرة وردت فى القرآن فى شأن آدم وحواء عليهما السلام ، وهما فى السماء قبل نزولهما إلى الأرض وكذلك أحاديث متعددة تدل على وجود الذرية فى الماضى السحيق .(1/32)
ومن ثم علمنا من مضمون آية الأمانة أن هذه المخلوقات يعقلن ويدركن ويفهمن ، ويسمعن كلام اللَّه لهن ، وهن أحرار أخيار فى قولهن ، وإلا كان تخييرهن عبثا ولهوا ولعبا ، وقد نفى اللَّه ذلك عن نفسه نفيا قاطعا ، فقال سبحانه وتعالى : { وَما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الدخان/39:38] وقال أيضا : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء/17:16] .
وهنا سؤال سيطرح نفسه على العقلاء بالضرورة ، فقد علمنا أن الوصف الذى يتميز به الإنسان عن حوله من الكائنات أنه المخلوق الوحيد الذى استخلفه الله فى الأرض ؟ وسألنا لماذا استخلفه الله فى الأرض ؟ فعلمنا أنه المخلوق الوحيد الذى قبل الأمانة فى حين رفضتها السماوات والأرض والجبال ، والسؤال الآن : لماذا عرض اللَّه الأمانة أصلا على الإنسان أو السماوات والأرض والجبال ، وخيرهن جميعا فى قبولها أو رفضها ؟ .(1/33)
والجواب بينه القرآن بيانا واضحا ، فالأمانة عرضت على والسماوات والأرض والجبال والإنسان ليتحقق عدل الله فى الكون ، فمن عدله أنه لا يجبر مخلوقا على فعل شئ وهو مكره ، فقال?الله تعالى : { إِنَّ اللَّه لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء/40] وقال : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف/49 ] فنفى الظلم يدل على كمال العدل ، ولكمال عدله سبحانه وتعالى ، قامت السماء والأرض بأمره على الحق والميزان ، كما نص على ذلك القرآن ، فقال تعالى فى سورة الرحمن : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [الرحمن/7] وقال فى سورة الدخان : { وَما خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الدخان/39:38] .
ولكون الباطل ضد الحق ، قال المؤمنون أولوا الألباب عندما يتفكرون فى وجود السماوات والأرض على هذا الحال ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ، يقول تعالى فى وصفهم : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران/191:190] .
ومن لوازم العدل أنه كان من الممكن للجميع سواء السماوات أو الأرض أو الجبال أو الإنسان رفض الأمانة أو قبولها ؟ وكان من الممكن أيضا رفض الإنسان للأمانة وقبول السماوات أو الأرض أو الجبال ؟
وللقارئ أن يسأل ماذا لو فرضنا أن الكل رفض الأمانة ؟ أو اختارتها السماوات أو الأرض أو الجبال ؟(1/34)
والجواب : أن العالم فى تركيبه لن يكون على هذا الوضع الحالى ، بل ستتغير معالمه على وضع جديد وخلق جديد يعلمه الله ، ويحقق العدل فى ملكه ، ويظهر حكمته فى سائر الأشياء ، كما قال سبحانه وتعالى :
{ أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم/20:19] ولكن كانت نتيجة التخيير وعرض الأمانة أن المخلوقات انقسمت إلى قسمين :
1. ... قسم رفض الأمانة وهى السماوات والأرض والجبال .
2. ... وقسم وافق على حملها وهو الإنسان .
أولا : موقف من رفض الأمانة ؟ !
ماذا حدث لمن رفض الأمانة ؟
بعد رفض السماوات والأرض والجبال لقبول الأمانة التى عرضها الله عز وجل وممارسة حقهن فى ذلك ، كان من عدل الله أنه خيرهن مرة أخرى ، ولكن هذه المرة اقتصر التخيير على الطاعة التامة لله والاستجابة لأمره إذا كلفهن بعمل ما أو سخرهن لوظيفة ما ، حتى وإن كانت لصالح الإنسان ، فاختاروا جميعا الطاعة والخضوع لله عز وجل ، يكلفهن بما يشاء وسوف يلتزمن تمام الالتزام .
وقد كانت السماوات والأرض عند ذلك متلاصقات متراكمات ، فكانت السماوات دخانا ملتصقا بالأرض على غير هيأتها اليوم ، كما قال عز وجل :
{ أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [الأنبياء/30] .
وقال أيضا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت/11] والمعنى أى تهيأن بأمر الله على الوضع الذى يسمح للإنسان أن يكون مستخلفا فى الأرض مستفيدا منكن بحيث يتحقق فيكن الوضع الأمثل لكى يكون أمينا فى الأرض مخولا فيها على وجه الاختبار .(1/35)
ومعنى قوله : قالتا أتينا طائعين ، أى استجابت السماوات والأرض وقالتا أتينا مذللين مسخرين ، تنفيذا لمراد رب العالمين .
قال ابن عباس رضى الله عنه في قوله تعالى : قال الله تبارك وتعالى للسماوات اطلعي شمسي وقمري ونجومي وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك قالتا أتينا طائعين ، وقال ابن كثير : قالتا أتينا طائعين أي بل نستجيب لك مطيعين بما فينا مما تريد خلقه من الملائكة والجن والإنس جميعا مطيعين لك ، ويذكر عن الحسن البصري أنه قال : لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه (تفسير ابن كثير4/94)
وقال ابن جرير الطبرى : ( قال الله للسماء والأرض جيئا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات وتشققي عن الأنهار قالتا أتينا طائعين جئنا بما أحدثت فينا من خلقك مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك ) ( تفسير ابن جرير الطبرى 24/98 ) ويقول القرطبى : ( قالتا أتينا طائعين فيه أيضا وجهان : أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى ) ( القرطبى 15/343 ، 344 ، وانظر فى هذا المعنى أيضا فتح البارى ح8ص556 ،557 ، تاريخ الأمم والملوك الطبرى 1/23 )
وبعد استجابة السماء والأرض للتسخير والطاعة ، فصل الله السماء عن الأرض ، وجعل السماء سبعا طباقا ، وزين السماء الدنيا بالنجوم والكواكب ، وثبت الأرض بالجبال حتى تسكن ولا تضطرب ، وذلك ليتمكن الإنسان من الحياة فيها ، فقال الله عز وجل يصف الوضع النهائى الأمثل الذى سيظل عليه العالم إلى يوم القيامة :
{(1/36)
قلْ أَئِنَّكُمْ لَتكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت/12:9] .
كل ذلك حتى يجعل اللَّهُ من رفض الأمانة مسخرا طائعا لمن قبلها وهو الإنسان ، فكيَّف هذه المخلوقات وفق سنن ونواميس ، وأجراها على أسباب وقوانين وعلل ومعلولات ، تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها وتعطيه معنى التملك والسلطنة ، والقوة والهيمنة ما دام يعمل وفق هذه السنن ، فلا معنى لوجود هذه المخلوقات فى الأرض أو فى السماوات إلا هذا ، بجوار أنها مسبحة موحدة ، عابدة ساجدة ، تظل على هذا الحال إلى يوم القيامة ، ثم يبدلها اللَّه بعد ذلك إلى وضع جديد ، لانتهاء دورها وما قامت من أجله ، يبدلها الله فى الآخرة إلى وضع يتناسب مع محاسبة الإنسان على الأمانة التى سيحملها ، فقال الله تعالى مبينا هذه الحقيقة :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم/48] .(1/37)
ومن ثم فإن الوحيد المستفيد من كل ما على الأرض هو الإنسان ، وكل ما فى الأرض مخلوق لأجله بنص القرآن ، ومن أجل الاستخلاف الذى كرمه اللَّه به قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة/29] .
وهذه الآية دليل واضح على أن كل من فى الأرض مخلوق من أجل الإنسان كما بينت الآية التى أعقبتها مباشرة أن السبب فى تبوء الإنسان هذه المنزلة استخلافه فى الأرض : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] .
فأعطاه الله مقومات الخليفة من العلم الحرية والاستطاعة فى معيشته على الأرض ، لينظر هل سيكون أمينا صادقا أو كاذبا فى وصفه بالأمانة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ )
وقال تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ? } [الأعراف/10] .
ولهذا يذكِّر الله الإنسان فى القرآن دائما بهذه النعم ، وبوجوب شكر الله عليها ، ولكن الإنسان فى أغلب الأحيان جاحد لذلك ، فقال تعالى :
{(1/38)
اللَّهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ ، وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم/34:32] .
وقال سبحانه وتعالى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ، وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ، وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ، وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ، وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ، وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } [النبأ/17:6] .(1/39)
وقال سبحانه وتعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ(1/40)
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النحل/19:3] وهناك الكثير والكثير من آيات القرآن التى تشرح هذه المعانى بتفصيل طويل .
وعلى ذلك فكل هذه المخلوقات مسخرات بأمر الله ، قائمات على خدمة الإنسان ، باقيات على هذا الحال مدام الإنسان باق للاختبار والابتلاء ، إضافة إلى كونها عابدات طائعات لربها ، قبلت الطاعة بإرادتها ، فبقاؤها على هذا الحال يرتبط ببقاء الإنسان إلى يوم القيامة مستخلفا فى الأرض ، فإذا انتهت الدنيا ، تكورت الشمس وتبعثرت النجوم وسيرت الجبال ، وعطلت العشار ، وتبخرت البحار والأنهار ، وزلزلت الأرض ، وتهيأت بأمر الله لوضع جديد يحاسب فيه الإنسان على الأمانة ، فقال تعالى :
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ } [التكوير/14:1] .
وقال تعالى أيضا : { إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الانفطار/5:1] .(1/41)
وقال فى موضع آخر من القرآن : { إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [الزلزلة/8:1] .
فالسماوات التى رفعها الله وفصلها عن الأرض من أجل هذا الإنسان والتى قال الله فيها : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك/4:3] .
هذه السماوات سوف تتغير بعد انتهاء دورها ، وأداء وظيفتها فى تهيئة العالم لاستخلاف الإنسان فى الأرض : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلا ، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان/26:25] .
فأنت أيها القارئ العاقل ترى الكون كما هيأه الله فى كمال الانضباط ، كل يسير خاضعا لأمر الله لا الشمس تتأخر لحظة ، ولا القمر يتخلف ليلة ، ولا النجوم تترك مواقعها ، كما قال تعالى :
{ وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس/40:37] .(1/42)
وعلى ذلك يمكن لك أيها القارئ أن تدرك : لماذا خلق العالم على هذا الوضع الذى نراه ؟ وهل سيبقى على ذلك أبدا ؟ أم ليوم معلوم عند الله ثم ينتهى ويتغير ؟ وهل هذا العالم الذى نعيش فيه على الأرض يحقق فعلا تميزا مخصوصا للإنسان ينفرد به عن غيره ؟ وكثير من الأسئلة التى تتردد على الأذهان حول هذا الموضوع ، يمكن لأى إنسان بسهولة ويسر بعد العلم بهذه الحقائق العظمى أن يجيب عليها وهو على يقين من أمره .
ثانيا : موقف من قبل الأمانة ؟ !
بعد أن ذكر الله ماحدث لمن رفض الأمانة وأنه سيسخره بعدله لمن قبل الأمانة إلى يوم القيامة ، فقال سبحانه يصف ذلك : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة/29] وقوله وهو بكل شئ عليم أى هو الوحيد الذى يعلم سر تهيئة السماء والأرض ومن عليها على هذا النحو الذى سيظهر الوضع الحالى ، لا يعلم ذلك غيره ، ولذا ذكر الله بعدها مباشرة فى الآية التالية : موقف من قبل الأمانة وهو الإنسان فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] فبين للملائكة سر خلق الإنسان وتهيئة الكائنات من حوله على هذا الوضع الجديد .(1/43)
وقد ورد فى القرآن ما يدل على أن الملائكة والجن خلقهما الله قبل الإنسان ، الملائكة خلقت من نور ، والجن خلق من النار ، ولم يذكر القرآن تفاصيل نشأة هذه المخلوقات ، غير أن الملائكة كانت تسبح الله وتقدسه وتعبده ، وكان الجن من نسل الجان ، وهو أصلهم كما أن آدم أصل البشر ، كانوا فى موضع ابتلاء واختبار على وجه مخصوص لم يبينه الله لنا ، ولم يبين تفاصيله كما هو الحال فى شأن الإنسان ، وهو سبحانه وحده الذى يعلم تفاصيل نشأة الجن وكيق تحققت حكمته عند خلقهم ، وإن كان قد ذكر أنه خلق الجن والإنس لعبادته فقال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات/56] لكن الإنسان سيؤدى العبادة لله من خلال ابتلائه بالاستخلاف فى الأرض ، أما الجن فسيؤدى العبادة من خلال ابتلائه بشئ آخر لم يبينه الله لنا بدليل صحيح ، وهذا القدر هو ما يكفينا نحن البشر فى إدارك ما نريده عن استخلاف الإنسان فى الأرض وعلاقته بمن حوله .(1/44)
وقد كان مع الملائكة شخص من الجن يسمى إبليس ، رفعه الله إلى منزلة الملائكة ، وإن كنا لا ندرى التفاصيل التى تبين السبب فى وجودة بينهم وكيف حدث هذا ، لكنه كان يشاركهم فى التسبيح والتقديس والطاعة والعبادة ، ولما قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (30) } أراد الله بذلك أن يبتلى الملائكة وإبليس على وجه الخصوص بالإنسان ، لينظر موقفهم من استخلافه فى الأرض ، فقالوا : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } وقد كان الرد المتوقع من الملائكة ومعهم إبليس أن يكون بخلاف ما صدر منهم ، كأن يقولوا : أنت ربنا والكل عبيدك افعل بنا ما تشاء فإنك أنت العليم الحكيم ، أما قولهم : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ عليه تعقيب بسؤال : ومن أدراكم أنه سوف يفسد فى الأرض ويسفك الدماء ، هل اطلعتم على الغيب ؟ ودليل هذا القول ، أن قال الله بعد ذلك : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) } وقال بعد أن أثبت لهم أن آدم هو الأفضل لو علمه الله : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }(1/45)
وقولهم : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، عليه تعقيب آخر : أن العابد لا يذكر عبادته لمعبوده إلا على وجه التقصير والافتقار إلى المزيد ، كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تشققت قدماه من كثرة العبادة : ( أفلا أكون عبد شكورا ) ودائما ما كان يقول : ( أعنى اللهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) فكيف وصفت الملائكة نفسها بالتسبيح والتقديس على وجه الرفعة لأنفسهم ، والتقليل من شأن الإنسان فى تسبيحه وتقديسه لله وأنه سفاك للدماء ؟ ولذا اختبرهم الله وابتلاهم بالسجود لآدم عليه السلام : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ } .
لكن هناك سؤالان لا يفارقان الأذهان : كيف علمت الملائكة أن الإنسان يمكن أن يفسد فى الأرض أو يسفك الدماء ؟ وهل هم معترضون أم يستعلمون ويستفسرون ؟
فى الحقيقة لا نستطيع الجزم بإجابة معينة للسؤال الأول لأنه لم يرد نص صريح يبين كيف علمت الملائكة أن الإنسان سيفسد فى الأرض أو يسفك الدماء ؟ كما أن أولى من يجيب عن هذا السؤال هم الملائكة أنفسهم وأنى لنا أن نعلم ما فى نفوسهم ؟ لا سيما أن الله لم يكشف ما فى نواياهم كما حدث لإبليس .
وهناك أقوال أخرى للمفسرين ، كقولهم : علمت الملائكة ذلك من الجن لأنهم أسبق من الإنس ، فأفسدوا فى الأرض وسفكوا الدماء ، ولكن يمكن الاستدراك على ذلك ، بأنه لم يرد نص صريح فى القرآن أو السنة يؤيد هذا القول ؟ وهل أبدان الجن مكونة من دماء كدماء الإنسان حتى إذا ما قتل أحدهم سالت دماؤه ؟ !
وقيل : علموا ذلك لأن الله هو الذى أخبرهم مسبقا بأنه سيخلق الإنسان ليفسد فى الأرض ويسفك الدماء ؟ لكن المعنى لا دليل عليه أيضا ، ولا يستقيم لو صح ذلك ، كما أن الله نفى علمهم عندما قال لهم تعقيبا على قولهم : إنى أعلم ما لا تعلمون ؟(1/46)
وهناك قول آخر وهو الأقرب من وجهة نظرى أن الملائكة ربما علمت ذلك من معنى الاستخلاف نفسه ، فالمستخلف فى الشئ أمين عليه ، فيمكن أن يؤدى الأمانة إلى صاحبها وممكن أن يستأثر بها لنفسه ، ولو أدى ذلك إلى القضاء على الآخرين ، كما لو فرضنا مثلا ولله المثل الأعلى أن صاحب مزرعة استخلف فى مزرعته بعض العاملين فيها فترة معينة على وجه الابتلاء والاختبار ، يستفيدوا منها ولكن حسب توجيه المالك الحقيقى ، فهم مستخلفون فيها أمناء فقط وسوف يراقبهم المالك فى كل لحظة من بعيد بحيث يراهم ولا يرونه ، ليرى مدى وفائهم ومراقبتهم له ، فإذا طال مكثهم على هذا الحال ، وظنوا أنه لا رقيب عليهم : فهل كلهم سيتصفوا بالوفاء أم أن بعضهم ينسى أن الملك للمالك ويقاتل جشعا وطمعا ويفسد فى الأرض ويسفك الدماء كما هو الواقع من معظم البشر فى أرض الله ؟
فالعاقل يعلم أن الاستخلاف يلزم منه أن يكون المستخلف لديه إمكانية الوفاء أو الغدر وسفك الدماء ، فالملائكة علمت أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك لو استخلفه الله فى الأرض ، وهى عن نفسها ترى التعظيم المطلق لله عز وجل ، من أجل ذلك قالت : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
والسؤال الثانى : هل هم مستفسرون أو متعجبون أو معترضون ؟(1/47)
لا شك أن الملائكة الذين خاطبهم الله بقوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] هم الذين خاطبهم بقوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ } لأن الله جمع الخطابين فى موضع واحد فقال : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر/31:28] فإبليس بلا شك كان بين القائلين : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } وقد اختلف أهل التفسير فى قول الملائكة ، أهو اعتراض أم استعلام واستفسار ؟ فلو قلنا اعتراض ، فكيف ينطبق عليهم قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء/27:26] ولو كان استعلاما واستفسارا ، فلماذا رد الله عليه بقوله : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } ؟ مع أن الاستعلام يقتضى البيان من الله لهم ؟ وكيف قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } التى تحتمل الاعتراض ومدح النفس ؟ ولم لم يقولوا : أنت ربنا فافعل ما تشاء ؟ أو يقولوا ما قالوا بعد أن علم آدم الأسماء ، وأثبت بالدليل عجزهم ؟ أعنى أن يقولوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } مباشرة بعد قوله لهم : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة/30] ؟(1/48)
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قول مشترك ،لم يصدر من الملائكة الذين خلقوا من النور فقط ، ولكن صدر أيضا من إبليس الذى خلق من النار وله حكم الملائكة فى الخطاب ، ويمكن القول أن الاعتراض كان من إبليس لأن الله كشف عن سريرته وحقده على آدم وذريته ، وبين غروره واستكباره حيث رأى فى نفسه أنه هو والملائكة الأفضل لهذه المنزلة الرفيعة التى وصل إليها الإنسان ، أما الملائكة الذين خلقوا من نور فموقفهم كما أشار ابن كثير بقوله : ( إنما سؤالهم سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ )
لكنهم بقولهم هذا كانوا يرغبون أن يكون الخليفة فى الأرض على صفة الطاعة المطلقة لا يعصى الله أبد ، ولمَّا كانت هذه صفتهم ، فهم أولى بهذا الوصف من الإنسان الذى يمكن أن يعصى الله عز وجل ، ولذا قالوا ما معناه : لو أردت ان تستخلف استخلف من لا يعصيك ، يعنون أنفسهم أو كما قال ابن كثير : هلا اقتصرت عينا ؟
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم )
وأيا كان المعنى إلا أن الملائكة كانوا يرون الاقتصار عليهم فى موضوع الطاعة والاستخلاف خشية أن يعصى الإنسان ويسفك الدماء ، والله عظيم لا يعصى ، وكان إبليس يرى أنه مع الملائكة أولى بهذه المنزلة الرفيعة التى سيتميز بها الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ فكان جواب الله لهم : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) } .(1/49)
فالإنسان الذى خلقه الله ليستخلفه فى الأرض سوف يعطيه إمكانية العلم بجميع الأشياء التى يتمكن بها من التمييز بين ما ينفعه وما يضره ، ويزداد بزيادة العلم خشية من ربه ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر/28]. ويمكن للقارئ أن يلحظ التوافق بين تعلم آدم الأسماء ليزداد بها قربة من الله مع دعوة البشر إلى النظر فى خصائص الأشياء ومسمياتها وتدبر العلماء على اختلاف أصنافهم ، علماء الأرصاد والجولوجيا وعلماء الطب البشرى والطب البيطرى ، تدبرهم فى خلق الله ليزدادوا بذلك علما بالخلق ، ويكون العلم وسيلة إلى القرب من الله وخشيته وتقواه فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27) وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) } [فاطر/28:27] فأعطاه عقلا على مستوى عال من الكمال ، يمكنه التعرف على خصائص الأشياء ، وأن يضع لها ما يشاء من الأسماء ، ثم أثبت لهم ذلك من خلال تجربة عملية على الإنسان الأول ، فعلم آدم عليه السلام أسماء الأشياء من حوله ، وعرفه كيف يزداد بمعرفة خصائصها قربة من ربه ، فيزداد بذلك خشية لله وتعظيما ، وأنه سبحانه كان عليما حكيما فى خلقه لسائر الأشياء ، فقال : { وعلم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) } أى صادقين فى أنه لا يعرف إلا القتل وسفك الدماء ، قال ابن جرير الطبرى : ( معني ذلك فقال : أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون : أتجعل فيها من(1/50)
يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم والتقديس ، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين ) .
فعجزوا عن الجواب : { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة/33:32] ثم كان التكريم الأعظم للإنسان الذى انفرد بقبول الأمانة التى عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، وكان الابتلاء الأعظم للملائكة وإبليس على وجه الخصوص الذين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فلما قالوا ذلك ابتلاهم الله فى صدق طاعتهم وتعظيمهم لله فكان أمر الله بالسجود لآدم حيث قال : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } [البقرة/34] فسجدت الملائكة وامتنع إبليس : { فَسَجدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر/31:30] .
والسؤال الذى يخطر على البال مباشرة : هل يصح السجود لغير الله ؟ ولماذا أمر الله الملائكة وإبليس بالسجود لآدم عليه السلام ؟(1/51)
والجواب عن السؤال الأول : أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو من أعظم علامات المحبين الصادقين ، لأن حكم المحبة يقضى بتنفيذ أمر المحبوب دون استفسار أو سؤال ، والتنفيذ يعطى العبودية معنى الكمال ، لما فيه من إذلال النفس لمعبودها وخالقها ، ولذا كانت الأحكام التعبدية ، من علامات الصدق فى أداء العبودية ، فتقبيل الحجارة والأعتاب والتمسح بالأضرحة والقباب ، شرك أكبر لا يغفر عند الحساب إلا بالتوبة الصادقة ، لكن تقبيل الحجر بأمر الله أو الطواف سبعا ببيت الله ، أو صلاة الظهر أربعا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من علامات الموحدين الصادقين فى دعوى العبودية ، وإن كانوا لا يعلمون لماذا أمرهم الله بذلك ، كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ( أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ) ( أخرجه البخارى فى كتاب الحج برقم (1597) . ) وكما حدث لبنى إسرائل عندما عبدوا العجل ، فابتلاهم الله بشئ لا يخطر لهم على بال ، فأمرهم بقتل أنفسهم ، ليقبل منهم توبتهم ، ويرى صدقهم وولاءهم ، فنفذوا وقتلوا أنفسهم ، فقال تعالى عن ذلك : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة/54] مع أن قتل النفس بغير أمر الله من أعظم الكبائر كما قال تعالى :
{(1/52)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة/32] .
أما الجواب عن السؤال الثانى : لماذا أمر الله الملائكة وإبليس على وجه الخصوص بالسجود لآدم عليه السلام ؟ فذلك لأسباب عديدة أظهرت الحكمة الإلهية فى فعله سبحانه وتعالى وقد تجلى ذلك فيما يأتى :
أولا : أن يعلم الإنسان مكانته عند الله ، وعظم المهمة التى كلفه بها ، والتى من أجلها ، أسجد له ملائكته ، فيدفعه ذلك إلى الطاعة والإيمان ، واجتناب الكفر والعصيان ، فبعد هذه المنزلة التى وصفها الله فى القرآن ، لو كفر الإنسان بربه واتبع سبيل الشيطان ، استحق بعدل الله أشد العذاب كما قال سبحانه وتعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف/29] ولكانت الملائكة التى سجدت له أولى بهذه المنزلة منه كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف/60] .
ثانيا : أن أمر الله بالسجود لآدم ، ابتلاء للملائكة واختبار ، فى إظهار صدقهم لمَّا قالوا فى وصف أنفسهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فكانت حقيقة الابتلاء فى قوله لهم : { اسْجُدُوا لآدَمَ } وهو أمر تكليفى اختبارى لينظر تعظيمخم وطاعتهم لله فيما أمر ، حتى ولو كان الأمر بالسجود لآدم عليه السلام ، فمن سجد منهم فقد صدق فى قوله ، ومن امتنع كان ادعاؤه للتسبيح والتقديس كذبا وزورا : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر/31:30] .(1/53)
ثالثا : أن سجود الملائكة لآدم إقرار منهم بمنزلة الإنسان وتعظيما للدور الذى سيقوم به ، وأنه خليفة الله فى الأرض على وجه الابتلاء ، وأنه الوحيد الذى ميزه الله عن الكائنات من حوله ، فهو القائم عليها بأمر الله وشرعه ، وهو المستفيد منها إلى قيام الساعة ، فمن سجد لآدم أقر بذلك ، ومن امتنع منهم كان معترضا على فعل الله مشككا فى حكمته سبحانه وتعالى .
رابعا : أن أمر الله لملائكته بالسجود لآدم عليه السلام ، لا يدل فقط على مطالبتهم بالإقرار والتعظيم للإنسان الذى كرمه الله ، ولكن سجودهم يتبعه تكليفهم جميعا بالقيام على أمور الإنسان اللازمة لتحقيق استخلافه فى الأرض ، والقيام أيضا على أمور الكائنات من حوله لكى تظل مسخرة للإنسان إلى يوم القيامة ، وأنهم إذا سجدوا لن يعصوا لله أمرا فى تدبير شئون الإنسان ، وهم فى ذلك كما قال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم/6] ولو خالف أحدهم أمر الله فسوف يعذبه فى جهنم ، كما جاء فى سورة الأنبياء عن الملائكة : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء/29 ] فوافقت الملائكة بسجودهم وخضعوا ولم يستكبروا ، وأبدوا بذلك الاستعداد التام لأمر الله فى تدبير شئون الحياة للإنسان ، فلما سجدوا وأقروا ، قسمهم الله ونوعهم ، وكلفهم وعلمهم ، فهم بأمر الله قائمون على شئون الإنسان ، يدبرون أمره على نحو ما جاء فى القرآن : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم/6] وكما قال الله عز وجل : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل/50:49] .(1/54)
فجعل الله منهم فريقا يبلغ كلام الله إلي الأنبياء والمرسلين ، وجعل على رأسهم الروح الأمين ، قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي? } [النحل/2] وقال عن جبريل : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء/195:193] وقال أيضا : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة/97] وبهذا الوحى يذكر الله الإنسان بفطرته ، ويشرع لكل مستخلَف منهجه فى رعيته .
وجعل منهم فريقا للعد والإحصاء ، سماهم الله الكرام الكاتبين ، قائمون على كل إنسان ، يسجلون ويدونون كل صغيرة وكبيرة فى سعيه وكسبه ، ليحاسب الإنسان علي الأمانة يوم القيامة ، فقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف/80] وقال فى إدراكهم لأقوالنا : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق/18] وقال فى إدراكهم لأفعالنا : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار/12:10] حتى إذا جاء الكافر يوم القيامة تعجب من دقة حسابهم ، وما لديهم من قدرات فى تسجيل الأعمال وإعادة عرضها عليهم : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف/49] .(1/55)
وجعل منهم فريقا يقوم بقبض الأرواح واستدعاء الإنسان من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، وجعل على رأسهم مَلَكَ الموت ، فقال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة/11] وقال سبحانه : { حتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام/61] وقال تعالى عن كيفية استقبالهم للمؤمنين عند وفاتهم : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل/32] وقال أيضا عن كيفية استقبالهم للكافرين عند وفاتهم : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الأنفال/50] { وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأنعام/93] .
وجعل منهم خزنة الجنان ، قائمين على أمور الجنة فى الآخرة : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد/24:23] .(1/56)
وجعل الله من الملائكة أيضا خزنة النيران وعلى رأسهم مالك ، يقومون على متابعة المعذبين ، يبكتونهم ويوبخونهم ليزدادوا حسرة وعذابا ، قال تعالى : { وَمَا جعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً } [المدثر/31] وقال أيضا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم/6] وقال عن مخاطبة أهل النار لمالك : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ ، وَنَادَوْا يا مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف/78:74] وقال أيضا عن الحوار بين الملائكة وأهل النار : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك/11:6] .(1/57)
وجعل الله من الملائكة أهل الإغاثة والنصر ، يقاتلون مع المؤمنين كما قال تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال/10:9] وقال أيضا : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال/12] .
وجعل منهم الموكل بالمطر ، والموكل بالجبال ، والموكل بحضور مجالس الذكر ، والموكل بالنطفة فى الرحم ، حتى حملة العرش ومن يطوفون حوله لهم صلة وثيقة بكل مؤمن ، فهم بالإضافة إلى تسبيحهم وعبادتهم لله يدعون للتائبين المتبعين لهدى الله ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [غافر/9:7] .(1/58)
حتى إن القارئ ليعجب إذا علم أن الله كلف ملكين كل يوم ، ليس لهم عمل إلا أنها ينزلان من السماء ، أحدهم يدعو لكل منفق ، والآخر يدعو على كل ممسك : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ) ( متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب الزكاة برقم (1442) ومسلم فى كتاب الزكاة برقم (1010) .) وتفاصيل ما ذكر عن الملائكة فى القرآن والسنة يضيق المقام عن ذكره وله موضعه فى كتب التراث .
كل هذه الملائكة التى سجدت جميعا لآدم عليه السلام ، كما قال تعالى : { فَسَجدَ الْمَلائِكَةُ كُلهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر/31:30] كلهم قائمون على أمور الإنسان ، يدبرون العالم من أجله تنفيذا لأمر اللَّه ، يقومون بواجبهم ، مقرين بخالقهم ، مسلِّمين لحكمته سبحانه فيما يدبرون : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم/6] ولعظمة دورهم أقسم اللَّه بهم فقال : { وَالنازِعَاتِ غَرْقًا ، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } [النازعات/5:1] .
وهكذا ظهرت حكمة الله فى الأشياء من خلال معنى الابتلاء ، فكل هذه الملائكة تقوم على تدبير شئون الإنسان بعدل منه سبحانه عندما ابتلاهم بالسجود لآدم عليه السلام ، كذلك استخلف الإنسان فى الأرض وكرمه وسخر له من حوله عن حكمته سبحانه عندما ابتلاهم بعرض الأمانة فرفضتها السماوات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان .(1/59)
والله يذكرنا بالملائكة أنه لو شاء استخلفهم فى الأرض بدلا منا ، لو أننا عصيناه ، قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف/60] ولولا أن الله قضى باستخلاف الإنسان فى الأرض وابتلائه لكان الناس أمة واحدة كأمة الملائكة ، فقال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود/119:118] وقال أيضا : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة/48] .
موقف إبليس بعد الامتناع عن السجود لآدم
لما كان أمر الله للملائكة وإبليس بالسجود لا يدل فقط على مطالبتهم بالإقرار لمنزلة الإنسان الذى جعله الله خليفة فى الأرض ، بل سوف ينفذون أمر الله إذا كلفهم بتدبير شئون الإنسان والعالم من حوله ، فإن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ، وأن يدخل فى جملة المقرين بهذه المنزلة العظمى التى كرم الله بها الإنسان ، فتملكه العلو والاستكبار ، وأظهر الاعتراض والاستنكار على رب العزة والجلال ، حسدا وحقدا على آدم وذريته ، كيف فضلهم الله بمنزلة أعلى من مكانته ؟(1/60)
قال تعالى : { فَسَجدَ الْمَلائِكَةُ كُلهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قَالَ يا إبليس مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، قَالَ فَاخْرُجْ منْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [الحجر35:30] .
وقال أيضا : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ } [الأعراف/13:12] .
فلما لعنه اللَّه وطرده من رحمته ، وأيقن إبليس بهلاكه وشقوته ، وأنه لا محالة ممنوع من جنته ، أراد أن يحقر من شأن الإنسان ، وأن يشكك فى حكمة الرحمن ، وكأنه يقول لربه : إن الإنسان الذى استخلفته فى الأرض ووضعته فى هذه المنزلة أقل وأحقر من ذلك ، وكنت أنا والملائكة أولى بذلك ، فدعنى أحيا إلى يوم القيامة ، أوسوس له فقط بالظلم والطغيان ، ومكنى من دعوته إلى الكفر والفسوق والعصيان ، وسوف ترى صدق كلامى وحقارة الإنسان ، فقال سبحانه وتعالى يحكى قصة الشيطان :
{(1/61)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر/36] : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء/62] { وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } [النساء/121:118] .
فكان من عدل اللَّه أنه أمهله ، وجعله ابتلاء للخليفة الذى خوله ، لأنه لو منع إبليس من هذه المسألة ، لصحت دعوته بوجه مقبول ، وكان تفضيل الإنسان بغير معنى معقول ، ولكان للشيطان حجة على سائر العقول ، وقد أقام الله السماوات والأرض على الحق والميزان ، كما قال : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف/49] وقال أيضا : { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [الجاثية/22] .(1/62)
فظهر من أجل ذلك كمال عدل الله ، وسماحه للشيطان بالبقاء طول الحياة ، يوسوس للإنسان من غير سلطان ، متوعدا أتباعة بالعذاب والخسران : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [الحجر/38:37] فازداد الشيطان حقدا على الإنسان ، وأكد أنه لن يسأم فى دعوته إلى العصيان : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } [الحجر/44:39] .
وقد بين الله فى موضع آخر ، أن سلطان الشيطان عن أولياء الله مرفوع ، وكيده للعقلاء من بنى الإنسان مدفوع ، لأن كلام اللَّه عندهم مسموع : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ، وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [الإسراء/65:63] .
{(1/63)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص/85:88] .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ بِعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِيهِمْ فَقَالَ اللَّهُ فَبِعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي ) (انظر مسند الإمام أحمد حديث رقم (10851) .)
وعَنْ جَابِرٍبن عبد الله أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ( أخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة برقم (2813) .)(1/64)
وقال الإمام مسلم : بَاب تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا ، ثم روى حديثا (2812) عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ) وروى أيضا عن حديث رقم (2813) عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً )( إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ ) ( يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً )(1/65)
وانظر أيها القارئ البصير ، وأمعن النظر ورتب التفكير ، فى عدل الله وحكمة التدبير ، إذا كان الله قد أوجد فى كل إنسان منا نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، نازع يدعوه إلى الطاعة وفعل الخير ، وآخر يدعوه إلى المعصية وفعل الشر ، والإنسان حر بينهما في الاختيار ، كما قال رب العزة والجلال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس/10:7] { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان/3] .
فإذا سمح الله للشيطان أيضا أن يوسوس للإنسان ، واتفق الشيطان مع نازع الشر فى الإنسان ، كلاهما يدعوان إلى الكفر والعصيان ، ألا يكون دواعى الشر فى الإنسان أقوى من نازع الخير فيه ؟
أليس للعاصى أن يحتج على اللَّه يوم القيامة ، بأن نازع الخير فيه كان وحيدا ، وكانت دواعى الشر فى الإنسان لها ركنان أحدهما نازع الشر والآخر الشيطان ، فهى بذلك أقوى من داعى الخير فيه ، وأنه من أجل ذلك لا يستحق العذاب على العصيان ؟
ومن هنا ظهرت فى الإنسان حكمة الله ، وبلغ كمال العدل فى الأشياء منتهاه ، فجعل الله تركيب الإنسان على مستوى الكمال ، ظاهرا وباطنا على قمة الاعتدال ، كما قال رب العزة والجلال : { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار/8:6] فكلف الله بكل إنسان ملكا قرينا ، وأمره أن يلازمه ملازمة الشيطان للإنسان ، لا يفارقه إلا إذا مات ، يدعوه إلى الخير ويحضه عليه ، كما أن الشيطان يدعوه إلى الشر ويحضه عليه ، فيستوى بذلك مقدار الدواعى ويعتدل الميزان فى الإنسان ، ولا يكون لأحد حجة على الله يوم القيامة .(1/66)
فاللَّه كما ركب فيه نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، وكل بالإنسان أيضا قرينين هاتفين مرغبين بلمتين ، ليس لأحدهما سلطان على إرادة الإنسان ، فبات مقدرا لكل منا ، قرينان داعيان ، هاتفان مرغبان ، إما فى الخير وإما فى الشر ، ولم يستثن الله أحدا من ذلك حتى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، ففى حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بهِ قَرِينُهُ مِنَ?الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ ، قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّه ، قَالَ : وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِحَقٍّ ) (أخرجه مسلم فى كتاب صفة القيامة برقم (2814) .) وعنه أيضا قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً ، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّه فَلْيَحْمَدِ اللَّه ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة/268] ) ( أخرجه الترمذى فى كتاب تفسير القرآن برقم (2988) حـ5ص219 ، وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غريب ، وابن حبان فى صحيحه برقم (997) حـ3ص278 ، والنسائى فى السنن الكبرى برقم (11051) حـ6ص305 ، وأبو يعلى فى مسنده برقم (4999) حـ8ص417 وقال الشيخ حسين أسد : إسناده ضعيف ، وضعفه أيضا الشيخ الألبانى ، ولكن معناه صحيح . )(1/67)
وعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا قَالَتْ فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ فَقُلْتُ وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَدْ جَاءكِ شَيْطَانُكِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ ) (أخرجه مسلم برقم (2815) . )(1/68)
وكل قرين يقدم يوم القيامة تقريرا مفصلا عما دار بينه وبين الإنسان ، وقد ذكر الله شأن القرينين فى القرآن ، فقال عن الملك الذى اقترن بواحدا من الكفار : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ، أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ق/26:23] فهذا القرين الذى رافق الكافر طول الحياه ، طالما حثه على الخير ودعاه ، فتمنع وآثر الإعراض عن الله ، وعبد الشيطان واتبع هواه ، فالقرين يطالب السائق والشهيد ، أن يضعوه فى العذاب الشديد ، أما الشيطان قرين السوء ، فيقول متملصا من أفعال الكافرين : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [ق/27] فينفى عن نفسه المشاركة فى الطغيان ، وينسب الضلالة إلى الإنسان ، ويقول محقرا أتباعه فى النيران : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم/22] .
فقال الله لبنى الإنسان وبنى الشيطان : { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ، مَا يُبدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } [ق/30:28] .(1/69)
وليس كل ما جعله الله للإنسان ، ليحميه من كيد الشيطان ، أنه كلف ملكا قرينا يهتف له بالإيمان ، فى مقابل هتافه بالعصيان ، ولكن الله حفظ الإنسان من كيد الشيطان بأمور أخرى أهمها :
1- ... أنه الله فتح باب التوبة للإنسان مهما بلغ به كيد الشيطان ما لم تغرغر النفس ، أو تطلع الشمس من مغربها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ( مسلم فى كتاب الذكر برقم (2703) . ) وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) . ( مسلم فى التوبة برقم (2759) . ) وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) (أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات برقم (3537) .(1/70)
) حتى لو اتبع الإنسان الشيطان وتمادى فى الجرم والعصيان ، فقتل مائة نفس وأراد التوبة تاب الله عليه ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ ) ( أخرجه البخارى فى أحاديث الأنبياء برقم (3470) .(1/71)
) وحتى لو تكرر العصيان وتكررت التوبة تاب الله عليه ، فعن أبى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ ) ( متفق عليه البخارى فى كتاب التوحيد برقم (7507) ومسلم فى كتاب التوبة برقم (2758) واللفظ للبخارى.)
2- ... أن الله سيبدل للتائبين سيئاتهم حسنات : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان/71:68] .(1/72)
3- ... أنه سيعامل المؤمنين بفضله والكافرين بعدله ، والعدل أن يستوى العمل مع الجزاء والفضل أن يزد على العمل ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا ) ( أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان رقم (42) . ) وعنه أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ) (أخرجه البخارى فى كتاب الصوم برقم (1894) . ) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهممَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) (أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6491).(1/73)
) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ) ( أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد برقم (7501) . ) وعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ) ( أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق برقم (6467) . )(1/74)
4- ... أن الله سيفرح بتوبة الإنسان فرحا شديدا ترغيبا له فى التوبة ، فإن المذنب مخطئ فى جناب الله ، وعظم الذنب يقاس بعظمة من أخطأت فى حقه ، فلو قبل الله توبته المذنب ، مجرد القبول فقط ، لكان كرم الله عليه بالغا ، فما بالنا وهو يقبل توبة المذنب بعفو جديد وفرح شديد ، كما روى من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا ) ( أخرجه مسلم فى التوبة برقم (2675) . ) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ) ( أخرجه مسلم فى الإيمان برقم 81 .)
5- ... أن الله تكفل بإيقاف الشيطان من الوسواس عند الاستعاذة والذكر ، وهذه أقوى أسلحة الإنسان التى تخنس الشيطان ، فقال تعالى : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) } [فصلت/36] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف/201] وقال أيضا : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } [الناس/6:1] .(1/75)
6- ... أن الله وعد الإنسان بألا يعذبه إلا إذا بعث له رسولا يذكره بالشيطان وعداوته للإنسان : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ(9)وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11) } [الملك] { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى(135) } [طه] { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(165) } [النساء] { يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(35) } [الأعراف] { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(47) } [يونس] { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(108) } [يونس] { ? تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63) } [النحل] { وَمَا كُنَّا(1/76)
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(15) } [الإسراء]
وبالإضافة لكل هذا التذكير المتكرر فى القرآن وفى جميع الشرائع السماوية بعداوة الشيطان ، وتوكيل ملك قرين يهتف للإنسان بفعل الخير كلما هتف له الشيطان بفعل الشر ، فهذا سر العداء بين الإنسان والشيطان ، ظهر فيه حقد الشيطان على منزلة الإنسان ، وظهر عدل الله فى الشيطان والإنسان ، حيث لم يجعل للشيطان سلطانا على الإنسان إلا أن يدعوه إلى العصيان بالقول والوسوسة ، والإنسان حر فى الاستجابة له أو الاستجابة لله ، ومع ذلك وكل الله ملكا قرينا يدعو الإنسان إلى الخير فى مقابل دعوة الشيطان ، وذكر الله الإنسان مرارا بمكر الشيطان وتلبيسه وتدليسه على الإنسان ، فأى كمال فى تفسير وجود العداوة بين الإنسان والشيطان أفضل من هذا البيان ؟ !!(1/77)
فلكون الإنسان هو الذى قبل الأمانة ورفضتها السماوات والأرض والجبال رفعه الله على غيره ، وجعل مكانته فى الوجود أعلى ممن رفضها ، ثم سخر له كل من فى الأرض ، وجعل الأرض أمانة بين يديه فى هذا العالم ، فهو الوحيد فى بين هذه الكائنات الذى لم يرد الأمانة على الله عند عرضها ، فاستحق بعدل الله الرفعة والمنزلة ، وظهر هذا التكريم فى الوصف الذى تميز به الإنسان عن غيره ، وهو استخلافه فى الأرض وتهيئة العالم من حوله لهذه الغاية ، فالله استخلفه وخوله وفوضه أن يتصرف فى الأرض على النحو الذى يشرعه صاحب الأمانة ويكلفه به ، من خلال الرسالة السماوية التى سيرسلها له تباعا ، وسيجعل الله كل ملك أو مال أو أرض أو أى نعمة يتملكها الإنسان أمانة بين يدية ، يستمتع بها ويتملكها على أمر الله وتوجيهه له فيها ، فهو مستخلف فيها فقط ، وهى أمانة مسئول عنها أمام ربه يوم القيامة ، فكل إنسان أمين حتى على نفسه وبدنه يتصرف فيه على مراد ربه ، فمالكه الحقيقى هو الله : دل على تكريمه قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70) } [الإسراء] ودل على استخلافه فى الأرض آيات كثيرة وردت فى القرآن منها قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) } [الأنعام] وقوله : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ(1/78)
كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) } [فاطر] وقال أيضا عن محاسبتهم على الأمانة يوم القيامة : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ .. (94) } [الأنعام] وقال تعالى : { وأنفقوا مما جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فيه (7) } [الحديد] وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ) وقال أيضا : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) .(1/79)
واللَّه يخبرنا أنه أخذ العهد والميثاق الغليظ علي الإنسان أنه مستخلف فقط ، أمين مبتلى ليس إلا ، وذلك تقريرا للحقوق وبيانها وليعرفوا ما لهم وما عليهم فيعرفوا حق اللَّه عليهم وحقهم عليه ، وإظهارا لما انفرد اللَّه به من معانى الربوبية ، فأعلمهم اللَّه أنه منفرد بالخلق والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وهو وحده مالك الملك لأنه وحده خالق الكل ، منفرد بإنشاء العالم وتركيبه على هذه الهيئة البديعة كما ذكر فى القرآن : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ .. ((1/80)
88) } [النمل] أشهدهم على أنفسهم وسألهم جميعا : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، يقول تعالى فى سورة الأعراف : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) } [الأعراف] قَالَ الصحابى أُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ رضى الله عنه فِي معنى هذه الآيَةَ : ( جَمَعَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهدَ وَالْمِيثَاقَ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَالَ : فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ ، وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا اعْلَمُوا أَنهُ لا إِلَهَ غَيرِي ، وَلا رَبَّ غَيْرِي ، فَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا ، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلِي ، يُذَكِّرُونَكُمْ عَهدِي وَمِيثَاقِي ، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي ، قَالُوا شَهدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا ، لا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ ) ( أخرجه أحمد فى المسند برقم (20726) . والحاكم فى المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال محقق الكتاب مصطفى عبدالقادر عطا : قال الذهبي في التلخيص : صحيح 2/353 رقم 3255 . )(1/81)
فالله لن يقبل أن يشاركه أحد فى حكمه والمنازعة على ملكه ولن يقبل المساس بتوحيده أبدا فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48) } [النساء] وأكد ذلك فى موضع آخر فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) } [النساء] وقال عن عيسى عليه السلام : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) } وقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } .(1/82)
فلكون الشرك ظلما عظيما ، أخذ الله العهد والميثاق على الإنسان قبل نزوله إلى الأرض ، فإن ادعى إنسان بعد ذلك أن أحدا غير اللَّه له ملك فى السماوات والأرض على سبيل الحقيقة أو له مشاركة الله فى الملك ، أو له مع الله معاونة فى إدارة شئون الخلق فقد وقع فى الظلم العظيم وتجاوز حدوده ، والله بيين فى القرآن أنه لن يعذبهم إلا إذا أرسل الرسل ليذكرهم مرارا وتكرارا بعهدهم هذا ، ويقيم الحجة عليهم ألا يشركوا به شيئا ، بل سيكرر ذلك فى دعوة الأنبياء والمرسلين ، ولن يعذب أحدا إلا إذا وصلته الرسالة فقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء] وقال أيضا { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى (135) } [طه] .(1/83)
فوجب على الإنسان أن يراعى فى قوله وعمله الخوف من الله وحده لا من سواه لأن صاحب الأمانة وولى النعمة هو الله ، وما سواه لا يملك شيئا بل هو أمين فى ملك الله فقط ، فقال تعالى : { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا في الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) } [سبأ] وكذلك فى قوله تعالى : { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14) } [فاطر] فاللَّه أعلمهم جميعا بأنه منفرد بالملك والربوبية له العلو فى الشأن والقهر والفوقيه ، لا يقبل شريكا معه فى العبوديه ولا يقبل أن يتشبه به أحد فى وصف الربوبيه ، فقد ظلم نفسه وتعدى وصفه من قال بعد ذلك بقول فرعون ، قال الله عنه : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ(38) } [القصص] وقال أيضا : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ((1/84)
22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) } [النازعات/24] وقد ظلم نفسه من قال من ادعى لنفسه صفة الله كالنمرود بن كنعان : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258) } [البقرة] وقد ظلم نفسه من تناسى فضل ربه وتكبر على إخوانه وقومه كما فعل قارون : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ(1/85)
آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) } [القصص] وقال تعالى عن لقمان : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) } [لقمان] فمن قمة الظلم أن يتخذ المستخلَفُ فى ملك اللَّه الذى لا يملك شيئا على الحقيقة ، بل هو أمين راع فقط يتخذ أنداد من دون اللَّه يحبونهم كحب اللَّه : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. (165) } [البقرة] سووا بينهم وبين اللَّه فى الحب والتعظيم .(1/86)
وخلاصة الأمر أنه ترتب على قبول الإنسان لحمل الأمانة أن الله كرمه على من رفضها ، وسخر كل من حوله لأجله هو ، ثم استأمنه على الأرض ، واستخلفه فيها كابتلاء منه سبحانه للإنسان ، وأخذ عليه الميثاق والعهد وأشهدهم على أنفسهم أن الله متوحد فى ملكه لا سمى له وليس كمثله شئ لا يتغافلوا عن ذلك ، أو يتملصوا منه فأقروا على أنفسهم ، أمام خالقهم ومستخلفهم أن الملك لربهم لا لهم ، وأنه خالقهم ومدبر أمرهم لا حول ولا قوة لهم إلا بربهم ، وأنهم لا ينسبون شيئا من ملكه لهم أو لغيرهم ، إلا على سبيل استخلافهم فيه وابتلائهم ، فالأمر له فى كونه وتصريف خلقه ، والأمر له فى شرعه وحكمه ، الفضل له والملك له والحمد له والشكر له ، وهم على هذا العهد قائمون ، يوحدون ولا يشركون يشكرون ولا يكفرون ، صابرون مؤمنون ، إلى أن يعيدهم يوم القيامة إليه ، ويكرمهم بالجنة لديه وهذا حقهم عليه إذا لم يشركوا به شيئا ، وعدا عليه وتفضلا وتكرما منه سبحانه كما قال : { وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللَّه فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } [التوبة /111] .
سؤال وجواب حول ابتلاء الإنسان فى الأرض ؟(1/87)
لما سخر الله كل من رفض الأمانة للإنسان واستخلفه فى الأرض ، جعل ذلك على سبيل الابتلاء فترة موقوتة وزمانا محددا ، فأصبح الإنسان مبتلياً مطالبا بأداء الأمانة راعياً فى ملك الله وفضله ، يتذكر على الدوام صاحب الفضل مالك الملك ، فدوره فى الأرض أنه مجرد أمين فقط فى موضع اختبار ، ولن يدوم الإنسان أبدا على حال ، فيتذكر الله الدائم الباقى ، الأول الذى ليس له ابتداء ، والآخر الذى ليس له انتهاء ، فيركن إليه ، وينعم بالاعتماد عليه فيرد الأمر فى كل أحواله إليه ، ويرى أنه لا حول ولا قوة له إلا به ، فقال تعالى مبينا حقيقة الابتلاء : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) } [الملك] وقال أيضا : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) } [الإنسان] .
أسئلة وأجوبة تتعلق بابتلاء الإنسان :
1- ... سؤال : لماذا كان الإنسان هو المخلوق الوحيد المستفيد ممن حوله من الكائنات ولا يستفاد منه ؟(1/88)
الجواب : لأنه الوحيد المستخلف فى الأرض ، فهو الوحيد الذى كرمه اللَّه عليها ، وما حوله من الكائنات على الأرض أمانة بين يديه ، ينتفع بها ويذللها فى طاعة اللَّه على النظام المشروع فى سلوك الأنبياء والرسل وخاتمهم محمد بن عبد اللَّه? صلى الله عليه وسلم ، فالإنسان لكونه مستخلفا فى الأرض ، كان هو المخلوق الوحيد الذى يستفيد ممن حوله ، ولا نفع من الإنسان إلا أن يعبد اللَّه وحده لا يشرك به شيئا ، وهى غايته التى خلق من أجلها كما قال لرسوله : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذاريات] .
2- ... سؤال : لماذا كان الإنسان هو المخلوق الوحيد المستخلف فى الأرض ؟
والجواب لأنه المخلوق الوحيد الذى قبل الأمانة عندما عرضت عليه ، فى حين رفضتها السماوات والأرض والجبال
3- ... سؤال : لماذا عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال والإنسان وخيرهم جميعا فى قبولها أو رفضها ؟(1/89)
والجواب حتى لا يجبر أحدا فى الخلق على شئ هو له كاره ، وهذا كمال العدل ، فقامت السماء والأرض على الحق والميزان ، كما نص على ذلك القرآن ، فقال تعالى فى سورة الرحمن { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10) } [الرحمن] وقال فى سورة الدخان : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) } [الدخان] فلا يدع مدع يوم القيامة أنه مظلوم ، وهو مجبر فى فعله غير ملوم .
4- ... سؤال : لماذا حجب اللَّه عنا عالم الغيب ، فلا نرى اللَّه ولا نرى ملائكته ، ولا نرى الجنة والنار ؟(1/90)
والجواب : لأن اللَّه جعل مداركنا محدودة لا تصل بمفردها إلى معرفة المغيبات تحقيقا للابتلاء ، فالإنسان يسمع ويرى ولكن بحدود معينة ، فإن تجاوزها أصبح قوله رجما بالغيب ، وقد نهانا الله عن ذلك فقال : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) } [الإسراء] وقال تعالى أيضا : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } [الأعراف] فاللَّه يُرى يوم القيامة فى الآخرة ، ولا يُرى فى الحياة الدنيا تحقيقا للابتلاء ، فقال رسول الله S : ( تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ) أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم (2931) أما إذا انتقل إلى الآخرة مؤمنا موحدا عابداً لله ، خاضعا فى ملك اللَّه لله ، محبا لله ولرسول اللَّه S أنعم اللَّه علية بجنته ورؤيته ، فقال سبحانه عن خاصته : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة] تنظر إلى اللَّه يوم القيامة ، وعَنْ الصحابى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضى الله عنه قَالَ : ( كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً ، يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقَبْلَ غُرُوبِها فَافْعَلُوا ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق]) (متفق عليه أخرجه(1/91)
البخارى فى كتاب مواقيت الصلاة برقم (554) ومسلم فى كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (633) . ) وكذلك لا نرى الملائكة ولا الجن ولا الجنة ولا النار ، تحقيقا لمعنى الابتلاء فكيف سنكلف بالإيمان بهذه الأشياء ونحن نراها بمداركنا ، فلا معنى عند ذلك لوجود الرسل والشرائع ، ولا معنى عند ذلك أن يكون المؤمنون بالغيب هم المفلحون ، فلا ميزة لهم عند ذلك عن الكافرين ، فالابتلاء يفسر لنا قصور أجهزة الإدراك التى يمتلكها الإنسان ، فهو وإن كان مخلوقا عارفا مدركا ، إلا أن مدركاته قاصرة على العالم المحسوس فقط فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلى يستطيع أن يرى النار وعذابها ، أو يسمع صوتها وزفيرها ، فإن هذا يناقض الكمال والحكمة ، ومن ثم فإنه يعيش تحت غطاء كونى حاجب ، يحجب عالم الشهادة عن عالم الغيب ، ويمنع أيضا عن بنى الإنسان معرفة الأمور الغيبية التى تقع على الأرض ، كصراخ المعذبين فى النار وكرؤية الملائكة المدبرين لأمورهم ، وكرؤية الجن الملتفين من حولهم أو الشياطين المتهيئين لإضلالهم ، لأنهم لو رأوا ذلك فلا معنى عندئذ لامتحانهم ، أو استئمانهم واستخلافهم إذ يرون الغيب بأبصارهم ، ولن يكون هناك فضل لاجتهادهم ، فى المسارعة إلى الإيمان بربهم ، إذ الكل فى كشف الغطاء الحاجب سواء ، ولذلك فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد الانتهاء من فترة الابتلاء ، وانقضاء ما قامت السماء والأرض من أجله ، فقال تعالى عن الكافر الغافل : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق/22] .(1/92)
5- ... سؤال : لماذا جعل اللَّه الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ألوانا وأخلاقا ؟ منهم الغنى والفقير ، الأعمى والبصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، الحاكم والمحكوم ، المالك والمعدوم منهم الشقى والسعيد ، الذكى والبليد ، لم لا يكون الناس أمة واحدة ؟ ، مسكنهم كمسكن الآخر وملبسهم كملبس الآخر ومطعمهم كمطعم الآخر ، لا فوارق بينهم ، كما نادت بذلك الشيوعية وبعض الآراء الوهمية ؟ وكما تصور البعض وجود الإنسان فى المدينة الفاضلة ؟(1/93)
والجواب : لأن اللَّه خلق الدنيا لابتلاء الناس ، ولا بد للابتلاء من حدوث الفوارق بين الناس ، ليبلو بعضهم ببعض فقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) } [الأنعام] وقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) } [الأنعام] وقال أيضا : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) } [المائدة] فابتلى اللَّه الرسل بأممهم والأمم بالرسل ، والحاكم بالمحكوم ، والمحكوم بالحاكم وابتلى القوى بالضعيف ، والضعيف بالقوى ، وابتلى الزوج بزوجته ، والزوجة بزوجها ، وابتلى الآباء بالأبناء والأبناء بالآباء ، وهكذا فى المجتمع الواحد تختلف مستويات المعيشة بين الناس ، تحقيقا للحكمة التى أراد اللَّه أن يخلقهم من أجلها ، ولن ينجح أى فكر يغيرها ، لأن اللَّه نظم الكون على التفاوت فى الدرجات بين الناس بقصد الابتلاء ، ولذلك رأينا الشيوعية المركسية بفكرها قد انهارت ، فلا تصلح لقيادة البشرية أو نفع الإنسانية ، إن أوامر الله التى تنظم جميع مجالات الحياة وتوجه الإنسان إلى الأفضل دائما تقلل من الفوارق بين الناس ، لكن على وجه الابتلاء المؤدى إلى وقوع الجزاء فى الدنيا والآخرة ، فابتلى الله الإنسانية جمعاء أن يراعى كل إنسان مكانة أخيه الإنسان ، حتى ينال نصيبه من التكريم الذى كتبه اللَّه له ، ليحيى حياة كريمة تتناسب مع كونه خليفة الله فى الأرض ، وذلك لا يتحقق إلا بتطبيق(1/94)
شرع اللَّه تطبيقا شاملا ، وقيام كل راع بما عليه قياما كاملا ، وأن يكون مسئولا يخاف الله قبل كل شئ ، ولما جعل الله الناس مختلفين فى الأرزاق ، على اختلاف أنواعها ، كالمال والصحة والذكاء ، والولد والجمال والنساء ، وما أشبه ذلك من ألوان النعيم أو الشقاء ، بين أن ذلك تصريفه للابتلاء ، فقال تعالى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20) } [الفجر] فظن الأغنياء الجاهلون الغافلون ، أن سعة الرزق كرامة وأن ضيق الرزق إهانة لهم وذلك مفهوم خاطيء ينبع من الجهل بحقيقة الحياة ، فالإهانة تظهر للغنى فى ماله ، إذا لم يكرم اليتيم ويطعمه ولا يعطى المسكين ويحرمه ، ويكنز المال ويحبه ويعظمه ، ولم يعلم أنه فتنة فيقاومه : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15) } [التغابن] وقد ورد فى حقيقة الابتلاء ، وكيف تكشف عن حقيقة الدنيا بوضوح وجلاء ، عن الصحابى أَبى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( إِنَّ ثَلاثَةً فِي بِنى إسرائيل ، أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى ، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ ، أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ ، قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ، قَالَ ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا ، وَجِلْدًا حَسَنًا ، قَالَ ، فَأَيُّ(1/95)
الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ ، الإِبِلُ ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَالَ ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ ، فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ ، أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا ، قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ ، قَالَ ، الْبَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلا فَقَالَ ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ فَأَتَى الأَعْمَى ، فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ ، قَالَ ، أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ ، قَالَ فَمَسَحَهُ ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ ، قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ ، قَالَ الْغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ ، وَوَلَّدَ هَذَا ، قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ ، قَالَ ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ ، إِلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي ، فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ ، فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ ، فَقَالَ ، إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ ، كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ، فَقَالَ ، إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ ، قَالَ وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا ، وَرَدَّ(1/96)
عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا ، فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ ، قَالَ وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ ، إِلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ ، قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ ) ( متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3464) ومسلم فى كتاب الزهد والرقائق برقم (2964) واللفظ له .(1/97)
) وقد أعطى الله المال لقارون ، فلم يفهم حقيقة الحياة وأن المال ابتلاء من اللَّه ، فأنكر فضل ربه وتناسى أنه أمين فى ملكه ، فنسب الفضل إلى نفسه ، وتجاهل أنه مستخلف فى المال بمشيئته وأمره ، مبتلى به لوقت معلوم ، وبقاؤه على هذا الحال لا يدوم ، فاستكبر ولم يعبأ ، وخرج متزينا يهزأ بدين الله ، وكأن الله ما أعطاه شيئا من نعمه فخرج على قومه فى زينته ، ليفخر بعزه وسلطانه ، فصدر حكم الله لخائن الأمانة ، وتم استدعاؤه من مكانه ، ليعودا عبدا فقيرا حقيرا ، مطرودا من الجنة معذبا فى النار فالغنى لا يكرمه الله إلا إذا شكر ربه شكر الزاهدين ، وتحرى الحلال فى ماله سالكا مسلك الورعين التائبين ، وصبر على إغراء المال ومقاومته صبر الموقنين الموحدين ، وعاد فقيراً بماله إلى رب العالمين ، ينسب الفضل والملك لأحكم الحاكمين ، متبعا فى ماله نهج الأنبياء والمرسلين ، فإن اللَّه أعطى المال لإبراهيم ، وأعطى الملك والسلطان لداود وسليمان عليهم السلام أجمعين ، فكانوا فى ملكهم ومالهم من أزهد الزاهدين ، وكانوا أمناء فى الأرض مستخلفين ، فقال عن سليمان عليه السلام : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) } [ص] ، فأنعم به من عبد على الرغم من كونه مالكا غنيا ، ملكا نبيا ، لديه الدنيا بأسرها وبهجة الحياة بأنواعها ، فقال سليمان عليه السلام : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي .. ((1/98)
40) } [النمل] فالفضل ليس لى ولا لجندى ، وإنما هو فضل ربى ، وقد استرعانى واستخلفنى : { لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [النمل] فهو المنفرد بالكمال فى الغنى ، وأنا عبده الفقير ، وإذا ضيق اللَّه الرزق على إنسان ، فلا يعنى ذلك أنه أهانه ، فالفقير لا يهان إلا باعتراضه على قدره سبحانه ، وخجله من فقره وحرمانه ، والتبرى من أهله وإخوانه ، لكونهم فقراء لا يملكون ، معدمين لا يجدون ، فيحقد الفقير على الأغنياء ، ويعترض على مر القضاء ، ويضمر الحقد والكيد والعداء ، لكل من جعلهم اللَّه ملوكا أو أغنياء : { لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [البقرة] فالحسد داء ماله دواء ، إلا الرضا بالقضاء ، وإدراك حقيقة الابتلاء ، فوجب علي المبتلين أن يتمنوا السعادة للآخرين وأن يسألوا رب العالمين ، أن يمنحهم من فضله وعطائه ومدده ونعمائه ، وانظر إلى هذا المثل العجيب وما فيه من ذكر للبيب ، قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ(1/99)
يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) } [الكهف] فمن ابتلاه اللَّه بالفقر ، فلم يصبر على بلواه لم يأخذ إلا ما قدره اللَّه ، وسوف يهينه الله فى الدنيا والآخرة ، والفقير الصابر له أسوة فى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيما فى مرارة اليتيم ، وربط الحجر على بطنه صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع ، ومات ولده وقرة عينه إبراهيم ، وأدماه قومه ، أثر الحصير فى جنبه ، من كثرة نومه عليه صلى الله عليه وسلم ، كل هذا حدث له ، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا نبى اللَّه أيوب عليه السلام ، ضرب به المثل فى الصبر والاعتماد على اللَّه ، أن يرفع البلاء ، ويكشف عنه(1/100)
الضراء : { وَأَيوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) } [الأنبياء] ، ذكرى للعابدين الفقراء ، فلما صبر على بلواه ، قال اللَّه فيه : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } [ص] ، فمنزلة الصابرين ، توازى منزلة الشاكرين ، كما قال رب العالمين ، عن شكر سليمان لربه على نعمه وفضله : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30) } [ص] .
6- ... وربما يسأل القارئ أيهما أفضل عند اللَّه ، الغنى الشاكر أم الفقير الصابر ؟
والجواب : أن الأكثر طاعة لربه هو الأفضل كما قال اللَّه عز وجل ، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) } [الحجرات] فالأتقى هو الأفضل ، وإن كان غنيا شاكرا ، أو كان فقيراً صابراً ، فأسقط اللَّه الغنى والفقر من ميزان الكرامة والإهانة وجعل الميزان ميزان الإيمان ، وقد قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) ( أخرجه مسلم فى كتاب الزهد والرقائق برقم (2999) . )
7- ... سؤال : لماذا أخفى الله موعد الموت ، وجعل اللَّه الناس متفاوتين فى الآجال كتفاوتهم فى المال والملك وسائر الأرزاق ؟(1/101)
الجواب : أن ذلك ابتلاء واختبار ليكون الإنسان دائما حذرا أن يستدعيه مستخلفه فى أى لحظة لسؤاله عن الأمانة ، فيكون دائما على صدق اليقين بوعد اللَّه ، فقال تعالى : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) } [طه] كما أننا نعلم أن الإنسان إذا علم متى أجله ، لم يهنأ له بال ، ولم يسعد فى الدنيا بملك أو مال وصار حزينا مغموما خائفا مهموما ، لا لأنه فى دار الابتلاء متوقعا الجزاء فى أى لحظة ، كما هو اعتقاد الراسخين فى العلم ، ولكن لأنه علم موعده المحتوم ، فأصبحت الدنيا عنده مراراً ، لا معنى لكونه يعيش فيها حراً أو مختاراً ، ولذلك كانت حكمة الله فى إخفاء الأجل وجود الأمرين معا قال اللَّه تعالى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان] .
8- ... سؤال : كيف وصف الله الإنسان بالظلم والجهالة فى آية الأمانة ، فى حين أنه مارس حقه فى الاختيار ، كما مارست السماوات والأرض والجبال حقها فى الرفض ، فالله جعل لهم جميعا إرادة وفهما ، واستطاعة ونطقا ، فقال سبحانه وتعالى فقال الله تعالى : { إِنا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72) } [الأحزاب] فلماذا وصفه الله بالظلم والجهالة مع كونه الوحيد الذى انفرد بحمل الأمانة ؟(1/102)
والجواب ، أن الله وصفه بالظلم والجهالة لا لأنه حمل الأمانة ، فقد كرمه الله وشرفه وجعله خليفة له فى الأرض ، ولكن لأن أغلب بنى آدم بل معظمهم قد ضيع الأمانة أو خانها ، ولم يؤدها إلى مالكها ، وكان المفترض من جميع البشر ، أن يكونوا أمناء كما ينبغى ، وعلى قدر المنزلة التى شرفهم الله بها ، فوصف الإنسان بالظلم والجهالة كان على اعتبارين :(1/103)
· ... الاعتبار الأول : أن الظلم والجهالة وصف أغلب البشر كما نعلم ، ومعلوم أنه لا يدخل فى ذلك الأنبياء والرسل ، وعامة الصالحين الأتقياء ، فالنسبة بين الموحدين العابدين والمشركين الكافرين ، نسبة ضئيلة جدا عند المقارنة ، دل علي ذلك ، قول النَّبِيِّ محمد S : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا آدم ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ ، قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ ، قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) } [الحج] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَالَ أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلا ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَكَبَّرْنَا فَقَالَ ، أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ ، أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَكَبَّرْنَا فَقَالَ ، مَا أَنْتُمْ في النَّاسِ إِلا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ ) (متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3348) ومسلم فى كتاب الإيمان برقم (222) . ) فإذا كانت النسبة بين من حقق الغاية من خلقه فأدى أمانة ربه ، وبين من تناسى ربه فأشرك به ، وتجاهل العلة من خلقه ، هى (1 : 999) كما ورد فى الحديث ، فإن الإنسان فى الأغلب على هذا الاعتبار ظلوم جهول .(1/104)
· ... الاعتبار الثانى : أن وصف الإنسان بالظلم والجهالة ، على اعتبار المنتهى والنتيجة ، لا باعتبار المبتدأ وقبوله الأمانة ، فلو كان ظلوما جهولا عند البداية ما كرمه ولا شرفه ، ولا أسجد له ملائكته ، ولا حقد عليه إبليس لمنزلته ، ولكن باعتبار النتيجه والمحصلة من أفعالهم ، فالأمر كما قال الله عز وجل : { يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (30) } [يس] .
9- ... سؤال : ما معنى أن يكون الإنسان خليفة لله فى الأرض ؟
والجواب عن ذلك أن الاستخلاف فى القرآن على نوعين :(1/105)
· ... النوع الأول : استخلاف عن عجز المستخلف عن القيام بملكه وتدبير أمره ، إما لغيابه أو لمرضه أو لجهله ، كالذى يوكل المحامى نائبا عنه فى كتابة الدين ، لكونه عاجزاً لا يقدر ، إما لسفه فيه أو ضعف ، كقوله سبحانه وتعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ .. ((1/106)
282) } [البقرة] ومثله أيضا استخلاف القائد نائبه على جنده وقومه فى غيابه ، كقوله تعالى عن موسى وهارون عليهما السلام : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) } [الأعراف] ومثله استخلاف ولى الأمر قبل موته ، فموته عجز ونقص فى صفة الحياة ، إذا ما قورنت صفته بصفة الحياة الله ، فالله حى قيوم أبدا ، أما الإنسان فيموت ويمرض ، فالكمال كله للكبير المتعال وحده : ( فعَنِ عبد الله بْنِ عُمَرَ رضى الله عنه قَالَ حَضَرْتُ أَبِي حِينَ أُصِيبَ ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ ، وَقَالُوا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، فَقَالَ رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ ، قَالُوا ، اسْتَخْلِفْ فَقالَ ، أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيّا وَمَيِّتًا ؟ ، لَوَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ ، لا عَلَيَّ وَلا لِي ، فَإِنْ أَسْتخلفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ منْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، يَعنِي أَبو سَيَّارَةَ وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ ، فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هوَ خَيْرٌ مِنِّي ، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر رضى الله عنه : فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ) ( متفق عليه أخرجه البخارى فى كتاب الأحكام برقم (7218) ومسلم فى الإمارة برقم (1823) . )(1/107)
· ... النوع الثانى : استخلاف عن كمال وقدرة ، وذلك إذا كان الاستخلاف لتشريف المستخلَف وإكرامه ، أو اختباره وامتحانه ، فهو استخلاف عن كمال وقدرة ، ليس لعجز المستخلف عن القيام بأمره ، كالطبيب المبتدىء الذى يجرى عملية جراحية ، فى حضرة أستاذه كبير الجراحين ليختبره ويمتحنه فيعطيه شهادة إذا أفلح ، يصلح بها للبقاء الدائم فى هذه المهنة ، فإن كان عاجزا عاقبه بالرسوب ، ونصحه بتصحيح العيوب ، ويحاول مرة أخرى لعله يتوب ، فإن أدى ما عليه على الوجه المطلوب ، شرفه وأعطاه شهادة عظيمة وهذا معلوم فى كل فطرة سليمة ، وإن تكرر خطؤه مرات ومرات ، وكثرت فى أفعاله العثرات ، لتقصيره وعصيانه ، ولهوه ونسيانه ، عاقبوه بمنعه وحرمانه ، من الوصول إلى منزلة أقرانه ، وحق لهم أن يفعلوا به ذلك ، وأن يفصلوه من دراسته كذلك ، فاللَّه { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. ((1/108)
27) } [الروم] استخلف الإنسان فى الأرض ، وهو سبحانه من فوق العرش معه ، فى كل صغيرة وكبيرة يراه ويتابعه ، وقادر على هداية الناس أجمعين وأن يجعلهم متوافقين غير مختلفين ولكنه بين أن ذلك الاستخلاف يقتضى التنوع والاختلاف ، للابتلاء والاختيار والنظر والاعتبار ، فينال المحسن الحسنى ، ويعذب المسىء بالنار ، فقال سبحانه وتعالى فى شأن معيته ، وهو مستو على العرش فى فوقيته : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } [آل عمران] وقال سبحانه وتعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) } [الأنعام] فانتفى أن يكون استخلاف الله للإنسان ، عن غياب المستخلف أو وصفه بنقصان ، ولكن الاستخلاف يحدث للإنسان بالضرورة غيبا وشهادة على حسب مداركه ، ومعلوم أن مدارك الإنسان خلقها الله محدودة للابتلاء والاختبار كما سبق ، ومن هنا ظهر فى الوجود علمين عالم الغيب وعالم الشهادة ، فالغيب والشهادة بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لله ، ولذلك قال الله تعال : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10) } [الرعد] وقال أيضا : { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) } [السجدة] وقال : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ(1/109)
إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) } [الحشر] فاستخلاف الإنسان فى الأرض يشمل عدة أمور :
الأمر الأول : خلافته لله على معنى الكمال والعظمة ، وهو المذكور فيما سبق أن القصد منه الابتلاء والاختبار ، وليس عن عجز من المستخلف فى القيام بمملكته .
الأمر الثانى : خلافتهم لبعضهم البعض وذلك لموتهم فتتعاقب الآجال على وراثة ملكهم .
الأمر الثالث : أن الاستخلاف يؤدي إلى ظهور عالم الغيب والشهادة بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لربه .(1/110)
وإذا كانت طبيعة العاقل الأمين فى علاقته بمن استأمنه ، أنه يسعى فيها إلى دوام الصلة معه ، ويرجع دائما إلى الذى خوله ، ويعتمد عليه فى كل مسأله فيطلب منه الهداية والعون والاستبصار ، وأن يعينه فى الحفاظ على الأمانة من جميع الأخطار ، فإن القرآن دعا إلى إحياء هذه الفطرة ، وأن يرجع الإنسان دائما إلى ربه يستعين به ويتوكل عليه ، ويستهديه ويستغفره : { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) } [غافر] وقال أيضا : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) } [غافر] وقال أيضا : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160) } [آل عمران] وقال أيضا : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) } [هود] وقال أيضا : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } [هود] وقد كان رسول الله فى جميع الأسفار يقول : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمنْقَلِبُونَ (13) } [الزخرف] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى ، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ،(1/111)
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهنَّ ، وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ) فانظر إلى قوله : وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ : فيه كمال التواضع والافتقار إلى الله ، فالله استخلف الرسول فى أهله ، والرسول يعيد الأمانة إلى ربه ويطلب المعونة فى المحافظة عليها ، وكذلك جاز أن يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه على أمته عند ظهور الدجال ، على اعتبار أنه يرد الأمر إلى من استخلفه فى الأرض افتقارا ، وإظهارا لعجزه وإقرارا ، أنه لا نجاة لأمته إلا إذا استعانوا بربهم على الدجال ، ففى حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضى الله عنه أنه قَالَ ، ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدجال ذَاتَ غدَاةٍ ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ ، عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟ ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ذَكَرْتَ الدجال غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَقَالَ غَيْرُ بَنَى حَارِثَةَ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ) (أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم (2937) .(1/112)
) وكل هذا استخلاف من الله للإنسان على معنى الابتلاء ، سواء كان على المعنى الخاص الذى يراد به الرئيس الحاكم ، أو المعنى العام الذى يتناول جميع الناس ،كما قال تعالى فى شأن الناس أجمعين : وقال الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) } [فاطر] وقال تعالى : { وأنفقوا مما جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فيه } [الحديد] وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ) (أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء برقم (2742) .) وفى معنى الاستخلاف أيضا ، التخويل والاسترعاء على وجه الاختبار والابتلاء ، قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاؤُا لَقَدْ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) } [الأنعام] وقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مالِ سَيِّدِهِ ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ) (أخرجه البخارى فى كتاب الأحكام برقم (7198) . )(1/113)
10- ... سؤال : ما هى النصيحه التى يقدمها الكاتب للقارئ ؟
الجواب : الصدق مع النفس ، والبحث عن حقيقة الإنسان وما يتميز به عن غيره من الكائنات ، فمن العيب أن يعيش الإنسان فى الحياة ثم يخرج منها وهو لا يعرف قيمته .
انتهى بفضل الله(1/114)