الحق المستبين
في بيان ضلال اللحيدي حسين
عبد الكريم بن صالح الحميد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. ... ... ... ... ... ... أما بعد :
فقد اطلعت على عِدّة مذكرات لكاتب إسمه الحسين بن موسى بن الحسين اللحيدي وجدتُ حَشْوها دَعاوٍ طِوال عِراض أصغرها عظيم وأهْوَنها جسيم ، إدّعاها اللحيدي وهو بلا شك كافر بالله العظيم وسواء كان مَلْبوساً عليه بجهله أوْ أن له مقاصد سوء بإفساد الدين على مابِه مما لا يحيط به ، ولا يُرجى لجبر كسْره وإعْزازه ونصره إلا رب العالمين .
لقد ادّعى أنه رسول وأنه المهدي وأن محمد بن عبدالله المذكور اسمه في أحاديث المهدي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه سوف يُبعث قبل القيامة شهيداً على أمته وسوف تأتي معه الرسل !!.
هذا أعظم ما ادّعاه ، ولقد تكلم في تفسير القرآن بجرأة قبيحة حيث يصرف معاني الآيات على مراده ، كذلك يتكلم على الأحاديث صارفاً معانيها لمراده ، وحتى آثار الأنبياء المتقدمين وما فيها من البشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يصرفها لدعواه ، والحوادث من الزلازل والأمطار والحروب وغير ذلك كل هذا يصول به ويجول باعتبار أنه يؤيّد دَعاوِيه الزائفة ، حتى الخوارق والأحوال الشيطانية يجعلها شاهدة ومؤيّدة لِمطالبه .. وهو من أهل الكويت ، وفي هذا الردّ ولله الحمد مايبين ضلاله فإن تاب وبيّن توبته ورجوعه وإلاَّ ففي سبيل مَنْ هلك ، وقد قال في بعض مذكراته مخاطباً بعض من عارَضه قال : أوْ يَرُدّ على أصل الدعوة المهديّة بالبراهين العادلة وأنا أول من يتبعه إذا أصاب في ذلك حقاً .
وقال في موضع آخر من مذكراته : إذْ أن المؤلف [يعني نفسه] وبِتَوَاضع جَمّ يقدم لهم الكتاب وبرفقته معروض يطلب فيه الرّدّ العلمي على مالا يتفقون معه مما يَرِد بالكتاب ، ولكن بشرط تقديم الحجة والبرهان .(1/1)
فيقال للحيدي ومن اغترّ به : هذا برهان وحجة وهو هذا الكتاب وفيه كفاية لِمَن ألحق ضالّته كما أنه مشفوع بطلب المباهلة وليس بعد هذا من شيء . والله الموفق وهو المحمود وله الفضل والمنّة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
عبد الكريم بن صالح الحميد
... ... ... ... ... ... شهر صفر 1422هجرية
اللحيدي يدّعي أنه رسول !!
قال في : ( رفع الالتباس ) ص (37) : (كما أن نص آيات سورة الدخان القاطعة بوجود رسول آخر الزمان هي في تقرير هذا الأصل وبيانه ) .
تأمّل قوْله عن آية سورة الدخان : {وجاءهم رسول مبين} أنها القاطعة بوجود رسول آخر الزمان .
ثم قال : (إذْ لا ينفك عن أن يكون المذكور في تلك الآيات [يعني آيات سورة الدخان] هو محمد رسول الله أوغيره ، وقدْ بان الحق وانجلى الغبش في أنه ليس هو محمد رسول الله في أول بعثه) يعني لأن الدخان جاء في آخر الزمان وهو دخان بترول الكويت كما زعم ثم قال : (ولن يقول أحد أنه هو في ثاني بعثه) يعني أن هذا الرسول المذكور في سورة الدخان ليس هو محمد رسول الله في ثاني بعثه على حسب اعتقاده أن محمداً رسول الله سوف يبعث بعد المهدي الذي هو الرسول المتقدم لِبعثة النبي محمد ، ويقصد نفسه فهو المهدي والرسول بزعمه .
ثم قال : ( إذا أن هذا يقتضي التكرار في رسالته والإبتلاء بقبول دعوته وهذا لم يقله أحد وهو مصادم للنقل والعقل ، وما تكون عودته في زمان تكليف ، فلم يبق إلا اعتقاد أنه رسول آخر وليس ثَمّة مستحق إلا المهدي المنتظر قطعاً ) ويريد بهذا نفسه ، وقد تبين عظم ما وقع فيه هذا الدجال ، ولا شك أنه ممن أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في حديث ثوبان : ( وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ) الحديث . وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاللحيدي منهم قاتله الله ، قال تعالى : {قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } .(1/2)
ثم قال اللحيدي : ( ومن لم يصدق فليذهب ليفتش تحت الدخان فلن يجد محمداً قطعاً ولن يجد إلا من قِيل فيه أكثر الأحاديث الواردة في المهدي ) . ويقول عن الزلازل : فهي الحجة القاطعة على صدق بعث وإرسال المهدي ص (62) (الرؤى) يعني بذلك نفسه .
ويقصد بالتفتيش تحت الدخان دخان بترول الكويت الذي كان بسبب جيش العراق وأن المفتّش لن يجد رسولاً يحقق معنى قوله تعالى في آية الدخان : {وجاءهم رسول مبين} إلا المهدي الذي هو هذا المفتري نفسه ، قال تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} الآية .
وهنا ينبغي أن يلاحظ أن كتابه الذي نقلت منه هذا الكلام يقول في آخره أنه (تم الفراغ منه ليلة الأحد 8 شعبان 1421هـ ) .
فهو بعد الدخان بحوالي عشر سنين والكتاب هو (رفع الالتباس في بيان أن المهدي محمد بن عبدالله هو النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الناس ) .
ومن عنوان كتابه هذا ومما نقلتُ من كلامه يتبين مراده ومقصده وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المهدي المنتظر محمد بن عبدالله باعتبار أنه سوف يُبعث ، ولكن بعد اللحيدي الذي بزعمه وفِرْيته مهدي ورسول لايشترط أن يكون إسمه محمد بن عبدالله .
فافترى أنه مهدي وأنه رسولٌ هو المعني بآية الدخان {وجاءهم رسول مبين} وافترى أن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - سوف يرجع إلى الدنيا وأنه هو المراد بالمهدي الذي إسمه محمد بن عبدالله ، ويقول (أنه هو المراد بالرسول الذي يبعث في زمان انبعاث الدخان المبين ص (68) (الرؤى) يعني نفسه ) ، فتأمل كيف جمع من الإفتراء مالا تطيق حمْله الجبال. {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب} .(1/3)
قال في (رفع الالتباس) ص (37) بعد الكلام السابق : (ومشكلة الناس في سيرة هذا الرجل أن النبي عَرَّفَ فيه بالصِّفة لا الإسم كتماً للنبوأت وحفظاً للأمر فوقع الناس جهلاً منهم بأن لا مهدي إلا محمد بن عبدالله ، ولوْ وَعَوْا على أنفسهم لأدركوا أن في الأمر شيء ما).
أنظر كيف يتلاعب بالنصوص ويصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان بل وبالتلبيس على الأمة إذْ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن المهدي إسمه يواطئ اسمه واسم أبيه يواطئ اسم أبيه فكيف يقول اللحيدي الضال : أن النبي عَرَّف فيه بالصّفَة لا الاسم كتماً للنبؤات ؟ .
إنه الجهد الجهيد الذي بذله اللحيدي ليتخلص من مسألة عدم مطابقة اسمه واسم أبيه للمهدي الحق فأعْمل الحِيَل وجاء بالباطل والزلل.
ثم قال بعد الكلام السابق : (إذْ كيف يكشف عن اسم المهدي واسم أبيه وفيه ابتداء التأويل فإن هذا سيكون سبباً للفتن وإراقة الدماء على يد كل دَعِيٍّ كاذب) .
يريد بكلامه ابتداء التأويل يعني أنه عند ظهور دخان بترول الكويت جاء أهل الكويت الرسول المبين المهدي الذي هو نفسه وليس اسمه محمد بن عبدالله حتى لا يدّعي ذلك مُدّع كاذب .
ثم قال : (إذْ من السهل أن يدّعي مُدّع هذا الأمر لمجرد توافق الأسماء كما حصل هذا لِمهدي جهيمان وغيره ) .
يقال له : أهل الإيمان لهم من التوكل على ربهم مايجعلهم على ثقة ويقين ألاّ يجعل الأمر ملتبساً عليهم لاسيما في هذا الأمر الكبير. كذلك فالموفق منهم لا يغتر بالدعاوي وإنما يزن الأمر بميراث الرسول ويردّ كل شيء إليه وأما أن يَدّعي ذلك مُدَّع فهذا من جنس مايبتلي الله به عباده وهو الحكيم سبحانه وبحمده ، وما كان تعيين اسم المهدي الحق فلْتةً ولا عبثاً .
وهل ظنّ اللحيدي وأضرابه أن أهل الإسلام كلهم أغبياء ومع كُلّ ريحٍ يَهِبّونَ ؟ لايمكن هذا فالله ارحم من أن يُعَمِّي عليهم هذا الأمر الكبير وإنما هو الابتلاء .(1/4)
ثم مَنْ قال للحيدي أن المؤمن لا يُميّز المهدي الحق إلا أن اسمه محمد بن عبدالله ؟! هذا غلط ، بل له صفات وميزات ووقت مناسب بحيث إذا ظهر لا يمتري فيه المؤمن . مع هذه العلامة الظاهرة وهي الاسم التي أعْيت اللحيدي أن يُزيحها عن وجهه لِظنّه أن دعْواه تبْردُ له بذلك .
ثم إن المهدي الحق لايتبجَّح ولا يُعجب بنفسه وقد لا يقول : أنا المهدي في بداية أمره ، لِكمال علمه وحسْن توكّله إذْ أنه وإن عَرف من نفسه انطباق الاسم والوصف فهو يعلم أن الله يُهَيء له الأسباب ويجعل له في قلوب المؤمنين الوُدّ . كيف وقدْ وَرَدَ أن المسلمين هم الذين يختارونه لأمرهم علماً منهم بَهدْيه وسَمْته وصلاحه وكفايته لما نُدِبَ إليه .
ومما يوضح ماذكرت أنه لايجب عليه أن يبرز للناس ويجاهرهم بأنه المهدي المنتظر ولايُسِرّ ذلك ولا لأفراد من الأمة ، اللهم إلا مؤمنين هو على ثقة بدينهم وعقولهم لا يُظهر لهم الجزم بذلك وإنما يقول مثلاً : أرجو أن أكون هو ، ودافِعه في ذلك وَوَازِعه حب نصرة الدين وإعلاء كلمة التوحيد لا المنصب نفسه ، فهذا المهدي لوْن وأهل الدّعوى لون آخر .
يوضح ماتقدم ويجلّيه أن المهدي الحق ليس يوحى إليه ، فلذلك ليس هو كالرسل الذين يجب عليهم إعلان أمرهم من أول وهْلَه استجابة لربهم بل هو رجل صالح يجعل الله فيه الخير الكثير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم إن الابتلاء به يشبه الابتلاء بالرسل فليس كل الخلق يطيعونه ويوافقونه ، وإذا كان يوجد في زماننا وقبله من يُكَذّب به جملة وتفصيلاً قبل وجودة جرأة على الله وعلى رسوله فكيف إذا ظهر ؟ .
وليُعْلم أنه ليس النزاع على قرب وقت ظهوره فقد توفرت لذلك الأسباب الداعية وإنما المراد نفي ورفض دعوى اللحيدي وأنها من أبطل الباطل .
وقال عن المهدي يعني نفسه قال : وأنه رسول الله حقاً . ص (64) (الرؤى) .(1/5)
وليس من دلالة صدق اللحيدي أنْ قيل عنه : مُعَلَّم ومجنون أوماهو أشنع من ذلك فهذه الشتائم تُقال للصادق والكاذب وليس الوزن بها ، وإنما الوزن بالحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبه يكون الوزن الحق يوم القيامة ، ذكرت هذا لأني علمت أن اللحيدي يَعُدُّ ذلك من علامات صدقه لأن الرسل قيل لهم ذلك ، وهذا مخرقة .
ثم قال : ( ومَن فهم أمر المهدي على هذا النحو فهو من أجهل خلق الله في أخبار النبي عليه السلام ، ويكون بهذا الفهم قد نسب هذا الأمر الغير حكيم إلى أحكم الخلق وأصدق البشر وهو من أشد مَنْ سَدّ ذرائع الشر والفتن ) .
يقصد اللحيدي أهل السُنَّة بقوله : (ومَن فَهِم أمر المهدي على هذا النحو) إذ أنهم هم الذين فهموا أن اسم المهدي المنتظر : محمد بن عبدالله ، فهم عنده من أجهل خَلْق الله ، فانفرد هو بأنه أعلم خلق الله بالمهدي !، ولقد انفرد اللحيدي بغرور، حيثُ غرَّه به الغَرور، ولذلك ركب الصعب والذلول من أجل دعواه ، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي سفينة اللحيدي، هذا لوْ كانت في البحر كيف وسفينته في صحراء قاحلة ! فعليه أن يُبصر ويستبصر وإلا ففي سبيل من هلك .
ثم قال : ( وكونه يترك الخلق لمصْلِح يخرج آخر الزمان ثم يسميه باسمه واسم أبيه مايُعَدّ فتحاً لباب الشر والأدْعياء على مصْراعيْه ، ومَن نسب هذا للرسول يُعدّ جاهلاً بالحكمة ) .
يقال له : الجاهل بالحكمة أنت وإلا فإن تسمية المهدي باسمه واسم أبيه فيه من الحِكَم مالا تعلمه أنت وأمثالك .
ومن ذلك حصول اليقين للصالحين عندما يروْن الأسباب تُهَيّؤ لرجل هو على الوصف المطابق لخبر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الصنف كما قدّمت ليسوا ممن يَهِبّ مع كل ريح ويُقادُ بكل زمام ، وإن كنت في أرضك لا تفتح عينيك إلا على من هان عليك أمرهم فلا يكن حكمك شموليّاً فقد أبقى الله لك مايسوؤك ويكشف زيْفك .(1/6)
ومِنْ ذلك علم المهدي الحق واسْتيقانه أنه هو الذي ورد ذكره في الخبر إذا ظهرت له علامات وقته وأسبابه ولوْ لم يَنْشر ذلك ويُخبر به لكن هو يحصل له من الإيمان واليقين بسبب ذلك مالا يحصل بغيره، فهذا له خاصة والأول للصالحين ولمن أراد الله صلاحهم عامة، ففي تعيين الاسم حكَم باهرة .
ومن ذلك الابتلاء للأشخاص المدَّعين إذْ أنهم يبنون بيوتاً في الهواء، لَوْ صدقوا علموا أنهم في متاهات الأماني والخيال ، ومن ذلك الابتلاء لأتباع كل ناعق الذين لم يسْتضيئوا بنور العلم ولم يلجؤا إلى ركن وثيق ، وإنما نظرهم في ظاهر السّكّة إذْ لم تنفذ بصائرهم إلى ماوراء ذلك ، وإنما التوفيق بيد الله .
ومن ذلك علمنا اليقيني بكذب دَعْواك ، وغير ذلك من حِكَمٍ الله أعلم بها .. وكوْن أنه يَدّعي المهدوية مَنْ اسمه محمد بن عبدالله لا يطعن ذلك في الحكمة فقد ادّعى النبوّة أدْعيا للابتلاء وما نَقَصَ ذلك الأنبياء الصادقين بل زادهم رِفْعة .
والضِّدُّ يُظهر حُسْنَهُ الضدُّ ... ... وبضدها تتبينُ الأشياءُ !
والأمر عكس مازعمه اللحيدي فذِكْر الإسم فيه ظهور كذب من ادّعى أنه المهدي واسمه مخالف .
ولا أطيل في هذا وإنما أقول : أنتَ المعترض على حكمة الشارع الحكيم ليس مَنْ قَبِلَ أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مصدّقاً بها متحاكماً إليها وإلى كلام ربه قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ولم يقل الله : وإلى اللحيدي الضال !! .
ثم قال الضال : ( ولا أجهل من هذا إلا من عَلّق صدق كل خارج باسم محمدٍ يُبَايَع بين الركن والمقام بالخسف بين مكة والمدينة وهذه دعوة صريحة لتجريب الحظ ، وهذا كله من السخافات التي تنسب لأخبار المهدي ) .
يقصد اللحيدي حديث أم سلمة وقد ذكره أبو داود في أبواب المهدي ورجاله رجال الصحيح ، واللحيدي جعل هذا الحديث من السخافات بعد أن سَخِر به قاتله الله ، وما أعظم مايفعل الهوى بأهله!.(1/7)
ثم قال اللحيدي بعد ذلك : ( والصحيح هو أن الخارج بمكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن يجرأ ؟ وما الفصل والفرقان إلا قبله لوْ تعلمون).
يؤكد اللحيدي هنا بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل القيامة وأنه هو المعني بالحديث وأنه الذي يُبايَع له بين الركن والمقام وليس هو المهدي بل المهدي اللحيدي وهو الذي يتقدم بعثة الرسول !! وهو رسول أيضاً.
وهذا التخبيط يليق بهذا وأمثاله إذْ لوْ عَقَل لما جعل هذا الوصف للرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه على تقدير أن يكون الأمر كذلك يعني يُبعث الرسول لأمته فعلى هذا التقدير فليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحاجة إلى المبايعة بين الركن والمقام ولا في غير ذلك المكان فالأمة قدْ بايَعته أول بعثته ومازالت قرون أهل الإسلام مبايعة له بعدهم ولوْ لم يروْه وذلك باعتقادهم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أما غير المسلمين ممن يُنكر نبوّته فليس له عنده إلا السيف لأن دعوته تمت وكَمُلت قبل موته والحجة قامت به على الأمة فما حاجته إلى المبايعة ؟ هذا على تقدير بعثه - صلى الله عليه وسلم - في أمته قبل القيامة مع أن ذلك من أبطل الباطل وقد ظهر هذا فيما تقدم والحمد لله .
ثم إن اللحيدي فَرِح بحديث أبي سعيد وجابر الذي في صحيح مسلم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه ) فلقد أعجب اللحيدي ماذهب إليه التويجري وأظنه يريد حمود بن عبدالله رحمه الله يقول بأنه قطع بأن هذا خليفة آخر يكون آخر الزمان وليس هو المسمى محمد بن عبدالله يقول : (ولله درّه هو الوحيد في المعاصرين قطع بأن هذا خليفة آخر) .(1/8)
واللحيدي يفضح نفسه بتناقضاته فالشيخ حمود رحمه الله يقرر أن المهدي إسمه محمد بن عبدالله أنظره في ردّه على القطري الذي أخَذْتَ منه هذا الكلام ، ولماذا لا يصير لله درّه في تقريره في الأحاديث الأخرى أن المهدي اسمه محمد بن عبدالله كما ورد؟ وأنت تدّعي أنك المهدي! .
ثم على تقدير أن كلام التويجري صحيح وأن هذا ليس هو محمد ابن عبدالله فما الذي يحشرك أنت هنا وأي إشارة في الحديث إليك ؟ المِجُرَّد أن التويجري قال ما قال ؟! .
والذين قالوا : إنه المهدي محمد بن عبدالله أقرب مما قاله التويجري للصواب لتصديق الأحاديث الأخرى له وموافقتها لِوَصْفه فلا يُسَلّم للتويجري نفْيه أن يكون هذا الحديث في المهدي محمد بن عبدالله .
وعلى تقدير أنك المعني بالحديث فأين قَسْمك المال بلا عَدِّه، وذلك كناية عن كثرته وعدم الاستئثار به ؟! {يعدهم ويمنيهم ومايعدهم الشيطان إلا غرورا} إنْ قلت : حين يُمَكّن لي وأتولى، فقد أحَلْتَ على غرور لأنه لا شيء ينطبق عليك إلا أنه ملبوس عليك وقد بيّنتُ في هذا الكتاب مابعضه يكفي لبيان زيفك .
وإن كنتَ جازماً بما قُلْتَ فباهلني ليظهر صدقك قبل تَوَلِّيك ويأتي إن شاء الله الكلام على المباهلة في الآخر .
ثم قال اللحيدي : فأقول : ( حديث أبي سعيد في صحيح مسلم ماهو إلا في المهدي الذي يخرج ويبعث قبل عودة رسول الله ومَن معه من أنبياء الله آخر الزمان ).
هكذا نصب نفسه بأنه المهدي وبأن الرسول يأتي بعده هو والأنبياء وكَذَبَ في كل هذا .
ثم زعم اللحيدي في آخر كتابه (رفع الإلتباس) عَجْز من أنكر عليه عن رَدِّ وإبطال ماذَكَرَ بالبراهين وأنهم اقتصروا على الإنكار المجرّد الذي لايغني النفس ويشفي القلب ثم قال : (وها أنا أثني لهم الصَّفْعَة ولسان حالي يقول : لم ترضَوْا بتعيين خروج المهدي وأكْبَرْتموه عليَّ فهذا أنا أصيح بكم أن رسول الله سيعود وإن رغمت أنوف المنافقين )(1)!!!.
__________
(1) ص 41 .(1/9)
نقض دعوى أن المهدي رسول الله
ذكر اللحيدي آيات سورة الدخان في مواضع عديدة في مذكراته، وهي قوله تعالى : {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين. يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون . إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون . يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } .
فتكلّم اللحيدي على قوله تعالى : {وقد جاءهم رسول مبين} بكلام خطير بل هو أخطر ما تكلم به وأكذب ما ادّعاه، ولذلك بدأتُ به لأنه الأساس المنهار الذي بنى عليه بنائه لينهدّ ويسقط بنيانه من أساسه وأركانه حيث ادّعى أن المهدي رسول الله وأنه هو المهدي ، وقد اعتمد في ذلك على هذه الآية التي بزعمه وجزْمه أنها تخبر عن دخان بترول الكويت الذي حَرّقه جنود صدام عام 1411هجرية في غَزْوِه الكويت وأن السماء أتت بالدخان المبين الموعود بإتيانه في آخر الزمان وأن معنى قوله تعالى : {وقد جاءهم رسول مبين} المهدي الذي هو نفسه وأنه رسول ففهم من هذا المجيء بفهمه القاصر أنه مجيءُ حَيِّ معاصر ، والحقيقة أن اللحيدي جاء بصفقة خاسر ، وأنه لايدّعي هذه الدعوى إلا كافر.
فالمجيء للرسول المذكور في الآية هو مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من ذلك شخصه الكريم ولذلك يقول كل أهل عصر ونحن نقول في عصرنا هذا : جاءنا رسول من ربنا ، وانظر قوله تعالى : {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} . فَسُئلوا بـ (يأتكم) فأجابوا بـ (جاءنا) مع أن القليل هم الذين عاصروا الرسل منهم وأكثر الكفار لم يُعاصِروهم ولم يروْهم لكن دَعَتْهم ورثة الرسل بدعوة الرسل فكان هذا معنى مجيء الرسل إليهم لأن المراد الرسالة التي أتوْا بها من ربهم وقد بلغتهم بدون الرسل لاسيما هذه الأمة حيث نبيها - صلى الله عليه وسلم - لا نبي بعده وعمرها طويل .(1/10)
وانظر قوله تعالى عن اليهود : {وإذ نجيناكم من آل فرعون} فهذا خطاب لليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علموا أن المراد أسلافهم الذين عاصروا فرعون ومع هذا يقول تعالى : { وإذ نجيناكم }.
وأبلغ منه قوله تعالى : {وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} فقال تعالى لهم مع أنهم لم يعاصروا موسى : {لعلكم تهتدون} .
وانظر قوله تعالى : {وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} مع أن الذين قالوا ذلك أسلافهم وأسلافهم هم الذين أخذتهم الصاعقة. فتأمل كيف جاء الخطاب ، وهذه لغة القرآن . يوضحه قوله تعالى : {يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} فخاطبهم سبحانه بقوله : {فقد سألوا موسى أكبر} فإذا قيل يُفهم من السياق أو المعنى العام أن المراد أوائلهم الذين عاصروا موسى قيل : كذلك الرسول المذكور في آيات الدخان إنما جاء أسلافهم وهم تبع لهم .
والذين أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون هم الأسلاف ولم يمنع مجيء الخطاب لهؤلاء هكذا ولا أنكروه .
وانظر قوله تعالى : {ثم اتخذتم العجل} وهذا المعنى كثير في سورة البقرة وغيرها من سُوَرِ القرآن مثل قوله تعالى : {ولقدجاءكم موسى بالبينات} يعني أن الله سبحانه يخاطب بكلماته المعاصرين والمراد هم وأسلافهم .
فذِكر الرسول في آية الدخان لم يُشكل على أحد فَهْم المراد منها وأن هذا الخطاب تخاطب به عموم الأمة الذين سمعوا الرسول والذين جاءوا بعد موته إلى يوم القيامة .
لكن اللحيدي يفهم النصوص على مقتضى ادّعائه ولا يلوي على شيء غير مراده ، ولذلك يقول : (إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا نبي بعدي) يخالف آية سورة الدخان مخالفة ظاهرة ) يعني : ( وقد جاءهم رسول مبين) .(1/11)
ويقول في حديث : ( لا نبي بعدي ) (ليس فيه ذكر لنفي أن يُرْسَل بعده رسول إنما هو دليل على نفي النبوة ) وقال : ( ولا يستثنى من هذا النفي العام إلا المبشرات وهي الرؤيا ) . ص(27) (وجوب الاعتزال) .
لقد جعل اللحيدي الرؤيا دليلاً على الرسول لأجل أنها جزء من أجزاء النبوة ، وأما زعمه أن نفي النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاينفي أن يُرْسَل بعده رسولٌ فهو هَذَيان وتخليط يليق به إذِ الرسول لايكون رسولاً إلا بالنبوة أولاً ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نبي بعدي ) . الذي معناه من باب أولى لا رسول بعده فالرسالة نبوّة وزيادة ولا تكون الرسالة إلا بالنبوة وأما النبوة فلا تستلزم الرسالة كما جرى في بني إسرائيل . وهذا ظاهر .
والمبشرات التي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفسّرها بالرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له لايقول إنها رسالة أو أن صاحبها رسولٌ إلا جاهل ضال فهي مقيّدة بهذا الاسم (مبشرات) ومُفَسَّرة بالرؤيا الصالحة وماعدا هذا فهذيان أطلق فيه اللحيدي قلمه ولسانه .(1/12)
وذكر اللحيدي في ص (27) أن الجهمية ظنوا أن الضمير في محدَث(1)يعود إلى القرآن قال : ( وليس كما ظنوا بل يعود إلى ذكر هؤلاء ) يريد الذين تظهر فيهم آية الدخان الذي هو دخان البترول كما زعم وأن الذكر المحدث هو الدخان ومهدويّته المزعومة. والجهمية واللحيدي ضلوا في معنى ( محدَث) والكل قَسَرَ معناها على مقتضى نِحلته وليس معناها على زعمهم وقدْ بيّن ذلك العلماء، قبل أن يولد اللحيدي بردّهم على الجهمية وأن المعنى حديث عهد فهو محدث من حيث أن الله سبحانه تكلم به في ذلك الوقت وأنزله في ذلك الوقت فلا علاقة له بتخريف وتحريف اللحيدي لكن هو شارك الجهمية بالفهم الفاسد والرأي الكاسد ، ولاينافي هذا كوْن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ قبل ذلك فجبريل يسمعه من الله وينزل به ويزعم اللحيدي في ص (140) من كتابه ( وجوب الاعتزال) ( أن المهدي رسول الله وأنه سيتلقى الوحي من الله تعالى). وماهو إلا دجّال ، يقول : (فسنّة الرسل أن يوحى إليهم ولا تبديل لهذه السنة) .
فيقال : المهدي رجل صالح ودعوى أنه يوحى إليه هي دعوى أنه نبي ، واللحيدي يجعل المهدي نبياً رسولاً ويدّعي ذلك لنفسه وقد كذب ، ولا شك أن دعْوى النبوة أو الرسالة بأيِّ وصْفٍ بعد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كُفر .
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} وهذا من أعظم الكفر ونبرأ لى الله من هذه الاعتقادات الكفرية الضالة المضلة {إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون} وهنا أنقل بعض ماذكره ابن القيم في مدارج السالكين عن أقسام الوحي ليتميز الحق من الباطل وأنه حتى المحدَّث لايكون في هذه الأمة سوى عمر فضلاً عن النبي وفضلاً عن الرسول .
__________
(1) في قوله تعالى : { وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } الآية .(1/13)
قال ابن القيم : وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول : جَزَمَ(1)بأنهم كائنون في الأمم قبلنا وعَلّق وجودهم في هذه الأمة بـ (إن) الشرطية مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته . انتهى .
ذكر هذا الكلام رحمه الله على حديث (إنه كان في الأمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب) فانظر قول الشيخ : لاحتياج الأمم قبلنا إليهم [ يعني المحدَّثين ] واسْتغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته .
ثم قال شيخ الإسلام : فلم يُحْوِج الله الأمة بعده إلى محدَّث ولا مُلهم ولا صاحب كشف ولا منام ، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها . انتهى .(2)
وقال ابن القيم بعد كلام شيخه : وكان هذا المحدَّث يعرض مايُحَدَّث به على ماجاء به الرسول فإن وافقه قَبِلَه وإلا رَدّه . إنتهى.
تأمل كيف أن عمر رضي الله عنه المحدَّث الملهم يعرض مايُحَدَّث به على ماجاء به الرسول إلى آخره تعلم أن الأمر شديد وخطير ليس دعاوٍ تُدَّعى وتلفيقات تُلفّق. ولذلك قال الشيخ : وأما مايقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات ( حدثني قلبي عن ربي) فصحيح أن قلبه حَدَّثه ولكن عَمَّن ؟ عن شيطانه أوعن ربه ؟ فإذا قال : (حدثني قلبي عن ربي ) كان مُسْنداً الحديث إلى من لم يعلم أنه حَدّثه به . وذلك كذب.
__________
(1) يعني جَزَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الحديث .
(2) مدراج السالكين 1/39 .(1/14)
وقال : ومحدَّث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا تَفَوَّهَ به يوماً من الدهر . وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك ، بل كتب كاتبه يوماً : (هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) فقال : ( أمحه واكتب : هذا مارأى عمر بن الخطاب فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن عمر والله ورسوله منه بريء ) . وقال في الكلالة : (أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ) فهذا قول المحدَّث بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت ترى الاتحادي والحلوي والإباحي الشّطّاح والسّماعي مجاهر بالقِحَة والفِرْية يقول : ( حدثني قلبي عن ربي ) فانظر إلى مابين القائلَيْن والمرتبتيْن والقولين ولحالين وأعط كل ذي حق حقه ولا تجعل الزغل والخالص شيئاً واحداً . إنتهى كلامه ـ رحمه الله ـ .
فإذا كان هذا حال عمر رضي الله عنه والصديق رضي الله عنه يقول : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم. أوكما قال فما بال هذا اللحيدي يتجرأ على كتاب الله وعلى كلام رسول الله وعلى الحوادث والمنامات ويجعل ذلك كله يصبّ في قالب دعْواه الكاذبة الزائفة ، نَعَمْ ؛ الأمر قدْ لُبّس عليه وتَوَهّمه لكن لا عذر له في ذلك فعلى تقدير أنه توَهّم أن دخان بترول الكويت هو المذكور فكيف يَدّعي ويزعم أن معنى قوله تعالى : {وقد جاءهم رسول مبين} أنه لابد من بعث رسول وأن المهدي رسول يوحى إليه وأنه هو المهدي .
إن الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وكل بلية دون ما أتى به هذا الزائغ المفتون ! فتأمل وإذا كان قد تبين أن ليس في الأمة محدَّث غير عمر مع أن المحدَّث هو الذي يُحَدَّث في سِرّه وقلبه بالشيء فيكون كما يحدَّث به، هكذا ذكر العلماء ؛ ولا يُقال إنه يوحى إليه فضلاً عن أن يقال : إنه نبي أو رسول .(1/15)
ثم إنه معلوم أن ادّعاء الرسالة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر وهذا اللحيدي يدّعي ذلك . قال تعالى : {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } الآية .
يقول في بعض مذكراته وهي بلا عنوان : قال تعالى عن بشارة عيسى بالنبي والمهدي : (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) قال : ( فكما اشترك النبي والمهدي وتوافقا بصفة الإرسال توافقا كذلك بصفة الحمد ) .
لقد كذب الدجال إذْ كيف جَعَلَ نفسهُ موافقاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بصفة الإرسال ؟ إن هذا لَكُفْرٌ مبين . وهو المستحق لبالغ الذم لا الحمد.
ويقول عن الدخان المنبعث من آبار البترول في الكويت على يد عسْكر صدام العراق ( هو الدخان المذكور في سورة الدخان وأن الرسول المشار إليه هناك هو المهدي ) يعني نفسه أخزاه الله ، وقد كذب وافترى ، قال تعالى : {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين }.
ولما كان أصل البناء فاسداً تفرّع منه الفساد فاللحيدي يقول في ص (29) من كتابه (بيان وجوب الاعتزال في آخر الزمان إلى أن يمكَّن المهدي خليفة الرحمن ) . ( وبالعودة إلى الكلام على آيات سورة الدخان فأقول : كل من قال من الصحابة أن تأويلها آخر الزمان يلزمه على هذا اعتقاد وجود رسول آخر الزمان فإن الآيات صريحة في هذا ) .(1/16)
فيقال له : هذا الإلزام باطل فنحن نقول في هذا الزمان : جاءنا رسول وأتانا رسول ، ويقوله مَنْ قبلنا من الأمة، كذلك مَنْ بعدنا إلى يوم القيامة، بل وفي القيامة نُسأل حيث يقال لنا : { يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } فأنظر الجواب : ( قالوا بلى ) فهل يقول اللحيدي : إن الذين يقولون : (بلى) هم الذين خاطبتهم الرُّسُل على الحضور والمعاصرة وبقية الجن والإنس الذين لم يُعاصِروا الرُّسُل لايجيبون بهذا الجواب ونحن معهم حيث لم نَرَ الرسول ؟!
فتبين بهذا أن الخطاب مُتَوَجّه في سورة الدخان لِمُعاصري آية الدخان المشاهدة الكائنة من أشراط الساعة التي أنزلت آياتها المتلوّة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته في أول الأمة، والأمر بهذا وأضح لاشبهة فيه .
وماظننتُ أنه يشتبه على أحد غير أن زماننا هذا زمان عجائب وغرائب .
ثم قال اللحيدي بعد الكلام السابق : ( وأما على قول ابن مسعود فلا إشكال عنده فالرسول يكون عندها هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم أجد حسب علمي لمن قال من الصحابة أن آيات سورة الدخان تأويلها آخر الزمان مخرجاً من هذا الإشكال الوارد على هذا الاعتقاد إلا لترجمان القرآن العالِم في تأويله ابن عباس رضي الله عنهما.
قال سفيان بن عيينة في جامعه : عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ : {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدَّث} ثم ذكر الحديث الذي في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ). انتهى .(1/17)
يُريد اللحيدي أنه لا إشكال في معنى آية الدخان إذا كان الأمر كما قال ابن مسعود يعني أن الدخان هو نتيجة ما أصاب قريشاً من الجهد والجوع حيث صار يرى أحدهم ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان، ومراد اللحيدي بعدم الإشكال في معنى الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بين أظهر القوم فلا إشكال في قوله تعالى : {وقد جاءهم رسول مبين} أما وبما أن تأويلها في آخر الزمان وهو الصحيح وأن الدخان كما يُقرر هو ويعتقد هو دخان بترول الكويت أيام هجوم جند العراق عليها فلا يستقيم المعنى عنده ويصح إلا ببعث رسول لأهل الكويت يعاصرهم ، فهو الرسول إذاً ! والآية لا إشكال فيها فهذه لغة القرآن وانظر إلى قوله تعالى : {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون } .
يقول تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم} وكم بين المخاطبين ورسلهم ولم يمنع ذلك .
ثم قال اللحيدي : ( وعلى قراءة ابن عباس لآية سورة الحج {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا مُحَدَّث} فإنه كان فيمن سبق يُرسَل المحدَّث وليس بنبي ، وقد جاء عن ابن عباس وغيره أن ما كان فيمن سبق سيكون في هذه الأمة مثله فصحّ تخريج اختيار ابن عباس أن الدخان كائن آخر الزمان على قراءته بأن تأويل آيات سورة الدخان إنما يقع آخر الزمان وأن الرسول المذكور في الآيات هو المهدي ) . ص (30) وقال : ( لا يمكن أن يكون هذا الرسول إلا المهدي ) .
أقول : لقد شَبّه اللحيدي بِشُبَه واغْتَرَّ به من اغتر فلابد من كشف شُبَهِه وبيان بطلانها بمعونة الله لكيما يعلم هو ومَن اغترّ به أن الشيطان قد أضَلّه ولبّس عليه . فيقال له هنا :
أولاً : جاء القرآن بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ، كذلك جاءت السنة بأنه لا نبي بعده .(1/18)
ثانياً : المحدَّث ليس برسول ، والمعنى على هذه القراءة أن المحدَّث الذي يقرأ لنفسه لا رسولاً إلى غيره يلقي الشيطان في قراءته كما يُلقي في قراءة الرسول والنبي ولايعني هذا بوجه من الوجوه أن المحدَّث رسول ، وهذا عمر رضي الله ثبت بنص الرسول أنه محدَّث فهل ادّعى أو ادّعى أحد فيه أنه رسول ؟(1).
ثالثاً : إذا كان النبي يوحى إليه ولا يؤمر بالتبليغ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً فما بالك بالمحدَّث على تقدير وجوده تثبت له الرسالة وأنه رسول ؟ فالبناء منتقض من الوجهين : وجه تفسير الآية بالخطأ والغلط .
والوجه الثاني : فساد المعنى المتعوب عليه وياخيبة المسعى ويافرحة لم تتم !!.
رابعاً : المهدي أجَلّ من أن يدّعي هذه الدعوى بل إن وصفه بذلك واعتقاد أنه رسول طعن فيه ومخالفة له وحاشاه أن يدّعي هذه الدعوى الباطلة بل ندين الله أنه يعادي من يعتقد فيه ذلك ويتبرأ منه، يوضح ذلك مايأتي :
__________
(1) أي أن الرسول إذا قرأ والنبي إذا قرأ والمحدَّث إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءتهم فأين في الآية مايدل على أن النبي رسولٌ فضلاً عن ن تدل على أن المحدَّث رسول ؟ فالكلام على إلقاء الشيطان حين التلاوة . فالنبي والمحدّث يشتركان مع الرسول في أن الجميع إذا تلَوْا ألقى الشيطان في تلاوتهم ، ولا يعني هذا أن النبي رسولٌ ولا أن المحدَّث رسول بل معنى الآية أنه كما أن الرسول إذا قرأ ألْقى الشيطان في قراءته فينسخ الله مايلقي الشيطان، فكذلك النبي الذي ليس برسول إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته ، وكذلك المحدَّث على هذه القراءة إذا قرأ ألْقى الشيطان في قراءته ولايعني هذا أنه نبي فضلاً عن أن يكون رسولاً .(1/19)
خامساً : أخبار المهدي مُدَوّنة في كتب أهل السنة مُجَلّية لأمره موضحة لشأنه وأنه رجل صالح ينصر الله به الدين، واعتقاد رسول بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين كفر ، والمهدي الحق يتبرأ ممن يدّعي إرسال رسول بعد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ويُكفِّره .
سادساً : قد تبين فيما تقدم أن المراد بقوله تعالى في آيات سورة الدخان {وقد جاءهم رسول مبين} أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال تعالى : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} . فهل المراد بقوله تعالى (جاءكم) الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن هذا للأمة كلها إلى قيام الساعة ؟ فكذلك آية الدخان والمعنى صحيح .
وانظر قوله تعالى : {ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} فهي مثل ذكر مجيء الرسول في آية الدخان حيث بَيْنَ بني إسرائيل وبين نبيهم موسى القرون الطويلة ومامنع ذلك من خطابهم بهذه الصيغة .
وفي حديث البراء بن عازب الذي في مسند أحمد وغيره : (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، وفيه أنه يأتيه ملكان فيقولان له في قبره : ماهذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول : هو محمد رسول الله ، هذا المؤمن ، والكافر يقال له مثل ذلك.
فانظر السؤال في القبر حيث يقال : بُعِثَ فيكم ، وهذا عام للأمة أولها وآخرها .
ومثله في مسند أحمد وصحيح أبي حاتم حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت إذا وضع في قبره ، وفيه : (أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماتقول فيه وما تشهد عليه ؟ ) .
ويقال هنا كذلك : الرجل الذي كان فيكم ، بحيث أن هذا يحصل اليوم وفيما مضى وفي المستقبل إلى يوم القيامة .(1/20)
والمسألة لا تحتاج إلى هذا كله ولكنني علمتُ أنها راجت على من صَدّق اللحيدي ، وانظر قوله تعالى : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} ومثله قوله تعالى : {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فهذا في الآيتين يكون يوم القيامة ومع هذا يقول تعالى : {وجئنا بك } في صيغة الماضي .
وقال اللحيدي في قوله تعالى : {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} .
قال : { إن الله تعالى ذكر في كتابه عن القرى أنه لايهلكها إذا أراد ذلك من دون أن يرسل إليهم رسولاً يذكّرهم وأن تلك سنته في جميع القرى من غير استثناء) ص (30) .
مازال اللحيدي يفسّر آيات القرآن بفهمه الفاسد وهذا ضلال مبين؛ فالآية لا تدل على ما يزعم فإن المراد بذلك إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة أُمِّ القرى كما قال تعالى : {لتنذر أم القرى ومن حولها} وقال تعالى : {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}.
ومن زعم أن الله يرسل رسولا بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء المهدي أو غيره فهو كافر ، حتى عيسى عليه السلام حين نزوله من السماء لا يقال : إنه مرسل إلينا حيث هو تابع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يحكم بشرعه .
والسلف فسَّروا الآيات كلها وبيّنوا معانيها ولم يقولوا ماقال اللحيدي . ومن شاء فلينظر تفاسير السلف إن كان في شك .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أدّى معاني القرآن إلى الصحابة كما أدّى إليهم ألفاظه، وكان اهتمامهم بالمعاني أعظم فهل ذكروا ما قاله اللحيدي؟! لقد لُبِّس على هذا الرجل ووقع في أمر خطير .(1/21)
وها هوذا يؤكِّد أنَّ الرسول يكون في آخر الزمان حيث يقول:(1)(إذا كيف يمكن اعتبار الدخان في آخر الزمان ومع هذا يؤمر عليه السلام بارتقاب خروجه ) يريد قوله تعالى : {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} واللحيدي كأنه لايعرف لغةَ القرآن فإن قوله تعالى : {فارتقب} لايلزم منها وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان الأمر كذلك للزم أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رأى أصحاب الفيل حيث قال تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} مع أنَّ الحادثة كانت عام مولده.
وذكر أيضاً قوله تعالى : {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين } وقوله تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} يريد بهذا أنه لابد أن يبعث النبي فيحضر ويشهد .
وهنا يقال : قد أرى الله نبيَّه بطشه بأعدائه يوم بدر بعد انتظاره، فذلك من أيام الله ثم إنه لايلزم بقائه ووجوده فهذا وعيد قابل أن يقع تأويله في الدنيا وقابل كذلك أن يكون تأويله في الآخرة. والمعنى صحيح في الانتظار في الحاليْن حال حياته - صلى الله عليه وسلم - وحال بعثه مع الناس يوم القيامة ، أما غير هذا فضلال مبين ومعنىً فاسد يلزم منه أن تكون الأمة مجتمعة على ضلالة في تفسير القرآن وفهم معانيه كما أن هذا وعيد ليس من شرط تحقّقه وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من شرطه وقوعه في الدنيا .
واللحيدي يريد بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوف يعود قبل القيامة كما سيأتي بيانه ، ولقد ضلَّ اللحيدي في نفسه وأضلّ غيره في آيات سورة الدخان وفسّر قوله تعالى : {وجاءهم رسول مبين} بفهمه القاصر .
__________
(1) في ص (31) من كتابه (وجوب الاعتزال ..) .(1/22)
ولزيادة البيان فإن الله سبحانه يقول : {يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ومعلوم أن هذا الخطاب لايخص من عاصروا الرُّسُل فكذلك آية الدخان، وقد تقدمت أمثلة عديدة توضح الأمر .
آيات وأحاديث يفسّرها اللحيدي برأيه
وعلى مقتضى مزاعمه غير ماتقدم
قال اللحيدي في قوله تعالى : {إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه} قال : ( والمراد بالبينة هنا لا عموم الكتاب بل خصوص الأجل المسمى والوعد الحق وهو مالم يأت تأويله بعد ) . (ص32) وجوب الاعتزال .
ومناسبة نزول الآيات وسببها معروف ذَكَرَهُ أهل التفسير وهو ماكان يعانيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي خوفاً من ضياعه ونسيانه فكان يحرك لسانه من أجل ذلك فأنزل الله عليه : {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الآيات . وراجع كتب التفسير إن شئت .
واللحيدي يصرف معنى {ثم إن علينا بيانه} لمهدويته قسْراً !!.
فقصة مناسبة نزول الآيات مارواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم رحمهم الله وأن الآيات تعليم من الله عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية تلقيه الوحي من الملك ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة فكان يحرّك شفتيه.
الحديث وفي آخره لفظ البخاري : ( فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما أقرأه ) .(1/23)
فهذا معنى قوله تعالى : {ثم إن علينا بيانه} وقد جاء الوعيد الشديد على من قال بالقرآن برأيه مما أخاف السلف لِتقواهم وجَرَّأ اللحيدي لضلاله، وذكر أيضاً في قوله تعالى : {ألم . غلبت الروم} (أنها تعتبر أصْرح وماورد عنهم في القرآن وفيه وعيد بهزيمتهم في سورة سمّيت باسمهم وهي : سورة الروم ، وقد أتى الله سبحانه على ذكرهم في هذه السورة وأخبر عن انتصارهم على صدام العراق وجيشه، صدام الظلمة كما نصّ على ذلك خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ذو مخبر في التصالح مع الروم) ، ثم يقول : (وأدنى الأرض يريد طرف الجزيرة العربية من الخليج العربي وهي أرض أهل الكويت). إلى آخر هذيانه(1).
فاللحيدي يقول هذا الكلام في معنى الآية مع أنها مضت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما كانت الحرب بين فارس والروم وهي التي خاطر عليها أبو بكر رضي الله عنه قريش ، ومُضيّ الروم مخرج في الصحيحين واللحيدي يقول برأيه وهواه . فأين هذا من هذا ؟!! .
وكثيراً مايفسِّر اللحيدي القرآن برأيه وهواه، فمن ذلك ما قاله في قوله تعالى : {أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه} قال : ( يتلوه : يتبعه، والشاهد هنا المراد به المهدي فهو من ذرية رسول الله، ومن صفاته أن الله تعالى يؤتيه علم الكتاب كما ورد ذكر هذا في قوله تعالى : {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} انتهى . أقول: كذب الضال في الآيتين ، وياويله من الكذب على الله وعلى رسوله ، فالآية الأولى معناه القرآن بلّغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلّغه النبي إلى أمته ، أنظر تفسير ابن كثير ، وأما الآية الثانية فقد قال عنها ابن كثير : (ومَن عنده) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون محمداً - صلى الله عليه وسلم - ونعْته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء .
__________
(1) انظر كتابه ( وجوب الاعتزال ) ص : 60 .(1/24)
ويقول اللحيدي في قوله تعالى : {لتركبن طبقاً عن طبق} (وهذا يعود إلى هذا الجيل فهو الذي بلغ بعضهم فيه السماء).(1)
وليس هذا هو معنى الآية ولاتدل عليه بوجه من الوجوه بل معناها مارواه البخاري عن ابن عباس حالاً بعد حال، قال هذا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - .
ثم إن الذين صعدوا بعيداً عن الأرض لم يبلغوا السماء المبنية ولا مايقارنها ولو اقتربوا لرُموا بالشهب مع أنهم لايعرفونها ولايعترفون بها وإنما يعتقدون أن مافوق الأرض فضاءٌ لاينتهي ولا يُحَدّ لذلك بِحَدّ ، فيزعمون أن حَشْو هذا الفضاء مجرات وهو خيال تخيّلوه لا حقيقة له لأن السماء الدنيا محيطة بالأرض وقريبة جداً بالنسبة لهذيانهم ، فقد حَدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافتها بخمسمائة عام لسير الإبل، ومن عرف مايتكلمون به عن فضائهم اللا نهائي عرف عظم ضلالهم وإضلالهم حيث لايتفق على حسب نظرياتهم وجود سموات سبع يحيط بعضها ببعض بل ولا كرسي ولا عرش بل ولارب !!.
وفِكْرٌ بسيط في سنينهم الضوئية التي يزعمون أنهم يقيسون بها المسافات بين المجرات وما يتكلمون به من الأبعاد الخيالية يتبين منه أنهم في الغاية من الضلال والإضلال حيث قلّدهم العرب على عِماية.
وقد فسّر تلك الآية من الصحابة والتابعين مَن فسَّرها بأنه سماء بعد سماء فقولهم : (لتركبن يامحمد سماءً بعد سماء) يعنون بذلك ليلة الإسراء .
وقد ركب - صلى الله عليه وسلم - وسلم ليلة الإسراء سماء بعد سماء كما ورد في الأحاديث الصحيحة فسواء كان هذا هو معنى الآية أو الأول فهو على كل حال خلاف ماذهب إليه اللحيدي الضال، وكم هو جرئ على القرآن يفسّره برأيه وتبعاً لدعْواه الباطلة ، فالله المستعان .
ويقول في قوله تعالى : {يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} .
__________
(1) وجوب الاعتزال ، ص58 .(1/25)
يقول : (والسلطان هنا العلم)، وليس هو وحده الذي يقول هذا الخرص بل الكذب، وإنما يقوله كثيرون ممن تجرأوا على كلام الله وفسّروه على مقتضى فِتن الملاحدة، والكلام في هذا ليس هنا مكانه وإنما تأويل الآية يأتي يوم القيامة والسياق يدل عليه .
ومما يبين دجل أعداء الله الملاحدة الغربيين أن السماء الدنيا المبْنِيّة المحيطة بالأرض لايعرفونها ولم يقتربوا منها وغايتهم فضاء قريب ولذلك لاتجد لهذه السماء ذكراً في علومهم ونظرياتهم وإنما يتكلمون عن فضاء لاينتهي ، وقد قلّدهم عميان البصائر .
والمراد هنا أن مقلِّدة الملاحدة إذا قالوا : المراد بالسلطان هنا العلم يقال لهم : وأين النفاذ من أقطار السموات بل أين للملاحدة القرب من السموات بل أين لهم اعتقاد وجودها .
وهم يتكلمون عن فضاء لاحَدَّ له ولا نهاية والكون عندهم يتسع يُصرّحون بهذا وهو أبطل الباطل وأدْجل الدجل حيث معناه إنكار وجود السموات السبع والكرسي والعرش والجنة والملائكة بل وإنكار وجود الرب سبحانه وهذا هو مراد إبليس بهذه النظريات .
قال ابن كثير في الآية : أي لاتستطيعون هرباً من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لاتقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم أينما ذهبتهم أحيط بكم ، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب (إلا بسلطان) إلا بأمر الله . إنتهى .
واللحيدي من جملة مَنْ صدّقوا دَجَل الملاحدة في الوصول إلى القمر وقد ذكر ذلك في مواضع، وهم قد خدعوا العالم بأفلام صوّروها في مواضع مصبوغة بلون السماء ولون القمر، وقد فضحهم بلكسنج غربي منهم وهو له معرفةٌ بهذا الأمر وقد تحدَّاهم على ذلك، وقد ذكرتُ المباهلة في مواضع على مسألة وصول القمر ودوران الأرض.(1/26)
وقد بيّنت هذا الزيف في كتاب ( هداية الحيران في مسألة الدوران) وغيره والحمد لله ، وإنما المراد هنا بيان جرأة اللحيدي على القرآن ، وإلا فلا نشك ولله الحمد بثبات الأرض ولانشك بعدم وصول البشر إلى القمر وأنا أباهل على ذلك .
وقال اللحيدي في قوله تعالى : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} الآية برايه ، فزعم أن مَنِ اعتقد أن يأجوج ومأجوج هُمُ الذين ذُكروا في سورة الكهف أحياءً إلى وقتنا هذا وأنهم خلف السّد لا يتمكنون من تجاوزه أنهم سُذّج وأن اعتقادهم غريب وأن من اعتقد بوجود هؤلاء اليوم فلا شك أنه ليس في عداد العقلاء ، وزعم أن خروجهم قبل المهدي وقبل نزول عيسى عليه السلام وقال : وبهذا يصح أنهم الروم فهم الذين حُشروا من كل حَدَبٍ وصوب).(1)
وقال : (والصحيح أن المراد بيأجوج ومأجوج أمريكا ومن معها من اللفيف المجتمع لتحرير الكويت وطرْد صدام العراق).(2)
وليس اللحيدي وحده الذي يزعم خروج يأجوج ومأجوج لكن هو صَبّ قضيتهم بقالب مهدويته كعادته في آيات القرآن والأحاديث والمرئيات والحوادث وآثار الأنبياء المتقدمين ، فكل شيء ينطق ويشهد بمهدويته المزعومة !!، والمراد هنا أن يأجوج ومأجوج مازالوا خلف السّد وليس لهم خروج إلا بعد المهدي الحق وفي زمن عيسى عليه السلام، ولي كتاب في الرد على من زعم أنهم هذه الدول وهو بعنوان (إبطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج) .
ثم إنَّ اللحيدي ذكر آيات كثيرة يطول الكلام في إبطال تفسيره لها بأنها تصدّق دعواهُ فالحذر من خوضه في كلام الله وكلام رسوله ودعاويه الزائفة المزيَّفة .
__________
(1) كتاب ( وجوب الاعتزال ) ص 62-63 .
(2) المرجع السابق ، ص112 .(1/27)
وأما قوله تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فإن اللحيدي يقول فيها : (بلى وربي وهو شاهد بالحق على ذلك، وإياك أخي المؤمن أن تظن أن الضمير في (أنه) عائد للقرآن كتاب الله تعالى الحق لا بل يعود إلى بعث المهدي الحق).(1)
وقد بينت مراراً أن اللحيدي الضال يغصب كل شيء ليجاري دعواه الباطلة ويصدقها وأنه يفسّر القرآن ويتكلم في الأحاديث على هذا المقتضى ، ومعنى الآية ليس كما يقول هذا الضال .
قال ابن كثير : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدلائل خارجية (في الآفاق) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان ، قال مجاهد والحسن والسدي: وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حَلّت بهم نَصَرَ الله فيها محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه .(2)
والمراد أن الضمير في (أنه) يعود إلى القرآن لا إلى بعث المهدي كما يقول اللحيدي الضال ، ولقد كرّر ذكر هذه الآية في مواضع عديدة من كتبه يستشهد بها وهو الكذاب الأَشِر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والضمير عائد على القرآن كما قال تعالى : {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد . سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} الآية .(3)
وقال رحمه الله : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} أي أن القرآن حق، فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن وهو مثل مافعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر وغير يوم بدر. إلى آخره.(4)
__________
(1) الرؤى ، ص30 .
(2) تفسير ابن كثير 4/105 .
(3) الفتاوي 3/331 .
(4) مجموعة الفتاوى 15/73 .(1/28)
ولقد خاض في هذه الآية خاصة وغيرها من آيات القرآن كثير من المتأخرين على غير هدى من الله بل في ضلال مبين حيث يستدلون بها على علوم الملاحدة ونظرياتهم الباطلة، والموعد الله، فإن تفسير القرآن بما يُخالف ماتكلم به السلف يلزم منه أن الأمة كانت مجتمعه على ضلالة في تفسير القرآن ، والصحابة رضي الله عنهم علموا من نبيهم معاني كلام ربهم وانظر إلى مجاهد التابعي فهو يقول : عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقِفُهُ عند كل آية .
وفي نيّتي إن أعان الله أن أكتب مؤلفاً في الرد على من يدّعون إعجاز القرآن العلمي الذين يُصَرِّفونه على مقتضى مافُتح في هذا الزمان من علوم وكشوف مُضِلّة . فالله المستعان .
نقض دعوى اللحيدي عودة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قبل يوم القيامة
يقول اللحيدي في قوله تعالى : {والسماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع . إنه لقول فصل } (أي رجوع عيسى ومن معه وتصدع الأرض عن رسول الله ليتم الأمر المؤقت والوعد الحق الذي قال عنه: {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون}(1). انتهى .
أقول : كذب اللحيدي فليس هذا معنى الآيات وإنما المعنى رَجْع السماء بالمطر وصَدْع الأرض بالنبات، أما نزول عيسى عليه السلام فدليله في السنن الصحيحة فرجْعُ السماء بالمطر وصدع الأرض بالنبات، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسّدي وغير واحد.(2)
أما تصدّع الأرض عن رسول الله فِمنْ أبْيَن الكذب فليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خروج من قبره قبل يوم القيامة .
أما قوله تعالى : {فإما نرينك بعض الذي نعدهم} فقد أراه الله بعضه في بدر وغيرها ، ولقد ركب اللحيدي الأخطار في تأويله كلام الله برأيه وهذا والله عظيم .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص13 .
(2) انظر تفسير ابن كثير .(1/29)
ولذلك زعم عوْدة النبي آخر الزمان وأنه من الشهداء الذين يعودون قبل نهاية أمر الحياة الدنيا ليشهدوا على أممهم ويستدل على ذلك بقوله تعالى : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} وأمثالها من الآيات التي يأتي تأويلها يوم القيامة، وهذا مما لم تشك فيه الأمة بأنه في يوم القيامة .
ومِنْ قلة عقل اللحيدي أنه ذ كر مارواه ابن عباس حيث يقول : ـ رضي الله عنه ـ والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدّرة ومامعه غيري . قال : وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي قدمه بدرّته. قال : إذِ التَفتَ إليَّ فقال : يابن عباس هل تدري ماكان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ؟ قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم قال : فإني والله إنْ كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} فو الله إن كنتُ لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه للذي حملني على أن قلت ماقلت .
وبعد ذلك يقول اللحيدي : (رحم الله ابن الخطاب ولله درّه ما أصدق ظنه ، ألا يكفيهم إذا اجتمع تصديق المهدي وظن ابن الخطاب). إلى آخره .(1)
الذي قاله عمر ضد زعم اللحيدي تماماً لكن هو لا يشعر فعمر رضي الله عنه يقول : ( فإنه للّذي حملني على أنْ قلت ماقلت) فهو يُريد رضي الله عنه قوله لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه لم يمت .
فهو بنى هذا الظن على مقتضى قوله تعالى : {ويكون الرسول عليكم شهيدا} ثم تبين له بالآيات التي تلاها أبو بكر رضي الله عنه أنه ظنٌّ خاطيء .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص19 .(1/30)
وأن الرسول يكون شهيداً على أمته يوم القيامة ويُفسّر ذلك قوله تعالى : {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} وكل هذا يوم القيامة إلا أن يدّعي اللحيدي أن كل رسول رجع بعد موته لقومه ، لكن هو يقول :(إن الرسل كلها تعود قبل القيامة) ولولا من يغترّ به ما استحق الردّ !! ولذلك يقول : (وهذا الوعد الذي أُقِّت له عودة الرسل فيه يفرق بين الحق والباطل ويظهر دين الإسلام على سائر الأديان)(1)، ويذكر آيات ضِدّ مزاعمه كقوله تعالى : {إنا للنصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
يقال له : لقد نصر الله رسله على من عاداهم وكذّبهم كما ذكر الله قصة نوح وقومه وإبراهيم ولوط وهود وصالح وموسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فما هذا التلاعب بالقرآن وأصول الإيمان ؟ نعم نحن في زمن الغربة وظهور العجائب واللحيدي من جُملة هذه العجائب وياويْله من عواقب جرأته على كلام رب العالمين .
ولم أُرِدْ هنا إنكار ما آل إليه دين الإسلام من الغربة وحصول الكثير مما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا اسْتبعاد ظهور المهدي لكن المراد هنا بيان أن اللحيدي ادّعى دَعْوى عظيمة هو فيها كاذب، وقد بلغني أنه يدعو للمباهلة على صدق دعواه فَسَرّني ذلك ، ويأتي إن شاء الله فصل المباهلة ، لتبيان زيْفه وزيْغه كذلك .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص14 .(1/31)
ثم إنه يستدل على زعمه عودة الرسل في الدنيا بقوله تعالى : {وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت . ليوم الفصل } والآية ضده فالرسل عليهم السلام جُعِل لهم أجل ووقت كما أن أقوامهم كذلك وهذا يوم الفصل الذي هو يوم القيامة حيث يفصل الله بين العباد بالحق، وهذا ولله الحمد يعرفه كل أهل الإسلام لِعظم ظهوره وجلاء بيانه في كلام ربهم وكلام نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا العموم لايُستثنى منه أحد إلا عيسى عليهم السلام لكن هذا لايجادل فيه اللحيدي ، والمراد أن عيسى ينزل مع دخوله في التوقيت مع الرسل ليوم القيامة ، ويسْتدل بكوْن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرسل للناس كافة وهذا حاصل دون زعم حياته قبل القيامة .
ومن تخليطه وتلْبيسه يزعم أن قوله تعالى : {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُرد إلى الدنيا ليرى عمل أمته، وهذا من أبطل الباطل ، والمراد بالمعاد القيامة ، قال ابن كثير : أي إلى يوم القيامة .
وقد روى البخاري عن ابن عباس ( لرادك إلى معاد ) إلى مكة ولا تنافي هنا ولا تعارض فقد رَدّه لله إلى مكة في حياته ويرده في القيامة .
ويقول في تعبيره بعض المرئيات : (ومن ذلك نزول وعودة رسل الله بعد المهدي ومنهم المصطفى عليه السلام ).(1)إنتهى .
من زعم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوغيره من الرسل سوى عيسى عليه السلام عودة قبل القيامة فهو كاذب ولاحجة معه إلا الفهم الفاسد والرأي الكاسد .
ولذلك سُرّ اللحيدي بما ذكره ابن كثير في تفسيره في قوله تعالى: (لرادك إلى معاد) أن قتادة قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها.
فيقال له : ابن عباس لم يكتمها لكن قتادة لم يبلغه قول ابن عباس فيها وقد تقدم قول ابن عباس الذي في الصحيح أنه إلى مكة، وقد رَدّه الله إليها عام الفتح .
__________
(1) انظر كتابه (الرؤى) ، ص72 .(1/32)
كذلك روى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : (لرادك إلى الجنة) وقد جمع بين هذه الأقوال ابن كثير فقال : ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسّر ذلك تارة برجوعه إلى مكة وهو الفتح وتارة بالموت وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن ) إنتهى .(1)
فيقال : ابن عباس لم يكتم معنى الآية وإنما لم يبلغ قتادة قوله فيها وهذا ظاهر .
وأما مارواه ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القاري أنه قال في قوله تعالى : {لرادك إلى معاد} قال : إلى بيت المقدس، قال ابن كثير بعد أن أوْرده : وهذا والله أعلم يرجع إلى قول من فسّر ذلك بيوم القيامة لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب. إنتهى .
بهذا يتبين أن ليس في الآية مايدل على عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحياة قبل القيامة فتفسيرها على كل هذه الوجوه لا يُشير ولا أدنى إشارة إلى مازعمه اللحيدي وانفرد به .
وذكر اللحيدي حديث : ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة) وفي بعض ألفاظه : ( ألا إنه خليفتي من بعدي) وكما تعهد على نفسه أن يغصب معاني القرآن والحديث والحوادث والرؤى لتأتي على مراده الرّدي المردي فقد زعم أن الخليفة هو الذي يخلف من سبقه على الفور حتى يصح أن يكون خليفة، ومراده بهذا تأكيد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحياة في هذه الأزمان ثم يخلفه عيسى عليه السلام، وهذا من جملة هذّيانه، وقطْعاً يصحّ أن يُسمى عيسى عليه السلام خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما صحت تسمية الخلفاء الراشدين مع أن المباشر لرسول الله هو الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وبعض العلماء ومنهم سفيان الثوري يجعلون الخلفاء الراشدين خمسة حيث يعدون معهم عمر بن عبدالعزيز رحمه الله .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/403 .(1/33)
وكون عيسى عليه السلام خليفة رسول الله لا يلزم منه وجود النبي ثم موته ثم يخلفه عيسى كما يزعم فهو خليفته على دينه وعلى أمته حيث يطبق شريعته دون أنْ يأت بجديد ، وهذا لا لبس فيه بحمد الله عز وجل.
ولو أن ملكاً من الملوك أُزيل عن ملكه وله ولد ثم تولى الملك ملوك أُخر وتعاقبوا عليه ثم عاد الملك لولد الملِك الأول الذي أُخِذَ مِنْه ملكه لصَحّ أن يقال للولد : خليفة فلان يعني الملِك الأول ، فكذلك عيسى عليه السلام هو خليفة رسول الله مع أن بينهما القرون الطويلة.
كذلك زعم اللحيدي أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا أولى الناس بعيسى في الأولى والآخرة، فليس بيني وبينه نبي ) أن المعنى إنما يستقيم ويتوجّه إذا كان مراده هنا بالأولى بعثه بالرسالة أول الأمر وبالثانية بعثه بالشهادة مرة أخرى . وهذا كذب على رسول الله بل مراده - صلى الله عليه وسلم - الدنيا والآخرة ، وهذه خاصية لعيسى عليه السلام من أسبابها أنه بَشَّر برسول الله وصرّح باسمه وصفاته أعظم ممن جاء قبله من الأنبياء لأنه لانبي بينهما ، ومنها أنه عليه السلام يخلفه في أمته ويحكم بشرعه حتى أنه يُعَدُّ من هذا الوجه من أمة محمد ، ومنها أنه من أولي العزم الخمسة ، فهذه خصائص توجب قرباً خاصاً ومودة خاصة وولاية خاصة لعيسى عليه السلام .
ولما خاف اللحيدي انكشاف هذا التلاعب قال : (والرسول - صلى الله عليه وسلم - متوسِّع جداً بالتورية في هذا الأمر) .(1)
__________
(1) رفع الالتباس ، ص21 .(1/34)
يقصد اللحيدي أنه هو الذي يحلّ الرموز والطلاسم التي قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تعرفها الأمة حتى جاء هو يحلّها ويبينها للأمة، ومن تتبع كلامه في نصوص الكتاب والسنة وكلام الأنبياء السابقين بل وفي الحوادث من الزلازل والحروب وحتى المنامات عرف مضمون مراده من كون النبي بزعمه متوسّع بالتورية في هذا الأمر ، وليس الأمر كما زعم بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن ما أُرسل به غاية البيان، أما الذي ذكره العلماء بهدْيه وسيرته الأمناء على دينه أنه يُوَرّي أحياناً في توجهه لجهة يغزوها فقد يُوَرّي بما يُوهم غيرها ، وهذا شيء غير مانحن فيه .
والمراد أن اللحيدي قال ما قال في شأن التورية لأن المتتبع لكلامه يجده يترك الواضحات البينات ويتبع ماتشابه وهذا هو شأن أهل الزيغ الذين حُذرنا عنهم ، بل إن الواضحات يتصرف بها ويتلاعب لتشهد لدعْواه الباطلة !!.
ولذلك وَجَرْياً مع تلاعبه بالنصوص الواضحة يقول : (روى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا) .
يقول : (يريد آخرة عمر الدنيا ففيها يعزّ الدين بسلطان أهل البيت وتكون لهم الرفعة والنوال) .(1)
تأمل هذا التلاعب وقل لي بربك من يفهم مافهمه اللحيدي واستقلّ بفهمه دون الأمة إلا من هو على نحلته ، والإسماعيلية سبقوا اللحيدي بمثل هذه الفهوم العوجاء الزائفة ، فتجد من تأويلهم للنصوص مايدعو للعجب وكأنهم يشترطون عليك أن تنخلع من عقلك ودينك لكي تسلك طريق الموافقين لا المخالفين .
إذاً لابد أن نستحدث فهماً جديداً غير فهم الصحابة وسلف الأمة لنعرف ديننا من مشكاة اللحيدي.
واللحيدي يستدل على زعمه في الحديث المتقدم بقول عكرمة : لما نزلت هذه الآية : { وللآخرة خير لك من الأولى } قال العباس: لايدع الله نبيه فيكم إلا قليلاً لما هو خير له .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص22 .(1/35)
أقول لقد حمى الله عم رسوله وحمى مولى ابنه عكرمة عن فهمك الساقط فهذا حجة عليك لا لك فبيّن العباس رضي الله عنه مابيّنه القرآن أن الله يريح نبيه من عناء الدنيا فيقبضه إلى رَوْحِهِ وجنته وملئه الأعلى ، فقول العباس : (إلا قليلا) هو مدة مابقي من حياته - صلى الله عليه وسلم - حين قال العباس هذا الكلام ، وقوله : (لما هو خير منه) هو الرفيق الأعلى .
ثم قال اللحيدي زاعماً تصحيح رأيه : وقال تعالى : {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} يقول : يُعَرِّض بالوعد المنتظر. يريد مهدويته .
أقول : مناسبة نزول الآية يُعين على فهم المعنى المراد منها بل ويُعَيّن المعنى ، وكان لأرباب التفسير المتقدمين عناية فائقة بهذا لِعظيم أهميته لمعرفة المراد من كلام الله ، وقد كان الصحابة في الغاية بهذا المضمار لأنهم شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وعايشوه معايشة .
والمراد هنا أن الآية إنما نزلت بمناسبة ماجرى عقيب عزوة بدر في شأن أخذ الفداء من الأسرى، ولذلك يقول تعالى : {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وذلك حيث أشار أبو بكر رضي الله عنه بقبول الفداء منهم ولم يكن عمر رضي الله عنه يرى هذا الرأي بل يرى ضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته ، فهذا عتاب من الله لنبيه ولأصحابه لقبولهم الفداء من الأسرى ماداموا في حال الضعف وعدوهم في حال القوة لذلك قال تعالى : {حتى يثخن في الأرض}.
والمراد أن هذه مناسبة نزول الآية وهذا معناها الواضح في الآية فعرض الدنيا هو الفداء والذي أراد الله لهم الإعراض عن هذا العرض رجاء ثواب الآخرة ، وذلك في الجنة التي اختارها لهم وقد مَنّ عليهم بثواب الدنيا والآخرة ، فأين هذا من فهم اللحيدي الذي يتأول القرآن على مراده .(1/36)
ومِنْ لَبْس اللحيدي وتلبيسه أن زعم أن معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدم (إنا أهل بيت اختار الله لنا لآخرة على الدنيا) أن معناه اختيار رجوع النبي قبل القيامة وأنه مثل معنى قوله تعالى : {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهم وليدخلوا المسجد} الآية ومثل قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} .
ووعد الآخرة هنا المراد به الكرّة الأخرى أي إذا أفسدتم الكرّة الثانية ، ذكره ابن كثير في تفسيره .
وقد قال تعالى عن الإفسادة الأولى : {فإذا جاء وعد أولاهما} والمراد أن الخطاب مع بني إسرائيل وقوله : {بعثنا عليكم عباداً لنا} الآية اختلف المفسرون في تعيينهم وهذا لايهمنا هنا إنما المراد أن معنى الآخرة في الآية الأولى هو الكرّة الأخرى في الدنيا لفساد بني إسرائيل وفي الآية الثانية قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : {جئنا بكم لفيفا} جميعاً ، وعلى كل حال فليس في الآيات مايدل على رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل القيامة ، وكذب اللحيدي وافترى .
ثم ذكر اللحيدي الحديث الذي فيه تخيير الله لنبيه فاختار لقاء ربه وليس فيه حجة لعودته - صلى الله عليه وسلم - إلى الدنيا .
وأورد حديثاً آخر : (خُيِّرت بين أن أبقى حتى أرى مايفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل)(1).
وليس في هذا مايشير إلى مازعمه اللحيدي بل ضده .
وذكر لفظاً للحديث في سنن الدارمي فيه : (أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة) .
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - اختار لقاء ربه والجنة ولم يخلّد في الدنيا ولا اختار البقاء فيها فمن أين أتى اللحيدي برجوعه إلى الدنيا إلا من هذياناته التي أطلقها دون علم ولا دراية ؟ بل بهوى جارف .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص22 .(1/37)
ثم ذكر اللحيدي حديث عبدالله بن بسر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (ليدركن الدجال من رآني) وحديث أبي عبيدة : سمعت النبي يقول: (لعله سيدركه من قد رآني وسمع كلامي) .
يقول اللحيدي : (المراد بهذه الأحاديث الإشارة إلى عودته عليه السلام آخر الزمان وأنه هو الذي سيدرك الدجال ويقتله مع عيسى ويكون على هذا من يدرك الدجال سيتمكن من إدراك رسول الله بالرؤية والسماع وهذا هو المتبادر إلى الذهن عند سماع لفظ الحديث).
اللحيدي يعتمد في فهم القرآن والحديث على عقله القاصر وقد وصل إلى نتائج سوء من جرّاء ذلك ، وقليل رجوعه إلى كلام السلف بل في مواضع يطعن على رواة الحديث وشرّاحه ويتنقص فهمهم ومفسّري القرآن من السلف وهو الناقص القاصر الزائف. ولايُفهم من هذه الأحاديث إلا تقريب أمر الدجال لتحذر الأمة شرّه.
وهذا مثل قوله تعالى : {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقوله تعالى : {اقترب للناس حسابهم} وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (بعثت أنا والساعة كهاتين) ونحو ذلك مما يدل على تعظيم الأمر والحذر منه وتقريب وقوعه .
ولقد قرّب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الدجال حتى ظن بعض الصحابة أنه في نخل المدينة .(1/38)
وليس في هذه الأحاديث ولا غيرها مايشير إلى عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - للدنيا ولا أنه يدرك الدجال ولا أنه يقتله مع عيسى ، هذا كذب بارد سامج تردّه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي فيها ذكر عيسى عليه السلام والدجال والأمور التي تحصل ذلك الوقت وليس فيها ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاحرفاً واحداً ، وهل يكتم النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الأمر العظيم ولايُخبر به أمته، ومافائدة نزول عيسى إذاً إذا كان النبي سوف يعود إلى أمته؟ وكيف خفي هذا على الأمة كلها وانفرد بعلمه اللحيدي ؟ فيالها من عجائب !! ، أما أن تذهب القرون المفضّلة وأئمة المسلمين وعلماؤهم ، وهم لا يعلمون هذا الأمر العظيم وهو عودة نبيهم إلى الدنيا قبل القيامة وأنه يُعاصِر عيسى ويقتل معه الدجال، هذا وهم يقرءون القرآن وكلام نبيهم ولهم في ذلك العناية الفائقة في حفظ الإسناد وفقه المتون وينفرد بذلك اللحيدي فهذا مما نضيفه إلى عجائب زماننا التي يشترط في قبولها زحْزحة العقول عن مَوَاضعها حتى تبقى البيئة ملائمة لما لا يُعقل والحمد لله الذي عافانا من هذا التحريف بل والتخريف .
وأوْرد أيضاً حديث : ( وددت أنا قد رأينا إخواننا) وفي لفظ (متى ألقى إخواني) وحديث ( ياعمر إني لمشتاق إلى إخواني) .
قال : (وكل هذه الأحاديث ومافي معناها إشارات منه لعودته عليه السلام ، والرؤية المطلوبة هنا رؤية خاصة اقتضى أمرها هذا التشوّق والخصوص، ولو كانت رؤيا عامة تتحقق بعد البعث حين يجمع الله الخلائق لكان الأنبياء والرسل أحق بها من هؤلاء) .(1)
__________
(1) رفع الالتباس ، ص24 .(1/39)
الذي ينبغي أن أنبّه عليه أن هذا المفتون أتى بشبه لابد من دحْضها وبيان زيفها حيث اعترّ به من اغتر وليس من العقل أن يقال عنه : مجنون فالمتتبع لكتاباته يرى رجلاً ملبوساً عليه الأمر ولايشبه كلامه كلام المجانين لكن هو زائغ متبع للمتشابه وله هوى جارف في دعواه يصرف كل شيء لِيَعْضد مهدويته المزيَّفه ولا يدري أنه بهذا الحرص الشديد الذي أفسد عليه دينه يزداد انكشاف أمره للعقلاء ونحن ولله الحمد على يقين أن المهدي الحقيقي محمد بن عبد الله لا الحسين بن موسى ابن الحسين اللحيدي الكذاب أنه من التقى والعلم والرزانة والفهم مايجعل أمره جلياً للمؤمنين دون تكلّف وتعسّف وحتى دون الإشارة إلى نفسه كيف وأن ظهوره عن اختيار من المؤمنين وصدق فراسة منهم لِما يجعل الله له في قلوبهم من المحبة والتقدير ومعرفة أنه جدير بما هيِّئ له .
هذا والأمر كله لله فهو سبحانه الذي قدّر المقادير المناسبة من الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ليأتي الأمر على وفق ماقدّره، وهذا شيء جليل رهيب لا يأتي بمثل هذا السَّخَف فنعوذ بالله من تسْويل الشيطان وتوهيمه.
والأحاديث المتقدمة تدل على محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لصالحي أمته الذين يأتون بعده ولم يَرَهُمْ كما أنه يحب أصحابه وعموم المؤمنين وليس في هذا مايدل على رجوعه إلى الدنيا .
أما قول اللحيدي : (ولو كانت رؤيا عامة تتحقق بعد البعث حين يجمع الله الخلائق لكان الأنبياء والرسل أحق بها من هؤلاء) .
يقال له : كلامك هذا يُبين فساد فهمك، والذي حصل منه - صلى الله عليه وسلم - تمني رؤية إخوانه ولقائهم وقطعاً لم تتحقق له هذه الأمنية لأن الله عز وجل اختاره إلى جواره، فما المتعلَّق في هذا ؟
اللحيدي يتعلق بأي شيء يظن أنه يستطيع أن يُطَوِّعه على مشيئته وإرادته ولو كان شديد الإباء .(1/40)
وزعم اللحيدي أن أكثر الصحابة على أن الرسول لم يُتَوَفَّ يقول : والتزموا هذا ومنعوا الناس من دفنه واستشهد بما وقع لعمر رضي الله عنه ، وقد تقدم بيان ذلك .
والعجب أنه يستشهد هنا بقول عمر في خطبته بين يدي الصدّيق وذلك قوله : قلت لكم بالأمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت ( يريد قوله أنه لم يمت ) وإني والله ماوجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله عز وجل ولا عهد عهده إليَّ رسول الله ولكني قد كنت رجوْت أن يعيش رسول الله حتى يكون آخرنا .(1)
يقال اللحيدي : هذا مما يبين بطلان ماذهبت إليه حيث أن عمر رضي الله عنه أخبر أن نفْيه لوفاة رسول الله لم يكن إلا رجاءً رجاه وقطْعاً لم يتحقق هذا الرجاء .
والذي يهمنا هنا قول عمر : (وإني والله ماوجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله عز وجل ولا عهد عهده إليَّ رسول الله) أين عمر لِيُقال له : قد وجد هذا في مواضع عِدّة من الكتاب والسنة اللحيدي فهو أعلم منك ياعمر وأفقه .
تأمل هذه الفضائح والمهازل : فعمر رضي الله عنه تبين له الأمر من سمع كلام أبي بكر وأيقن بموت رسول الله ، وقد استمات اللحيدي في تقرير كذبه السامج بعودة النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعم أن عمر لم يرد بقوله المتقدم نفي رجوع النبي بعد قبضه .
فهو على استعداد أن يدفع كل مايحول دون مراده لا اطمئناناً بالهدى وإنما تمادياً في الضلالة ، وكأن قرون الأمة من الصحابة فمن بعدهم على جهالة بهذه الأمور الكبيرة وقد اكتشفها أخيراً المنقذ اللحيدي، فخِبْنا إذاً وخسرنا !!.
__________
(1) رفع الالتباس ، ص26 .(1/41)
ولقد ذكر اللحيدي قول أبي بكر عندما كشف عن وجه رسول الله فقبّله ثم قال : (بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً ) ثم نقل قول ابن حجر : وأشد ما فيه إشكالاً قول أبي بكر : لا يجمع الله عليكم مَوْتتين وعنه أجوبة : قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرّد على زعم من أنه سيحيا فيقطع أيدي رجالاً لأنه لو صَحّ ذلك لَلَزِم أن يموت موتة أخرى فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ، وكالذي مَرّ على قرية. وهذا أوْضح الأجوبة وأسْلمها . إنتهى كلام حجر .
أمر اللحيدي ظاهر وأنه يتبع المتشابه وسلوك هذه الطريق من أبرز علامات الزيغ ، ويكفي ماقاله أبو بكر رضي الله عنه في الرد من زعم حياة النبي بعد موته وهو ظاهر واضح كالشمس ، أما ابن حجر فنقل اللحيدي كلامه من أجل قوله : ( وأشد مافيه إشكالاً ) ليشبّه بهذه العبارة مع أن ابن حجر قال : فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين وقال : (وهذا أوْضح الأجوبة وأسلمها) .. فلا متعلّق ولا مستمسك للحيدي بل هو ضده ، ثم على تقدير أن ابن حجر أو أجل منه عارض أبا بكر فإنما أمرنا نبينا بسنة خلفائه الراشدين ، هذا والأمر واضح في القرآن واتفاق الأمة .
ولما رأى اللحيدي أن الأمر من الوضوح بحيث لايقبل التلفيق الذي دَرَج عليه في كتبه جاء من باب آخر قال : (والصحيح أنه لايلزم من تحقق ذلك ماجعلوه لازماً لاحتمال أنه لم يمت على الحقيقة في زمانهم وإنما بدا الأمر لهم كذلك ثم بعد ذلك رُفع بإذن الله كما حصل هذا لعيسى عليه السلام ، هذا وجه والوجه الاخر أنه لم يمنع دليل أن يقع هذا له كما وقع لعيسى وإن اختلف تحقق التوفي لكليهما).(1/42)
مازال اللحيدي يسْتميت في الإصرار على رأيه التالف، والعجب أن كلامه هذا الأخير بعد كلام أبي بكر الذي في صحيح البخاري وغيره الذي يقول فيه : ( لايجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ) كيف والله يقول : {إنك ميت وإنهم ميتون} .
أيقول الصدّيق رضي الله عنه وهو أعلم الناس برسول الله : (فقد متّها) ثم يقال : (لاحتمال أنه لم يمت على الحقيقة في زمانهم وإنما بدا الأمر لهم كذلك ثم بعد ذلك رفع ؟ ) إن هذا هو عين التلاعب .
ولقدكذب اللحيدي وإنه لجريءٌ جرأة تورده المهالك .
ثم إنَّ المسلمين قد علموا بالاضطرار موت نبيهم وأعلمهم بذلك الصحابة ، وأعلم الصحابة الصدّيق ، ومن الذي يحصي قولهم : توفي رسول الله ، مات رسول الله ونحو هذه العبارات التي ظهور معناها لهم كالشمس ، ولقد نسبهم اللحيدي بهذا للجهل أو للكذب وحاشاهم من كليهما فهم أعلم الأمة وأصدق الأمة وهم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإظهار دينه .
ولم يُرفع صلى الله عليه وسلم كعيسى ، وكذب من ادّعى هذه الدعوى ولا برهان له بها ، وعيسى عليه السلام له شأن آخر اقتضى رفعه وهو أن اليهود أرادوا صلبه ، وكذلك فإنه سوف ينزل في آخر هذه الأمة فهو لم يمت بل رُفع وهو الآن في السماء الثانية .
أما قوله تعالى : {إني متوفيك ورافعك إليّ} فليس هذا توفي الموت وإنما توفي القبض فقد رُفع عيسى بروحه وبدنه وهو حي .
وموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجماع من الأمة وأن جسده الطاهر في قبره في المدينة ومازال أهل الإسلام من صحابته وأهل بيته يسلمون عليه في قبره وكذلك على مَرّ قرون الأمة فمن يكون اللحيدي الضال؟ إنه لايستحق من يردّ عليه لولا أنه أضلّ من اتبعه .(1/43)
ثم إن المجال مفتوح للتوبة وإنما لابد من البيان من اللحيدي قال تعالى : {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} وإلا ففي سبيل من هلك فشبهات اللحيدي زُيُوف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره المعروف بالمدينة جوار مسجده في بيت عائشة رضي الله عنها وإنما أُدخل في المسجد زمن الوليد بن عبدالملك، وهذا الفعل مُعارَض ولكنه حصل .
ولو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوع ماصار للقبر قيمة وكان إجماع المسلمين من الصحابة إلى يومنا هذا إجماع ضلالة حيث لاشك عندهم ولاريب أنه في قبره وكما أخبرهم أنه يرد سلام من سلم عليه من أمته.
أما لو قال أحد : روحه مرفوعة فتعود الأمور إلى المهازل فرُوحُه في أعلى عليين ، ولو أن روح عيسى عليه السلام هي المرفوعة فقط ماقال الله : {ورافعك إليّ} فأرواح المؤمنين في الجنة . والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون مع أنهم في قبورهم ذكرتُ هذه الزيادات دَفْعاً لترقيع من يُرَقّع وتلفيق من يُلفّق .
زعمه أن مهدي أهل السنة
مثل مهدي الرافضة
ثم إن اللحيدي يقول عن الذين ينكرون عليه : (ولن يزالوا ينتظرون مهديّهم محمد بن عبدالله ودون ذلك في الحقيقة ماتقطع له الرقاب وتسفك له الدماء، فهل رأيتم مثل هذا الفوت فوتاً ؟ وما أشبه اعتقادهم بالمهدي محمد بن عبدالله باعتقاد الرافضة بمهديّهم إذْ أن مهدي الرافضة لا حقيقة له ، وكذلك مهديّ من ينتمي للسنة لاحقيقة له إذْ أنهم يعتقدون أنه رجل من ذرية رسول الله ، وفي الحقيقة أنه لا وجود لهذه الشخصية المتخيَّلة إلا بعقولهم وتصوراتهم).(1)
__________
(1) رفع الالتباس ، ص30 .(1/44)
أقول : أما أن يُشَبّه اللحيدي الضال اعتقاد أهل السنة في المهدي باعتقاد الرافضة بمهديّهم المزعوم فهذا من جنس مجازفاته وتهوراته وقد كذب وافترى فاعتقاد أهل السنة بالمهدي محمد بن عبدالله لأحاديث صحيحة وردت في ذلك وأنه يواطيء اسمه اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم أبيه اسم أبيه ، ومن ردّ أحاديث النبي الصحيحة فهو على شفا هلكة ، أما الرافضة فتصوّر معتقدهم كافٍ لمعرفة بطلانه .
ويكفيك أيها الملبّس الضال أن قلت : مهديّهم ، فهو ليس مَهْدِيّك لأنك من أعظم من لبس ثوبي الزور ولأن دعواك أقبح دعوى، ولق صار الاسم شجى في حلقك وعقبة كؤوداً أوْهَنَتْ قُوَاك فعاجل بتوبتك مما وقعت فيه معلناً ذلك وإلا فلن تعدو قدرك وفي سبيل من هلك ولست أول صيد لإبليس .
ويزعم اللحيدي أن أكثر أهل السنة ضلوا في اعتقاد أن المهدي الذي يخرج آخر الزمان هو محمد بن عبدالله يقول : وقد ضلوا في هذا المعتقد ضلالاً بعيداً. والحقيقة أنه هو الضال المضل، ولا والله ماجاء بدعواه إلا بشبه واهية .
يقول : (العائد ماهو إلا رسول الله . وأخباره أنه اسمه محمد بن عبدالله ماهو إلا من باب التورية وإنما يريد نفسه بذلك وقد انطلت على الجميع غباوة منهم) .(1)
وزعم أن خروج المهدي وبعثه لايتم إلا سابقاً لعودة رسول الله ويكون ممهداً له وموطئاً لسلطانه العظيم ، ثم استدل بقوله تعالى : {وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} .
ثم ذكر قول ابن عباس : مدخل صدق : يعني الموت، ومخرج صدق يعني الحياة بعد الموت .
__________
(1) رفع الالتباس ، ص36 .(1/45)
اللحيدي يفضح نفسه بما يُورده من أدلة حق من نصوص الكتاب والسنة فهي حق والحق لايدل على الباطل، وبما أن دعواه باطلة فهي ضدّه وهي تكشف كذبه فهذا مافسّر به ابن عباس هذه الآية فقال : ومخرج صدق يعني الحياة بعد الموت ، وهذا حق لكن يريد حياة القيامة ، ولو كان حياة بعد الموت في الدنيا لَقيّده بما يبينه أما هذا الإطلاق فلا يعني إلا مايعرفه أهل الإسلام من السلف والخلف ولا عبرة بشذوذ اللحيدي .
ثم قال اللحيدي : والسلطان النصير مايكون من تمكين المهدي الذي سيمهِّد لمقدمه عليه السلام، هذا مراده من إيراد هذه الآية كذلك أراد غصب الآية أن مخرج الصدق لرسول الله هو حياة ثانية في الدنيا .
وابن عباس رضي الله عنه تقدم تفسيره الأولى ليس فيه مايشير إلى مازعم هذا الضال ، وقد رُويَ عن ابن عباس غير ذلك قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثم أُمر بالهجرة فأنزل الله وذكر الآية : {وقل ربي أدخلني مدخل صدق} الآية . قال الترمذي حسن صحيح ، فليس للحيدي في ذلك متعلّق .
والسلطان النصير نزع ملك فارس وعز فارس وملك الروم وعز الروم حيث وعد الله نبيه بذلك وأن يجعل ذلك له، قاله الحسن البصري وقال قتادة : فيها أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله .
فالسلطان النصير الذي طلبه - صلى الله عليه وسلم - هو في حياته وقد حصل، ثم إنه على أبعد تقدير أن السلطان النصير المهدي أو أنه داخل في معنى الآية فلا ناقة للحيدي الكذاب في هذا ولا جمل حيث أنه ليس المهدي بل مُدّع ماليس له .
فاللحيدي كل شيء يصرفه قهراً لمهدويته الباطلة حتى زعم أن الزبور والإنجيل ينص على هذا ، والكلام رخيص عليه .(1/46)
وكم أوْرد من كتب الأنبياء المتقدمين مالو ذكرته لطال الكلام جداً وهو ينهج في ذلك كله نهجه في آيات القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعني كل شيء ينص على مهدويته ويشهد لمهدويته ويشير إلى مهدويته . نصوص صريحة بيّنه في البشارة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتب الأنبياء يجعلها كلها تصبّ في واديه خيْبةً له .
حتى أن من يستمر في قراءة كتبه يستشعر أنه لابد أن يوطّن نفسه أن يصدّق حتى لو قيل : إن الله خلق السموات والأرض للمهدي وبعث الرسل وأنزل الكتب لأجل دعوة المهدي وخلق الخلق لأجل المهدي .
والإنسان يعجب من حرص أهل الباطل على إقامة باطلهم بتزيينه وهو قبيح وتعديله وهو أعوج وتخاذل أهل الحق وتماوتهم مع حسن الحق وكما له . إن الوازع الشيطاني له شِدّةُ مَفْعول لكنه كالنار تهيج وتستعر ثم في الآخر تعود رماداً .
وتأمل قوله تعالى : {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّاً} . قال أهل التفسير : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، وهذا ظاهر في العيان ، فلا تكاد ترى صاحب ضلالة وبدعة أوفجور وهوى ومعصية إلا وهو مُزْعج في الباطن مُهَيَّج على انحرافه من قِبَلِ من قال لربه : {ولأضلنهم} وقال : {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} فالحذر من دعاة الضلالة ، فإنهم لن يغنوا عنه من الله شيئاً .
ولايهمنا هنا أن ننظر هل ادّعى ما ادّعى اللحيدي لجهله وفساد علمه أو لفساد قصده ، وقد يجتمع الإثنان في الشخص إنما المراد بيان الحق من الباطل ، والذي يظهر لي أن الرجل مَلْبوس عليه الأمر وقد يكون مما زاد في إغرائه بعض الكشف الذي كم اغترّ به من اغتر، وليس أمامه إلا الرجوع عن دعواه والتوبة إلى الله .(1/47)
والموفق يزن الأمور كلها بميزان العلم الموروث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولايغتر بحال ولا كشف ولا خارق ، فهذا القسم الأخير يشترك فيه البر والفاجر والصادق والكاذب وإنما الشأن في الإحالة إلى العلم النبوي ووزْن الأشخاص والأحوال والأقوال والكشوف والخوارق به فهذا هو الصراط المستقيم ، وماعَداه فمتاهة وفتح أبواب ضلالة والله هو الموفق والخير كله بيديه .
فتنة السُّرى
اللحيدي يزعم أن فتنة السرى الواردة في الحديث كما سيأتي أنها فتنة صدام العراق ويسميها هو فتنة السريان لسريان جيش صدام العراق بليل على أهل الكويت، فحَرَّفَ السُّرى للسّريان لمجاراة دعواه.
والحديث عن عبدالله بن عمر قال : كنا جلوساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الفتن ، وفيه ( ثم فتنة السّرى دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني ) الحديث .
وهو على استعداد تام لصرف معاني آيات القرآن لغرضه والأحاديث والمنامات والحوادث الواقعة ، هذا ظاهر في كتاباته وهذه جرأة عظيمة عواقبها وخيمة .
يقول عن فتنة السّرى : (وقد تَصَحَّفَتْ على الرواة فدوّنوها بالسراء وليس الأمر كذلك، ولا معنى لذلك وإنما الأمر وحقيقته على ماقُرِّر هنا) .(1)
وتقدم تفسيره الآيات برأيه وهواه ولذلك فسّر الهدنة التي تكون على دخن كما ورد في الحديث فسّرها بإشعال صدام النار في آبار البترول ، قال : (فكان ذلك مصدر هذا الدخان العظيم المنتظر الذي هو من أظهر أشراط الساعة) .
ثم لا يعتمد على كلام شراح الأحاديث من السلف إذا خالفت مطلبه بل إنه في مواضع يطعن على السلف لأجل كلامهم في الأحاديث على خلاف دعواه وكلامهم في القرآن .
وكلمة (دخن) الواردة في الحديث أكثر القول فيها وأن المراد بذلك دخان بترول الكويت وقصده التمهيد لمهدويته المدّعاة الباطلة.
__________
(1) بيان وجوب الاعتزال ، ص18 .(1/48)
قال ابن الأثير في (النهاية) 2/109 : (دخن) فيه أنه ذكر فتنة فقال : دَخَنُها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ، يعني ظهورها وإثارتها شبّهها بالدخان المرتفع ، والدَّخَن بالتحريك مصدر دَخِنَتْ النار تدخن إذا ألقي عليها حطب رطب فكثر دخانها ، وقيل أصل الدخن أن يكون في لوْن الدابة كدورة إلى سواد . إنتهى .
أنظر قوله : شبّهها بالدخان المرتفع يعني أنها في ظهورها وإثارتها ومايحصل فيها من الاختلاف تشبه الدخان، ومن طبيعة الدخان حجب الرؤية أوإضعافها وهذا الذي يقع في الفتن تبقى القلوب في عماية أوشبه عماية إلا من سلّم الله .
وقال ابن الأثير أيضاً : ومنه الحديث (هدنة على دخن) أي على فساد واختلاف تشبيها بدخان الحطب الرطب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر ، وجاء تفسيره في الحديث أنه لا ترجع قلوب قوم على ماكانت عليه، أي لايصفو بعضها لبعض ولاينصع حبها كالكُدورة التي في لون الدابة . إنتهى . تأمل أن الفتنة مشبَّهة بالدخان لما يقع فيها من الفساد والاختلاف وليست هي الدخان ولاتشير إليه بحال .
ولو كانت كما يزعم اللحيدي لقيل : علامتها الدخان ونحو ذلك، أما قوله : (هدنة على دخن) ، (دخنها من تحت قدمي) فلا يُفهم منه الدخان بهذا التصريف بل يُفهم منه الدغل والفساد الذي في القلوب مما يكون من نتائجه الاختلاف وهو الحاصل في هذا الزمان الذي هو زمان المهدي الحق محمد بن عبدالله لا اللحيدي المدعي ماليس له الضال المضل .
ثم إن الدخن مفسر في حديث حذيفة وأنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخن فقال : ( لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه ) .
لكن اللحيدي يرى أن هذا من التورية ويقول : وهو جائز كتماً للنبوءة ويقول : ومن المعلوم عند العقلاء أن الغالب على النبوءات الرمز لا النص . وهو بهذا التخليط ينفرد عن غيره بإجبار الأمور على مراده وجرأته وجزْمه على غير مجزوم به بل على الباطل المحض.
نار الحجاز(1/49)
هذه النار أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (لاتقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) وقد ظهرت هذه النار سنة أربع وخمسين وستمائة في المدينة(1). وغيرها من تواريخ أهل الإسلام ففيها بيان شأن هذا النار وأنها حصلت في المدينة.
اللحيدي يقول : (وإني ليشتدّ عجبي مما دخل على الناس في أمر هذا الحديث وتأويله على النار التي يقولون أنها خرجت بقرب المدينة).
ثم زعم اللحيدي كعادته بغضب كل شيء لتحقيق دعواه زعم أن الذين ذكروا هذه النار وأنها ظهرت في القرن السابع ظنوا أن الحجاز هو الموضع المخصوص في جزيرة العرب بهذا الاسم . يقول : (وليس كذلك بل حجاز آخر جهة المشرق فزعم أنها نار بترول الكويت لما أشعله صدام) .
وهذا من تخريفه وتحريفه ، والأمر أوضح من أن يُبين ويتكلم فيه لكن اللحيدي جريء .
هل اسم اللحيدي مطابق
لاسم المهدي المنتظر ؟
ليس هذا مما يُشكل على الرجل فقد رأيت في كلامه وصرفه كل شيء لدعواه ماأزال عني العجب لأوطّن نفسي لئلا أندهش لشيء يقوله ، فهو مُقْدِم على مراده لايرده شيء، والمراد هنا أن من أبرز صفات المهدي وعلاماته أن اسمه يواطئ اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الأحاديث الصحيحة ، وفي ذكر المواطأة بيان المغايرة فالمواطئ غير المواطأ . واللحيدي اسمه الحسين بن موسى بن الحسين اللحيدي لكنه مهّد لهذا الأمر تمهيداً عجيباً فبدأ بتغيير كنيته ففي كتابه (وجوب الاعتزال) تكنى بأبي عبدالله ، وفي كتابه ( البيان الثاني لرد فرية الجاني) تكنى بأبي عبدالهادي ، وكان قد تكنّى قبل ذلك بأبي النور.
وفي كتاب ( وجوب الاعتزال ) ذكر جهالة أنساب أكثر الناس في آخر الزمان . ص11 .
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير 13/187 .(1/50)
وشرح معنى النّزّاع من القبائل الوارد ذكره في حديث الغرباء قال : (والحق إن شاء الله تعالى أن المراد انتزاعه من النسب وخلعه إلى أصله الصحيح . ص111).
فلا عجب إذن من هذا التلاعب السامج ولا أظنه هنا إلا يُمهد لقلب اسمه .
وزعم في كتابه ( رفع الالتباس ) (أن الله أعمى على الناس إسمه حتى لايكون للمتأولين بالباطل سبيل عليه فيدّعونه لأنفسهم. ص2).
وقال : (والله يعلم أني على يقين بأن محمد بن عبدالله الذي يعتقدون أنه المهدي ماهو إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أنا إلا المهدي. ص3).
يقال لهذا الضال : لو كان الأمر كما زعمت لكان هذا الأمر في الأمة من أعظم الأمور ولكان انتظار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم من أجَلّ مايتكلمون به بل ويعتقدونه ، ولكان أمر المهدي أصغر بكثير مما هو في نفوسهم وفي دوَاوينهم واعتقادهم بجانب بعث رسول الله وأنه هو المراد بمحمد بن عبدالله .
اللحيدي لايدري مايخرج من رأسه ولقد أعماه مراده وأصَمَّهُ عن النظر الصائب .
والذي لاشك فيه أنه لو كان حقيقة سيعود الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته قبل القيامة لكان هذا من الأمور الكبيرة العظيمة التي لاتخفى على جهال الأمة ولكان اعتقاد ذلك من مهمات الاعتقاد ولذكر ذلك أهل السنة في عقائدهم وتوارثته الأجيال ، فهذا وغيره مما بينت يظهر منه ضلال اللحيدي بجلاء .
وكيف تجعل الأمة من عقائدها ظهور المهدي ونزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وكل هذا يستدلون عليه بالأحاديث الصحيحة ولا يكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر وأنه سيبعث قبل القيامة أو أن هذا انفرد به اللحيدي ؟ ولقد انفرد بضلالة .
المرئيات(1/51)
لم أعجب من تأويله لِمرْئيات حَشَدها لا صلة لها به وإنما جعلها مؤيّدة لمهدويته ودالة على ذلك، وباب الدعاوي طويل عريض، والمراد أنني لم أعجب من صنيعه بالرؤيا بعد وقوفي على تلاعبه بآيات القرآن وتأويلها إجباراً على مزاعمه، وكذلك الأحاديث وآثار الأنبياء والحوادث كل شيء يدل على مهدويته بزعمه ، وبعد كلام له عن المرئيات قال : (وكل هذا مما ثبت كثرته في رُؤى الناس من سائر البلدان مايستحيل معه تواطؤهم على الكذب في ذلك) .
ويقول : (وأنا شخصيا وثَّقْتُ تواتر جملة من هذه الرؤى من أكثر من جهة ، يقال للحيدي: ليس الشأن في كثرة الرؤى فهذا حاصل وإنما الشأن في دعواك الباطلة الزائفة والتي من أجلها تقحّمت المهالك وركبت الأخطار بخوضك بالدين وجرأتك على الشريعة، وكثير من الناس يعلمون قرب ظهور المهدي وقرب ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس من المنامات فقط وإن كان هذا حاصل وإنما بواقع الحال وما آلت إليه الأمة من قبيح المآل في الأقوال والأعمال وجميع الأحوال .
ولذلك فإنه لما ذكر الزلازل أكّد خروج المهدي يعني نفسه فقال: (وهو أن الله بعث المهدي يقيناً) ، ص(56) ( بيان وجوب الاعتزال) .
وأكرر أن المهدي الحق ليس هو بحاجة إلى أن يشهر نفسه ويزكي نفسه فالناس هم الذين يشهدون بصلاحه وتظهر لهم علاماته وأماراته فيقدمونه ويختارونه وهو ليس يوحى إليه ، فهذه بعض أماراته واللحيدي يغصب الأمور ويقسرها قسراً لتشهد له.
ولو لم يحصل له من البلاء إلا أن رَشّحَ نفسه لمقام ليس له بل تتقاصر دون مقامات عموم أولياء الله المتقين وهو مقام المهدي الذي حسبه من الشرف والرفعة أن اختصه الله بفضله وذكَرَه رسول الله باسمه وأثنى عليه قبل وجوده ، كيف وقد ادّعى اللحيدي نفسه فوق ذلك أنه رسول قبحه الله .(1/52)
فحسب من يدّعي هذه الدعوى الإعجاب الذي هو عن كل خير حجاب كيف والأمر عظيم كبير ، ثم إن هذه المقامات العليّة الرفيعة لا تأتي بالدعاوي والاكتساب .
يقول في كتاب المرئيات ص2 ، (فكيف يصح بالعقل تصديق فناء الضحارة المتطورة جداً التي شملت المعمورة كلها بفترة زمنية وجيزة ؟ هذا لايعقل أبداً ، ومع ذلك هو مبني على تأصيل فاسد وهو اعتقاد لزوم فناء الحضارة المعاصرة قبل خروج المهدي) .
أراد اللحيدي بهذا الكلام تثبيت مهدويته التي سبقت الحوادث وإبطال ماورد في أحاديث المهدي الحق من أن زمنه زمن سيوف وخيول ونحو ذلك مما يدل دلالة واضحة على تغير هذه الأحوال المعاصرة ، ولما كان مطلبه قد أعماه قال ماقال ، وإلا فزوال هذه الأمور الحادثة يحصل بأقصر وقت ، لأن قوامها على البترول والكهرباء فلو قامت حروب كبيرة لرأى الناس العجائب ، وعلموا أنهم كانو قد تعلّقوا بغير مُتَعَلَّق .
وخُدِعوا ببناء مزخرف مُزَوَّق ، قام شامخاً عالياً دون أسس وأصول ، وأن انخداعهم به اقترن مع عروج العقول، والكلام في هذا يعرض ويطول ، وليس هذا موضعه.
والمراد هنا أن المطلوب منا أن نلغي ماورد في أحاديث المهدي الحق من عودة الحياة إلى مايماثلها مما مضى حتى لايقف أمامنا شيء يعترض مهدويّة اللحيدي .
قال في ص3 : (والله جعل لتأويل أمر المهدي (يعني نفسه) بينات ودلالات لاتخفى إلا على أمثال هؤلاء الجهلة الذين تركوا مافي خبره من محكم إلى المتشابه والظنون ، ومن المحكم في خبره بعثه تحقق تأويل سورة الدخان ، وتحقق كثرة الزلازل وظهور الفتن وتقارب الزمان وغير هذا مما دَل عليه النقل مع مايصاحب بعثه من براهين وجودية).
أقول : قد تقدم الكلام على سورة الدخان ، أما الزلازل وظهور الفتن وتقارب الزمان وغير هذا مما دل عليه النقل.
فنقول : نعم هذا يدل على قرب خروج المهدي ، وليس الشأن في ذلك إنما الشأن أن دعواك كاذبة باطلة .(1/53)
ثم بدأ يذكر مرئيات لاشك أنها أثرت بقوة عليه بظنه أنها مُصدّقة لدعواه ، والموفق يُحَكّم العلم لا الحال ولا الكشف ولا المنام. بل يردّ ذلك كله إلى علم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال عن نفسه : (مثل تبشيره بالرؤيا بعد خمسة أشهر من حمل زوجته أن الذي في بطنها ولد وسيكون صالح بإذن الله تعالى وأُمر بأن يسميه : عبدالله وتحققت الرؤيا فيما بعد وولد الولد وصدقتْ الرؤيا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيادة على ذلك تحقق في الولد بعض صفات ورد في الأخبار أنها من صفات رسول الله) .
سبق وبيّنت أن اللحيدي يغصب كل شيء لتصديق دعواه، والذي لاشك فيه وليس من الرجم بالغيب بل مما هو ظاهر بيّن من تفانيه في تصديق دِعْواه ومما ظهر من تلاعبه ومما يأتي ، أقول : الذي لاشك فيه أن امرأته لو أتت ببنت ولم تأت بولد لقال : هذا مما يكتمه النبي من النبوءات خوفاً على المهدي ودعوته فذكر الولد والمراد بنت ولا يستبعد أن يقول : كنت أعرف أنها تأتي ببنت ليس ولد وهذا يُصدق مهدويتي .
أو يقول : المراد بالولد في الرؤيا بنت أو غير ذلك مما عودنا من التلاعب والدّجل .
يُقال له : لقد أضلّ الشيطان قبلك في اليقظة فضلاً عن المنام خلقاً لايحصيهم إلا الله ، وسوف أذكر إن شاء الله بعض كلام العلماء في ذلك فيما بعد .
لكن هنا يقال له : دعواك باطلة لوجوه :
فأولاً : كم ممن يَدَّعي أنه رأى رسول الله وليس كذلك ، وقد يصفه بوصفه وهو كاذب .
ثانياً : لو تنزلنا أنه الرسول هو المرئي بالرؤيا وهو المبشر بالولد فأي معنى في هذا يدل على دعواك الزائفة ؟ يوضحه .(1/54)
الثالث : أن آحاد المسلمين من رجال ونساء يرون بالمنام ويحصل لهم من وقوع مارأوه بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة ولا يعدو ذلك أن يكون رؤيا، وكما قالوا : الرؤيا تسرّ ولاتَغُر .(1)وهو أعجب مما ذكرت كما يحصل كثيراً .
الرابع : أنك زعمت أن الذي رأى الرؤيا هذه ارتد عن أمره فيما بعد ، يعني الرائي ذكرت ذلك في (ص3) الهامش . (المرئيات).
الخامس : أنك قلت عن الرائي الذي يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (ص6) : (وقد عُرِفَ من هذا الفتى كما قلتُ سذاجة غريبة وغباوة مفرطة خصوصاً في ذلك الوقت [ يعين حين سُجِن ] إلا أن هذا لايعني أن أصل الرؤى التي وقعت له غير صحيحة) .
فهذه شهادتك على هذا الفتى الغبي الساذج تكفي لعدم قبول شهادته في اليقظة كيف المنام ، كذلك إقراره أن الشيطان، يخيل إليه أنه يرى الرسول (ص7) .
السادس : إنه على تقدير الصحة وزوال كل معارض فغاية هذه الرؤيا أنها تدل على صلاح الولد والله سبحانه (يخرج الحي من الميت) فأنصحك أن تبادر بالتوبة لأن من علامات صلاحه أن يُنْكَرَ عليك مزاعمك الباطلة أشد الإنكار .
السابع : أن الشيطان يتلاعب بالإنسان بالمنام واليقظة ويشتد تمكّنه منه وحرصه على إغوائه إذا صاده بدعوى باطله كدعوى اللحيدي الطويلة العريضة وسوف أذكر في فصل مستقل نماذج من غرور الشيطان وتلاعبه بالناس ومخارقه يقظة ومناماً فيما بعد إن شاء الله ، لأنه غرّ أتباعه بمثل ذلك .
والمراد هنا أنه صال وجال بهذه الرؤيا على عِلاّتها لمهدويته كما تقدم مع أن آحاد المسلمين يرى أعظم منها ولايقيم الدنيا ويقعدها كاللحيدي ، ومثل قوله : (والله جعل لتأويل أمر المهدي بينات ودلالات) . (ص3) .
__________
(1) هذا مبسوط في كتب تعبير الرؤيا ، وذكر ابن القيم أمثلة من ذلك في كتاب (الروح) من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بالمنام وإخباره بأشياء تقع .(1/55)
ولو قيل له : أنت زَيّفت وصف المهدي الحقيقي وإسمه كما ورد في الأحاديث الصحيحة فهل ندع الأحاديث الصحيحة ونصدقك في منامات ؟ خِبنا إذاً وخسرنا ، أن تلاعبك بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدليل واضح على كذبك حيث زعمت أن اسم المهدي الذي يواطيء اسمه اسم النبي واسم أبيه اسم أبيه أنه هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه سوف ينزل مع الرسل قبل القيامة ، تحتال بهذا لتصحيح دعواك المزيّفة .
ثم إن اللحيدي ذكر رؤيا طويلة أولها : (قال الرائي : كنا في جنازة وكان كفنها أسود اللون إلى آخر الرؤيا ، وفيها : وجلسنا عند رسول الله) .
إن الشيطان إذا شَمَّ من الإنسان رائحة لمهدوية أو العيسوية أو النبوة فلا تسأل عما يصنع له من أعاجيب المخارق في اليقظة كيف بالمنام ؟ ولايغتر باللحيدي وأمثاله إلا من خُدِع فعليه بمراجعة أمره قبل أن يحال بينه وبين التوبة ، فاللحيدي ألْقى على أتباعه شبهات ظنوها شيئاً وليست بشيء بل هي ضلال مبين ، وقد تبين مما تقدم وما يأتي إن شاء الله تلاعب الرجل بالقرآن والأحاديث فكيف يؤتمن هذا على الرؤيا يراها هو أو يراها غيره ؟ والعجيب من أمره أنه يذكر مرئيات على تقدير صحتها لا تمتّ لدعواه بصلة ولكنه صائل غاصب ثم إن دون صحتها مادونه مما أعاننا هو عليه من سذاجة الرائي وغباوته وفي الآخر إنكاره أنه رأى الرسول بل رأى الشيطان ، مع أن هذا الساذج الغبي كما وصف هو المختص بالمرئيات اللحيدية .
ثم ذكر رؤيا ثانية أولها قال الرائي : كنت نائماً في الرؤيا فأتاني أبو عبدالله[ يعني اللحيدي ] فقال : قم نذهب إلى رسول الله فذهبنا فوجدناه في المسجد ومعه أصحابه وعليه رداء أبيض .. إلى آخر الرؤيا (صفحة 14) .
اللحيدي ذكر في هامش الصفحة (14) أن الرائي منافق لأنه ادّعى بطلان هذا الأمر ، ويكفي هذا التناقض والتعارض والتهافت، ثم إنه على تقدير صحة الرؤيا فليس فيها مايدل على المهدوية، ومتى تصح ؟(1/56)
ونُنَبّه اللحيدي أنه لو جاء بألف رؤياء أو أكثر ماتركنا أخبار رسول الله لأجل المنامات ، فالمهدي الحق بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره وعلاماته واسمه ولم يترك أمره للمنامات والكشوفات .
ثم ذكر رؤيا ثالثة للفتى الذي وصفه بالسذاجة والغباوة والنفاق، والرؤيا ليست بقرآن وكان ابن سيرين يُسْأل عن أربعين ويعبّر واحدة، والشيطان يفرح بالصيد البارد الذي لايكلفه عناء، وإلا فالمسلم مأمور أن يردّ كل شيء ويحاكمه بالعلم والمقصود علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لايلتفت إلى ماخالفه ولو تناطحت الجبال فالعلم حاكم هو الذي يحكم على الدعاوي والأحلام والكشوفات ونحو ذلك .
والعلماء يقولون : لا تغتر به لو طار في الهواء أو مشى على الماء حتى تَزِنَهُ بالكتاب والسنة .
وهذه المرئيات لو صَحّ منها شيء فلا يدل على صحة دعواه.
هذا وقد ذكر العلماء كلاماً طويلاً في الرؤيا وأنه حتى الرؤيا الصحيحة قد يزيد فيها الشيطان وذلك بحسب حال الرائي في اليقظة فبنزول الروح ورؤيتها ما أراها الملك الموكل بالرؤيا إن كانت تميل إلى الباطل والزور تلقّفها الشيطان وأفسدها إما بزيادة أونقص أوغير ذلك ، ذكر نحو هذا الكلام ابن القيم في كتاب الروح .
وقد كثر المعبرون للرؤيا في وقتنا وليس من الحذق بهذا الفن أن تُعَبَّر كل رؤيا ، وكم ممن يغتر بوقوع تأويل رؤيا على ما عُبِّرت فيكون من باب .
يُعَمر واحد فَيَغُرُّ ألفاً ... ويُنسى من يموت من الصغارِ
ومن أراد أن يعرف سطحية كثير من الناس في شأن الرؤيا فلينظر في مقدمات كتب التعبير للمتقدمين ونحوها فيرى مايذكرونه من أصول هذا الفن مايعلم به أن الأمر ليس بالهيّن ، ويعلم أن هذه الكثرة والمسارعة في تعبير المنامات من علامات الجهل .
مخرقة الفتاة اللبنانية(1/57)
وفي صفحة (25) أتى اللحيدي بمقدمة لرؤيا ومخرقة شيطانية لفتاة لبنانية هَوّل فيها غاية التهويل وسَبّ ولَعَنَ مَنْ خالفه ، وأهل الوقت يقولون : يجعل من الحبة قبة أما اللحيدي فيجعل من الحبة جبالاً لتصحيح دعواه ، ويجعل الجبال حبة في حال المخالفة ، إنه على الحقيقة مفتون فتنة تَشَرّبَها قلبه .
أولاً : ذكر عن الخارقة الآتية أنها من آيات الله تعالى الإعجازية.
ثانياً : أنها حقيقة متعلقة بمبشرات النبوة .
ثالثاً : أنها متعلقة بخبر المهدي المنتظر ويقول في الهامش (ص27) وأنا أقسم بالله وهو شهيد أن الأمر له علاقة وثيقة ببعث المهدي.
رابعاً : أن الذي حصل للفتاة في اليقظة وهو خروج قطع الزجاج من عينها تُعدّ بزعمه معجزة وآية لصدق نبوّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وستبين للقارئ الموفق أنها خارقة شيطانية .
زعم اللحيدي أن الفتاة أُمرت بالرؤيا بالحجاب والصلاة واستجابت لذلك ، وبعد أن أقام الدنيا وأقعدها قال في صفحة (26) وإليكم هذه الواقعة الفريدة للذكرى ، ثم ذكر تعجّب الجرائِديَّة والأطباء والإعلاميين مما حدث لهذه الفتاة التي زعم أن عمرها إثنا عشر سنة .
الذي يحدث للفتاة أن عينها اليسرى تقذف قطعاً من الزجاج وأنها فُحصت وحضرتها طوائف من أطباء وغيرهم ومما زادهم عجباً أن قطع الزجاج لاتُحْدث خدوشاً ولا جروحاً داخل العين ولا خارجها مع أنها قطع زجاج مُسَننة حادة .
ثم يصول ويجول اللحيدي في صفحات كتابه وهوامشها يقول : (لا شك أن ماجرى لهذه الفتاة آية أراد الله بها حكمة بالغة مفادها التنبيه على رؤى المنام وأنها من مبشرات النبوة) .
تأمل كيف يُعيد كل شيء ويُحيله إلى دعواه، فهذا الخارق رَبَطَه اللحيدي برؤيا أمْرُ هذه الصبية بالحجاب ، وهو على الحقيقة مرتبط بها ولكن بكيفية لا ناقة للحيدي فيها ولا جمل بل تفضحه وتكشف زيفه .(1/58)
ثم قال : (وكون رؤى هذه الفتاة تأتي بمثال الصالحين كعلي رضي الله عنه وتؤمر بها بالمعروف مثل ارتداء الحجاب وغيره، ثم تقترن بها هذه الآية الخارقة للعادة لاشك أن هذا الأمر عظيم جداً منطوي على دلالات خطيرة) .
تأمل التهويل غير ماتقدم، وهو يريد بذلك ربط القلوب به وأنه يعلم أسراراً تخفى على من ليس في مقامه وقد تاه في إعجابه بنفسه الذي مَكّن منه شيطانه وأضلّه ضلالاً بعيداً .
فيقال للحيدي الضال المُدَجِّل :
أولاً : الرؤيا التي رأت الصبية لاشك أنها من القسم الشيطاني للرؤيا حيث قارنتها الخارقة التي هي قذف الزجاج من عينها .
فتقدُّم الرؤيا برطِيل من الشيطان يعني رشوة لينفتح له المجال بالمخرقة الزجاجية التي صارت أُعجوبة وطَلْسَماً زعمت أنك تفتح أقفاله .
ثانياً : إن زعمت أن الشيطان لا يأمر بالمعروف قيل لك : صحيح؛ لكن هذا ليس على إطلاقه فكم أمر بمعروف بالرؤيا واليقظة ومراده التوصّل به إلى المنكر وقد وَرَدَ أنه يفتح للإنسان سبعين باباً من الخير ليوقعه بباب من الشر فيهلكه فيه إلا من رحم الله ، فهذه رشوة الشيطان ومن خزائن كيده ومكره . وقد عَلّم أبا هريرة آية الكرسي وهي أقوى سلاح يُجاهَدُ به .
ثالثاً : لقد حصل للشيطان مطلبه ، فقد خاض من خاض في هذه الحادثة بغير بصيرة من أطباء وغيرهم ممن ذكرت أنت، والأب نفسه زعمت أنه يقول : (سأعطي للعلم أولاً الوقت للبحث عن تفسير ، وإذا عَجِزَ فسأقول ماعندي) ثم زعمت أنه لم يتمكن من أن يقول ماعنده .(1/59)
وزعمت أنه صرّح بقوله : (هناك شيء ما سنطلعكم عليه في الأسبوع المقبل فانتظروا حدثاً ما) ، ثم قلت : (لم يتكلم الرجل وقد كان يتوعّد هنا مع دعواه أن للأمر بُعْداً دينياً فما هو ياترى هذا الحدث وما سِرّ ارتباطه بعلي في المنام ورمزية اسم الفتاة نفسها (حسناء محمد) ؟ ) ثم قلت : (أما هم فقد نجحوا ولو إلى حين بكتمان الأمر (يعني قول الأب إن لهذا الأمر بعداً دينياً) ثم قلت : (والله سبحانه مُبْديه ولو كرهوا ، وأما أنا فأقسم بالله وهو شهيد أن الأمر له علاقة وثيقة ببعث المهدي ألم تروا ياعميان القلوب أن اسم الفتاة حسناء محمد ماشابها قبح ولا كذب والحسن والحسين من الأسماء المحبوبة لله تعالى حتى أنه أطلقها على ولَدَيْ رسول الله ثم أخيراً سُمِّي المهدي بالحسين حُسْناً لأهل البيت) ، وهذا كله دَجَل تتكلم به أنت وأب البنت بلا خوف ولا خجل ، وياوَيْلك كيف جعلت الله شهيداً على أن هذا الحال الشيطاني له علاقة بالمهدي .
رابعاً : الزجاج الذي يُرى يخرج من عين الصبية بلا ريب أنه خارقة شيطانية والمُمَخْرق هو الأب وهو الذي جعلها مَوْضعاً لمِخْرَقَتِه، وقد حصل له مطلوبة فَلَفَتَ أنظار الناس وشَغَلَهم وحصلت له الأموال الكثيرة كما زعمت ، يوضح ذلك ماتقدم مما نقلت من كلامه وأنه يكتم شيئاً سوف يبوح به حين العجز عن كشف السر ، وفي الآخر مازال كاتماً سِرّه ، بل أباح بمكنونه حيث نقلت أنت عنه أنه قال . (صفحة 30) : حين قيل له : (ألا تخاف على عين ابنتك ؟ قال : أنا متأكد وكلي إيمان أنني لو وضعت حسناء في مغارة في راس جبل لن يحدث لها مكروه ، وهنا أريد أن أقول عندما أصل إلى مرحلة معينة وأعتقد أنني سأصل إليها سأدعو إلى مؤتمر صحفي وستحدث حسناء عن كل شيء عندها وعندي) .(1/60)
وقال : (يهمني ان أقطف عنباً لا أن أقتل الناطور). (ص 27). وقد أكل ولكن بالمخرقة والدجل ، وليس هو موضوع البحث إنما قصة ابنته التي ذكرت أنت مع خرافاتك وأحلامك وأمانيك ، وسوف يتبين الأمر بوضوح بتأمل الفصل القادم .
والمعروف أن تلك البلاد (لبنان) التي فيها الأب وابنته مشهورة بوجود الكهنة والسحرة والمشعْوذين شهرة لا تخفى ، وأنا مازلت أذكر كلام شاب لبناني يقول لي : إن عندهم إنسان يقرأ الكتاب في ظلام الليل ونرى النور ينبثق من عينيه ، ويقع على صفحات الكتاب وليس هناك نور غير هذا الذي يخرج من عينيه، قال لي هذا الكلام منذ أكثر من ثلاثين سنة وعلمت أنه مخرقة .
وأذكر أيضاً أن بعض الجهلة يسافرون من عندنا من القصيم إلى لبنان فيلتقون بسحرة هناك لبنانيين يطلبون منهم عزائم لمرضاهم، وكانوا يخبرونهم وهم في لبنان عن مواضع مرضاهم وأسمائهم وصفاتهم فيزدادون بهم فتنة وهذا هَيّن على الشياطين ، وأعرف غير هذا ويعرف غيري ومازاد الطين إلا بِلَّة .
فالذي حصل للبنت أن الشيطان يُري الناظرين أن قِطَع الزجاج تخرج من عينها حقيقة ولو خرجت واحدة لأتلفت العين كيف وهو يقول : خرجت أربع قطع زجاج من العين والطبيب ينظر، ومرة ثانية تساقطت من عينها على التوالي إحدى عشرة قطعة من الزجاج مُسَنّنة من أحجام مختلفة من دون أن تجرح العين . (صفحة 29) .
والعجب من حَشْر اللحيدي هذه المخرقة وأمثالها في دعواه لكن هكذا المبطل لايجد في شواهد الحق مايشهد لباطله بل يجد مايفضحه، لكنه يأتي بالحق مُئوّلاً على مقتضى باطله وهيهات .
وأما هذه القصة فمن ضلال اللحيدي أن جعلها من آيات الله الإعجازية وأنها متعلقة بمبشرات النبوة ويقسم بالله أن الأمر له علاقة بالمهدي وكذب .(1/61)
إن الشيطان يفعل أعظم من هذا فإن امرأة ابن مسعود كانت تسيل عينها بالدمع دائماً فأخذت رقية من يهودي فكانت إذا استعملتها وقف الدمع وإذا لم تستعملها عاد، فلما علم عبدالله رضي الله عنه أخذها وقطعها وأخبرها أن الشيطان ينخس عينها بأصبعه ليُغْريها برقية اليهودي ولما قطعها وقف الدمع وشُفِيَت .
وأنا أعلم أن أول ما يُبادر به هذا الكلام أن يقال : هذا دمع لكن هذه يخرج من عينها الزجاج ، وإنما ذكرت ذلك لأبيّن تسلّط الشيطان وبيان تأثيره إذا حصل مراده ولا يختص ذلك بالكفار بل حتى ضُلال المسلمين ، كما سيتبين .
ومما يبيّن أن والد هذه البنت صاحب أحوال شيطانية هو وابنته قوله لما قيل له : ألا تخاف على عين ابنتك ؟ قال : (أنا متأكد وكلي إيمان أنني لو وضعت حسناء في مغارة في رأس جبل لن يحدث لها مكروه).
أقول : هذا والله الدجل ، إن فتاة في مثل سنها إثنا عشر سنة لو نامت في بيت أبيها في غرفة منفردة لاستوحشت كيف بمغارة في رأس جبل لولا المخرقة والدّجَل ، فليُعْلَم أن عند جهينة الخبر اليقين ، فالأب عارف مواضع أقدامه وأقدام إبنته ، أما اللحيدي فدخوله في هذه الأمور وكلامه فيها من سخفه ، وقد ظهر أنه لايفرق بين الأحوال الشيطانية والكرامات، وأكثر أهل الوقت كذلك لايفرقون، والآن يحسن أن ننتقل إلى فصل المخارق والأحلام الشيطانية قبل إيراد بقيّة خزعبلات اللحيدي .
نماذج من مخارق الشيطان
مما يحصل في اليقظة والمنام
هذه صحراء التّيه وأودية الهلاك ومفاوز الضياع تَعَرَّف على علامات طرقها وأماراتها من بعيد وإياك والإقتراب فليس أمامك إلا سرابٌ غار ، ووهج حارّ ، إنه من الجهل والضلال عدم التفريق بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية ، وبسبب هذا الالتباس ضلّت خلائق لايحصيها إلا الله .(1/62)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (النبوات) : وخوارق الجن كالإخبار ببعض الأمور الغائبة وكالتصرفات الموافقة لأغراض بعض الإنس كثيرة معروفة في جميع الأمم .
ثم قال : بل هذه الخوارق هي آية وعلامة في فجور صاحبها وكذبه (ص422) إنتهى .
إن من أبين ضلال اللحيدي أن يجعل هذه الخارقة الشيطانية آية من آيات الله ومن شواهد ظهور المهدي، إن هذه المهازل تليق بأربابها من اللحيدي وأب الصبية ، وكلام شيخ الإسلام المتقدم يبين أن الجن تتصرف تصرفات توافق أغراض بعض الإنس وأن ذلك كثير فكذلك اللبناني وزجاج عين ابنته .
وقال ابن تيمية : وكذلك الطيران في الهواء فإن الجن لاتزال تحمل ناساً وتطير بهم من مكان إلى مكان .(1)
وقال : ولهذا يوجد كثير من الكفار والفسّاق والجهال تطير بهم الجن في الهواء وتمشي بهم على الماء وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة وليس شيء من ذلك من آيات الأنبياء ولله الحمد والمنّة.(2)
أنظر قوله : والفساق والجهال بعد ذكره الكفار تعلم أن هذا لايختص بالكفار .
وذكر رحمه الله أن ماتفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور، والمقصود به الإعانة على مثل ذلك. (ص414).
وقال عن الجن : ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئاً من أموال الناس مما لم يُذكر اسم الله عليه ويأتونه إما طعام وإما شراب وإما لباس وإما نقد وإما غير ذلك ، وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك ، وليس شيء من ذلك من معجزات الأنبياء ولا كرامات الصالحين ، فإن ذلك إنما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة، (ص417) .
أنظر قوله : بسبب ظلم وفاحشة بعد ذكره الشرك إذْ فعلهم ذلك لايختص بالمشركين فقط .
وقال : ويدخلون في جوف الإنسان قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)(3).
__________
(1) النبوات ، ص 322 .
(2) المرجع السابق ، ص411 .
(3) النبوات ، 418 .(1/63)
وذكر شيخ الإسلام أن أولياء الشيطان وإخوانه قد يدخلون النار ولاتحرقهم كما يُضرب أحدهم ألف سوْط ولايُحسّ بذلك فإن الشياطين تلتقي ذلك عنهم قال : وهذا أمر كثير معروف قد رأينا من ذلك مايطول وصفه .(1)
اللحيدي ليس عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشطيان بين الكرامات والخوارق والشعوذات .
وقد تبين من حال أب البنت صاحبة الزجاج أنه محتال مشعوذ جعلها موضع لحيلته لِيتَكسّب بها ، وقد تقدم من كلامه ماينبيء عن حاله ، كيف وقد قال في صفحة (26) من كتاب الرؤى : (إن عائلته ليست مُتزمِّتة دينياً) .
وهذه اللهجة معروف عند المتديّنين أنه إنما يلهج بها المبغضين للدين حيث يصفون المتدينين بالتزمّت إذْ عندهم من تمسك بدينه مخالفاً لضلالهم ولو بعض الشيء مُتزمّت، فنفيه عن نفسه التزمّت المزعوم من باب {ولتعرفنهم في لحن القول} ثم إن اللحيدي لا ناقة له ولا جمل في القصة لكنه يحشر دعواه الزائفة في كل شيء .
وقال شيخ الإسلام : وقد يتمثل الجني في صورة الإنسي حتى يظن الظان أنه الأنسي ، وهذا كثير كما تصوّر لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم .(2)
وقال : وآخرين تتمثل لهم الجن في صورة الإنس فيظنون أنهم إنس أويُرُونهم مثال الشيء فيظنون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه أويُسْمعونهم صوتاً يشبه صوت من يعرفونه فيظنون أنه صوت ذلك المعروف عندهم، وهذا كثير موجود في أهل العبادات البدعية التي فيها نوع من الشرك ومخالفة للشريعة .(3)
تأمل هذا واعلم أنه ملأ الأرض اليوم ، ولتعلم أن الشيطان قد تلاعب باللحيدي وأن والد البنت صاحبة مخرقة الزجاج على تواطء هو وابنته في الشعوذة فإن الأب يقول في ص28 (الرؤى) (إن ابنتي ترى في الحلم واليقظة رؤى وأحلاماً وأشخاصاً وتتوجّه ليلاً إلى الباب الخارجي نحو الشّرفة لتتحدث مع أحدهم .
__________
(1) النبوات ، ص420 .
(2) النبوات ، ص431 .
(3) النبوات ، ص448 .(1/64)
هذه إرادة الله تعالى وأنا لا أريد أن أبوح بما عندي من معطيات إلا بعد أن أتأكد من فشل الطب ، عندها سأجيب بكل مالَدَيّ وسأتصل بكم أزفّ لكم الخبر) .
أنظر وصفه ابنته أنها ترى في الحلم واليقظة أيضاً أشخاصاً وتتحدث معهم ، وبتأملك وفهمك ما أُورِده بعد قليل من المخارق ينجلي لك الأمر وأنه أحوال شيطانية وفَرْقٌ بين كرامات الأولياء والأحوال الشيطانية فالأولى سببها طاعة الله باتباع رسوله والثانية سببها مانهى الله عنه ورسوله مثل الشرك والفواحش والظلم والقول على الله بغير علم .
فكيف يجعل اللحيدي الحال الشيطاني كرامة من كرامات الله ومن مبشرات النبوة ومعجزة وآية ويقسم أن لها علاقة بالمهدي ، إن هذا لهو التلاعب بالدين ، تخييل أن عين صبية يخرج منها زجاج يقيم الدنيا ويقعدها عنده ، وهل بلغت حال الدين من السخافة إلى هذا الحد ؟ حاشا لله بل السخيف المُدَجِّل اللحيدي وصاحبه والد الصبية وأي مصلحة للدين في هذا ؟ فما هو إلا الدّجل والسخف .
وسوف أذكر نماذج زيادة على ماتقدم تتبين منها سبيل المجرمين.
الحارث الدمشقي خرج بالشام وادّعى النبوة ، وكانت الشياطين تُخرج رجليه من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ فيه وتُسَبِّح الرخامة إذا مسحها بيده ، ذكر ذلك شيخ الإسلام في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) (ص140) .
فتأمل فعل الشياطين وكيف أن الحارث يمسح الرخامة بيده فَتُسَبِّح تعلم ضلال اللحيدي بقوله (والشيطان لا يأمر بالمعروف كما هو معلوم ).(1)
ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد الكلام السابق : وكان (يعني الحارث الدمشقي) يُري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول : هي الملائكة ، وإنما كانوا جنا ، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه ، فقال له عبدالملك بن مروان : إنك لم تسم الله فسمى الله فطعنه فقتله .
__________
(1) الرؤى ، ص25 .(1/65)
وقال شيخ الإسلام : وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم مايطردها مثل آية الكرسي .
وقال : (ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الإحوال الشيطانية بصدق أبطلتها) .
تأمل قوله : (بصدق) :
ومما يبين بطلان قول اللحيدي إن الشيطان لا يأمر بالمعروف ماثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما وكّله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه ، فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما فعل أسيرك البارحة) فيقول : زعم أنه لايعود ، فيقول : (كذَبَك وإنه سيعود) فلما كان في المرة الثالثة قال : دعني حتى أعلمك ماينفعك : إذا أوَيْت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (صَدَقَكَ وهو كذوب وأخبره أنه شيطان) فتأمل ، وهذا يكفي وحده .
وقال شيخ الإسلام : ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له : أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى.
وقال الشيخ : وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي الديون ويردّ الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل إلى زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته .(1/66)
ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوْصى خادمه فقال : إذا أنا مت فلا تَدَعْ أحداًيغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصاً في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله أي غسل الميت غاب وكان ذلك شيطاناً، وكان قد أضل الميت وقال : إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضاً في صورته ليُغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك.
وقال الشيخ : ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول : أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة عَلِمَ أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول .
جرت هذه القصة لعبد القادر الجيلاني وكان يمشي في بَرِّية فلما سمع الصوت قال : أنت الله الذي لا إله إلا هو فذهب مافوقه وسمع الصوت يقول : لقد غررْت بهذا سبعين عالماً قبلك ولكنك نجوت مني بعلمك .
أنظر طمع الشيطان بهذا العالِم الكبير عبدالقادر رحمه الله وانظر كيف بطل فعل الشيطان مع التوحيد الصادق ، فهو لم يقل : أنت الله الذي لا إله إلا هو وهو في شك وإنما أراد دَحْره بكلمة التوحيد.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله من أفعال الشياطين مع المشركين وغيرهم من أهل الضلال أن الشياطين قد تُعِينهم وتتصور لهم في صورة الآدميين فيرونهم بأعينهم [يعني في اليقظة] ويقول أحدهم : أنا إبراهيم ، أنا المسيح ، أنا محمد ، أنا الخضر، أنا أبو بكر ، أنا عمر ، أنا عثمان ، أنا علي ، أنا الشيخ فلان .
وقد يقول بعضهم عن بعض ، هذا هو النبي فلان أوهذا هو الخضر ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي، وفيهم العابد الجاهل، إلى آخره .(1)
__________
(1) مجموعة الفتاوى 1/157 .(1/67)
هذه النماذج المتقدمة من الأحوال الشيطانية أبلغ من الذي يذكره اللحيدي، وأهل العلم لايقولون : هذه كرامات ومعجزات وآيات ومبشرات كما يهذي هذا الأحمق ، وسوف أذكر إن شاء الله زيادة على ماتقدم لينكشف بذلك تَغْرير هذا وأمثاله بالمرئيات والكشوفات ونحوها مما يغترّ به الجهال ويظنونه كرامات وآيات وهو أحوال شيطانية .
واللحيدي مايزال يتبجح بمخرقة الزجاج لأن له فيها غرض وهو أن يطوّعها لمهدويّته يقول اللحيدي في صفحة (30) : (ثقة الفتاة ووالدها لايظهر أنها نابعة من أناس أهل خداع ومكر بل هناك مايثقون به رغم ماجرى لهم) .
مازال يُزكي الفتاة وأباها ويبذل الجهد الجهيد ليجد مايشهد لدعواه، والمسألة لو كانت كرامة حقيقية وآية ومعجزة فإنه لا علاقة له بشيء من هذا إلا الخيبة كيف وهي بلا شك ولا ريب أحوال شيطانية .
ثم قال اللحيدي بعد ذلك : (ومن أقوال والدها : للموضوع شِقان : شق علمي أتحدث عنه عبر تقارير الأطباء ، والشِق الثاني ديني من رؤى وأحلام وقضايا تراها حسناء في المنام واليقظة ، هذا الشِّق مازلنا متحفظين في الحديث عنه ومحتفظين به، حتى يصل العلم إلى نتيجة وكي لا نسبق الأمور ويُقال كلام حولنا، لكن إذا تدخلت في الموضوع المراجع الدينية لدراسة حالة حسناء حينها نكلف المراجع الدينية بالتعمق بهذا الموضوع) .
أنظر مايُظْفيه الأب على شعوذتهم من الغموض وأن هناك أشياءً وأسراراً ويقظة ومناماً وأنه متحفظ ومحتفظ بما عنده، وهذا والله الدجل ، وأجناسه كثير في تلك الديار .
مخرقة الفتاة المصرية
ثم ذكر اللحيدي حكاية لِفتاة مصرية استيقظت من نومها وهي تشعر بآلام في ذراعها الأيسر ، وفوجئت بلفظ الجلالة (الله) على ذراعها مكتوب بلون الدماء ، وقالت : أنها منذ هذا اليوم ترى شيخاً يزورها في المنام فجر كل يوم لإيقاظها لأداء صلاة الفجر.(1)
__________
(1) الرؤى ، ص31 .(1/68)
تقدم نماذج من الأحوال الشيطانية وسوف أذكر زيادة على ذلك مما ينتفع به من وفقه الله ولا يكون مضحكة ومسخرة للشيطان.
أما هذه المهزلة الثانية فما دخل اللحيدي الضال فيها ؟ إنه يفضح نفسه مع أنه مفتضح بمجرد الدعوى دون هذه الشعوذات التي صار يروّج سوقها الكاسد إلا عنده وأمثاله .
فكون هذه البنت توقظ لِصلاة الفجر فكثيرون قديماً وحديثاً يحصل لهم ذلك وهذا في الغالب يكون من مؤمني الجن فهذا إذا صَحّ فهو يخص البنت فهو إعانة لها على طاعة الله ، ويحصل لكثير من الناس أبلغ من هذا ولا يُخبرون أحداً ، وقد يخبرون بذلك ولايغترون ولايعجبون بنفوسهم .
أما كتابة اسم الله على ذراع البنت بلون الدماء فإن كانت الكتابة بالدم فأخزى الله من فعل ذلك إذْ أن هذا الفعل مما يُتقرب به إلى الشياطين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ومثل أن يكتب أسماء الله أوبعض كلامه بالنجاسة .(1)
يريد الشيخ أن الذي يفعل ذلك يكون متقرباً للشيطان بما يريد فيخدمه الشيطان، وفيما بعد إن شاء الله أنقل كلام الشيخ الذي فيه هذه العبارة ليتبين الأمر زيادة .
والمراد هنا أنه على تقدير صحة ذلك وليست الكتابة بدم أيضاً فأي شيء في هذا ؟ أيُجعل الدين هكذا مهازل ؟
وما أشبه أن تكون هذه الحكاية نسخة على حكاية البنت اللبنانية لاسيما واللحيدي يزعم نها حصلت بعدها بسنة ، فتأمل فاللبنانية يزعم أنها أُمرت بالمنام بالحجاب قبل مخرقة الزجاج، وهذه المصرية يزعم أنه منذ هذا اليوم يعني يوم كتابة اسم الله ترى شيخاً يزورها في المنام فجر كل يوم لإيقاظها لأداء صلاة الفجر.
وقد تقدم بيان رشوة الشيطان وتقدمت إشارة لما في لبنان من المخارق وهانحن ننتقل إلى مصر ، فهنا حَدِّث ولا حرج ، والمغرور من خُدع .
طفلة الجزائر
__________
(1) الفرقان ، ص144 .(1/69)
والآن ينتقل اللحيدي الضال مُرَوِّج الضلال إلى الجزائر فهناك طفلة عمرها سبع سنوات زعم أنها تذرف خيوطاً ملَوّنة من عينيها بدلاً من الدموع وأن والدها طالب مساعدته على علاج ابنته وإنقاذها من حالتها المرضية .
هذه الحكايات يزعم اللحيدي أنها حصلت لأمر حدث وهو دعواه المزيّفة .
فتأمل عيون تذرف بدل الدموع خيوطاً ملوّنة !!؛ فيالها من حالات شيطانية خبيثة يروّجها هذا الضال ، ولو أن والد هذه الطفلة يبيع خيوط عيون ابنته على اللحيدي لِيَشُدّ بها مَهْدَويّته ثم يعالجها بالثمن لأن الأحوال متشابهة والسوق التي تروج فيها هذه البضائع واحدة.
طفل الأردن
ثم انتقل اللحيدي إلى الأردن فهذا طفل يدمع دماً عند البكاء والتثاؤب فهذه أساطير اللحيدي وشهود مهدويته .
السمك
والآن جاء دور السمك فسمكة(1)في السنغال مكتوب في جوفها عبارة (محمد عبدالله ورسوله) وبيضة بالكويت كُتِبَ عليها من جوفها اسم (محمد) وحتى اللحم والبطاطس قال : وكل هذا كما قلت سابقاً تحقيقاً لقوله تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} يعني أن كل هذه الأحوال حصلت بمناسبة دعوى اللحيدي. {فاعتبروا ياأولي الأبصار} .
المكوك الأمريكي
__________
(1) ليس المراد إنكار أن يكون مكتوباً على السمكة مثل ذلك لكن المنكر هو أن اللحيدي يصرف كل هذه الحوادث لِدَعْواه ، فحكاية السمكة هذه إن صحّت فقد جرى مايقاربها قديماً سمكة مكتوب عليها ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء 13/145 ، لكن ما دخل اللحيدي ؟ إنه الإفلاس .(1/70)
ثم انتقل اللحيدي إلى ملائكة مكوك الفضاء الأمريكي لتصديق دعواه ، قال : (ولقد رأيت بأم عيني فيلماً مصوراً خارج غلاف الأرض من خلال كاميرا مصوّبة إلى سماء الأرض، وكان المصوِّر داخل مكوك الفضاء الأمريكي، وجمعت صورته منظراً للغيوم الرعدية تحت الغلاف الجوي ، وكان فوقها من خارج غلاف الأرض يسير معها بانتظام دوائر من نور على هيئة مصابيح، وكان المنظر مهيباً مما يُريهم الله تعالى من تجلي ملائكته ، حتى أن منظراً آخر أكثر مهابة لما يشبه انطلاقة نجم من خارج الغلاف الأرضي ثم فجأة يُغيّر اتجاهه منقلباً بسرعة البرق لا يدرك هؤلاء الكفار حقيقته من جهلهم، وكم بهرني منظر ملائكة الله تعالى تتجلى لهم خارج غلاف الأرض فسبحان الذي قال : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} فهاهو يريهم آياته في الآفاق سبحانه وأعجب من هذا أنه صدّهم عن إدراكها والإيمان بها سبحانه .
أقول : اللحيدي يزعم أنه المهدي الذي يهدي الناس وهاهُم الكفار يُضِلَّونه ، وحسْبه من الشر أن ينظر في هذه الأفلام ، أما دوائر النور المزعومة فكذَبَ اللحيدي ليست هي الملائكة ، ولم يبق من المسخرة والمهازل إلا أن تتجلى الملائكة للكفرة ويتمكنون من أخذ الصور لهم كما يتصور هذا الضال حيث يقول : (وكم بهرني منظر ملائكة الله تعالى) وهذا من جهله وسخافته، قد تقدم ماذكره شيخ الإسلام من رؤية العرش وفوقه نور وكيف أنه من مخارق الشيطان .
قال شيخ الإسلام : ومنهم من يرى أشخاصاً في اليقظة يدّعي أحدهم أنه نبي أوصدّيق أو شيخ من الصالحين ، وقد جرى هذا لغير واحد .(1)
أنظر تلاعب الشياطين وأن هذا يحصل باليقظة، واللحيدي يجعل مخارق الملاحدة ملائكة .
__________
(1) الفرقان ، ص143 .(1/71)
وقال الشيخ رحمه الله : ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر إما الصديق رضي الله عنه أوغيره قد قصّ شعره أوحلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أومقصر. وإنما الجن قد حلقت شعره أوقصّروه ، وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطيء فإن كان الإنسي كافراً أوفاسقاً أوجاهلاً دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يُعاوِنونه إذا وافقهم على مايختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أوغيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغوِّرون له الماء وينقلونه بسبب مايرضيهم به من الكفر .
وقد يأتونه بما يهواه من أمرأة أوصبي إما في الهواء وإما مدفوعاً مُلجأً إليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام.
وإن كان الرجل مطيعاً لله ورسوله باطناً وظاهراً لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أومسالمته ، إلى آخر كلامه .(1)
ملائكة روسيا
ثم انتقل اللحيدي إلى روسيا حيث يقول ( اضطرّت السُّلُطات الروسية إلى إغلاق أحد المطارات في سيبيريا بسبب وجود جسم مضيء)(2).
ثم قال اللحيدي : (وهذا الحدث يُثبت أمرين .
الأول : تحقق مشاهدةٌ حقيقية للملائكة هنا لايتطرق إليها احتمال الوهم لتحقق مشاهدة طاقمي الطائرتين له .
ثانياً : تعرّض هذا المرئي هنا للطائرتين مايفسّر كثرة سقوط الطائرات في الآونة الأخيرة من غير سبب معروف) .
وهذا من جنس مخارق الشياطين وتلاعبهم بالكفار واللحيدي الضال يقول : ( لا يتطرق احتمال الوهم أن ذلك ملائكة ) ولقد كذب هذا الضال.
__________
(1) مجموعة الفتاوى ، 11/288 .
(2) الروئ ، ص33 .(1/72)
وهنا سوف أنْقُل ماحدث لأبي ميسرة القيراني المالكي أحمد بن نزار ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/396) فيها عبرة بتلاعب الشيطان ومحاولة إضلاله الناس ولو جرت لهذا اللحيدي الضال لأضلّ الناس بها !
كان أحمد بن نزار يختم كل ليلة في مسجده فرأى ليلة نوراً قد خرج من الحائط وقال : تملاّ من وجهي فأنا ربك ، فبصق في وجهه وقال إذهب يامعلون فطئ النور . إنتهى .
تأمل هذا وماتقدم ذكره نحواً منه لعبد القادر الجيلاني وإذا كان الشيطان يطمع بهؤلاء ليضلهم فكيف بالصعافقة الحمقى والجهلة الضُّلاّل ؟!
ثم إن اللحيدي ذكر من جنس ماتقدم وذكر الرياح والكسوف وموت بعض المشاهير وكل شيء يصبّه في قالب دعواه الكاذبة.
ثم ذكر طفلاً عاش بعد الموت ، وهو لو كان يعرف التاريخ لعلم أن كل ماذكر إن صَحّ منه شيء فقد سبق في الماضي حصول ماهو أبلغ منه ولا أُقيمت الدنيا ولا أُقْعِدَتْ ، حتى الذين يعيشون بعد الموت سبق منهم خلق وقد وضع ابن أبي الدنيا كتاباً فيمن عاش بعد الموت ، فتأمل .
واللحيدي بنى أمره على خرافات ومخرقات شيطانية كادَهُ الشيطان بها في اليقظة والمنام ليستحكم الضلال والإضلال .
خداع الشيطان واستدراجه
ومن ذلك زعمه بأن امرأةً كويتيه رأت في المنام أن أهل الكويت مجتمعين وينادي بهم مذيع التلفزيون الكويتي يقول : الآن يأتيكم المهدي ، وهم ينتظرون بلهفة إلى آخر الرؤيا التلفزيونية. إنتهى.
وبلا شك أن هذه الرؤيا من الشيطان ليزيد بها ضلال اللحيدي ومن يغترّ به وكأنّ هذه الأحلام قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتأمل (وهم ينتظرون بلهفة) يخادعه الشيطان وقد خدعه.
المخرقة الكهربائيّة(1/73)
ومما يبين سخفه في الأحلام واليقظة أنه ختم كتابه بمخرقة شيطانية زعم أنها آية من آيات الله تعالى وأنها تأييد لما كتبه في هذا الكتاب لأنها حصلت وهو يكتب كتابه قال : (بلغني نبأ سكان شارع مسلم مطر بالمعادي بمصر أن أجسادهم تُصْدر موجات كهربائية تُضيء لمبات مفكات اختبار الكهرباء عند وضعها على أجسادهم). ص (47) .
أقول : كذب اللحيدي الضال وافترى فليست هذه آية من آيات الله بل إنها حال شيطانية وكذب اللحيدي الضال المفتري حيث قال:
وما أجراها سبحانه إلا سكينة لهم وتبصرة ، يعني أتباعه، وهل تكون السيكنة والتبصرة بالمخرقة التي ظهرت من مضانها المصريين. وكم في مصر مما لا يُحصى من جنس هذه الأحوال الشيطانية.
وأي سكينة وأي تبصرة هذه لو كان اللحيدي يعقل، ثم وما علاقته هو بما يجري في مشارق الأرض ومغاربها ؟!!
وإنما المطلوب ممن يتبع هذا الضال المضل أن يُوَطِّن نفسه على قبول المحالات والخرافات والخزعبلات ولا يستعمل عقله فضلاً عن العلم الذي أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي هو كاشفٌ لخرافات المخرفين ومُبْطل لدعاوي المبطلين وإلا فليحذره غاية الحذر.
إن الكرامة لها ضابط وهو أن تظهر على يد وَليٍّ من أولياء الله. والخارقة تظهر على يد كافر أومسلم ضال ، وتكون من جنس هذه السخافات .
ثم نقول : يالها من مهدوية تؤيَّد بدموع زجاج ودموع خيوط وأجسام مكهربة !! إنها بأجمعها لخوارقٌ خبيثة تليق باللحيدي وبمن ظهرت على أيديهم فهنيئاً ! .
أما كرامات أولياء الله فحاشا وكلاّ أن تشبه هذا السّخف والهزال بل تكون لنصرة الدين وتثبيت الإيمان وزيادته ولاتشبه هذه المخارق .(1/74)
والعجب أن هذا اللحيدي الضال لايخاف الله ولا يستحيي من الناس فهو يتابع المخرقة المصرية ويقول : ولم تقتصر هذه الشحنات الكهربائية على بني البشر بل تعدّت للقطط والحيوانات الأخرى وحتى أدوات المطبخ ، ثم يختم هذه الحال الشيطانية بذكر قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} .
هكذا يتلاعب بكلام الله حيث يستدلُّ به على مخارق المصريين وأحوالهم الشيطانية ، وكم في مصر من مضحكات، ولكنه ضَحِكٌ كالبكاء ! .
وتأمل الآن ماذكره شيخ الإسلام من تلاعب الشيطان بالناس ليضلهم عن الصراط المستقيم ، وإذا كان مثل هذا يحصل منه في اليقظة فكيف بالمنام والمخارق والشعوذات ؟!
قال رحمه الله : وكثيراً من الناس أهل العبادة والزهد من يأتيه في اليقظة من يقول : إنه رسول الله ويظن ذلك حقاً، ومن يرى إذا زار بعض قبور الأنبياء أو الصالحين أن صاحب القبر قد خرج إليه فيظن أنه صاحب القبر ذلك النبي أو الرجل الصالح وإنما هو شيطان أتى في صورته إن كان يعرفها وإلا أتى في صورة إنسان وقال : إنه ذلك الميت ، وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع ويقول : إنه الخضر فيعتقد أنه الخضر وإنما كان جنياً من الجن . إنتهى .
وقال شيخ الإسلام ـ أيضاً ـ ومنهم مَنْ يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول : أنا ربك ، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول. إنتهى .
تقدم هذا وماجرى لعبد القادر والقيرواني، والمراد هنا أن هذا الضال اللحيدي زعم أنه جاءه الأمر بالمنام أن يرقب بعد أسبوع من تلك الرؤيا بدر ذلك الشهر وأنه نظر إلى وسط السماء فرأس من آيات ربه الكبرى بزعمه .(1/75)
وهكذا يتلاعب به الشيطان وقد نال منه مراده فضَلَّ وأضلَّ مَنْ أَضَلْ ـ فعياذاً بالله منه ـ وقد شَبّه نفسه بالنبي في معراجه قال تعالى : {لقد رآى من آيات ربه الكبرى} وكذب اللحيدي رأى مخارق شيطانية ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله : ومنهم من يرى أشخاصاً في اليقظة يدّعي أحدهم أنه نبي أوصدّيق أوشيخ من الصالحين، وقد جرى هذا الغير واحد . إنتهى .
وحيث أنه قد تبين إضلال الشياطين لبني آدم وإغوائهم إلا من عصم الله وجعل له فرقاناً يفرق به بين الكرامات والأحوال الشيطانية فنختم هذا الفصل بقصة حدثت في الماضي ذكرها صاحب كتاب المدخل 4/215،216 حيث قال : كان بعض المريدين يحضر مجلس شيخه ثم انقطع ، فسأل الشيخ عنه فقالوا له : هو في عافية ، فأرسل خَلْفه فحضر فساله ما الموجب لانقطاعك ، فقال : ياسيدي كنت أجيء لكي أصِلْ والآن قد وصلت فلا حاجة تدعو إلى الحضور.(1/76)
فسأله عن كيفية وصوله فأخبره أنه في كل ليلة يُصلي وِرْدَهُ في الجنة، فقال له الشيخ : يابني والله مادخلتُها أبداً فلعلّك أن تتفضّل عليّ فتأخذني معك لعلي أن أدخلها كما دخلتها أنت ، قال : نعم فبات الشيخ عند المُريد فلما أن كان بعد العشاء جاء طائر فنزل عند الباب ، فقال المريد للشيخ : هذا الطائر الذي يحملني في كل ليلة على ظهره إلى الجنة فركب الشيخ والمريد على ظهر الطائر فطار بهما ساعة ثم نزل بهما في موضع كثير الشجر، فقام المريد ليصلي وقعد الشيخ ، فقال له المريد : ياسيدي أما تقوم الليلة ؟ فال الشيخ : يابني الجنة هذه وليس في الجنة صلاة ، فبقي المريد يصلي والشيخ قاعد، فلما أن طلع الفجر جاء الطائر ونزل فقال المريد للشيخ : قم بنا نرجع إلى موضعنا ، فقال له الشيخ : إجلس ما رأيتُ أحداً يدخل الجنة ويخرج منها ، فجعل الطائر يضرب بأجنحته ويصيح حتى أرَاهُمْ أن الأرض تتحرك بهم ، فبقي المريد يقول للشيخ : قم بنا لئلا يجري علينا منه شيء، فقال له الشيخ : هذا يضحك عليك يريد أن يخرجك من الجنة فاستفتح الشيخ يقرأ القرآن فذهب الطائر وبقيا كذلك إلى أن تبين الضوء وإذا هُما على مزبلة والعَذِرة والنجاسات حوْلهما فَصَفَعَ الشيخ المريد وقال له : هذه هي الجنة التي أوْصلك الشيطان إليها قم فاحضر مع إخوانك . إنتهى والكلام في الأحوال الشيطانية يحتمل مجلدات وهو حاصل في الأمم المتقدمة وفي هذه الأمة وهو في زماننا أكثر مايكون لكنه جاء بوجوه متغيرة عما كان في الماضي إلا القليل ، فالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل .
واعلم أن الشيخ لم يشك في أن تلميذه قد تلاعب به الشيطان وإنما جاءه بتلك الحيلة ليبين له أن ماوصل إليه ماهو إلا من الشيطان.
المباهلة(1/77)
ثُمَّ ليعلم اللحيدي ومن شابهه ممن يتلاعبون بالدين حسب ضلالاتهم وجهالاتهم وأهوائهم أنهم سوف يُلجئون إلى أضيق المسالك حتى تستبين للناس انحرافاتهم فالمباهلة سنة ماضية مازال يعمل بها أهل الإسلام وقد أنزل الله بها قرآنا : {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فأنا أباهل اللحيدي الضال على أكبر دعاويه وأنه فيها كاذب ضال وهي :
1- أنه مُحَدَّث أورسول أومهدي .
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبعث قبل القيامة ويأتي ومعه الرسل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو محمد بن عبدالله الوارد ذكره في أحاديث المهدي.
إنه إن يتهيأ اللقاء للمباهلة فهو المطلوب وأن لم يتهيّأ ذلك فأنا أكتب دعاء أدعو به ويؤمّن من يحضرني ثم هو يدعو بالدعاء نفسه بحضور جماعة يؤمّنون ويشهدون أن يهلك الله الكاذب، والله سبحانه حكَم عدل لا يظلم أحداً .
قال شيخ الإسلام : المباهلة مبناها على العدل .
ثم ليعلم اللحيدي أنه إن أبى المباهلة فقد وَرِثَ نصارى نجران حيث امتنعوا من مباهلة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتبين أنه كاذب وإلا فما الذي يمنعه من ذلك وهو قد نقل كلام ابن تيمية في كتبه حيث يقول : (قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : عُلِمَ من سنة الله تعالى وعادته أنه لايؤيّد الكذاب بمثل ما أيّد الصادق قط ، بل لابد أن يفضحه ولاينصره ، بل لابدّ أن يهلكه .(1)ذكر هذا اللحيدي في هامش (ص4) (الرؤى) فهذا إنصاف وعدل وهل يطعن فيه إلا مبطل ! .
ثم إنه إن شاء اللحيدي أن ندعو بالهلاك أو بما شاء فلا مانع. والحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملحق
__________
(1) النبوات ، ص166 .(1/78)
لما فرغتُ من كتابة مسودّة هذا الرّد حضر عندي ستة من أتْباع اللحيدي المؤمنين به، فقرأت عليهم مايقارب النصف من كتابي هذا فضاق الوقت عن إكماله فأعطيتهم النسخة ليكملوا قراءتها وطلبت منهم الحضور للمباهلة بعد ذلك فأظهروا من جزْمهم وإصرارهم على ماهم عليه وأنهم على استعداد للمباهلة دون قراءة باقي النسخة ولكنني أرْجَأْتهم لعلهم يُدركون ماوقعوا فيه من الأمر العظيم ويستشعروا أيضاً شأن المباهلة، فذهبوا ومعهم النسخة ثم عادوا، وقد أخبروا صاحبهم اللحيدي فأظهر الجزم على المباهلة وحده، وكانوا قبل قد أخبروني أنه على استعداد بأن يُباهل كل الأمة، فمنعهم من الدخول معه في المباهلة ثم في الآخِر سمح لهم بالاشتراك معه فدعونا الحكم العدل السميع البصير الرقيب الشهيد سبحانه الذي يحكم بين عباده بالحق فيما يختلفون فيه أن يُهْلِك الكاذب .
وقد حَصَلَتْ المباهلة في ليلة الجمعة الموافق 9/2/1422هـ .
والجدير بالذكر هنا أن العلماء ذكروا أنه لا يمرّ على المتباهلين أكثر من سنة إلا ويُصاب المبطل ، وإنني لأبرأُ إلى الله تعالى من حَوْلي وقوتي وألجأ إلى حَوْل الله وقوته ، والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... عبد الكريم بن صالح الحميد
القصيم ـ بريدة ـ شهر صفر 1422هجرية(1/79)