والأوروبيون يعلمون أن اليهود كذبة وأن قتلاهم أقل عن قتلى غيرهم، وأنهم قد يبلغون بضع عشرات من الألوف.. هلكوا فى جحيم العنصرية التى صارح بها الألمان وخافت بها غيرهم، وهى عنصرية تبغض العرب أكثر مما تبغض اليهود كما ظهر من سير الأحداث. إن أوروبا استراحت للهجوم اليهودى على العرب، وباركت مقدماته وصدقت أسبابه- وهى التى اختلقتها- ولو فرضنا زورا أن قتلى اليهود ملايين فلماذا يجلى عرب فلسطين ليحلوا محلهم؟ ونتساءل: هل العنصرية مرض ألمانى اختصر به النازيين وحدهم؟ إن جمهورأ من الفرنسيين يكاد يبلغ نصف السكان ينادى الآن بطرد ثلاثة ملايين من المغاربة أو إرغامهم على ترك دينهم ولغتهم والذوبان فى الجنسية الفرنسية!! والمستقبل حافل بالنذر، أليست هذه نازية؟ وعندما لجأ المسلمون إلى القضاء الإنجليزي لمحاكمة سلمان رشدى على إهاناته لنبى الإسلام ماذا قيل لهم؟ قيل لهم: إن القانون يحمى العقيدة النصرانية وحدها من التطاول، أما إهانة الإسلام ونبيه فهى خارج الموضوع!! أليست هذه عنصرية؟ وقد بلغت مداها فى احتضان الكاتب الأفاك وترويج كتابه بشتى الأساليب! إن الغرب منحاز إلى إسرائيل، كاره للعرب ودينهم، وهو فى الوقت نفسه حريص ألا يوصم بالعنصرية..!! ص _136(5/130)
سيل الهزائم تتعرض وحدة العالم الإسلامى لمزيد من العوائق والمتاعب، وسنشرح أسباب ذلك هنا لافتا الأنظار. أولا: إلى الوحدة الألمانية التى تمت أخيرا بين ألمانيا الشرقية والغربية! لقد كان يوم إعلانها عيدا فى البلاد كلها فقد زالت الفوارق المصطنعة وعاد المواطنون الألمان جميعا صفوفا مرصوصة تحت راية واحدة وشيعت ذكريات الفرقة باللعنة والمقت..!! وأسأل: هل وقع شىء من ذلك عندما خرجت خمس دول إسلامية من وراء الستار الحديدى لتنضم إلى العالم الإسلامى الكبير؟ لقد فرح بعض الناس واستبشروا بمستقبل أفضل لإخوان العقيدة، ولكن جماهير كبيرة كانت تسمع الأنباء وهى فى مكان بعيد، وكأن الأمر لا يعنيها! أو يعنيها على المجاز لا على الحقيقة! ويرجع ذلك إلى أمور، أولها: نجاح السياسات الاستعمارية فى إقامة قوميات مختلفة على الصعيد الإسلامى بلغت سبعين جنسية، تستظل كل واحدة منها بعلم خاص، وأبناء الوطن الواحد قد يشعرون بقرابة الإيمان بينهم وبين الآخرين ولكنهم معنيون قبل كل شىء بإخوانهم داخل الحدود التى رسمتها السياسات العالمية، فالمصرى يهتم بالإسكندرية أكثر مما يهتم "بيافا" والسعودى يهتم "بتبوك " أكثر مما يهتم "بالخليل "، وقد استقرت الأوضاع العالمية على ذلك، وارتضينا نحن ما كان.. أما قول الرسول الكريم " المسلمون أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " فأمل لا يعرفه الواقع الأليم، وعندما نسعى إليه نعتبر خياليين.! والأمر الثانى: أن بعض الشواذ يسلطون الخلاف فى الرأى على مبدأ الأخوة الجامعة، فإذا كان يرى لحم الجزور ناقضا للوضوء أو سدل اليدين ناقضا للصلاة طارد مخالفيه فى الرأى وضيق عليهم الخناق ليلحقهم بأهل الملل الأخرى إ! وعندما يغلب هذا السفه فالويل لوحدة الأمة. ص _137(5/131)
وأذكر أن شابا جاءنى يسألني أن أقترح له اسم كتاب يدرسه فى الفقه، فذكرت له كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق ثم استدركت أساله ماذا قرأت من كتب الأخلاق؟ فسكت متحيرا ! فقلت له لابد أن تقرأ أولا تعاليم الإسلام فى الصدق والأمانة والوفاء والحياء والرحمة والحب.. الخ. فلا قيمة لفقه بلا خلق..! وهناك أمر ثالث: إن الغزو الثقافى يشن غارة شعواء على التقاليد الموحدة للأمة وقد علمنا أن التاريخ الفرنجى يسبق التاريخ الهجرى، وأن القانون يسبق الشريعة وأن الرطانات الأعجمية تسبق اللسان الفصيح. وقد لاحظت أن اليهود حراص على عباداتهم ـ فى المفاوضات الأخيرة ـ على حين يتبجح العرب بترك الصلاة والصيام !! ويقولون عن أنفسهم إنهم علمانيون! لقد برزت فى أيام مشئومة عروبة عريانة عن الإسلام فماذا صنعت بالأمة الواحدة؟ أثارت البربر فى أقطار المغرب وأثارت الأكراد فى العراق، وأقرت الفواصل بين العرب والترك والهنود والزنوج، وهزمت الإسلام فى ميادين كثيرة، وأعانت الأديان الأخرى على الانطلاق وتسنم مراكز الصدارة!! إن الوحدة الإسلامية تحتاج اليوم قبل الغد إلى أن نراجع أنفسنا وأحوالنا وإلا فسيل الهزائم لن يتوقف!! ص _138(5/132)
العين الحمئة موقف الغرب منا يحتاج إلى محاذرة وتوجس، فإن ينابيع حقده على ديننا تفيض ولا تغيض، ثم هو يضربنا ويشتكى منا! ويعتدى علينا ويتهمنا! ومن أيام قرأت قى صحيفة الوفد هذا العنوان على امتداد الصفحة الأولى "تصاعد الحملات المعادية للعرب والمسلمين فى أوروبا "! يقع ذلك فى الوقت الذى نرى فيه المسلمين فى البوسنة مذبوحين ذبح النعاج ومرتبين فى صفوف ممتدة طويلة !! إن مشاعر من الغل الدفين أشرفت على هذه المجزرة، والبلد محاصر والمآسي لا حصر لها.. ومع ذلك كله فالحملات ضدنا تتصاعد!! وتذكرت ما كتبه الأستاذ فاروق جويده عن عودة الوجه القبيح إلى أوروبا، وكيف أن كره الإسلام والنيل منه يسيطران على العقل الباطن والظاهر عند الأوروبيين! قال: "منذ سنوات قليلة أقيم فى إيطاليا ملهى ليلى، أطلقوا عليه اسم مكة. . وفى الأسبوع الماضى ظهر حذاء جديد فى لندن سعره 1 ص دولارا كتبت عليه أيات من القرآن الكريم باللغة العربية..!! ". إن العين الحمئة التى تسيل منها ضغائن القوم ضد محمد ودينه لا تزال تقذف بالأقذار، وتدمغ أصحابها بالعار، والغريب أن المسلمين غافلون لا أدرى أيدرون أم لا يدرون؟ وقد أملت السياسة الغربية على الأمة العربية ألا تؤلف فيها أحزاب دينية- أى إسلامية- ويقع ذلك وسط مفارقات صارخة فإن الأحزاب الدينية أو اليمنية تحكم الغرب تقريبا تحت عنوان الديمقراطية المسيحية، فى الوقت الذى يحظر فيه العنوان الاسلامى عندنا رقد رفض القضاء إلانجليزى محاكمة "سلمان رشدى " الذى آذى الله ورسوله بكتابه الخسيس, لإن القانون هناك يحمى الدين المسيحى، ولا يمنع التطاول على الأديان الأخرى. . ص _139(5/133)
ويقول الأستاذ فاروق جويده:" فى الأسبوع الماضى احتفلت الجامعات الأمريكية بزيارة سلمان رشدى لها، وصدور طبعة شعبية من كتابه آيات شيطانية، وسط ضجة إعلامية ضخمة، ومهرجانات تكريم وحفاوة شعبية ورسمية..! " إننى أوجس خيفة على مستقبل الطوائف الإسلامية فى فرنسا وغيرها من دول أوروبا، فإن هناك أحزابا تطالب علنا بتنصير أولئك المسلمين أو طردهم.. ماذا فعلنا ليبقى هذا الحقد حيا فى قلوب الأوروبيين منذ القرون الوسطى إلى الآن؟ لقد رجحت كفتهم،،دخلوا بلاد الإسلام فاتحين، واستنزفوا ثرواتها وعاثوا فى الأرض فسادا، وفرضوا علينا قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وتقاليد تحمى العلمانية والإلحاد، ماذا يبغون بعد هذا كله !! إن هذأ السؤال لا يوجه إلى الأوروبيين والأمريكيين فهم كما قال تعالى فى أباطرة الرومان قديما: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا). السؤال يوجه إلى المسلمين المسترسلين الرقود!! إن صوت غطيطهم يسمع من مكان بعيد.. ص _140(5/134)
إحصائيات التنصير فى عام الأخبار التى تنتهى إلى هذه الأيام تبعث على الكأبة. فالإسلام يضرب بقوة فى أماكن كثيرة! ودماء المسلمين تسيل بغزارة! والضاربون لا يخشون قصاصا ولا يرهبون يوما ولا غدا.. !! وباذلو الأموال لمحاربة الإسلام ينفقون بسخاء، ويعدون الأجهزة الفعالة لدعم التنصير وتوسعة ميادينه. وأمامى بيان بما أنفق العام المنصرم جاء فيه.. "أصدرت الهيئة الدولية لبحوث الإرساليات المسيحية نشرة احصائية عن التنصير وأنشطته فى العالم لعام 1991 جاء فيه أن عدد المؤسسات التنصيرية ووكالات الخدمات المسيحية بلغ 120880 وكالة ومؤسسة كما بلغ دخل الكنائس العاملة فى مجال التنصير 9320 بليون دولار، وأنفقت 163 بليون دولار لخدمة المشاريع المسيحية. وحققت الإرساليات الأجنبية دخلا مقداره 8.9 بليون دولار. وذكرت أنه يعمل فى مجال خدمة التنصير 82 مليون جهاز كمبيوتر لحفظ ونشر المعلومات، وأنه صدر86610 كتابا، و 00 249 مجلة أسبوعية للدعوة، وبلغ عدد الأناجيل الموزعة مجانا 53 مليون نسخة، أما محطات الإذاعة والتلفاز المعنية بالتبشير فتبلغ 2340 محطة.. وإذا جمعت الأرقام المنفقة فى أغراض التبشير للسنة 1991 بلغت 181 مليار دولار..!. ومن حق أوروبا وأمريكا واستراليا أن تنفق ما تشاء لنصرة عقائدها، ولكننا نتساءل: ماذا يفعل الإسلاميون فى مواجهة هذا الزحف الذى ما خفى منه أعظم مما بدا؟؟ إنهم- على فقرهم وضعفهم- يستطيعون الكثير المجدى! بيد أن هناك ما نشكو منه!! فالعقلاء المعتدلون فى مجال الدعوة يقيد نشاطهم عمدا، ويكادون يدورون حول أنفسهم لانسداد الطرق أمامهم!! والمتطرفون البله يؤذون أنفسهم ببعض مسالكهم ويؤذيهم خصومهم بصنوف من البهتان ينسبونها إليهم، هم منها أبرياء، والأمر كما قيل: ص _141(5/135)
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل..!! وأريد لفت أصحاب العقول والضمائر إلى خطورة هذه الأوضاع! منذ أيام قتل خمسون مسلما فى "سريلانكا " بالأسلحة البيضاء، قتلتهم عصابات التاميل شر قتلة! وذهب الخبر المنشور مع الصدى ما تحرك له أحد، وما تخلف عنه أثر !! أنا موقن بأنه لو كان بعض هؤلاء القتلى من اليهود لزلزلت القارات الخمس، ولأرسلت بعض الأساطيل لتعقب القتلة !! أعرف أن الدم الإسلامى أرخصته أحوال أمتنا، فأصبح أهون الدماء المسفوكة، فهل إذا تألم أصحاب الغيرة لهذه الأوضاع اعتبر ألمهم عجبا، ونثرت حوله الإشاعات والتمست التهم؟؟ أليس من حق المظلوم أن يتألم؟ أليس من حق المسلمين أن يصرخوا إذا ضربوا؟ إننى أطلب من العاملين فى الحقل الإسلامى أن يتبينوا مواقع أقدامهم.، فإن المتربصين كثيرون، وأطلب منهم قبل ذلك أن يحسنوا فهم دينهم وفقه أحكامه وقضاياه حتى لا يمكنوا من أنفسهم ويجروا التهم على دينهم. ص _142(5/136)
زحف الكنائس عن التاريخ الأول للإسلام نعلم أنه صان لأهل الكتاب معابدهم، ويسر لهم إقامة الشعائر بها، وجعلهم أحرارا فى التردد عليها، وأحاط بالتقدير صلبانهم وشتى مأثرهم وهذا بديهى، إنه يعترف بالأديان الأولى فكيف يعمل على إهانتها أو إساءتها أو اعتراض أصحابها؟ وقد تقررت هذه التعاليم فى كل المعاهدات التى تمت بين المسلمين والنصارى! ويروى التاريخ أنه فى أثناء المفاوضات لتسليم بيت المقدس حضرت الصلاة، وهم عمر بن الخطاب بالخروج لأدائها، فقال له الأسقف متلطفا: صل مكانك !! فى الكنيسة.. فقال عمر: لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وأخذوه قائلين: هنا صلى عمر !! لقد كان الخليفة الراشد حريصا على بقاء الكنيسة لأهلها يؤدون فيها عباداتهم، وهذا هو الوفاء ثم وقعت الحروب الصليبية بعد ذلك بخمسة قرون، وجاء الأوروبيون فذبحوا المسلمين فى القدس وحاولوا طمس معالم الإسلام فى كل مكان، وخلال ثلاثة قرون من الكر والفر فشلت الحملات الصليبية ورجع الأوروبيون مدحورين.. ثم عادوا مرة ثانية خلال هذا القرن ووضعوا سياسة ماكرة لإطفاء منارات الإسلام ووضع الطابع الصليبى على الأرض العربية وظهر ذلك فى بناء الكنائس بكثرة مقصودة وإسراف شديد. واستطاعت فرنسا أن تقيم فى لبنان مئات الكنائس، وأن ترسم الصلبان على قمم الجبال، ووصلت آخر الأمر إلى إقامة دولة رومانية فى بلد أربعة أخماس سكانه من المسلمين!! ب!ل لقد تكون جيش لبنان الحر (!) ليقاتل مع اليهود ضد الوجود العربى !! ص _143(5/137)
واتجهت المحاولة الى مصر لتغيير صبغتها الإسلامية، ولكنها اصطدمت بتشريع يقف دون ذلك ولولا هذأ التشريع لجمعت مائة مليار دولار وبنيت بها الكنائس للإنجيليين والكاثوليك والسبتيين، ولكنائس أخرى اصطلحت مع اليهود وعادت إلى العهد القديم. ما عسى يصنع المسلمون بإزاء هذا، الزحف؟ بل ما عسى تصنع الكنائس الوطنية هنا؟ لذلك ألفت الأنظار إلى خطورة هذه المقاصد الاستعمارية، وأعود إلى ما قلته أولا من أن أهل الأديان المختلقة ينبغى أن تقام لهم معابد تسعهم لا يشعرون داخلها بضمور أو تعصب كما لا يشعرون باستعلاء أو اعتداء، ولعل أمثل الطرق وأعدلها وأبعدها عن الاعتراض ربط ذلك بأعداد السكان، فتبقى حرية التدين للجميع دون وكس أو شطط. ص _144(5/138)
الحرب القذرة قرأت التحرش الإسرائيلي بمصر والتلويح بأن حربا قد تقع فى المستقبل القريب أو البعيد! ولم يكن النبأ مفاجأة لى فإنى أشعر بأن هناك حربا معلنة على مصر تخوضها البلاد فى صمت وتواجه نتائجها بجلد، ولا أدرى بم تنتهى؟ هناك حرب المخدرات التى تخوضها الشرطة المصرية على امتداد الحدود الشرقية والشمالية لسيناء، وداخل البلاد نفسها، إن هناك الآن ملايين من المساطيل قتلوا صحيا ونفسيا، ودور إسرائيل فى قتلهم معروف! ولا تزال الدولة اليهودية مستميتة فى توسيع الحرب القذرة، وتكثير ضحاياها، وخسائرنا تنمو نفسيا وماليا. وقد قيل إن مليارات من الجنيهات تذهب فى هذا السبيل.. وأرى أن نكون صرحاء وقساة فى مقاومة هذه الفتنة حتى تنجو البلاد من عواقبها.! وهناك الحرب المعلنة على المحاصيل المصرية فى ميدان الزراعة، وهى حرب بالغة الخسة أساسها توزيع بذور رديئة على الفلاحين توضع فى الأرض ولا تنبت شيئا له قيمة (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) وقد تقهقرت مصر فى ميادين كانت سباقة فيها، كان قطنها ينير الليل ويغمر العالم ، فأصبحنا فى إنتاج القطن متخلفين، وسبقتنا فى مجال المنافسة الحرة دول أخرى وكذلك الحال فى جملة من الحبوب والفواكه.. والغريب أن اهتمامنا بشواطئنا على البحر الأبيض والبحر الأحمر ظهر فى بناء القرى السياحية الكثيرة! ولست أغفل السياحة ومواردها ولكنى أتساءل أين الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية فى بناء سيناء، وتعمير الصحراء؟ وأين المستعمرات التى تضم أفواج الشباب ليحرسوا مستقبل بلدهم أمام عدو يشتغل بجن سليمان! ص _145(5/139)
إن فنون اللذة لا تزدهر إلا مع الهدم والضياع، وأعتقد أن إسرائيل يسرها أن تتحول شواطئ البحرين إلى سلسلة من المستعمرات المائجة بأنواع التسلية؟! يخدم فيها المصريون ويستمتع فيها الأجانب الوافدون.. وبقى أهم عنصر يرسم مصير المعركة بيننا وبين اليهود.. إن الدولة هناك قائمة على الدين، والعقيدة مستغلة أوسع استغلال فى النشاط الأخلاقى والاجتماعى والزراعى والصناعى، وقد رأينا فى المفاوضات الأخيرة كيف يحترم اليهود يوم السبت، وكيف يقيمون شعائره بجد، على حين كان القوميون العرب لا يؤدون صلاة ولا يحترمون شعائر!! فهل الانحلال العقائدى أوالميوعة العلمانية يهبان النصر للعرب؟ إن التحرش الإسرائيلى الذى ورد على ألسنة بعض المسئولين اليهود ليس إلا مظهرا عاديا لحرب خفية حقيقية يشنها اليهود- على خصومهم جميعا وفى طليعتهم مصر، حتى إذا جاء اليوم الموعود كان لهم لا لنا !! ولكى نضمن مستقبلا شريفا لأمتنا يجب أن نهب سراعا لمقاومة العدو المتسلل عن طريق المخدرات التى تذهب العقل والملهيات التى تذهب العرض والمال، والحاضر والمستقبل. ص _146(5/140)
نظرات مسلم مقهور لقيت صديقا من علماء الدين فى إحدى الدول التى تحررت عقب انهيار الاتحاد السوفيتى كانت ملامح وجهه جادة ونظراته أدنى ألى الحزن، وعندما أبتسم للقائى كان ابتسامه كشعاع يشق طريقه بصعوبة بين طبقات من السحب !! قلت فى نفسى: أنه صورة من قومه الذين قضوا أكثر من سبعين عاما تحت وطأة الشيوعية، وضعف هذه المدة تحت وطأة القيصرية، وفى كلا العهدين كانوا يسامون الخسف ليتركوا الإسلام، ولكنهم صمدوا وقاوموا الفتنة وتحملوا الهوان. وهاهم أولاء يخرجون أحياء من بين الأنقاض ويبحثون عن إخوان العقيدة ليؤنسوا وحشتهم ويسكنوا ورعهم.. كان اللقاء فى الأزهر وآذان الظهر يشق الفضاء، والمستمعون يرددون كلمات الأذان بهدوء. ونظرت إلى صاحبى فخيل إلى أنه يقول لى هذه نعمة كنا نحن محرومين منها، ما كان أذان يرتفع عندنا وإذا ارتفع فما كان أحد يجهر بترديد الكلمات! ما أطول عذاب المستضعفين، وأسوأ ما نزل بهم، الصوت الوحيد الذى يرتفع طوعا أو كرها: لا إله، والحياة مادة !، ما عدا ذلك يدمر! يقول الأستاذ فهمى هويدى: كان هناك 40 ألف مسجد بقيت منها مائة، وكان هناك 30 ألف فقيه ومعلم تم حصدهم أيام ستالين. ثم جندت الشيوعية 2000 محاضر و11 ألف مرشد سياسى، و 41 ألف موجه ملحد، وألقى أكثر من 47 ألف محاضرة عن الإلحاد وألف نحو ألف كتاب لمناهضة العقيدة، وهذا كله فى حملات متتابعة لمحو الإسلام من القلوب والبيوت والشوارع والأسواق.. ومع ذلك فقد بقى الإسلام وبقيت الشمس والقمر، إن ما بناه الله لا يهدمه الناس!! ويوجد الآن قريب من سبعين مليون مسلم يتحركون فى عدة جمهوريات ليستأنفوا نشاطهم القديم ويعودوا سيرتهم الأولى.. ص _147(5/141)
المصيبة التى نلفت الأنظار أليها أن البلاء الشيوعى استطاع أن يقتحم السدود الموضوعة أمامه، وأن ينضح من كفره على البلاد العربية وأن يضلل جماهير كثيفة من العوام والخواص الذين يسترون إلحادهم تحت لافتات غاشة خادعة فعدد ضخم من الاشتراكيين والعلمانيين ينفرون من تعاليم الدين ويدعون سرا وعلنا ألى الخلاص منها.. وجمهرتهم لا تحترم الوحى ولا ترتبط به، وهم فى ميادين العلم والأدب وفى دروب المجتمع وعند بحث قضاياه يتحدثون حديث من لا يعرف الله ولا يكترث لرضاه..!! وأرى- بعد انهيار الاتحاد السوفيتى- أن ننشىء على عجل جسورا بيننا وبين إخواننا فى الأقطار الررسية، تنقلنا إليهم وتنقلهم إلينا وأن نهتم بالكتاب الدينى تاليفا وترجمة وأن يتم تبادل الوفود بين الجامعات والمعاهد عندنا وعندهم. إن هناك فراغا يجب أن نملأه، فإن القوى المعادية للإسلام تتأهب لملئه !! أما الشيوعيون العرب- وهم أخس شيوعيى العالم- فيجب أن نتيقظ لهم، وأن نحبط كيدهم ونفضح مؤامراتهم إنهم الآن ناشطون فى التغلب على الهزيمة التى عرضت لهم وسيحاولون بخداع العناوين وتزوير المضامين أن يسرقوا الإيمان؟ ويفتنوا القراء بقضايا موضوعية أو جانبية، وعلى العقل المسلم أن يتأهب لمعركه أخرى لا تقل حدة عن معارك مضت. (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) ص _148(5/142)
صلاة الشتاء مع أنى نحيت الصحيفة جانبا إلا أن الصورة التى استوقفتنى لم تبرح عينى كانت صورة جنود من الشيشان يقيمون الصلاة على أرض المعركة! وكانت هناك ملاءة بيضاء واسعة تغطى الأرض كلها، إنها من الثلج الممتد على ظهر الأرض لا يريد أن يذوب! لا بأس الصلاة حق وعندما يتكالب العدو فاللجوء إلى الله أعظم عدة! وتذكرت أنى فى الجزائر عانيت مثل هذا الشتاء القارس، كان المطر ينزل خيوطا بيضاء رفيعة تتراكم على الثرى وكأنها قطع من السحاب آثر البقاء على الأرض! لكن أين أنا من هؤلاء الجنود؟ إننى أخرج من مسكن مكيف الهواء وأركب سيارة مكيفة الهواء وأذهب إلى طلابى فى مدرج مكيف الهواء وأجلس فى مكتب مكيف الهواء.. أما هؤلاء الذين يصلون فى العراء فإن صقيع الشتاء يلفحهم من كل جانب، وقد تصيب أحدهم قذيفة طائشة فينقل إلى أقرب جدار ريثما يسعف أو يلقى ربه، وربما جاء جندى أعزل فجرده من السلاح ليستأنف المعركة مكانه، إن سلاح المسلمين قليل!! وتساءلت متى جاء الإسلام هنا؟ وكان الجواب من عهد الخليفة الثالث. إن موجة الفتح العظيم انداحت حتى تجاوزت القوقاز، وكان الروس يومئذ دويلة من الهمل لا تذكر بشىء يشرف.. وبقى الزحف الإسلامى حتى بلغ سيبريا، ثم تراجع المسلمون تراجعا رهيبا فحكم القياصرة الأرثوذكس أرض الإسلام ثم قتلهم الشيوعيون ووقع الموحدون فى براثن ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. ص _149(5/143)
والغريب أن الشيوعية لما انهزمت عاد الأرثوذكس إلى السلطة وأذاقوا المسلمين الويل. إننى أنظر إلى وجه "يلتسين" وهو يأمر بضرب الشيشان، فلا أرى إلا ملامح جزارا تمص سفك الدماء وإزهاق الأرواح !! إن الجنود المصلين قاوموا بصلابة هائلة، فتعطلت دبابات وأسقطت طائرات. ولكن أين مسلمو العالم أجمع؟ أعرف أننا لن نستطيع الوصول إليهم، ولكننا نستطيع إلحاق خسائر اقتصادية كبيرة بالروس وبغيرهم ممن يؤذون الله ورسوله وجماهير المسلمين. المهم أن نستبقى أخوة الإسلام، وأن نرجح كفتها فى كل موازنة. أما أن يضرب الروس إخواننا ثم يذهبون إلى بلد عربى ليعقدوا معه صفقات تجارية فى أحفال نتبادل فيها الابتسامات فهذه خيانة ما بعدها خيانة. إن الأمة الإسلامية بحاجة إلى أبجديات الدين "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ". ص _150(5/144)
التواجد على أنقاضنا إذا كنت ترجو مستقبلا يسوده السلام والإنصاف وتختفى منه الفتن والمظالم فأنت واهم! إننى أنظر قريبا منا وبعيدا عنا فأرى الحقوق تهضم،الغيوم تملأ الأفاق.. اليهود لا يقرون بشبر من الأرض لعرب فلسطين ويزعمون أنهم ورثة هذه الأرض من عهد إبراهيم ،أن القدس عاصمة مملكتهم الدينية وأن راية إسرائيل لا يجوز أن تزاحمها راية أخرى وإذا جاز أن يبقى العرب فى الضفة إو القطاع فليكونوا أجراء لدى سادتهم فوق أرض تهودت،وإمحى منها كل ما يشير الى عروبة أو إسلام.. هذا موقف اليهود منا وقد التزموه سرا وعلنا واصطلح عليه المتخاصمون صراحة أو ضمنا وصوف يقاتلون دون هذا.. وهم لا يعتمدون على قوة شكيمتهم قدر ما يعتمدون على ضعف عزيمتنا سيما وإسرائيل تضاعفت ثلاث مرات فى حرب سنة 1967 واستطاعوا خلال ست ساعات لا ستة أيام أن يفضحوا الأمة العربية وحكامها الخادعين المخدوعين ما كان أفدح خسائرنا وأسوأ مصايرنا!! ذاك بالنسبة إلى قضايا العرب فى هذه المنطقة. أما بعيدا عنا فهنأك خطة لحرب إبادة لا تبقى للإسلام أثرا فى أوروبا، بدأ تنفيذ هذه الخطة فى البوسنة والهرسك، وأبرز مظاهرها استئصال علماء المسلمين فقتل العشرات من علماء المساجد، ومحيت قرى لتبنى فوق أنقاضها بيوت للصرب الأرثوذكس. المهم ألا يكون هناك أثر لإسلام! ويتم تنفيذ هذه الخطة فى صمت بين مسلمى ألمانيا وفرنسا. وهناك أحزاب يمينية (!) رتبت نفسها للقيام بعبء التنفيذ فى الوقت المناسب، والمسلمون فى دول البلقان يزيدون على عشرة ملايين وفى وسط أوروبا وغربها يبلغون ستة ملايين.. ص _151(5/145)
وقد تسأل عن علاقات هذه الملايين بإخوانهم فى إفريقية وآسيا فيسوءك الجواب؟! إن الهزائم الواقعة أو المتوقعة لا تجيء من قوة العدو، بل تجىء من فوضى الدفاع وتضعضع الإيمان وسوء التنظيم. كان سلاح الجيش المصرى سنة 1973 نصف سلاحه فى سنة 1967، ومع ذلك فقد قام بمعجزات عسكرية مزقت اليهود على ضفاف القناة شذر مذر، والسبب أن التكبير كان له دوى على امتداد أربعين ميلا، وكان الجنود يطلبون الموت فظفروا بالحياة.. أما قبل ذلك فقد ألغى التكبير واستبدل به بغام غامض (!) يزعق به الجنود وهم يتقدمون، فما تقدموا بل أسودت وجوه الساسة الملحدين.. إن المستقبل ملىء بالنذر،ولا يوجد فى الجبهات المقابلة من يعترف لنا بحق! بل يوجد من يستكثر علينا الحياة! وأرى أنه لابد من إعادة النظر فى حاضرنا كله، وإعادة بناء أمتنا على فكر جديد، وعزم حديد! وعلى شعور باليأس من أن يعود عدونا إلى رشده. إن من يبنى وجوده على أنقاضنا يستحيل أن نعترف له بوجود. ص _152(5/146)
بتر الشريعة فى الصراع بين الإسلام والعلمانية يجب أن نحدد الموقف ونضبط المفاهيم! قال لى رجل علمانى: ماذا عليكم لو كسبتم الإيمان والأخلاق، وتركتم شئون التشريع والاقتصاد والاجتماع لأصحابها يعملون فيها وفق مقتضيات العقل الحر والزمان المتجدد؟؟ إن بعد الدين عن السياسة واكتفاءه بالصفاء الروحى والسناء الخلفى أشرف له وأجدى عليه!! قلت له: تريد بصراحة أن تقسم القرآن شطرين ترمى بشطر المعاملات فى البحر، وتمنح الشطر الآخر حق البقاء! فسكت قليلا ثم قال: ذاك ما أريد تقريبا! قلت له: وهذا ما نراه نحن ضياعا للشطرين جميعا وبقاء الأمة بلا عبادات ولا معاملات! إن الإسلام انقياد مطلق لله فيما أمر ونهى، وعلاقتنا بربنا تقوم على مبدأ السمع والطاعة، ونحن فهمنا هذا صراحة من قول الله لنبيه : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) تصور أن إبليس قال لله سأصطلح معك على أن تطرد آدم من الجنة، وسأخلفه فيها أسبح بحمدك وأقدس لك وأعفنى من قضية السجود! أيكون إبليس بهذا العرض قد تاب وأناب؟؟ إنك يا صاحبى مخادع كبير حين تعزل الإسلام عن الشرائع والمعاملات وحركات الحياة والأحياء ثم تقول له: إنك كسبت حظا طائلا! ص _153(5/147)
هذا فى الواقع حكم على الإيمان نفسه بالموت! عندما ينطلق الغناء فى كل فج يقول للسامعين: جئت، ولكن لا أدرى من أين أتيت؟ ولقد وجدت قدامى طريقا فمضيت؟ أيكون إبعاد الدين عن الفن كسبا للإيمان أو للإلحاد؟ وعندما يكون الزنا مباحا بتراضى الطرفين أيكون إبعاد الدين عن التشريع كسبا للإيمان أو للإلحاد؟ وعندما يظفر التراث اليهودى بحق الحياة ويرجع التراث الإسلامى بخفى حنين، أيكون إبعاد الإسلام عن السياسة كسبا للإيمان أم للإلحاد؟ إن الزعم بأن الإسلام يبقى بعد عمليات البتر والتشويه التى تجريها العلمانية فى كيانه هو من أبطل الباطل وأجرأ المفتريات، لن يبقى من الدين شىء ذو بال إذا قبلنا مبدأ الحذف والإلغاء لبعض تعاليمه، وقد حاول ذلك بنو إسرائيل قديما فقيل لهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) إذا كان المسلمون يطلبون نصرا فى الدنيا وكسبا فى الأخرى فليحتقروا هذه الصيحات العلمانية وليستمسكوا بالدين كله وبذلك يفوزون بنصر مؤكد. ص _154(5/148)
الذكريات لمن يتدبر كنت أمر مرورا عابرا على القول بأن سفن الفراعنة اكتشفت أمريكا قبل"خورستوف كولمبس" كان يستوى الأمران عندى وأقول ذهبوا إم لم يذهبوا فالخطب سهل!! وكان الظن الغالب أن الحضارة الأوروبية انتقلت عن طريق الأسبان إلى القارة المكتشفة، وأن الهنود الحمر انتقلوا بهذه الحضارة من طور إلى طور أعلى، وأنهم لم يكونوا على دين فدانوا بالمسيحية. وإن كان المبشرون والساسة قد أبادوا جماهير غفيرة حتى حققوا أغراضهم.. ثم قرأت اقتباسا من كتاب "علامات على طريق الحرية الأمريكية" ذكره الأستاذ أحمد صدقى الدجانى من وثيقة تعود إلى سنة 1879 م ، وهذه الوثيقة رسالة وجهها الزعيم "جوزيف " الهندى الأحمر، وقائد قبائل "النيزبيريز" الذى وصفه خصمه الأمريكى "جنرال هوارد" بأنه أعظم زعيم فى تاريخ الهنود الحمر، والرسالة الموجهة تتضمن تسجيلا للمفاوضات التى أجراها "جوزيف " مع الرئيس الأمريكى "راذرفورد" بعد كفاح طويل مرير ضد الغزاة الذين جاءوا من وراء البحار واستطاعوا بتفوقهم العسكرى أن يهزموا السكان الأصليين.. يشعر القائد الهندى بأن الحقيقة تائهة وسط الكلمات الكثيرة التى ينطق بها الأمريكيون ثم يقول: "إن الأمر لا يتطلب هذا اللغط كله، إننى أكشف عن قلبى عندما أتكلم بلسان مستقيم، والروح الأعظم شاهد على ما أقول فهو يسمعنى"!! وقفتنى هذه العبارة المؤمنة، الرجل يذكر أن الله يسمعه، ويرقبه، وهو ما يعرف الله إلا بهذا التعبير! ثم يقول: "لقد ورثنا عن أسلافنا تقاليد جيدة، أن نعامل الناس بمثل ما يعاملوننا به، وألا نبدأ بنقض أى عهد! وأنه عار علينا أن نكذب، وأنه لا يجوز لرجل أن يعتدى على زوجة آخر! أو يأخذ شيئا من ماله إلا بعوض!! وقد علمنا أسلافنا أن الروح الأعظم يسمع ويرى كل شراء وأنه لن ينسى أبدا، وأنه فى الحياة الأخرى سوف يمنح كل ص _155(5/149)
إنسان بيتا روحيا حسب استحقاقه، فإن كان صالحا فسوف يقتنى بيتنا جميلا، وإلا فسيكون بيته رديئا !! هذأ ما أعتقده ويعتعقده شعبى.. ". ثم يتحدث الرجل عن الأمريكيين الذين قاتلوا قومه فيصفهم بأن كلامهم يناقض أفعالهم، وأنهم وعدوا باشياء كثيرة مختلفة، ولم يقدموا لنا شيئا.. وأن خسائر الهنود الحمر تلاحقت!.. ثم يقول: "نفسى تجيش بخواطر شتى حين أتذكر الكلمات المعسولة والوعود المنقوضة.. ". قرأت المقتطفات المأخوذة من هذه الرسالة ثم تساءلت: ظاهر أن الهنود الحمر كان لهم إيمان بإله واحد فهل ذلك جاءهم من الخارج أم هى بقايا الفطرة فى نفوسهم لم ينجح الشيطان فى زحزحتهم عنها؟ وظاهر أنهم كانوا يؤمنون بالبعث والجزاء، أو بالجنة والنار كما تعبر الشريعة السماوية، فهل الإيمان الذى عرض عليهم بعد هزيمتهم يتضمن هذا الوضوح فى الوعد والوعيد، ويربط الأعمال بأجزيتها؟ إن المادية طغت على أقطار الغرب فما تذكر السماء إلا لماما، بل لعل الإلحاد الذى ساد اكتسح كل فكرة عن لقاء الله، وارتقاب ثوابه وعقابه.. قد يكون الهنود الحمر متخلفين علميا فى بلادهم عندما طرق الأسبان أبوابها، أما الزعم بتخفف أخلاقى، وفراغ دينى فأمر يحتاج إلى نظر، وقد دفع هؤلاء المساكين ثمن تخلفهم العلمى غاليا فحصدتهم الأوبئة التى كان المبشرون يصدرونها إليهم فى الملابس والبطاطين حتى تصفر الأرض منهم وتخلو للفاتحين الجدد، وتم لهم ما أرادوا، وبقيت الذكريات لمن يتدبر.. ص _156(5/150)
المستر "نيكسون " فى كتاب "الفرصة السانحة""لمستر نيكسون " الرئيس الأسبق للولايات المتحدة وردت هذه العبارات "إن العالم الإسلامى يملك حضارة مهمة تبحث عن شخصيتها التاريخية، لقد تمكن هذا العالم من تحرير نفسه من الاستعمار خلال الخمسينات والستينات ثم اندفع بعد ذلك مغمض العينين فى اتجاه عدم الانحياز، وتوحيد الأمة العربية وسياسة رد الفعل! وسوف يعاود البحث فى التسعينات وما بعدها عن مكانه اللائق بين دول العالم، وعلى الولايات المتحدة أن تساعده فى ذلك بطريقة بناءة". أقول وفى هذا الكلام قدر من الصحة نتقبله راضين، مضيفين إليه أن نعمة الاستقلال لم تكن طارئة على العالم الإسلامى، فقد كان خلال قرون طوال يستمتع بحرياته، ويحيا على أرضه موفور الكرامة حتى جاء المستعمرون من وراء البحار فعكروا صفوه واجتاحوا حقه، وليس المسلمون أول الشعوب التى وقعت بها مظالم، وحفت بها مكاره، فإن الولايات المتحدة نفسها كانت مستعمرة إنجليزية ونالت استقلالها بحد السيف وهى بلا شك جديرة بهذا الاستقلال، ومن حقها أن تعيش فى ظلاله.. ولا يجوز أن ننسى أن مسلمى العالم حملوا حضارة أنارت المشارق والمغارب، وإذا كانت الأيام قد تقلبت بهم فمن حقهم الحنين إلى ماضيهم واستعادة الأمجاد الروحية والعقلية التى عرفوا بها ونحن نشكر كل عون يسديه الآخرون، ونرد الجميل مضاعفا بيد أن أسفنا يشتد حين نرى العوائق أمامنا بدل المعاونات، ومشاعر البغضاء بدل معانى الإخاء.. إن البعض يستحيى الأحقاد التاريخية حين يعاملنا ويتربص بنا الدوائر. وقد شعرت بأشد الاستغراب حين قرأت لمستر نيكسون فى الصفحة نفسها من كتابه هذه العبارات" إن المتعامل مع العالم الإسلامى يشبه وضعه وضع شخص واقف فى حفرة ضيقة وحوله مجموعة من الثعابين السامة (!) تحمل فى سمها "ايدولوجيات " متصارعة وقوميات متضاربة.. "! ص _157(5/151)
هل الذى يتعامل مع المسلمين والعرب يتعامل مع مجموعة من الثعابين؟ هل المسلمون المستباحون فى أرجاء الدنيا، والذين تسيل دماؤهم غزيرة وهم ينشدون حق الحياة يستحقون هذه الكلمات؟ هل العدالة الجديرة بالاحترام والبقاء هى التى تقول: يجب أن تكون إسرائيل وحدها أقوى من العرب مجتمعين، حتى إذا دافع العرب عن أرضهم وعرضهم باءوا بالهزيمة ودمغوا بالذل؟ بأى منطق نعاقل فى هذه الدنيا؟ ولم هذا الغل المتوارث ضدنا..؟ (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) سنبقى على ديننا راكنين إلى الله، مستعينين به ولن نضيع إن شاء الله.. ص _158(5/152)
ذكريات لص ربما استعاد اللص ذكرياته القديمة فى الخطف والفتك فشاقة ذلك إلى معاودة الإجرام !! وقد تشتد الرغبة فى نفسه إذا رأى الحراس نائمين، والغنيمة دسمة! إنه يقول مع مستر "نيكسون " الرئيس الأسبق للولايات المتحدة: انتهز الفرصة، وخذ ما تيسر..! إننا نكره الحروب ونمقت تجارها، لكن ما العمل إذا هجم علينا سماسرة الغزو ورآؤا سرقة عقائدنا ونفائسنا؟ ما بد من الدفاع إلى آخر رفق! لقد تحدث مستر نيكسون عن الحروب الصليبية ونتائجها فى العصور الوسطى، وما ذنبنا نحن فى هذه الحروب؟ إن أفواجا من الهمج أضراها الحقد فظلت تهاجم بلادنا قرابة ثلاثة قرون، وما وقع فى يدها بلد إلا دمرته، وأعاننا القدر آخر الأمر فهزمنا الطلائع وسحقنا الفلول ونجونا وما كدنا ننجو! فهل هذه جريرتنا؟ وهل نحاسب عليها ونؤاخذ بها؟ لكن "مستر نيكسون" يضن بدار الإسلام على سكانها ويبيحها لكل طارىء غريب ويسوق هذه الكلمة تعليقا على نتائج الحروب الصليبية الأولى: لقد خسر الغرب هذه الحروب- ولكنه كسب المعتقدات! لقد تم طرد كل مسيحى من الأرض المقدسة للمسيحيين واليهود! ولكن الإسلام- وقد أسكره النصر ومزق أوصاله المغول- سقط فى غياهب العصور المظلمة من الفقر والنسيان بينما الغرب المنهزم وقد أنضجته الأهوال تعلم من عدوه، وبنى الكنائس لتصل إلى عنان السماء !! ويضم "مستر نيكسون " إلى هذا التعليق الحقود تعليقا آخر يصفنا به شر وصف فيقول: "إن المتعامل مع العالم الإسلامى يشبه وضعه وضع شخص يعيش فى حفرة ضيقة ومعه مجموعة من الثعابين السامة التى تحمل فى سمها "إيدلوجيات " مختلفة وقوميات متصارعة "!! ص _159(5/153)
أهكذا نحن؟ نحن الذين نسبح بحمد الله ونقدس له ونعلي اسمه وكلمتة ثعابين سامة؟ أما الذين يكرعون من الشهوات ولا ينتهون عن إثم فملائكة كرام! أرضنا المقدسة حلال لكل جنس حرام على أصحابها الأصلاء!،يجب انتهاز الفرصة السانحة للقضاء علينا بعدما تم القضاء على الشيوعية. والمدهش أن هذه الروح الخبيثة تشيع بين جملة الساسة الذين يقودون الغرب، "فمسز تاتشر" ترى ذلك، ووزير خارجية إيطاليا عندما ترأس المجموعة الأوروبية يرى ذلك، وقد تكونت جماعات من الصهاينة والكهان فى الولايات المتحدة ترى ذلك، ونشطت أحزاب كبيرة فى بعض دول أوروبا ترى ذلك، وتجهر بضرورة القضاء على الإسلام وطرد أهله من أوروبا!! إن المأساة تنمو، وناس منا يساعدونها على النماء! وماذا نقول فى رؤساء يصارحون بأنهم لا يؤدون العبادات المفروضة لأنهم علمانيون؟ إنهم يرفضون الشعائر الدينية، ويكرهون الشرائع السماوية، ويتملقون بهذا التفريط أوروبا كى تعطيهم شيئا فى المفاوضات مع اليهود! والغرب كله لن يعطيهم إلا الذل، ولن يزيدهم إلا خبالا، والصيحة التى أطلقها مستر نيكسون : " انتهزوا الفرصة واقضوا على الإسلام " هى التعبير الحقيقى عما يجيش فى النفوس ويتفلت على الألسنة. ص _160(5/154)
الولاء للكنيسة عندما شن "مستر بوش" حملته الانتخابية كى يتولى حكم الولايات المتحدة مرة أخرى، تأملت فى برنامجه الانتخابي فوجدت أنه يعلن ولاءه للكنيسة واحترامه لرسالتها بين عناصر أخرى تحدد وجهته وعمله!! قلت: هذا رجل يتجاوب مع شعبه ويحترم نفسه، وهو كجملة حكام الغرب يتمشى مع العواطف الدينية للجماهير، فملكة إنجلترا عند تولى العرش تقسم على حماية الكنيسة الإنجيلية، ولا تزال الأحزاب الحاكمة فى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا محافظة على الديمقراطية المسيحية!! لكن الطوائف العلمانية فى الشرق الإسلامى تذيع أوهاما مستغربة عن ترك الغرب للدين، تريد بذلك إحراج الإسلام وحده، وصرف المثقفين عنه، والواقع أن الغرب الصليبى كله متمسك بمواريثه. وهو يعلم ذراريه كره الإسلام ومقت شعوبه وخذلان قضاياه. ولا يغض من هذه الحقائق أن تنشر "التايمز" صورة لمسجد يزدحم المصلون فيه- فى قلب لندن- وصورة أخرى لكنيسة خاوية إلا من مترددين يعدون على الأصابع، صحيح أن الكنائس فشلت فى تقديم زاد روحى عقلانى يجتذب المصلين إليها.. لكنها نجحت فى جمع تبرعات سخية جدا لدعم التبشير العالمى وإلحاق جراحات غائرة بالأمة الإسلامية.. كما استغلت ضعف أجهزة الدعوة عندنا لترويج الأساطير عن الإسلام ورسالته. وقد يكون لين رجال الدين هناك، وإقرارهم لمباذل الحضارة الحديثة سببا فى سوء الظن بالدين نفسه، فالمعروف أن رئيس كنيسة "كنتر برى " كان من بين الذين أقروا إباحة الشذوذ، وترك عقاب أصحابه ماداموا متراضين على الخنا!! كما أن قدرة اليهود على سرقة الضمائر وقبول المظالم الواقعة بالعرب لم يشرف الدين ولا رجاله ولا معابده.. ص _161(5/155)
ومع هذا كله فقد بقيت للدين مكانة عامة حتى أن الرئيس الأمريكى كما رأيت يعلن روابطه بالكنيسة قبل خوض المعركة الانتخابية.. ونحن قبل أن ننظر إلى أوضاع غيرنا ينبغى أن ننظر فى شئوننا الخاصة، وأن نتساءل: هل المسجد يؤدى رسالته النبيلة؟ وهل هناك من الحاكمين من يعلن ولاءه له، ورباطه به؟ لقد كان المسجد منذ أنشىء جامعا للعبادة وجامعة للعلم، وما نشأت الدراسات الفقهية إلا فى صحون المساجد وكان الشعر ينشد فى المسجد- على عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم- وكان رواد المساجد يخرجون منها بزاد متكامل من المعارف والآداب، بل كانت هذه البيوت مفزعا لمن يريد الإقبال على الله يلتمس فى جوها الخاشع السكينة والرضا.. ومن ربع قرن تقررت دراسات رتيبة بين المغرب والعشاء فى التفسير والسنة والفقه والتاريخ والعقائد والأخلاق عدا خطبة الجمعة التى أعدت لها كراسات خاصة وتولى الخبراء النظر فى موضوعاتها ونصوصها وشواهدها.. فهل ذلك يقع؟ أم طواه الإهمال؟ إن عددا ضخما من المصلين لا يحضر الجمعة إلا عندما يقارب الإمام الانتهاء من خطبته !! أما الدروس العلمية فقلما تلقى، وإذا ألقيت فمادتها غثة ونفسها بارد إلا من عصم الله. إن المساجد عندنا يمكن أن تقوم بعمل هائل في تزكية النفوس، وتنوير العقول، ورفع مستوى الجماهير، ولكننا نبدد هذه الطاقة، ونستهين بآثارها. وأظن أن الأوان قد آن لربط الأسرة المسلمة بالمسجد فقد كانت صفوفه قديما تشمل الرجال والنساء والأولاد، فيخرجون جميعا منه وهم أضوء عقولا وقلوبا. ص _162(5/156)
غيبوبة أحيانا تضع عصابات اللصوص خطتها على أن الحراس قليلون أو نائمون، وأن المنافذ سهلة لا وعرة، وأن الاستيلاء على الغنائم لن يكلف جهدا يذكر، فهى تقوم بعملها لا يخامرها قلق، وكثيرا ما تعود من مغامراتها وهى راضية بما نالت..!! والتبشير العالمى- وهو يقوم بخدمة الاستعمار الغربى- يتبع هذه الخطة، عالما بأن كفة المغانم صفر، وأن كفة المغانم حافلة!! المسلمون فى نظره ركام هش لا تماسك فيه ولا مقاومة له، يستطيع من شاء أن يختطف منه ما شاء دون قلق، وقد حادثت عددا من أولئك المخطوفين فوجدتهم لا يدرون من أين جاءوا ولا أين يذهبون.؟ إنهم حملوا أسماء جديدة وعاشوا كما أريد لهم دون وعى..! وهذا هو السر وراء الإعلان بأن أفريقيا مثلا يجب أن يتحول الإسلام فيها إلى دين ثانوى خلال كذا سنة، وأن جنوب شرق آسيا ينبغى أن ترفرف عليه أعلام الصليبية خلال كذا سنة، إن واضعى الخطط لا يحسبون حسابا لمقاومة، ولا يتوقعون أن يجدوا أمامهم عوائق.! ومن رعى غنما فى أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد!! وأخيرا تحرك أصحاب التراث المنهوب، وشرعوا يقاومون الغارات الجريئة.. وشعر لصوص العقائد بأن الجو تغير، وأن أطماعهم لا تنساب إلى غاياتها فى سهولة! فماذا يفعلون؟ أخذوا يصيحون: حقوق الإنسان فى خطر! يجب أن تتحرك الدول الكبرى لإنقاذ الشعوب! انقذوا الثقافة الإنسانية من أخطار الرجعية !! وهكذا شعر العاملون ضد الإسلام بأن المقاومة الإسلامية يجب أن تضرب، وأن يقظتها فى وسط إفريقيا وجنوب آسيا لابد أن تغطى، وامتد هذا المكر إلى الأرض الإسلامية المتخلفة عن ص _163(5/157)
انحلال الاتحاد السوفيتى، فإذا تيارات العلمانية تنتعش وإذا جهود هائلة تبذل لمنع الجماهير من الحنين إلى دينها والعودة إلى شرائعها وشعائرها.. إن الخصوم التقليديين للإسلام يتحركون على عجل لاستبقاء الغيبوبة الفكرية التى عاشت فيها أمتنا الكبيرة تحت سطوة الاستعمار والشيوعية، والتى فقدت كيانها خلالها.. وأنا أهيب بالإسلاميين الناشطين فى الأمة العربية أن يسابقوا الزمن، وأن ينتهزوا الفرصة، وأن ينسوا خلافاتهم، وأن يوحدوا صفهم أمام عدو استمرا العدوان عليهم وكسب الكثير فى أيام خلت، إننا خمس سكان العالم ولا يجوز أن ننقص بل يجب أن نزيد، وأرضنا معروفة المعالم من تاريخ طويل فلا يجوز أن يغار عليها أو تنتقص من قلبها وأطرافها، إن فجرا جديدا يجب أن يطلع علينا يضع حدا لغارات الطامعين والراغبين فى محو عقيدة التوحيد.. ص _164(5/158)
مسلمون فى الجبل الأسود الحرب التى دارت فى "يوغوسلافيا" جديرة بالبحث والاعتبار، كنت أظن مع غيرى أنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل! حتى قرأت أخيرا مقالا فى صحيفة الاتحاد كشف لى عن حقائق لم تكن تخطر لى ببال.! إن "يوغوسلافيا" دولة حديثة الوجود كونها الحلفاء عقب فوزهم في الحرب العالمية الأولى من عدة قوميات مختلفة الأعراق، كان المسلمون جزءا كبيرا منها إذ يبلغ عددهم قرابة ستة ملايين مع ملاحظة أن إقليم " كوزوفو" سلخ من ألبانيا المسلمة، وضم إلى يوغوسلافيا، وهى سياسة تبعها الاستعمار العالمى فى معاملة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف لاسيما فى إفريقية، فهو يأخذ جزءا من الصومال المسلم ليضمه إلى كينيا حتى يفقد شخصيته وتضعف الصومال بفقده، وتكررت هذه السياسة فى أغلب دول القارة التى استحدثت فى السنين الأخيرة، المهم أن المسلمين فى "يوغوسلافيا" جعلوا من دينهم قومية خاصة عاشوا بها فى إقليمى " البوسنة والهرسك " ولهم بقايا كثيرة فى سائر أقاليم الدولة الجديدة.. وعندما وقعت الحرب الأخيرة بين الكروات والصرب لاحظت ضراوة القتال وشدة الحقد بين أصدقاء الأمس تظهر فى المدن الكرواتية التى تحولت إلى حجارة وزجاج وأخشاب وأنقاض.. قلت فى نفسى ما السر فى هذا اللدد؟ حتى عرفت أن اليهود من ورائه!! إن إسرائيل تمد الصرب بما تحتاج إليه من سلاح، وتعينها بعدد من الضباط الذين احترفوا القتال، وهناك جنود مرتزقة من دول أخرى أشرفت إسرائيل على جمعهم فى صمت! لماذا؟ لأن رئيس الكروات متهم بمعاداة السامية- وهى تهمة رهيبة- وقد ألف كتابا نفى فيه المجازر التى قيل إن الألمان أوقعوها باليهود، ووصفها بأنها أكذوبة كبيرة. والواقع أن هناك مبالغة مفرطة فى أعداد القتلى اليهود! ربما بلغوا عدة آلاف أما الزعم بأنهم عدة ملايين فأكذوبة كبيرة كما قال الزعيم الكرواتى ثم إن الكرواتيين على الإجمال فاترو ص _165(5/159)
المشاعر نحو إسرائيل، ولم يظهروا حماسا نحو إقامتها، وقيل إن عددا منهم شارك فى تعذيب اليهود بمعسكرات النازى، وبنو إسرائيل يبحثون عن هؤلاء، وعن أولادهم أو أحفادهم ليقتصوا منهم !! وسوف تظل إسرائيل مع الصرب حتى تبلغ غايتها.. وموقف المسلمين فى يوغوسلافيا شديد التعقيد!! إنهم الآن يلتزمون الحياد بين الفريقين المتخاصمين ولكن الصرب تتربص بهم، وتريد أن تشق لنفسها طريقا على شاطىء " الإدرياتيك " كى تنشىء لها ميناء على البحر، وذلك بداهة على حساب المسلمين المعزولين فى هذه البقاع.. والعدوان مرتقب إن لم يكن اليوم فغدا.. وعندما يضرب المسلمون فى قطر أوروبى (فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) وتتساءل: أما لهم من نصير من إخوانهم فى القارات الأخرى؟ والجواب كئيب !! إن الجنرال "ميخايلوفتش" قتل منهم مائة ألف ومر دون مساءلة، وجاء بعده "تيتو" وهو شيوعى ملحد فكان موقفه من المسلمين مثل موقف سابقه.! وكانت التيتو" هذا مكانة فى البلاد العربية لأنه من رؤساء "جبهة عدم الانحياز!. إن موقف المسلمين فى البوسنة والهرسك والجبل الأسود وكوزوفو وألبانيا نفسها، يجب أن يدرس بأناة وأن يتحرك العالم الإسلامى لمساندته ورد العدوان عنه!! بم يشتغل المسلمون؟ وإذا أصيبوا فى أخوتهم العامة فماذا يبقى لهم؟ وهل بعد ذلك إلا أن تدور الدائرة عليهم فى عقر دارهم؟ ص _166(5/160)
لا مكان للضحك!! ما أعقب مجزرة الحرم الإبراهيمى يثير ضمائر الأحرار ويزيد الجراح عمقا. ونحن نثبت ما حدث لأن هناك محاولات دائمة لطمسه! قال متحدث يهودى عن عدد القتلى: إنه قليل ولكنه بداية طيبة! والقتلى الذين حصدهم الرصاص وهم سجود كانوا خمسة وستين مصليا، ثم لحق بهم ثلاثون من الجرحى عزت جراحهم على الشفاء، ثم لحق بهم ثلاثون آخرون من المتظاهرين الناقمين مما حدث!! إنهم فى المنطق اليهودى بداية طيبة وإن كان العدد قليلا! وفى التعليق على مصرع الجانى بعدما ارتكب جريمته. يقول متحدث يهودى آخر: إن مليون عربى لا يساوون ظفره!! وإن اسمه الآن على كل لسان!. والجانى فعل فعلته فى حماية جيش الدفاع الاسرائيلى، وانتظر حتى سجد المصلون فوجد الشجاعة لإطلاق الرصاص! والأوامر صادرة لهذا الجيش ألا يعترض مستوطنا ولو بدأ بإطلاق النار. والغريب إن إذاعة لندن أحصت القتلى أربعين ثم استدركت فجعلتهم ثلاثين ثم قالت بضع عشرات! أما فى الولايات المتحدة فإن مجلس الأمن حاول الاجتماع عدة مرات لتوبيخ اليهود، ولكن الرئيس الأمريكى قال له تريث، حتى نطمئن إلى قبول العرب للسلام! وماذا ترقب من رجل جلس ساعتين يسامر "سلمان رشدى " ليؤيده فى حرية رأيه، وما رأيه؟ إهانة محمد وأسرته !! وقد نظرت إلى بعض الأقلام العربية فوجدت الخيانة مجسمة، فمنهم من يقول إن الحادث المؤسف لا يجوز أن يقف مسيرة السلام! ص _167(5/161)
لقد جثا العرب على ركبهم يتسولون السلام-هو فى حقيقته الاستسلام- ومع ذلك فقد ضن اليهود به، ليزيدوا الفريسة عذابا.. وبعض الصحفيين يتبنون الآن وجهات النظر الصهيونية والصليبية وكان المنظور أن تلغى أفراح الأعياد، وأن يتدارس المسلمون محنتهم محليا وعالميا، وأن يعلنوا حدادا عاما على نكباتهم المترادفة. ولكن قوى خفية كانت تحث المواكب على الطرب، وتقود قوافل الدهماء إلى حدائق الحيوان وتجعل ضجيج العيال يردم ذكريات المصاب ويهيل النسيان على جثث القتلى.. وإذا بقى الإعلام فى الأقطار الإسلامية ينفذ هذه السياسات الخائنة فإن العالم الإسلامى فى طريقه إلى الضياع. إنه لا مكان للضحك مع هذه الأحداث. ص _168(5/162)
السلام.. تدليس مفضوح احتفلت أوروبا وأمريكا بميلاد السيد المسيح وعيد رأس السنة وأحس القوم أن شمس القرن العشرين موشكة على الغروب فلم تبق على نهايته إلا أعوام قلائل.. وقال المراقبون: إن هذا القرن من أشأم القرون وأملئها بالخسائر والضحايا، فإن حربين عالميتين وقعتا فيه، وسبقتهما وأعقبتهما حروب محلية كثيرة وأمسى الحديث عن السلام تدليسا مفضوحا بعدما تفجرت الضغائن وانكشفت الأطماع وانطلقت الجماهير وفق غرائزها الهابطة كأنها سباع فى غاب.. إن المسيح من رموز السلام وقد قال القرآن الكريم عنه : (والسلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا) لكن العالم الغربى لم يستطع الارتفاع إلى مستوى المسيحية، بل جرها إليه واعتسف بها طريق العدوان والخصام، وقد نشط التبشير بالمسيحية فى قارة أفريقية فماذا جنت القارة المظلمة ـ كما سموها ـ؟ عشرة ملايين إصابة بالإيدز! لأن العلاقات الجنسية فى أوروبا جعلت 60% من الأطفال يولدون من آباء غير شرعيين دون أى حرج. فماذا تنتظر أن يقدمه هؤلاء للناس؟ ثم تجىء سلسلة المظالم التى تقع بالمسلمين، إنها مصحوبة بحقد دفين، فالعملاق الروسى لا يستحى أن يسوق قواه البرية والجوية لضرب شعب كالشيشان، كما أن حلف الأطلسى يسكت عامدا عما يصيب مسلمي شرق أوروبا، وتعجب عندما يتكلم هؤلاء وأولئك عن حقوق الإنسان، واحترام الأديان! إن أوروبا بدأت مدها الاستعمارى من خمسة قرون، اكتشفت خلالها أمريكا واستراليا فماذا فعلت بسكان هاتين القارتين؟ ص _169(5/163)
إن جماهير الهنود الحمر لم يبق منها إلا النزر اليسير لأن الجنس الأبيض الفاتح كان يريد الأرض وما فيها لنفسه، كان يبحث عن الذهب وشتى المعادن، وكان يفتن فى إبادة المستضعفين طورا بالرصاص وطورا بالجراثيم حتى إذا خلت الأرض من أصحابها استقدم الأوروبيين ليحلوا محلهم، إن أوروبا لا تعرف من المسيحية إلا أنها غطاء لرغباتها الحرام، وما تنظر إلى الشعوب الأخرى إلا نظرة السيد إلى الخدم! وقد ظهر الإسلام ليعود بالدين إلى حقيقته وليقهر طبائع الاستعلاء والفساد عند بعض الناس، وقد قام آباؤنا الأولون من الصحابة والتابعين بتأديب الأوروبيين الأقدمين، وكف مظالمهم عن الأمم، ولعل الحرب التى شنوها على الرومان كانت أشرف حرب فى العالمين. ما أحوج الناس فى هذا العصر إلى سيف محمد لينقذ المستغيثين وينصف المستضعفين. ص _170(5/164)
سلام على سلامكم هناك لغط هائل حول قضية السلام بين إسرائيل والعرب أو هناك تضليل متعمد حول جوهر القضية وموقف الطرفين منه!! وأريد أن أكون حاسما فى إحقاق الحق وإبطال الباطل. قال "بن غريون " رئيس إسرائيل الأسبق: "لا إسرائيل بدون القدس، ولا قدس بدون الهيكل " والهيكل يبنى على أنقاض المسجد الأقصى. وقد وصف العهد القديم طريقة بنائه فى عدة صفحات يراها اليهود وحيا واجب النفاذ وإن تراخت الأيام. والمسلم الذى يوافقهم على ذلك مرتد عن دينه يقينا وما أحسب أن هذا المسلم يوجد فى بلد من البلاد.! وعلى بنى إسرائيل إذا كانوا طلاب سلام أن ينفوا ما قاله "بن غريون " ويعلنوا احترامهم للمسجد الأقصى وأن يضموا إلى ذلك أمرين. أولهما فتح الطرق لعودة اللاجئين العرب. والآخر تسليم سلاحهم الذرى لهيئة الأمم المتحدة، فإن هذا السلاح معد لإبادة العرب والمسلمين.!! أستطيع باسم الإسلام القول بأننا لا نريد سوءا باليهودية، وإذا كان فى أرجاء العالم من يهدد اليهود بالفناء ويعلن عليهم حربا عنصرية فإننا نحن المسلمين على استعداد لفتح أقطار العالم الإسلامى كلها لاستقبالهم وتأمينهم والعيش معهم على قاعدة لهم ما لنا من حقوق وعليهم ما علينا من واجبات، إننا لا نعرف حروب الأحقاد الدينية وقد وسعت بلادنا ـ من بدء تاريخ الإسلام ـ مللا شتى ومذاهب كثيرة، إننا لا نحارب إلا منعا للفتنة وردا للعدوان وكسرا لشوكة الطامعين والمغرورين. الحرب فى حق لديك شريعة ومن السموم الناقعات دواء! ص _171(5/165)
لكن إسرائيل اليوم تحاول خديعتنا وخديعة العالم معنا وتزعم أنها تسعى للسلام، أى سلام مع استمرار تسلحها الذرى، واستمرار سياستها العدوانية، واستمرار فلسفتها الدينية القائمة على بناء سلطة صهيونية خالصة بعد إماتة العروبة والإسلام؟؟ إن العالم الإسلامى يمر بفترة مشئومة من تاريخه الطويل وليست الصهيونية والصليبية أعدى أعدائه، إن أعداءه فى صميم أرضه، إنهم بين ظهرانينا صنعهم الغزو الثقافى لينشئوا أمة لا خلق لها ولا إنتاج، لا عقيدة ولا شريعة، لا تراث ولا مستقبل، إنهم يلبسون ثوبا عربيا على كيان أجنبى، ويوشك مع الأيام أن يخلعوا الثوب ويكشفوا المخبوء. ص _172(5/166)
السقوط من عين الله لم تكن هيئة الأمم المتحدة عادلة ولا مصيبة ولا موفقة عندما ارتدت عن قرارها السابق بأن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية! ما الفرق بين دولة النازى وفلسفته ودولة إسرائيل وفلسفتها؟ كان هتلر يرى الدم الجرمانى أنقى وأرقى من سائر الدماء، وكان يرى حقه سيادة العالم، وكان يصيح: ألمانيا فوق الجميع، وقد اضطهد اليهود وقتل منهم الألوف وجعل بقاءهم فى ألمانيا مستحيلا.. وهذا الذى صنعه النازى هو الذى يكرره اليهود مع العرب، فقد طردوهم من أرضهم، وهدموا عليهم بيوتهم وصنعوا مذابح رهيبة على آماد متتابعة بدعوى أنهم أحق بالأرض من العرب لأنهم شعب الله المختار الموعود بهذا الميراث كى يقيم عليه مملكته المقدسة!! الفارق بين اليهود والألمان هو أن مزاعم اليهود تستند إلى نص سماوى- كما يقولون- أما التفوق الجرمانى فهو دعوى أرضية سنادها جنون العظمة وحسب! اليهود يصرخون: نحن شعب الله المختار، وقد فضلنا على العالمين! ولنا أن نمحو العرب من فلسطين لنثبت عليها أمتنا وحدها، ولنا أن نجلب بنى جنسنا من أرجاء الأرض ليحتلوا كل شبر هنا، أما أصحاب الأرض الأصلاء فليرحلوا حيث شاءوا فرارا من الموت وليعيشوا لاجئين منبوذين فى كل مكان.! إذا لم تكن هذه دعوى عنصرية، فما تكون العنصرية إذن؟ والغريب أن يصدر هذا الارتداد من هيئة الأمم وقضايا العرب تتدحرج على الثرى فى غير اكتراث! ليس لها من يدافع عنها من أصحاب السلطان أما الصلف اليهودى فقد جاوز الحدود! يدعى القوم إلى حديث فى الصلح فيكونون آخر من يحضر، وأول من ينصرف، وأبعد من يستجيب لتفاهم، ويظل العرب أياما قبل حضورهم ينتظرون ، بعد انصرافهم يتساءلون! وتجىء الأنباء من هيئة الأمم المتحدة بأن اليهود ناس طيبون ليسوا عنصريين ولا أنانيين فيعلم من يجعل أن الحق للقوة، وأن الغلبة للجسور. ص _173(5/167)
والناس من يلق خير قائلون له ما يشتهى، ولأم الخطىء الهبل!! وهكذا تسقط الأخلاق، وتستخفى المثل، ويستوحش أهل الحق ويتحقق أمام أعيننا قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) إننى أسائل إخوانى العرب: تعلمون أن أكثر من 60% من مياه الرى فى إسرائيل تسرق من سوريا ولبنان والأردن فهل تظنون أرشدكم الله أن إسرائيل تصطلح معكم وتكف عن السرقة وتتوب إلى الله؟ أم أنها ستأخذ هذا الماء هدية منكم ويتبدل الاسم فقط؟ إن إسرائيل لا تمل من تكرار تشبثها بما نالت برا وبحرا وجوا، والدول العظمى وافقت على سحب اتهامها بالعنصرية، ومن ثم فأنا أسائلكم. هل سيظل الإسلام يعيش على هامش تفكيركم بينما تعيش اليهودية فى سويداء قلوب أصحابها؟ إن اليهود يسجلون غيابهم يوم السبت لأن العمل فيه حرام، فهل تسجلون غيابكم يوم الجمعة لأداء صلاة فى مسجد، أو نعتبركم مسافرين فتؤدون الصلاة فى بيوتكم؟ إنكم أسقطتم الإسلام من حسابكم فليس غريبا أن تسقطوا من عين الله !! بعضكم جرب التوكل على الاتحاد السوفيتى فها هو ذا قد ضاع. فهلا جربتم التوكل على الله وقررتم العودة إليه والتجمع تحت رايته، وإعادة بناء الأمة على قواعدها الدينية وقيمها الإسلامية المهملة؟؟ إن العرب يزهدون فى الانتماء الإسلامى ويحسبون العلمانية هى النزعة التى تجمعهم بسائر الناس. وهيهات، فقد كشر التعصب عن أنيابه، وتهيأ لافتراسنا. ص _174(5/168)
عالم من المرايا أكره الذين يعبدون أشخاصهم ويرتبطون بأهوائهم ارتباطا لا فكاك منه، إنهم يرنون أبدا إلى مصالحهم الخاصة، ولا يتنازلون عنها إلا ليعودوا إليها، كحمار الرحى يتحرك فى مداره والمكان الذى يرحل إليه هو المكان الذى رحل منه!! هذا قائد همه الأول والأخير الهتاف باسمه والتسبيح بحمده! وهذا عالم ينشد المال والجاه! وهذا متبرع يطلب الظهور وبعد الصيت! فإذا بحثت فى صدورهم عن الله والإخلاص له لم تجد شيئا.. والغريب أنهم ينتسبون إلى الإسلام ويعملون فى ميدانه، وقد نبهت السنة المطهرة إلى خسار هؤلاء وسوء عقباهم وأنهم أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة.. ولا تحسبن هذا الوعيد لونا من الترهيب المبالغ فيه فإن ارتداء الإسلام على كيان غير طاهر لا يفيد شيئا. بل قد يكون بلاء على الإسلام ومبعثا على سوء الظن به. انظر ما يقع فى أفغانستان، لقد نجاها الله من الحكم الشيوعى بعد جهاد طويل فى سبيل الله، أبلى فيه الشباب المخلص بلاء حسنا، وذهب شهداء كثيرون إلى الله وهم فرحون بلقائه، زاهدون فى الدنيا وما حوت من متع.. فإذا بعض الرؤساء يحولون المعركة إلى بحث عن المناصب، وتطلع إلى الزعامة، ويصدرون الأوامر إلى جيوشهم كى يحولوا البلاد إلى خرائب وأنقاض..!! إن الغم كان يملؤ نفسى وأنا أتسمع إلى أنباء العراك على الأسلاب، وأشعر بأن سمعة الإسلام تمرغ فى الأوحال، وأتبع بطرف دامع ألوف الهاربين من وجه القتال الخسيس، قتال الذين تحولوا قطاع طرق بعد ما كانوا قادة لمجاهدين فى سبيل الله! ص _175(5/169)
إن حصيلة الكفاح الحر الشريف وقعت للأسف بين أيدى خطافين يعبدون أنفسهم ويجرون وراء الحطام الزائل! إن علماء النفس وصفوا بعض الأشخاص بأنهم يعيشون فى عالم من المرايا، كلما تحركوا إلى جهة من الجهات لا يرون إلا أنفسهم وحدهم، وهؤلاء الأشخاص خطرون على الدنيا والدين جميعا. فأما الدين فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه. وأما الدنيا فإن الشعوب فى عصرنا ثاقبة البصر، إذا رأت قائدا مفتونا بنفسه مشغولا بمصلحته تخلصت منه ونأت عنه. فلنحدد موقفنا من هؤلاء القادة المرضى. ص _176(5/170)
كابوس الجرائم لا يختلف اثنان فى أن الولايات المتحدة أعظم دول العالم، وأرقاها حضارة، وكان المنتظر بعد هذا السبق البعيد أن يسودها الأمان وتغمرها الصحة النفسية والاجتماعية ولكن يبدو أن ذلك لم يحدث، وأن الدولة القوية الغنية تسودها أحوال مزعجة!! وفى تصريح لوزيرة الصحة الأمريكية ذكرت أرقاما عن الجرائم والأمراض والانحلال تدعو للتساؤل. قالت: إن خمسين ألف شخص يذهبون ضحايا العنف والإجرام سنويا، وأن هذا الرقم المخيف يزيد على ضحايا مرض الإيدز الذين لا يتجاوزون عشرين ألف شخص سنويا، كما أنه يمثل ثلاثة أضعاف حوادث المرور الناجمة عن تناول الخمور وهم لا يزيدون عن ثمانية عشر ألفا!! أى أن هذه الدولة العظمى تفقد كل عام ثمانية وتسعين ألف قتيل لأسباب شتى، وهى لم تشتبك فى حرب مع دولة أخرى إنهم ضحايا الأحوال الداخلية المضطربة! وأوضحت وزيرة الصحة الأمريكية فى تقرير قدمته لإحدى اللجان البرلمانية أن الرعاية الطبية لضحايا العنف كلفت الدولة فى العام الماضى 13.5 مليار دولار! وذكرت أن 44% من جرائم القتل سببها المخدرات! ولم تنس الوزيرة المسئولة أن تقول فى تقريرها إن التلفاز ووسائل الإعلام تحمل وزرا كبيرا فى تزايد هذه الفوضى، وأنها خيلت للشباب أن العنف هو الطريقة المثلى لحل المشاكل! لقد تدبرت هذا الواقع المخزى، وبحثت عن أسبابه، وشعرت بأن البلد المتفوق علميا وصناعيا متخلف دينيا وخلقيا، وأنه محروم من عناصر الوحى السماوى التى تمنعه من رذائل كثيرة، إنه استطاع تفجير الذرة، وقهر الأعداء، ولكنه عجز عن علاج أمراضه والنجاة من غوائلها، والكنائس لديه خالية، والعامر منها مشغول بدعم إسرائيل وهزيمة العرب!! وبضاعة رجال الكهنوت ـ لو نشطوا فى ص _177(5/171)
توزيعها- لا تنجح فى زكاة نفس، ولا فى إحياء ضمير وغرس تقوى، وتذكرت قوله تعالى : (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين) لكن القوم يعقدون المؤتمرات ويفضونها من أجل محاربة الإسلام، وكان الأولى بهم أن ينشغلوا بإصلاح بواطنهم وتهذيب مسالكهم بدل هذا اللدد فى محاربتنا! كنت يوما فى أمريكا، وخرجت من الفندق لبعض شأنى، فلما عدت وجدت الفزع باديا على أصحابى، واستقبلونى وهم لا يصدقون أنى عدت!! لأن الخارج فى هذه الساعة يغلب أن يسرق، أو يجرح، أو يقتل! فقلت فى بلادنا نمشى فى الظلام إلى المسجد لا نخاف إلا الله وحده ونصلى الفجر ونعود آمنين.. أتمنى أن تقتبس هذه البلاد بعض ما لدينا. ص _178(5/172)
حضارة!! أذاعت وكالة "رويتر" هذا الخبر المثير قالت: "إن دراسة حكومية فى كندا كشفت أن نصف النساء الكنديات قد تعرضن للإيذاء البدنى أو الاغتصاب، وأن واحدة من بين كل أربع سيدات قد تم الاعتداء عليها من أحد المقربين لها!! والطريف أن هذه الدراسة ذكرت أن 60% من الكنديات يخشين السير فى الشوارع المظلمة خوفا من الاعتداء عليهن!". الحق يقال أن هذه الحال ليست مقصورة على كندا، بل هى حال المجتمعات الأوروبية والأمريكية كلها، فإن النظرة الحيوانية إلى المرأة تكاد تكون عامة، والأسباب الباعثة على ذلك تزيد ولا تنقص، والعفة التى تنشدها الأديان كلها تكاد تكون من المستحيلات..! ولم أعجب عندما قرأت إحصاء لإحدى اللجان أن غشاء البكارة يندر بقاؤه بعد سن المراهقة !! إن أزياء النساء تفصلها شياطين مولعة بإثارة الشهوات وتمزيق الأعراض فالثوب قلما يغطى الركبتين من أسفل وقلما يستر الصدر من أعلى وصقل الشعر فنون !! ومع كل فصل من فصول السنة يخترع الخياطون بدعا جديدة فى الملابس يعرضها سرب من الفتيات الغاديات الرائحات وهن يكشفن ما يوفره الزى الجديد من إثارة بإعجاب.. أما قصة غض البصر فخرافة قديمة لا يعرفها هذا العصر، ولعلها من الذكريات الرديئة! وقد إنفردت هذه الحضارة بإقامة المراقص التى يحتضن فيها من شاء ما شاء! وأى عيب فى ذلك؟ كما انفردت بعرض البغايا من وراء زجاج مصقول كى ينظر المارة إليهن، ثم يدخل إلى المحل من ارتضى إحداهن !! ص _179(5/173)
إن وضع المرأة فى الحضارة الغربية يدعو إلى السخط والاشمئزاز. والغريب أن بعض حملة الأقلام عندنا يريد نقل هذه المباذل إلينا ويراها دلالة تقدم وارتقاء..! إننى أعود بخيالى إلى مجتمعنا الأول فى المدينة المنورة، والمسلمون من الرجال والنساء يدعون إلى صلاتى الفجر والعشاء فى ظلام الليل (بشر المشائين إلى المساجد فى طقم الليل بالنور التام يوم القيامة" وتخرج النساء من بيوتهن زرافات ووحدانا ليملأن الصفوف المؤخرة فى المسجد!، ثم يعدن إلى بيوتهن ما يعرفن من الغلس وما يخشين اعتداء ولا اغتصابا إن نسائم الطهر والعفة تهب على المجتمع كله، وتجعله لا يعرف إلا مرضاة الله، ولا يسعى إلا إلى تقواه.. إن الفروق واسعة بين المادية الحديثة وبين مواريث موسى وعيسى ومحمد. وما يقع الآن فى العالم الغربى يستحيل أن يقبله عيسى بن مريم، ويحزننا أن رجال الدين هناك بدل أن يصلحوا أنفسهم ومجتمعهم انشغلوا بالحملة على الإسلام ومؤازرة الاستعمار فى النيل منه واجتياح حقوقه. ص _180(5/174)
قطاع طرق قد ينجح قاطع طريق فى احتلال جزء من الأرض واستذلال قبيل من الناس لكن هذا النجاح لا يشبع أطماعه ويبعثه على الرضا بل يزيده تلمظا وجشعا على طريقة إن الطعام يقوى شهوة النهم. والضمير اليهودى بعدما استولى على فلسطين استيقظت فيه كل خصائص السلب والابتزاز، وافتضح ما كان خافيا من أثرته وتطلعه الذى لا حد له، وهو يعمل الآن بدهاء رهيب لاستكمال "إسرائيل الكبرى" على أنقاض العرب أجمعين، مستغلا الفوضى الدينية بينهم ونجاح الغزو الثقافى فى تدويخهم وتزهيدهم فى مواريثهم. وأول ما نذكره عن الضمير اليهودى أنه لا يرعى عهد ولا يعرف وفاء بل يندفع بقواه الذاتية إلى مآربه غير آبه لشىء، ومعروف أن الأمريكيين أقاموا الدولة اليهودية بمساعداتهم التى تبلغ ألف دولار كل عام لكل طفل أو رجل فى "إسرائيل"! ومع ذلك فإن عصابة من الحاخامات تكونت لسرقة المال الأمريكى من منابعه وزعمت أنها كونت مدارس لتخريج يهود متطرفين !! ينفق على طلابها من تبرعات الأغنياء، ويدفع لكل طالب يهودى 2400 دولار سنويا. وقد كشفت التحقيقات عن أن 97% من هؤلاء الطلاب وهميون لا وجود لهم فى الواقع وأن الحصيلة المجموعة ذهبت لحساب رؤساء يخدمون التطرف ويدعمون قضاياه وأن أصحاب الهوس الدينى من الأغنياء هم ضحايا هذه القصة! وهكذا رد اليهود الجميل إلى من يساعدونهم فى السر والعلن فخدعوهم وضحكوا على ذقونهم! وعلى أية حال فمهما فعل اليهود فإن الضحايا راضون مادام الهدف المقرر هو ضرب العروبة والإسلام! وكشف اليهود عن طباعهم وهم يفاوضون فى صلح "غزة وأريحا" وقالوا: ص _181(5/175)
إن المقصود بأريحا البلد لا المنطقة كما تقول المقصود بالجزائر العاصمة لا الدولة، أو كما نقول المقصود بمصر القاهرة لا البلاد كلها.. وعلى المفاوض العربى أن يدوخ ليثبت حقه فى بلدة يملكها من آلاف السنين! وفى أثناء المفاوضات كان الرصاص اليهودى يغتال ويعربد ليثبت أنة طالب سلام! من قديم واليهود معرفون بأنهم لا عهود لهم، لا مع الله ولا مع الناس، حتى قال الله فيهم : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) وبين أن هذا الغدر سجية فيهم غير محدثة فقال: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) لقد اغتصب اليهود فلسطين ولا حق لهم فى ذزة من ترابها، وتم هذا الاغتصاب فى أيام نحسات من تاريخ أمتنا التى تفرقت وضرب بعضها بعضا فضربها القدر بمن لا يرعى فيهم إلا ولا ذمة! والآن بدل أن نعود إلى ديننا ليعود إلينا عزنا نمد أيدينا إلى أعداء الإسلام وقتلة الأنبياء.. إنهم اليهود الذين لن يتركوا طبائعهم السوء أبدا. ص _182(5/176)
أمة منحدردة كانت العروبة فى أحضان الإسلام تعنى التربية والثقافة والشريعة والتراث فلما انسلخت عنه أو أريد لها أن تكون بديلا عنه وجدت شعوب معتلة الثقافة منحلة الأخلاق متسولة للقانون متنكرة للتراث حتى صح فيها قول محمود غنيم: ويح العروبة، كان الكون مسرحها! فأصبحت تتوارى فى زواياه!! وقد نظرت إلى إسرائيل بعد اشتباك سبعين سنة مع العرب فرأيت اليهود دولة قوية تحظى باعتراف الشرق والغرب ورأيت العرب زادوا على عشرين دولة تتنافس جميعا على مرضاة إسرائيل! ورأيت اليهودية دينا ودولة، أما الإسلام فلا يجوز أن تتكون باسمه هيئة ترفع راية الشريعة وتتشبث بمواريث الوحى! وأعرف أن المسلمين يعانون من هزائم ثقيلة، وأن كفتهم طاشت بين الأمم. ولكنى لم أعرف منهزما يدعى البطولة، ويلبس شارة الزعامة ويرقب من الجماهير أن تهتف له كما يقع ذلك فى أرجاء الأمة العربية! والعرب بأسهم بينهم شديد، ولو أن نصف خسائرهم فى الفتن الداخلية وجه إلى عدوهم لاستردوا أكثر ما فقدوا.. أليس من العجائب أن جيشا لبنانيا لا يزال يقاتل العرب مع إسرائيل؟ وقد استطاع بعض الرؤساء العرب أن يؤلف جيشا لا بأس به، مزودا بأسلحة حسنة وزعم أنه سيدخل به تل أبيب، فلما وقعت الواقعة دخل به الكويت وضل الطريق إلى تل أبيب! وبين العرب اليوم سباق إلى مصالحة إسرائيل والرضا بالهزيمة المذلة وأول من سن هذه السنة الرئيس أنور السادات لأنه ورث عن جمال عبد الناصر عروبة مقطوعة عن الإسلام مربوطة بقومية مجردة وجاهلية عمياء حرمته كل توفيق وأذاقته الموت قبل أن يحين أجله! إننى أرمق أوضاع العرب السياسية فأشعر بغصة، وسيبقى العرب ينحدرون ماداموا يرفضون الإسلام تربية وثقافة وشريعة وفلسفة وشارة حياة ودعامة مجتمع، وسيبقى الصلف اليهودى يتورم وتنفخ فيه الدول الكبرى ما بقى العرب زاهدين فى الاسلام.. وسيبقى قادتنا أصحاب عضلات من حزق إلى أن يرجع الإيمان التائه إلى القلوب الفارغة(5/177)
وتعود الأخلاق إلى المسالك المعوجة. ص _183
مخالب حادة الفرنكفونية حركة ثقافية سياسية اقتصادية تقودها فرنسا وتنتظم الآن بضعا وعشرين دولة كان أغلبها مستعمرات فرنسية سابقة، فلما تحررت حل الرباط الجديد محل القيادة القديمة! وفرنسا من الدول العظمى، وهى شديدة الحب للغتها وأدبها وتقاليدها وليست فى ذلك بدعا بين مثيلاتها من الدول ولكن الطبع الفرنسى نزاع إلى المغالبة والسبق. فإذا دخل بلدا أحب أن تكون لغته الوحيدة فى مجال التعليم والتخاطب فإذا عجز عن محو اللغة القومية للآخرين فلتكن الفرنسية هى اللغة الأولى. وقد تدحرجت اللغة العربية فى أقطار المغرب الكبير برغم مساندة الإسلام لها والمستقبل مقلق! والارتباط بالإسلام نفسه يعانى حرجا كبيرا لضعف العلاقات بين الدين والقانون، والدين والإعلام، والدين والتربية. والناظر إلى الدول الفرنكفونية يرى أن الاستعمار الثقافى والاجتماعى ماض فى طريقه لإفقاد الإسلام مكانته..! والفرنسيون كاثوليك شديدو التعصب لمذهبهم، وقد التزموا خطا لا يحيدون عنه فى القرن الأخير. وقد استغربت موقفهم فى رواندا، فقد صادقوا حكومتها القديمة وسلحوا جيشها وأعانوها محليا وعالميا وشرعوا يعملون على ضمها إلى بقية الدول الفرنكفونية فى القارة السوداء. ولكن قبيلة "التوتسى" كانت متأثرة بتيار أوروبى آخر فاستعصت على هذه المحاولة، ووقعت فتن وانقسامات خسرت فيها القبيلة المتمردة على الفرنكفونية نصف مليون قتيل! ولا تزال حركة التمرد قائمة! وعندما نجحت فرنسا فى استصدار قرار من ص _184(5/178)
مجلس الأمن لدخول رواندا لإقرار الأمن (!) غضبت القبيلة الثائرة وقررت اعتبار الفرنسيين غزاة وعقدت العزم على محاربتهم! لقد ساءلت نفسى عن هذا النصف مليون من القتلى فيم ذهب؟ ولماذا يغض العالم من فداحته؟ وما هذه الفرنكفونية التى يدفع الإفريقيون فيها هذا الثمن الفادح؟ وساءلت نفسى مرة أخرى هل لو كان النزاع بين المسلمين وأتباع إحدى الوثنيات وسفك الدم بهذه الغزارة أكان العالم يسكت علينا؟ إنه يسكت فى حال واحدة! أن يكون الضحايا من المسلمين! وددت لو أن لجنة من المؤرخين المحايدين سجلت بأمانة وقائع التاريخ الحديث وعدد الذين أزهقت أرواحهم من اكتشاف القارات إلى يوم الناس هذا.. إن الدول العظمى ذات مخالب حادة وإن غطاها الحرير..!! ص _185(5/179)
حالك الظلمات قال "بن غريون " أحد مؤسسى إسرائيل ورئيس حكومتها الأسبق: سنكتسح الدول العربية بالدبابات فإذا تأخر ذلك اكتسحناها بالجرارات! أى سنهزم العرب بتفوقنا العسكرى فإذا استبعدت الحرب هزمناهم بتفوقنا الاقتصادي! وحتى لا تكون الكلمة تهديدا أجوف، فإن جن سليمان يصلون الليل بالنهار دأبا على تجويد صناعتى الحرب والسلام حتى أمسى اليهود مسلحين من الرأس إلى القدم، وحتى أمسى إنتاجهم الزراعى والصناعى يغزو الأسواق العالمية! واستغربت ظنون اليهود بنا إنهم لا يتصوروننا إلا شعوبا مستهلكة، أما هم فمالكو زمام الإنتاج، إن الرقعة التى سرقوها من أرضنا ليس فيها شبر لم يزرع وقد أضافوا إلى ذلك مهارة فى الإنتاج المدنى والعسكرى تبعث على الدهشة! وظهر أن الخطة لإقامة إسرائيل الكبرى أساسها شعب كادح يعرق فى ميادين العمل وسط شعوب ناعمة تبحث عن اللذة حرم شبابها من التوجيه الدينى الصارم وراح يجرى وراء الضرورات حينا ووراء الرفاهية حينا آخر.. إن الأمر ليس استنتاجا إن الخبرة اليهودية فى الزراعة المثمرة والإنتاج الكبير تعرض علينا فى مصر التى تزرع الأرض من خمسين قرنا، والتى جاءها إسرائيل نفسه من عشرات القرون فرارا من القحط الذى أصاب وطنه كى يستطيع العيش الهنىء على ضفاف النيل.. ماذا عرا مصر والعرب كلهم حتى تقهقروا فى استثمار أرضهم ومضاعفة خيراتها؟ إن أقطارا فيحاء يستشرى فيها الجدب وكان يمكن أن تدر السمن والعسل لو وجد المهندسون والفعلة، أين هم وما الذى يشغلهم؟ وعجبت لما قرأت أن الجيش الإنحليزى قرر أن يستخدم صاروخا إسرائيليا جيدا فى عدته الحربية. قلت: أبلغ اليهود هذه الدرجة من الإجادة؟ ص _186(5/180)
إننى قريب من شبابنا وخبير بمواهبهم وأقسم أن فيهم من لو سابق اليهود سبقهم ولكنهم ثروة معطلة ومواهب مشلولة! من هوى بنا إلى هذا الدرك؟ وكيف تحولت الأمة الوسط العظيمة إلى أنقاض وخرائب؟ إن شيئا واحدا أوقن به أن الإسلام برىء من هذه الأوضاع وأن تركه هو الذى أزرى بنا ومكن عدونا أن يسبق هذا السبق. إننى أكتب هذه الكلمات وفى دماغى طنين من خبر سمعته من الإذاعة هذا الصباح!. مقتل 16 أصوليا قريبا من إحدى العواصم! إن بأسنا بيننا شديد، وإن تنازعنا على حطام الدنيا رهيب وإن المسافة بيننا وبين الكتاب والسنة طويلة، ورددت مناجاة شوقى لصاحب الرسالة: شعوبك فى شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف فى عميق سبات بأيمانهم نوران : ذكر وسنة فما بالهم فى حالك الظلمات! ص _187(5/181)
لجة من الأسى غمرتنى لجة من الأسى عندما طالعت فى الصحف أن اجتماعا تم بين وزير خارجية إسرائيل، وبين ياسر عرفات فى "غرناطة"! آخر بلد تركه العرب بعد هزائمهم فى الأندلس.. قلت: لماذا اختيرت "غرناطة" لتكون مقر هذا الاجتماع بين اليهود الأقوياء والعرب المستضعفين؟ أهى مصادفة غير مقصودة؟ أم هى تذكير بالهزائم القديمة والملك المفقود حتى لا يجزع الفلسطينيون من قبول اتفاق غزة وأريحا؟ إن الاجتماع فى هذا المكان أثار أشجانى، وبصرنى بطبيعة المنحدر الذى نهوى فيه، صحيح أن الإسلام- بقيادة الترك- استطاع تعويضى خسائره فى شرق أوروبا إذا كان قد انهزم غربها، وصحيح أنه فتح القسطنطينية , وكاد يدخل فيينا عاصمة النمسا لكن الفتح العسكرى قليل الجدوى إذا لم يصحبه فتح ثقافى، وإذا لم يكن معه جهاز جيد العرض لتعاليم الإسلام، والعرب وحدهم أصحاب المقدرة فى هذا المضمار، وقد استطاعوا بعد طرد الرومان من الشمال الإفريقى كله أن يقربوا الإسلام والعروبة من الجماهير المحررة فأسلمت الشعوب وتعربت فى وقت واحد. أما الأتراك فقد عجزوا عن مثل ذلك فى البلقان، ولذلك اضطرب مستقبل الإسلام فى البلقان كله وكان ما نشكو منه الآن! ومن حقك أن تسأل: لماذا لم يؤلف العلماء العرب جماعات من الدعاة المدربين تساند العسكرية التركية، وتشرح للناس حقائق الإسلام؟ ما أظن الترك يمنعون ذلك أو يعترضونه مادام نشاطا علميا مجردا غير مشوب بمطامع الحكم ومنازعة أصحاب السلطة، لكن الطبيعة العربية فيما يبدو لى كانت تستكثر الصدارة على الأتراك، ص _188(5/182)
وكان النزاع بين الجنسين سببا فى سقوط الخلافة العثمانية ثم فى سقوط العالم الإسلامى كله.. ثم فى محاولات عنيدة مجنونة لاستئصال الإسلام نفسه !! وهكذا دفعنا ثمن مخالفتنا لقوله تعالى : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ) إن الاعتبار بالماضى شأن العقلاء، والمأزق الذى يحيط بالأمة الإسلامية الآن ضيق معنت وما بد جمع الشمل وتوحيد الكلمة ومواجهة خصم يعالن بالإجهاز علينا، وقد بدأ هجومه لمحو التوحيد من أقطار الأرض كلها.. إن الدفاع عن أركان الإسلام أمسى ضرورة ملحة فلا مساغ للاشتغال بالثانويات وإشعال النار من أجلها ولتتضافر الجهود فى مواجهة علمانيين ينكرون الوحى ويرفضون العقائد ويسخرون العبادات ويخدمون سائر الملل الأخرى ولا يتجرؤون إلا على الإسلام وحده. ص _189(5/183)
مغالطة.! للمجرمين منطق عنيد يقلب الحقائق ويجعل المتهم بريئا والبرىء متهما. وكأن نعمة البيان التى وهبها الله للإنسان تحولت عن غايتها فأمست للتغطية بدل التجلية وللتزوير بدل التوضيح! رأيت ذلك فى الحوار الذى وقع بين فرعون وموسى، كما رأيته بعد ذلك فى كل حوار يقع بين المحقين والمبطلين. يقول موسى لفرعون: (قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل). وما يطلبه موسى واضح أن يستخرج بنى إسرائيل من مصر بعدما كشفت الأيام عن استحالة بقائهم فيها، وتبقى مصر عندئذ لأهلها وحدهم ولكن فرعون يرد قائلا ـ بعد هزيمة السحرة ـ : (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون). ثم يمضى فى منطقه الكذوب قائلا : ( ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). فرعون يخاف من موسى أن يظهر فى الأرض الفساد!! ومرة أخرى يقول فرعون لموسى وأخيه هارون : ( أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ) إن موسى يبدو فى هذا الحوار متهما مقلقا للأمن أما فرعون فهو معتدى عليه أو مدافع عن نفسه وقومه !! ص _190(5/184)
هل عرفت النسب التاريخى لما يقال الآن من أن الإرهاب العربى يهدد الوجود اليهودى فى فلسطين؟ العرب المطرودون من بيوتهم فى العراء يهددون اليهود الذين اغتصبوا البيوت وطردوا منها أهلها!! وقد تكرر هذا المنطق فى صدر الدعوة الإسلامية فإن أبا جهل- فرعون هذه الأمة- قال عندما التقى الجمعان فى بدر: "اللهم أينا كان خيرا عندك فانصره. اللهم انصر أهدى الفريقين وخير الفئتين. اللهم من كان أفجر وأقطع لرحمه فأحنه اليوم!! كان أبو جهل يرى أنه صاحب حق وأن المسلمين على باطل! (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون) وإلى أن تنتهى هذه الدنيا سوف يبقى الخصام شديدا بين المؤمنين والكافرين، يرى الملاحدة أنهم أرقى عقلا وأرحب أفقا ويرى المؤمنون أنهم أعرف بالله وأدنى إلى مرضاته.. وهذا الوضع يوجب علينا مزيدا من الرسوخ والمقاومة، ومزيدا من الثقة فى الله والتوكل عليه، إننى أنظر إلى ما يدور من جدال بين أعضاء الأمم المتحدة، فأشعر بأن المحامين عن الحق محتاجون إلى مقادير أكبر من الثبات والإيضاح، ولكن الشعوب التى يمثلونها يجب أن تشد أزرهم باليقظة والكفاح حتى لا يقول أحدهم: ولو أن قومى أنطقتنى رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت! أى ربطت لسانى! فلتعرف الشعوب واجبها ولتنهض به مهما كان ثقيلا ص _191(5/185)
تزوير غريب عندما كان للشيوعية كيان ظاهر غالب كان الغربيون يكرهونها ويعدونها الجبهة الأولى ضدهم. فهل كانوا يومئذ يحبون الإسلام أو يهشون لأمته؟ كلا، بيد أن خشيتهم من الأسلحة الحمراء جعلتهم يخشون الروس وأتباعهم أشد من خشيتهم للأمة الإسلامية العزلاء ومن دينها المهزوم فى مواطن كثيرة! فلما نكست أعلام الشيوعية وذهب خطرها ظهر للفور الشعور الكامن أو الحقد القديم ضد الإسلام وقيل إنه الخصم البديل الباقى بعد الشيوعية المدبرة!! من الخطأ أن نحسب هذا شعورا طارئا، إنه السر وراء مقررات غربية سابقة تقول إن اليهود أولى بفلسطين من العرب، وأن عددهم يجب أن يتضاعف ولو دفع الغرب تكاليف الإسكان مساعدات أو قروضا وأن الدولة المصطنعة يجب أن تكون قوتها العسكرية أرجح من قوى جميع الدول العربية متحدة!! حتى إذا وقعت حرب سحق اليهود خصومهم بسهولة.. هذه مقررات سياسية ثابتة فى موقف الغرب من العرب وجامعتهم، ومن المسلمين عامة في المشارق والمغارب. ومع أن الكاثوليك والبروتستانت سواء فى الضيق بالعروبة والإسلام إلا أن الكنيسة الإنجيلية أشد حماسا وأقوى شكيمة فى مناصرة بنى إسرائيل، وأتباع هذه الكنيسة هم جمهرة السكان فى إنجلترا والولايات المتحدة. وعندما أعلنت إسرائيل تهويد القدس تداعى ألف رجل من زعماء الكنائس الأوروبية والأمريكية وعقدوا مؤتمرا دينيا عنوانه "السفارة المسيحية الدولية" تأييدا لليهود وشدا لأزرهم ومحوا للطابع العربى الإسلامى لمدينة القدس. ويوجد الآن أكثر من ص 0 منظمة دينية تعمل لهذا الغرض، وهى تبشر بالعودة الثانية للمسيح، وأنها سوف تقع فى صهيون، وأنه لابد من تجميع اليهود هنا لاستقباله!! ونتساءل نحن كيف سيستقبلونه بكفرهم القديم؟ وطعنهم فيه وفى أمه؟ أم بأفئدة أخرى..!! ص _192(5/186)
الواقع أن نصارى أوروبا وأمريكا أبعد الناس عن رسالة المسيح عيسى بن مريم وأجهلهم بطبيعته، وأن مؤازرتهم لليهود ضد العرب لا تترجم عن إيمان، ولا عدالة! وأن القول بأن المسلمين هم العدو الطبيعى للغرب بعد زوال الشيوعية يدل على جهل فاضح، فإن جمهور المسلمين هم الذين يؤمنون بعودة المسيح وتوحيده الله ومناصرته للحق وخذلانه للباطل.. إن الإعلام الغربى يصور المسلم المعاصر بأنه إنسان عابس الوجه، مقطب الجبين، كبير اللحية يلبس العمامة على رأسه ويثير الرعب بقوله وعمله..! ولما كان المسلمون خمس العالم فقد صور هذا الخمس الأعزل المستضعف على أنه يهدد أوروبا وأمريكا بفوضاه وهمجيته! وبهذا التزوير الغريب تستباح دماؤنا وأموالنا وأعراضنا فى أغلب القارات، وتهزم قضايانا فى مؤسسات الأم المتحدة !! ويمنع السلاح عن مسلمى البوسنة والهرسك حتى يتمكن خصومهم من استئصالهم.. يجب أن ندرس موقفنا من العالم وموقف العالم منا، وأن تتحرك أجهزتنا الإعلامية لدحر هذه الأكاذيب التى طمت وعمت. ص _193(5/187)
تشويه كره بعضهم كلمة الغزو الثقافى، ونفى أن يكون ما حدث وما يحدث نتيجة عدوان مبيت على شعائرنا وشرائعنا وزعم أن الأمر لا يعدو حوار حضارات أو تلاقى تيارات فكرية مختلفة ينشأ عنه محو وإثبات، أو ذهاب أفكار وحلول أفكار أخرى.. وهذا كله اعتذار عما فعل بنا الاستعمار العالمى وهروب عن مواجهة آثاره فى محارمنا ومعالمنا، إن هذا الاستعمار بدأ احتلالا عسكريا لأرضنا احتلالا مشحونا بالبغضاء لديننا ولغتنا وحضارتنا وكل مقوماتها المادية والأدبية، وقد سارع بمحو الشريعة وجعل الحكم بغير ما أنزل الله! ثم أنشأ التعليم المدنى فارغا من العقائد والقيم الدينية وجعل مقاليد السلطة بيده! ثم هجم على التقاليد الاجتماعية فأخذ يصبها فى قوالب جديدة لا ترتبط بكتاب ولا سنة! ثم وضع خططا اقتصادية محكمة تجعل شعوبنا مستهلكة لا منتجة، وتجعلها عربة ملحقة بالقطار الغربى يجرها حيث يشاء طوعا أو كرها، وغطى هذا كله بإعلام مكتوب أو مقروء له طنين يذهب الرشد!! فأين هنا حوار الحضارات؟ إن الحوار أخذ ورد، وتبادل حر للأفكار والقضايا، وبعد تام عن الختل والاغتصاب والإسلام فى حقيقته وأسلوبه دعوة حارة لهذا الحوار، بل هو يعرض نفسه خاضعا للدليل!! ومستسلما لنتائج الفكر الذكى فى أولى عقائده، واسمع قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) واسمع إلى هذا التساؤل وكيف يربط الإيمان بجوابه (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ص _194(5/188)
وعندما يزعم أهل الكتاب أن المستقبل لهم وحدهم، وأن الحق معهم وحدهم يسألهم : أين الدليل (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ثم يجعل القبول الإلهى واسع الرحاب فسيح الجانب لكل من أخلص قلبه وأحسن عمله (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) والآيات على أننا أهل الحوار، وأن حضارتنا تقوم على العقل المؤمن لا على العقل الفارغ لا حصر لها، فكيف نخشى حوارا ونحن الذين ابتدعنا الحوار؟؟ إن الغزو الذى نواجهه يعتمد على التفوق العسكرى والقدرات المادية الكثيرة، وهو سافر الوجه عندما يستبقينا ضعفاء ويستبقى خصومنا قادرين! للوثنية الهندية أن تملك السلاح الذرى، أما باكستان المسلمة فلا.. ولليهود أن يملكوا السلاح الذرى أما العرب المسلمون فلا.. !! إنه يقول لنا انقلوا ما شئتم من حضارتنا، نستطيع أن نصدر إليكم أجود الأنبذة المعتقة والروائح المنعشة وآخر ما ابتكرت الغرائز المهتاجة من ملابس الليل أو النهار، وإذا شئتم صدرنا لكم الإيدز.. ولن نصن عليكم بأدوات القتال، ولكن الذخائر وقطع الغيار تجيئكم وفق ما نشاء.. !! إن الغزو الثقافى أخبث مآلا من الغزو العسكرى، وقد انهزمت ألمانيا واليابان عسكريا بيد أن كلتيهما، احتفظت بشخصيتها فلم يمر ربم قرن حتى عادت كلتاهما أقوى مما كانت.. الغزو الثقافى محو للكيان الذاتى وتشويه متعمد لملامح أمة.. !! ويحزننى أن أنظر إلى نتائج هذا الغزو منذ بدأ حتى اليوم، فأرى خسائرنا فادحة فى الرجال والنساء، والأهداف والوسائل، والأفراد والهيئات، أما المؤسسات الدينية الحارسة لجوهر الأمة فإن لججا هائلة تثور حولها، وهى تقاومها ولا تدرى ما النتيجة؟ أتغرق أم تظفر بالبقاء؟ ص _195(5/189)
وجهوا بنادقكم بعيدا.. أظن الولاء للدين لم يبق على شدته الأولى فى كثير من الأرجاء. إن الإنسانية المطلقة اجتذبت عشرات الدول واستطاع العنوان العلمانى أن يفرض نفسه على هيئة الأمم وعلى أنواع من الأنشطة البشرية الأخرى، وأظن رجال الأديان هم المسئولين عن هذه الهزيمة فمواريثهم السلبية فسحت الطريق أمام مذاهب وفلسفات ما كان لها أن تظهر أبدا وأجرؤ- وأنا أحد علماء المسلمين- على القول بأننا- نحن المسلمين- لم نحسن العمل بديننا ولا العمل له، وأن هزائمنا فى فلسطين والقدس وغيرهما كانت عقوبات عادلة للغش الثقافى والبله السياسى اللذين أصبنا بهما. وأبدأ وأنا أتحدث مع رجال الأديان الأخرى فأذكر حقيقة إسلامية خافية، ونحن نعتقد أن العمران البشرى لا يحتكره دين واحد، إن تعدد الأديان أمر مأنوس فى وعينا وفى معاملاتنا، يستحيل أن ننفرد نحن أو ينفرد غيرنا بهذه الأرض. ويسعنى أن أقول للآخرين (لكم دينكم و لي دين) (لي عملي ولكم عملكم) وفى معاملة أهل الكتاب الأولين يقول الله لنبيه (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض) الاختلاف بين البشر لابد منه، ولكنه ليس سبب تظالم وتخاصم، ويستطيع المسلم أن يتزوج كتابية فيعيش دينان فى غرفة واحدة! فكيف تضيق بهما الأرض الفضاء..؟ إننى أعتب على أهل أديان أخرى أن يعتبروا الإسلام دينا خارجا على القانون!. ص _196(5/190)
وأن يستبيحوا المسلمين ويعتبروهم جماعات من البشر غير جديرة بحق الحياة، وأن يتوارث هذا اللدد حتى يتم إسقاط دولة الإسلام، واختفاء شعار التوحيد فى أغلب القطار !! وقد هززت رأسى عجبا وأنا أرى الوحى الإلهى يداس فى صمت مع إباحة اللواط والسحاق والبغاء وأدران جنسية أخرى! والصامتون هم أعلى الناس صوتا فى اعتراض الإسلام ومطاردة شرائعه! إننا نحن المسلمين نريد أن نعامل معاملة طبيعية أى يعترف بحقنا فى الحياة، وبحقنا فى الدعوة إلى ديننا بالحسنى، لا نحب أن نفتن أحدا ولا أن يفتننا أحد. إن العالم أجمع يواجه أزمة دينية شديدة. دعونا نشارك فى تفريج هذه الأزمة. دعونا نقنع الناس بأن الله حق وأن لقاءه حتم وأن وحيه واجب الطاعة، وجهوا بنادقكم بعيدا عنا، إن المادية فى طريقها لاكتساح كل شىء. ص _197(5/191)
مالكم.. كيف تحكمون؟! الفرق واضح بين المجاهدين والمتطرفين، ولكن أعداءنا يتلاعبون بالألفاظ والمصطلحات ويريدون تحريف الكلم عن مواضعه. فالذين قاتلوا دون هدم مسجد "بابرى" فى الهند والذين يستعدون للموت دون آلاف المساجد المهددة هناك ليسوا متطرفين، وإنما هم مجاهدون مخلصون نذكرهم بالتقدير والدعاء.. والذين يحافظون على عروبة فلسطين، ويستميتون دون تهويد القدس ويقاتلون العدوان الصهيونى ليسوا متطرفين، وإنما هم مسلمون صرحاء لهم شرفهم ومكانتهم فى نفوسنا. والذين يحزنون لتعطيل شعائر الإسلام وشرائعه، ويذودون تكالب الاستعمار الثقافى والتشريعى على بلادنا، ويجتهدون فى إحياء تعاليم الإسلام ليسوا متطرفين وانما هم مؤمنون مقدورون يجب أن يعانوا وينصروا.. إن التطرف لون من الغلو الممجوج، أو تحويل العادات إلى عبادات، أو النوافل إلى فرائض، أو تسليط النظر البليد على تراثنا الفقهى ليعوقه عن الانطلاق والحركة ا لوا جبة.. أما أن يقول الهندوس إن المدافعين عن دينهم ومساجدهم متطرفون، أو يقول اليهود عن حماة القدس والأرض والعرض إنهم أصوليون منبوذون، أو يقول الشيوعيون والعلمانيون عن دعاة الحكم الشرعى إنهم رجعيون فهذا لعب بالألفاظ، وزيادة فى الكفر ومكر سىء بالإسلام ومستقبله.. لقد نشرت "المسلمون " فى عدد مضى نبأ التعاون بين إسرائيل والهند على محاصرة الإسلام. فعجبت إذ يقول سفير إسرائيل فى الهند: إن كلا من الهند وإسرائيل يواجه خطرا مشتركا من الأصوليين الإسلاميين، وأن هناك دولا إسلامية تشجع الإرهاب الآصولى.. إلخ. ص _198(5/192)
لقد تحول المقتول إلى قاتل وتحول المعتدى عليه إلى خصم مخوف. إن معالم الإسلام فى الهند وفلسطين مهددة بالمحو، والخطط توضع لإزالة دين وحضارة، دين قام على التوحيد وحضارة قامت على التسامح!! المطلوب الآن: لا إسلام فى الهند ولا إسلام فى فلسطين.. الوثنية وحدها صاحبة السلطة فى الهند، واليهودية وحدها صاحبة السطوة فى فلسطين، بل لا فلسطين هناك، توجد إسرائيل فقط..!! ثم تتأمر الحافل الدولية والطوائف العاملة للغزو الثقافى على تسمية المدافعين عن كيانهم وتراثهم بأنهم متطرفون..! فى هذه الفوضى المائجة، وهذه الغارات الملحاح نطلب إلى المكافحين المسلمين أن يتشبثوا بالشكل والموضوع، وأن يمزقوا الأستار عن نيات الأعداء وأن يظلوا مسلمين صرحاء.. ص _199(5/193)
مقتل الخلفاء.. فى كوم الأسئلة التى وجدتها أمامى بعد انتهاء محاضرتى، سؤال استوقف انتباهى لأ نه يحمل تشكيكا واتهاما للعصر الإسلامى الأول، أعنى دولة الخلافة الراشدة، يقول: أين الرضا واستقرار الحكم وتأييد الجماهير إذا كان ثلاثة من الخلفاء قد ماتوا قتلى؟ أدركت أن السائل تأثر بالحملات التى يشنها الغزو الثقافى على الإسلام وتاريخه كله! قلت: إن دولة الخلافة قامت بعد زوال المستعمرات المسلحة التى أقامها اليهود فى جزيرة العرب، وبعد زوال الجبروت الفارسى ومصرع آخر الأكاسرة، وبعد فرار الرومان من أرضين ظلوا بها أكثر من ستة قرون، وتركهم للشام وما وراءه، ومصر وما وراءها فى أعقاب هزائم رهيبة.. والغريب أن الفرس والروم واليهود كانوا يحيون داخل جزيرة العرب حياة عادية، ومن اليسير تحت رداء الإسلام أن يخفوا عداوتهم للدين الذى قضى عليهم، وللدولة التى قامت باسمه !! هل كان هؤلاء الموتورون يحيون بصدور سليمة؟ ويعيشون رعايا طيبين؟ ولا أدرى لماذا أحسنا الظن بهم؟ ولم نحسن الحيطة منهم؟ وكيف يستريح الخليفة إلى الذهاب إلى المسجد من قبل صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء، لا حارس له فى طرقات المدينة أو داخل المسجد، والأعداء الأخفياء كثيرون؟ إنها طيبة مثالية خطيرة، كانت لها نتائجها الوخيمة! ثم لماذا لم يكن للدولة جهاز مخابرات ذكى ينظر بدهاء إلى حاضر الأمة ومستقبلها، ويرصد أعداء الأمس حتى إذا بيت أحدهم شرا أطفأ النار قبل اندلاعها.. أليس من المضحك المبكى أن يقول "كعب الأحبار" لعمر إننى أجد مقتلك فى التوراة! ص _200(5/194)
إن هذه الفلتة على لسان "كعب " فضحت التأمر على الخليفة الثانى الذى تم بين رجال من الفرس واليهود والدهماء كما ذكر التاريخ بعد فوات الأوان، ومما يستحق التأمل أن "كعبا" إلى يومنا هذا يعد من المحدثين!! ومن العجائب أن يذهب "سعد بن عبادة" ضحية مؤامرة لإثارة الشقاق بين الأنصار والمهاجرين، ثم يقال: إن الجن هى التى قتلته!! وترقب مجىء الوفود إلى المدينة لقتل عثمان، فتسأل: من حرسهم؟ ومن رسم الخطة لهم؟ ومن صحبهم فى فوضاهم حتى مقتل الخليفة الثالث؟ أكان للدولة جهاز مخابرات يدرى ما هنالك؟ إن أعداء الظلام حبكوا الفتن لضرب الإسلام فى صميمه، ورجال الدولة الإسلامية يعيشون فى عالم المثل مشغولين بالعبادة، والجهاد فى وضح النهار وتحت أشعة الشمس. إن التاريخ البشرى لم يعرف حاكما أعدل من عمر، ولا أنبل من عثمان، ولا أطهر من على وجماهير المسلمين تعرف هؤلاء الرجال على أنهم أئمة هداة، وأعلام فى طريق الحق، وما ينحرف عنهم إلا شقى! إن مصارعهم أدمت قلوب المؤمنين فى كل عصر ومصر، ولعلنا نتعلم من تاريخهم ألا نأمن لأعداء الله، وأن نجعل دولة الحق وراء سياج من الحذر واليقظة. ص _201(5/195)
النظام العالمى الجديد فى أوائل هذا القرن كانت إنجلترا وفرنسا وعدة دويلات أوروبية تستعمر أقطار فيحاء من العالم القديم، ثم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وأخذت ظلال الاستعمار تتقلص، ومع انتهاء الحرب العالميتين الأولى والثانية تحررت المستعمرات، وتراجع المستغلون إلى الوراء قليلا حتى يتقنوا حيلة أخرى لاستعمار العالم مرة أخرى بأسلوب أدهى وأرق وكان المسلمون فى أرجاء العالم، من بين الشعوب التى التقطت أنفاسها واستعادت- على نحو ما- حريتها، وللمسلمين اليوم نحو أربعين دولة مستقلة، ويتوزعون على ثلاثين قومية أخرى. ونحن انطلاقا من تعاليم ديننا لا نفكر فى ظلم أحد، وإنما ننظر إلى موقف الآخرين منا فنسالم من سالم، ونخاصم برغمنا من خاصم، ونعرض عليه بين الحين والحين السلام..! وأريد أن أتساءل- والإنسانية تتابع النظام العالمى الجديد- ما الموقف منه؟ وماذا أفدنا من النظام العالمى القديم، وماذا يمكن أن نفيده من النظام الجديد؟ وهل يعامل المسلمون بعدالة فى هذه الدنيا؟ إن هيئة الأمم فى عهدها السابق اتخذت قرارا بإنشاء دولة إسرائيل، فإذا البولنديون والروس وجموع من الشعوب، يرسلون يهودهم إلى الأرض العربية فيطردون أهلها من قراهم ومزارعهم وينفذون خطة مرسومة بتهويد فلسطين!! إن الدول الخمس الكبرى، وعشرات من الدول الأتباع اتخذت هذا القرار- وهى مستريحة الضمير! وأضحت إسرائيل الولد الشقى المدلل الذى تبنته هيئة الأمم، وتركته يضرب الجيران، وقد تنهره وهى تبتسم إذا زاد على الحد فى شقاوته وما تفكر أبدا فى تأديبه! وإسرائيل الآن تستعطف لتترك بعض ما غنمت للعرب البائسين! ترى هل ترق؟ ص _202(5/196)
ذاك فى النظام العالمى القديم! أما فى النظام العالمى الجديد فقد انحلت دولة "يوغوسلافيا" وتكونت على أنقاضها دول كثير، بعضها مسلم، والآخر مسيحى. فأما القسم المسيحى فقد اعترف العالم به ودافع عنه حتى استقر وضعه، وأما القسم المسلم فقد قرر النظام العالمى الجديد إماتته ببطء، وترك وحوش الصرب تسفك وتفتك وتعد وتغدر وتجيع وتظمىء، وتبتذل أغلى ما فى الدنيا من أعراض ودماء.. والدول الكبرى تنتظر وتدمدم بكلمات ظاهرها الغضب وباطنها الرضا، وكانت تستطيع أن تمنع هذا الشر كله أو بعضه لو تحركت بجد، وغضبت بصدق، لكن الدم الإسلامى رخيص فلا داعى لتكلف البكاء. !! ليس أمام المسلمين إلا أن يعودوا إلى الركن الذى يأوى إليه القلق فيأمن والمستغيث فيغاث! إن علاقاتهم بالإسلام ليست عزيزة عليهم فى ميادين شتى، فهل يحتمون برب الدين، ويحيون دينه؟ فى هذا اليوم يجىء النصر ويستريح الهائم، ولا نشكو الهوان بين الناس، ولا نرجو الخير من النظام العالمى القديم أو الجديد. ص _203(5/197)
خيفة من الإسلام تحت عنوان "عقيدة استبدادية أخرى تتسرب إلى الغرب " نشرت "نيويورك تايمز" مقالا يقطر حقدا على الإسلام وأمته، ويثير القلق والوجل ضد انتشار دعوته ويناشد حلف الأطلسى الاحتياط ضد العدوان الإسلامى المرتقب! وأريد اقتطاف عبارات من هذا المقال الذى يمثل الفكر السائد فى الغرب حتى يعلم المسلمون ما يراد بهم وكيف ينظر إليهم؟ قالت الصحيفة الكبيرة: "إن الأصولية الإسلامية تتقدم بسرعة لتصبح التهديد الأساسى للسلام العالمى"! وقالت: "إنها تشبه التهديد النازى والفاشى فى الثلاثينيات والتهديد الشيوعى فى الخمسينيات " وقالت: لقد أسلم فى بريطانيا ـ وحدها ـ بعد الصحوة الإسلامية20000 مسلم أغلبهم من طبقة المتعلمين الوسطى والعليا ويفضل هؤلاء العيش فى أجواء منعزلة هادئة لأسباب خاصة مع الاحتفاظ بأسماء إسلامية ومع الخضوع التام لكلمات الله فى القرآن الكريم ". وقالت: "إن الإنجليز الذين اعتنقوا الإسلام اختاروا منهجا دينيا معتدلا يبعدهم عن المادية الحديثة ويوفر لهم السلام النفسى ويعدهم الخير فى الآخرة "! وقالت: "لا نفهم السبب الذى جعل هؤلاء الرجال والنساء ـ وقد عاشوا فى جو ديمقراطى ـ يعتنقون عقيدة ترجم الزناة وتقطع أيدى اللصوص "! وأضافت: "من المناظر المألوفة فى " السعودية " ـ لأنها تطبق الأحكام الشرعية ـ كثرة ذوى العاهات !! ونسارع إلى القول بأن ذوى العاهات فى (السعودية) أقل من أمثالهم فى أوروبا وأمريكا، وقد عشت شخصيا فى مكة سبع سنين فلم تقطع أيد تبلغ أربعا أو خمسا خلال هذه الفترة.! ثم أوصت الصحيفة أن تمنع الدول الغربية عن دعم المدارس الإسلامية، فإن الروح الإسلامية فى امتداد وقد اتسعت دائرة الأصولية فى الشرق الأوسط وحوله. وحذرت من أن الإسلام أول هذا القرن كان يظهر جماعيا فى صوم رمضان أما الآن فأثرياء المسلمين يبنون المساجد فى " تركيا " و"تونس " و" الجزائر " وشعائر الإسلام تبرز هنا وهناك! ذاك ما(5/198)
نشرته صحيفة أمريكية كبرى، وهو صورة لما تنشره أمهات الصحف الأوروبية والأمريكية.. ولما كنا نحن المسلمين نتعرض لأزمات عالمية ومحلية كبيرة، ولما كانت تعاليم الإسلام وتشريعاته تواجه حربا شعواء فنحن نتساءل: من الذى يطلب النجدة ويصرخ لما نزل به؟ نحن أم من يعتدى علينا؟ أم كما قيل: ضربنى وبكى! وسبقنى واشتكى.. ص _204
الجامعة الإسلامية عندما وفد علينا الاستعمار الثقافى بفكرة القوميات الضيقة قاومها أهل الإيمان بفكرة الجامعة الإسلامية على أساس أن الإسلام أساس أخوة عامة تلم أتباعه فى المشارق والمغارب، وتجعل المسلم فى القارة الهندية أولى بأخيه فى المغرب الكبير! والحق أن المسلمين على اختلاف أوطانهم لم يستهينوا بروابط الدين، وبرغم عوامل التوهين والتعرية ظل نداء أيا أيها الذين آمنوا 100 يجمعهم حيث كانوا. وجدير بالنظر أن أوروبا التى انقسمت دولا شتى على أساس مبدأ القومية أخذت تتقارب بقوة حتى لتكاد تتحد طاوية كل أسباب الفرقة والوحشة! وقد تابعت إحدى جلسات "البرلمان الأوروبى" فوجدت مندوبين عن اثنتى عشرة دولة، انتخبتهم شعوب أوروبا انتخابا حرا مباشرا ووكلت إليهم أن يبحثوا المستقبل على نحو يجمع ولا يفرق، حتى لقد تساءلت: هل ستقوم ولايات متحدة فى أوروبا كما قامت ولايات متحدة فى أمريكا؟ إن أسرة جديدة تتكون فى أوروبا تجمع بين أعضائها عددا من الدول العظمى، وتوشك أن تفرض نفسها على العالم أجمع! ترى أين نحن من هذا التطور فى العلاقات الدولية؟ وتأملت فى وضع المؤتمر الإسلامى، إن الفكرة جليلة، والمهم أن تنفخ فيها روح الحياة حتى يقوم المؤتمر المرموق بتوحيد أمتنا فى مجالات كثيرة! وقد جد اليوم ما بعثنى على القلق! إن التبشير العالمى يتاجر بآلامنا وإذا سمع بأرامل أو يتامى أو منكوبين خص على عجل ليعرض عونه المريب ماذا شباكه لسرقة العقائد وقد انتهت حرب الخليج ولقى الظلمة عقابهم، وسمعنا عن مأس تقع للأكراد والعرب تستحق(5/199)
الدرس والعون. فهل نهرع لأداء واجبنا قبل أن يسبقنا الآخرون؟ إن مستقبل الأكراد تحفه الأخطار، بل لقد أذيع أن القوات المتحالفة تركت وراءها 40 طنا من اليورانيوم المستنزف فى الكويت وجنوب العراق كانت تستعمل فى ص _205
الطلقات الخارقة للدروع، وهذه المواد المتخلفة سامة كيماويا ولها إشعاعات ضارة ويخشى أن تسوق الموت البطىء إلى الآلاف من المسلمين.. والمسلمون فى أرضين واسعة تمر بهم أزمات خانقة ويتعرضون فى مسائهم وصباحهم للحتوف، فهل يشغل كل منا بما لديه، وينسى حقوق إخوانه؟ تذكرت ما ذكر فى سيرة الشيخ محمد رشيد رضا من أن الغم كان يساوره لآلام المسلمين حيث كانوا، فقالت له أمه يوما، وقد أصبح مهموما مغتما: هل مات اليوم فى الصين أحد المسلمين؟ إن بعد المكان لا يلغى حقوق الإيمان، ونحن مسئولون عن مسلمى الفلبين كما نسأل عن مسلمى وادى الفرات أو وادى النيل.. لقد تقارب الزمان والمكان واستطاعت الكشوف الحديثة أن تجعل أجيال البشر يحيون فى دار واحدة! لا سماعا بالآذان، ولكن رؤية عين من خلال قنوات التلفاز، والناس كلهم عبيد لإله واحد ونحن مكلفون شرعا أن نعرفهم حقه، وأن نبصرهم حكمه! ألم يجعل الله العرب الأمة الوسط الشاهدة على العالمين؟ فلنعرف رسالتنا ولنقم بأعبائها، ولنكن- كما علمنا رسولنا- جسدا واحدا إذا اشتكى بعضه تحرك كله بألم متجاوب وعون متبادل. عندما ذهبت "الأم تريزا" الراهبة الكاثوليكية النشيطة إلى ألبانيا سرحت عينى فى الفضاء، وتصورت بقايا الأمة الإسلامية هناك بعدما انهارت السلطة الشيوعية إن تسعة أعشار السكان مسلمون كانوا يكتمون كلمة التوحيد خوفا من البطش، وكانوا لا يجدون مسجدا يصلون فيه لأن المساجد غلقت أو تحولت إلى مخازن.. وقد تحرروا اليوم وهم يتلفتون ليروا إخوان العقيدة فإذا هم يرون طلائع التنصير !! إننى أهيب بالعرب أن يحملوا الراية، وألا تذهلهم العروبة عن الجامعة الإسلامية. ص _206(5/200)
الشاذلى بن جديد قضيت فى الجزائر قرابة خمس سنين كادحا إلى ربى، جاهدا فى سبيل دعوته، عرفت خلالها الشاذلى بن جديد الذى استدعانى للمشاركة فى تأسيس الجامعة الإسلامية بالجزائر، وأشهد أن الرجل كان مؤمنا حسن الإيمان، غيورا على دينه، مقيما للصلوات الخمس، وقد أدى هو وأسرته مناسك الحج!! وما عرضت عليه مشكلة تعترض قيام الجامعة إلا حلها، وإذا كانت هذه الجامعة قد نهضت فالفضل لحماسه الدينى، ورغبته فى ترسيخ الإسلام بالجزائر وضمان مستقبله.. ولكى نعرف قيمة هذا الصنيع نذكر أن الساسة قبل مجيئه كانوا علمانيين يؤمنون بقومية عربية غريبة عن الإسلام، وقد ألغوا التعليم الدينى بجزة قلم، وحلوا الوزارة المشرفة عليه، واستولوا على مبانيه كأنها غنائم حرب! وقد كره الاتجاه اليسارى فى ميدان الاقتصاد، وأعاد كثيرا من الأملاك لأصحابها، وأعاد الحرية التجارية إلى الأسواق، وسمعت منه أن ديننا لا يعرف كلمة الاشتراكية، وأن تطبيقها فى الجزائر جر الخراب على الفلاحين، والمنتجين والمستهلكين جميعا.. وأشهد أنه أوصانى ـ وأنا وزملائى نبنى الجامعة ـ أن نبتعد عن الغلاة، وأن نخرج علماء لهم بصيرة نيرة فى خدمة الإسلام، يعرفون طبيعة العصر الحاضر، وحال الأمة الإسلامية المتردية، ويؤثرون التجميع على التفريق والوفاق على الخلاف!! وترك ضمائرنا فى رقابة الله ونحن نؤدى هذه المهمة الصعبة.! وقد تركت الجزائر بضع سنين، ولكنى أتابع أخبارها، أبتهج لما يسر، وأنقبض لما يحزن! وعندما أجريت الانتخابات الأخيرة كنت واثقا من أن الرئيس المؤمن لن يسمح بتزويرها! والحق أن موقفه كان صعبا، فإن الجمهرة من جبهة الإنقاذ كانت تريد التطويح به وتتعجل إجراء انتخابات الرياسة للمجيء بغيره !! وبلغ علمى أنه حاول التفاهم معها ولا أدرى ما تم؟ ثم هناك جبهات أخرى لها وزنها قررت ألا تسمح لجبهة ص _207(5/201)
الإنقاذ بالمرور، وتحت ضغط هذه المتناقضات قرر الرئيس أن يستقيل.. ذكرت كفاح الرجل ونظافة يده وصدق إيمانه ثم ذكرت قول الشاعر: إن الأمير هو الذى يضحى أمير يوم عزله! إن ضاع سلطان الولاية لم يضع سلطان فضله! ويبقى بعدئذ حق النصح لمن خلفوه، وحق النصح لكل من يخدم الإسلام فى الجزائر، إننى أناشد الجميع أن يبتعد عن سفك الدماء ونشر الفوضى، أعتقد أنه فى ظل الأناة والرفق يمكن تقديم أيادى بيضاء للإسلام فى حاضره ومستقبله يستطيع الحكام الجدد أن يحرموا بعض الجراثم الخلقية والاجتماعية التى يبيحها القانون الوضعى اقتداء بأوروبا ويستطيعون كبح جماح الشيوعيين والعلمانيين الذين يضيق صدورهم بالإسلام وتعاليمه، وتستطيع جبهة الإنقاذ أن تعمل بين الجماهير لدعم التربية الدينية، والأوضاع الاجتماعية، وأن تزداد خبرة بمعالجة الأزمات الاقتصادية التى تأخذ بخناق الجزائر وتكاد توردها المهالك! هذه نصيحة مخلصة أرجو لها القبول. حدث فى الجزائر أعرف أن الله هو الحق المبين، وأن من فى السماوات والأرض عبيده المفتقرون إليه وهو الغنى عنهم، وأن محمدا أمير الأنبياء عبده، وأن جبريل أمين الوحى عبده، وأن ارتفاع مكانة بشر أو ملك هو بقدر استغراقه فى العبودية وتلاشيه أمام جلال الألوهية الباهر القاهر. عرفت ذلك من تدبر الكتاب الكريم، ومن دراسة الرسول العابد القائد.. لم تسقنى إلى هذا المعتقد عصا، ولم تدفعنى إلى نشره غاية دنيا.. لكن ناسا فقدوا القدرة على الفهم والتفهيم ظنوا أنهم يخدمون الإسلام بوسائل أخرى فوقعت فى الجزائر أحداث مستغربة !! هدمت مساجد لأن بها قبورا وقبابا، ونبشت مقابر الشهداء وسحقت العظام والجماجم أو حرقت لأنها ذريعة إلى الشرك!! ص _208(5/202)
استغربت ما وقع، وقلت: ما بهذا يخدم التوحيد أو تصان العقيدة، أغلب الظن أن أصابع أجنبية من وراء هذه الفتنة. إن المراد تمزيق شمل الجميع حتى إذا هجم اليهود لإقامة إسرائيل الكبرى لم يقف زحفهم صف مرصوص! وتذكرت أمرا مشابها وقع فى مصر، لا بأس من ذكره.. وقبل إثباته هنا أروى ما وقع لعمر بن الخطاب عندما كان يتسلم بيت المقدس، فقد حان وقت الظهر وهو فى الكنيسة يتسلم ثالث الحرمين، وعرض الأسقف على الخليفة أن يصلى فى مكانه! لكن عمر أبى، وخرج وصلى فى مكان آخر، وشرح موقفه للأسقف الطيب قائلا: لو صليت هنا لجاء المسلمون من بعدى واستولوا على المكان قائلين: هنا صلى عمر!! وعمر حريص على بقاء الكنيسة لأصحابها يؤدون فيها مشاعرهم كما يحبون، لا يشركهم أحد فيها!! إن عمر الراشد يرفض اغتصاب أماكن العبادة للآخرين، ويحرص على استبقائها لجماهير المؤمنين بها، لا يذادون عنها ولا يراعون بها !! وقد قلت: إن الإسلام أول من اخترع حرية التدين، ونادى بها وأقام الحياة المحلية والدولية عليها.. ومن هنا عجبت لما سمعت بأن محاولة وقعت لإحراق كنيسة وجزمت بأن أصابع أجنبية تعمل فى الخفاء لاقتراف هذه الآثام.. إن الغوغاء لاعقل لهم، وربما سمعوا كلمات مريبة من أشخاص يتحركون فى الظلام، فيرتكبون ما لا يقره ديننا العظيم ويسيئون إلى تعاليمه الواعية الهادية.. وعندى أن المأساة كان من السهل اجتنابها لو ترك المجال للتيار الدينى الراشد كى ينير الأفئدة وينظم الصفوف.. وذاك ما لم يقع! بل الذى وقع أن بعض العلمانيين الكذبة تركوا يتكلمون ليزيدوا الطين بلة، ويزيدوا الأمور فوضى. ولن ينتفع بهذه البلبلة إلا العدو المتربص من وراء الحدود ينتهز الفرصة ليثب، ويقضى على كل شىء، ويدمر الحاضر والمستقبل جميعا. ص _209(5/203)
كبوة الجزائر مازلت أؤكد أن العلمانيين العرب يكرهون الإسلام ويوجلون من عودته إلى الحياة العامة وظهور شعائره هنا وهناك. وقد سمعت من إذاعة لندن أن الأذان منع من التلفاز "الجزائرى"، فلن يعلن بعد اليوم! وأن ذلك تم إرضاء للفرنكفونية التى تريد تجريد المجتمع من الصبغة العربية والإسلامية لينفسح المجال أمام الثقافة الفرنسية وحدها..! والتلفاز الجزائرى هو المصدر الأول للإعلام ويجىء الراديو بعده، ولا ريب أن هذا التصرف إساءة كبيرة للإسلام والمسلمين، وخيانة لمليون ونصف من الشهداء الذين ذهبوا فى كفاح الاستعمار الفرنسى، واستبقاء الجزائر عربية مسلمة.. إن الأذان نداء الحق ودعوة جهيرة إلى الله وتذكير بالصلوات المكتوبة وتطهير للجو من تيارات العبث والغفلة و عود متجدد بالبشرية إلى خالقها. وإن كان للحضارة المادية طنين يكابر منطق الإيمان ويغرى بعبادة التراب وحده! فلا الأذان أذان فى منائره! إذا تعالى، ولا الآذان آذان.!! ومع ذلك فإن بقاء هذا الصوت القدس له أثره وخطره، إننى قد أكون مستغرقا فى فكرة أو مسترسلا فى عمل، أو مستريحا من جهد. فإذا شق الأذان حجاب الصمت، وقرعت كلمة الله أكبر الأسماع، تجاوبت معها لفورى وأيدت الداعى بترديد التكبير معه، ومعروف أن التكبير من الباقيات الصالحات، وأنه هدف النشاط الإسلامى كله، وأن شهادة التوحيد المنهج العملى لهذه الغاية، وأن "محمدا" هو القدوة وسيرته هى الرائد، وأن الدعوة إلى الصلاة والفلاح ترشيد للسلوك وكبح للشهوات واهتمام بالآخرة، ثم يختم الأذان مرة أخرى بالتكبير والتوحيد توكيدا للغاية والوسيلة. إن الأذان برنامج حياة ونشيد تقوى وبر، ولذلك جاء وصفه بأنه دعوة تامة، فيقول كل مسلم "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته ". أما الذين يضيقون بالأذان ويكرهون صداه فى المجتمع ويمنعونه من أدوات الإذاعة فهم ممن(5/204)
تغنيهم الآية الكريمة فى دلالاتها الواسعة (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) إن الأذان لا يستغرق أكثر من دقيقتين، فهل الإذاعة التى تسرف فى اللهو والتسلية تضيق بهاتين الدقيقتين؟ ص _210
فى ثلاثة مواضع من ثلاثة أسابيع غزت جسمى علة معنتة ألزمتنى الفراش وأقعدتنى عن واجبات شتى! قال لى الطبيب: احمد الله لأن الجلطة التى أصابتك كانت فى الساق، وكان من الممكن أن تبلغ القلب أو المخ! قلت: الحمد لله على كل حال، لو بلغت القلب لوقفته أو المخ لأتلفته، لكن كليهما بقى قادرا على استقبال الأوجاع من أحوال أمتنا وأزماتها الخلقية والسياسية، لقد ازددت سقاما على سقام..! بعد اجتياح الكويت فى بطشة من بطشات الجبابرة، وبعد فوران التوجس هنا وهناك من فتكة مشابهة، ثم مجىء الجيوش وتتابع الأحداث وانتشار الفوضى قلت فى نفسى: هذه أيام بالغة السوء! ماذا حدث؟ من شهر واحد كان الصف مجتمعا فكيف انصدع؟ وكنا نتحدث عن إنقاذ فلسطين فإذا بيضتنا تستباح وتدحرجت القضية الأولى للمسلمين فإذا هى تقع على الثرى ثم تستخفى لنرى أنفسنا أمام قضايا أعقد! ماذا فعل العرب بأنفسهم ورسالتهم؟ إننا أمة تنتحر! وقع زمامها فى أيدى الشياطين فإذا هى كما حدث القرآن الكريم من قبل (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) اليهود يد واحدة تضربنا بقوة، عبيد البقر يد واحدة تزهق أرواحنا بالمئات فى المساجد!. الناس فى شرق أوروبا وغربها يتجمعون ونحن وحدنا نفترق!. ماذا يفعل العرب بدينهم ودنياهم. فى ثلاثة مواضع من القرآن الكريم يتحدث العرب عن أنفسهم أنهم لو حملوا ص _211(5/205)
أمانات الوحى لكانوا أرعى لها وأبر بالناس ممن سبقوهم فى هذا الميدان! فهاهم أولاء حملوا هذه الأمانات فما رعوها حق رعايتها ولا شرفوها محليا أو عالميا فى هذه الأيام العجاف. فبم علق القرآن على هذا السلوك؟ قال: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) إن صور التكذيب للقرآن شتى، والذين يقدمون الإسلام قسوة لا رحمة فيها، أو ثروة لا زكاة فيها أو سلطة لا شورى فيها أو حظوظا لا عدالة فيها، هؤلاء جميعا مكذبون بالدين. إن المسلم يصطبغ وجهه بالقار عندما يرى عرب الكويت يطلبون النجدة من "بوش " حامى إسرائيل، ويرى بوش عند حسن الظن به! لقد جاء فى الحديث الصحيح: "إن هذا الأمر فى قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منهم حرف ولا عدل ! أى لا توبة ولا فداء!! فهل فعلنا؟ إن العرب بهذه السياسات التى عرفوا بها ينتحرون. وويل للجماهير اللاهية من علمانيين يحكمون وجاهلين يفتون. ص _212(5/206)
قانون لأعمال همجية استوقفني فى إحدى الإذاعات حوار مريب بين رجل وامرأة! فقد أبدى الرجل رغبته مراودا المرأة عن نفسها فقالت له: لا، إن لى صديقا!! فحاول التشكيك فى إخبارها هذا، فأكدت له أن هناك صديقا وهبت له حبها، وعليه هو أن يبحث عن أخرى ليرمى عليها شباكه..!! هل ترى أثر الإيمان فى هذا الكلام؟ هل تجد مكانا لخشية الله؟ أهناك ظل لدين؟ إن الإثم ولد ونما تحت عنوان الصداقة، واستراحت إليه ضمائر الأفراد.. ويبدو أن الحضارة الحديثة هى أقدر الحضارات على استجلاب عناوين شريفة للأعمال القذرة..! ذكرت ذلك وأنا أقرأ فى الصحف ما أسدته الولايات المتحدة أخيرا " لإسرائيل " ، إنها خزنت لديها كل أسلحتها التى استخدمتها فى حرب الخليج وزادت على ذلك أن دفعت ثلاثة أرباع نفقات برنامجها الجديد فى تطوير حرب الصواريخ، وهو يتكلف مئات الملايين من الدولارات، ثم رأت أن ذلك غير كاف فمنحتها عشر طائرات من أحدث ما أنتجت من أدوات الدمار! لقد تم ذلك تحت عنوان "الصداقة"!! ما أشرف العنوان وأقبح الموضوع! إن هذه الصداقة دعم لصلف اليهود ورفضهم لكل هدنة مع العرب، وإصرارهم على اغتصاب الأرض والعرض، ومضيهم فى إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، وتأكيدهم أن الانتفاضة الباسلة المستميتة لوقف العدوان لا قيمة لها ولا أثر، ولو بقيت سنين.. والذى لفت نظرى هو الشكل القانونى للأعمال الهمجية وراء غلاف من الدفاع العادى.. وأهل الأرض كلهم يعلمون أن أمريكا صديقة لإسرائيل، فهى والدتها وحاضنتها وحاميتها، وقد أعلن الرئيس بوش رضاه وسروره لأنه شارك فى نقل يهود الحبشة إلى فلسطين، ولعله ظن ذلك من العبادات التى يتقرب بها إلى الله يوم الأحد أو يومى السبت والأحد معا.. ص _213(5/207)
المهم أن أوروبا وأمريكا حريصتان على أن يكون عملها مشروعا، موافقا للقوانين الدولية! أما العرب فلهم منطق آخر.. وعنتريات جديرة بالدراسة! ماذا ـ عندما شعر العراق بالقوة ـ لو تحرك تحت عنوان تنفيذ قرارات هيئة الأمم المتحدة المعطلة؟ فيقول لسكان الأرض أجمعين: إن الهيئة الدولية سقطت مكانتها بتعطيل اليهود لقراراتها، ونحن بالقوة سوف ننفذ هذه القرارات. أما كان الجو العالمى سيتغير تأييدا له؟ أما كان العرب كلهم سيعملون معه؟ أما كنا سنغلق الطريق أمام كل تهمة بأننا ـ معشر العرب ـ لا نعرف حقوق الإنسان؟ لكن عبد الناصر قديما حسب اليمن طريقا إلى فلسطين، وصدام حسين حسب الكويت طريقا إلى فلسطين، ولم تكن الهزيمة كفاء هذا الجهل الغريب.. بل الأمر العجب أن القانون الدولى كان العلم الخفاق فوق الحلفاء الذين خفوا لنجدة المستضعفين.. وضاعت مع فلسطين بعد ذلك أقطار أخرى، أوهى فى طريق الضياع! فأين منطق العقل؟(5/208)
بسم الله الرحمن الرحيم تقديم ربما اعتمدت وسائل الإعلام الحديث على الصورة الساخرة أو الخبر الموجّه أو التعليق السريع.. فإن القارئ المعاصر يشغله عن الإسهاب ما هجمت به الحياة من تعقيدات وهموم.. ولما كنت واحدا من الذين يحملون أعلام الدعوة ويرابطون على ثغور الإسلام فإنى أخذت أرمق كل حركة مريبة تصدر عن خصومنا ـ وما أنشطهم فى هذه الأيام ـ لأنبه خطوط الدفاع المترامية، وأدفعها لاتخاذ الأهبة ولزوم اليقظة. وأعداؤنا لهم باع طويل فى الفكر السيء، والإساءة إلى الرسالة الخاتمة، وتاريخهم إمتداد لماضى ملىء بالغارات، وهم فى هذه الأيام يضمّون إلى الحروب الساخنة غزوا ثقافيا كثير الشعب، مخوف العواقب! ومن هنا كانت كلماتنا ذات موضوعات شتى، تستمد سطورها من الواقع، وتعتمد على إثارة الوعي الكامن فى أفئدة المؤمنين، وحسبها أن تكون كضوء البرق الذى يكشف الظلام، ويوضح الطريق.. إنها كلمات قصار لكنها فواتح لمعان جمة عند أولى الغيرة على دينهم وأمتهم. أحيانا تتناول القيم، والأخلاق، والتاريخ، والفقه وأحيانا تغوص فى واقعنا الحى لتشد أزر المجاهدين فى سبيل الله، وتحق الحق وتبطل الباطل، وجماهير المسلمين ـ فى يومهم الحاضر ـ بحاجة إلى هذه اللفتات، فإن مناسباتها إن مضت تكررت على مر الأيام، حتى لتحسب أن ما يتمخض عنه الغد صورة لما كان بالأمس، وتدبر قوله تعالى: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) وستظل كلماتنا ـ بتوفيق الله ـ وميضا يبرق بالإيمان، ويحامي عن الحق. وفى هذا الكتاب حصاد لثمرات القلم خلال عامين حافلين بالأحداث، أرجو أن تكون منه عبرة تنفع المؤمنين. محمد الغزالي
ص _005
القسم الأول ص _006(6/1)
حقوق الله ثم حقوق الإنسان يعلق بذهنى من أيام الصبا ما قرأته فى الصحف عن سقوط الحكومة المصرية القائمة، بعد اكتشاف حادثة تعذيب شائنة فى مركز البدارى بمحافظة أسيوط، الرئيس الذى سقط هو إسماعيل صدقى، والرئيس الذى أتى هو عبد الفتاح يحيى، وكان ذلك كله فى أيام النظام الملكى السابق. كان اشمئزازنا كبيرا لما وقع، واشتد غضبنا لعدوان الشرطة على سجين مستضعف وقلنا لعل ذلك لا يتكرر أبدا. وذهب النظام الملكى، وحل محله نظام جمهورى شعبي وفى يوم ما، ذاع أن بضعة وعشرين شابا من الإخوان المسلمين قتلوا فى سجن طرة، حصدهم الرصاصى فى ساعة من نهار، وأمر بدفنهم سرا، ولم يسقط وزير ولا خفير!! وفى ظل الرعب السائد كانت العيون مفتوحة من الدهشة، والأفواه مغلقة من الجبن والناس يمشون متخاذلين فى معركة الخبز، أما معركة الحرية فلا حديث عنها، فقد نسيت أنباؤها مع لباس الجوع والخوف الذى ارتدته مصر. لقد بلوت من خديعة العناوين ما أفقدنى الثقة بها. ليست القصة فى نظر عنوان الملكية أو الجمهورية، وإنما القصة، ماذا تملك الأمة من حريتها؟ وماذا تستطيع أن تواجه به حكامها؟. أعرف معرفة اليقين أفكارا هدمت فيها مدن على رؤس أصحابها، ومات عشرات الألوف تحت الأنقاض، وسدنة نظامها الجمهورى يبتسمون وينتفخون!! وأعرف عشرات الأطفال والكهول صعقتهم الغازات الخانقة وهم لا يملكون حولا ولا قوة، بينما حديث القتلة عن الحريات لا يخفت. إن خداع السياسة وضجيج الأذناب يعفيان على الحقائق ويجعلان الليل نهارا والظلم عدلا. ص _007(6/2)
الغريب المفزع أن أكثر من ذلك يقع فى العالم الإسلامى، العالم الذى يحلم بالحرية فلا تتحقق لها رؤيا.. ويسمع بأخبارها فى بقية الدنيا فيشتاق ويتلفظ ثم يقلد يائسا إن عددا من الدعاة الإسلاميين فقد الإحساس بقيمة الحرية السياسية والفكرية، وضرورة توفير العناصر التى تغذيها وتنميها، وفقد الوعى بأن حقائق الإيمان فى غياب الحرية تضؤل وتنكمش حتى تختفى من الحياة، وربما تحولت بعد إلى كفر وإلحاد. إن الإيمان بالله فى ظل الاستبداد السياسي كثيرا ما يتحول عن معناه ومجراه ليكون لونا من الشرك القبيح. وقد رأيت عددا من الإسلاميين فى فتنة الكويت والعراق يرسل أحكاما مستغربة، أو يطلق صيحات مستهجنة، إن دلت على شئ فعلى أنه لا يعرف رسالة الدين بين الناس، ولا وظيفة أصحاب السلطة فى خدمة الجماهير. أريد أن أقول للمسلمين فى كل مكان، إن تخلفنا الحضارى جريمة، نحمل نحن عارها ولا يحمله الآخرون عنا. وإن الأخطاء أو الخطيئات التى ارتكبها المسلمون داخل أرضهم هى التى استدعت القوات الأجنبية للمجيء من الخارج، وإن العلاج ليس فتوى مضحكة بإعلان الجهاد، وإنما هو إعادة ترتيب البيت كله، ليعود للعقل الإنساني مكانه وللخلق الإنساني مكانه. إن دين الفطرة لا وجود له فى بلاد تحيا على التصنع والتكلف والمراءاة والكذب. إنه عندما تنوسيت عمدا حقوق الله تبخرت فورا حقوق الإنسان. * * * ص _008(6/3)
رأس السنة مستنقع الشهوات لم أكن أظن المعصية فادحة الثمن إلى هذا الحد، إن سعرها المعجل باهظ، أما نتائجها المؤجلة فلا يعلم جسامتها إلا الله.. قرأت هذا الخبر الذى يصف واحدا من أحفال رأس السنة الميلادية، ثم استولى على فكر عميق، الخبر يقول: فى رأس السنة الأسعار دون دعم، زجاجة الويسكى بـ 340 جنيها، والعشاء بـ 250 جنيها. زجاجة خمر واحدة تشترى بثلاث مئة وأربعين جنيها؟ إن هذا المبلغ تشترى به ستة آلاف وثمانمئة رغيف! حلوف واحد يحتسى شرابا من الإثم يكفى ثمنه لإطعام قرية من الفلاحين؟ لماذا قلت حلوفا واحدا؟ قد تكون معه أنثى يتبادلان السكر ويستمعان إلى الأغنية الشهيرة كلما قلت له: خذ.. قال: هات. والعشاء المقدم فى هذا الحفل المائج ثمنه 250 جنيها، إن مرتب سنة من خريجى الجامعة.. يستقبلون به الحياة بعد كدح طويل، يتجرعه هذا التائه فى مساء أسود. والنساء الحاضرات قد انسلخن من الفراء الذى كان على أجسادهن، فأمسين لحما يتاجر فيه الشيطان من عالم الجن أو الإنس. وتوجد قطع من ثياب بقيت لأمر ما، لكن هذا الأمر ليس ستر العورات على كل حال. أما العطور فقد قال الراوى.. إنها تدوخ من يشمها، ونظر المدعوون والمدعوات إلى راقصة تجيد فن الأفاعى فى الالتواء والامتداد. قال الراوى: كانت الفتاة الراقصة تصدر أصواتا أثناء الرقص انزعجت لها الزوجات وذهل لها الأزواج. وانطفأ النور فى منتصف الليل ثلاث دقائق، وفق تقاليد الاحتفال بانتهاء سنة واستقبال أخرى، وكان الجميع على موعد مع هذه الظلمة المفتعلة ليعبث الذكور وليأتى النساء ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن. ص _009(6/4)
إن عيسى وموسى ومحمد وسائر الأنبياء عليهم السلام يرفضون هذه المآسي أو هذه المعاصى جملة وتفصيلا، إن الأندية والفنادق فى هذه الليلة الحمراء تتحول إلى غابات طافحة بالكفر والفسوق والعصيان. وأنا أعرف أن الحضارة الغربية لا تنظر إلى السماء ولا تفكر فى آخرة، لكنها حضارة منتصرة، وللنصر نشوة قد تفقد ذوى الألباب عقولهم إلى حين. وسؤالى إلى العرب المهزومين والمسلمين المقهورين، ما أقحمكم فى هذه الأحفال؟ ما حملكم على المشاركة فى أرجاسها ومباذلها؟. لماذا رضيتم بفقدان الشرف والأنفة؟ وخنعتم لما نزل وينزل بكم من خزي؟ إن الشباب الناضر فى فلسطين يدفن حيا أو تدق عظامه كلها حتى يبقى حيا كميت. إن معركة الإسلام مع الشيوعية فى أفغانستان استنفدت ألوف الشهداء ولا تزال تطلب المزيد. إن دينكم ودنياكم معا يتهددهما الابتزاز والاغتصاب والكساد والجفاف، وصنوف من الهوان المادى والأدبى لم تعرف فى هذا العصر الكالح بين أتباع دين أخر!. ماذا فعلتم بماضيكم وتراثكم؟ ماذا تفعلون بحاضركم وقضاياكم؟ إذا رقص المنتصر وانتشى رقصتم معه وفقدتم وعيكم، وأنتم مغلوبون على أموركم فى ميادين العلم والإنتاج وشئون الحياة كلها. ما أصدق قول القائل فى كل واحد منكم: بعت دينى لهم بدنياى حتى...... سلبونى دنياى من بعد دينى * * * ص _010(6/5)
مأساة مصري في الخارج لابد أن العربى المخلص سوف يشعر بالوحدة عندما يقضى أياما أو أعواما فى ربوع الولايات المتحدة! خصوصا العربى النابه فى ميدان العلوم الطبيعية والكيمائية، إنه سيكون هدفا لمؤامرات الصهيونية العالمية، ترقبه وتختله لتقضى عليه إن استطاعت. وقد طاردت الدكتور المشد حتى أجهزت على حياته، كما اغتالت فتاة أخرى بدا عليها النبوغ وهى تعمل فى الميدان المحظور على العرب. إن اليهود فى أمريكا هم الجنس المدلل، وقد استطاعوا فى صمت أن يضعوا أصابعهم على مراكز التوجيه العلمى والإعلامى كما أن قدراتهم المالية مزدهرة أو طاغية. أما العرب فقد أفلت منهم قلائل إلى مواقع علمية أو عملية حساسة، أفلتوا وأيديهم على قلوبهم من المستقبل الغامض، ففى هذه الولايات المتحدة يسمع العرب أن جنسا طفيليا يجب أن يزول " وادفع دولارا تقتل عربيا "! ويؤلف الحاخام (كاهانا) كتابا عنوانه " شوك فى عينيك " أى أن العربى شوكة فى عين الإسرائيلى، لا راحة إلا بإزالتها، فهل يستغرب أحد مقتله، وهو يثرثر بهذه الإهانات والتهديدات؟ ذلك ما فعله " سيد نصير " المصرى الأصل والمتجنس بالجنسية الأمريكية. وبين يدى الآن قصة محزنة للأستاذ الدكتور عبد القادر حلمى كبير علماء أبحاث الدفع الصاروخى بشركة " ايروجيت " للنفاثات الجوية. والدكتور عالم واسع الخبرة، دميث الخلق مستقيم السيرة، وما وصل إلى منصبه إلا بكفاءته الرحبة، وفجأة قبض عليه متهما بالمساعدة على تهريب مواد محظورة إلى دول أجنبية! والدولة المعنية هى مصر، الحليفة الأولى للولايات المتحدة والتى تتعاون معها فى صناعاتها العسكرية وتسليحها العام!! ص _011(6/6)
مصر تتجسس على أمريكا وتحاول استكشاف أسرارها وتهريب ما تؤثر به نفسها من مزايا صناعية!!. والذى ترافع ضد الدكتور عبد القادر قانوني صهيوني متعصب قدح ذهنه حتى كون اثنتى عشرة تهمة تستحق السجن 97 عاما. ولكن المحكمة مشكورة اختصرت هذه القائمة إلى تهمة واحدة، هى تصدير مكونات صاروخية إلى مصر، وحكمت عليه بالسجن 46 شهرا، وذلك فى نهاية سنة 1989 م، كما حكمت عليه بغرامة 360 ألف دولار إلى جانب مصاريف المحاماة وهى نحو 180 ألف دولار. وزيادة فى النكاية بالدكتور عبد القادر اتهمت زوجته بمشاركته فى الجريمة، وأخذ منها ابنا الرجل الجريح ليودعا فى إحدى مؤسسات التبنى، ثم أخلى بعد سبيل الأم وولديها، وكانت المحكمة قد رأت حبس الدكتور فى سجن قريب من أسرته فى ولاية كاليفورنيا، ولكن الصهاينة تمكنوا من نقله إلى سجن بعيد فى ولاية (أريزونا) زيادة فى تمزيق شمله، ألا تستحق هذه المأساة تدخل مصر كى تخفف من آلام الرجل المخلص الذى اتهم بمساعدتها؟ أعرف أن الأخوة الدينية قد غاضت من العلاقات المحلية والدولية فأين المواطنة؟ أليس من الوطنية أن نذكر رجلا قيل عنه: إنه حاول خدمة مصر وتطوير قوتها الحربية؟ وأين الرجال الذين عرفوا عبد القادر حلمى واستثاروا حميته لخدمة قومه؟ أيفرون عنه فى محنته؟ أعتقد أنه يجب عليهم تحمل ديونه كلها، والوقوف إلى جانبه حتى يخرج طليقا من سجنه! ثم هذه الأسرة التى غاب عنها، ألا من رفيق يواسيها أو صديق يؤنسها؟ إن الرجال يعرفون أيام الشدائد لا أيام الموائد!! يعلم الله أنى لم أر الرجل ولا واحدا من أسرته، ولكن أنباءه بلغتنى من عابر سبيل، فرأيت أن أذيعها، لعل الناس يذكرون. * * * ص _012(6/7)
الرمم.. والقمم سلمان رشدى ـ أو سيمون رشتى ـ كما سمى نفسه أخيرا، فأر هندى ولد فى بومباى، وتربى فى مجارى إنجلترا، فلما كبر كان صورة دميمة لحقارة البشر حين يفقدون الصدق والشرف، ويحيون على الافتراء والاجراء. سخرته القوة المعادية للإسلام، وبسطت عليه حمايتها، فشرع يكتب ضد الإسلام ونبيه، والكتابة المرتقبة من مثله، فكان صورة مستغربة للسباب القبيح. وبعض الهجائين له قدرة على الأداء البليغ، لكن هذا الهجاء الإنجليزي كان سبة على اللغة التى يكتب بها، لأنه لا يطبق إلا أسلوب الرعاع، حتى أن أديبا إنجليزيا كبيرا قال لوزير الداخلية البريطاني: إذا كان الرجل لا يساءل من الناحية الدينية، فيمكن أن يكون من المعقول منع كتابه، للشناعة التى ألحقها باللغة الإنجليزية، لو كنت مكان الوزير المسئول لذهبت إلى حظيرة الخنازير لأخرج هذا الكاتب منها وأطرده من البلاد. انظر كتاب الدكتور محمود دياب، فى الرد على أكاذيب سلمان رشدى الذى ظهر أخيرا، ولكن التعصب المحفور الذى يكنه البعض ضد الإسلام، جعل الفأر الهندى يبقى فى حماية السلطة، وعلى عينها، باسم حرية الرأى. ولو أن واحدا فى الألف من شتائم الكاتب ومفترياته وجه إلى ملكة إنجلترا لمات ضربا بالنعال فى أحد ميادين لندن، وهل كان يترك شخص مغرم بوصف من يتحدث عنهم فلا يسبهم إلا بأنهم أولاد زنى، ويرى أن جبريل كان يعشق هذا الوصف، وأن رئيس الملائكة كان من مؤيدى اللواط، وأن الله عجوز شرير، وأن محمدا نبي مزيف، وأن الحجاب عنوان على ماخور للمومسات.. الخ. والأوربي عندما يكفر لا يتجه ذهنه إلا إلى الغريزة الجنسية وانحرافاتها، من أجل ذلك وجدنا كاتبا فرنسيا مدنسا يتهم المسيح، عيسى بن مريم ـ وهو من أسمى نماذج الطهر والعفة ـ بتهمة الشذوذ. ص _013(6/8)
وقد أيدت ـ والحق يقال ـ الجمهور الذى أحرق دار العرض لهذه الرواية الحقيرة، إن الرعاع قد يسرهم أن يتطاولوا على القمم، لكننا لا يجوز أن نأذن بهذا تحت أى عنوان، وقد شعرت بالدهشة لوصف خالد بن الوليد بأنه سقاء، ما هذا النعت؟ وما علاقته بقائد منزلته العسكرية فوق منزلة نابليون فى القرن الماضى ومونتجمرى فى القرن الحالى؟ والذى ثار فى نفسى أن القضاء الإنجليزى ترك سلمان رشدى، لأنه لم يخرج على قوانين البلاد، وليته صرح فقال: إنه أرضى مشاعر الحقد المشبوبة فى نفوسنا ضد الإسلام. وعدت لأقرأ مقاطع رائعة من شعر الأستاذ فاروق جويدة، يخاطب هذا السلمان فى زمن الردة والبهتان: أكتب ما شئت ولا تخجل.. فالفكر مباح يا سلمان ضع ألف صليب وصليب فوق القرآن وارجم آيات الله ومزقها على كل لسان لا تخش الله ولا تطلب صفح الرحمن فزمان الردة نعرفه.. زمن المعصية بلا غفران إن ضل القلب فلا تعجب أن يسكن فيه الشيطان ولا تخش خيول أبى بكر.. أجهضها جبن الفرسان وبلال يؤذن بين الناس بلا استئذان أتراه يرتل باسم الله! ولا يخشى بطش الكهان فاكتب ما شئت ولا تخجل فالكل مهان واكفر ما شئت ولا تسأل فالكل جبان إلى أن يقول: اكفر ما شئت ولا تخجل ميعادك آت يا سلمان.. دع باب المسجد يا زنديق وقم واسكر بين الأوثان.. سيجيئك صوت أبى بكر، ويصيح بخالد: قم واقطع رأس الشيطان. والقصيدة جياشة بمشاعر اليقين والإنكار على هذا الوغد ولعلها أفضل ما قرأت فى وصفه. ص _014(6/9)
ارض الميعاد أم ارض البغايا والأوغاد قرأت ذلك الخبر فى صحيفة الأهالى، فأثار فى نفسى التساؤل عن طبيعة الصراع الديني، الذى عادت إليه الحياة فى هذا العصر، على نحو جدير بالدراسة، والخبر ما أكده إسحاق بيريز، وزير الهجرة فى إسرائيل، من أن ممارسة الروسيات المهاجرات للدعارة أمر معروف.. وقال إن هذه الظاهرة لن تختفى إلا بعد أن تحل السلطات اليهودية مشكلة البطالة، فإن معظم العاطلين فى المدن هم السوفييت المهاجرين ـ إلى أرض الميعاد ـ وكذلك أكدت أورانامير عضو الكنيست عن حزب العمال، قالت: إن حوالى ألف مواطنة سوفيتية هاجرن إلى إسرائيل، يمارسن الدعارة، وأن 500 منهن يؤدين عملهن فى تل أبيب على أنهن يعملن مدلكات، على حين يدعى النصف الآخر أنهن يشاركن الرجال المتوحدين حياتهم. وأشارت وكالة (نوفستى) إلى أن أحدا لا يعرف متى تحل السلطات الإسرائيلية هذه المشكلة، وهل فى الإمكان حلها؟ إننى أرثى لحال أولئك البغايا، ولست ألومهن على سقوطهن بقدر ما ألوم الساسة اليهود الذين استقدموهن ليواجهن هذه المأساة المعتمة. أهذه أرض الميعاد التى يتجلى الله فيها على شعبه المختار كى يصلح به العالم؟ إن دولة إسرائيل تقوم على الدين وتنتمى إلى الأنبياء، وللقوم دعاوى عريضة فى نسبهم السماوى العريق. وهم الآن فى قمة حماسهم، وفى مرحلة الوثوب لإقامة إسرائيل الكبرى، وحشر سائر الأقطار تحت علمها الطهور، فهل تلك غايتهم؟. إننى أحسب هؤلاء النسوة البغايا أزكى قلوبا من ساسة يحترفون المظالم، ومن حاخامات يتاجرون باسم الله، وإنى مكره على التصريح بأن حقيقة التدين أرفع مما يمارس أولئك الساسة والحاخامات من بغى وعدوان. ص _015(6/10)
لو بقى أولئك المهاجرون والمهاجرات فى البلاد التى قدموا منها، وأحسنوا العمل مع الله ومع الناس لكان شأنهم أفضل، ولكانوا أقرب إلى الإيمان منهم إلى الفسوق والعصيان. إن الأرض لا تقدس أحدا والباغى والبغى لا تزكيهم أرض الميعاد والله يمنح رضاه من يترفعون عن الدنايا، ولو كانوا فى القطبين أو خط الاستواء، وينزل سخطه بمن يسكنون الأرض المقدسة وهم يقترفون الرذائل والدنايا. عندما ظهر الإسلام جعل الأرض كلها مسجدا، وأتاح للناس كلهم أن يقتربوا من الله باتجاه قلوبهم وسناء ضمائرهم، وحدد وظائف الأنبياء بالبلاغ المجرد، فقال (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون). إن بنى إسرائيل فى العصر الحالى يرجعون بالعالم القهقرى ويردون الدين إلى طور مجدب عقيم، يجعلونه هيكلا لرب الجنود، ومثابة لحفنة من اليهود، ولونا من التعصب الأعمى والكبرياء المنكرة. وقد ظاهرهم على هذا الفهم العفن رجال دين كذبة، نسوا الإيمان العاقل أو العقل المؤمن ومشوا وراء ترهات لا تزيد الإنسانية كلها إلا خبالا. إن جعل الدين نبوءات وأحلاما هو ضرب من الكهانة التى حاربها الإسلام، لأنه لا يعرف الدين إلا إيمانا واضحا وعملا صالحا، وقد قال الله لأتباع القرآن وحملة الوحي الخاتم (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) ماذا لو بقى اليهود فى أراضيهم بأرجاء العالم وأصلحوا صلتهم بالله، وعاشوا بناة لا هدامين وأصحاب وفاء لا مصاصى دماء؟ ونسأل داعميهم ومحرضيهم: هل من تقوى الله ـ فى منطق الصليبيين الجدد ـ أن يطردوا العرب من أرضهم ليحلو محلهم القتلة والبغايا؟ أما لهذا الحقد من آخر؟ لهذا أنشأتم مجلس الأمن وهيئة الأمم؟. ص _016(6/11)
هم ..ونحن أليس عجيبا أن تكلف أمة ببناء إيمانها على دراسة الكون، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره وقواه. أهذه هى استجابتها لقول الله (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك). لو كانت أمتنا حين تكاسلت واستنامت تعيش على ظهر الأرض وحدها لكان وزر تخلفها على رأسها، تعانى منه فى شئونها قلت أو كثرت، لكن أمتنا فى سباق مع أمم أخرى لا تنام، أم لا رسالة لها، أو لها رسالة مادية محدودة قوامها الباطل والهوى. ومع ذلك فإن المبطلين يسابقون الريح نشاطا وعزيمة، ونحن ممثلى الحق جاثمون على الثرى ننظر ببرود أو بلاهة إلى الآخرين، ولا نعى من رسالتنا شيئا ذال بال. الآدمية فى كتابنا علم عجزت عنه الملائكة، وظفر به آدم وحده فاستحق الخلافة فى الأرض، والآدمية فى حياتنا طعام وسفاد، وتحاسد وتفاخر، أى هى الحيوانية الهابطة!، الآخرون سيروا الأقمار الصناعية وأرسلوا مركبات الفضاء تزودهم بمزيد من المعرفة، وفى الوغى لهم أظافر تخنق وتذبح وتصعق وتفعل المنكر بعدوها. أما نحن فقد نتودد لهم مشترين من أسواقهم، أو متزودين من غنائمهم أو مستعيرين من أسلحتهم ما نحتاج إلى تعلمه منهم قبل أن نحسن استخدامه. أنا ما أشك فى أن هناك عطبا أو كسرا أو تلفا فى كياننا الفكرى والنفسى جعلنا فى هذا الوضع المهين، وما نصح أبدا إلا بذهاب هذه العاهات وعندئذ نصنع كما يصنعون. ص _017(6/12)
وقد أنظر إلى أنظمة الحكم هناك فأجد القادة بلغوا فى ثقافتهم أعلى شأو، وفى تجربتهم أعظم خبرة. ومع اقتدارهم على الرأى السديد فهم يستشيرون أهل الحل والعقد فى بلادهم، ويستمعون بإخلاص إلى الرأى الآخر، والى النصح المجرد، وكأن على لسان كل منهم كلمة أبى بكر: " وليت عليكم ولست بخيركم، إن رأيتم خيرا فأعينونى، وإن رأيتم شرا فقومونى ". أما نحن فقد وقعت أمورنا بين أيدى أقزام متعالين متطاولين، لا ندرى من أين جاءوا ثم تسمع الواحد منهم يقول فى صلف وزهو: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). قائد الحق تجرى على لسانه صيحة فرعون ـ قبحه الله ـ وقائد الباطل تجرى على لسانه كلمة الصديق رضى الله عنه. أية موازنة تلك وما يكون المصير مع هذا البلاء فى الأحوال السياسية والعمرانية التى تسود أرض الإسلام...؟ * * * ص _018(6/13)
من المجرمون حقا؟ أستحى من المقارنة بين مجالس الشورى عندهم وعندنا، لقد تابعت المناقشات التى دارت بين الحكومات وممثلى الشعوب فى باريس ولندن والولايات المتحدة وقارنتها بما وقع فى بغداد، وما وقع قبل ذلك فى عواصم أخرى شعرت بالعى والحسرة، كيف أقارن بين الجد والهزل، والقماءة والشموخ، وسجال الأحرار وبغام العبيد..؟ الحكومات هناك ـ وجلها من رجال فارعين ـ تقف أمام ممثلى الشعوب وقفة المتهم أمام القضاء همه الأول والأخير أن يبرئ ساحته، ويعرض جهده الذى بذل فيه طاقته، فإذا ظفر بالبراءة خرج متهللا. أما فى أغلب العواصم العربية فممثلو الشعب يقولون للزعيم بالروح والدم نفديك يا فلان.. أهذه مجالس شورى؟! وهذا الزعيم رجل واحد، وهو يمثل العدد الواحد، ولكن الأفراد أعنى الأصفار التى تصطف عن يمينه تجعله ألفا أو مليونا أو مليارا حسب كثرة العشاق الوالهين أو العباد الفانين!!. وعندئذ لا يفكر بعقله الخاص بل يرى أنه يفكر بعقل الألوف المؤلفة التى ذابت فيه، ومن حقه أن يقول: أنا الشعب، إن المليم الواحد أمسى مليونا أو مليارا، والويل لمن يتحداه أو يقف فى وجهه. إنه لا يقف فى وجه " مليم "، بل فى وجه " بنك " عامر الخزائن يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، والويل للشعوب التى تحيا على هذا النحو، وتفنى وراء هذه القيادة، إنها تحكم على نفسها بالموت المادى والأدبى. الناس فى أرض الله الواسعة تشغلهم مآرب كثيرة وأهداف شتى، هذا عالم يمشى في الطريق وذهنه سارح فى قضايا علمية، وهذا رب أعمال يكاد يذهل وهو غارق في تثميرها وتنميتها، وهذا وهذا.... ص _019(6/14)
لكن هناك ناسا شغلهم الشاغل كيف يقفزون، كيف يتصدرون، كيف يرأسون ويزأرون ويلبسون جلود الآساد، وكيف يسيرون على هامات العباد، هذا النوع من الناس لا يعرف إلا نفسه ولا يعبد إلا شخصه. وبدل أن يكون هذا الصنف جذاما يهرب منه الناس، نجده فى بعضى البلاد المنكوبة أو المتخلفة يقوم بانقلاب إن كان ضابطا، أو ينفق القناطير المقنطرة إن كان غنيا، وبأسلوب أو بآخر يتولى الزعامة ثم تتكاثر الأصفار عن يمينه ـ كما وصفنا ـ فإذا هو رسول العناية الإلهية الذى ينبغى التفانى فى نصرته، والصياح حوله: نفديك بالروح والدم يا فلان. فى الشرق العربى وغير العربي حملت الجماهير على كواهلها هذه الأوثان السياسية وداخت تحت وطأتها فما نجت منها إلا بموت مجهز أو انقلاب طارئ. ترى من المجرم؟ السيد أم المسود؟ القائد أم المقود؟ أليس هؤلاء الذين قال القرآن الكريم فيهم: ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا). هل مضاعفة العذاب الأخروى تغنى؟ كلا (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون). أين الرجال الأحرار؟ متى تتضاعف أنصبتنا منهم؟ متى يستخفى الأقزام ويخلون الطريق لأولى النهى؟ لا نجاة إلا يومئذ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. * * * ص _020(6/15)
نصيحة لقومي لا ينفك عجبى من احترام المبطلين وترويجهم له، واستهانة المحقين بحقهم وخذلانهم له. لقد سمعت مع غيرى خبر تعطيل الإذاعة الإسلامية الخاصة بمدينة مارسيليا الفرنسية وحرمان مائتى مسلم من المغاربة وغيرهم أن يستمعوا إلى الصوت الوحيد الذى يربطهم بدينهم ولغتهم.. ومعروف أن فرنسا تمنع إنشاء مدارس لتعليم الإسلام واللغة العربية، وأن الأطفال المسلمين ينشئون تنشئة علمانية فرنسية على حين تظفر الطائفة اليهودية بقدرات على بقاء هويتهم، واستدامة عقائدهم. أعرف أن القرار الصادر بذلك شكوى إدارية ـ لا دستورية ـ وأن المشرفين على الإذاعة الإسلامية يقاومون بحماس، لكنى يائس من النتائج القريبة والبعيدة. ذلك لأن القرار الصادر جانبه الحياء والوعى، فقد أقدم عليه أصحابه عشية أذنت مصر بإقامة جامعة فرنسية فى الإسكندرية وقد حضر " مسيو ميتران " حفل الافتتاح بعد ما أدى واجباته الدينية فى كنيسة سانت كاترين بطور سيناء. أعند القوم ذرة من خجل أو تقدير للآخرين؟ وقد افتتحت عدة دول عربية مسلمة قنوات فى إذاعاتها المرئية والمسموعة لفرنسا قيل إنها للتثقيف والتسلية. أى خير يرتقب من هذه القنوات الأجنبية إلا توهين الشخصية العربية ونحت مقوماتها ومعالمها، بمكر ودهاء حتى تنشأ أجيال لا تعرف ربها ولا دينها ولا تتجاوب مع لغتها وتراثها. إننا نساعد الآخرين على إلحاق كل هزيمة أبية بنا. الأمر خطير.. فهناك عدة ملايين من المسلمين فى كل من أمريكا وإنجلترا وفرنسا مهددون بالذوبان فى محيط موار بالانحراف وأسباب الضياع، ويجب على الأوطان ص _021(6/16)
الأم أن تحافظ على عقائد المهاجرين ومواريثهم، وأن تيسر لهم من القراءات والإذاعات ما يستبقى علائقهم بأمتهم. بيد أنى أحس الخيبة والاكتئاب لأن هذه الأوطان الأم فتحت أبوابها للغزو الثقافى ويسرت للغزاة أن يسمعونا ما نكره، ويطالعونا بها يغضب. الدعوة الإسلامية مغزوة فى عقر دارها، والأقمار الصناعية تستغل استغلالا واسعا فى تضليل الجماهير، وبعض الأغبياء لا يزال يتحدث عن حرمة التصوير وهو لا يدرى أن هذه الأقمار تحدد موقعه لتضربه بما تشاء وكيف تشاء ومتى تشاء. إننى أنصح قومى أن يستشعروا خطورة الحاضر والمستقبل، وأن يتواصوا بتعليم أنفسهم وأهليهم ومواطنيهم الأقربين والأبعدين، وأن يحصنوهم ضد أمراض الحضارة فى الوقت الذى يستفيدون فيه من علوم هذه الحضارة وإمكاناتها الهائلة. * * * ص _022(6/17)
هؤلاء..ألا يستحون؟ قرأت هذا الخبر فى صحيفة الوفد تحت عنوان " حملة منظمة لقتل أطفال الشوارع فى البرازيل " نقلته وكالات الأنباء من عاصمتها " ريو دى جانيرو " يقول الخبر: كشفت الحركة الوطنية للدفاع عن أطفال الشوارع عن قيام فرق اغتيال بصيد وقتل المئات من الأطفال المتشردين فى المدينة خلال العام الماضى، وقد بلغ عددهم- كما ذكر البيان الصادر ـ 455 طفلا وقع معظمهم فى أيدى فرق اغتيال تسعى إلى تخليص المدينة من المتشردين وصغار المجرمين. وأكد البيان أن هذا الإحصاء منقول عن الأرقام الرسمية، ثم أشار إلى احتمال أن تكون الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك. وقد نظرت فى تعريف عمر الطفل فى الاتفاقية الدولية التى صدرت أخيرا، فوجدت أنه من نعومة الأظفار إلى سن الثامنة عشرة!! أى القتلى صبية ومراهقون وشباب فى سنه الباكرة، ربما كانوا بين السابعة والسابعة عشرة، المأساة رويت فى صمت وتناقلتها الوكالات المختلفة للأنباء، وكأنها تنقل مباراة رياضية انهزم فيها فريق وانتصر آخر، دون استبشاع أو استنكار أو تعليق عاجب أو ضائق. وتذكرت أن هذه الوكالات نقلت جلد سكير فى باكستان على أنه عدوان على الإنسانية، واحتقار لحقوق الإنسان، وقد قلت ـ وأنا أطالع الخبر الغريب ـ ترى ماذا كان يحدث لو طار هذا الخبر من بلد عربى يدين بالإسلام؟. كانت الأقلام تلهب جلودنا ظهر البطن، وتصف الإسلام وأتباعه بهمجية أو حيوانية بلغت الدرك الأسفل، وربما نقلت جماعات الرفق بالحيوان عملها من ميدان الدواب إلى ميدان البشر. وقد تنعقد مؤتمرات عاصفة خلال عام أو أعوام، لا عمل لها إلا هجاؤنا وتحذير العالم من أى سلطة قد نملكها، إننا خطر على الحضارة وسبة فى جبين الإنسانية كلها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ودفنت جثث الصبية والمراهقين والشباب والصغار فى صمت. ص _023(6/18)
وقد وقعت قصة أخرى لانتحار جماعى ذهب فيه مئات الشباب مع رئيس لهم من رجال الدين فى موجة من موجات الازدراء للدنيا واستعجال الآخرة، وبعد نفض الأيدى من دفنهم أطبق الصمت على خبرهم، فلم ينبس أحد ببنت شفة، والبلد الذى وقعت فيه المأساة هى " غيانا " فى أمريكا الجنوبية. آه لو وقع هذا فى بلد إسلامى إذن لزلزلت الأرض زلزالها، ولطخ وجه الإسلام بالأوحال وطولب بطرد الدولة التى وقع فيها الحادث من هيئة الأمم المتحدة. أعرف المثل العربى الذى يقول: " إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه " والدنيا الآن ليست لنا، فلا عجب أن تنتحل لنا التهم ويوصف غيرنا بكل محمدة. إننى أسأل لماذا لا يتحول رجال التنصير عن عملهم فى بلادنا، ويوجهون أنشطتهم إلى بلادهم التى يهددها الإيدز والإنحلال؟ إن ميازيب شتى تصب أقذارها فى بلادنا التى ما كانت تعرف هذا السيل من الجرائم الخلقية. هل شعار المحبة الذى يحملونه حقيقة أم هو غطاء لقلوب من حجر لا تحسن تربية النشء، فتقوم بقتلهم جملة وتفصيلا، أما كان الأولى جمع هؤلاء الصبية فى محجر صحى أو معتقل سياسي، ثم يشرف على تهذيبهم رجال رحماء يحاولون نقلهم من جو الجريمة أو التشرد إلى جو الصلاح والعمل المثمر؟ ثم ألا يستحى الغربيون من الزعم بأنهم أساتذة لنا وساعون إلى ترقيتنا؟.. وكلمتى إلى المسلمين : ألا أيها النوام ويحكم هبوا، ففراغ الدنيا من يقظتكم بلاء مبين. * * * ص _024(6/19)
المصيبة الكبرى فى وصف خلائق العرب يقول أحد الشعراء: إذا احتربت يوما فسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها!! هذا النزق الذى يسفك الدماء.. ثم تجيش بالبكاء، قد يكون مسلك امرئ غضوب سريع الرجوع، وإذا نما شره يكون مسلك أسرة ضعيفة الوعى حادة العاطفة، لكنه لا يكون مسلك دول كبيرة، ولا جماعات راشدة، وعلى أية حال فإن الأمم فى شتى العصور تصون كيانها من ذوى الأمزجة المتقلبة ولا تضع زمامها فى يد متهور طائش. وفى هذا العصر خاصة قامت مجالس الشورى بفرض وصايتها على تصرفات الحكام حتى لا ينزع الهوى بهم ذات اليمين وذات الشمال. وما زلت أذكر رفض مجلس النواب والشيوخ فى الولايات المتحدة لاسم وزير الدفاع الذى عرضه الرئيس، لأنه مسرف فى الشراب، فاضطر الرئيس إلى اقتراع رجل آخر.. والرجال كثير، والشورى ملزمة هناك، أما العرب فلهم شأن آخر، لا يعرفه دين صحيح ولا تقره دنيا ناضجة. ولعل من هذا المسلك المدهش ما ثار عن خلاف أخيرا فى أزمة الخليج.. كان من السهل أن تتفق كلمة العرب على أن يخرج العراق من الكويت، وأن تعود الجيوش التى جاءت الجزيرة إلى بلادها، أما أن يقول كلا الفريقين لصاحبه: أخرج أنت أولا.. فهذا لون من العبث. ويظهر أن هناك أمرا آخرا قاله لى بعض الناس، قال لى: إن وحدة العرب غاية مهمة نسعى إليها جميعا، وفى سبيلها يجب أن نتجاوز عن بعض الهنات. قلت: ما هذه الوحدة العربية التى تتحدث عنها؟ ص _025(6/20)
أهى الوحدة التى عرفتها الجاهلية الأولى ويدعو إليها حزب البعث العربى الآن أو القوميون العرب؟؟ والتى تهيل التراب على الإسلام، وتعد محمدا أحد الزعماء العرب الأشاوس؟ فلا وحى ولا ألوهية ولا نبوة، وإنما علمانية واشتراكية.. إلخ؟. إن هذه الردة الخسيسة داستها جماهير العرب، وسودت وجوه أصحابها، واعتبرتهم شر الكفار، فاحذر أن تحدث عنها أو تنوه بها، ويجب أن نحشو بالتراب هذه الأفواه النجسة. قال: الصلح مع الدين ممكن، و... فقاطعته مستنكرا ليس الدين لغوا على الألسنة. أو مزاعم للطماعين القتلة.. الإسلام قبل كل علاقة بالله الواحد تعترف بحقه فى حكيم العالم وفق ما شرع (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا). (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها). إن الله حرم على نفسه الظلم، وتريد أنت صناعة إسلام يأذن بالسفك والفتك والانتهاب والاغتصاب. إن نبى الإسلام الذى محا الجاهلية الأولى استثنى حلف الفضول، وقال: " لو دعيت به فى الإسلام لأجبت " ، فهل نقول للناس الآن باسم الإسلام: دعوا فلانا يكذب أو فلانا ينهب، وسنصلح ذات بيننا، وأخرجوا من أرضنا. المصيبة الكبرى أن يتحدث عن الإسلام رجال لا يعرفون حقيقته، ولا يدرسون تاريخه، ولا يدرون ما يقع فى العالم الآن، ولا يشعرون بالأوضاع المحرجة التى تكتنف الأمة، ودينها، وحاضرها، ومستقبلها، ولا يفطنون إلى المؤامرات الخفية التى حيكت للقضاء عليها. اللهم إليك المشتكى وأنت المستعان. * * * ص _0 ص(6/21)
ساحات دامية على خريطة الإسلام دول البلطيق طلقت الشيوعية، وتأبى البقاء داخل الاتحاد السوفيتى، ويتعاون الشعب والحكم على قطع كل صلة بالماضى البغيض، والظفر بحرية التدين، وحقوق الإنسان والانطلاق مع العالم الحر إلى آفاق أرحب. وفى الوقت الذى يقع فيه هذا الكفاح المقدور تحاول الحكومة الحمراء فى أفغانستان قهر الشعب المسلم مستخدمة السيف والنار لمد دخان الإلحاد وغيومه إلى كل شبر من الأرض الإسلامية المثخنة بالجراح. فكرت طويلا فى هذا التباين فوجدت الغزو الثقافى أفلح فى دار الإسلام أكثر مما أفلح فى أقطار أخرى، ورأيت أنصارا للشيوعية يتشبثون بها بعد ما تفرق عنها أنصارها الأولون. أحسب أن ما يقع يعود إلى تقصير الدعاة فى عرض الإسلام وشرح حقائقه حتى توهم كثيرون أن العودة إلى الإسلام تعنى العودة إلى حياة القبيلة، والانغلاق دون فهم الكون، وتجهيل المرأة وحبسها على توافه العيش.. الخ. هذا تفكير سخيف لم تعرفه الحياة الإسلامية عندما كان المسلمون العالم الأول وعندما كانت حضارتهم تعنى المعرفة والذكاء والعدالة والتفوق. وقد تابعت فلول أمتنا الجريحة وهى تعذب تحت وطأة السلطات الكفور فانفطر قلبى، هذا جمهور الأفغان تطارده الحكومة العميلة لموسكو. ويقول محرر " لهيب المعركة ": إن أهل القرى من شبان وشيب تتساقط عليهم القنابل العنقودية فتدع بيوتهم رمادا، ولا يجدون أمامهم إلا الفرار طالبين الأمان فى قرى أخرى، وإن كان البرد شديدا؛ والجليد يكسو أديم الأرض وليس معهم ما يقى من الصقيع والجوع فليتحملوا اللحاق بأقرب قرية مسلمة، وليفروا من سلطان الكفر، فبعض الشر أهون من بعض!!. ص _027(6/22)
وأترك الشعب الأفغانى لأرى الشعب الإسلامى فى الهند، المحاولات مستمرة لهدم المساجد، ومحو العقائد، والمليشيات الوثنية تقوم بهجمات وحشية على الشعائر الدينية، بإيعاز من المجلس العالمى للهندوس، وقد قتل وجرح مئات فى مدن "جيبور" و "أحمد أباد" و "قودا" و "برودا" و "بنجاور". المليشيات مسلحة، والجماهير المسلمة عزلاء ترد بأيديها القنابل، والبنادق، وأمواجا من الهمج لا يضبطهم فكر أو خلق. وأنظر قريبا منى فأرى عرب القطاع والضفة مفروضا عليهم منع التجول، تحولت بيوتهم إلى مصائد يتحركون داخلها فحسب، فإذا تجرأ على مجاوزة عتبة بيته رجل أو امرأة خطف روحه الرصاص! قالت إذاعة لندن: إن الحقول خلت ممن يفلحون الأرض، ويرعون الدواب، واستحكمت أزمة القوت. أما الأمة العربية فإن فتنة الخليج قسمتها فريقين فريق يرى إعطاء الكويت لصدام حسين لعله يرضى، وفريق يقاوم الجبروت ويحاول استبقاء ما كان على وضعه المعتاد. وعجيب أن يتبلد الإحساس بالظلم على هذا النحو، إنني أصارح أمتنا بأنها تسير نحو كارثة مخيفة وأتساءل إلى متى تبقى أنفسنا باردة ونحن نقرأ القرآن، وتظل أنفاس اليهود حارة وهم يتلون ما لديهم. إن كل شئ الآن يخدمهم حتى تذكرت قول الشاعر الساخر: يا أيها الناس قد نصحت لكم تهوّدوا فقد تهود الفلك وماذا تكون النتيجة حين يأخذون كتابهم بقوة، ونأخذ كتابنا بضعف؟ يوم يكون إيماننا بحقنا أوهى من إيمانهم بباطلهم فلن ننال من عناية الله ذرة. إن البعث العربى يجرد العروبة من الإسلام، وإذا انخدع أحد به فقد خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق. * * * ص _028(6/23)
القرار الشؤم بدا لكل ذى عينين أن إسرائيل هى الكاسب الأوحد فى فتنة الخليج التى اتسع نطاقها وعم بلاؤها. إن العنوان الذى وضعه الحلفاء لهذه الفتنة هو حرب تحرير الكويت، وما ينكر أحد أن الكويت قد احتلها العراق، وأرهق أهلها، وسامهم الخسف، وأن قوى أجنبية سارعت لنجدتها. ولكن هناك أطماعا ومطالب لأعداء الإسلام، ربما واتتهم الفرصة خلال هذه الفتنة كى ينفسوا عنها، أم يمهدوا لبلوغها... وليس هذا عيبهم، وإنما عيب من أشعل الحرب وقاد الهجوم، وتجاهل الملابسات، واستهان بأخوة الإسلام وحقوقها. وقد درست موقف إسلاميين كثيرين فى المغرب والمشرق وتساءلت: أين كان هؤلاء عندما قتل عشرات الألوف من الأكراد المسلمين خنقا بالغازات السامة؟ ما سمعنا لهم صوتا؟ أين كانوا عندما دمرت مدائن عامرة فى إيران، وصارت خرائب ومدافن؟ ما سمعنا لهم صوتا!. إنهم الآن يعدون حاكم العراق المكافح الأول للصليبية والصهيونية. أعرف أن كرههم لأعداء الإسلام من وراء هذا الشعور الكاذب، وأن الصيحات الخادعة ضللت تفكيرهم، إننى أحذر المخدوعين من الانزلاق إلى تزوير الإسلام، وحسبانه مؤيدا للعدوان، وحليفا للظالم، وجاحدا للمظلوم. إنه يمكن القول بأن الذى حدث كله كان مؤامرة لخدمة إسرائيل، ودعم كيانها الذى بدا عليه الوهن. وقد سار صدام حسين بقدميه إلى الشرك المنصوب كما يسقط الطير على الحب داخل الفخ فينطبق على عنقه، ويورده المهالك. ص _029(6/24)
لقد تخصص فى ضرب المسلمين حين يستضعفهم، ومضى فى خطته تلك دون حساب للملابسات واختلاف الظروف، فوقع له ما وقع، ثم عانت جماهير المسلمين كلها ما عانت. وربط مستقبل الإسلام وأمته بتفكير فرد متسلط مغرور أمر لا يجوز، والدهماء الذين يسيغون ذلك لا مكان لهم ولا وزن عند أولى الألباب. إن عبد الناصر سنة 1967م زعم أنه سوف يرمى بإسرائيل فى البحر، ودخل حربا لم يحسن بدايتها ولا نهايتها فماذا كان؟ انهزم خلال ساعات وتضاعفت مساحة إسرائيل مرتين، وانتفضت أطراف وأوساط مصر والأردن وسوريا، وصبغ القار وجوه العرب أجمعين. إن القضايا الكبرى لا يجوز أن يستبد بالتفكير فيها واحد مهما كانت عبقريته، وفى قتال يكون الدافع إليه الذود عن الإسلام، ومحو الغبن والعدوان، لابد للمقاتل المسلم أن يستند إلى الله ويخلص نيته، ويستغيث به رجاء عونه. أما استعراض العضلات وإبداء الفرعنة، وإظهار الغرور فلا ثمرة له إلا الهزيمة، لقد هزم الله المسلمين فى حنين لما أعجبتهم كثرتهم، فكيف نخوض حربا دينية نبدأها باغتصاب بلد سالم، ونخوض حومتها ونحن سكارى بالغرور وبالخمر معا. إننى قد أقبل من مسلم أن يمقت أعداء الإسلام، لكننى لا أقبل من مسلم أن يقول بجلافة: لا يهم ضياع الكويت إذا كانت وسيلة إلى ما هو أعظم!! ما هذا الأعظم؟ غرور بباطل وانتظار لوهم؟ إنه لا أعظم من إحقاق الحق!. لقد كان قرار احتلال الكويت شؤما على صاحبه وعلى العرب والمسلمين فى المشرق والمغرب، وهكذا يصدق قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) 0 أما تأييد الغوغاء لحاكم العراق فإنه يذكرنى بقول أبى تمام: إن شئت أن يسود ظنك كله.. فأجله فى هذا السواد الأعظم..! ونحن ولله الحمد لا نأخذ ديننا من طغيان الكبراء ولا من أفواه الدهماء، ونؤمل يوما للحق أرشد وأسعد. ص _030(6/25)
طوق النجاة مضت تقاليد أهل الإيمان أن يفزعوا إلى الله فى الشدائد، وأن يلزموا بابه مرتقبين الغوث، ونحن بطبيعة الخلقة ضعفاء إلا أن يسندنا القوى، خطاءون حتى يمن الله علينا بالتوبة والعصمة والرضا. والأيام التى تمر بنا حافلة بالنذر، بل يكاد يتطاير منها الشرر الذى لا يبقى ولا يذر! وينبغى أن تدفعنا دفعا إلى الله مستغفرين مسترحمين. أمتنا الإسلامية أضاءت رسالتها، وعاشت صنفين من الناس: صنف واحد أذهله ثراؤه عن آخرته، فهو مفتون بدنياه، وصنف فاقد يحسد الأول، ويريد أن يكون مثله. وقد انخدع الفريقان برونق الحضارة المعاصرة فتعلقوا بأسوأ ما فيها، وتركوا ما عداه، فماذا كانت العقبى؟. إن الدماء اليوم تسفك، والويلات تقترب، والفتن ظلمات بعضها فوق بعض، والمستقبل غامض، وكل شئ يلفتنا بقوة إلى انتهاج أسلوب جديد فى الحياة نرجع فيه إلى الإسلام الذى شرفنا الله به، وكلفنا بحمله وتبليغه. أموال المسلمين تحترق أمام أعينهم، ومدخراتهم تغتال علانية، والعقد النظيم انقطع خيطه، وتناثرت حياته، أفلا نتذكر مقالة أصحاب الجنة التى دمرها الله لما عزم أصحابها على منع حقوقه وحرمان عباده؟ (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون). إننى أبصر جماعات من أبناء الأمة المنكوبة لا تزال تبحث عن اللذات، ولا تزال سادرة فى غوايتها، لا ترعوى، علام تستيقظ إذا لم تصح على هذه القوارع ؟ ص _031(6/26)
إننا يجب أن نستقبل أمواج البلاء بالدعاء، إننا يجب أن نهرع إلى المساجد قانتين ناشدين العون!. إننى أنظر إلى طلاب اللهو فى هذا الأوان الصعب فأحسبهم قطيعا من الدواب، فقسوة القلب، وجمود العين، ونسيان الآخرة دلائل غضب ماحق. المفهوم من كتابنا الكريم أن الآلام سياط ترد الشارد إلى الصراط المستقيم إن حاد عنه، وتلهم المؤمن الضراعة الحارة إن سكت عنها (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا). ومع عودة العقل ويقظة الضمير، وحسن الإنابة ينتظر العفو الإلهى ورجوع السراء والنعماء. أما إذا بقى السكارى يبحثون عن خمر، والأنجاس ينقبون عن شهوة، والمتكبرون بالغنى يأبون السجود، والمزدهون بالترف لا يستقيم لهم عوج، فما بد من أن تهجم المآسى، يردف بعضها بعضا، لا تنته غيمة حتى يتبعها أخرى.. وفى أولئك يقول الله سبحانه: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون). لماذا لا يفكر الشباب العربي فى تحسين مسلكه، وتهذيب سيرته؟ لماذا لا يفكر الكبار فى تدارس الماضى والتنقيب عن خطأ فيه يتقربون إلى الله بإصلاحه؟ فى مأساة العرب الحاضرة أرى أعداءنا يكثرون ولا يقفون، ويقوون ولا يضعفون، أما نحن فليست مصيبتنا من قلة السلاح، ولا من قلة المال، ولا من قلة العدد! إن مصيبتنا نابعة من أنفسنا وحدها، وما لم تتغير هذه النفوس فلن يتغير ما بنا. إذا كنا راضين عن أنفسنا ـ وتلك أحوالنا ـ فستبقى هذه الأحوال حولنا كما يبقى الظل الأعوج مع العود الأعوج. كبرياء السلطة عندنا، وذل الجماهير عندنا، وركود الرأى العام عندنا، وانشغال العلماء يسقط القضايا عندنا، فبأى وجه يلقى المسلمون الناس؟ ثم بأى وجه يلقون ربهم؟. ص _032(6/27)
البعث الإسلامي..منقذنا لإنقاذ فلسطين وتحرير أهلينا ومقدساتنا فيها طريق واضح: أن يجتمع العرب على قلب رجل واحد، ومعهم كل ما يملكون من قوة، وكل ما ورثوا من إيمان، ويناجزون عدوهم جهرة لا خفية، ويصارحون بغايتهم دون جبن أو استخذاء، ويعتمدون على الله وحده فى تحقيق أملهم. والعرب منذ اغتصبت منهم فلسطين لم يسيروا فى هذا الطريق. بل لم يفكروا فى سلوكه، وذاك سر هزائمهم المتتابعة!. وقد عقد بعض الناس أملهم على الرئيس صدام حسين، كى يدرك ما فات غيره! وكم تكون سعادتنا غامرة لو أن الرجل مضى فى الطريق التى رسمنا معالمها، فهل كان عند حسن الظن؟. إنه أعد جيشا عظيما، ووفر كل الأسلحة، وأنفقت عليه أموال طائلة، وتوافرت له ظروف جعلت الشرق والغرب معا يمدانه بكل جديد من أدوات الفتك والدمار.. وكان المفروض أن يبدأ الرجل بإحياء الجبهة الشرقية التى ماتت، وأن يفاتح زعماء سوريا والسعودية واليمن والأردن وسائر الخليج بما أفاء الله عليه من عدة وعدد، وأن يطالبهم بمظاهرته فى إنقاذ شباب الانتفاضة، وطرد اليهود من الأراضى التى اغتصبوها... وهو عندما يفعل ذلك يستطيع معالنة العالم بأنه ينفذ قرارات الأمم المتحدة، ويحقق بالقوة ما رفضت إسرائيل تحقيقه بالمناشدة والرجاء. ويوم تسير ألوية العرب فى هذه الجبهة نحو غايتها، فلن تتخلف عنها دولة من الجبهة العربية، لا فى وادى النيل ولا فى المغرب الكبير!. هل هذه الخطة تحتاج إلى عبقرية؟ كلا، إنها خطة طبيعية لا يعرف عاقل غيرها وستحار الدول الاستعمارية فى مواجهتها، وكيف تواجه قائدا يقول: إنه يحقق ما اتفق عليه مجلس الأمن، ومن ورائه هيئة الأمم، وأى قائد عربى ـ وليس زعيم ص _033(6/28)
العراق وحده ـ ينهض بهذا العمل فسوف يحشد الجماهير حوله، وسوف يوصف ـ إن تقاعس عنه ـ بالخيانة والارتداد. لكن الذى وقع غير هذا، بل ضد هذا، فإن الجيش الذى اعتز بقوة سلاحه ووفرة عتاده، اتجه أول ما اتجه إلى إيران، فوقع قتال ظل ثمانية أعوام هلكت فيه الأنفس، وانقسمت فيه الأمة العربية، ولم يربح منه إلا عداتها. ثم عاد الجيش من إيران، فما مضت عدة شهور حتى كان يتجه إلى الكويت ليحتلها بين عشية وضحاها، وتبع ذلك أن الشرخ الذى أصاب العرب صدع كيانهم، فانقسم ووقف الجندى العربى يقاتل الجندى العربى، أما الإسلام ومواثيقه فقد تبخرت من قديم، وأما القضية الفلسطينية فقد لحقها خسار بيّن. ويرمق العدو والصديق ما حدث، فلا يرى كاسبا إلا إسرائيل التى تدعمت ماديا واقتصاديا حتى كأن هذه الحرب اشتعلت لمصلحتها وحدها.. إن الرئيس صدام حسين أخطأ حين احتل الكويت، وفتح باب شؤم على العرب والمسلمين بهذه الفعلة، يستحيل أنه كان يفكر فى فلسطين عندئذ !!. على أني أصارح العرب من بعثيين وقوميين بأن قضية فلسطين دينية وليست عنصرية، هكذا كانت في تاريخها القديم وهكذا بقيت إلى عصرنا الحاضر ولو أن العرب احتشدوا صفا واحدا، ثم نظر الله إليهم فوجدهم أقل من اليهود تمسكا بالدين ما نالوا سهما من نصر، ولا ذرة من توفيق، إن البعث الإسلامى لا البعث العربي هو الذى يقدر على استنفاذ التراث المنهوب، والبلد المنكوب. إننى حين أرسل هذه الصيحة ليست من رجال الوعظ، ولكننى أبصر الحق في صميم السياسة التى تبت فى مصاير الأمم. ويؤسفنى أن علائق العرب بدينهم تحتاج إلى إعادة نظر. فى صراع العقائد لا مكان لعابدى نفوسهم، ولا للمفرطين فى رسالتهم إننا نقول بحق " الإسلام هو الحل " * * * ص _034(6/29)
العروبة..أم الله أكبر؟ إلى متى يظل مفهوم العروبة معزولا عن الإسلام فى بعض الأقطار، وعوضا عن الإسلام فى أقطار أخرى؟ إن هذا العوج الفكرى من وراء الفوضى الخلقية والاجتماعية التى يعيش فيها العالم العربى. لقد كانت شعب الإيمان تسد كل فراغ فى دنيانا، فلما ساء وضع الدين وأغير على حقائقه، وحلت هذه العروبة محله فى شتى الأرجاء تخلخل المجتمع كله، وشرع الفارغون يملؤون أنفسهم بأفكار يجلبونها من ها هنا وها هنا، حتى كدنا نكون أمة أخرى غير أسلافنا الكبار. وهكذا نجح الغزو الثقافى فى تغييرنا، ونحن ندرى أو لا ندرى. فى بلاد أخرى أمكن عزل الدين فحلت فلسفات أخرى مكانه؟ لأن هذا الدين لم يكن يحل ابتداء إلا حيزا محدودا من النفس الإنسانية، وقد يكون ما جاء بدله خيرا منه فاستراحت الجماهير من قيد موروث. أما الإسلام فقد كان الوحى الكامل الخاتم، الكافى الشافى، فلما تقرر إبعاده كان ما بعده شيئا دونه يقينا، فإذا الأمة تنتقص من أطرافها بل من صميمها، فاضطرب أولا حبل الأخلاق ومات الضمير الدينى، ووهت العلاقات العامة، وظهر زعماء من طراز لا يعرف فى بلاد أخرى. كان على بن أبى طالب يقول: " لا تسمعونى خفق أقدامكم ورائى. فإن ذلك مفسدة لقلوب الرجال " !! فإذا حكام يجعلون الهتاف بأسمائهم أساس الولاء وسلم الترقى، ووجدنا من تصنع له تسعة وتسعين (اسما) كأسماء الله الحسنى. وكان الذى يستشهد فى سبيل الله يعد من الأحياء عند ربهم، وهذا هو العزاء الحق، فإذا نحن نسمع بشهداء العروبة الذين نحيى ذكراهم بالوقوف دقيقة صمت!! ومرت عهود العوام، فما يجود عمل ولا يصح هدف، ولا ينتظر وفاء ولا حياء! ماذا حدث؟ هذا أثر غياب الدين عن القلوب والألباب. ص _035(6/30)
وكان المفروض أن الحريصين على النسب الإسلامى يزينون نسبهم هذا باليقين الواضح والعمل الصالح، فإذا هم يضعون موازين جديدة للحسنات والسيئات ليس من بينها الحفاظ على حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وكرامات الجماهير، وفعل الخير، وإقرار المعروف، وتغيير المنكر. الدين عند هؤلاء جدل عقائدى من مخلفات القرون الأولى، وعبادات مفصولة عن آثارها، فالصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم لا ينهى عن رفث أو صخب، وهذا إسلام غريب. إن الدين قبل كل شىء عقل سليم وقلب سليم، ومن فقد هذه السلامة فلن يعزيه عنها أن يقيم شعائر أو يحفظ مراسم. وقد رأيت فى محنة الخليج الأخيرة متناقضات تستدعى الدهشة: هذا يقول: لا مانع فى سبيل الوحدة العربية أن تظلم الكويت، وهذا يقول: لا مانع فى سبيل حرب أمريكا وإنجلترا أن نقبل الاستبداد الفردى، وهناك من يقول: إن الحرب الدائرة هى حروب صليبية جديدة. قلت لأصحاب هذه المقولة: هل الطرف الإسلامى فى هذه الحرب الجديدة يقوده طارق حنا عزيز، وميشيل عفلق؟ إن الأمة الإسلامية تعاني من فوضى فكرية رهيبة، لا يصلحها إلا أن نعود إلى الإسلام بمفهومه النظرى الرحب ومفهومه العملى الدقيق، وجمهور ضخم من الإسلاميين لا يقلون سوءا عن عبيد العروبة المعزولة عن الدين. ليست العودة إلى الإسلام أن نكتب على راياتنا: الله أكبر، بل العودة إلى الإسلام أن نملأ قلوبنا: " الله أكبر " ، ونجعلها باعث أعمالنا وهدف حياتنا. * * * ص _036(6/31)
بل سينادي: ... يا مسلم نحب أن نسأل أولئك الذين يملأون بالتفاخر الكذوب أفواههم، ويريدون أن يخيلوا لأولى الأفهام القاصرة أن العرب يمكنهم الاستغناء عن الأمة الإسلامية، كما أن العروبة يمكنها الاستغناء عن الإسلام. نحب أن نسأل هؤلاء : هل قرأوا التاريخ؟ هل وعوا دروسه؟ وهل فى وجوههم بقية حياء تجعلهم ينزلون على حكمه؟. إن العروبة فى أشد أزماتها لم تجد منفذا إلا لدى المسلمين المخلصين من أجناس الأرض الأخرى. بل إن العرب لما تكسرت صفوفهم تحت سنابك التتار الزاحفين من الشرق، وانهارت سدودهم أمام الصليبيين المنحدرين من الغرب، وكادت تذوب هذه الأمة فى دوامة العواصف المطبقة ذوبان الملح فى الماء.. فى هذه اللحظات العصيبة تقدم المسلمون من الأجناس الأخرى يصدون العدوان ويدافعون عن ديار العروبة، ويبسطون حمايتهم المشكورة. اجتاح التتار أقاليم الدولة العباسية الشرقية ودمروها تدميرا، ثم دخل زعيمهم هولاكو بغداد فى سنة 656 هـ وقضى على الخلافة العباسية، ثم اكتسحت جيوشه، الشام وأصبحت على أبواب مصر. ولقد أرسل هولاكو إلى سلطان مصر إذ ذاك وهو الملك المظفر (قطز) كتابا ملأه تهديدا ووعيدا، وطلب إلية فيه المبادرة إلى الخضوع له والاستسلام إليه. فثارت حمية السلطان، واستفز الناس لجهاد التتار فتثاقلوا لما ثبت فى الأذهان إذ ذاك أن التتار لا يغلبون!!. ولكن السلطان أعلن أنه سائر بنفسه للجهاد على أى حال، وليصحبه من يشاء، عند ذلك نفر معه الأمراء بأجنادهم. ص _037(6/32)
جرت بينه وبين التتار وقعة عظيمة عند عين جالوت وذلك فى رمضان سنة658 هـ . يقول المقريزى فى وصف بلاء " قطز " و " بيبرس " والجيش المصرى فى ذلك اليوم العصيب : " فلما كان يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان التقى الجمعان، وفى قلوب المصريين وهم عظيم من التتار، وذلك بعد طلوع الشمس وقد امتلأ الوادى، وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء، فتحيز التتار إلى الجبل، وعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح السلطان وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: " وا إسلاماه " وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة فأيده الله بنصره، وقتل " كتبغا " قائد التتار وانهزم باقيهم ". صيحة " وا إسلاماه " كانت مفتاح النصر على التتار، والصيحة نفسها هى مفتاح النصر على اليهود. إن الحجر لن ينادى: " يا عربى ورائى يهودى مختبئ فأدركه "، بل سوف ينادى: " يا مسلم " وعندئذ يتنزل النصر.. * * * ص _038(6/33)
تفسير الشعار المنقوص الشعار الذى رفعه حزب البعث منذ نشأ: " أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة "، ولا أرى بأسا من عقد مصالحة بين المسلمين كافة، وبين رافعى هذا الشعار، على أساس التفسير الوحيد الذى يصح له، وهو أن الرسالة التى حملها العرب ـ ولا يزالون يحملونها ـ هى الإسلام. فماذا حمل العرب غيره؟ وماذا قدموا للناس إلا هذا الدين الكريم؟ ويوم يرتدون عنه فبماذا يوصفون؟ وماذا لديهم يفتحون أفواههم به؟ إن العرب الأقدمين فى تاريخهم السحيق رفضوا الوحى، وفشل الأنبياء العرب فى اقتيادهم به. فماذا كان مصيرهم؟ هلكت عاد بعدما عصت هودا، وهلكت ثمود بعدما عصت صالحا، وهلكت مدين بعدما عصت شعيبا، وهلكت سبأ وقوم تبع وأصحاب الرس وغيرهم فهل سيكون مصير المستأخرين أفضل من مصير المستقدمين؟. إن عرب الجزيرة فى العصور الوسيطة طووا مسافات الخلاف، وقهروا شياطين الهوى، وآمنوا بخاتم المرسلين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا هم أمة من طراز جديد، (صنع الله الذي أتقن كل شيء) طلعوا على الدنيا بعد إيمانهم شروقا ساطع الآفاق، شريف الأعراق، زاكى الأخلاق، فاستكانت لهم الدول الكبرى، واعتنقت شعوبها الدين الجديد، وتبدلت الأرض غير الأرض، واستطاع الصحابة والتابعون أن ينقلوا بأمانة مواريث السماء، وأن يطبقوا بدقة ما حوت من رشد. وتدافعت العصور، وهى تتناقل الرسالة الكبيرة حتى جاء هذا العصر الأغبر وقد بلغ الإعياء من العرب مبلغه، لأن فيهم مفرطين لم يحسوا عظمة الرسالة، ولم يوفوا بالمواثيق المأخوذة، فانقلب المتبوع تابعا، والمنتصب راكعا، والمبدع بليدا، والأباة عبيدا !!. ص _039(6/34)
ثم ظهر بين المسلمين من ارتد على عقبه، وشرع يصيح: العروبة وكفى، والبعث لا يكون إلا عربيا، والدين لا يعتقد إلا مكانا ثانويا، إن بقى له مكان، وبهذا الأسلوب من النباح نرتد إلى أيام مسيلمة وسجاح. وبدهى أن يعين الاستعمار العالمى هذه الصيحة الغادرة، وأن يمد أصحابها بكل سلاح، وأن يمكنهم من افتراس المجاهدين المقاومين. وعلم القاصى والدانى أن هذا اللون من الحكم يستحيل أن تأتي به شورى، أو أن يكون له من الجماهير سناد، فاتحدت العلمانية والإلحاد، فى أشكال من القمع والاستبداد تحكم الأمم بالحديد والنار. ثم طلع على الإنسانية عصر جديد، كشفت فيه اليهودية عن وجهها، وقالت: نريد أرض الميعاد، وبناء الهيكل وعودة الشعب المختار إلى وطنه.. وكشرت الصليبية عن نابها، وقالت: لقد توحدت كنائسنا لنستعيد مجد الرب ونمحو ما طرأ عليه من أغيار، وبقى السؤال الفذ لأصحاب الرسالة الخاتمة: هل سيبقى فيكم جاحدون لرسالة الإسلام، ساعون إلى ارتكاس العرب فى جاهليتهم الأولى؟ إن الإجابة على هذا السؤال لابد منها، فإما أن يبقى الإسلام أو لا يبقى.. على النظم الكافرة أن تعلن إيمانها، وعلى النظم المنافقة أن تبدى إخلاصها، وعلى الجماعات الهازلة أن تواجه أيام الجد والعبوس. إن المستقبل حافل بالنذر، ولا نجاة لنا إلا أن نكون أمة واحدة، ذات رسالة خالدة هى الإسلام وحده (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله). * * * ص _040(6/35)
عاقبة تعطيل الحدود تفاحشت الجرائم التى تقع هذه الأيام بالليل والنهار، ولفت الأنظار ما يقارنها من التحدى والبأس، فقد توقح المجرمون، وزادت ضراوتهم وشعر الناس بالقلق، وأخذ الخارج يوصى القاعد، والقاعد فى بيته يوصى الخارج إلى عمله، ولا ندرى ما يجئ به الغد.. قلت: ألم يأن للذين عطلوا أحكام الله أن ينفذوها؟ إن حدا من الحدود يقام بالحق جدير بأن يعيد الطمأنينة إلى القلوب الفزعة، ويلقى الرعب فى قلوب معتادى الإجرام. لكننا لا نفكر فى هذا الدواء الحاسم، وقديما قيل: ومن العجائب والعجائب جمة قرب الدواء وما إليه وصول كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ماذا لو قبض على قطاع الطريق الذين يسرقوا الذهب أو ما دونه، فقطعوا من خلاف، أو أخذ من قتل منهم، فصلب فى ميدان عام، وعلقت جثته إعلانا عن مصير العدوان المسلح على الآمنين، وعن النهاية التى لابد منها لكل فاتك أثيم !! كان البعض يقول: إن اللص يسرق ليأكل، وهذا كلام مضحك، لقد ظهر الآن أنه يسرق ليحشش، وأنه يملك فى بيته ـ عندما يسرق ـ أجر من سيدافعون عنه، ويلتمسون له البراءة أو تخفيف العقاب. وقد بلغ الفجور فى الاغتصاب حد إجهاز الوغد على الفتاة التى استعصت عليه، وأبت التفريط فى عرضها، ولم تبق الجريمة خاطر يساور شخصا بطالا، بل اتفاق بين متعاونين على الإثم والعدوان. ومع تقلص الروح الدينية، وضراوة الشهوات المادية، أخذ شياطين الإنس والجن يذرعون القارات ويبعثرون المآسي فى كل مكان، والصحف تنشر فتصف الجرائم، وتسكت عن العلاج الصحيح، ولا نجاة من البلاء إذا استمر ذلك الأسلوب. ص _041(6/36)
بعض الناس يقصر فى الواجب استجابة للذة عاجلة أو شهوة عارضة، أما أن يقصر فى الواجب ليتعجل ضررا، أو يستجلب خطرا، فهنا العجب العاجب؟ ماذا كسبنا من تعطيل الحدود؟ ماذا كسبنا من الحرب على المجرمين؟ لقد سمنت الكلاب ورأت أن تأكل أصحابها. إننا قررنا تقليد أوروبا فى كل شىء وما دامت نسبة الإجرام هناك صاعدة فلتكن نسبتها عندنا متزايدة، لكن القوم مع شيوخ المنكرات بينهم يضاعفون إنتاجهم، ولا يتوانون فى عمل، أما نحن فنجمع بين الكسل والإساءة، أو بين العطل والجريمة. والحكومة الآن تجرى وراء لصوص الذهب في ضاحية الزيتون، وربما وصلت إليهم بعد أسابيع أو شهور، وربما فروا منها أبدا، وإذا حدث أن عثرت عليهم فسوف يحاكمون فى آماد طويلة، ثم يحكم عليهم بالسجن عدة سنين أو حتى عشرين سنة ينزلون فيها ضيوفا محروسين تعلفهم الدولة من حساب دافعى الضرائب، وربما أطلقت سراحهم فى أحد أعياد النصر. هل هذا علاج ناجح؟ إن لنا كتابا ناطقا يقول: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا).. إلخ فلماذا يكون موقفنا منه: " سمعنا وعصينا ". وماذا جنينا من هذا الموقف الذى تجمد ولا أرى ما يدل على تغييره؟. ص _042(6/37)
بعث عربي.. أم ارتداد عقائدي؟! فى العصور الأولى لم ينجح الأنبياء العرب فى هداية أقوامهم إلى الله، ونقلهم من الظلمات إلى النور، برغم طول المصابرة وجلال النصح، كان أولئك العرب أغلظ قلوبا وأسوأ طبائع من أن ينقادوا إلى هداتهم، فحقت عليهم كلمة ربك. وأعنى بأولئك الأنبياء صالحا فى ثمود، وشعيبا فى مدين، ولوطا فى قرى المؤتفكة، وكانوا جميعا شمالى جزيرة العرب، أما جنوبى الجزيرة فقد أنذر هود قومه بالأحقاف، كما تمردت سبأ على رسولها الذى لم يذكر اسمه. وعجيب أن يجمع الضلال بين الشمال والجنوب فى مواقف مشتركة، تستبين معالمها من قوله تعالى للنبى الخاتم (صلى الله عليه وسلم) وهو ينصح قومه بعد قرون طوال (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). كانت عاد أهل غطرسة وجبروت استكبروا فى الأرض بغير الحق، وقالوا: (من أشد منا قوة)؟ وكانت ثمود أهل عناد وصلف: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى). وكانت الإبادة الحاسمة هى الجزاء الماحق للجميع.. (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور). إن خصائص العرب البائدة هوت بهم، فلم يفلحوا أبدا، وأمسوا أحاديث يسمر بها السامرون، وينشغل بها الدارسون.. ثم ظهر محمد (صلى الله عليه وسلم) وسط الجزيرة العربية، واستطاع أن يحقق ما عجز عنه إخوانه فى الشمال والجنوب، كيف أمكنه ذلك؟ تلك معجزته..! ص _043(6/38)
وشاء الله أن يتحول العرب الجامحون إلى رهبان بالليل فرسان بالنهار، وأن يصنع منهم النبى المحمد صلى الله عليه وسلم قوة للخير دكت الاستعمار القديم، وأجهزت على جبروت الروم والفرس، وقدمت للدنيا الإيمان والعدل وحرية العقل والضمير، وجملة حقوق الإنسان، والمعالم الدقيقة لفلاحه فى معاشه ومعاده. ويبدو أن العرب حنوا للطباع التى أبادت خضراءهم بالأمس، حنوا إلى طباع عاد وثمود وأمثالهم فإذا هم يتخلصون من قيود الإسلام التى كبحت جاهليتهم، وجعلتهم أصحاب حضارة رائعة، ثم أخذوا يتهامسون: نحن قبل كل شراء عرب، وإذا كانت الأيام تقلبت بنا فلابد أن نغالبها بعروبتنا وحدها. وأتاهم ميشيل عفلق من اليونافي هاتفا بحياة عاد وثمود، زاعما أن محمدا صلى الله عليه وسلم عظيم مثل هانيبال وحمورابي فهو بانى دولة عربية وحسب. لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحى نزل وانطلق العفالقة الحمر يقودون بعثا عربيا علمانيا مقطوع العلائق بالسماء، وليس الغريب أن يتحرك الشيطان، ولكن الغريب أن يجد مغفلين يصفقون له ويمشون فى ركابه. إن تجريد العروبة من كتاب الله وسنة رسوله وجهاد الأسلاف العظام حركة ارتداد عام خطرة فى عصرنا هذا خطورة حركة الردة التى قادها مسيلمة الكذاب قديما. فليرجع العرب إلى الإسلام (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). ما العرب بغير دين؟! غثاء كغثاء السيل أو أتفه.. * * * ص _044(6/39)
مقتضيات الأيمان الإيمان يفرض على أصحابه مواقف لا محيد عنها ولا فكاك منها، وهل الإيمان إلا سلوك ملتزم واتجاه صارم؟ فى مطلع سورة الأنفال رفض القرآن تطلع المجاهدين إلى الغنائم، وتنازعهم فى تقسيمها، ورد الأمر إلى حكم الله ورسوله فيها، فليست لهم مقترحات، ولا تقبل فى ذلك رغبات. والموقف الوحيد المقبول شرحته الآيات النازلة (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا و على ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا). الإيمان الحقيقى يتطلب هنا موقفا وحيدا هو ذكر الله، ووجل القلوب، وزيادة التسليم والتوكل والصلاة والعطاء، فهل هذا الموقف يتكرر على اختلاف القضايا المعروضة والأحوال العابرة؟. لننظر إلى آخر السورة فسنجد صورة أخرى لما يطلب من المؤمن عمله قال تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) هنا واجبات جديدة من الكفاح الجلد والهجرة الزاهدة فى الوطن من جانب، وضرورة النصرة والإيواء والتعاون من جانب آخر، ولا يصح الموقف إلا بتلاقى هذه المعانى جميعا لدعم الحق وذلك وحده هو الإيمان الحقيقى !!. مقتضيات الإيمان تتغاير حسب الظروف ولابد من القيام بكل موقف علي حدة، وتدبر قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) اليقين الصحيح هنا يقوم ص _045(6/40)
على اتقاء الريبة وحسن البذل والتضحية بالنفس والنفيس، وهذا موقف تمليه الأحوال التى يمر بها الإيمان من بلاء أو رخاء، وهزيمة أو نصر. ومع هذا التوجيه نذكر قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه). هناك مؤتمرات لها خطرها على مستقبل الجماعة ومصير رسالتها، لا يتكاسل عن حضورها مؤمن، فإذا حضر كان عليه أن يجعل نفسه طوع أمر القيادة يبقى ما أحبت وينصرف بإذن منها وحدها. إن الإيمان مواقف صارمة، وله توجيهه فى كل أمر ذى بال، ولا يقبل من مسلم أن يتصوف على النحو الذى يرى، بل هو تابع طيع لأوامر هذا الدين ومطالبه التى تتكاثر وتتغاير وفق تقلب الأحوال! هما خطتان: إما إيمان وإما انسحاب، أمامك فانظر أي نهجيك تنهج، طريقان شتى: مستقيم وأعوج!. ويقول شاعر معاصر: فى موكب حق أو فى موكب الزور وفى ركاب العلا أو مربط العير اختر لنفسك ما يحلو فليس بنا من حاجة للمطايا والقوارير الإيمان مواقف، وهناك ناس متخصصون فى الهروب من المواقف إلى مواقف أخرى هى الباطل بعبثه، وإن لبست أحيانا ثوب التدين، فالفرار من الجهاد لا يغنى عنه المكث فى صحن المسجد. * * * ص _046(6/41)
هل من توبة؟ صلاة الرجل فى الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعة وعشرين ضعفا، كأن الخير أصبحت له مظاهرة كبيرة تعالن به، وتفرضه بين الناس، وتجعله من معالم الحياة الراسية. إن البر الوحيد شئ حسن، وأحسن منه أن يتحول البر إلى تقليد متبع، وعرف شائع، ودولة ذات سلطان، وكذلك الحال مع الآثام. إن الرجل المنقطع المعزول قد يتورط فى رذيلة فيقارفها وحده، ما يشعر به أحد فكأنما ولدت ميتة، ويوشك أن يتوب منها، فيمحوها الله، وينساها الحفظة، كأن لم تكن.. أما إذا انضم إليه غيره فى أدائها، وتعاونوا جميعا على الإثم والعدوان فإن الشر يتفاقم، ويقوى بعضه بعضا، ويمتد أثره، ويتضاعف وزره، وفلك كله ذريعة الدمار العام، وتدبر قوله تعالى قوم لوط: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) لقد ضرى الإجرام فما بد من حسمه بزلزال يغير وجه الأرض ويمحو ما سادها من فحش. إن الكسل فى أداء الواجبات جريمة، قد يواقعها فرد فيبوء بإثمها وحده لكن ما العمل إذا وجدت أمة كسول تتراخى فيما يصلحها، وتخلد إلى الأرض كأنما هى سكرى، أو مخدرة، إن عقباها إلى بوار. وقد ثبت فى الإسلام أن الأمم المفرطة تسأل عن هذا الإجرام العام.. (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق). ص _047(6/42)
وعلى هذه الأمم الخائرة أن تنشط وتتوب إلى ربها، كما يتوب الفرد الفاشل سواء بسواء، وقد أعجبنى من الدكتور درويش مصطفى الفار الأستاذ فى علم الجيولوجيا قوله: " المخططون الذين يهملون استثمار كل شبر من أرضنا ويريقون كل قطرة من ماء تعيننا على أن نأكل مما تزرع أيدينا، هم فى حاجة إلى توبة ". والمعلم الذى لا يغنى تلاميذه عن الدروس الخصوصية فى حاجة إلى توبة، والتاجر المنهوم المتعطش إلى الأرباح الفاحشة بحاجة إلى توبة، وجامعة الدول العربية التى لم تستطع خلال ست وأربعين سنة أن تحقق تقدما نحو وحدة الصف والهدف والفكر والعمل، والتى عجزت عن منع التشرذم والانقسام تحتاج إلى توبة. والمتفيهقون الصياحون عبيد المظاهر، وهواة التعويق، والذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ـ محتاجون إلى توبة. وأي موظف أو رئيس يمارس أساليب النخاسة أو التفرقة العنصرية، ويشيع الاستعلاء هنا، والاستخذاء هناك ـ يحتاج إلى توبة. ومجامع البحث العلمى، مجالس الخدمة العامة المكتفية بالألقاب والنعوت، التى لم تستطع ـ مع طول بقائها ـ أن تمنع التسول الثقافى والاستجداء الحضارى ـ بحاجة إلى توبة. وكل شيطان أخرس يخذل المظلومين، ويدعهم مقهورين، وهو قادر على مساندتهم وصون حقوقهم ـ بحاجة إلى توبة. إن المعاصى الاجتماعية هى سرطان الأمم، وسر ضياعها، فهل نقلع عنها لتصبح أمة سوية؟؟. * * * ص _048(6/43)
اعدلوا ـ ينصركم الله التصور الدينى للحكم يجب أن يكون سليما، وإلا جر الخسار على الدين نفسه، وربما حمل الناس على نبذه والبعد عنه. إن قيام الناس بالقسط غاية مشتركة لجميع المرسلين، ولم يقع أن أحد الأنبياء أرخص العدالة، أو هانت لديه مظالم العباد، فقد قرر الكتاب العزيز هذه الحقيقة في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). وعندما تتظالم الأفراد والجماعات يرفع الله يده عنها، ويتركها لعوادى الدهر تفعل بها ما تشاء، وفى الحديث الشريف: " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع ". وقد أنكرت على جماعة من الإسلاميين التائهين برود مشاعرهم عندما ظلمت الكويت، وأهين أهلوها واستبيحوا، كان يجب أن يكونوا أحد الناس صراخا فى وجه الظالم، وأشد الناس مساندة للمظلوم حتى يذهب عنه ما حل به. وفى عصرنا هذا وضعت مواثيق حقوق الإنسان، وضمنت كرامات الدول كبراها وصغراها، ويؤسفنا أن هذا كله ارتكز على مهاد من الفطرة الإنسانية التى تحسن الحسن وتقبح القبيح دون عناء أو تكلف، وتركت الأديان جانبا، لأن فريقا من حملتها لا يبالى بفقدان الحقوق الخاصة والعامة إذا اطمأن إلى مصير عقائده وعباداته!!. وقد كان الإسلام أول ما ظهر سنادا للفطرة السليمة ومصدقا لإيحاءاتها ومطالبها.. فقرر إقامة العدل، وإن اختلفت الأديان، وبرأ يهوديا مظلوما، وأدان مسلما متهما، وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). ص _049(6/44)
فماذا حدث حتى رأينا من يدعى الإسلام، ولا يبالى بعدالة فردية أو اجتماعية أو سياسية؟ أتغنى عنه همهمة لسان بكلمات؟ أو انقباض الجسم وانبساطه بأعمال الصلوات. الحق أن سقوط الدولة الإسلامية كانت من ورائه هذه الآفات، ولقد رأيت سيرة السلطان سليم الأول فاتح مصر: فرأيت رجلا متعطشا لسفك الدم، لم يبال أن يفتك قائد جيشه فى أمر من أوامره الطائشة، ولما فتح مصر نكل بعلمائها ورجالاتها، وجعل القاهرة خرابا، فأي دين هذا؟. وفى عصرنا استباح صدام حسين دولة الكويت، واقترف فيها المآسى، ثم رأينا منتسبين للدعوة الإسلامية يحسبونه من المجاهدين للاستعمار العالمى! كيف يصح فى الأذهان هذا الهذيان؟ أريد من المنتمين للدولة الإسلامية أن يصححوا معرفتهم، وأن يصلحوا طواياهم، وأن ينصفوا الصديق والعدو، وأن يرتفعوا إلى مستوى الإسلام، وإلا فستظل أيديهم عاطلة من أسباب السلطة، وسيمنحها الله قوما آخرين، ينظرون فيفقهون، ، يحكمون فينصفون، ألم يقل ابن تيمية: " إن الله ينصر الكافر العادل على المسلم الجائر "؟ * * * ص _050(6/45)
تهويل التوافه وتهوين العظائم المعروف من كتاب الله وسنة رسوله أن الإسلام عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع، وأنه من التقاء هذه الأنواع الأربعة تتكون تقاليد ومعالم لمجتمع كامل وجماعة قائمة.. وليس يغنى فرض عن فرض ولا نافلة عن نافلة، فكل تكليف له سره وله أثره، ومجموعة التعاليم كمجموعة الحواس الإنسانية لكل حاسة ضرورتها ووظيفتها والأمر كما قال ابن الرومى: هل السمع بعد العين يغنى مكانها أو العين بعد السمع تهدى كما يهدى ولكن عاطفة التدين عند أصحابها قد تصاب بأمراض مهلكة، تتورم فيها بعض التعاليم وينكمش بعض آخر!. ويغلب أن يكون ما تورم من الفروع القريبة أو البعيدة، فيتضخم ليأخذ حيزا ليس له، كما يغلب أن يكون ما انكمش من الأصول المهمة فتكون دحرجته عن مكانته إضاعة للباب الدين وأساس النجاة... رأيت بعض الطلبة والعمال يتواصون بعدم تحية العلم، ويزعمون أن تحيته شرك، كما أفتى بعضهم بأن الموسيقى العسكرية ضد الإسلام، وهؤلاء وأولئك يعملون تحت عنوان " السلفية "، والسلفية فوق ما يزعمون!. قلت لأحدهم: إن العلم رمز لمعنى كبير، وهذا ما جعل جعفر بن أبى طالب فى معركة مؤته يقاتل دون سقوطه، وتنقطع ذراعاه وهو يحمله ويحتضنه، ولم يزعم مغفل أن جعفرا كان يعبد الراية المنصوبة، ولا يتصور فى عاقل أن يعبد مترا من قماش. ثم إن الموسيقى العسكرية تضبط الخطوات، وتهيج المشاعر، وتعين على أداء الواجب فلا مكان لخصومتها!!. ص _051(6/46)
إنكم مولعون بتضخيم أشياء، وتهوين أشياء دون ميزان يحقق العدل، هل صورة التدين المكتمل الجدير بالاحترام جلباب قصير ولحية كثة؟ هذه ظواهر وأشكال، فأين أركان الدين من خلق وطاعة وجهاد؟ المأساة أن من تورمت لديه بعض المراسم ذهل عن الحقيقة الكبرى، وتمحص لمقاتلة الأخرين على التوافه، ولم تتماسك فى ذهنه صورة سليمة، أو حكم رشيد. وقد ظهر أثر ذلك الفقه الضحل فى محنة الكويت وفتنة الخلية كبيرة فإن الذين حسبوا التدين تكبير بعض الأمور التوافه تحركوا بقوة مستغربة لمناصرة العدوان العراقى، واتهام القوى العربية التى تصدت له. كأن مستقبل الإسلام المستوحش منوط بانتصار " ميشيل عفلق " و " طارق حنا عزيز " وعلمانية البعث العربي. إن الدين الحق وعى صحيح بجملة العقائد والعبادات والأخلاق والشرائع، وارتسام صورها فى نطاق النسب التى تقررت من عند الله لها، فلا تشمل العين الخد، ولا تضرب الأذن الكتفين !! لكل عبادة مكانها ومكانتها (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب). والغرور بالجهل لا يغير حقائق الأشياء، ولا يعترض مجرى الأقدار. * * * ص _052(6/47)
تعطيل الحدود ظلم للمجتمع لست جبارا أرصد العثرات لأجعل أصحابها نكالا، إننى امرؤ أشعر بضعفى وضعف الناس أمثالى، وأجثو أمام ربى أسأله السلامة من كل إثم، والقدرة على السداد والاستقامة. إن قصة أبينا آدم خطأ وتوبة، وفى تجاربى مع القدر الأعلى أن الله يستر كثيرا، ويمنح عباده فرصا عديدة، كى يصلحوا شأنهم، ويقوموا عوجهم، ويوثقوا به علائقهم.. ولن يهلك مع هذا الحلم إلا شقى لا عذر له، ظن الصبر الإلهي إهمالا فمضى يتعسف الطريق حتى لقيته وهدة لم يقم منها (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). ومن هنا فأنا أنقم أشد النقمة على من يقترفون جرائمهم فى وضح النهار، وباقتدار وتبجح، وتزداد النقمة عندما يكون هذا العدوان وليد قوى متعاونة، وخططا مرسومة ومبعث إصرار عتيد. والأشخاص الذين يدبرون جرائم الاغتصاب، ويستغلون قواهم فى ختل امرأة ضعيفة ويشبعون نهمتهم من افتراسها وهم آمنون، هؤلاء إذا كشفا الله عنهم ستره فيجب ألا تأخذنا بهم رحمة، وأن نوقع بهم عذابا يلقى الرعب فى قلوب أشباههم من السفلة العادين. إن الأنبياء يرحمون المخطئ الذى عمى لحظة فهوى، فلما استيقظ كاد يموت من الغم بل ربما طلب الموت راحة من عذاب الضمير!! وقع ذلك فى حياة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وفى حياة عيسىا بن مريم. ص _053(6/48)
ولكن الأمر يتغير عندما نواجه متبجحين بالمنكر، جرآء على المعصية، موغلين فى الفساد.. إن تطهير الأرض من هؤلاء حتم، فهم جراثيم خطرة تحول الخطأ إلى خطيئة، ولا تبالى بعوج الغرائز وأمراض القلوب، وأغراها بذلك علماء أهل الكتاب الذين أماتوا أحكام الله، ويسروا للناس سبيل الانحراف. وقد حاول اليهود قديما تعطيل حد الرجم ـ مع وجوده فى كتبهم ـ حتى أكرههم النبى على إيقاعه، ومع أن حد الزنى تقوم دونه عوائق شتى رحمة من الله بالعباد، فإنه إذا زالت العوائق ووجب الحد، لم تأخذنا رأفة بمجرم، فكيف إذا كان الزنى اغتصابا، وفتكا بمستضعف برئ ؟؟. أعتقد أنه لابد من مراجعة قوانين العقوبات فى هذه القضايا ومحو السخيف منها، فإن بعض هذه القوانين وضعها ديوث يقبل الريبة فى بيته وفى بيوت المؤمنين والمؤمنات...! ماذا لو قتلنا مغتصب عرض؟ ما معنى العطف عليه بعدما فضحه الله، وثبتت عليه جريمته؟. يجب أن نعود إلى شريعتنا فى استئصال الفساد وحماية الأمة؟ أكتب ذلك بعد ما قرأت هذا الخبر: " قضت محكمة جنايات الجيزة بالأشغال الشاقة المؤبدة على ثلاثة من سائقى السيارات استدرجوا فتاة إلى مكان موحش واغتصبوها ". قلت فى نفسى: ماذا تكسب الحياة من بقاء هؤلاء أحياء؟ إنهم نزلوا ضيوفا على السجن، تعلفهم الدولة من أموال دافعى الضرائب! إن قتلهم بصفتهم قطاع طريق ومقترفى الزنى أفضل للمجتمع وأنفى للجرائم، وأشفى لأفئدة المظلومين. إنه القانون الوضعى الذى نقلناه عن أوربا لنشقى به، أو ألزمتنا به أوربا حتى لا نفيق من دوار، ولا نطهر من عار. * * * ص _054(6/49)
شياطين الشائعات في الجزائر قضيت فى الجزائر بضع سنين من أخصب أيام العمر خدمة للإسلام ورسالته، وقد راقبت عن كثب مؤامرات شتى تحاول النيل من ديننا وأمتنا، وتبذل جهودا حثيثة خبيثة لتضليل مسعى المسلمين وإظلام مستقبلهم. وماذا نقول فى قرار يصدر بإلغاء التعليم الدينى وحل الوزارة المشرفة عليه وهى وزارة التعليم الأصلى؟.. إن الأوضاع التى أملت بهذا القرار كانت تخطط لضربات أشد تقصم ظهر الإسلام، فلا تقوم له قائمة!!.. حتى جاء الشاذلى بن جديد، وأصدر قرارا بإنشاء جامعة إسلامية، هيأ لها موارد ثرة من طلاب التعليم الثانوى، ثم قامت الجامعة فى وجه عواصف عاتية، وكتب الله لها البقاء. ونظر الشاذلى بن جديد إلى التيار اليسارى المعربد هنا وهناك باسم الاشتراكية، فتجهم له، وشرع يهيئ البلاد للاقتصاد الحر ويهيئ دروبها لاستقبال منهاج أجدى وأسد، وقد تحمل فى سبيل ذلك عنتا بالغا، وعانى المر وهو يرفع الأنقاض، ويمهد الأرض. وكان الاستعمار العالمى قد أوعز إلى أصدقائه فى أرجاء الأمة العربية ألا يسمحوا بتكوين حزب دينى، ولكن الرجل المؤمن تساءل: لماذا يسمح بتكوين حزب شيوعى، ولا يسمح بتكوين حزب إسلامى؟ ثم أعطى إشارة خضراء للإسلاميين فتكونوا، وصاروا حزبا، إنه الحزب الوحيد فى المغرب الكبير!!. ووقع ما كنت أحذره، فإن الماكرين بالجزائر وبالأمة الإسلامية عامة سارعوا إلى إيغار الصدور، ونشر الأكاذيب وتمزيق الصفوف، فإذا مسلحون يظهرون فى مواقع مريبة، ويندسون بين الجماهير يطلقون الرصاص على رجال الأمن، ويوقعون بين الشاذلى بن جديد وشعبه !!. ص _055(6/50)
وينشرون دعايات وأكاذيب، ما أنزل الله بها من سلطان، ويزعمون أن الرجل خصم للإسلام!!. تذكرت حديث مسلم فى ذلك: " إن الشيطان ليتمثل فى صورة الرجل، فيأتى القوم فيحدثهم الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أعرف اسمه يحدث كذا وكذا " وهكذا تنتشر الشائعات، وفى حديث آخر لمسلم: "يكون فى آخر أمتى أناس دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم ". فإذا استأجر الاستعمار جزائريا ليطعن فى شرف المصريات فاعلموا أنه شيطان يفترى، والشعب الجزائرى برئ منه. إن الجهود دائبة فى هذه الأيام لتمزيق الشمل الإسلامى، وبعث مشاعر فتنة بإيغار الصدور، وحفر فجوات بين الشعوب. فلنصم آذاننا عن هذا اللغو، وأنا أهيب بالإسلاميين فى الجزائر ومصر وغيرهما من الشعوب أن يفتحوا أبصارهم بقوة ليضربوا على أيدى الكذبة الفجرة، إن الاستعمار راغب فى جعل المسلمين أمة يأكل بعضها بعضا، ويلعن بعضها بعضا، فليكن المسلمون أيقاظا لرد هذا البلاء وإحباط هذا المكر. * * * ص _056(6/51)
مازلنا نياما تحت العلل ألقيت كلمتى فى المجلس الحاشد، وانتظرت سماع السائلين فيما أثرت من قضايا، وتوقعت أن تكون حول فتنة الخليج، فإن الكلمة كانت فى إحدى مدن الخليج، والأحداث الأليمة لما تزل شديدة الإيجاع، والآثار التى خلفتها تجاوزت المشاركين فيها إلى جماهير المسلمين فى كل مكان. ولكن السؤال الذى فاجأنى كان من واد آخر، والعدد الذى تقدم به كان كبيرا من الصعب تجاهله!. قال السائلون: هل الأرواح تعرف ما نحن فيه؟ وهل الموتى من أهلينا وأحبابنا يرقبون أعمالنا ويستغفرون لأخطائنا؟.. وتريثت فى الإجابة كارها السؤال وأصحابه، إن القوم مشغولون بما وراء المادة لا بالمادة نفسها، مشغولون بعالم الغيب لا بعالم الشهادة، لقد فرغوا من قضايا الحس، وبقى أن يعرفوا قضايا أخرى..!! قلت ملتويا بهم: إذا كان الاستغفار للذنوب يهمّكم فإن الملائكة- كما خبرنا القرآن- تستغفر لكم (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) بل إن الأمر أوسع فالملأ الأعلى ينظرون إلى سكان هذا الكوكب المنحوس وما يقترفون من خطايا، فيرجون الرحمن أن يعفو (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض). فقال السائلون: نعرف هذا ولا نسأل عنه، إننا نسأل عن نبينا والصالحين من أمتنا وأهلينا الأقربين الطيبين، هل هم أحياء يعرفون أحوالنا، ويشغلون بأمورنا ويدعون لنا؟ ورأيتنى محاصرا بالسؤال الكريه، فقلت: أما أنهم أحياء فلا ريب فى ذلك! ولكنهم أحياء عند ربهم، وأما أنهم مشغولون بنا فهم مشغولون بما قدموا وأخروا (كل امريء بما كسب رهين). ص _057(6/52)
والبشر فى الدنيا ما كانوا يعلمون الغيب، فلن يطلعوا عليه، بعد مماتهم، ولن يعرفوا مصائر الآخرين إلا بعد أن ينتقلوا من هذه الدار إليهم، وخير لكم ـ معشر المسلمين ـ أن تصلحوا أنفسكم، وأن تقبلوا على شئونكم توجهونها إلى مرضاة ربكم بدل هذا البحث فيما لا يغنى. وهنا قام شيخ بدين شديد الثقة بنفسه يقول: بل الأرواح تعرف ما نحن فيه، وترقبنا فى عليائها، وأول هذه الأرواح الرسول الأعظم يقول: " حياتى خير لكم، ومماتى خير لكم، تعرض على أعمالكم فما وجدت من شر استغفرت الله لكم " وفى كتاب الروح لابن القيم أدلة كثيرة على ما أقول. ووجدتنى مرة أخرى قد استدرجت إلى جدل عقيم من النوع الذى أبغضه، ولكن لابد من الإيضاح، فقلت للشيخ المعترض: لقد جاء فى الصحاح " أن ناسا من أصحاب رسول الله قريبين منه يسحبون بعيدا عنه ـ يوم الحساب ـ فيقول : أصحابى أصحابى أين تذهبون بأصحابى؟ فيقال له: أنت لا تدرى ما أحدثوا بعدك " فهذا نص على أنه لا يعرف حال أقرب الناس منه، وحديثك الذى ذكرته لا يساوى شيئا، وكتاب الروح لابن القيم إن صحت نسبته إليه فهو كتاب رؤى وحكايات لا يؤخذ منه حكم دينى. وحدث الضجيج الذى كنت أخافه، فإن الشيخ وزمرته كرهوا مقالتى، وما ساءنى أن يكرهوا قولى، ولكن الذى ساءنى أن يكون الناس فى واد، ونكون نحن فى واد آخر، نتجادل فى أمور لا خير فيها ولا طائل تحتها، ثم ننقسم حولها متخاصمين فى وقت قرر فيه أعداء الإسلام أن يجهزوا عليه وعلى أمته. لقد كان فى الأحداث الهائلة التى مرت بنا ما يوقظ النيام، ويزعج أولى الغفلة، ولكن العلل القديمة لا تزال تفتك بنا، وتضرب بعضنا ببعض، وتجعل البعض يقاتل من أجل عدم أخذ شىء من شعر اللحية، وينسى الدواهى التى تزلزل البلاد والعباد. * * * ص _058(6/53)
لن يفل الحديد إلا الحديد قالت إسرائيل لهيئة الأمم: لا تتدخلى فى النزاع القائم بينى وبين العرب، فلا مكان لك فيه، وخرست هيئة الأمم وجمدت حركتها، فلم يسمع لها قول، ولم تظهر منها فعل.. إنها منذ أسابيع قليلة كانت قاضيا مهيبا جريئا.. تتحرك قواها فى البر والبحر والجو لتأديب العراق لما بغى.. فماذا حدث حتى أمسى اللص اليهودى يأمر ويزجر، ويعد ويتوعد؟ وما الذى جعل الهيئة الكبيرة تتراجع مخذولة مرذولة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا..؟ المعروف أن إسرائيل صنعتها هيئة الأمم المتحدة، هى التى جعلت من العصابات دولة، وخلقت من العدم كيانا سياسيا فرضته على الصعيد الدولى، وألزمت الأعضاء بالاعتراف به. وها قد شب الوليد عن الطوق، وملك من الأسلحة ما هدد القريب والبعيد، وقرر أن يتوسع، ويشبع أطماعه، فإذا خاطبته الهيئة على استحياء: حنانيك! بعض الشر أهون من بعض، قال لها: اسكتى لا دخل لك فى علاقتى بالعرب دولا وشعوبا. والعرب جديرون بما يقع لهم؟ لأنهم ـ حتى هذه الساعة ـ لا يعرفون أثر الدين فيما جرى ويجرى، إنهم سلخوا العروبة عن الإسلام، وقرروا أن يعيشوا عرايا، فى الوقت الذى كان كل ذى قومية يؤخرها عن الدين، ويلبى نداء الدين قبل أن يلبى نداءها.. ! إن عملية " النبى سليمان " التى نقلت يهود الحبشة إلى إسرائيل، شارك فيها البيض باسم الدين اليهودى، وأعانت فيها أمريكا تلبية لنداء الكتاب المقدس، وكان من الخوارق نقل عشرين ألف يهودى فى عشرين ساعة فقط. وكان من احترام حقوق الإنسان أن يسمح لليهود الروس بالقدوم إلى فلسطين، فى الوقت الذى يرمى فيه العرب خارج أرضهم، ويتم نسف دورهم !!. ص _059(6/54)
إن الأحقاد الدينية تعمل عملها فى السر والعلن، ولا يزال العرب يتحرجون من الانتماء الإسلامى. ما شعر " أللنبى " بذرة خجل عندما دخل القدس وهو يقول: " الآن انتهت الحروب الصليبية " وما شعر " جيرو " بأقل حياء وهو يقول عندما دخل دمشق أمام قبر صلاح الدين: " ها قد عدنا يا صلاح الدين ". إن قادة أوربا وأمريكا لا يستهينون بروابط الدين أو إيحاءاته السياسية، إذا استهانوا بروابطه العبادية والشخصية.. وهم لم يقاتلوا اليهود أبدأ من أجلنا. ونصيحتى للعرب أن يخرجوا من الهاوية التى تردوا فيها، ويعودوا إلى الإسلام، قبل أن تتحول هذه الهاوية إلى مقبرة تخمد أنفاسهم، وتوارى رفاتهم.. أو قبل أن يذهب الله بهم، ويأتى بغيرهم، كما قال: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). عندما كان الدين رباطا بين المسلمين رفض الترك أن يبيعوا فلسطين، وعندما نشأت القومية الطورانية والقومية العربية ضاعت فلسطين، وكان الترك بين من اعترفوا بإسرائيل. وإذا بقيت مكانة الدين ثانوية مهملة، فإن إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل سوف تتحقق، لن يقاوم الدين إلا دين، ولا يفل الحديد إلا الحديد. * * * ص _060(6/55)
ماذا نعرف عن إخوان العقيدة؟ كنت كغيرى من الناس أحسب أن الإسلام لم يكن له وجود بأقطار البلقان، حتى قدم به الترك وهم يغزون هذه الأرض الواسعة بعدما استولوا على القسطنطينية أواخر القرن الخامس عشر الميلادى. بيد أن هذا الظن تبدد كله بعدما سمعت المحاضرة التى ألقاها الدكتور " باليتش " خبير الشئون الإسلامية بالنمسا، فقد أثبت الرجل بما لا يدع مجالا لشك أن المسلمين وفدوا على هذه البلاد خلال القرون الثلاثة أو الأربعة السابقة للفتح التركى، وأنهم كانوا معروفين بدينهم الجديد، وأنهم بنوا لهم قرى يعيشون فيها، ويقيمون شعائرهم الدينية، وأنهم ـ إلى جانب أعمالهم فى الدولة ـ كانت لهم حرف شتى، فهم يفلحون الأرض ويربون الحيوان. وذكر الدكتور " إسماعيل باليتش " أمرا آخر جديرا بالنظر العميق، قال: " إنهم في سبيل الدفاع عن أنفسهم وعقائدهم بنوا أسوارا عالية على ثلاثين قرية كانوا يسكنونها، حتى يأمنوا الاغتيال والفتك! ومع ذلك فإن المستضعفين منهم تم تنصيرهم كرها.. وبقى الأخذ والرد، والهجوم والدفاع حتى جاء الزحف التركى فأنهى هذا النزاع ". أى أن القتال فى البلقان كان شبيها بالقتال فى الحجاز والشام بين عرب يحملون راية الإسلام، ورومانيين مستعمرين قدموا من وراء الحدود للسلب والنهب والفتنة المسلحة المتبجحة. ومع ذلك فإن بعض الناس يصف الرومان الهاجمين على مؤتة وتبوك بأنهم مدافعون عن الشرعية الدولية، وأن المسلمين الذين يرون تحرير بلادهم والعيش بدينهم معتدون ملومون!. يقول المؤرخ الدكتور باليتش: إن الزعم بأن الترك حملوا الإسلام إلى دول البلقان ص _061(6/56)
ليس له أى سند من تاريخ، وأنه خلال القرن التاسع عندما نزل الهنغار سهل "بانونيا " ظهرت جماعات بدوية آسيوية كانت تعتنق الإسلام، ويقول: إن المسلمين الهنغار لم يكونوا جميعا مرتزقة ـ كما وصفتهم بعض الروايات ـ فقد أدار بعضهم مصلحة الجمارك الملكية، واشتغل آخرون فى سك النقود أو فى تسويق الملح، كما أنه لابد أن يكون آخرون قد اشتغلوا بالزراعة وتربية الحيوان.. وقد ارتبطت جماعاتهم بالأمة الإسلامية الكبيرة، ذكر المؤرخ العربى ياقوت أنه تحدث مع طلاب مسلمين هنغاريين فى مدينة حلب. وقبله فى القرن الثانى عشر وصل العالم الأندلسي " أبو حامد الغرناطى " إلى البلقان وظل عامين يلقى دروسه فى هنغاريا.. !! لقد سمعت المحاضرة القيمة القوية، وغلبتنى حيرة شديدة وأنا أسأل نفسى: هل نعرف تاريخ ديننا؟ وكان الجواب المر المزعج: إننا لا نعرف إخوان العقيدة فى العصر الحاضر، إننا نجهل أقطارهم وأحوالهم، فكيف نعرف من مضى من الصالحين والشهداء؟ على المسلمين المشغولين بسفاسف الأمور أن يستحيوا من الله فى فهمهم للإسلام بقضاياه. لقد أحزننى ما قرأت من أن بعض مجاهدى هذا الزمان يتجمعون صفوفا حول منبر عال فيمحون ما زاد على ثلاث درجات، ويستريحون بعدما حقق المنشار السنة النبوية . يحسبون أنهم بهذه المهزلة قد أقاموا الملة ونصروا الدين، فذكرت قول أبى الطيب: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم والجنون فنون.. وللتدين الكاذب مجون وفتون. * * * ص _062(6/57)
من يتصدى لجيش التنصير؟ تهب على إفريقية السوداء، رياح فتنة عاتية؛ تبغى زحزحتها عن عقائدها؛ ودحرجة الإسلام عن منزلته الأولى إلى الثانية؟ أو ما وراء ذلك حتى يتلاشى. ومعروف أن التبشير العالمى وقت نهاية هذا القرن لبلوغ غايته، وأن جيشه الهاجم استطاع التغلغل فى أقطار بيضاء؛ بعدما اجتاح الجنوب والوسط. والمعروف أنه لا توجد تقريبا قوى مدافعة، فليست للأزهر بعثات تقاوم، وكذلك رابطة العالم الإسلامى، والأهالى متروكون لأنفسهم، وكانت هناك جمعية للدعوة إلى الإسلام تعمل فى جنوب السودان، توقفت عن وظيفتها فى أثناء حرب الخليج. وعلى جماهير المسلمين المعزولين أن يعتمدوا على فطرتهم السليمة وقواهم الكليلة فى مدافعة العدو الزاحف..!! وقرأنا أخيرا أن عدد المشتغلين بالتنصير بلغ (104000) موظف، وأن المعاهد التابعة للكنائس بلغت (20000) معهد، والجامعات الخاضعة لها (500) جامعة، ومدارس اللاهوت التى تخرج المنصرين الأفارقة (490) مدرسة؛ والمدارس ورياض الأطفال التى تشرف عليها الكنائس (10677) مدرسة، وبينت إحصاءات منظمة الدعوة الإسلامية أن المستشفيات التى تملكها الكنيسة (10600) مستشفى، ودور إيواء العجزة والأرامل والأيتام (680) دارا؛ وعدد الطلاب المسلمين الذين يدرسون فى مدارس الكنيسة ستة ملايين طالب، وعدد الصيدليات التى تملكها (10050) صيدلية، والمحطات الإذاعية أربع عشرة محطة. هذا وصف موجز للجيش الذى يعمل الآن لنحت الإسلام؛ وتعرية أصوله وفروعه، وفض مجامعه واقتلاع أسسه؟ وعلى من يقاوم هذا الجيش ألا ينتظر عونا من أحد، فلدى الأمة الكبيرة من الأزمات والآلام ما يشغلها عن نصرة مستضعف، أو مواساة محروم.. قال لى صديق: إذا أفلح أولئك المبشرون فى تنصير الوثنيين فقد قاموا بعمل حسن، قلت له: أنت لا تدرى المآسي التى تعانى منها هيئات التبشير، ص _063(6/58)
والانهيارات الأخلاقية التى تشيع فيها !! ألا تقرأ فى الصحف كيف انتشر الإيدز فى إفريقية حتى أصبح وباء يهدد كيانها؟ إن هذه البلاد المنكوبة سبقت ـ فى استفحال العلة ـ البلاد التى هاجر منها الإيدز؟ فأربت عليها فى الفساد مع فقدان الأدوية ومخففات العلة. اسمع هذا الخبر: نشرت جريدة صحيفة الوفد فى 9/ 7/1991م " من المتوقع أن تناقش الكنيسة الأسقفية ـ أكبر طوائف الكنيسة البروتستانتية ـ الأمريكية هذا الأسبوع مبدأ القساوسة الشواذ جنسيا؛ ومباركة الكنيسة لزواج شخصين من نفس الجنس!!.. أكد تقرير للكنيسة أن وجود الشواذ والشاذات فى سلك الكهنوت لم يعد سرا؛ وأن الكنيسة لا يمكن أن تدافع عن حقوق الشواذ والشاذات فى المجتمع عموما! إذا كانت تحرم العاملين فى سلك الكهنوت هذه الحقوق نفسها ". إن المدنية الحديثة علمانية الفكر والسيرة؛ وصلتها بالله منقطعة؛ وتفكيرها في الآخرة صفر، وقد نضح ذلك على الدين فى أوربا وأمريكا، فهو لا يقدم للناس زادا روحانيا هم بحاجة إليه! كلا إنه تحول إلى خادم للاستعمار الغربى، وتحول رجاله إلى أمساخ من الخلق تشرب الخمر وتقترف الزنا، وأهم ما يقدمه لسادته توهين قوى الإسلام والعمل على إهانة حاضره، وإظلام مستقبله. على هذا النحو يعيش، ولتلك الغاية ينطلق، فهل نصحو نحن؟ * * * ص _064(6/59)
حقائق سبع 1- تكتنف الإسلام أخطار مميتة، فالمسجد الأقصى فى براثن اليهود والحملات الصليبية تسعى لجعل الإسلام دينا ثانويا فى إفريقية وآسيا، وهى الآن تقلص مساحة أرضه وأعداد المنتمين إليه، وقد قطعت شوطا بعيدا إلى غايتها، والمسلمون فى غيبوبة مع أن الأمر يتصل بوجودنا: أنكون أو لا نكون؟ 2- امتزجت القومية بالدين فى إسرائيل، وفى جملة الدول التى تؤيدها، أما فى العالم الإسلامى فالجهود مبذولة على الصعيدين الرسمى والشعبى لفصل القومية عن الدين، وربط الولاء الإسلامى بأوهام شتى تحت ستار العلمانية والديموقراطية و غيرهما. 3– الجماعات العاملة فى الحقل الإسلامى غارقة فى الخلافات الفرعية والمجادلات المذهبية، ناسية أن التجمع ضدها كلها قد تم لمحو الإسلام عقيدة وشريعة، والإجهاز على تاريخه القديم والحديث، وأنه لا يجوز أن يرتفع صوت يشغل عن هذه المعركة المصيرية. 4- التخلف الإسلامى فى المجال الصناعى والحضارى واضح، والذهول عن عقباه، طريق الموت، ويجب توجيه الأجيال الجديدة إلى نهضة تقطع مسافة التخلف على عجل، وإلا فالهلاك محقق. 5- الإسلام دين عقائد وأخلاق وتقاليد ذكية صارمة، وقد تآمرت ظروف كثيرة على توهين العقائد، وتخريب الأخلاق والتقاليد، حتى أمست الأمة الإسلامية ملتقى لمفاسد مهلكة، وتأخرت فى ميادين لا حصر لها، ويقتضى هذا اتجاه الجهود لإصلاح الأمة أولا قبل الاشتباك مع النظم الحاكمة، وإثارة فتنة ضرها أكبر من نفعها . ص _065(6/60)
6- مع أن المسلمين يملكون ثروات لا يملكها غيرهم، فإن فقرهم ظاهر، والتفاوت بين طبقاتهم شديد، والفتوق الواقعة بين الشعوب الإسلامية تتسع، وقد عالج الإسلام كل هذه القضايا، من ناحيتى الإنتاج والتوزيع، ولكن المسلمين غافلون. 7- أستطيع القول بأن شغل المسلمين بأمور أخرى من فقه المذاهب، أو من هوى الأتباع، أو من طلب الرياسة هو خيانة مخوفة الأثر فى هذه الأيام العصيبة، والواجب تجميع الأمة كلها لتواجه مستقبلها، وتكوين رأى عام واسع يوقظ الهمم إلى هذه الحقائق السبع، ويلف حولها الجماهير. إن أعداء الإسلام أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، ويعلم الله ما بأنفسهم من سوء وشرور، مهما رددوا من كلمات معسولة... من كان يسألنى عن أصل دينهم فإن دينهم أن يقتل العرب وليس وراء العرب متسع للغو أو تريث، هذا أو أن يثوب الطائش، ويجد الكسول، ويعظم أمر الله من يستهين بأمره، وإذا كانت المعركة اليوم هى معركة الإسلام، فلا يجوز أن يرتفع صوت فوق صوتها، ولا أن يبذل جهدا إلا لكسبها.. والله ولى التوفيق. * * * ص _066(6/61)
سقوط جديد فى الأندلس أصابنى شيء من الفزع عندما علمت أن مؤتمر السلام بين العرب واليهود سوف ينعقد فى" مدريد " أو " مجريط " كما ينطقها عرب الأندلس، فقد هجمت على ذكريات.. أى ذكريات.. إن هذه الأرض شهدت مصارع آبائى، وغروب حضارتهم! كانوا حقيقة جاثمة على الثرى عرضا وطولا، فأضحوا كما قيل: كان صرحا من خيال فهوى!.. واليوم يقاد الأحفاد إلى أرض الأجداد، ليحاكموا بالتهمة نفسها التى حوكم بها آباؤهم، وأدركت سوء العقبى فقلت كما قال موسى لربه، لما هلك قبيل من قومه: (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين). وتذكرت أطفال الانتفاضة الذين يقاومون بالراح أعتى أسلحة العصر، والقائد المشلول الذى هزم المرض فى بدنه، وقاد إخوانه فى معركة الشرف، وألوفا من الرجال والنساء يستميتون فى حماية ما تبقى من الوطن المقطع! وقلت: يا رب لا تؤاخذنا بما فعل أكابر مجرميها، وارحم أجيالا لا تزال تسبح بحمدك، وتتعلق بعونك. إن الأندلس ـ وهو فردوسنا المفقود ـ كان طرفا فى كيان أمتنا لم تنزف كثيرا عندما بتر منها! أما فلسطين فهى كبد الأمة المعنّاة، إن لم تكن قلبها، وضياعها يعنى الإتيان عليها من القواعد! لكن سنن الله فى عباده صارمة، ولا يجوز لعاقل أن يتعرض لها، ثم يشكو أنها داسته فحال هشيما، وأضحى رميما!. ماذا فعل العرب بأنفسهم؟ ألم يقلدوا أفعال آبائهم الذين مزقوا الإسلام فمزق الله ص _067(6/62)
ملكهم؟ لقد كان عرب الأندلس يوما ما مصابيح تضئ بعلوم الدين والدنيا، ولم يعرف غرب أوربا حضارة إلا من تراثنا، ولم يعرف عصر الإحياء الأوربى كيف يخطو إلا متكئا علينا ومستهديا بما قدمنا.. ئم اختلف العرب وعاد الصراع بين اليمن والحجاز، وعدنان وقحطان، ونسيت الخلوف التائهة أن الإسلام طهرها من هذا النتن، بيد أن الأهواء كانت أضرى، فمزقت الأمة الواحدة، وقبل أن تسقط غرناطة ـ آخر معاقلنا ـ كانت الخمور تشرب، والموسيقى تصدح، والقيان تغنى، والشذوذ يسرى! فقال القدر كلمته: لقد جئتم هنا بسم الله، ! وتحت صيحة (الله أكبر) واستبقيتم للطاعة والمعرفة والنور والقيم الرفيعة، أما وقد ارتددتم على أعقابكم فلتذهبوا إلى الجحيم. والغريب أن عرب اليوم الكئيب يقومون بالدور نفسه.. يقول اليهود: هذه الأرض لنا باسم التوراة، فلا يجرؤ زعماء العرب أن يجروا على ألسنتهم ذكر القرآن!! إن الانتماء الإسلامى محظور أو محقور !! ومع الإطار الحالك المحيط بقضايا العرب، ترى رغبات مجنونة فى الضحك والمرح كأنهم لا يقادون إلى الذبح، فمتى إذن تعودون إلى الجد واليقين والكدح والإنتاج؟، وعندما قيل: الحكم للشعوب، هذا عصر الديموقراطية يتكون فى الجزائر قرابة أربعين حزبا يسعى إلى الحكم!! إن الأمريكان والإنجليز يكتفون بحزبين أو ثلاثة، أما نحن فجنون العظمة يجمح بنا يمنة ويسرة، فنعمى حتما عن الطريق ونبقى فى مكاننا، بل نتقهقر إلى الوراء.. يا عرب العصر الحاضر، إنكم تجتمعون الآن مع خصومكم فى الساحة التى شهدت عقاب آبائكم.. وأمامكم فرصة أخيرة للنجاة.. إن قبلتم الاستسلام هلكتم إلى الأبد، وإن ثبتم إلى رشدكم، وتبتم إلى ربكم، واعتززتم بدينكم أمكن أن يبدأ لكم تاريخ جديد، يديل الله لكن فيه من إخوان القرود، ويغسل أرضكم من دنس الاحتلال، وتبقى فلسطين كلها ـ لا جزء منها ـ للعرب، ويبقى المسجد الأقصى ثالث المساجد بعد الحرمين، وإلا فالويل للمفرطين والمرتدين. *(6/63)
* * ص _068
صيحات الصلح .. سراب الحركة اليهودية الحديثة تعلن منذ بدأت أنها تصل ما انقطع من تاريخ اليهود، أو تنطلق من حيث توقف السابقون، وأنها تريد العودة ببني إسرائيل إلى أرض الآباء والأجداد، ليبنوا هيكل سليمان مرة أخرى، ويستأنفوا رسالة جنسهم قافزين على نحو عشرين قرنا من التوقف والشتات!!.. أو بتعبير العهد القديم " سأقيم مظلة داود التى سقطت " .. وسيصحو اليهود بعد رقاد طويل ليعيشوا فى ظلال التوراة مرة أخرى.. أما المدعو "عيسى" أو المدعو "محمد " فليس لتراثهما وزن، ولا لأتباعهما خطر!! سيخضعون طوعا أو كرها لبنى إسرائيل، بعد أن تقوم دولتهم، ويرتفع لواؤها.. وقد نشط اليهود لبلوغ هدفهم، وهم اليوم على مسافة خطوات منه، أعانهم على ذلك أن المسلمين فى أسوأ أيامهم، وأن العرب ـ الذين تلقوا الضربة الأولى ـ يؤثرون قوميتهم على عقيدتهم، وأن الأوروبيين والأمريكيين مشغولون بأنفسهم ومستوياتهم العمرانية، وأنهم لا يعرفون عن عيسى شيئا طائلا، وأن المسيحية تعنى قهر الإسلام، واستضعاف بنيه، وهزيمة قضاياه.. ونسمع اليوم تناديا بسيادة السلام، ونبذ الحروب، حسنا! فما أسس هذا السلام؟ لن يترك اليهود القدس؛ لأن الخطة الموضوعة أن يبنى فيها الهيكل على أنقاض الأقصى، ولن يتوقفوا عن إنشاء المستوطنات لأن الخطة جمع يهود الأرض فى هذه المنطقة التى يدعون ملكيتها، وإذا توقفوا أياما قلائل فللراحة وحسب، ثم يستأنفون البناء، ولن يسمحوا للعرب بوطن مستقل حتى فى جزء من الأرض التى احتلوها، وإذا سمحوا بوجود عربى فتحت رايتهم وسلطانهم، ليشتغل أولئك العرب خدما وعمالا فى بيوتهم وأراضيهم!. إن الغاية الدينية المرسومة لليهود وفق كتبهم ومواريثهم هى " إسرائيل من الفرات إلى النيل " وهم بالسيف حينا وبالاحتيال ماضون فى طريقهم، وقد وضعوا قدما على الأرض، ثم لحقتها الأخرى ثم بدأ السعى الحثيث لإدراك الآمال.. ص _069(6/64)
والحق أن اليهود لو كانوا دون ذكائهم الملحوظ ونشاطهم الموصول لأمكنهم أن يحققوا ما حققوا فوق الأرض العربية، فانتصارهم لا يعود إلى تفوق هائل قدر ما يعود إلى الاضطراب الهائل الذى يسود العرب، والمحن الروحية والخلقية والسياسية التى تعم بلادهم. العرب إلى اليوم لم يصححوا مواقفهم من الإسلام، لا ولاء ولا انتماء، وهم يؤثرون عليه أى شىء آخر.. وإذا كان الولاء لليهودية ظاهرا فى نشأة إسرائيل وفى مدنها وقراها، وفى شئونها المدنية والعسكرية، وفى أعيادها وأحفالها، وفى علاقاتها الدولية والمحلية، فإن العرب لا يكنون لدينهم هذه المشاعر الحارة، وأعنى بالعرب عددا كبيرا من المسئولين فى الميادين الاجتماعية والسياسية، بل إننا عندما أقمنا دورة الألعاب الرياضية جعلنا اسم " حورس " الإله الفرعونى القديم علما على هذه الدورة!! إن قضية فلسطين هى قضية الإسلام !! والمسجد الأقصى ليس أثرا عربيا إنما هو معلم إسلامى يعنى جميع الأجناس التى اعتنقت هذا الدين. والأرض من الفرات إلى النيل هى الامتداد الزمانى والمكانى لجهاد السلف الأول الذى قضى على الامبراطوريات الكسورية والقيصرية، وأقام الحنيفية السمحة فى هذه الأرجاء. وضياع الأقطار الإسلامية من الفرات إلى النيل معناه ضرب الوسط تمهيدا للإجهاز على بقية الأطراف فى الشرق والغرب. إن المؤامرة على الإسلام هائلة، وإذا لم نصح من غفلتنا فستحيق بنا اللعنة.. إن اليهود منذ جاءوا إلى فلسطين أيام الاحتلال البريطانى، لم يفكروا فى صلح، ولم يخطر ببالهم إلا إقامة إسرائيل الكبرى، وقد أعنّاهم على أنفسنا بفرقتنا المؤسفة، وتحول العرب والمسلمين إلى شراذم مهتمة بمأربها الصغرى، مغطاة العين عما يراد بها. أريد أن أقول لمن تخدعهم صيحات الصلح: إننا نؤمل فى سراب، وإن أعداءنا ماضون حسب مخططهم الدينى المعروف. ولن ننجو من أحابيل الخصوم الظاهرين والأخفياء إلا بعودتنا إلى الإسلام فى قوة تعادل أو تزيد على(6/65)
عودة خصومنا إلى مواريثهم، واستمساكهم بدينهم، وحماسهم لمقدساتهم. * * * ص _070
الإسلام وحقوق الإنسان يشتغل بحقوق الإنسان الآن نوعان من الناس: نوع يعتبر نشاطه امتدادا لحلف الفضول الذى شهده النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى صباه، فسره وأثنى عليه وقال: " لو دعيت به في الإسلام لأجبت ".. ونوع آخر من الساسة يتحدثون عنها فى المحافل الدولية حديثا جديرا بالتأمل والتريث، لأنهم يضمنون هذه الحقوق لبعض الناس ويضنون بها على بعض آخر، فلليهود حقوق تصان، وللعرب حقوق تهدر، ويزداد البون بعدا عندما نعرف أن اليهود سالبون والعرب مسلوبون، وأن صيحة حقوق الإنسان هنا غطاء لمظالم فادحة وغبن مركب.. على أن هناك إعلانا عالميا بحقوق الإنسان اعتمدته هيئة الأمم المتحدة، ورأت أنه ذروة الحضارة العالمية التى بلغها عصرنا، وناشدت الحكومات والشعوب أن تقوم به وتحترم مواده كلها، وبين الحين والحين تتهم بعض الدول بأنها خرجت على هذا الميثاق، وتطالب بالعودة إليه، حسنا ، إلى هنا لا اعتراض لنا.. وإنما اعتراضنا على الصلف والنفاق اللذين يصحبان هذه المطالب عندما توجه للمسلمين خاصة، مشعرة إياهم بأنهم متخلفون عن الركب الإنسانى، وأن المؤسسات الحديثة تعلمهم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.. منذ قرن واحد كان القانون فى إنجلترا يبيح للزوج أن يبيع زوجته لمن يشاء، لم يتدخل إلا فى تحديد السعر، فهل ـ نحن المسلمين ـ الذين نتهم باحتقار المرأة؟ ونطالب بالتحضر فى معاملتها؟ وعندما كان الرومان ينشرون المسيحية فى شمال أوروبا كانوا يسلخون جلود الوثنيين، ويستغلونها فى أغراض خسيسة، فهل يقاس هذا التاريخ الأسود بتاريخ دين يقول لنبيه :(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). ص _071(6/66)
ونحن نتهم بالإكراه فى الدين، واستغلال القوة فى فتنة الآخرين، فهل نصدق ذرة من هذا الاتهام، وقد مات نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودرعه مرهونة عند تاجر يهودى، عاش ومات مصون الحقوق مع سوء معاملته لصاحب الرسالة، وهو يومئذ رئيس الدولة وصاحب الكلمة الأولى فى جزيرة العرب؟. إن ديننا هو الذى اخترع الحريات والحقوق التى يتطلع إليها العانون والمعذبون فى الأرض، ولكن المسلمين كأنما تخصصوا فى تشويه دينهم، وطمس معالمه بأقوالهم وأفعالهم. كان البدوى الذى يعرض الإسلام على حاشية كسرى نير البصيرة، والعبارة عندما قال: جئنا لنخرج الناس من ضيق الأديان إلى سعة الإسلام. ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده! إن هذا البدوى جاء بثمرة العقائد والعبادات عندنا ملخصة فى جملة قصيرة، حوت ما نسميه الآن حقوق الإنسان ! ولكن هذه القدرة لا يؤتاها إلا خبير بالكتاب والسنة، خبير بعلل الشعوب وأدويتها، يعرف هدفه، ويعرف كيف يسير إليه، فى رأيى أن هذا العصر أخصب العصور لتلقى تعاليم الإسلام، وياله من دين لو كان له رجال..! *** ص _072(6/67)
إنهم يتجاهرون بتوراتهم،ونستحي من قرآننا من قرن مضى ونحن نطارد جيوش الاحتلال التى تسللت إلى أرض الإسلام فى غفلة من شعوبها وحكامها، وطوت راية التوحيد فى أغلب الأقطار، ما نجا إلا من عصم الله، وقد استعر الكفاح طويلا حتى أمكن بعد لأى أن تجلو هذه الجيوش، وتعود من حيث جاءت! بيد أن تطهير الأرض من الغزاة الذين احتلوها لا يغنى أبدا عن تطهير العقول التى دخلها أولئك الغزاة، عسكروا بمبادئهم وقوانينهم وتقاليدهم! إن العالم الإسلامى اليوم يواجه هجوما ضاريا من أقوام عرفوا بالعلمانية، وظيفتهم الأولى محاربة التشريع السماوى وتوهين التربية الدينية، وهم ـ مثل سادتهم الأجانب ـ يكرهون الدين كله ويتخذون محاربة الشريعة فى ميدان المعاملات ذريعة إلى محاربة العقائد والعبادات والأخلاق الإسلامية، ولهم مهارة فى تحريف الكلم عن مواضعه، وقدرة على استغلال الهنات التى قد تقع من بعض الإسلاميين كى يصموا الأمة كلها بما هى منه براء، وكى يلمزوا الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان! وأرى أن الشر قد استفحل، وأن هؤلاء الناس طليعة لغارة عامة تشنها الصهيونية والصليبية معا، سئما بعد الاختراق اليهودى للمسيحية ونجاحه فى تسخير دول كبيرة لمعاونة إسرائيل..! إن اليهود كان يهمسون بأمانيهم فى ابتلاعنا، صاروا الآن يجهرون بهذه الأمان ويرونها حقوقا لابد من الحصول عليها !! ويوجد بيننا من ينتمى إلى العلمانية، أو من يرى انتشارها ببرود أقرب إلى الرضا، ولعل أبرز مظاهر الخيانة للإسلام رفض الانتماء إليه والاستحياء من حمل شعاره.. إنني أهيب بإخوانى فى كل قطر أن يزدادوا تشبثا بالوحى الإلهى وبرسالة محمد، فإن الحملة عليها تتسع، والكيد لها يزداد !! ص _073(6/68)
ولا يجوز أن يملأ اليهود أفواههم بالانتساب إلى إسرائيل، على حين يخافت بعضها، أو يأبى الانتماء إلى محمد صلى الله عليه وسلم وتراثه، إن أمتنا تحصد المر من تطبيق القوانين الوضعية، ومع ذلك فإن المطالبة بالعودة إلى الشريعة مرفوضة ولو كان فى ظلها الأمان والاستقرار! وأرى أن نكون صرحاء فى إبراز العلاقات المتينة بين العلمانية من ناحية، وبين التنصير والتهويد من ناحية أخرى، فحتى متى نتكتم هذه العلاقات، وخصوم الإسلام فى الشرق والغرب لا يستحيون من المجاهرة بضرورة الإجهاز عليه والاستراحة من وجوده؟ إن الجهاد الأدبي فى هذا المجال صنو الجهاد العسكرى. وأثر القلم والصوت فى ميدان الإعلام لا يقل عن أثر المدفع والصاروخ فى ميدان القتال، وأعتقد أنة يساق فى هذا المجال ما جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بعذاب " . و" من مات، ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق " !! والغزو الآن الدفاع عن الإسلام بكل سلاح متاح، وبكل وسيلة مستطاعة، وإنى أعجب لأمة تقاد إلى شر مصير، ومع ذلك يفر رجالها من مقاومة العدوان، والجهاد فى سبيل الله. * * * ص _074(6/69)
أسباب فرقة العالم الإسلامي تتعرض وحدة العالم الإسلامى لمزيد من العوائق والمتاعب، وسنشرح أسباب ذلك هنا لافتين الأنظار أولا إلى الوحدة الألمانية التى تمت أخيرا بين ألمانيا الشرقية والغربية! لقد كان يوم إعلانها عيدا فى البلاد كلها، فقد زالت الفوارق المصطنعة، وعاد المواطنون الألمان جميعا صفوفا متراصة تحت راية واحدة، وشيعت ذكريات الفرقة باللعنة والمقت !!.. وأسأل هل وقع شئ من ذلك عندما خرجت خمس دول إسلامية من وراء الستار الحديدى لتنضم إلى العالم الإسلامى الكبير؟ لقد فرح بعض الناس واستبشروا بمستقبل أفضل لإخوان العقيدة، ولكن جماهير كبيرة كانت تسمع الأنباء وهى فى مكان بعيد، وكأن الأمر لا يعنيها، أو يعنيها على المجاز لا على الحقيقة . ويرجع ذلك إلى أمور، أولها: نجاح السياسات الاستعمارية فى إقامة قوميات مختلفة على الصعيد الإسلامى بلغت سبعين جنسية، تستظل كل واحدة منها بعلم خاص، وأبناء الوطن الواحد قد يشعرون بقرابة الإيمان بينهم وبين الآخرين، ولكنهم معنيون قبل كل شئ بإخوانهم داخل الحدود التى رسمتها السياسات العالمية، فالمصري يهتم بالإسكندرية أكثر مما يهتم " بيافا " والسعودى يهتم بتبوك أكثر مما يهتم بالخليل، وقد استقرت الأوضاع العالمية على ذلك، وارتضينا نحن ما كان.. أما قول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " المسلمون أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " فأمل لا يعرفه الواقع الأليم، وعندما نسعى إليه نعتبر خياليين.. والأمر الثانى أن بعض الشواذ يسلطون الخلاف فى الرأى على مبدأ الأخوة الجامعة، فإذا كان يرى لحم الجزور ناقضا للوضوء أو سدل اليدين ناقضا للصلاة، طارد مخالفيه فى الرأى، وضيق عليهم الخناق ليلحقهم بأهل الملل الأخرى!! ص _075(6/70)
وعندما يغلب هذا السفه فالويل لوحدة الأمة، وأذكر شابا جاءنى يسألني أن أقترح له اسم كتاب يدرسه فى الفقه فذكرت له كتاب (فقه السنة) للشيخ سيد سابق، ثم استدركت أسأله ماذا قرأت من كتب الأخلاق؟ فسكت متحيرا !! فقلت له: لابد أن تقرأ أولا تعاليم الإسلام فى الصدق والأمانة والوفاء والحياء والرحمة والحب.. إلخ، فلا قيمة لفقه بلا خلق.. وهناك أمر ثالث: أن الغزو الثقافى يشن غارة شعواء على التقاليد الموحدة للأمة، وقد علمنا أن التاريخ الفرنجي يسبق التاريخ الهجرى، وأن القانون يسبق الشريعة وأن الرطانات الأعجمية تسبق اللسان الفصيح. وقد لاحظت أن اليهود حراص على عبادتهم ـ فى المفاوضات الأخيرة ـ على حين يتبجح العرب بترك الصلاة والصيام!! ويقولون عن أنفسهم: إنهم علمانيون! لقد برزت فى أيام مشئومة عروبة عريانة عن الإسلام فماذا صنعت بالأمة الواحدة؟ أثارت البربر فى أقطار المغرب، وأثارت الأكراد فى العراق، وأقرت الفواصل بين العرب والترك، والهنود والزنوج، وهزمت الإسلام فى ميادين كثيرة، وأعانت الأديان الأخرى على الانطلاق وتسنم مراكز الصدارة!! إن الوحدة الإسلامية تحتاج ـ اليوم قبل الغد ـ إلى أن نراجع أنفسنا وأحوالنا، وإلا فسيل الهزائم لن يتوقف. * * * ص _076(6/71)
أرخص الدماء الأخبار التى تنتهى إلى هذه الأيام تبعث على الكآبة.. فالإسلام يضرب بقوة فى أماكن كثيرة! ودماء المسلمين تسيل بغزارة! والضاربون لا يخشون قصاصا، ولا يرهبون يوما ولا غدا..!! وباذلو الأموال لمحاربة الإسلام ينفقون بسخاء، ويعدون الأجهزة الفعالة لدعم التنصير وتوسعة ميادينه، وأمامى بيان بما أنفق العام المنصرم جاء فيه: " أصدرت الهيئة الدولية لبحوث الإرساليات المسيحية نشرة إحصائية عن التنصير وأنشطته فى العالم لعام 1991 جاء فيه أن عدد المؤسسات التنصيرية ووكالات الخدمات المسيحية بلغ -120880- وكالة ومؤسسة كما بلغ دخل الكنائس العاملة فى مجال التنصير -9320- بليون دولار، وأنفقت -163- بليون دولار لخدمة المشاريع المسيحية، وحققت الإرساليات الأجنبية دخلا مقداره -8.9- بليون دولار. وذكرت أنه يعمل فى مجال خدمة التنصير -82- مليون جهاز كمبيوتر لحفظ ونشر المعلومات، وأنه صدر -88610- كتاب ، -24900- مجلة أسبوعية للدعوة، وبلغ عدد الأناجيل الموزعة مجانا -53- مليون نسخة، أما محطات الإذاعة والتلفاز المعنية بالتبشير فتبلغ -23400- محطة ". وإذا جمعت الأرقام المنفقة فى أغراض التبشير لسنة 1991 لبلغت 181 مليار دولار.. ومن حق أوربا وأمريكا واستراليا أن تنفق ما تشاء لنصرة عقائدها ولكننا نتساءل: ماذا يفعل الإسلاميون فى مواجهة هذا الزحف الذى ما خفى منه أعظم مما بدا؟ إنهم ـ على فقرهم وضعفهم ـ يستطيعون الكثير المجدى! بيد أن هناك ما نشكو منه!! فالعقلاء المعتدلون فى مجال الدعوة يقيد نشاطهم عمدا، ويكادون يدورون حول أنفسهم لانسداد الطرق أمامهم !! والمتطرفون يؤذون أنفسهم ببعض مسالكهم، ويؤذيهم خصومهم بصنوف من البهتان ينسبونها إليهم، هم منها أبرياء، والأمر كما قيل: ومن دعا الناس إلى ذمة.. ذموه بالحق وبالباطل !. ص _077(6/72)
وأريد لفت أصحاب العقول والضمائر إلى خطورة هذه الأوضاع، منذ أيام قتل خمسون مسلما فى " سيرلانكا " بالأسلحة البيضاء، قتلتهم عصابات التاميل شر قتلة!، وذهب الخبر المنشور مع الصدى ما تحرك له أحد، وما تخلف عنه أثر!! أنا موقن بأنه لو كان بعض هؤلاء القتلى من اليهود لزلزلت القارات الخمس، ولأرسلت بعض الأساطيل لتعقب القتلة!! أعرف أن الدم الإسلامى أرخصته أحوال أمتنا، فأصبح أهون الدماء المسفوكة، فهل إذا تألم أصحاب الغيرة لهذه الأوضاع اعتبر ألمهم عجبا، ونثرت حوله الإشاعات والتمست التهم؟؟ أليس من حق المظلوم أن يتألم؟ أليس من حق المسلمين أن يصرخوا إذا ضربوا؟ إنني أطلب من العاملين فى الحقل الإسلامى أن يتبينوا مواقع أقدامهم، فإن المتربصين كثيرون، وأطلب منهم قبل ذلك أن يحسنوا فهم دينهم وفقه أحكامه وقضاياه حتى لا يمكنوا من أنفسهم ويجروا التهم على دينهم. * * * ص _078(6/73)
الآكلون على كل الموائد التطرف لا يحارب بالإلحاد، وإنما يحارب بالفهم الصحيح للإسلام، والفقه الواعى لكتاب الله وسنة رسوله، إن الغلو فى الدين آفة معروفة من قديم، وقد قاومها أولو الألباب بشرح الحق واقتياد الناس إليه بلباقة وأناة. لقد قرأنا خبر الثلاثة الذين استقلوا عبادة رسول الله، ورأوا أن يزيدوا عليها، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثانى: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء، وبلغ أمرهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكر عليهم ما قالوا، وقال " أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس مني "!. إن مسلك هؤلاء النفر لا تصح به دنيا ولا يقوم به دين، والنهج الراشد ما التزمه الرسول وصحبه، ولا شك أن هؤلاء الثلاثة ثابوا إلى عقلهم ورجعوا إلى سيرة جماعة المسلمين كيف؟ بالنصح لا بالعصا! وبالأسوة الحسنة لا بالسيرة الغليظة الخشنة! ونحن نعرف ما يقاسيه الدين الحق من تطرف الأتباع الجهال، ومن اجتهاداتهم العوجاء! ويزيدنا حرجا أن أعداء الإسلام مهرة فى استغلال هؤلاء، وتنفير الناس من الدين كله لما يؤخذ عليهم من أخطاء ويؤثر من آراء!! أعرف أصحاب أقلام كانوا دعاة للتغريب يوم كان الالتحاق بأوربا طريق التقدم والارتقاء، ثم تحولوا إلى دعاة للشيوعية يوم هبت ريحها وانخدع الغوغاء بها، ثم أصبحوا اليوم دعاة للعلمانية يدقون طبولها دقا عاليا. إنهم خصوم لله ورسوله، مبغضون أشد البغض للإسلام وحده، وكلما تمهد ميدان للعمل ضده كثروا فيه يظاهر بعضهم بعضا ويشد أزره، وهم الآن يحاربون الإسلام نفسه تحت عنوان محاربة التطرف، وينتهزون الفرصة للنيل من حقائقه؟ لأن الإسلام السياسي خطر على وحدة الأمة! أو على التقدم الحضارى كما يزعمون. ص _079(6/74)
اختلق أحدهم قصة وهمية أن ابنته جاءت من المدرسة تبكى؟ لأن مدرس الدين قال لها: إن الجنة لا يدخلها إلا المسلمون، وهى لها أصدقاء مسيحيون! لماذا لا يدخلون معها؟ ونشرت القصة فإذا كاتبة معروفة بمهاجمة المحجبات تتألم لما وقع، وتطالب بمحاكمة مدرس الدين! وتحرك بعض الرسميين لبحث القضية، فإذا هى مختلقة لا وجود للقصة كلها إلا فى خيال الكاتب المتخصص فى تشويه الإسلام، ومسالك أتباعه!! هذا الكاتب نموذج لأشباهه ممن يحاربون التطرف كما يقولون، وهم لا يزيدون ناره إلا اشتعالا لأنه هو وأشباهه دليل على فساد المجتمع، وامتلائه بالماجنين والمارقين.. إننا مع جماعة المسلمين التى لا تعرف إلا المنهج الوسط، والتى تكره التطرف.. ولكننا نلفت النظر إلى أن الإلحاد داء لا دواء، وأن أصحابه أخطر على الأمة من سواد المتطرفين. * * * ص _080(6/75)
أين نحن من تعاليم الإسلام لم يدر بخلد أحد أن سقوط الخلافة منذ سبعين سنة سيعقب كل هذه المآسي التى تمر بالعالم الإسلامى. كانت الخلافة ـ على ما بها من عيوب ـ تمثل أبوة روحية وثقافية وسياسية يشعر بها المسلمون فى المشارق والمغارب، فلماذا اغتيلت على النحو الذى هلكت به أمست الأمة يتيمة لا كافل لها ولا حارس. وحاول أهل الغيرة أن يستعيضوا عنها بالجامعة الإسلامية، ولكن ذلك كان قليل الجدوى، وهذه الجامعة رباط كريم يقوم على أخوة الدين ورباط العقيدة ووحدة المنهج والهدف. ولكن الاستعمار الثقافى استحيا القوميات الضيقة والواسعة، وشغل كل قبيل بمآربه الخاصة. فإذا الأمة الواحدة تصير سبعين أمة لها سبعون راية، وتبعت ذلك غارات عسكرية على الأطراف تارة وعلى الداخل تارة، وكل قبيل مشغول بنفسه وقضاياه! فنشأ عن ذلك ما نقص عليك نبأه. فى سيرى لانكا أقلية مسلمة تبلغ مليونا ونصف المليون من أشرف الطوائف وأنشطها وأغناها، تزيد على عشر السكان، وفى الحرب الدائرة الرحى بين البوذيين والتاميل الهندوك، رأى الأخيرون أن يستولوا على الأراضى الإسلامية بعد إبادة سكانها أو إكراههم على الفرار، وقد نشرت صحيفة الخليج هذه الأخبار الموجعة، أذكرها كما قرأتها (تأكيد مصرع 1300 مسلم على يد التاميل: واشنطون أ- ش- أ أكدت شبكة سى. إن. إن التليفزيونية أنه فى إطار المجازر التى تجرى للمسلمين فى سيرى لانكا قام نمور التاميل بذبح ألف وثلاثمائة مسلم دفعة واحدة " والمعروف أن أولئك المتمردين قاموا خلال الأسبوع الماضى بحرق 300 مسلم فى إطار سعيهم لإقامة ص _081(6/76)
دولة خاصة بهم !! وقد جن جنون المسلمين لهذه المجازر الوحشية، وعرضوا على الدولة تجنيد عشرة آلاف شاب مسلم للاشتراك فى مقاتلة التاميل.. ورد العدوان !! وما يقع للمسلمين فى آسيا يقع الآن مثيل له فى أوروبا، حيث يتم تقتيل الألوف من المسلمين لتخلو الأرض منهم، ويسكنها اليوغوسلاف!! والواقع أن القتل يستحر فى المسلمين فى مواطن كثيرة، والعالم يستمع إلى هذه المآسي، ويجب ألا يشغل طويلا بها، فلديه من قضاياه الصغرى والكبرى ما يكفيه! والمهمة من قبل ومن بعد تقع على عواتق المسلمين أنفسهم، وإذا لم يحسنوا الدفاع عن أنفسهم فلن يدافع عنهم أحد.. وأريد أن أتساءل: ما وقع هذه الأخبار على الأمة الإسلامية الكبرى فى أوطانها الرحبة؟ إننى أريد أن تنطلق بها مكبرات الصوت فى كل ميدان، وأن يذاد بها النوم عن عيون النائمين، وأن نؤخر بها وجبة من وجبات الطعام، وأن نخرس بها الموسيقى الخنثة فى بعض الأطفال!! إن المسلمين جسم واحد يألم كله بما يؤلم بعضه، فأين نحن من تعاليم الإسلام؟ إن الذاهلين سوف توقظهم آلام مشابهة، ولن يجدوا من يرثى لهم. * * * ص _083
القسم الثاني الجرعات الأخيرة من الحق المر ص _084(6/77)
ترتيب إلهي لحماية الحق معروف أن نحو ثلثى القرآن الكريم نزل فى مكة المكرمة وأن بقية الأجزاء الثلاثين نزل فى المدينة المنورة. وقد هاجر المسلمون إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة قضوها فى مكة ومع ذلك فإن ترتيب المصحف ـ وهو ترتيب تم بتوقيف إلهى ـ جعل أول ما نزل فى المدينة أول ما ثبت فى المصحف! فكانت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة صدر ما يطالعه القارئ ثم جاء بعدئذ ما نزل بمكة! وقد تدبرت الحكمة فى هذا العمل فرأيت أن المسلمين بعد الهجرة اشتبك بهم أهل الكتاب وشنوا عليهم حربا شعواء، وكان محور هذه الحرب نفى صلة الإسلام بالسماء، ورفض الاعتراف به جملة وتفصيلا ومخاصمة أتباعه إلى آخر رمق، وجعل الوحى الصحيح فى مواثيهم وحدها. واستمع إلى قولهم: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقولهم: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا). بل ضريت العداوة ضد الإسلام حتى فضل القوم الوثنية عليه، ورضوا بأن يعود المسلمون إلى عبادة الأصنام! فهم كما وصف الله: (يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل). وقد عاتبهم القرآن على هذا العداء اللدود؟ (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء). والغريب أن أهل الكتاب توارثوا هذه الخصومة فالمسلمون فى القرآن الخامس عشر من تاريخهم لا يرون بادرة اعتراف بهم أو بدينهم أو بحقوقهم. ص _085(6/78)
وعندما ولدت هيئة الأم المتحدة تفاءلنا خيرا وهيهات.. فإن العمل الوحيد الذى قامت به هو إنشاء " إسرائيل " على أنقاض العروبة والإسلام واحتضان غاياتها التى لن تتم وفى الإسلام رمق، وتشجيع الأنظمة العربية والإسلامية التى ترتد عن الإسلام فى ميدان التشريع والتربية والتقاليد الاجتماعية ومنع وجود جماعات إسلامية محافظة تتبنى الإسلام منهاجا ودستورا.. هل علمت لماذا بدأ المصحف بالسور التى تدافع عن الإسلام ضد عدوان المعتدين من أهل الكتاب؟ يبدو أن هذا الدفاع مطلوب حتى قيام الساعة. إنه ترتيب إلهى لحماية الحق. * * * ص _086(6/79)
" سلخانة " لذبح المسلمين سمعت فى إذاعة لندن بنبأ الدكان الكبير الذى فتحه الصرب لبيع اللحم الإسلامى! إنه ليس لحما للأكل. إنه يقدم قطع غيار مطلوبة فى جراحات شتى.. يقول طبيب: أريد كبدا سليمة بدل هذه الكبد المقروحة! ويقول طبيب آخر: أريد كلية صحيحة بدل هذه الكلية المعطوبة! ويقول ثالث هذه العين لمن ترى وأحتاج إلى عين سليمة القرنية... الخ. ويذهب المشترون إلى صربيا الكبرى!! ومعهم الأموال المغرية فإذا أصحاب فلسفة النقاء العرقى يقبضون على ألوف الشبان المسلمين بين السادسة عشرة والسادسة والعشرين.. ويقوم الأطباء بالكشف عليهم وإعدادهم لما يراد بهم! والمعروف علميا أن القلب مثلا لا يصلح للعمل إلا إذا نزع وفيه حياة، أما إذا نرع من ميت فلا قيمة له وكذلك سائر الأعضاء الأخرى، ولذلك يرشح المحكوم عليهم بالإعدام لهذه الخدمة. وقد رأى الصربيون أن المسلمين يصلحون لهذا الغرض فنفذ فيهم على نطاق واسع. يجاء بالشاب فيقتل وقبل أن يسلم الروح تكون كبده أو كليتاه أو عيناه أو ما شاء الأطباء من جسمه قد انتزع وجرى تسفيره على عجل ليتحرك فى جسد آخر، أو ليتحرك به جسد آخر!!! إن القوم يرون أنه ليس لنا حق فى الحياة، أو أننا ما دمنا مسلمين فلا نستحق أن نحيا، وغيرنا أولى بقلوبنا وأبصارنا!!! ما كنت أتصور النذالة تبلغ هذا القرار، ولا الحقد علينا يبلغ هذا الحد. وقد نبه مذيع لندن مشكورا إلى الدرك الذى بلغته هذه الخسة، ولفت النظر إلى أن جماهير من اليهود والنصارى ترفض هذا المسلك وتستنكره، وأنا مصدقه ولكنى أسأل الإذاعات العربية السادرة لماذا لم تكتشف هى هذه المصيبة! ص _087(6/80)
أيظل أبناؤنا يذبحون سنين عددا وهم لا يدرون شيئا وشغلهم الشاغل تطوير البرامج لتكون أملا بالمجون وأقدر على إضاعة الوقت؟ ولتضم الرقص الشرقى إلى الرقص الغربى؟ ومهازل القديم إلى مفاتن الحديث؟ المفروض أن الإعلام ثقافة وتسلية، ولكن الثقافة ضاقت رقعتها حتى تلاشت أو كادت. أما التسلية فقد قتلت روح الجد والصدق، وهزمت التراث والخلق . * * * ص _088
الحمقى المدخنون.. استغرق تحريم الخمر أكثر من خمس عشرة سنة، ولعل هذا التدرج فى التشريع كان سر نجاحه! فإن العرب كانوا شرهين فى شرب الخمر ولو أخذوا بتركها مرة واحدة لأخذ ذلك بالدعوة الإسلامية بل لأضر ذلك بالتحريم نفسه.! وفى هذا العصر حرمت أمريكا الخمر بتشريع مفاجئ بعد ما استيقنت من أضرارها الصحية والاجتماعية ولكن قانون التحريم فشل. فالقلة المعارضة لم تقتنع به، والكثرة المؤيدة لم تضح لنصرته، وتألفت عصابات قوية لتهريب المسكرات، وغرمت الشرطة كثيرا فى حماية القانون دون جدوى ولذلك لم يبق أكثر من دورة برلمانية ثم أسقط فى الدورة التى تليها.. وقد تعلمت أمريكا من ذلك درسا تطبقه الأن فى محاربة الدخان، إنها تأكدت من أن " النيكُتين " سم ناقع، وأنه وراء أمراض قاتلة، وأن إقبال الناس على التدخين حماقة مهلكة، فهل تصدر قانونا بتحريمه كما يشير الأطباء وكما فعلت من قبل مع الخمر؟ إنها لم تنجح ولا تريد تكرار الفشل، فقررت ألا ينشر إعلان عن السجاير إلا نشر معه تحذير طبى يمنع أولى الألباب من تناولها، وتبعتها دول العالم فى نشر هذا التحذير. ولما ثبت أن جار المدخن يكتوى بناره قررت عزل المدخنين فى أماكن خاصة، ويظهر أن شركات التبغ الكبرى ضربها الكساد فى العالم الأول وتريد تعويض خسائرها فى العالم الثالث فضاعفت إنتاجها وأقبل عليها شبان يحسبون الرجولة تدخين سيجارة!. وما أفدح مصيبتنا فى هذا الشباب! ص _089(6/81)
لقد رأيت الناس يبحثون بحماس عن مستنقع يفقدون فيه صحتهم وثروتهم ويجادلونك بغضب إذا أردت حملهم على سبيل الرشاد..! وأنظر إلى حاكم " روسيا " الذى أكلت الخمر عافيته وأورثته الداء العضال، إنه لا يريد أن يتوب، ولو ظل يعب الخمر حتى هلك ما أسفنا لمصرعه، ولكن أسفنا لأن مستقبل شعب إسلامى حر فاضل رهن كلمة تمرق من فمه، وما ظنك بكلمة تخرج من فم سكير؟ يأمر بالإبادة والمصادرة والإذلال وتعذيب الأحرار.. إن الألوف المؤلفة من المسلمين المرابطين يتعرضون فى قراهم للدبابات تقذفهم بالحمم وتحيل بيوتهم ترابا تنفيذا لأمر رجل عطشان للدم والخمر! أمر واحد يمكن أن يقمع هذا الرجل، أن يخاف على نفسه من الأمة الإسلامية الكبيرة، وأن يرهب نقمتها عليه وعلى قومه فهل نستطيع ذلك اليوم، وإذا عجزنا اليوم فهل نستطيعه غدا؟. * * * ص _090(6/82)
مسلمو الروس.. والمصير الكئيب ما حدث لمسلمى شبه جزيرة القرم لا يعلم به إلا قليل من الناس. إن القيصر الأحمر " ستالين " أخرجهم من ديارهم وأموالهم وبعثرهم فى فيافى "سيبريا"، لقد كانوا أمة متماسكة حفيظة على عقائدها وتقاليدها، وكان من السهل تكوين دولة مسلمة فى شبه الجزيرة، وذاك ما حفز ستالين على تشتيتهم، والتهمة التى وجهها إليهم أن مشاعرهم كانت باردة عندما تقدم الألمان فى أعماق " روسيا " أثناء الحرب العالمية الأخيرة، ومن ثم أوقع بهم هذا العقاب الماحق! وكما ينقل موظف من بلد إلى آخر قصى نقل شعب من وطنه وتراثه وذكرياته إلى حيثما يفقد ماضية ومستقبله! والحق أن مسلمى " روسيا " أصابهم حيف بالغ فى العهد الإمبراطورى والعهد الشيوعى على سواء، وأنهم فقدوا كل ما يسمى بحقوق الإنسان وديست شعائرهم وكراماتهم، ومن استبطن دينه بعد ذلك عاش به معزولا حتى يوافيه أجله! وتلك الحقيقة هى التى جعلت " الشيشان " يستميتون فى الدفاع عن استقلالهم، ولكن هذا الدفاع كلفهم هدم مدنهم وقراهم، فلا يوجد فيها الآن بنيان قائم! إن الشعب المؤمن يريد أن يحيا بدينه حرا، وبديهى أنه ليس خطرا على " روسيا " فماذا يملك " الشيشان " للدب الروسى وقنابله الذرية جريمته أمام الروس وأمام ساسة العالم أنه مصر على إسلامه؟!، وهذه جريمة لا تغتفرها القوى الكبرى التى تحكم الدنيا وترسم الآن مستقبلها.. والمأساة التى تكمن وراء قضية " الشيشان " و " كشمير " و " جنوب الفلبين " و"بورما" وسائر الأقطار المحروبة أن الأمة الإسلامية الكبيرة قطعت أوصالها النزعات القومية الضيقة. ص _091(6/83)
فالعرب لا يهتمون إلا بعروبتهم، وكذلك سائر الأجناس التى عاشت تاريخها فى أحضان الإسلام أمست حبيسة حدود صنعها الاستعمار الحديث فهى لا تهتم بما يقع وراء هذه الحدود.. ونتيجة هذه العزلة الرهيبة إنها ستجتث الإسلام من جذوره فى عشرات الدول الإسلامية المتفرقة ولا بقاء اليوم لكلمة التوحيد إلا بتوحيد الكلمة، وإحساس كل شعب أن مصيره مربوط بمصاير الآخرين. * * * ص _092
الحديث الضعيف سألني أحد القراء: لماذا تورد أحيانا بعض الأحاديث الضعيفة فى كتاباتك؟ فأجبته لأن لدي ما يقويها من الشواهد الصحيحة وينفى عنها الضعف. خذ مثلا حديث " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبونى بحب الله. وأحبوا آل بيتى بحبى " لقد ضعفه الألبانى، ولم أوافقه! فأنظر معى إلى الجملة الأولى منه. هل محبة الله موضع ريبة؟ إن الذى يستقبل نعماء الله بالعقوق شخص خسيس، ومن نحب إذا جفونا الله؟ ثم ننظر إلى محبة رسول! ما سرها؟ إنه هو الذى دلنا على الله وجلى لنا عظمته وأحسن تمجيده وتوحيده بقوله وعمله وأنا مستيقن أنه لم يوجد بشر فى الأولين والآخرين أبلى بلاءه فى تعريف الخلق بربهم واقتيادهم إلى سبيله! ولذلك يقول الله سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم …). فمحبة الرسول نابعة من محبتنا لله! أما آل بيته فإن الناس فى المشارق والمغارب يكرمون الميت فى عقبه، ألا ترى الحكومات كلها إذا مات موظف لديها كفلت أسرته وحمتها من المحن؟ فنحن من أجل الرسول نحب آل بيته ونصلي عليهم تقديرا لجميله فى أعناقنا! إن فؤادى يتقطع عندما أقرأ أبيات " دعبل الخزاعى " يصف بيت رسول الله بعد موته فيقول: مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحى مقفر العرصات! بنات يزيد فى القصور مصونة وبنت رسول الله فى الفلوات! ص _093(6/84)
لماذا أضعف هذا الحديث وأجتهد فى اتهام السند إذا كان المتن لا غبار عليه..؟ وخذ حديث حفظ القرآن الكريم الذى رواه ابن عباس في شأن على بن أبى طالب، إن الجمل الثلاث الواردة فى صدر الحديث هى عندى من آيات النبوّة. وهى " اللهم ارحمنى بترك المعاصي أبدا ما أبقيتنى. وأرحمنى أن أتكلف مالا يعنينى وأرزقنى حسن النظر فيما يرضيك عنى ". إن قوة الذاكر لا تتم إلا بهذه الثلاث، فالمعاصى تشتت العقل! والانشغال بكل شئ يمنع التوفر والاستيعاب وسوء التقدير لما يرضى الله طريق الحرمان من عطائه... والحديث طويل وقد جربته وأنتفعت به. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى بعدما نفذ وصاته " مؤمن ورب الكعبة يا أبا الحسن "!! والعلم الدينى لا يهبه الله للمفرطين والأراذل، إنما يوهب ويزاد لمن عمل به وأحسن صحبته أما علوم الحياة الدنيا فقد يبرز فيها الخواجات... وما أقوله سبق به العلماء فإن الحديث القريب الضعف إذا ساندته شواهد قوية تلقيناه بالقبول. * * * أجمع النقاد على أن تراث محمد صلى الله عليه وسلم وجد من الصون والحماية ما لم يجده تراث بشر آخر فى الأولين والآخرين. إن مادة الإسلام بقيت سليمة نقية تامة على امتداد الزمان والمكان لأن الله تأذن لهذا الدين بالحفظ على حين طاحت رسالات وسرى الخلل إلى أصولها وفروعها.. ولست من علماء الجرح والتعديل وتمنيت لو كنت منهم، فإن المرويات التى ارتبت فيها تكشف لى أن أسانيدها مدخولة، وأن الحاذقين أنكروها من قبلى! والبلاء يجيء من راو قليل الفقه، أو من محدث لا بصر له بعلم الأصول. وعلوم الدين كلها يخدم بعضها بعضا ويؤيده! ويكمل أحدها قصور الآخر. قال لى أحد الناس: إن " أبا حامد الغزالى " ذكر حديثين مردودين فى اختيار الزوجة! قلت: ما هما؟ قال حديث " إياكم وخضراء الدمن! قالوا: وما خضراء الدمن؟ قال المرأة الحسناء فى المنبت السوء " والآخر " تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس "! ص _094(6/85)
قلت: قد تكون أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة، ولكن يشهد. لها قول رسول الله فى حديث آخر لا خلاف فى صحته " الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " ولذلك لا أخطئ " أبا حامد " فى استشهاده بهما!! وقد روى عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " الزبانية أسرع إلى فسقة القرآن منها إلى عبدة الأوثان، فيقولون يبدأ بنا قبل عبده الأوثان؟ فيقال لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم "! إن هذا الحديث ضعفه كثيرون، ولكن الحافظ المنذرى قبله وقال: يشهد له حديث مسلم فى صحيحه عن أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة، وفيهم رجل جمع القرآن ليقال قارئ !. ومن لطائف المنذرى أنه فى باب الزهد روى عن سهل بن سعد قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلنى على عمل إذا عملته أحبنى الله وأحبنى الناس، فقال له: " ازهد فى الدنيا يحبك الله، وازهد فيما بأيدى الناس يحبك الناس "! وقد زيف المنذرى هذا الحديث وأنكر سنده، ثم قال: لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة "!! والزهد فى الدنيا مرفوض إذا كانت عونا على الدين وسترا للعرض وغنى عن الناس، فلا قيام لدين لم تحرسه دنيا أما إذا جاءت الدنيا من خدمة الجور ونسيان الحق فلا كانت. والعلماء المشتغلون بالدعوة يعرفون مرامي الكلام. فإن تحريف الكلم عن مواضعه بلاء شديد. * * * ص _095(6/86)
رؤية في عالم البعث والجزاء عندما شعر " فرانسوا ميتران " زعيم فرنسا الأسبق أن المرض آخذ بخناقه وأن أجله قريب تساءل فى حيرة: وماذا بعد الموت؟ إنه لا يدرى ما يعقب الوفاة! إنه يحس بالانتقال إلى مجهول بعد أن ينقطع حبل حياته! وهذا الإحساس هو ما يخامر الرجل العصرى فى أوروبا وأمريكا سواء كان فى عبقرية " ميتران " أو كان من عامة الناس! أما أثر الدين فى النفس الإنسانية فمفقود أو هو أضعف من أن يملأ فراغ هذه النفس التى قطعت شوطا بعيدا فى الإرتقاء العلمى..!! إن الأوروبى قد يسمع طنينا عن البعث والجزاء، وقد يسمع حديثا عن الله ولقائه. ولكنه غارق إلى أذنيه فى حياته المادية لا يعرف صلاة ولا صياما وينظر إلى رجال الدين بملابسهم المزركشة وأحاديثهم الخفيفة ثم ينصرف غير مكترث، لأنها ما حركت له فكرا ولا أيقظت منه غافلا، فهو كما قال القرآن فى أمثاله: (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين). إن النفس البشرية البالغة الذكاء لا يستوقفها إلا القرآن الكريم، ولا يهز أركانها إلا الوحى الصادق، ولكن أين هذا الوحى؟ إنه مستخف وراء ركام من تخفف المسلمين الحضارى وسقوطهم الذريع فى ميزان الفطرة والعقل. وإذا كان أهل القرآن لا يعرفونه فكيف يعرفه غيرهم؟ ص _096(6/87)
إن " مسيو ميتران " نموذج للإنسان الذى صنعته الحضارة الحديثة، لقد كان فى قضية البوسنة يكره المسلمين ويظاهر عليهم الصرب، ويوم مات اجتمعت عند قبره زوجته وعشيقته وابنته غير الشرعية ـ وهى فوق العشرين ـ إن التقاليد التى حكمته تحرم تعدد الزوجات وتتغاضى عن السفاح وتدع فتاة فى ريعان الصبا ليس لها نسب قائم! أما الإسلام الذى يرفض هذا التناقض فهو دين مرفوض، وأهله منبوذون مستباحون! والزعيم الفرنسى لقى مسلمين كثيرين فى حياته الطويلة، وأنا موقن بأن أحدا منهم ما حدثه عن الإسلام قط...! لماذا؟ لأن هؤلاء المسلمين لا يثقون بما لديهم، أو لا يقدرونه قدره! وعقدة الضعف تفرض عليهم الصمت والتأدب مع أمثاله، وسيسبقهم فى الميدان " كاردينال " يقول " لمسيو ميتران " إنى أغفر لك.. كما قيل ذلك من قبل لمستر "كندى" رئيس الولايات المتحدة! إن حسابنا عند الله طويل. * * * ص _097(6/88)
أين القلب النابض باليقين؟ القلب الذى لا يأنس بالله ويطمئن إليه قلب خرب موحش تسكنه الهواجس والريب، كما تسكن البوم والغربان كل بيت هجره أصحابه! إن الإيمان ليس دعوى فارغة وليس شقشقة لسان وليس معرفة نظرية، وليس قدرة عقل ماكر، إنه قبل كل شئ قلب سليم طهور واثق. هذا القلب الراكن إلى الله الآوى إليه هو الذى عجز الفلاسفة عن صنعة وضل الماديون الطريق إليه! ولم يعرفه إلا تلامذة الأنبياء وعشاق الوحى الإلهى الحي. وقد ألمح إليه " ابن تيمية " عندما تساءل ما يبلغ أعدائى منى؟ سجنى خلوة، ونفيى سياحة، وقتلى شهادة!!! من ما يخشاه الناس هو ما يرحب به الرجل ولا يضيق ذرعه به. إن السكينة التى تغمر المؤمنين فى مواجهة المصائب النازلة هى " البنج " الذى يصحب الجراحات الخطيرة فيبطل الألم، أو هى الإضافة التى ينصح بها " ديل كارنيجى " عندما يقول: أصنع من الليمونة المرة شرابا حلوا ! وقد كتب " ابن تيمية" جزء من فتاواه فى أعمال القلوب تناول التصوف الإسلامى فيها ببصيرة مشرقة وعرض لأئمة التصوف الكبار باحترام وتأييد، ولا غرو فالرجل الذى يقول لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخل جنة الدنيا أهل لذلك، وبقصد بجنة الدنيا بداهة "اليقين" الذى يستحلى المتاعب فى ذات الله، والرجال الذين يشرفون الجهاد الإسلامى بصلابتهم وبشاشتهم فى وجه الخطوب.. وقد انتقلت هذه النزعة منه إلى تلميذه " ابن القيم " عندما ألف كتابه الضخم"مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين" ردا على كتاب " منازل السائرين إلى رب العالمين " للهروى إمام الصوفية فى عصره!. لقد درست كتاب " ابن القيم " وأنا معتقل فى " الطور " بسيناء فكنت أشعر وأنا أقوم من درسه بأنى أهبط من السحاب إلى الثرى! ألا يوجد فى عصرنا من يصلح بين القلب والعقل فى تراثنا الدينى؟. إن التربية التى أراها قد تخرج، " درويشا " غبيا، وقد تخرج متفقها جلفا. أفلا نقدر على تكوين إنسان نضير الفكر والفؤاد معا؟(6/89)
ص _098
نعم المال الصالح.. بئس السيد المال ونعم الخادم المال، وفى الحديث " نعم المال الصالح للرجل الصالح "! إن الفقر نكبة تخدش الكرامة وتورث المذلة وقد لاحظت أن الإسلام يجعل الصلاح شعبتين تساوى كلتاهما الأخرى، فتلاوة القرآن عبادة ومواساة المحروم عبادة، وهما سواء!، وفى الحديث " لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله المال فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار " وفى حديث آخر " الساعى على الأرملة والمسكين كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر"! إن العبادات الغيبية كالعبادات الاجتماعية فى إرضاء الله وزكاة النفس، وبعض الناس يجود بالمال، ولكنه لا يدرى الطريق الصحيح لبذله. وفى الحديث " بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء "! وقد شرحت صدرى "موائد الرحمن" التى تمد فى أحياء القاهرة متاحة لكل وافد، ما يزاد عنها أحد، ولا يعرف الناس من دعاهم! لقد اكتفى هذا الغنى الكريم بنظر الله إليه، وأسعدته جموع الصائمين الفقراء وهم يتناولون الطعام فرحين حامدين، والحق أنى رأيت هذا الصنيع عندما كنت أعمل من نصف قرن فى قرى الصعيد، دعاني عضو مجلس النواب للإفطار معه، وكنت أشتغل مع علماء المساجد بالدعوة إلى الله، فظننت أنه يدعونى إلى بيته ثم رأيت بعد ذلك ما أثلج صدرى، سرت على شاطئ ترعة تمتد الموائد فوقه تنتظر المئات من الناس، وعرفت أنه قلما يفطر صائم فى بيته أنه إما نصب مائدته أمام البيت يجلس إليها من شاء! وإما انضم إلى الحشد المجتمع على شاطئ الترعة يستقبل الغرباء والوافدين.. ص _099(6/90)
إن رمضان شهر الجود، والحق أن تقاليد الإسلام جعلت البخل من أقبح الرذائل، هل القارات الأخرى كذلك؟ لا! إن الثورات الحمراء والصفراء ما أشعلها إلا الشح المطاع والهوى المتبع! قال لى طالب قادم من أوروبا: كنت ضيفا عند السيدة فلانة، ثم استدرك على عجل: أعنى استأجرت غرفة فى بيتها بمالى! قلت: هذه هى الضيافة؟ قال نعم هذا هو الكرم هناك.. * * * ص _100
من المؤمنين رجال... يؤرقنى مستقبل الشباب المسلم الذى تطوع للدفاع عن البوسنة وحماية دينها وعرضها. إن للصليبية العالمية ثأرا عنده فقد وقف دون امتداد أحقادها وأطماعها، وآنس وحشة المسلمين المحروبين هناك، وأشعرهم بأن أخوة الدين لم تمت وإن بعدت الشقة وضري العدو.. إننى باسم الألوف المؤلفة من المؤمنين فى أرجاء العالم أطلب من رئيس البوسنة أن يستبقى هؤلاء المجاهدين الأحرار فى أرضه، وأن يعرض عليهم الجنسية البوسنية فمن قبلها عاش بقية حياته مع إخوان العقيدة يشاطرهم البأساء والنعماء!. ومن أثر العودة إلى وطنه عاد مستريح الضمير يستأنف حياته الأولى مقدورا مشكورا.. إن هؤلاء الشبان الشرفاء كانوا أهل إيمان وتقوى. ربما فكر أمثالهم فى المتعة واللذة أما هؤلاء فقد تصدوا للاستعمار السياسى والثقافى يعكرون صفوه ويتنادون بضرورة بقاء الإسلام فى أوطانه مكتمل التعاليم محترم التقاليد لا يعطل له تشريع ولا تنقص منه لبنة. والواقع أن القوى المعادية للإسلام وجهت إليه ضربة قاتلة عندما ألغت شرائع الحدود والقصاص، وحاربت التاريخ واللغة والتراث كله وقسمت المسلمين إلى عشرات الجنسيات، ولولا شجاعة رجل كسعد زغلول فى مصر لكانت اللغة الإنجليزية لغة الدراسة فى مراحل التعليم الأولى كما أن هذه اللغة لغة الطب وشتى العلوم فى الجامعات إلى الآن. إن الحرب المعلنة على الإسلام تتحرك ببطء وثبات نحو أهدافها المرسومة، والفئات العلمانية التى تخلفت عن الشيوعية أو التى صنعها المبشرون والمستشرقون تتعاون(6/91)
كلها على محاربة الكتاب والسنة. ص _101
وتعتبر كل انعطاف نحو الإسلام خطرا عليها.. أنها تكره المصحف وما فيه، وتعتبر كلمة " الإسلام هو الحل " شعارا رجعيا منكرا !! وتتمنى لو غلقت المساجد، بل تتعجل هذا اليوم، فما رئي أحد منهم يدخل مسجدا للصلاة ولو خداعا! ماذا يفعل مجاهدو البوسنة إذا عادوا؟ خير لهم وللبوسنة أن يبقوا فيها، فإن الأخطار على البوسنة لم تنته بعد. * * * ص _102
سياحة فى الفضاء أطلقت خيالى وراء القذيفة التى ذهبت لاستكشاف المشترى فأعجزه اللحاق بها، أنها من بضع سنين تجرى بسرعة الصوت حتى بلغت هدفها أخيرا وانقطع أثرها فى الفضاء الرحب! إنها لم تزغ ولم تتعثر بل نفذت ما كلفت به. وأسقطت آلة حساسة حاسبة فوق سطح الكوكب الملتهب لتعرفنا بما هنالك! إن مبلغ علمنا أن مارجا من النيران يعصف فوق هذا الكوكب وأن حياة الإنسان فيه مستحيلة. ولو كانت ممكنة فماذا سيفعل الإنسان هناك؟ وهل ضاقت به الأرض حتى يبحث عن مأوى آخر؟ الإنسان ما ضاقت به الأرض، ولكن ضاقت به نفسه وأخلاقه وأحقاده كما قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق! إن الذى استوقفنى فى هذه الرحلة سعة الفضاء، فإن أسرة الشمس ومن بينها المشترى لا تأخذ من مساحة الكون إلا ما تأخذه نملة فى قبو قصر شاهق!! إن الكون كبير لا تعرف أبعاده وآماده، ولكن خالقه أكبر منه يقينا، سبحان ذى الملكوت والجبروت والعظمة!! (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). لنترك علماء الفلك يسبحون فى هذه الآفاق ولننتقل إلى جهة أخرى مقابلة. إن علماء الطب يطاردون جرثومة " الإيدز " كى ينقذوا الألوف المؤلفة من غوائلها إنها جرثومة بالغة الدقة! الملايين منها تحتويها قطرة ماء! ص _103(6/92)
ومع ذلك تسطو هذه الجرثومة على جسد عملاق فتصرعه! وصرعاها الآن فوق الحصر وقد فشلت الجهود للتغلب عليها، فقد ارتد الذكاء البشرى مهزوما أمامها! قلت فى نفسى من أين أسوق الشواهد على عظمة الخالق؟ من ضالة الذرة أو من ضخامة المجرة؟ كنا فى صغرنا نسمع المثل المشهور: سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض. إن النواة تختفى فى الثرى لتخرج بعد حين نخلة باسقة! والحيوان المنوى يختفى فى الرحم ليتحول بعد حين إنسانا سويا. ثم تسمع هذا الإنسان يقول: لا إله والحياة مادة (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين). * * * ص _104(6/93)
قوم لا وزن لهم.. (1) أرفض ميوعة المفاهيم وخلط الأوراق! أرفض أن يقول أحد الناس: أنا مسلم لكنى غير مؤمن بسورة كذا أو آية كذا!! إما أن تؤمن بالكتاب كله أو تكفر به كله! فإن الله قال لمن قارف هذا المسلك: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب). كتب أحد الذين اتهمتهم بالارتداد يقول: نحن لم نعطل القطع والرجم، إن الزمن هو الذى عطل هذه الحدود، فقد انتهى أوانها. وأقول: هل الزمن هو الاحتلال الأجنبى الذي كشف عن حقده الدينى القديم وأمر بإلغاء الوحى؟ وجبنتم أنتم عن مقاومته، فسرتم وراءه وحرضتم على مناوأة الله ورسوله؟ وعالنتمونا بالخصام، وبكراهيتكم للصلاة والصيام؟ إن الزمن فى فلسفة النسبية بعد رابع للمادة ينضم إلى الطول والعرض والعمق، ولا صلة له بتغيير العقائد وتشويه الأخلاق، ولذلك يقول الشاعر: أرى حللا مصان على أناس وأخلاقا تهان ولا تصان! يقولون الزمان به فساد! وهم فسدوا وما فسد الزمان! يوجد الآن جيل من الناس لم يشرف أمام الله بركعة، ولم يرشح فؤاده المتحجر بذرة من يقين. انفتحت أمامه الأبواب لضرب الإسلام فهو يهاجمه لحساب سادته، ويصفنا بأننا دعاة الظلام! هل إشعار العالم بوحدانية الله ظلام؟ هل إماطة اللثام عن معالم الوحى ظلام؟ هل إشاعة العفاف وصون الأعراض ظلام؟ ص _105
إن الاستعمار الحاضر يكره النبوات كلها. وليست للصهيونية علاقة بموسى ولا للصليبية صلة بعيسى. إن ميراث محمد وحده هو الذى صان التوراة والإنجيل والقرآن وعرض على أولى الألباب تعاليم السماء مبرأة نقية! (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). يبدو أن دور المبشرين والمستشرقين انتهى وحمل أعباء وظيفتهم عروبيون وقوميون يختلون الجماهير عن الإسلام عقيدة وشريعة ويعرضونه عنوانا تحته فراغ أو عماء. * * * ص _106(6/94)
قوم لا وزن لهم.. (2) شعرت بالسآمة والغضب للخلاف الذى لا تنطفئ ناره فى بعض الأقطار الإسلامية قلت: ألا يصطلح الأفغان؟. ألا يصطلح الصومال؟. ألا يلتقى المتفرقون فى البلاد الأخرى؟ كان الخلاف الفقهى قديما سعة عقل ووجهات نظر فى فروع العبادة ثم أصبح تقليدا غبيا وفرقة شرسة. وكان الخلاف الكلامى فلسفة عقيمة ونزاعا حادا فإذا جثته على مر القرون تفوح منها روائح عفنة! وهجم الاستعمار على أرض الإسلام المترامية فإذا خلاف من نوع جديد بحسب الجهة التى نكبنا منها! وقد تضحك لأننا فى مصر عرفنا شيوعية " ماوتسى توتج " وشيوعية " ستالين ". إن السيارة إذا تعطلت يمكن أن يشدها حمار ويمكن أن يشدها حصان، وقد كان الكيان الإسلامى نافد الطاقة فاقد القوى، فإذا استمكن من زمامه شئ ما ذهب به حيث يشاء.. والعلمانية الآن تفرض نفسها على الفراغ الإسلامى الذى تصفر فيه الريح شرقا وغربا..! وقد جرح قلبى صحفى علمانى يصفنا نحن الإسلاميين بأننا دعاة الظلام!! قلت: إن الله عندما أنزل وحيه على محمد قال له: (.. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور). ص _107(6/95)
فهل أصبح إنكار الألوهية نورا؟! وهل أصبح العيش بلا وحى نورا؟! وهل أصبح التقليد الأعمى لمباذل الغرب نورا؟! إن هؤلاء العلمانيين لا يعرفون شيئا عن الارتقاء العلمى والتفوق الصناعى، إنهم خدم للجانب المنحل من دنيا الناس، وما تاحت لهم فرصة للظهور إلا عند غياب التدين الحقيقى، وظهور بعض الأشباح فى عالم التدين تستدبر الكون وقوانينه وقواه، ولا تعرف شيئا عن الملاحظة والتجربة والاستقرار ولا تدرى أن الوحى حياة (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). إن الصحابة والتابعين ـ وهم مثلنا الأعلى ـ وثبوا على بحر الروم فغيروا اسمه، سموه البحر الأبيض كانوا قبل الإسلام لا يحسنون إلا قيادة القوافل أما بعدما أسلموا وارتفع بالإسلام مستواهم العقلى فقد قادوا السفن والدول والحضارات، فهل نعود إلى كتابنا لنداوى به عللنا ونستر به صحتنا ووحدتنا، ونقدمه إلى العالم كتاب حقائق تشفى وتكفى؟. * * * ص _108(6/96)
الذكاء وحده لا يكفي.. الإيمان يقل ويزيد ويضعف ويقوى حسب الدلائل التى تقارنه والمقدمات التى تؤدي إليه، والفارق كبير بين أن يكون الإيمان تقليدا ميتا وبين أن يكون بصيرة نضيرة. إن الله أبدع العالم ليدل عليه وليكشف عن عظمته، كذلك قال فى كتابه: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما). وقد أحس بذلك صاحب القرية التى مر بها وهى بالية خربة فقال أنى يحيى هذه الله بعد موتها؟ وشاء الله أن يميته ودابته قرنا كاملا ثم يرد إليه الحياة: (قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير). إن المشهد الذى جعل الرجل يقول: أعلم أن الله على كل شئ قدير. يقع ألوف ألوف المرات كل يوم أمام كل عين، فمن يحول الأغذية فى كل جسد إلى لحم يكسو العظام ودم يجرى فى العروق وأعصاب تحس الحياة؟ إنه الله ! ولكن بعض أبناء آدم لا يرى حرجا أن يحيا شبه دابة لا وعى لديها ولا استدلال!. قلت: إن الله أبدع العالم ليدل بإبداعه على ذاته الأقدس ولقد سأل الإنسان مرتين هل وجد ما يعيب؟ (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير). ص _109(6/97)
الصواب لا يلد إلا الإيمان والبيئة الحرة قد يوجد بها الخطأ ولكنه يولد ليموت. ولذلك كان الإلحاد والاستبداد قرينين جميعا وفى عقائد المفكرين كان اليقين هو الأغلب. وقد يكفر بعض الناس لآفة فى عقله أو قلبه! أذكر أنى قرأت فى صباى الباكر كتيبا اسمه " خواطر منتحر " ذكر فيه المؤلف البائس أنه ذهب إلى مرصد يشهد فيه الأفلاك وهى تدور فى فضائحها الرحب، فلما شاهد عظمة المجرات وسعة الملكوت خرج وهو يقول أنا كافر بالله!!. فضحكت ساخرا وقلت: هذا الجحش الكافر ما آمن يوما، لقد دخل المرصد وهو كافر، وخرج كما دخل، إنه يظن الله بقرة فى قرية هندوكية، أو صنما فى قبيلة عربية، وأنتظر أن يرى إلها من جنس ما يتصور فلما خاب حدسه أعلن كفره، وإلى حيث ألقت. إن الإيمان عقل واسع الذكاء وفطرة بالغة النقاء. الذكاء وحده لا يكفى، فإن إبليس كان ذكيا ولكن شهوته غلبته والله لا يقبل أمرءا خسيسا مهما كان عقله، والطيبة المغفلة لا تكفى فهى تهزم الحق فى أحرج المواقف، وتجر عليه العار. * * * ص _110(6/98)
ساسة يخدعون أنفسهم قضايا الإسلام الثقافية والسياسية تتدحرج ببطء نحو هاوية حفرها له أعداؤه وارتقبوا بصبر أن تتساقط فيها واحدة بعد أخري! وإذا كانت بعض الدول العربية قد اعترفت بإسرائيل، فالبعض الآخر فى طريقة إلى الاعتراف سواء كان فى هرولة أو استخذاء! والأخطر من ذلك علاقة العرب أنفسهم بدينهم!. إن منظمة التحرير الفلسطينية أعلنت علمانيتها من سنوات طويلة، وعندئذ أعترف العالم "الحر" بها، وبأنها ممثلة الشعب الفلسطينى، أما حماس مثلا فإن ارتباطها بالإسلام يجعلها جماعة خارج القانون!!. إن أوروبا وأمريكا تكنان حقدا عميقا على الإسلام خاصة، وإن كانت تستر ذلك بأنها ترفض الطابع الدينى فى سياستها العامة!!. هل هذا صحيح؟ المعروف أن التاج الانجليزى يحمى الكنيسة الإنجيلية فى إنجلترا، وأن الأحزاب المسيحية الديمقراطية تحكم ألمانيا وإيطاليا وغيرهما!. إن ساسة الشرق العربى يخدعون أنفسهم عندما يحسبون العالم طفق الإنتماء الدينى، بل إن هذا الإنتماء يقوى ويضرى عندما يكون التعامل مع شعوب إسلامية، عندئذ يكون المسلمون الأمة المنبوذة الحق، الذليلة الجانب، ويكون الرؤساء، المفضلون فيها هم الذين لا تجرى على ألسنتهم كلمة الإسلام، والذين لا يحلون حلاله ولا يحرمون حرامه، وهناك أحداث مائعة تمر بالشعوب فلا تومئ دلالتها إلى خير أو شر، وهى أحداث قصيرة خفيفة الوزن.. ولكن هناك أحداثا هى مربط الفرس كما يقول العامة، من هذه الأحداث مستقبل القدس، فإن اليهود فى تراثهم الدينى وفى هتافهم السياسى يكررون أن القدس لهم، وقد أفلحوا فى جعل يهود أمريكا طوائف من الإرهابيين يقامرون بمستقبل بلادهم لإنجاح المخطط الصهيونى فماذا سيفعل العرب؟ ص _111(6/99)
هل سيظلون يعبدون مناصبهم ويساومون على دينهم ودنياهم ويتركون القدس عاصمة لليهود؟! أم يعلمون أن زمان المساومات انتهى، وأن هناك منطقا آخر لحماية الأرض والعرض والدنيا والآخرة؟ إن التوبة إلى الله ليست ورقة يلعب بها، إنها إعادة بناء التاريخ! إنها تصحيح مسار خاطئ! إنها نهاية لتعطيل شرائع وتمويت قيم طاهرة، إنها جعل القرآن كتابا للأحياء لا كتابا للموتى، وأوامر جادة لتنظيم الشعوب لا أنغاما خنثة لإراحة القاعدين (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ..). * * * ص _112(6/100)
لوثات المنحلين القوى المعادية للإسلام تصوب سهامها للقمم والسفوح على سواء، تريد صرف الأمة عن رسالتها وعبادتها وحشدها تحت رايات أخرى لا تمت إلى الإسلام بسبب. وقد رأيت عمل هذه القوى بين جامعى القمامة وبين حملة الأقلام وقادة الشعوب تريد صرفهم عن المساجد فلا يقيمون صلاة! وعن الصيام فلا يعرفون لرمضان حرمة وكما تعطلت شرائع الحدود والقصاص يجب أن تنسى الجماهير بيوت الله ومعالم الشهر المبارك! فما مبلغ نجاح الاستعمار العالمى فى بلوغ غاياته تلك؟ الواقع أن طبقات الشعب لا تزال وفية لدينها متشبثة بأوامر ربها، فالمساجد مزدحمة وعدد من الأغنياء يمد موائد الرحمن لإطعام الصائمين الفقراء. إن الاستعمار نجح بين نفر من المنتمين إلى الشيوعية الذين يتسمون هذه الأيام بالعلمانيين ونفر من الرؤساء الذين لا يغنيهم أن يحيا الإسلام أو يموت. فقد تركوه فى حياتهم الخاصة وعاشوا بعداء عن هواه! وسمعت أحدهم يزعم أن الصوم يعطل الإنتاج!!، ولذلك أفطر وأمر العاملين بالإفطار . أى إنتاج تعطل؟ إن اليهود فى دولتهم يعطلون العمل عمدا يوم السبت، وخلال أعيادهم الدينية كلها.. ومع ذلك لديهم مخزون من القنابل الذرية يستطيعون به إبادة العرب. وهم فى سائر الأيام يتصببون عرقا لإقامة سلطانهم ودعم مستقبلهم، فما الذى صنعه المفطرون من رؤساء العرب؟؟ إنهم ما أجادوا فلاحة الأرض ولا حراسة المحاصيل! ص _113
وقد رأيت تمثالا للحبيب بورقيبة الذى ألغى رمضان وهو يمتطى صهوة حصان وكأنه ينهب الأرض به نهبا، واستغربت المنظر فلا أعرف الرجل فارسا، وإنما أعرفه مقطوع الصلة. بالإسلام وتذكرت قول المتنبى. وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا!! إن الصيام فريضة يستحيل أن يجحدها مسلم، وقد يستولى الشيطان على رجل يعبد بطنه ويغريه بالإفطار، أما إلغاء الشهر فانسلاخ من الدين وخروج من الملة، فلنحذر على ديننا ولنحمه من لوثات المنحلين. * * * ص _114(6/101)
الشرك يحفر قبره يبدو أن الباطل يحمل جراثيم فنائه فى كيانه، ولكن إعلان وفاته لا يتم إلا عندما يستطيع الحق أن يحتل مكانه ويسد فراغه. وهذه الجراثيم قد تكون فيما ينطوى عليه الباطل من نقائض عقلية ورذائل خلقية، وقد تكون فيما يقوم به المبطلون أنفسهم من حماقات تدل على فقدان الرشد، وغباوة التصرف، ونحن نصدر هذا الحكم بعد تدبر قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) وقوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) وعندما ننظر فى فتح مكة وسقوط دولة الوثنية نرى إن الشرك هو الذى حفر قبره وبحث عن حتفه بظلفه! فقد كانت هناك معاهدة تضع الحرب عن الناس عشر سنين، فما الذي جعل أهل مكة يستعجلون نقضها؟ ويسعون إلى ذلك بنزق غريب؟ ولماذا اعتدوا على حلفاء رسول الله دون سبب وقاتلوهم فى الحرم أو سلطوا عليهم من يقتلهم، والحرم يأمن فيه الحيوان والطير؟ إن قريشا فقدت رشدها بهذا العمل وقدمت للمسلمين العذر فى معاقبتهم! فلما جاء شاعر خزاعة المعتدى عليها يقول للرسول: إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا! وجعلوا لى فى كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا! هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا!! قال له الرسول: نصرت يا عمرو بن سالم، وتحرك الجيش الإسلامى إلى مكة، وحطم الأصنام وأدب العابثين ووضع نهاية لطيش الوثنية. ص _115
المهم أن الحق كان أهلا للسيطرة على الموقف وفرض نفسه ومبادئه، وكم من باطل يستحق الفناء ولكن سنن الله الكونية تركته لأن الحق لم يستكمل أهبته، ويتهيأ لاحتلال مكانه، لا على مستوى الأفراد بل على مستوى الجماعة كلها. وإنى أنصح مسلمى عصرنا أن يرتفعوا إلى مستوى الأحداث وأن يسائلوا أنفسهم: هل لديهم الطاقات العلمية والخلقية والسياسية التى تجعل القدر يورثهم المشارق والمغارب؟ إن الله ناصرهم فور استكمالهم هذه الطاقات وإلا فسيبقى الباطل يعربد فى الأرض. * * * ص _116(6/102)
... على رءوس المسلمين.. هناك نفوس خيرة تعاف الشر وتأبى الانحدار إليه وإذا رأت له أثر فى المجتمع ابتعدت عنه جهدها، من هؤلاء " أكثم بن صيفى " رأى النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعرض نفسه فى المواسم أوائل البعثة فقال له: إلام تدعو الناس يا أخا العرب؟ فتلا عليه الآيات الثلاث بدءا من قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)... إلخ. والآيات الثلاث تضمنت وصايا عشرا وختمت جملها بهذه الكلمات ".. لعلكم تعقلون. لعلكم تذكرون. لعلكم تتقون ". فماذا قال أكثم بعد سماعها؟ قال والله يا أخا العرب لو لم يكن هذا دينا لكان فى خلق الناس حسنا! كلمة حق من رجل منصف وهى أشرف من رد قريش عند سماع القرآن: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب). ويوجد الآن منصفون فى أقطار الغرب لا يسرهم ما هم فيه من فوضى فى ميدان التربية وما تعانيه القيم الشريفة من وحشة قى المدارس والجامعات!! وقد أذاع مكتب الأهرام بيننا من بضعة أيام صيحة تحذير عالية أكد فيها مسئولو التعليم فى بريطانيا أن الوضع الحالى للمدارس الإنكليزية يهدد الحضارة الغربية، وقالوا إن القيم فقدت مكانتها، وأن التلاميذ أصبحوا لا يميزون بين السلوك الصحيح والسلوك الخاطئ. وناشد السيد " ديرنج رئيس إدارة المناهج " المدرسين أن يعلموا الأولاد القيم الصحيحة، وإلا" فسنعود إلى " البربرية " خلال جيلين فقط!! ص _117(6/103)
والحق أن عاطفة التدين فى أزمة شديدة، فهى فى الغرب لا تساوق تقدمه الحضارى، وهى فى الشرق الإسلامي تواجه مقاومة عاتية وتعد حينا بقايا رجعية يجب أن تزول، أو مظاهر إرهاب يجب أن يسحق.. وهناك نفر من المرتزقة وظفهم الاستعمار العالمى لهجاء الإسلام وتوهين قواه فى ميادين فكرية شتى وهم يعملون بدأب لبلوغ أهدافهم ولعل الهدف الأقرب أو الأوحد الآن ارتضاء اليهودية دينا يفرض سلطانه على القدس، ويفرض تعاليم التوراة والتلمود على إسرائيل! فهذه معاصرة لا تأباها الحضارة. إن اليهودية جديدة فى كل وقت، أما القرآن والسنة فيجب وضعهما فى دور الآثار... هل خصومنا ملومون؟ أحسب أن اللوم يقع على رءوس مسلمين لا يزالون يتقاتلون فى أفغانستان والصومال وبلاد أخرى لا تخطر بالبال. * * * ص _118(6/104)
أرانب غير أنهم ملوك.. معروف أن المسلمين خمس سكان العالم، وأن هذا الخمس لا يعيش فى الجانب الشرقى منه قطعة متماسكة بل ينتشر مع شرايين العمران البشرى وشواطئ البحار العظمى وأودية الأنهار الخصبة وحيث قامت الحضارات كلها فى دنيا الناس! فهل لهذا الدين الممدود " إعلام " يمثل آماله و آلامه؟ ويبكى هزائمه ومصائبه؟. إن القوى المعادية للإسلام حريصة على أن لا تكون للإسلام وحدة جامعة، ولا صفة خاصة، وعلى أن تضرب عقائده وشرائعه فى صمت، فإذا صرخ مضروب ذكر اسمه ولم تذكر صفته وتم تشخيص حالته بطريقة تزيد الأمر عماء وإبهاما!! وبهذا الأسلوب لا يمكن أن تطالب بإحياء شريعة ماتت أحكامها، ولا بإحياء تقاليد ماتت روافدها! أعلم ويعلم عباد الله أن إريتريا دولة مسلمة نصاراها خمس السكان أو أقل، ولم يكن بها خلاف دينى، وكان " بأسمرة " عاصمتها معهد أزهرى تولى مشيخته بعض أصدقائى. ثم رأى الصهاينة أن يجعلوا " أسمرة " دولة مسيحية!! وتم لهم ما أرادوا ولم تتحرك القومية العربية العظمى!! وتحولت الكثرة المسلمة إلى قلة مضطهدة وأمر المسلمون بالسكوت حماية للسلام الاجتماعى! وبغتة هجم الأسطول الأيرترى على جزيرة " حنيش " بالبحر الأحمر وهى جزيرة يمانية واحتلها!! وانكشفت الخطة التى رسمت فى الظلام. إن اليهود يريدون أن يحكموا شمال البحر وجنوبه، وبدل أن يكون بحرا إسلاميا محضا، ينتقل زمامه إلى الأيدى الأخرى، وتتعاون إسرائيل وايرتريا على خنق الملاحة فيه، والمهم أن هذه القضية الإسلامية لن يذكر الإسلام فيها وسوف يموت مجاهدو إيرتريا المسلمون ـ واليمانيون ـ دون أن يذكر للإسلام اسم، أو يرفع له علم. ص _119(6/105)
إن الخطة العالمية الجديدة تمويت الإسلام بأسماء مختلفة وعندما سمح بوجود لمسلمى البوسنة سمح لهم فى ظل اتحاد فيدرالى مع الكروات وهم كاثوليك وأظن البابا قد أخذ رأيه فى هذا ـ شكرا له! إن عشرات الألوف من المذبوحين لا تصلح ثمنا لاستقلال المسلمين بأرضهم التى ورثوها عن آبائهم إن النقاء العرقى لخنازير الصرب الذين قتلوا مئات الألوف يجعلهم ملاك الأرض بل ملوكها!! ومن المسئول عن هذه المآسى، الساسة الذين كرهوا الإسلام وجعلوه وراءهم ظهريا وعاشوا لدنياهم وحدها.؟! أرانب غير أنهم ملوك مفتحة عيونهم نيام * * * ص _120
حذارى من تدين الخرافة كانت للعرب فى جاهليتهم أوهام كثيرة لم يستخرجهم منها إلا الإسلام، فالشعر فن من القول عرف فى أمم شتى، وكان الشعر مفخرة للعرب خاصة. لكن الشعراء العرب انفردوا بزعم كاذب، أن لكل منهم شيطانا يلهمه القول!! بل استحمق أحدهم فقال ـ ولعله كان سكران. إننى وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطانى ذكر!! والحمد لله الذى شرف العرب بالإسلام فأخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الخيال إلى الرشاد. والقرآن كتاب علم لا يعرف إلا الحقيقة ويغسل العقل الإنسانى من الأوهام ويحذر النبى الخاتم من تدين الخرافة والأمم الكذوب: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير). والعقل الإسلامى بطبيعته القرآنية غيور على الحق، ومن هنا فأنا أنظر إلى جماهير من أمتنا مستوحشا لأنها تألف الخطأ ولا تستنكره، وتنظر إلى الزور ببلادة فلا يتمعر لها وجه، ولا يكسف لها بال. وقد نظرت إلى العبادات الشائعة فوجدت بعض الغيبيات وبعض الطقوس وبعض الأخلاق السلبية.. قلت أين مجتمع الصحابة والتابعين الذى أمرنا أن نتأسى به؟ إن السلف الأول خرج من الجزيرة فملأ العالم بالإيمان، وكنا نحن بعض ثماره! قال لى شخص بليد متطاول: أتريد أن نكون مثله؟ ص _121(6/106)
قلت له: أأمثاله الذين أنتقلوا إلى الأمريكيتين واستراليا وتركوا تراثهم الدينى واللغوى هناك! إن أمريكا الجنوبية تضم عشرين دولة كاثوليكية تنطق بلغة واحدة هى الأسبانية، وأنتم والحمد لله ـ الذى لا يحمد على مكروه سواه ـ تتحدثون إلى اليوم عن الجان الذى يسكن بشرا ويفعل به ويترك، ما أظن أن الله تارككم دون أن تصيبكم قارعة إذا لم تسارعوا بتوبة!! لقد كان نبينا يقنت فى صلواته يستغيث الله كى ينقذ أسرى المسلمين ومستضعفيهم، وكنت أسمع أدعية المبتهلين فى إذاعتنا فلا أسمع شيئا عن أسرانا وقتلانا فى الجبهات التى نفذ منها الاستعمار إلى صميم أمتنا!. لماذا لم نستنزل لعنات السماء على الظالمين، ونوقظ الوعى الجماعى فى أمتنا التى نجح الاستعمار العالمى فى تقطيعها سبعين أمة، إن رسالتنا إيقاظ العالم ليعرف ربه، فكيف ننسى نحن هذه الرسالة؟! * * * ص _122(6/107)
إنصافا لأنفسنا.. أذكر مما شاهدت من تاريخ المسلمين القريب أن بعض مآسيهم كان ينبت فى أرضهم! وأن ما يلعقون مرارته كان مما زرعته أيديهم! حتى زعم الإنكليز يوما أنهم احتلوا مصر لينقذوا الفلاحين الضعفاء من بطش ملاك الأرض!! وما زعم أحد أن المستعمرين كانوا رسل عدالة ومرحمة، ولا أنهم خرجوا من أرضهم ليجودوا بما ملكت أيديهم! ولكن ماذا يقول المرء فى طيش موظف أرعن يظلم لاعب كرة ويحرمه حقا له ويضطره إلى الاستغاثة " بالفيفا " الجهاز الرئيسى للعبة (!) فيحكم بصرف المبلغ ويهدد بمعاقبة الظالم ويقيم العدالة بالعين الحمراء! أما كنا أولى أن نستفيد هذا المسلك من ديننا؟ إننى أزدرى الرجل يترك الصلاة ذهولا عن نعمة الله، وحق الخالق.. وأزدرى الرجل تضعه الدولة فى منصب قيادى فلا يفيد منه أحدا، وإنما يذهب بنفسه ويستفيد الخيلاء والصلف! والتعامل مع الناس وكأنه على سطح عمارة شامخة!. والذى يجحد حق الله فى صلاته كافر، وشر منه الذى يجحد حق الله والناس فى منصبه وفيه يقال: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا). هل نخون ونظلم ثم ننتظر من أى " خواجة " فى أوروبا أو أمريكا أن يصيح فى وجوهنا: اتقوا الله!! ص _123(6/108)
الموظف الذى يحتقر أفراد الأمة لا يجوز أن يبقى فى عمله يجب تنقية الجهاز الوظائفى منه ، أما أن يتدحرج إلى فوق لأنه يجيد الملق فهذه جريمة… وقرأت أن النيابة العامة تحقق مع نصابين عالميين فى مبالغ ضخمة وحسنا فعلت، فإن نبينا عليه الصلاة والسلام نبه إلى أن هلاك الأولين يعود إلى أنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه وإذا سرق فيهم الشريف تركوه. واللعب بالعقوبات على هذا النحو إهدار للعدالة وإضاعة للمصلحة ، وقد فهمت أن هناك معاملات من قبيل ما يسمى غسل الأموال وخير ما نلتزمه إنصافا لأنفسنا وديننا " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ". إذا كنا عباد الله فلرب الناس دينه الذى تسعنا حدوده. وإذا كنا مواطنين ـ كما يتنادى العلمانيون ـ فللناس ضوابط تحكم حيوانيتم ثم على العرب خاصة وقد ورثوا الإسلام واجب التقيد به والالتزام لمعاملة والإنفاذ لشرائعه (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ص _124(6/109)
فريق من الدواب.. نظرت إلى نفسى وإلى من حولى فى مطلع السنة الفرنجية الحاضرة ثم قلت: إذا كنت من حراس التراث وحماة الأصالة فلا ريب أن الهزيمة التى لحقت بنا فادحة وأن مصابنا شديد فى وعينا الحضارى وحسّنا التاريخى. إن الجماهير المغلوبة على أمرها فى القارات كلها تجرى فى الطرق لا تعرف لها هدفا وتبحث عن الملذات فى مظانها تريد التشبع منها والبحث عن مزيد!. لقد نجح الاستعمار الثقافى فى فرض طابعه علينا وتعليق قلوبنا بكلمات جديدة ـ كما يقول الأستاذ "هيثم الخياط " ـ مثل التنوير، والحداثة، والجديد، والمعاصرة، والتحرر، وثقافة العصر!! وهى كلمات تخفى وراءها نسيان الماضى الزاهر، وتبغى إهالة التراب لا على الوحى المحمدى وحده بل على تراث النبيين أجمعين!. سمعت أحد الناس يقول: نحن فى عصر الفضاء والذرة، وهناك ناس يعيشون فى عصر الناقة والأطلال!. قلت: نحن لا نتكلم فى وسائل النقل، بل نتكلم فى وظائف العقل!! إن الذين يجحدون الوحى الأعلى هم فريق من الدواب وإن غطوا أجسامهم بالمزركش من الثياب ونقلتهم الطائرات بين المشاتى والمصايف!. إن الاستعمار الثقافى بدأ منذ قرنين، يوم أجلب علينا ذلك الطاغوت الماجن "نابليون " بخيله ورجله وغزا بلادنا بأساطيله وجحافله ليقضى على بوادر نهضتنا الحديثة- ونترك الكلام للدكتور " هيثم الخياط " ـ يحدثنا عن هذه النهضة التى حمل لواءها آنذاك " البغدادى " صاحب الخزانة ، و " الزبيدى " صاحب تاج العروس. و"الجبرتى" الكبير صاحب المخترعات الميكانيكية والصنائع الحضارية التى تعلمها منه طلاب الفرنجة وذهبوا إلى بلادهم كما يقول " الجبرتى " المؤرخ: فنقلوا إليها معارفنا! ص _125(6/110)
وقد استطاع " بونابرت " أن يحقق مراده بكل شراسة فكان يأمر كل يوم بقتل خمسة أو ستة من التلامذة النابهين لهؤلاء العلماء الأعلام، ثم كلف خليفته " كليبر " أن يجمع المئات من المصريين والمماليك وأن يسفرهم إلى فرنسا ليعتادوا على لغتها وتاريخها ويشهدوا تقدمها وارتقاءها ثم يعودوا إلى مصر مبشرين بحضارة الغرب. يقول أمين سامى باشا فى كتابه " تقويم النيل " لما غادر الفرنسيون مصر صاغرين حملوا من الأوراق والكتب لا ما يخصهم فقط بل كل ما رأوه نافعا.. فهل نعرف تاريخنا. ونذكر مالنا وما علينا..؟. * * * ص _1 ص(6/111)
لعلنا.... هناك حكم يعتمد فى صلاحيته وبقائه على أصول خاصة وأفكار معينة فهو يستمد وجاهته ومكانته من هذه الأصول والأفكار. ولا ريب أن أى حكم إسلامى يعتمد فى وجاهته ودعم المسلمين له على صلته بكتاب الله وسنّة رسوله، وهذا الأساس تفاوت مع الأيام تفاوتا قريبا أو بعيدا، ولست أنظر إلى أحوالنا فى الهجمة الاستعمارية خلال القرنين الأخيرين، ففى هذين القرنين طاحت أصول واختفت فروض!!. وإنما ألقى نظرة عامة إلى تاريخنا كله فى جزء من حساب النفس لا نستغنى عنه أبدا. ولأبدأ بحساب ضاحك حتى أخفف الوقع على القارئين.. فى فتح عمورية أرسل قصر الخليفة المعتصم إلى المنجمين يسألهم: هل يصلح القتال الآن مع الروم؟ وبماذا تشير الكواكب؟! وقال المنجمون: الكلمة الآن لكوكب النحس، وننصح بعدم خروج الجيش! ولكن فورة الإيمان والحماس طغت، والغضب للمسلمة التى صاحت: وا معتصماه غطت على هراء المنجمين فخرج الجيش الإسلامى، وفك قيود الأسيرة، وعاد بها محررة براقة الجبين !! وأنشد أبو تمام قصيدته المشهورة. السيف أصدق إنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد واللعب بيض الصحائف لا سود الصحائف فى بطونهن جلاء الشك والريب!! والسؤال فى ظل حكم إسلامى: كيف يكون للتنجيم مكان، وكيف يطلب له رأى؟؟! وقرأنا فى تاريخنا أن سلطان العلماء " العز بن عبد السلام " حكم ببيع المماليك ودفع ثمنهم إلى بيت المال وهو الذى يقوم بتحرير رقابهم إذا شاء!! ص _127(6/112)
والسؤال مع احترامى العميق للعز رضى الله عنه أتساءل: هل أولئك العبيد أرقاء حقا؟ أم هم ضحايا تجارة الرقيق التى شاعت فى كل مكان والدين منها براء؟ إننى أقارن بين المستعصم آخر خلفاء بنى العباس وبين قطز المملوك الذى بيع بثمن بخس، فأرى أن العبد " قطز " كان أعمق إيمانا وأغلى تضحية وأيمن نقيبة من كف مستعصم ينتمي إلى ذؤابة قريش! إن قطز كان حرا اختطف ثم أمكنته الأقدار أن يهب الحرية والشرف لجماهير المسلمين، أما المستعصم فقد اختطف أمور المسلمين فما أحسن الدفاع ولا أحسن الموت!! فسلم بغداد للتتار وسلم نفسه للجزار!! أعتقد ـ ونحن فى طريقنا لاستعادة أمجادنا ـ أننا بحاجة إلى وقفات طويلة من حساب النفس لعلنا.... * * * ص _128(6/113)
عدت كاسف البال.. انتهت الحرب فى أوروبا بين العلم والدين على النحو الذى ينشده العلماء، وعاد الكهنة إلى قواعدهم يعملون داخل الحدود التى رسمت لهم. ولكن العلاقات بين الأديان السماوية الثلاثة حكمتها ذكريات وأطماع جعلت الإسلام ـ وحده ـ يترنح تحت ضربات شديدة فقد تيقظت اليهودية بغتة زاعمة أنها المالكة الشرعية لفلسطين وما حولها! وعلى اليهود المبعثرين فى أنحاء العالم أن يعودوا إليها ويطردوا العرب منها، ورأت إنجلترا وأمريكا وغيرهما من الحلفاء أن يساعدوا اليهود فى بلوغ هذا الهدف إحقاقا للحق وإقرار للسلام ! أى حق وأى سلام؟ وعلى المسلمين إن كانوا محبين للسلام أن يذعنوا ويتركوا بيوتهم ويرحلوا... ومن ثمانين سنة والمعركة دائرة الرحى، وقد رأيت خلال هذه الحقبة الطويلة أن اليهودية كسبت جميع المعارك التى خاضتها وأن الاستعمار حالف اليهود بإخلاص. وأن العاملين فى الحقل الإسلامى تتجمع الخسائر فى كفتهم يوما بعد يوم! ومن أغرب ما وقع فى دنيا الناس أن يزداد اليهود إيمانا بحاضرهم ومستقبلهم وأن يقع فى العالم العربى فصل بين العروبة والإسلام. فاليهودى الآن يجنح إلى توراته وتلموده، أما المسلم فبينه وبين كتاب ربه وسنة نبيه مسافات! ونصارى نيويورك ينادون بأن القدس عاصمة إسرائيل، أما العرب بين المحيط الهادر والخليج الثائر فهم يقولون: نبحث القضية!! وتأهلت مع الثقافة التى تخدم الإسلام فى هذا العصر فضربت كفا على كف، رأيت صورة غلام فى نحو العشرين جمع شعر رأسه فوق قفاه وبدا كأنه من فلاسفة ص _129(6/114)
أوروبا فى القرون الوسطى وشرع يقول ـ فى التلفاز ـ إنه مع المبدعين من أمثاله يهتمون بالفنون وينقلونها إلى الحياة!!. عدت إلى نفسى كاسف البال.. إن الثقافة التى تتنكر للإسلام فى هذه الأيام لون من الخيانة العظمى، لأنها صرف عن الإيمان وتمكين للإلحاد وهل تطلب الصهيونية أكثر من هذا الذى ينشر، العلمانيون بيننا؟ إنهم يربون شبابهم على خدمة دينهم، أما نحن فنربى شبابنا على نبذ شعائرنا وتقاليدنا وتراثنا كله، فماذا يبقى لنا؟ وبماذا نعيش؟!. * * * ص _130(6/115)
وكذلك أنزلناه حكما عربيا. فى الحروب المعلنة على الإسلام من زمان بعيد وجدنا أن القضاء على العروبة خطوة ما منها بد للقضاء على الإسلام نفسه. فالقرآن كتاب عربى اللسان فإن زالت اللغة لم يبق له كيان، والتراجم ليست أكثر من تفاسير جزئية لبعض المعانى التى تيسرت للمترجم ويستحيل أن تسمى قرآنا أو أن تعصم من الأخطاء.. وشئ آخر ينضم إلى النص العربى للقرآن الكريم هو وجود أمة تمثله فى الأرض أو تكون نموذجا للعمل به وتطبيقه فى أرجاء الحياة، والجهود مبذولة الآن لمنع تعانق العروبة والإسلام فى نظام كالذى صنعه محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ربع قرن من الكفاح الهائل فى الجزيرة العربية تحقق فيه قوله تعالى (وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) والحكم العربى هنا يستوى فيه أن يكون بمعنى الحكمة أو بمعنى السلطة، فقد تحقق الأمران معا فى الخلافة الراشدة!. والقوى المعادية للإسلام مستميتة الآن فى منع هذا النموذج من العودة، وألفت النظر هنا إلى أن أهل الكتاب الأولين ـ وأعنى النصارى خاصة ـ كانوا الظهير الأكبر فى بناء دولة الإسلام الكبرى خلال القرن الأول، فقد كانوا فى وادى النيل وفى دول المغرب الكبير وفى أقطار الشام والأناضول وفى العراق وخراسان واليمن والحبشة كان السواد الكثيف الذى تزاحم على الدخول فى الإسلام!! والغريب أن سورة الإسراء المكية هى التى تنبأت بذلك ووصفته فى مشهد عاطفى عميق الآثار. ص _131(6/116)
قال الله لنبيه محمد (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا * قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * و يقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * و يخرون للأذقان يبكون و يزيدهم خشوعا) هؤلاء النصارى الصالحون فى مصر والشام وغيرهما الذى دخلوا فى الإسلام بحماس وتقوى وهم الذين شدوا أزره وقووا ظهره وهزموا معه دولة الروم وأنزلوا رايتها إلى الأبد من أقطار فيحاء! لكن دراستنا للتاريخ مؤسفة وحكمنا بالإسلام شابة خطأ كبير بل شابته خطايا فيحاء ! وهل أعجب من أن واليا فى خراسان وآخر فى مصر استبقيا الجزية على من أسلم حتى زجرهما عمر بن عبد العزيز وأعاد إليهما صوابهما؟! * * * ص _132(6/117)
ليسوا سواء الحديث عن أهل الكتاب عندنا يحتاج إلى تأمل وأناة، فإن هناك قوما يقولون عنا لا علاقة لهم بالسماء ولا مكان فى مواريثهم لوحى !! وهم ما يحسبوننا إلا خارج القانون " وقالوا: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا... "، ولا هدى وراء ذلك " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى... " أما المسلمون فلا طريق لهم إلى الجنة... وجملة اليهود من هذا الصنف الذى يظن بنا السوء، ولا يفكر فى اعتراف بنا أبدا! وانتظار اعتراف من هنا أو من هناك صعب وعلى صاحب الرسالة أن يؤدى واجبه بصدق وتجرد، والمستقبل عند الله ولذلك قيل لمحمد عليه الصلاة والسلام (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) عليه التشبث بتوحيد الله والإيمان بسائر كتبه و إقامة العدل بين جميع الأتباع إلى أن يجمع الكل يوم الحساب!! وليس فى هذا اليوم ظلم. والطريف أن الوفد الذى آمن من أهل الكتاب عبر عنه القرآن الكريم بهذه الكلمات (… آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) كأنهم يقولون لا جديد فيما سمعنا فنحن مسلمون من قبل!! ويزداد هذا المعنى وضوحا فى وصف الله لأهل الكتاب (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) إلى آخر مما وصفوا به من خلال التقى والفضل.. ص _133(6/118)
إننا نسجل هذه السطور لكى يعلم أهل الاعتدال والقسط إننا نفتح صدورنا لمن شاء التعاون على البر والتقوى. فإن العالم طافح اليوم بالآثام والمظالم، وقد استطاع الملاحدة أن يسودوا صحائفه ويملؤوها بالكفر الصراح، فهل يبقى تبادل التهم ديدن أهل الأديان؟ وهل تبقى استباحه المسلمين وحدهم قاسما مشتركا يجمع كارهى الوحى والضائقين بعدالة السماء؟ إن الفكر المادي يزحف ببطء ولكن بإصرار كى تختفى عقيدة الألوهية والبعث ويعيش البشر فى جاهلية حديثة! ونحن المسلمين نشفق على الدنيا من هذا المصير ونريد للعقل الإنسانى الذكى أن يعرف ربه معرفة بعيدة عن الخرافة، وأن تتعايش أجناسه تعايشا قائما على العدالة والتعاون، وباسم الإسلام نتقدم إلى الجميع كى يرسموا للعالم مستقبلا أشرف. * * * ص _134(6/119)
...شغل رجال لا حفظ أطفال. خطرى لى أن أفرح بالعيد كما يفعل الناس، ولكنى عجزت فإن أعباء الرسالة التى أحملها مع غيرى من الدعاة أنقضت ظهرى وطاردت البشاشة من وجهى! والأمر يحتاج إلى شرح.. فإن الله عندما بعث إلينا رسله بالحق قال (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). ولكن أتباع الرسل فى هذه الأيام إما فقدوا الكتاب، وإما فقدوا الميزان، ثم تعسفوا الطريق فى هذه الحياة فلم يستقم لهم شئ وكلبهم من ليس لهم كتاب ولا لديهم ميزان!!. كان البحر الأحمر بحيرة إسلامية من أعلاه إلى أدناه. فأقام اليهود لهم دولة من فوق ثم أقاموا دولة مسيحية بين كثرة إسلامية كبيرة فى إيرتريا لتحرس لهم البحر من تحت! وكذلك كان البحر الأبيض ـ على عهد الأتراك ـ ثم أصبح شاطئه الإفريقي مسلما منقسما متخلفا وشاطئه الأوروبى يمثل تقدم الغرب فى كل ناحية، والجهود الآن تبذل لمحو الشارات الإسلامية عن هذا البحر، وتغليب ثقافة متوسطية عليه!، تبدأ بإنشاء مكتبة الإسكندرية لإشاعة هذه الصبغة! وتسأل: أين الجامعة العربية؟ إن العرب إذا لم يقودوا العالم الإسلامى سياسيا فيجب أن يقودوه ثقافيا والجواب: أن العرب الذين يهرول بعضهم إلى إسرائيل، وبعضهم إلى أوروبا وأمريكا نسوا ص _135(6/120)
الحضارة الإسلامية ودور العرب فيها وهم الآن يريدون أن يعيشوا بتمويل يهودى- غربى! وإذا غامر العرب بحركة غير محسوبة فلدى بنى إسرائيل سلاحهم الذرى يسحقون به كل معارضة إننى رجل مسلم أعرف رسالة محمد معرفة حسنة، وليس الإسلام غولا تأكل الناس، إننا نتبع دينا يقول لأتباعه (و افعلوا الخير لعلكم تفلحون) ، (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) والعالم الآن يتجه إلى نسيان الوحى، وجحد الله، وافتعال الأديان كما يهوى! ويستحيل أن نكفر بالله الواحد أو ننسى هدى محمد، و إذا كان لابد أن نفنى فى سبيل هذه الغاية فمرحبا بالموت، فإن فناء فى الحق هو عين البقاء...!. أطالب المسلمين أن يصطلحوا مع دينهم على نحو يرتضيه أولو الألباب، وأن يعرفوه معرفة شريفة لا غلو فيها ولا تفريط، وأن يحترموا حقوق الإنسان أيا كان لونه وديانه، وأن يجعلوا القرآن شغل رجال لا حفظ أطفال. * * * ص _136(6/121)
صفحة مطوية من التاريخ. هذه صفحة مطوية من تاريخ العلاقات بين الإسلام والنصرانية رأيت أن أذكر بها أولى الألباب. إن الإسلام كان حاسما فى تقرير عقيدة التوحيد فلم يوارب ولم يتجوز وأعلن رفضه التام للتعديد والتجسيد وبين أن المسلمين جزء واضح من الكائنات التى أسلمت لله وأذعنت لمجده وتعرضت لرفده (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا و كرها و إليه يرجعون) إلا أن الإسلام مع هذا الإيمان الخالص عامل النصارى سياسيا واجتماعيا معاملة رقيقة ورأى الاقتراب منهم والتعاون معهم. وظهر ذلك فى موطنين: عندما أمر النبى المستضعفين بالهجرة إلى نجاشى الحبشة ليجدوا عنده الأمان ويستريحوا من العذاب، وعندما واسى الرومان المنهزمين أمام الفرس فى معركة فقدوا كل شيء فيها وعادوا إلى بلادهم سود الوجوه تاركين النساء والأموال، وفاقدين شرق إمبراطوريتهم بما فيها مصر واليمن والشام.. ولكن صوتا فريدا لا نظير له فى المشارق والمغارب كان يصيح فى مكة! (غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون*في بضع سنين) كيف قيل هذا؟ ومن يصدقه؟ لكن القرآن قال هذا فى السنة الخامسة من البعثة تقريبا وبعد تسع سنين انتصر الرومان واستردوا كل ما خسروه، فهل اتصلوا بصاحب النبوءة يشكرونه؟ ويثنون على ص _137(6/122)
صنيعه؟ ويعجبون لأمره؟ كلا، بل زعم أفاك منهم أن محمدا قال ما قال لأنه يكره الفرس بعدما مزق كسرى رسالة له يدعوه فيها إلى التوحيد! والرسالة المذكورة صدرت من الرسول حقا ولكن بعد خمسة عشر عاما عن وقوع الهزيمة الكبرى وصدرت معها رسائل إلى القيصر والنجاشي والمقوقس وذلك فى السنة السابعة من الهجرة، فكيف تكون سبب النبوءة التى حفت بالرومان، وجعلت نهارهم ليلا؟ إن طى هذه الصفحة بإصرار لها دلالة لا تسر، ثم تقدم الجيش الإسلامى، ودخل بيت المقدس، وحانت صلاة الظهر وكان عمر يفاوض الرومان فى تسلم البلدة فقاله له الأسقف حين حانت الصلاة: حل مكانك فى الكنيسة. وهذا أدب مشكور، ولكن الخليفة الراشد قال للرئيس المسيحى: لو صفيت هنا لوثب المسلمون على المكان وحازوه قائلين: هنا صلى عمر فلتبق الكنيسة لكم وحدكم! ولم ير عمر حرجا من تعدد الأديان والمعابد فى بيت المقدس فماذا كان الجزاء؟ بعد خمسة قرون ذبحت جماهير المسلمين فى بيت المقدس، وخاضت سنابك الخيل فى دمائهم، ئم استرد المسلمون القدس، وعفوا عن جميع النصارى به فعادوا إلى بلادهم واقرين، ومن سنين قريبة دخل " أللنبى " بيت المقدس وقال : الآن انتهت الحروب الصليبية فهل صدق؟ * * * ص _138(6/123)
عدو داخل الكيان عندما يكون العدو داخل الكيان فإن مكره يكون شديدا وأذاه يكون فادحا.. وقديما كان الكفار والمنافقون يعيشون داخل المدينة المنورة يتربصون الدوائر بالمسلمين ويلحقون بهم ما استطاعوا من خسائر، فلما خرج الرسول وصحابته إلى عمرة الحديبية قال هؤلاء: خرجوا ولن يعودوا، وسيبطشن بهم أهل مكة!!. فلما عافى المسلمون بعد عقد المعاهدة المشهورة استقبلهم القاعدون يقولون للرسول (شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا…) وكان الرد الإلهى (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) وفى غزوة العسرة قال أعداء الإسلام: سيلقى المسلمون حتفهم على يد الروم، ولن يرجعوا إلى المدينة أبدا.. وعاد المسلمون منصورين وأقبل المتخلفون معتذرين عن قعودهم (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) واليوم يعيد التاريخ نفسه فإن الاستعمار الثقافى نجح فى إغواء عدد من الناس لا يخفون كراهيتهم الشريعة الله وضيقهم بالصلاة والصيام وترحيبهم بالخنا والفسوق يسلقون الدعاة بألسنة حداد، وكلما سمعوا صيحة ضد الإسلام رددوا صداها وأعلنوا رضاهم عنها..! وخطر هؤلاء شديد على مناهج التربية، فهم يعكرون تيارها يبتغون إنشاء أجيال لا عفة لها ولا يقين، وخطرهم أشد على خطط المقاومة الدينية للغزو الهاجم علينا فهم ص _139(6/124)
يرحبون به ويتعاونون مع زبانيته وسماسرته حتى لا يستجمع الإسلام قواه ويعود إلى ملء الفراغ الثقافى والسياسى الممتد فى بلاد،. وقد قرأت خمسة أسئلة موجهة إلى عدد من الأشخاص الذين يكرهون الإسلام والأسئلة هى: ا ـ هل يحافظ الإسلام حتى يومنا هذا على دعوته الشاملة؟. 2 ـ هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم؟. 3 ـ هل النظام الإسلامى للحكم مرحلة يتحتم على الشعوب العربية أن تمر بها فى معرض تطورها؟. 4 ـ هل تأخذ ظاهرة اليقظة الدينية التى برزت فى السنوات الماضية منحى إيجابيا؟ 5 ـ من هو العدو الأول للإسلام فى العصر الحالى؟ ونحن لا ننتظر من أنصار الصهاينة والصليبيين والعلمانيين أن ينصفونا. * * * ص _140(6/125)
إنني أحذر جماهير المسلمين.. تألف بعض الأمم الآثام حتى تمسى جزءا من كيانها تتمسك به وتدافع عنه، وفى ذلك يقول الله سبحانه (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم …). ومعنى زيّن لهم أعمالهم جعل القبيح فى عيونهم حسنا، وجعل المر فى مذاقهم حلوا وكرّه لهم الاستقامة وتراث السماء فهم لا يرتضون إلا ما ابتدعوا ولا يقبلون عنة بديلا. قرأت فى " الأخبار" تحت عنوان " أول زواج بروتستانتى للشواذ تم فى كنيسة بسويسرا " وهو عنوان كاذب فإن السفاح لا يسمى نكاحا. والمنكر لا يوصف بأنه عمل عادي. ونحن نعلم أن الإسلام ربط بين العقيدة والشريعة وكان من أوائل ما خاصم عليه اليهود رفضهم إقامة حد الزنى كما جاءت به التوراة. كيف يصح إيمانك بالله إن رفضت حكمه؟ وكيف تدعى الإيمان به إذا كرهت وحيه ولكن اليهود أماتوا أمر الله حتى أحياه محمد بعد ما أماتوه، وهم الآن يثأرون لأنفسهم فيعودون إلى إباحة الزنى ويضفون إليه إباحة اللواط وينشرونهما بين الأمم النصرانية التائهة..!! ويدعون العالم إلى الحرية الجنسية تحت علم هيئة الأمم المتحدة. واقرأ معى هذا الخبر المقبوح.. " لأول مرة فى سويسرا تم " تزويج " شابين شاذين جنسيا فى كنيسة إنجيلية فى مدينة برن! وقد تعاهد الشابان أمام القسيس على الحب الدائم والوفاء (!) وتبادلا خاتمى الزواج فى حضور جمع من أصدقائهما وأسرتيهما.. ومعلوم أن الزواج الآنف ممنوع قانونا فى سويسرا ولكن الحفل أقيم بشكل يتطابق مع الزواج العادي. ص _141(6/126)
وقد قال القس " كلاوس بوملين " يصف حفل الزواج كما سماه: " إنها بادرة تعويض بسيطة حيال مثيلى الجنس الذين رفضهم الكنيسة ولاحقتهم طوال قرون "! وكانت الدانمارك أول بلد فى العالم يعترف قانونا بهذا العقد. ومنذ شهور " دعا البرلمان الأوروبى الدول الأعضاء فيه إلى منح الشواذ ـ المتزوجين ـ الحقوق والواجبات التى يتمتع بها الأزواج العاديون "!! إنه يحزننى أن أسجل هذا الخبر الوضيع، بيد أننى وجل على مستقبل الإسلام فى أمته وفى العالم بعدما أنتصر الاستعمار التشريعى فى كثير من أقطارنا، وأبطل حرمة الخمر والزنى! كان القذر الجنسى يتم فى خفاء، ثم صار يبدو على استحياء، ثم تواضع عليه الرعاع ثم صار قانونا يعمل به، ثم انعقدت مؤتمرات عالمية تدعو إليه ولا ترى فيه عوجا...! إننى أحذر جماهير المسلمين من ناشئة حديثة تكره الله ورسوله، وتنقم على الإسلام وتراثه، وتريد باسم العلمانية والثقافية الإنسانية أن تعيدنا إلى جاهلية عمياء. * * * ص _142(6/127)
هل يعي المسلمون هذه الدروس... كأن المؤسسات الدولية الكبرى فى حالة احتضار فهى لم تقمع ظالما ولم تؤدب عاتبا ولم تجفف عبرة مظلوم ولم تضمد جراح منكوب، مع أن الأصل فى قيامها حماية الحقوق ومنع العدوان! وإذا بقى ساسة أوروبا وأمريكا على هذا الجمود أو هذا النفاق فإن مستقبل الإنسانية كلها سيتشح بالسواد!. إن الجاهليات القديمة لم تخل من رجال فى شمائلهم نبل، وفى طباعهم رحمة قرروا الوقوف مع من هضم حقه حتى يسترد هذا الحق بالسلام أو بالسلاح. أما اليوم فالمصاب ينزف حتى يموت دون مواساة أو نجدة لاسيما إذا كان مسلما!! فإن ترك منكوبيهم حتى يهلكوا شرا لا حرج فيه! ولعله مقصود... لقد ذهبت عصبة الأمم مع شرف الدوافع التى أوحت بإقامتها، كانت فى دماء الأمريكان بقايا من نخوة " لنكولن " محرر العبيد ، وكانت فى دماء الحلفاء بقايا من كره الصلف الألمانى والأسى على ملايين الهلكى! لكن العصبة القديمة سادها الجبن عن مواجهة الظلمة وعجزت عن مقاومة الاستعمار الإيطالي وهو يعربد فى أفريقية فانتهت. والواقع أن مساندة الحق شرف لا تستطيعه أية دولة خصوصا من تنكرت لرسالات الله.. ثم قامت هيئة الأمم ، وتولت الإشراف عليها دول عظمى خمس أكثرها لها تاريخ فى السلب والنهب فكيف تقوم بدور الأستاذ المؤدب أو القاضى العادل؟ وبين هذه الدول والإسلام ضغائن لا تريد نسيانها، ومن ثم فهى تكره شعوبه وتتآمر على حاضرها ومستقبلها. ص _143(6/128)
لقد أنشأت هيئة الأمم دولة اسمها إسرائيل بنتها من أنقاض فلسطين العربية، وسلحتها بما يجعلها قادرة على أن تهزم الدول العربية جمعاء ومكنتها من القنبلة الذرية، وحظرت على العرب والمسلمين هذا السلاح، وعندما انهارت الشيوعية العالمية وتم تفكيك دولتها الكبرى إلى دويلات ضمنت هيئة الأم على المسلمين أن تكون لهم دولة فى أوروبا وتركت الصرب تلتهم البوسنة وحظرت توريد السلاح على البوسنة المحروبة المنكوبة، والمسلمون فى " يوغوسلافيا " السابقة هلكت فرادى وجماعات، وتشرف الآن هيئة الأمم،على تشتيت الضحايا وإذاقتهم الهوان. فهل يعى المسلمون هذه الدروس ويعتبرون؟ أم يظلون يتخذون دينهم لعبا ولهوا؟. * * * ص _144(6/129)
معالم وذكريات الانهيار.. لا أدرى لماذا يخالطنى الشعور بأنى أعيش فى القرن السابع أيام سقوط بغداد ووفاة الدولة العباسية، أو بعد ذلك بقرنين أيام سقوط غرناطة واختفاء الإسلام من الأندلس؟ نعم أنا أحيا فى القرن الخامس عشرة للهجرة. والمسلمون خمس العالم وينتشرون فى كل القارات، بيد أن هزائم ثقيلة تنزل بهم ومؤمرات لئيمة تحاك لهم وظلمات كثيفة تتجه إلى مستقبلهم ويستحيل أن يبتسم مسلم مخلص وهو يرى هذا الهوان يكتنف دينه وقومه!! وكيف يبتسم وهو يرى الأخطار تتجه إلى قلب أمته وأطرافها، والأعداء وهم جادون فى الإجهاز عليها، ومع ذلك فجماهيرنا تلهو وتلعب! إن الذنوب التى نقارفها والتوافه التى تشغلنا هى الثغرات التى ينفذ العدو إلينا منها، ويحكم قبضته علينا، ولا نزال نلفت الأنظار إلى مصادر الخطر على حياتنا كلها،إنها. أولا: مواريث الثقافة المغشوشة التى تحتضن البدع والخرافات، ولا تعرف عادة من عبادة ولا ركنا من نافلة من ولا دنيا من آخرة، ولا ترسم للإسلام صورة صحيحة تبرز فيها أجهزته الرئيسة وسماته التابعة، وأهدافه الأولى ومطالبة الثانوية... وثانيا: ما وفد به الاستعمار الثقافى للحضارة المنتصرة! إنها حضارة تعبد اللذة، وتزدرى الآخرة وتنسى الله وتجحد حقوقه وقد سخرت الأرض ـ التى خلقها الله لعباده ـ لخدمة إلحادها على حين وقف المؤمنون الذين يجهلون قواها لا يحسنون دفاعا بل لا يستطيعون حراكا... إن الدعاة الحقيقيين للإسلام لابد أن يكتئبوا ولا يعنى ذلك تكاسلا واستسلاما، أنهم يشهرون عن سواعدهم ويرتبون صفوفهم ويدافعون عن دينهم، ولا يزالون فى كفاح حتى يحكم الله لهم. * * * ص _145(6/130)
كثير من البصيرة في كتب التراث أرمق بقلق بالغ بعض النصائح الدينية التى توجه إلى الجماهير، فإن المادة العلمية فى بعض كتب التراث تحتاج إلى استدراك وبيان، والغارة الثقافية على دار الإسلام تحتاج إلى مواجهة حذرة، وأساليب جديدة. وسلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التى أصابت المسلمين فى العصور الأخيرة توجب تكوين دعاة من طراز خاص! دعاة لا يعمون عن الواقع ولا يزيدون الطين بلة! سمعت خطيبا يقرأ الآية (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ثم يردفها بحديث رواه أن الرسول قال: " لا أرضى ومن أمتى واحد في النار "!! وضجت الدهماء من السرور وأيقنت بحسن الختام.. وهذا المسلك كله عبث بالإسلام وخيانة لجماهيره و إظلام لمستقبله إن قتال حياة أو موت يدور الآن فى جبهات شتى، والرحى الدائرة توشك أن تطحننا، وخسائرنا تترى، ولا يجوز فى هذه الحال إلا تكرار العقد المأخوذ على المؤمنين (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) هل ألفى هذا العقد وأمسى تقسيم الجنة بالمجان؟ لا طريق إلى الجنة إلا بالعمل المجهد المتتابع، والويل لنا إذا استسلمنا للخيالات وتصبب أعداؤنا عرقا... ص _146(6/131)
قال صوفى طائش: إن حديث " لن يدخل أحد الجنة بعمله " يمثل الحقيقة وإن آية (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) تمثل الشريعة فقاطعته على عجل: دعك من هذا الخبال. إن أعداء الإسلام لا يسرهم شئ كهذا اللغو. يجب تجنيد المسلمين قاطبة لمواجهة الهجوم الذى يتعرضون له يريد استئصال شأفتهم، أما حديث لن يدخل أحد الجنة بعمله.. فالمراد به محاربة الاغترار بالعمل والاجتراء به على الله، ولا يعنى بتة ترك العمل والاستسلام للكسل. وقد جاء على لسان أهل الجنة (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) ثم جاء هذا النداء (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)! يؤسفنى أن كتب التراث أصبحت كالصيدليات المفتوحة دون حارس يدخلها من شاء ليأخذ منها ما شاء وقد يقع على عقار يكون فيه حتفه!. ربما سمعت متحدثا فى الدين لا فقه له فأذكر قول شوقى: أخطيب أنت أم خطب وإن لم تهن. والخطب أحيانا يهون!! * * * ص _147(6/132)
توضيح للردة.. أنا واحد ممن يعمرون هذا الملكوت مسبحين بحمد ربهم ومقدسين له، أكره الإلحاد بقدر ما أحب ربى، وأحتقر الكفر بقدر ما أعلم من مجد الله وجلاله وقيام السموات والأرض به! وقد ابتلى المسلمون عقب استعمار أوروبا لبلادهم بعصابات من الناس ترفض الإيمان وتريد أن تعيش بلا عقيدة ولا شريعة. وظاهر أن أوروبا ـ بعد انسحابها من بلادنا ـ تعتبر هؤلاء أبناءها الأماثل وتعينهم ماديا وأدبيا سرا وعلنا. وقد حكم القضاء النزيه على واحد من أولئك المرتدين بعدما استعرض كتاباته وكشف ما بها من سموم.. وفوجئ الناس بأشخاص يشغبون على هذا الحكم ويلغطون بكلمات نابية، خلاصتها أن حرية الكفر جزء من حرية الرأى، وأن لمن شاء أن يدير ظهره لأحكام الإسلام !!. وقد قلت ومازلت أقول: إن من استبطن الكفر وخبأه فى أعماق نفسه أو عاش به فى قعر بيته فلا سلطان لنا عليه، ولن نكشف له سوأة أو نلحق به سيئة!!. أما من يريد هدم أركان الجماعة، و إشاعة الكفر والفسوق والعصيان فيستحيل تركه. واللغط الذى يفتعله الآن بعض ذوى الأقلام يجيء أما من شيوعيين يقولون: لا إله والحياة مادة والدين أفيون الشعوب! وإما من علمانيين يقولون ليس لله أن يحكم الناس، ويشرع لهم فرادى أو جماعات ما يلزمهم فعله أو تركه... والفريقان يمقتان أحكام القرآن والسنة، ويريدان طبها إلى الأبد والحكم بما لم يشرع الله... ص _148(6/133)
وقد عجبت لرجل قانون يقول ليس لكل امرئ أن يتهم الآخرين بالرده، لابد من لجنة علمية متخصصة. حسنا ونحن نحترم التخصص ولكنا نسأل: ما العمل إذا جاء رجل يحمل صفة مستشار أمن الدولة وصاح: ليس فى القرآن ما يفيد أن الخمر حرام ليس فى القرآن ما يفيد عقوبة، أو حدا للشواذ، ماذا يريد الرجل بهذا الصياح وهل القول بارتداده يحتاج إلى متخصصين؟ إن العمال والفلاحين يكتشفون خبيئته! والموجع أن تنفجر هذه الفتن فى بعض أقطار العرب، ونزيف الدم الإسلامى مستمر فى أوروبا وآسيا، ولا يؤذن بجفاف أهو إلحاد أم خيانة؟ إن كفر هؤلاء فى هذا الوقت بعينه خسة لا تطاق. * * * ص _149(6/134)
ماذا بقى للقوم من دين..؟! الحضارة الغربية السائدة فى أوروبا وأمريكا مجمعة على تعطيل الأحكام السماوية، ومستريحة إلى البدائل التى حلت محلها، وهى تريد من الآخرين أن يحذوا حذوها فيكفروا بشرائع الله ويقروا مكانها قوانين الأرض! وعجيب أن تسخط الله وتطلب من غيرك أن يسخطه! ولو أن البوسنة ـ على نحو مّا ـ ظفرت باستقلالها لأرسلت إليها الأسرة الأوروبية خطابا صريحا باختيار أى قانون أوروبى ليحكمها، ولتوعدتها بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا هى حكمت بشرائع الإسلام! والأوروبيون يستغلون الآن نفوذهم فى هيئة الأمم لعقد مجامع ومؤتمرات عالمية للرضا بالشذوذ بين الرجال والنساء وإدخال تقاليده النجسة فى حياة الأمم، وشراء ضمائر عصابات حملة الأقلام لترضيه الرأى العام بهذا السقوط!! يبدو أن الدين فى الغرب عنوان على وهم كبير! أو فراغ روحى رهيب ونتساءل: هلى هذا الموقف جديد من أحكام السماء؟ الغريب أن اليهود فى عصر الرسالة رفضوا تحكيم التوراة فى مآسيهم الخلقية فخاصمهم نبى الإسلام كيما يقيموا حكم التوراة المنزلة عليهم! قال تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) كانوا يظنون أن محمد عليه الصلاة والسلام سيؤيدهم فى إماتة التشريع الإلهى ففوجئوا به يأمر بإحيائه ويحكم بتطبيقه! إنه لا يوجد نبى من الأنبياء يبيح الخنا ويصالح الزناة ويقر عبثهم فى المجتمع. ص _150(6/135)
ولا يوجد نبى يهدر القصاص ويعطل الحدود ويفتح الحانات والمواخير ، إن الأنبياء حماة للطهر والخير وحراس على الحق والنور وقد قال تعالى : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله …) . قال صاحب المنار المعنى بالرسول هنا موسى أو عيسى فإن اليهود والنصارى خالفوهما قبل أن يخالفوا محمدا ، ولو كان أحدهما حيا بيننا لانضم إلينا فى مخاصمتهم والإنكار عليهم ، ذاك فى شئون الأخلاق والمعاملات ، أما فى أصول الإيمان فإن إنكار الألوهية والبعث أمر مألوف فى أوروبا وأمريكا ، ماذا بقى للقوم من دين ؟! * * * ص _151(6/136)
حلال على بلابله الدوح حرام على الطير من كل جنس لم أشعر فى السنين الأخيرة أن التعصب ضد الإسلام قد تراجعت موجته أو انكسرت حدته ، بل على العكس تعددت الوسائل وتوقحت وزادت ضراوة الأعداء . ومع أن عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر هى الهدف المنشود إلا أن الهجوم يتجه إلى ما يسمى بالإسلام السياسي . أو إقامة الدولة الإسلامية التى تعيد الحكم بما أنزل الله !!. ويتساءل أعداء الإسلام : هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم ؟ ونقول : لم لا ؟ ولماذا اعتمدت اليهودية نظام حكم فى إسرائيل ؟ ولماذا أقامت للفاتيكان دولة ؟ ولماذا أظلت الوثنية نظام الحكم فى الهند وحمت هدمه للمساجد ؟ هل ديننا وحده هو الذى يجب حرمانه من السلطة ؟ وتعطيل الأحكام التى جاء بها؟ ومتى يقع هذا ؟ فى ظروف تسمح لإسرائيل بالتسلح الذرى ، وتكديس قنابل تمكن اليهود من إفناء المسلمين كافة ؟ إن خطة بناء إسرائيل وضعت على أساس أن تقدر وحدها على هزيمة عشرين دولة عربية !! وهل يعرف العالم الموازنة السنوية للفاتيكان ؟ إن خزائنه مفعمة بالمليارات التى تنفق على خدمة الكنيسة وتوسيع رقعة التبشير فى القارات الخمس ، ولديه من الناحية الاقتصادية إمكانات إحدى الدول الأولى فى العالم ، فهل الإسلام وحده هو الذى يحرم من إقامة دولة تحميه ؟ وتخدم أهدافه ؟ لقد ظل مسجد "يا برى" بضعة قرون فى الهند حتى تذكرت الوثنية بغتة أن أم إحدى الآلهة مدفونة فى ترابه !! ص _152
فهدمته إحياء للصنم البائد ! ولم يستطع 150 مليون مسلم هناك أن يصنعوا شيئا للدفاع عن شعائرهم ، فهل التعليق على هذا أن يتنادى العلمانيون العرب بحرمان الإسلام من السلطة ومهاجمه الإسلام السياسى ؟ عجبا ، وهل تحترمون الإسلام فى ميدان العبادات أو المعاملات ؟(6/137)
سمعنا أحدهم يقول : يا ريس بلد النور القبلات والأحضان فى الحارات والميادين ، فى الترام وفى السيارات ، رائحة الحب فى الجو كله ، كنت أريد أن أقول له أتحب أن تكون أختك أو زوجتك فى أحضان آخر ؟ ولكنى سكت لأنى توقعت أن يقول : لا مانع من تبادل المتعة !
إن الحرب على الحكم الإسلامى يعلنها أفاكون وقوادون لا يؤمنون بلقاء الله ، ولا يحترمون له هداية .
* * *
ص _153
أيتام على مآدب اللئام المسلمون فى المؤتمرات العالمية أضيع من الأيتام فى مآدب اللئام ، والنظر فى قضاياهم لا يعرف الإنصاف ولا الرحمة . من خمسين سنه قضيت هيئة الأمم المتحدة بانتزاع فلسطين من أهلها وجعلها وطنا قوميا لليهود ، وقادت هذه الحركة أمريكا وروسيا ، لقد اصطلح الخصمان الألدان على رفاتنا وسكتت الدول الأذناب فالأمر لا يعنيها وقد يرضيها ! وذهبت إلى قطاع غزة مندوبا من الأزهر لأعايش اللاجئين ، ماذا أرى ؟ بقايا أمة مذبوحة يتزاحم فيها المستضعفون من الرجال والنساء والولدان فى انتظار الصدقات ليحيوا ساعة بعد ساعة ، وأظن الشعب الفلسطينى من أذكى الشعوب العربية و إلا ما تحمل كل هذا العذاب . واليوم تتكرر المأساة الموجعة ، فإن قبيلة اسمها الصرب سلحتها أوروبا بأفتك الأسلحة ثم تركتها تقاتل مسلمى البوسنة لترث أرضهم وتمحو دولتهم بعدما استصدرت قرارا من مجلس الأمن بمنع السلاح عنهم ! لقد تركتهم عزلا يقاتلون الدبابات والطائرات ! ومرت على هذا القتال ! الذى لا تكافؤ فيه بضع سنين . والمسلمون يقاومون باستماتة ويستغيثون يطلبون النجدة ! ممن ؟ من أقرباء اللصوص الغزاة وشركائهم ! قالت فرنسا : لابد من إعداد جيش لإنهاء هذه المحنة ! وقالت إنجلترا عن الاقتراح الفرنسى إنه غامض ومعقد ! وقالت روسيا القضية تحتاج إلى حل دبلوماسى ! وقالت أمريكا : طائراتنا مستعدة لنقل ممثلى هيئة الأم المتحدة من هذه البلاد ..! وأظن الصين لا تزال متريثة فى إعلان موقفها حتى تعرف(6/138)
الثمن ! ص _154
إن هذه الدول الكبرى لا تتحرك إلا نحو مآربها ولا تبالي بما يصيب الضعاف لاسيما إذا كانوا مسلمين ! ونظرت إلى الأمة الإسلامية ـ وهى خمس العالم عددا ـ فماذا رأيت ؟ مجاهدو الأفغان لا يزالون منذ هزموا الشيوعية يقاتلون على السلطة ، ما اجتمعت لهم كلمة ، حتى الصومال لا تزال الحرب ناشبة بين طوائفها حول من يتولى الحكم . إن شهوات الدنيا لا آخر لها فى هذا العالم المتخلف . ورأيت نفسى فى وفد يذهب إلى البوسنة ليشاهد مآسى اللاجئين المطرودين من بيوتهم ، المصيبة التى عايشتها من نصف قرن ، قالت لى أم تحمل ولدها متى نعود إلى بيوتنا ؟ وتلعثم لسانى فى الإجابة . ماذا أقول ؟ تبكى الحنيفية السمحاء من أسف كما بكى لفراق الألف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران * * * ص _155(6/139)
أوجاع في القلب أمل العلمانية فى العالم الإسلامى أن تحرز فى أقطاره ما أحرزته فى تركيا من نجاح فتختفى الشريعة كلها، وتلحق بها العقيدة بعد حين! ولا شك أن الإسلام أصيب بضربة موجعة فى تركيا، وقد ظن الحمقى بعدها أن الأتراك سيطعمون السمن والعسل! وهيهات! لقد كانت تركيا عمدة العالم الإسلامى، وبديهى أن للمنصب مغانمه ومغارمه، فلما تركته فتحت دكان إسكاف فى جانب يسكنه الحفاة فهى تعيش على الطوى!! وقد رأيت أنظمة الحكم العلمانية فى العالم العربى فوجدتها تعانى من القحط بقدر ما تبتعد عن الدين وذكرت قول تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى) . على أن الصراع بين الإسلام والعلمانية عليه ملاحظات شتى فى تقاليد المجتمع وفى أنظمة الحكم على سواء، لنفرض جدلا أن المرأة تعانى من " الدونية " أو من الحبس فى البيت! فهل علاج تلك الأوضاع إعلام يعرض الرقص الشرقى والغربى معا؟ إن المعالجين هنا أغبى من المرضى! وقد خبرت زعماء الديمقراطية فى الغرب، وزعماءها لدينا فوجدت هناك رجالا يخدمون الشعوب ويتصفون بالتواضع الجم، أما فى أغلب أقطارنا فحدث ولا حرج عن الغرور والاستعلاء والجوع إلى الدنيا والشهرة... إن فى العالم الإسلامى أمراضا معقدة لا يستأصلها إلا إيمان صحيح وتدين حقيقى. ص _156(6/140)
والإسلام ليس مرحلة إلى غاية ما، إنه استقرار على وضع دائم، وارتباط برسالة فيحمع بين المعاش والمعاد. وقد عاش العرب قبل الإسلام بلا دين فماذا كانوا؟ كانوا حمالين للتجارة بين الشرق والغرب! فلما اعتنقوا الإسلام قادوا حضارة بهرت ورثة الفرس واليونان والفراعنة! ورثى فيها الخليفة الأول يقرع أبواب بعض البيوت ليسأل النساء عن ترشيح الخليفة الثانى بعده!! إن هذا الخبر يوضع متواريا فى تاريخ الصحابة. أما ضرب النساء فتوضع أحاديث لجوازه بدون سؤال!! الحقيقة أن عرضنا لديننا يحتاج إلى وعى وبصيرة، وإذا وكل أمره إلى بعض!! المتخلفين عقليا فمستقبلنا فى مهب الرياح... إن القدس الآن ليست فى سلطاننا، ترى من سيذهب إلى تسلمها؟ " عمر " آخر في موكب من نافة وخادم؟ ورجل فى لباس خشن متواضع؟ إن الإسلام برئ من الفراعنة والقوارين، فلنعلم ذلك إن كنا مسلمين. * * * ص _157(6/141)
إن الله يحب معالي الأمور... أهداني رجل طيب سبحة فاخرة لأختم بها الصلوات، فتقبلتها منه شاكرا ثم عدت إلى بيتى وأهديتها إلى حفيدة لى. وبعد أيام قال لى الرجل: لم أرك تستخدم السبحة المهداة! فقلت له: إننى أقدر جميلك، ولكن الأذكار المطلوبة فى أعقاب الصلوات لا تستغرق غير دقيقتين أو ثلاث فأوثر إستخدام أصابعى، ولا حاجة إلى جهاز إحصاء. ولقينى شاب يرقب هذه القصة الطريفة فقال لى: لماذا لم تقل له إن السبحة بدعة؟ فأجبت لأ نه لم يتخذها قانونا ملزما، ولست ممن يشتغلون بالتوافه! قال لى: وما رأيك فى ختم القرآن بجملة " صدق الله العظيم "؟ قلت: أدعو لصاحبها أن يكون صادقا فى ترديدها! قال: لا أفهم ما تعنى! قلت: كان المؤمنون فى الأمور المهمة أو الشئون التى تبغتهم يقولون ذلك ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله). وفى موضع آخر (قل صدق الله..) وأرجو أن يكون القارئ، شاعرا بروعة القرآن وجلال هداه وقوة إعجاز فيقول الكلمة من قلبه! فقال: ليس هناك أمر بها. قلت: ولا نهى عنها!! قال: إنك تستهين بالبدع . قلت: بل أزدرى الاشتغال بالتوافه!.. إن الرجل الذى تظن حوله ذبابة فيطلب النجدة لمواجهتها رجل أحمق، ومثل هذا يفر إذا هاجمه غراب! ص _158(6/142)
واستتليت أقول وأنا غاضب : فى عالم تآمر كبراؤه على اغتيال ضعفائه، وجفائه على وأد علمائه، وعجزته على اغتصاب أزمته وامتلاك قيادته تريد شغلى بهذا الغثاء الذى ملأ أذهانكم؟! إن ساسة العالم أحكموا خطتهم لخنق الإسلام ونسف ركائز الإيمان، وقد توغلوا فى أرض الإسلام يبغون الإجهاز عليه، وأنتم على شفا الهلاك تريدون شغل الأمة بخلاف فقهى فى فروع العبادة أو خلاف لفظى فى فهم كلمة؟! ما أنتم؟ إنكم ذرية الخوارج فى هذا الزمان الهازل! أين معاقد الإيمان وفضائل الأخلاق وعزائم الأمور؟ أين أولو الألباب؟ إننى أنصح الدعاة والمربين مذكرا بالحديث " إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفاسفها". * * * ص _159(6/143)
..بعدا للسفهاء أظن المطبخ الشرقى سينتعش طويلا فى رمضان، وسيتأنق أكثر مما يتأنق طول العام، لأن رمضان فى حياتنا شهر الطعام وإن سمى شهر الصيام.. ونفقات الشهر تفزع أرباب البيوت، وقد تكلفهم فوق ما يطيقون ولا أدرى لم هذا الإسراف كفه والشهر المبارك شهر اقتصاد وقناعة؟! إن تقاليد " إسلامية " كثيرة يجب أن تراجع ويحذف منها ما يأباه الإسلام! ولا بأس من اختصاص الفقراء والمساكين ببعض الأطعمة التى يشتهونها فهذا من البر بهم والعطف عليهم.. إن الإسلام اشترط لقبول الصيام الإيمان والاحتساب واللفظان يقتضيان! تحمل التعب هنا إبتغاء ما عند الله هناك، وليست خدمة الجسد بأطايب الطعام واجابته إلى كل ما يشتهى من مفهوم الإيمان والاحتساب، ولا هى الوسيلة المثلى لمضاعفة الثواب! ما معنى روحانية الشهر إذن؟ وفى رمضان تطيب قراءة القرآن بالليل والنهار وعن ابن عمر رضى الله عنه "من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغى لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ولا أن يجهل مع من جهل وفى جوفه كلام الله"!! والمعنى أن الاكتفاء الذاتى خفق القارئ المخلص فلا يحزن على فائت، ولايلهث وراء مطمع! إن ما لديه كثير، فليعرف قدره! وفى عصرنا هذا رأيت فى القاهرة مجالس قرآنية غريبة، قارئ معجب بصوته تحيط به جماعة من المفتونين بالموسيقى، يتصايحون كلما سمعوا تطريبا أو تغريدا، ولا علاقة لهم أبدا بالمعانى والعبر. هل هذا هو الأدب مع القرآن؟ ص _160(6/144)
إن هذا الكتاب بنى أمة ساحقة وأقام حضارة مشرقة. فهل يسوغ أن يلتف حوله الجهلة على هذا النحو. وبانى هذه الأمة إنسان لا يعرف المجون تحمل فى ذات الله العنت، وسأل عرقه ودمه وهو يبنى، ووجد من أعداء الحق ما يسوء فهل يعامل تراثه بذلك التهريج؟ روى عن سعد بن أبى وقاص أن رسول الله قال: " إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " أى تذكروا ملابسات نزوله وجد الرسول فى تلقيه، تعبه فى تطبيقه والعمل به فى والمصير الأسود للمنصرفين عنه!! أخشى أن يكون هؤلاء هم المعنيين بقوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا). * * * ص _161(6/145)
الأيدي المتوضئة... كلما جاءت ذكرى العاشر من رمضان ذكرت الخامس والعشرين منه عندما التقى المصريون والتتار فى عين جالوت قبل ثمانية قرون! كانت الشائعات المنتشرة أن جيش التتار لا يقهر، وأن أحدا لا يستطيع الوقوف أمامه حتى جاء السلطان " قطز " ففضح هذه الخرافة، وبين أن الإيمان الوثيق يفعل الخوارق كذلك كان المصريون تجاه اليهود على ضفاف القناة، فقد ذوبوا قواهم وكسروا متنهم وأذلوا كبرياءهم وتركوهم شذر مذر! وكنت يومئذ فى المغرب ـ إذ كانت المعركة مباغته ـ وكنت أتلهف على سماع آخر الأنباء فقال لى صديق: الإذاعات الأوروبية تقول: إن الهمجية عادت، وإن صياح التكبير يسمع على امتداد خمسين ميلا، ودويه يغطى على زئير المدافع فقلت هذه بشائر النصر! إن الأوروبين يسفون التكبير همجية، والعلمانيين يسمونه رجعية ونحن نسميه إيمانا وتوكلا واستنادا إلى الله، وقد ساندنا (ُ وما كان الله ليضيع إيمانكم ). فاختفى خط بارليف وفرقت فرق المدفعية التى تظاهره، وهرب الطيران اليهودى، واسيقظ الإيمان المخدر فى ضمير كل مصرى فإذا هو يسوق الضباط اليهود أمامه أسرى! إن الإيمان صانع العجائب، وقد لجأ " قطز " إلى هذا الإيمان عندما قتل "مندوب" التتار الذى جاء إلى القاهرة يطلب منه التسليم. ثم طلب من الجيش المصرى أن يدافع عن شرفه ودينه وبلاده.. وعندما وقع شئ من الاهتزاز فى ناحية من الجيش صاح: وا إسلاماه! فمحت الكلمة الكبيرة كل تردد وتحول الجند إلى مردة لا يثبت أمامهم شئ فإذا التتار يولون الأدبار وتملأ جثثهم الأرض الفضاء. كان العبد قطز أشرف وأشجع من الخليفة العباسى الذى استسلم فى بغداد وترك النار والدمار يأتيان عليها.. ص _162(6/146)
وفى العاشر من رمضان كان لفيف ضخم من علماء الأزهر يربطون على القلوب بالإيمان ويعبدون الحياة إلى صيحة التكبير التى يراد إخفاؤها!! ورأيت الدبابات التى أعطبها فى السويس الشباب المصلى فى مسجد الشهداء، ومعهم إمامهم حافظ سلامة ما أشجع أولئك الرجال. ولا أنسى المهندس أحمد حمدى الذى كان يصلى معى فى مسجد المعادى، وقتل وهو يبنى جسور العبور على شواطئ القناة رحم الله شهداءنا. إن الأيدى المتوضئة صنعت خوارق العادات.... * * * ص _163(6/147)
حلوا مشكلاتكم في صمت مع قلة الأيام التى قضيتها فى الولايات المتحدة فقد شعرت بأن الخلاف الفقهى ترك آثارا غائرة فى نفوس العامة وربط انتباههم بالأمور السطحية والشئون التافهة، وليتهم اهتموا بالعقائد والأخلاق وسيطرت على مسالكهم القيم الرفيعة للإسلام والظروف الحرجة التى يمر بها الآن، إن تلاوة القرآن قبل الجمعة قضية تستحق العرض على هيئة الأمم أكثر مما تستحقه قضية كشمير مثلا. وقد قلت لمهتمين ذبائح أهل الكتاب وما يحرم وما يحل : إن اليهود يحرمون الخنزير مثلكم، ويرفضون أنواعا شتى من الأطعمة. وقد حلوا مشكلاتهم فى صمت وعرفوا الحال التى يستريحون إليها أو التى يعتزلونها دون لغط، يؤسفنى أنكم هواة كلام وجدل وقد نقلتم سيئاتكم إلى مهاجركم وظننتم الإسلام يخدم بطول الحديث فى الفقه ومذاهبه!! إننى أنصح مدرسى الفقه فى بلادنا أن يعدوا الخلاف واقعا لا مفر منه، وأن يعرضوا وجهات النظر المختلفة بسماحة وهدوء. فلا عداوة بين إمام وإمام ولا معركة بين مذهب ومذهب، وأن يعودوا بالجماهير إلى دوائر الأخلاق التى استهانوا بها، وإلى جذور الإيمان التى نأوا عنها..!! إن بعض الدهماء يكن فى صدره غلا لمن يصلى أو لا يصلى تحية المسجد والإمام على المنبر! لم هذا الغل؟ وأين طاحت أخوة الإسلام؟ إن بعض الناس ينظر إلى شعب الإيمان كما ينظر الأحول إلى مجموعة من السلع فيرى أشياء ويعمى عن أشياء ويمضى فى طريقه مستصحبا هذا الحول العجيب، ويؤسس أحكاما مقلوبة على الأشخاص والأشياء لا صلة لها بالواقع. وقد لاحظت أن " غاندى " فيلسوف الهند الأكبر قتله هندوكى متعصب، وأن "رابين" الذى قاد قومه إلى نصر هائل سنة 1967 ضاعف به مساحة إسرائيل ص _164(6/148)
وأخزى به العرب قتله يهودي متطرف! وأن " على بن أبى طالب " بطل الجهاد الإسلامى قتله أحد الخوارج!! إذن هناك متدينين يفقدون روح الدين، ويهتمون بأزيائه وشاراته ثم يجرون فى أنحاء المجتمع يحسنون الاتهام لا التبرئة والهدم لا البناء وعلينا نحن الذين يعرفون الدين ويدعون إليه أن نحسن التفقيه والتربية وأن نتعهد البواطن لا الجلود والقلوب لا الملابس. * * * ص _165
منساقون لا سائقون تعطيل الوحى الإلهى مألوف بين أهل الكتاب الأولين. ومن السهل أن يكون هذا الوحى حبرا على ورق! أو زعما لا حقيقة له، ولما كان اليهود وغيرهم يحبون أن يشيع هذا الفساد بين المسلمين فقد حذر الله أمتنا منه فقال: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). ولكن أوروبا فى زحفها الاستعماري الأخير طلبت إلى الحكومات الإسلامية المهزومة أن تعطل كثيرا من النصوص، وأن تتناسى تعاليم الحلال والحرام والحدود والقصاص وكان لها ما أرادت! والغريب أن هيئة الأم عندما نظمت مؤتمرى السكان والمرأة كانت تريد الإجهاز على ما بقى من معالم الوحى السماوى فأقرت أى علاقة بين رجل وامرأة، أو امرأة وامرأة أو رجل ورجل. ورفضت اعتبار ذلك جرائم زنى وسحاق ولواط!! والحضارة الحديثة بعد انسلاخها عن الدين لا ترى فى ذلك حرجا! وفى أطوار مجتمعنا ناس يحبون ذلك ويمهدون له ويدعون إليه، إنهم موالون للاستعمار الثقافى والاجتماعى الكاره لما أنزل الله. وقد نبهنا القرآن إلى هؤلاء المنافقين ودسائسهم وتعاونهم مع الحاقدين على الوحى كله: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم). هل يلام المسلمون إذا قالوا لأهل الكتاب احترموا(6/149)
الوحى النازل عندنا وعندكم؟ ص _166
وإذا كان أصحاب الكتب السماوية يهملونها ويرفضون ما بها فلم ينتمون إليها؟ لهذا يقول الله لمن سبقونا: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم). نظرت إلى مبنى هيئة الأمم المتحدة فى نيويورك ثم شعرت بأنه ليس لله نصيب فيه. إن الدول الكبرى المشرفة عليه لا ترجو لله وقارا ولا تثبت له حقا! وأول وليد شرعى للهيئة الموقرة هو دولة إسرائيل! أما العرب ورسالتهم ففى مهب الرياح، ولقد تساءلت هل يعلم العرب أن لهم رسالة خاتمة ووحيا مهيمنا وعلاقة قائمة بالله العلى الكبير؟ يبدو أن العرب نسوا أو تناسوا، إنهم منفعلون لا فاعلون ومنساقون لا سائقون. * * * ص _167(6/150)
كلما عاهدوا عهدا... كان اليهود قد وعدوا فى اتفاقهم الأخير مع عرفات أن يطلقوا سراح السجينات الأسرى، ولكن رئيس الحكومة رفض الوفاء بهذا العهد، وظلت السجينات فى السجون إلى الآن! إن الوفاء يعتصر اعتصارا من القوم لأنه ليس من خلائقهم وتذكرت الآية الكريمة (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون). شعرت كأن الآية نزلت اليوم، والواقع أن نكث اليهود بالعهود غريزة فيهم، إنهم لا يخافون إلا العصا حتى قال الله فيهم: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون). وقد تتبعت الخصال التى لام الله عليهم أهل الكتاب من مئات السنين فوجدتها لا تزال فيهم إلى اليوم إن هيئة الأمم اقتلعت العرب من أرضهم بالسيف. وأسكنت يهود القارات الخمس فى مدنهم وقراهم فهل كان اليهود المقيمون بين ظهرانى العرب يحسون ضيقا أو يجدون حرجا؟ كلا، لقد هرب اليهود من وجه الزحف الصليبى على الأندلس واستقروا فى أقطار المغرب ومصر واليمن والعراق فما فكر أحد فى النيل منهم أو التضييق عليهم حتى قال التاريخ: لولا سماحة الإسلام وكرم العرب لباد اليهود فى الحرائق التى أشعلتها محاكم التفتيش! ومن العجائب أن فى محافظة البحيرة بمصر ضريحا لحاخام يهودى يقام حفل سنوى بميلاده يحجه القرويون كأنه من أولياء الله الصالحين! واسم هذا الحاخام " أبو حصيرة ". ص _168(6/151)
ولما كان عدد اليهود فى مصر يزيد على مائة ألف فإن " سعد زغلول " باشا عندما ألف وزارة دستورية جعل أحد أعضائها من اليهود هو يوسف قطاوى باشا!! لقد تنوسى كل ما فعله العرب بل عوقبوا بالجرائم التى ارتكبها الألمان وسائر الأوروبيين خلال تاريخ طويل. إن العرب الآن فى محنة نفسية وتاريخية لأن اليهود تذكروا فجأة أنهم موعدون بالأرض العربية من الفرات إلى النيل، وأن هذا الوعد من دعائم التوراة ، ومن حقائق الدين! والدين إذا كان يعنى اليهودية فلابد من احترام وعوده! أما إذا كان يعنى الإسلام فإن تعطيل شرائعه مباح، وتعذيب أتباعه مستباح، وكما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه!!. * * * ص _169(6/152)
تنطع يهودي.. كنت فى " نيويورك " أتحدث مع بعض الدعاة فى شئون الدعوة، فقال لى أحدهم إن حبرا يهوديا بارزا اشتبك معه فى جدال حول الجزية وعاب أمر الإسلام بها! فقلت له: بم رددت عليه؟ قال: شرحت له أنها تؤخذ من محاربين لكف عدوانهم ووقف فتنتهم وتصرف فى الدفاع عنهم إذا هوجموا وفى معونة الضعفاء والعجزة من رجالهم ونسائهم.. قلت: حسنا ووددت لو أنك أضفت إلى ما قلته ما يفعلونهم بخصومهم إذا وقعوا فى أيديهم، لقد زعموا أن موسى أمرهم بحرب إبادة لا تبقى طفلا ولا شيخا ولا امرأة ولا وليدة بل إن حرب الاستئصال تتسع دائرتها لتشمل البقر والغنم والحمير واقرأ سفر يشوع الذى أفنى بلدا بأسره وسفرا لتثنيه الذى يقول: " أما مدن الشعوب التى يهبها لكم الرب إلهكم فلا تستبقوا فيها نسمة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها..". هذا اليهودى يعيب نظام الجزية ويرى خيرا منه القتل العام ومحو المدن من الوجود وهو ما فعله بنوا إسرائيل فى تاريخهم المشئوم..! إن اليهود أبوا إباء تاما أن يعترفوا بالإسلام دينا: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى). وفضلوا ـ فى حديثهم مع قريش ـ عبادة الأصنام على عبادة الله الواحد !! وتمنوا لو يعود المسلمون إلى الوثنية: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق). فهل إذا هزمهم المسلمون فى معركة، واستبقوا حياتهم وحافظوا على شعائرهم الدينية وأمنوا لهم مصالحهم المدنية وفرضوا عليهم لقاء ذلك قروشا معدودات كان ذلك جريمة إسلامية؟! ص _170(6/153)
إن نصوص التوراة دعوة سافرة إلى الهلاك الشامل لسائر الأحياء. أما نحن فقد قيل لنا " لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع " بل إن نبينا قبل موته وبعد ما خضعت له أطراف الجزيرة العربية ذهب يشترى متاعا من يهودى بالمدينة بثمن آجل، فأبى اليهودى بكل ثقة وطمأنينة إلا أن يأخذ رهنا، فقال الرسول للرجل إنى أمين فى الأرض والسماء، ومادمت تريد رهنا فهذه درعى رهنا! لو كان فى بلد آخر لقطعت رقبته وصودر ماله ولكنه فى أرض الإسلام الذى نسيت فضائله وجحدت شمائله. * * * ص _171(6/154)
رؤية جديرة بالملاحظة جاء فى السنة: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد "! وقيام جزء من الليل مستحب طول العام، وهو سنة مؤكدة خلال شهر رمضان. وقد لوحظ أن لبعض الناس قدرة على السهر ونشاطا لا يستنفذه سعى النهار تبقى منه فضلة يمكن بها إحياء الليل بمزيد من طاعة الله وتلاوة كتابه.. فلتكن الليلة بيضاء بالذكر والشكر، والتدبر والتهجد.. وقد سألني بعض الناس هل صحيح أن الرجل يرش الماء على وجه امرأته لتصحو، وأن المرأة ترش الماء على وجه زوجها ليستيقظ، ليتعاونا على قيام الليل؟ وقد أجبت بأن ما ورد من ذلك فى السنة ليس بين كل زوجين ولا فى كل الحالات! إنه فى زوجين ينافس أحدهما الآخر فى طاعة الله، وقد يعاتب أحدهما صاحبه إذا تركه نائما وكذلك ليس فى كل الأحوال فقد يكون الرجل حمال مسئوليات ثقيلة فى أثناء النهار أو يبذل جهودا فوق الطاقة ومن الخير أن يستجم بالليل ليستطيع العمل بالنهار، وقد عذر الله هؤلاء بقوله: (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه). فإذا كان المسلم سليما مستريحا فالأشرف له أن يقوم من الليل، وأن يضئ الظلام بالتسبيح والتحميد والتلاوة، وجميل أن تشاركه فى هذا امرأته!! ولابن الرومى أبيات رائعة فى وصف هذه السويعات الغالية قال: ص _172(6/155)
تتجا فى جنوبهم عن وطيئ المضاجع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع لو تراهم إذا هموا خطروا بالأصابع وإذا هم تأولوا عند مر القوارع وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع ودعوا يا مليكنا يا جميل الصنائع اعف عنا ذنوبنا للعيون الدوامع فأجيبوا إجابة لم تقع فى المسامع.. ليس ما تفعلونه أوليائى بضائع وهبوا لى نفوسكم إنها فى ودائعى... نعم، وهى فى ودائع الذى قال عن هؤلاء المتهجدين الشرفاء: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون). * * * ص _173(6/156)
من معالم العدل.. تمتاز حضارة الغرب بامتلاك أجهزة إدارية حسنة الأداء غزيرة الإنتاج، ويرجع ذلك إلى جملة من الأخلاق الرفيعة والنزاهة المعجبة فى اختيار العاملين فى الميادين العسكرية والمدنية على سواء، وقد تابعت اختيار وزير الحرب الجديد فى أمريكا وبهرتنى الطبيعة التى أملت هذا الاختيار، ووددت لو أننا فى العالم الإسلامى نحسن الاستفادة والاعتبار! يقول وزير الدفاع الجديد: إنه لم يسع إلى هذا المنصب، بل لم يكن يريده! وإنما قبله عندما أسند له قياما بالواجب المفروض لخدمة بلاده، وقال الوزير الذى اختاره رئيس أمريكا الجديد: إنه فى انتخابات الرياسة أعطنى صوته لمنافس الرئيس الذى لم ينجح!! أى أنه ليس تابعا للرجل الذى اختاره، وهى كلمة واسعة الدلالة، فهى تشير إلى أن رئيس الولايات المتحدة يبحث عن الأكفاء ولو كانوا من خصومة، مقدما للمنصب أحق الناس به، وهى فى الوقت نفسه تشير إلى أن ولاء الوزير المختار لوطنه أولا وآخرا..! لقد طالعت هذه الصورة الوضيئة لملء المناصب وتذكرت سلفنا الأولى وقواعد الأخلاق التى كانوا يتبعونها.. إن ولاية الأمور لا تساق إلى من يسعى إليها أو يحرص عليها، فإن طالب الولاية يغلب أنه يطلبها حبا للعلو فى الأرض والصدارة بين الناس، فعن عوف بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إن شئتم أنبأتكم عن الإدارة وما هى. فناديت بأعلى صوتى وما هى يا رسول الله؟ قال: أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل، وكيف يعدل مع قريبة؟ ". قال عمر بن الخطاب لأحد الناس: والله لا أحبك ـ وكان قد أصاب أخا له فى الجاهلية ـ فقال له الرجل: أمانعى ذلك حقى يا أمير المؤمنين؟ ص _174(6/157)
فقال عمر: لا.. فقال الرجل: لا بأس إنما يأس على الحب النساء!! إن الأعرابى يهتم بالعدل ولا يعنيه من " عمر " أن يكون محبا أو كارها له! فى الجو الإداري النظيف يبحث الموضوع بتجرد، ويقول كل مشارك ما يمليه ضميره، لا مكان لملق، ولا موضع لاسترضاء كبير أو صغير! البحث عن المصلحة العامة وحدها، والغاية إرضاء الله وحده.. وفى الحديث " من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس. ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس". إن العالم الإسلامى فقير إلى جو إدارى نقى لا تغيم آفاقه بالشهوات والمآرب ولا تعكره عواصف الغرض والمرض! هل ذلك صعب؟ إنه توفر فى بلاد أخرى تشبه سيرتهم سيرة آبائنا الكبار! نستطيع إن أردنا الانتفاع بتراثنا أو الاقتباس من المعاصرين خصوما كانوا أو أصدقاء.. * * * ص _175(6/158)
رسل الموت إلى الوادي رضيت كل الرضا عندما رأيت الطائرات المصرية تبيد أشجار الأفيون والحشيش التى زرعها بعض البدو فى سيناء وعجبت لقوم يزرعون الخبيث ويتركون الطيب! لماذا لم يغرسوا قمحا أو شعيرا؟ لماذا لم يغرسوا فواكه أو نخيلا؟ إن سيناء من أقطار البحر المتوسط التى تجود فيها زراعة الزيتون فلماذا ماتت هذه الزراعة مع أن القرآن ذكرها منسوبة إلى منابتها،( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين). إن الأجيال تتغير وإن الأراضى كذلك تتغير والذى يرى سيناء الآن يعجب للصغرة والوحشة اللتين تكسوان سطحها وآكامها.. وذكرياتى فى سيناء بئيسة فقد اعتقلت فى الطور نحو عام ورأيت بدوها لا يكادون يفقهون قولا وشعرت بأن الحكام فى القاهرة قد جعلوا ترابها المبارك منفى لمن ينقمون منه! قلت لنفسى وأنا فى الطور: هنا هبطت نعمة النبوة على موسى، سمع النداء المقدس: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى). لقد أمسى راعى الغنم قائد شعب كبير، ولقد حمل الوحى وذهب إلى فرعون يقول له بأدب رقيق: (فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى). لكن فرعون زهد فى هذه الهداية، إنه يريد أن يعبده الناس لا أن يعبد هو الله! وحرر موسى قومه من عبودية قاسية ولكن محرر العبيد لم يكن يدرى أن قومه يحملون للعالم أشد الضغائن، وأن قلوبهم قدت من الحجارة، إنهم الآن يمنعون "الصليب الأحمر" من تقديم الطعام إلى ثلاثة آلاف عربى جائع فى الخليل، فرضوا عليهم منع التجوال فهم محبوسون فى بيوتهم ليهلكوا من المسغبة!! ص _176(6/159)
والمعركة اليوم محتدمة بين المستكبرين الذين يرون أنفسهم أتباع موسى وبين المستضعفين الذين يحسبون أتباع محمد!! وهم لا يربطهم برسالة محمد سبب قائم.. وشرعت أفكر فى أمتنا وفى أوضاعنا... وعدت إلى زراع المخدرات فى سيناء، إنهم لو حصدوا ما غرسوا لأرسلوا الموت إلى الوادى وقتلوا بسمومهم ألوف الأسر، ولكن الله سلم.. بيد أن هناك فى ميدان الأدب والفكر أشخاصا آخرين يكرهون الوحى ويخاصمون تراث محمد كفه ويبذرون فى الحياة بذور الكفران بالله والدار الآخرة إن هؤلاء أضرى على الحياة العامة من ناشرى المخدرات، ليس من الإبداع أن تحارب الصلاة والتقوى! وأن تحتفى بالشهوات والأهواء وأن تمنع عودة المؤمنين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم. إن هذا تمهيد لجاهلية حديثة ينشدها الاستعمار. * * * ص _177(6/160)
حياة عرجاء.. إذا كانت للكرسى أو المنضدة أربع أرجل فانكسرت اثنتان أو ثلاث فلن يقوم الكرسى ولن يستقر عليه جالس، ولن تقوم المنضدة ولن يكتب عليها أحد!!. وإذا كان الجسم الإنسانى يحتاج فى تغذيته إلى بضعة عناصر فإنه يعتل ويعجز إذا فقد جملة منها، وتسارع العلل إليه بقدر ما فقد من عناصر!. ونحن نعرف إن الإيمان فوق السبعين شعبة، تتصل بالحياة العامة والخاصة وتمد رواقه إلى شئون النفس والمجتمع والدولة، فما عسى أن يفعل إيمان فقد أكثر شعبه وبقى شبحا متهالكا إذا قام منه جانب مال جانب آخر؟ جاء فى الحديث أن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، فهل تسمع شكاة إذا الجسم مسّه الشلل؟ أعرف رجلا أصيب بمرض ضاق به فذهب إلى الطبيب فقال له إن جسمك بحاجة إلى " فيتامين " كذا!! ولا بد منه. فقلت فى نفسى: كم من أسباب الحياة والقوة تحتاج إليها أمتنا لتعود إلى الحياة وتستأنف رسالتها؟ إن عشرات من شعب الإيمان غائبة فى حياتنا ومن ثم فنحن نمشى نترنح..!! لقد أصلح اليهود شأنهم ثم هجموا علينا مجتمعين فلم تغن عنا فرقتنا ولا تهاوننا، قلت لرجل قريب منى: هل قرأت مذكرات " وايزمان "؟. قال: لا! قلت: أذكر منها أن الرجل أحاط به قومه يثنون عليه ويشيدون به لأنه استصدر وعد " بالفور " بجعل فلسطين وطنا قوميا لبنى إسرائيل، فبماذا أجاب الرجل؟. قال: إننى لم أصنع شيئا كل ما حدث أن " بالفور " كان مسيحيا تقيا يؤمن بالكتاب المقدس فتصرف وفق إيماءات الكتاب الذى يؤمن به، أما أنا فلم أفعل شيئا!! ص _178(6/161)
انظر إلى " نكران الذات " فى سيرة هذا الزعيم الصهيونى.. وانظر إلى ما يقابلها من " عبادة الذات " عند كثير من رجالنا، إن اليهود يبنون دولتهم بالإيمان اليهودي فأين إيماننا بديننا؟ وأين ابتغاؤنا لوجه الله فيما نفعل و نترك..؟؟. إن سلفنا الأول من رجال ونساء بنوا دولة الإسلام الكبرى بالإخلاص والتجرد والتضحية، ولن تبقى هذه الدولة أو قل لن تعود إلا بهذه الأخلاق نفسها هل نبدأ من اليوم محاصرة الأماكن المعطوبة وبدء خطوات النجاة؟ * * * ص _179(6/162)
إلى عبدة الشيطان.. من تلبيس إبليس قد يكون إبليس أقوى بدنا من أدم ولكنه لم يدخل مع آدم فى حلبة ملاكمة يصرعه فيها وإنما لجأ إلى سلاح الخديعة والإغواء، وانتهز فرصة غفلة من آدم، فأخرجه من الجنة. وهكذا تفعل ذرية إبليس إنها لا تقاتل أبناء آدم بسلاح مادى وإنما تعتمد على الإغراء والاستغفال فى دفع الناس إلى الرذيلة والعصيان! قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ..). فالبشر يلتذون بالمعصية والجن يلتذون بإيقاع الناس فيها وتزيينها لهم! ولم يقع أن الشياطين استخدمت سلطة قاهرة لإلزام سكير بشرب الخمر، أو إلزام ماجن باقتراف جريمة، وسيقول الجن المردة هذا الكلام للناس يوم الحساب: ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي..). ولو كان الجان يملك أن تختل جسم إنسان فكيف يزعم أنه لا سلطان له وهو قادر على سحق لبه وقلبه؟ ولا أنكر أن هناك أديانا أخرى تدعى احتلال الجن للإنس وتسخيرهم وإضرارهم، فقد ذكر " متى " " أن عفريتا دخل جسم إنسان وآذاه فجيء به إلى يسوع فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان، وشفى فى تلك الساعة، فدنا التلاميذ من يسوع وقالوا له فيما بينهم لماذا لم نستطع نحن أن نطرده؟ ص _180(6/163)
فقال لهم: لقلة إيمانكم. الحق أقول لكم: إن كان لكم من الإيمان قدر حبة خردل قلتم لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك ينتقل وما أعجزكم شىء، وهذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم.. ". ولمتى أن يقول ما يشاء ولمن شاء من النصارى أن يتبعه وليس لأحد أن يلزمنا أن نسير وراء هذا الكلام، بل إن فقهاءنا رأوا من باب سد الذرائع إغلاق هذا الباب. فقد تزعم امرأة لعوب أنها متزوجة من القاضى " شمهورش " وأنه هو الذى فض بكارتها لا عشيق آخر من الناس!! وبذلك تنتشر الفاحشة دون نكير!! إن نفرا من القراء فى الكتب الدينية فقدوا القدرة على الميز بين المعروف والمنكر انتشروا بيننا الآن يتحدثون عن احتلال الجن للإنس، وقد تحولوا إلى جسور لنقل الأوهام والخرافات، ولا ندرى هل يستعينون بكهنة أديان أخرى. أم يعتمدون على أوهامهم الخاصة، ونحن نحذر الجماهير من هذا الهزل ونحضهم على حفظ دينهم. * * * ص _181(6/164)
رسالة بقلم الشيخ الغزالي.. (1) الإخوة الملتقون لدراسة قضايا الإسلام وأحزانه، كان لزاما على أن أكون معكم، ولكن السن والمرض أقعدانى. فأنا فى التاسعة والسبعين، وفى جسمى جملة أمراض تجعلنى أردد مع زكريا عليه السلام: ( رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا). والحق أنى لا أعيش فى هذا القرن إنى أعيش كأن التتار دخلوا اليوم بغداد، أو أن الصليبيين دخلوا بيت المقدس! إننى أعيش داخل الهزائم الكبرى التى بلى الإسلام بها قديما وحديثا، وأشعر باستماتة المدافعين واستكانة اللاجئين وأطماع الذين يريدون طى أعلام التوحيد وجهود الذين حمدوا فى أرضهم فما وهنوا وما استكانوا وما ضعفوا ولا خانوا... إننى أيها الأخوة لم أفاجأ بالضغائن التى تقابل الإسلام لأنى أدرك قوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). فلنثبت حتى يأتى أمر الله ولن يخلف الله وعده لعباده الصالحين، ومما يزيدنا أملا فى النصر أن شعب البوسنة وحكومته صف واحد يواجه أعداء الله بعزم وبأس.. وهى ميزة فى الكفاح البوسنى تجعله أرضى لله وأقرب إلى الفلاح... ومازلنا نؤمل الخير فى العالم الإسلامى الذى تتعرض شعوبه لمؤامرات خسيسة لاسيما فى الشيشان وفلسطين وكشمير والفليبين وغيرها. أيها الإخوان: إننى أدعو الله لكم أن يسدد الخطا ويتقبل الجهود واعتقادى أن فجرا قريبا سوف يطلع على المجاهدين يقر عيونهم: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ص _183(6/165)
آخر ما خط قلم قلب الشيخ الغزالى .. الحاجة إلى رسالة محمد لا تزال باقية ، فإن الضلال القديم لم تنحسم شروره بل اتسعت فى هذا العصر دائرته وتكاثفت ظلمته ، الوثنيون اشتد ساعدهم وأهل الكتاب ازدادت المسافة بينهم وبين ما لديهم من صحائف بل أهملوها كل الإهمال..! ليس التدين علاقة موهومة بالله ، فلا قيمة للتدين إذا لم يمنع الإسفاف ويدفع إلى التسامى ويقمع غرائز الاستعلاء وقهر الضعفاء .. إن الحكمة من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تزداد وضوحا فى عصرنا هذا الذى تألق فيه الذكاء البشرى ولكنه وقع تحت سلطة الهوى الجامح وتربّع فيه أهل الكتاب على قمة القوة ولكنهم خاصموا موسى وعيسى ومحمدا وأهالوا التراب على تعاليمهم جميعا لقد قال الله لنبيه الخاتم شارحا حكمة إرساله " تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " إن أقطار الغرب نسيت الله واليوم الآخر وكرست العمر كله لإضاع الصلاة واتباع الشهوات ، وقد قرأت بغضب تصريحا لزوجة " ميتران " الفرنسى السابق وأدركت بعد الشقة بين القوم وبين تعاليم السماء ! قيل لها أكان لك ابن غير شرعى من ميتران قبل أن تتزوجيه فقالت للسائل : دَعْك من هذا البحث فربما كشف عن خمسة وعشرين ألف حالة من هذا القبيل ! ما هذا البلاء ؟ هل خمد الوازع الدينى فلم تعدله حركة ؟ هل أظلمت الآفاق فلم نر بها أثارة من تقوى ؟ يبدو أن الدين الذى يحارب الخنا لا يزال بين جوانحنا نحن ! ومع ذلك فإن الغرب ـ الراقى جدار عقد عدة مؤتمرات ليجعلنا نرضى بالعلاقات الوضيعة فطلب منا فى القاهرة وبكين أن نرضى بالزواج بين رجلين ! وبين امرأتين ! وبين رجل وامرأة بغير عقد ! فمنْ من أنبياء الله قبل هذا الفحش الخسيس أو سكت عنه؟ إننا نحن المسلمين المتقيدين بتراث محمد نناشد الإنسانية أن تتدبَّر هذا(6/166)
التراث بدل أن تتهمه وتحاربه . محمد الغزالى(6/167)