مقدمة هذه كلمات وجيزة، أو ومضات سريعة، تتضمن أشتاتا من القضايا والأحكام. قد يكون فيها تصويب خطأ شائع، أو إحياء صواب مهجور، أو تعليق على حدث تاريخي أو معاصر، أو إثبات خاطرة نفيسة، أو استثارة الهمم نحو هدف شريف.. إن العقل المؤمن مرصد واع يلتقط كل ما يمس الإسلام من قريب أو من بعيد.. وكما أن هناك مقاييس لقوى الزلازل، وأخرى لدرجات الحرارة والرطوبة والتلوث مثلا، فإن المهتمين بأمر الإسلام يرصدون ما يمسّ حقيقة رسالته ومسار دعوته وشئون أمته، وعوامل المدّ والجزر، واليقظة والغفلة، ثم يقدمون حسابا مضبوطا لما رصدوه. وهذا الحساب شعاع على الطريق، وبيان لمن تتشابه عليهم الأمور. وقد يتطلب ذلك كتبا مبسوطة، لكننا هنا اكتفينا بالإشارات العجلى معتمدين على ما تخلفه فى نفوس القارئين من حركة وانتباه... ومعروف أن القارىء المعاصر قد يكتفى بالمقالات الخاطفة، ويؤثرها على الاسترسال والإطالة، والمهم أن ننتهز هذه الرغبة لنودع ما نكتب على عجل، حقائق نفاذة، وتوجيهات مجدية. وقد تابعت ابن الجوزى فى هذا النهج، فكتابه "صيد الخاطر" تضمن بحوثا فى سطور لكنها جليلة الفائدة، بل لعلها أفضل من رسائل طويلة.. إنني فى هذا الكتيّب أجمع ما تفرق تحت عنوان "الحق المر" الذى كانت تنشره لى مجلة " المسلمون " الصادرة فى "لندن ". وذلك لأن جماهير كبيرة كانت لا تصلها الأعداد مع رغبتها فى قراءتها، ثم إن من المصلحة الإسلامية حشد هذه المنثورات فى صعيد واحد. إن الخاطر السريع قد يكون جديرا بالبقاء بقدر ما يمزق من حجب، ويترك من صحو، ويمحو من حيرة، ويثبت من رشاد.. والله من وراء القصد... محمد الغزالى
ص _004(1/1)
هل أخطأنا الطريق؟ قرأت أن رئيس الولايات المتحدة طلب من الباكستان ألا تمضى فى صنع القنبلة الذرية، وأنه هدد بقطع المساعدات العسكرية عنها إن هى صنعت هذه القنبلة! ومعلوم أن الهند سبقت إلى صنع القنبلة الذرية بعون روسى، وأن أمريكا لم تقطع عونا سابقا ولا لاحقا عن الهند لما تسلحت بهذا السلاح الهائل!.. وظاهر أن المراد من المسلك الأمريكى هو بقاء المسلمين أضعف فى أى صراع يمكن أن يقع!... وهو الخط ذاته الذى تسير عليه أمريكا فى الصراع العربى الإسرائيلى، الخط الذى يجعل "دولة إسرائيل " وحدها قادرة على أن تهزم أكثر من عشرين دولة عربية مجتمعة، وذلك بترجيح كفتها عسكريا ومدنيا، والتدخل المباشر إن اختل الميزان. إن البغضاء الكامنة ضد الإسلام وأمته لا تنتهي، وأوروبا وأمريكا سواء فى هذه المشاعر المشبوبة. وقد شعر الناس بالدهشة لأن وزير الجامعات فى فرنسا أصدر قرارا بوقف "جان كلود ريفيير" من منصبه الجامعى العالى، وسحب شهادة الدكتوراه التى نالها الباحث "هنري روك ". والباحث المذكور أثبت فى أطروحته العلمية أن إبادة اليهود فى ألمانيا النازية خرافة، وأن الزعم بإحراق ستة ملايين يهودي فى أفران الغاز لا أساس له من الصحة، وساق الرجل من الأدلة العلمية ما حمل الجامعة على منحه الدكتوراه، فالسلطان فيها للعلم وحده. لكن المنظمات اليهودية غضبت، ولما كان اليهود مدللّين فى العالم الصليبى، فلابد من إرضائهم، والنزول على إرادتهم.. ص _005(1/2)
وفى فرنسا وقع قبل ذلك ما يدعو للعجب، فعندما أسلم "رجاء جارودى" قُدّم للقضاء بتهمة محاربة السامية ، واتفق الناشرون فى باريس على ألا يطبعوا له كتابا، وألا يتعاونوا مع من يتعامل معه، وطاح مستقبل الرجل من الناحية المادية، وإن كان قد ظل شامخا مستندا إلى الله وحده.. إن هذه الأمثلة حصيلة ما قرأنا فى أيام معدودات، أما ما تلقاه الأمة الإسلامية من غمط وإساءة فسيل لا ينقطع.. والمثير أنه يتم تحت عنوان "العلمانية" أو "الإنسانية " ولا يتم تحت عناوين التعصب الدينى والأحقاد القديمة!.. وتغيير العنوان لأمر ما يذكرنا بحكاية البقال الذى كتب على علبة السكر: فلفل! لماذا؟ حتى يخطىء النمل الطريق!! فهل أخطأنا الطريق؟.. * * * ص _006(1/3)
مطلوب جيش من الدعاة كانت الشعوب التى سقطت فى براثن الروم والفرس يائسة كل اليأس من خلاص تظفر به يوما.. وأي أمل لمصر مثلا- وقد ظلت خمسة قرون مستعمرة رومانية- أن تحرر وتنجو؟ لكان وضعها السىء أمسى قدرا لا فكاك منه! وكذلك كانت الحال على شواطئ البحر المتوسط الذى احتلت أقطاره كلها أعصارا متطاولة وتحوّل إلى بحيرة رومانية.. بيد أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) وحدهم هم الذين كسروا أبواب السجن، وقالوا للمسجونين المشدوهين: اذهبوا فأنتم الطلقاء. إن الذى وقع كان معجزة حقيقية، ولم يكن يستطيعها إلا أصحاب محمد- عليه الصلاة والسلام- وحدهم! ذلك لأنهم أسلموا لله وجوههم، وتعزوا من زخارف الحياة ومآرب الدنيا، وتأثروا بخطوات نبيهم وهو يعطى ولا يأخذ، ويحيى ولا يميت، وينشد الآخرة ويستعلى على العاجلة.. وهذا النوع من الدعاة هو الذى يغير وجه العالم، وقد استشهد ربع الصحابة مع المدّ الإسلامى!.. ومن بقى منهم وقف حياته لنشر الإسلام بالخلق والعبادة والتعليم والأسوة الحسنة.! أى أن من مات مات لله، ومن طال عمره عاش لله، وكانت النتائج أمرا عجبا، إن الأمم التى أسلمت لم تتخل عن كفرها فقط، بل تحولت خلقا آخر! خلقا يقول للفاتحين: إذا تراخيتم فسنتولى نحن الدعوة، ونرفع الشعلة!. إن هذا الخير الجمّ والأثر الواسع انبجس من فؤاد واحد، فؤاد صاحب الرسالة الخاتمة!. وقد كان يعرف ما سوف يقع معرفة تامة، تدبر ما رواه الشيخان عن النبى (صلى الله عليه وسلم): "يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول ص _007(1/4)
الله؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم! ثم يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم!.. ثم يأتى علي الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ". إن هذا الحوار لم يقع، ولم يحكه تاريخ، وإنما هو تصوير لعمل القلوب الكبيرة فى العالم، وهو تصوير لأثر تلامذة محمد وحوارييه بين الناس، وهو تصوير لاستجابة الشعوب لهم عن محبة ورضاء وإعجاب.. كان أولئك الأصحاب مدارس إيمان ومنارات إرشاد. وما أنكر أنه جاء من بعدهم من سار على الدرب، ومضى إلى الغاية نفسها، ولكن الأمر كما وصف القرآن الكريم: ( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) الذى ألحظه أن الظلام القديم عاد، ولن يبدّد غيومه إلا جيش كبير من الهداة الأوائل، ممن يجددون سيرة السلف الفاتحين... * * * ص _008(1/5)
أصحاب السلطة وحقوق الإسلام كانت الدعوة إلى الإسلام فى دماء العرب يوم خرجوا من جزيرتهم مصابيح تكتسح الظلمة، وموازين تبدد المظالم، هكذا كان كتابهم، وهكذا كان رسولهم. وقد بدا ذلك جليا فى قوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ). وكانت الأيام تمر بالعرب كما تمر السنون بالشاب المجتهد المتطلّع، فإذا هم على عجل طليعة الدنيا ثقافة وحضارة واقتدارا وازدهارا..! فهل بقى العرب الأخلاف على ولائهم للدعوة ووفائهم بحقوقها؟ إننى أذكر هاتين الواقعتين من تاريخنا وأقف متأملا. كتب الأستاذ "عبد الحليم الجندى" فى تأليفه القيم "القرآن والمنهج العلمى المعاصر" يقول: حسب القارىء بيانا لمدى الانتفاع بعلوم الأندلس فى عالم الظلمات الأوروبى خطاب صادر إلى الخليفة هشام الثالث (418- 422 هـ) فى نصه غنى عن أى تفصيل جاء فيه: "من جورج.. الثاني ملك إنجلترا وفرنسا والنرويج إلى الخليفة هشام الثالث. بعد التعظيم والتوقير. سمعنا عن الرقى العظيم الذى تتمتع بفيضه الصافى معاهد العلم فى بلادكم العامرة، فأردنا لبلادنا اقتباس هذه الفضائل لنشر العلم فى بلادنا التى يحيطها الجهل من أركانها الأربعة. وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة "دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز... " من خادمكم المطيع "جورج ". ص _009(1/6)
وفى بحث تاريخى للدكتور عبد الهادي التازي يعتب الباحث الذكى على " ابن خلدون " إهماله لوقائع جديرة بالتسجيل، يقول: " ولأذكر على سبيل المثال العرض الذى تقدم به، جوهان " ملك إنجلترا إلى الخليفة "الناصر" بواسطة السفارة التى بعث بها إلى البلاط الموحدى (608 هـ ص 2ام). لقد جاء فى هذا العرض طلب مساعدة عسكرية من الموحدين ضد النبلاء ورجال الدين والأهالى، ودليلا على الامتنان عرض الملك "جوهان " ملك إنجلترا أن يعتنق الإسلام هو وسائر أفراد رعيته "...!! يقول الدكتور التازى: "عبارة في مثل هذه الأهمية رددتها المصادر الإنجليزية بإسهاب، وذكرت أفرادها واحدا واحدا، يسكت عنها ابن خلدون؟ " ا. هـ. وإذا كانت الناحية العلمية ظلمت بهذا الصمت، أو هذا الإهمال كما يلاحظ الباحث، فنحن نرى أن الدعوة الإسلامية قد ظلمت أكثر وأكثر فى المثالين اللذين سقناهما هنا.. وظاهر أن أصحاب السلطة السياسية فاتهم الوفاء بحقوق الإسلام، ولم يكترثوا كما يجب باستغلال تفوقهم الحضارى فى نشر الدعوة، ولو عن طريق معاهدات ثقافية متكافئة! فبم نصف ذلك؟!. * * * ص _010(1/7)
مفهوم خطأ عن أبى ذر قال لى: أنا مع اليسار الإسلامى! فلبثت مليا ثم قلت: الإسلام دين ليس له يسار وليس له يمين، إنه نهج فذّ يخالف المغضوب عليهم كما يخالف الضالين... قال: أعنى أننى مع رأى أبى ذر (رضي الله عنه) ... فتفرست فيه ثم أجبته: إننى أعرف أنك شيوعى فهل أنت مع "أبى ذر" فى الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟ هل أنت مع الرجل الصالح فى أداء الفرائض من صلاة وصيام وترك المناكر من خنا وبغى؟ هل أنت معه فى الإيثار والمرحمة فلا تبقى لديك فلسا لأنك أسرع الناس إلى البذل والمواساة وطلب الآخرة ؟! إن أبا ذر(رضي الله عنه) عاش زاهدا مجاهدا لم يخذل الإسلام فى موطن ولا نكص فى معركة، بل كان أصرح الناس رأيا، وأشدهم فى الله بأسا، فما أنت و "آبو ذر"؟.. قال: أنا أتابعه على رأيه فى المال، إنه يحرم ألا يستبقى أحد عنده فوق حاجته... قلت ضاحكا: أحسبك تكلف الآخرين بهذا الرأي، أما أنت فما أحسبك تتنازل للفقراء عن قصر ملكته بطريقة ما، أو مزرعة جاءتك ولو بطريق الميراث.. لقد ظننتم " أبا ذر" شيوعيا، والرجل بعيد عن هذه النزعة، إنه مسلم صالح يتبع القرآن والسنة ولا يعدل بهما شيئا فى الأولين والآخرين... والمسلمون كلهم يرون أنه فى الأزمات التى تهدّد الإسلام وتهزّ أركانه يجب ألا يدخر أحد نفسا ولا مالا، وقد كان جمهور المؤمنين فى الأيام العصيبة ـ مثل غزوة العسرة ـ يتنافسون فى دعم الجهود الحربية، فمنهم من يخرج من ماله كله، ومنهم من يخرج من ماله نصفه، ومنهم من يبذل القناطير المقنطرة.. ص _011(1/8)
وكذلك كانوا يتباذلون فى أيام السلام، فلا يدعون محروما ولا يضيعون ضعيفا، ونهضت تقاليد الكرم وخفتت نوازع الشح، واستقر بين الناس إنفاق ما زاد على الحاجة... لكن شيئا من ذلك لم يعطل آيات المواريث، ولم يمنع أصحاب الفضول أن تكون لهم مدخرات تنفعهم فى غدهم، وتنفع ذراريهم من بعدهم، ولم يختف التفاوت بين الأغنياء والفقراء فى مقادير الثروات التى يحوزونها... الذى اختفى هو التضوّر والبأساء! ربما ظن " أبو ذر" أن النعماء التى شاعت أن أحدا لم يمسك شيئا يزيد على حاجته، وربما سبق إلى ذهنه أنه يحرم الادخار على المؤمن. لقد اتفق أولو الرأي والعقل على أن ذلك خطأ. فهل يعنى ذلك اتهام الرجل الصالح بأنه من اليسار الإسلامى؟!! إن الشريعة فى البناء أخت العقيدة فى الأساس، ومع الشريعة والعقيدة معا نسير، ونرفض أى تحريف.. * * * ص _012(1/9)
مغالطات العلمانيين أحد الذين حضروا ندوة "الإسلام والعلمانية" سألني: لماذا لم تجب عن تساؤل الدكتور فؤاد زكريا: ماذا يفعل الإسلام لحل مشكلة الديون المصرية؟ قلت: وجدت السؤال ساذجا ! ولو قال: ماذا يفعل الإسلام لعلاج أخطاء العلمانية الاقتصادية لسارعت بالجواب! قال: وما هذه الأخطاء؟ فرددت بسرعة: إن مصر بعد الحرب العالمية الثانية كانت دولة دائنة، وكانت القيمة الذاتية للجنيه المصري خمسة أضعاف الدولار الأمريكى! فما الذى جعل الدولة الدائنة مدينة؟! وما الذى جعل الجنيه يساوى فى الأسواق نصف دولار؟!! تلك آثار العلمانية الاقتصادية، وعبقريتها فى التخريب المادي والأدبي ! والسخيف أنها تخفى هذا الفشل تحت ثوب من الترفع والتعالم !! ثم نقول للمسلمين: ماذا ستفعلون لحل المشكلة؟ المشكلة التى وضعوا هم بذورها.. قال: إن كثيرين يردّدون هذا السؤال معهم: فلننس ما كان ولنجب نحن! قلت: لا بأس، إننا- باسم الإسلام- نتحرك وأمامنا هذه الحقائق: أولا: إذا كنا مدينين بستة وثلاثين مليارا من الدولارات فهناك ضعف هذا المبلغ من الثروة المصرية موجود فى البنوك الخارجية، وينبغى أن يعود كله أو جلّه... ثانيا: الإنتاج العام عندنا ضعيف إلى حد مخيف، ويكاد يوم العمل يهبط إلى ساعة واحدة بينما هو فى الدنيا ثماني ساعات. إن المديرين والمنفذين يتحركون بغير حماس وبلا وعى! ويجب أن يتغير هذا كله. ص _013(1/10)
ثالثا: آن الأوان لمحو تقاليد السرف والترف، ومقاتلة المخدرات والمسكرات جميعا، وإرغام أصحاب الكروش على شد الأحزمة، والعيش كسائر الناس. رابعا: عند التأمل سنجد أن الدول الفقيرة سدّت ما عليها، ولكن ما دفعته ذهب فى الفوائد الربوية، وفى رواتب الموظفين والخبراء الأجانب الذين يصحبون المشروعات الإنمائية أى أن الدول الغنية تقوم بأعمال سرقة ونهب وتغرير واحتيال، ويجب فضح هذا المسلك. قال صاحبي: اشرح لنا السياسة الإسلامية التى تنظر إلى هذه الحقائق..! قلت: إننى على استعداد، لكن بعد أن أسمع من العلمانيين كيف جعلوا الأمة الدائنة مدينة، وكيف جعلوا العملة النفيسة خسيسة... إن هؤلاء البله يحسبون أن الإسلاميين سيقيمون حلقة ذكر لحل المشكلة!... * * * ص _014(1/11)
العلاقة بين الأديان كنت أتمنى أن تكون العلاقة بين الأديان المختلفة ـ خصوصا السماوية ـ أفضل مما هى عليه الآن، وألا تدحرجها الأطماع إلى المستوى الذى بلغته... إن اليهود فى غارتهم على فلسطين يكشفون عن وجههم الدينى، ويصرخون بأنهم يلبّون نداء التوراة والتلمود وأنهم يريدون تسلّم ميراث أبيهم إبراهيم..! وقد رأى العرب لأمر ما ! إبعاد الطابع الديني عن هذا النزاع الدائم النزيف، وقرروا فى المحافل الدولية كلها أنهم يطالبون بالحقوق المجردة لعرب فلسطين، الحقوق الإنسانية وحسب.!! ولا يزال السيد: ياسر عرفات يقول باسم الفلسطينيين: إنه يريد إقامة دولة علمانية تسع الأديان كلها.. وهناك عدد من الدول الصغرى، والدول الأوروبية ذات المصالح الاقتصادية يساند هذا الاتجاه، بعد أن اطمأن إلى أن الإسلام فى النظام المقترح سيكون شكلا واهن الموضوع! بيد أن الأمور لا تزال تتدحرج من سيىء إلى أسوأ... فهاهو ذا مستر "نيكسون " زعيم الولايات المتحدة الأسبق يخرج من محنته ليهدد بحرب صليبية، وكذلك فعل مستر "أدوارد لوتواك " مستشار الإدارة الأمريكية الحالية مما جعل المعلق فى إحدى الصحف الأردنية يتساءل ساخرا: متى وقفت الحملات الصليبية ونحن نشهد باستمرار آثارها الاقتصادية والثقافية والسياسية؟!.. لكن الطين زاد بلة بعد زيارة بابا الفاتيكان للكنيس اليهودى فى روما ومشاركته فى حفل دينى أقامه الصهاينة! إن هذه الزيارة لو كانت صامتة لكانت دلالتها ناطقة! ص _015(1/12)
فكيف وقد حيا المجتمعين وزكّى اليهود، وقال لهم- وفق الترجمة التى قدمها لى الخبراء-: إنكم إخوتنا المفضلون!. مفضلون على من يا رجل الدين الكبير؟!! على عرب فلسطين المحرومين؟!... وأوثر أن أنقل عبارات بابا المسيحية الأكبر عن جريدتى "التحرير" و"الصباح " الفرنسيتين الصادرتين فى 14 أبريل سنة 1986. قال للحاخامات الذين استقبلوه: تربطنا بكم علاقات لا تربطنا بأى دين آخر، أنتم إخوتنا المفضلون، أو بتعبير آخر نستطيع أن نقول: أنتم إخوتنا الكبار!!. وعندما يتحدث البابا عن المسيح يقول مخاطبا اليهود: يسوع الناصرى ابن شعبكم! وقد علقت الجريدة الفرنسية على اللقاء السابق بأنه يتم وسط أحداث يبرز فيها إسلام متعصب متزمت، يقابله تيقظ الضمير الدينى للحروب الصليبية!! لست أدرى ماذا يقول العرب؟ وماذا سيفعلون؟!.. * * * ص _016(1/13)
الجمعيات الإسلامية بالخارج زرت مسجد "باريس " وألقيت به عدة محاضرات، وتحدثت مع رواده ودرست بعض قضاياهم وكونت فكرة مجملة عن شئونهم المادية والأدبية. وعندما نظرت إلى صفوف المصلين، وأنا أخطب الجمعة أحسست أن سوادهم من هذا الصنف الذى إن حضر لم يعرف وإن غاب لم يفتقد! إنه صورة نبيلة لجماهير المسلمين المحبين لدينهم الحريصين على إحياء شعائره وإسراج منائره.. لكننى لما درست أحوال بعضهم مسّني الضرّ وشعرت بالقلق! إنهم ينتمون إلى جمعيات شتى، وينتشر بينهم خلاف وجدال طويلان.!! قال لى صديق: ليس فى كثرة الجمعيات ضرر، قلت: ذاك لو كان التعدد نوعيا، هذه لتعليم اللغة العربية، وهذه لرعاية الشباب، وهذه للرياضة البدنية، وهذه لتيسير الزواج بين المغتربين والمغتربات، وهذه للرحلات إلى الداخل والخارج، وهذه لدراسة شبهات المبشرين والمستشرقين، وهذه لزيارة الأحزاب والمؤسسات الفرنسية... إلخ. أما انقسام هذه الطائفة الإسلامية المحدودة إلى سلف وخلف، وحركيين وصوفيين، ومالكيين وحنفيين، وشيعة وسنّة وأعراب وأعاجم... إلخ، فهذا بلاء مخوف العواقب، إن كان محقور الشر اليوم فربما أودى بالجميع غدا... لقد حذرت وما زلت أحذر من نقل العلل القديمة إلى هذا المجتمع الجديد. أعرف أن الأوروبيين تشيع بينهم شهوات منكرة، لكن هذه الشهوات- على دمامتها- أقل فتكا بالأمم من حب الرياسة وطلب الظهور، وتحوّل الناس إلى شراذم يقودها أمكرها أو أضراها. قال لى صديق: كان هناك خمسة أشخاص يريدون تكوين جمعية، فقال أحدهم: أنا الرئيس العام، وقال الثانى: أنا نائب الرئيس العام، وقال الثالث: أنا الوكيل العام، وقال الرابع، أنا المراقب العام. ص _017(1/14)
قلت: يجب أن يقول الخامس: وأنا العضو العام .! إن فراغ النفس والعقل وراء التطلع إلى الصدارة، واختلاق تشكيلات كثيرة لإشباع رغبة طفولية.. إننى أنصح المسلمين فى كل بلد أوروبى يعيشون فيه أن يكونوا- شكلا وموضوعا- موضع إعجاب الأمة التى نزلوا بأرضها، ولن ينالوا هذا الإعجاب إلا إذا كانوا آية باهرة فى تربيتهم وثقافتهم ومسالكهم، هنالك فقط ينتظرون البقاء والنماء. يكره الإسلام الأمراض النفسية كراهية شديدة، ويراها أسوأ عقبى وأعم ضررا من الأمراض البدنية، والواقع أن عمى البصر أخف من عمى البصيرة، ودمامة الوجه أهون من دمامة الروح. وقد رأيت فى حديث نبوي واحد استعاذة من جملة علل نفسية تهبط بقيمة الإنسان وإنتاجه، وتحول بين الشعوب وبين أية مكانة مرموقة. والحديث كما صح فى المأثورات: "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. " إ!. ثمانية أدواء هى فروع من شجرة خبيثة تستحق القطع، لأن واحدا منها يجلب الضرّ، فكيف بها مجتمعة؟!. وننظر على عجل إلى كل واحد من هذه الثمانية! أولها: الهمّ، وهو انشغال القلب بما يثير الكآبة دون قدرة على ردّه، والمهموم يواجه الحياة ببعض قواه، لأن البعض الآخر مقيد أو مغلول. والثانى: الحزن، وهو انهزام النفس أمام ألم غالب، واستقبال الحياة كأنها خريف دائم، والمحزون سجين يأسه وقعيد مآسيه، وقلما ينهض بعمل كبير. والثالث، والرابع: العجز والكسل، وهما- فيما رأيت- من آفات العالم الثالث، ترى الرجل يخرج العمل من بين أصابعه شائها مقبوحا، وكان يستطيع إتمامه وتحسينه، وربما فكر فى صلاة الاستسقاء والماء إلى جواره على مدى سهم!. ص _018(1/15)
وقد رأيت من يجلس واضعا قدما على أخرى قريبا من قمامة لا يفكر فى إزالتها، أو تتساقط المياه حوله من "حنفية " معطوبة فلا يفكر فى إصلاحها!. إنها بلادة تنشأ فى نفس الفرد، ثم تنمو فى أرجاء البيئة، فإذا أمم فقيرة تعيش فوق أرض خصبة، أو أمم محجوبة الرؤية يطرق أبوابها الأجانب ليستخرجوا من تربتها أنواع المعادن السائلة والجامدة!. والخامس والسادس: الجبن والبخل، وهما آفتان متلازمتان، فالضنين بماله لا يجود بروحه، أو الجواد بنفسه لا يبخل بماله. وكلا الرجلين لا يذوق طعم الحياة الرفيعة، وكيف يتأتى هذا المذاق لجبان يعتذر عن هروبه بهذا الكلام: لأن يقال: فر لعنه الله، خير من أن يقال: مات رحمه الله! أو لبخيل يحضن ثروته بإراقة حيائه وابتذال نفسه؟!. والسابع والثامن: غلبة الدين وقهر الرجال. ونحب التنبيه إلى أن الاستدانة لأى رغبة عارضة، مع العجز عن الوفاء لون من السرقة، فإن السارق يتناسى حقوق الآخرين فى أموالهم ولا يذكر إلا إشباع نهمته الخاصة، وكذلك كل من يستدين لغير سبب معقول. أما قهر الرجال، فبلاء ينغص حياة الشرفاء، ويرون الموت دونه، ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدوا له ما من صداقته بدّ. صلوات الله على صاحب الرسالة الهادية الشافية، واللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت... * * * ص _019(1/16)
الإيمان غنى بأدلته وحقائقه يعرف المشتغلون بالثقافة الإسلامية أن شرائع الحدود والقصاص فرع من أصل قائم وركن جامع، وأنها إذا انقطعت عن أصلها الذى انبثقت عنه أو ركنها الذى نهضت عليه أشبهت أطراف الجسم إذا انفصلت منه لسبب أو لآخر، إنها لا تساوى شيئا !. ولو أن دولة فى شرق أوروبا أو غربها تبنت العقوبات الإسلامية- لأمر ما- ما اعتنقت بذلك الإسلام، ما دامت باقية على عقيدتها أو فلسفتها! إن ارتباط الشريعة بالعقيدة لا يمكن فكه ولا التهوين منه، ولذلك فإن إدارة أى حوار حول التشريعات الفرعية يكون ضربا من اللغو إذا لم نجب بحسم عن الأسئلة الآتية: هل الألوهية حق؟ هل لله وحي ملزم؟ هل الإنسان حر فى تجاوز مراد الله؟. إن الذى يجهل من أين جاء، ولماذا خلق، لا معنى للحديث معه فى صلاة أو صيام... ومع ذلك فسأترك الحديث عن الإيمان وما يرتبط به من أنظمة خلقية خطيرة وتقاليد اجتماعية بعيدة الأثر، وسأشارك فى أى حوار يقترح حول القيمة الإنسانية لأى تشريع فرعى أو أى حكم فقهى، يكون معلوما من الإسلام بالضرورة، بيد أن من حق الباحث المسلم أن يتساءل: هل هذا الحوار حرّ حقا ؟! هل سيكون ختاما لسياسة العصا الغليظة التى استخدمت عشرات السنين، وأصابت الفكر الإسلامى بعاهات مستديمة؟ ص _020(1/17)
أننى مستعد للنسيان وبدء صفحة جديدة أساسها الإقناع الحرّ، إننى أومن بالحرية إلى أبعد مدى، وعندما أعجز فى ظلها عن بلوغ هدفى أعلن انسحابى من الحياة العامة! إن الإيمان ليس فقيرا فى أدلته وحقائقه حتى يخاف الحوار! لكنى أوجه سؤالا له ما بعده.. هل الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه إلا أن يكون مسلما فإنه يجب أن يحكمه غيره بقوانينه وتعاليمه المستوردة؟ وسؤال آخر يخرج من المنبع نفسه: هل القلة تنزل عن رأيها وتتبع الكثرة فى جميع البلاد الحرة إلا فى الأقطار العربية والإسلامية، فإن للقلة أن تفرض نفسها بالقهر الإعلامى، والسلطات المفروضة ؟ ثم تبلغ الجرأة حدّها الأقصى فيقال: إن ذلك تم باسم الشعب؟!!. مرحبا بالحوار فى ظل الصدق، والنزاهة، وكرامة الأفراد والجماعات. * * * ص _0 ص(1/18)
شهر الطعام، لا شهر الصيام أعلم أن رمضان حق، وأن صومه فرض، وأن قيامه مستحب، وأن أوقاته أزكى من سائر العام، ومن ثم استثيرت لها الهمم، فنادى مناد من قبل الحق: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلمّ ! وعلى المؤمنين أن يفوزوا فى هذا السباق... ولكنى عندما يقبل رمضان أشعر بالوجل، لا من العبادات المفروضة بل من العادات السائدة! فقد أبى المسلمون إلا تعكير رونق الشهر المبارك بما استحدثوه من أمور لا تصح بها دنيا ولا يصلح بها دين.. المعروف أن الليل سكن للأنفس، وأن السهر فيه قد يكون من شرطى يحرس الأمن أو جندى يحمى الثغور أو طبيب يرعى المرضى أو عامل فى نوبته لمواصلة الإنتاج والسهر فى رمضان إنما هو تهجد لمناجاة الله وقراءة كتابه والتسبيح بحمده والإعداد للقائه! فما معنى أن يسهر المسلمون فى رمضان للتسلية الفارغة واللغو الطويل؟! وما معنى أن تعدّ لهم برامج خاصة كى يضحكوا؟ ومن حقهم أن يبكوا أو يهدءوا، ومن حقهم أن يشكوا، ألا يحس المسلمون ضراوة العدو بهم ونيله الشديد منهم ؟!!. إن نصف الأمة الإسلامية يترنح تحت وطأة الاستعمار الصليبي والشيوعي، والنصف الآخر يرى دينه منكور التوجيه فى أكثر من ميدان، ولا يستطيع أن يفعل شيئا. ففيم المجون والضحك؟!!. ومعروف أن استهلاك الأغذية يتضاعف تقريبا فى رمضان، وأن الحكومات توفر مزيدا من السلع لاستقبال الشهر، وكأنما هو شهر الطعام لا شهر الصيام. ويبدو أننا نجوع كثيرا لنأكل كثيرا، رما شرع الله الصيام لهذا النوع من الفعل ورد الفعل! إن شريعة الصيام تدريب على جهاد النفس والتحكم فى مطالبها ورغائبها وإخضاعها لضوابط الأمر ص _022(1/19)
والنهى، وإشعار الإنسان أنه روح قبل أن يكون جسما، وعقل قبل أن يكون هوى وغرائز... والحضارة المعاصرة نسيت هذه الحقائق كل النسيان، وبنت سلوكها على إجابة النداء الحيوانى للأجهزة الدنيا فى البدن، وعلى اعتبار الكبت- مهما شرف سببه- ضارا بالإنسان!! ترى ما الفرق بين البشر وغيرهم من الحيوانات إذا كان الإنسان يفعل ما يحلو له دون أى اعتراض؟ أرجو أن يقدم المسلمون سلوكا فى رمضان يشرف هذه العبادة الرفيعة وتنتعش به الروحانية الذابلة فى عالمنا... * * * ص _023(1/20)
كيف ندعو إلى الإسلام؟ دخلت مكتبى فتاة لم يعجبنى زيّها أول ما رأيتها، غير أنى لمحت فى عينها حزنا وحيرة يستدعيان الرفق بها، وجلست تبثنى شكواها وهمومها متوقعة عندى الخير!. واستمعت طويلا، وعرفت أنها فتاة عربية تلقت تعليمها فى فرنسا، لا تكاد تعرف عن الإسلام شيئا، فشرعت أشرح حقائق، وأرد شبهات، وأجيب عن أسئلة، وأفنّد أكاذيب المبشرين والمستشرقين حتى بلغت مرادي أو كدت!. ولم يفتنى فى أثناء الحديث أن أصف الحضارة الحديثة بأنها تعرض المرأة لحما يغرى العيون الجائعة، وأنها لا تعرف ما فى جو الأسرة من عفاف وجمال وسكينة... واستأذنت الفتاة طالبة أن آذن لها بالعودة، فأذنت... ودخل بعدها شاب عليه سمات التدين يقول بشدة: ما جاء بهذه الخبيثة إلى هنا؟ فأجبت: الطبيب يستقبل المرضى قبل الأصحاء، ذلك عمله!! قال: طبعا نصحتها بالحجاب! قلت: الأمر أكبر من ذلك، هناك المهاد الذى لابد منه، هناك الإيمان بالله واليوم الآخر والسمع والطاعة لما تنزل به الوحى فى الكتاب والسنّة، والأركان التى لا يوجد الإسلام إلا بها فى مجالات العبادات والأخلاق... فقاطعنى قائلا: لك كله لا منع أمرها بالحجاب.. قلت فى هدوء: ما يسرنى أن تجيىء فى ملابس راهبة، وفؤادها خال من الله الواحد، وحياتها لا عرف الركوع والسجود، إننى علمتها الأسس التى تجعلها من تلقاء نفسها تؤثر الاحتشام على التبرج. فحاول مقاطعتى مرة أخرى فقلت له بصرامة: أنا لا أحسن جر الإسلام من ذيله كما تفعلون، إننى أشد القواعد وأبدأ البناء بعدئذ. وأبلغ ما أريد بالحكمة... ص _024(1/21)
وجاءتنى الفتاة بعد أسبوعين فى ملابس أفضل، وكانت تغطى رأسها بخمار خفيف، واستأنفت أسئلتها. واستأنفت شروحى، ثم قلت لها: لماذا لا تذهبين إلى أقرب مسجد من بيتكم؟. وشعرت بندم بعد هذا السؤال. لأنى تذكرت أن المساجد محظورة على النساء! لكن الفتاة قالت: إنها تكره رجال الدين، وما تحب سماعهم! قلت: لماذا؟ قالت: قساة القلوب غلاظ الأكباد !! إنهم يعاملوننا بصلف واحتقار..! ولا أدرى لماذا تذكرت " هند امرأة أبى سفيان " التى أكلت كبد حمزة (رضي الله عنه) ونالت من الإسلام ما نالت، إنها كانت لا تعرف رسول الله، فلما عرفته واقتربت منه وآمنت به قالت له هذه الكلمات: " يا رسول الله : والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب أن يذلوا من أهل خبائك!! وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزّوا من أهل خبائك " * * * إن نبع المودّة الدافق من قلب الرسول الكريم بدل القلوب من حال إلى حال، فهل يتعلم الدعاة ذلك من نبيهم فيؤلفوا بدلا من أن يفرقوا. ويبشروا بدلا من أن ينفروا؟؟... * * * ص _025(1/22)
متى نستفيد بأخطاء أعدائنا درست الهزائم الكبيرة التى أصابت أعداء الإسلام فى بدر، وعند مكة عام الفتح، وحزنت أن المشركين هم صانعو هذه الهزائم، وملحقوها بأنفسهم! قلت: ما كان أغنى هؤلاء عن القتال فى بدر بعد ما نجت قافلتهم وفقدت الحرب سببها! لكن الزهو والغرور لعبا بقادة الكفر فمضوا فى طريق البطر والرياء يقولون: لابد أن يسمع بنا العرب، وأن نقوم باستعراض للقوى يذل جانب الإيمان ويكسر أفئدة الداخلين فيه. فنشبت الحرب لغير ضرورة، وكانت الكبرياء التى دفعت إليها هى القطرة التى فاض بها الإناء أو القشة التى قصمت ظهر البعير كما يقولون، فإذا القوم يكسو وجوههم الخزى بعد ما غلت مراجل الغضب الإلهى وأنزلت بهم ضربة لا يمحوها اختلاف الليل والنهار!. إن أخطاء المبطلين لا تتبدد، وإنما تتراكم فى سجل دقيق حتى إذا بلغت حدا معينا أحاط بهم أولها وآخرها (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد). وما حدث فى بدر حدث مثله فى غزوة الفتح، فإن معاهدة " الحديبية " تفرض على الناس هدنة مدتها عشر سنين، تستطيع دولة الوثنية خلالها أن تبقى كما شاءت.! لكن الفكر المتمرد على الله له سورات ينتحر بها وهو يحسب أنه ينتصر، فقد أبى قادة الوثنية إلا إلغاء نص واضح فى شروط الهدنة، وهاجموا فى الأشهر الحرم قبيلة كانت موالية للمسلمين، فاستباحوها واستباحوا الحرم نفسه، وعرفوا بعد فوات الأوان أنهم أخطئوا، وهيهات أن يفروا من دفع الثمن، لقد دفعوه بالإجهاز على دولتهم بعد عامين فقط من السنوات العشر التى ارتضوها هدنة عامة.. ص _026(1/23)
إن أخطاء أعداء الله كثيرة، بيد أن السؤال الخالد: من الذى يستطيع استغلال هذه الأخطاء وتحويلها لمصلحة الحق؟! يستطيع ذلك مؤمنون ترشحهم خلالهم لوراثة الأرض والإمساك بزمامها على نحو أقرب للشرف والعدل وخشية الله، وكفار زماننا لا يقلون شرا عن أندادهم الأولين. ويظهر أن زمام الدنيا قد يبقى فى أيديهم زمنا أطول ! لماذا؟ فى رأيى لانعدام الورثة الذين يصرفون شئون الناس بمواريث الوحى الأعلى، إننا نحن المسلمين لم نستكمل بعد خلال القيادة الروحية والفكرية لجماهير البشر، وسن الله الكونية والاجتماعية لا تعرف المحاباة. * * * ص _027(1/24)
رقابة الله أساس المسئولية قال المدير العام لجمهور الموظفين: إننا بتوجيهات السيد وكيل الوزارة قد نفذنا القرار الصادر فى مدة وجيزة، وبتكاليف قليلة... وقال وكيل الوزارة فى اجتماع كبار الموظفين: إننا قد استلهمنا من روح الوزير الساهر على المصلحة العامة ما جعلنا نحقق الخطة الموضوعة فى زمن قياسي، وبطريقة حكيمة... وقال الوزير المختص فى تصريح لرجال الصحافة: إن وزارتنا قامت بأعمال لا نطيل فى الحديث عنها. فسوف تكشف الأيام عن عظمتها، وقد تم ذلك كله بفضل السيد رئيس الوزراء، ويقظته التامة فى حماية حقوق الأمة... وقال رئيس الوزراء: إننا وراء القيادة الحكيمة للسيد الرئيس وانطلاقا من نصائحه الغالية قد حققنا لشعبنا العظيم ما ينشده من رخاء واستقرار. وقال السيد الرئيس لرجال الإعلام الذين احتشدوا من حوله: إن الجماهير الواعية هى التى أمدتنا بالحماس والقدرة، وإن شعبنا الطموح قد علمنا أن نثابر وأن نضاعف الإنتاج، فالفضل للشعب أولا وآخرا.. وذهبت للشعب أسأله بماذا أوحيت؟ وأمليت؟ فأجاب: لا أدرى شيئا !. قلت: لقد تبين من هذه الإجابة أنك أنت المسئول عن كل ما يحدث! قال: كيف وأنا لا أدرى شيئا ؟. قلت: لأن كل المقررات الصادرة تقوم على عدم الدراية، فجهلك هو السبب الرئيسي فى هذه السلسلة من ألوان الملق والكذب، إن عدم درايتك هو الذى أتاح الظروف لكل هذه التصريحات الخاوية، إنه الوالد الأول والأخير لها، ولو كنت تدرى ما وقع شىء منها..!! لماذا لا تقوم الأعمال فى أرجاء الأمة الإسلامية على رقابة الله وحده فى استقلال الشخصية، وتحفل كل امرىء مسئوليته بشجاعة واعتزاز؟ إن العمل لاسترضاء الغير وتأسيس مكانة عنده هو لون من الشرك، ألم يقل رسولنا: " الرياء شرك "؟ الغريب أننى راقبت العمل فى ميادين أخرى، وبين جماهير غير جماهيرنا. فوجدت كل امرىء يؤدى واجبه فى صمت، ويستند إلى عمله وحده فى تقرير حقه وتثبيت كرامته، دون تعويل على زلفى،(1/25)
أو ذوبان فى رئيس!.. * * * ص _028
خطورة الخلافات الفرعية شهدت نزاعاً محتدماً بين فريقين من الناس، أحدهما يرى الإسرار بالتأمين وراء الإمام والآخر يرى الجهر به ! واقترح بعضهم الاحتكام إلى كى أضع حدا لهذا النزاع... قلت: التأمين دعاء. والمهم فيه الضراعة والرجاء، فإذا اشتد النبض فى الدعاء فعلا، أو غلب التذلل فخفت، فالأمر سواء..!! قال أحد السامعين وعيناه تبرقان: ما فهمنا شيئا ! قلت له: نعم وأنتم أهل ذلك، فأنتم تريدون إجابة ترضى شيطان العناد الذى ينفخ فى هذا الجدال الحادّ، ويجعل منكم أعداء متدابرين، وإذا لم يكن بد من إجابة فقهية فاعلموا أن الإسرار مذهب، والجهر مذهب، وكلاهما وارد ومأجور إن شاء الله. وانصرف عنى الفريقان ضائقين، وشعرت بالراحة لابتعاد أنفاسهم عنى.. بل شعرت بفقر أولئك الناس إلى المربّى الطويل البال ينقلهم إلى مستوى أرفع مما هم فيه من جلافة تعزلهم عن روح العبادة وأدب الصلاة... إن ذلك الخلاف الفقهى نموذج لعشرات من أمثاله تشغل الدهماء، وتوقد الفتن وتوهى الأخلاق وتقطع ما أمر الله به أن يوصل... ويخيل إلى أن هذه الخلافات الفرعية تشبه صور الجراثيم التى تعرض علينا فى كتب الصحة ويقال تحتها: " ميكروب " مرض كذا مكبر ألف مرة!!. وتكبير هذه الرسوم لمعرفتها مفهوم، لكن ما معنى تكبير الفروق بين أفهام أو آراء لبعض العلماء، حتى لتبدو وكأنها حقائق لملل متباعدة؟ إن نتائج ذلك كانت وخيمة على مجتمعنا الدينى، فإن هذا التضخم المفتعل غطى مساحات واسعة كان يجب أن تشغلها الأخلاق التى لا تنهض الأمم إلا بها، فبدل أن تشغل الجماهير بتكوين فضائل الصدق والأمانة والوفاء والحياء... إلخ، شغلت بما تظنه أكثر أجرا وأعظم ذخرا. وذلك وهم بعيد، فإن فقدان الأخلاق يعنى امتداد النفاق، وانتشار الفساد، وضياع الأم... وعندى أن إشعال التعصب المذهبى كان خطة ماكرة لصرف العامة عن النقد السياسى ومتابعة الأخطاء التى أودت(1/26)
بالدولة الإسلامية قديما ! ويبدو أن الخطة لا تزال تنفذ إلى الآن...!! * * * ص _029
كيف ننقذ اقتصادنا للأمم المتخلفة أنماط من الترف تقبل عليها بنهم وتنفق فيها الكثير، ويعرف المستعمرون ذلك منها فيأمرون مصانعهم أن تزيد فى إنتاجها حتى يشتد الإقبال ويتضاعف الكسب. والواقع أن المسلمين عامة والعرب خاصة أخذوا من المدنية الحديثة جانبها البراق، وكانوا معها مستهلكين لا منتجين، بل لقد صنعت لهم سيارات خاصة، وأدوات من الزينة، أو أنواع من الأجهزة لا يستخدمها صانعوها أنفسهم لأنهم يرون ما دونها يغنى عنها. أما نحن فنظن الارتقاء أو العظمة فى اقتناء هذه السلع! وللطفولة العقلية منطق يستحق الزراية والتخويف، وقد آن الأوان للمناداة "باقتصاد حرب " يوقف هذا السيل من النفقات، ويستغنى بصرامة عن هذه الفضول كلها، ويلزم الكبار والصغار بأسلوب من العيش تقل فيه المرفهات، ونستغنى عن استيراد الكماليات، ونحيا فى نطاق ما ننتج فى بلادنا، ونتحرر من إسار الحاجة، ويعلم الناس أننا لسنا عبيد مآرب تافهة أو عادات سخيفة!. إن نصف ما نشتريه من الخارج يمكن الاستغناء عنه فورا ! ونصف الباقى يمكن الاستغناء عنه فى أمد قريب، وإذا لم نتعلم من ديننا ضبط شهواتنا فماذا نتعلم؟. إن خصومنا شرعوا يتنكرون لنا ويضنون علينا، بل إن بنى إسرائيل بنوا دولتهم بين ظهرانينا على أساس أنهم ينتجون ونحن نستهلك ! كأننا أطفال نحب اللّعب الجميلة وندفع ثمنها لمن يصنع به السلاح الذى يقتلنا به.. وقد لفت نظرى أن النساء فى الشرق العربى يتحلين بالجنيه الذهبى "جورج "، وأن النساء فى المغرب العربى يتحلين بالجنيه الذهبى "لويس "، والغريب أن النساء فى إنجلترا وفرنسا لا يتحلين بهذه القطع الذهبية ! إنها تصنع لنا وحدنا !. ص _030(1/27)
ربما كانت للمسلمين أيام "هارون الرشيد" تقاليد سرف يخفف من شرورها أن الخليفة كان يقول للسحاب: أمطر حيث شئت فسوف يأتينا الخراج!. فما معنى بقاء هذه التقاليد والأمة الإسلامية فى أيام عجاف تسر العدو وتحزن الصديق؟ يجب أن تتكاتف الجهود للعودة بالعرب والمسلمين إلى "اقتصاد حرب" يفرض عليهم الاكتفاء الذاتى، فقد تداعت عليهم الأمم، وإن لم يتماسكوا هلكوا..! إننى أرى السكارى والمدخنين فأشعر بغصّة أو أرى الأفواج المسافرة إلى الخارج للنزهة والمتعة فأحس الهزيمة! وأرى الذين يتطلعون إلى الحطام الزائل بشوق ورغبة فأقول: إن حاجتنا ماسة إلى تربية صحيحة لنستنقذ ديننا ودنيانا... * * * ص _031(1/28)
باسم الإسلام يزينون الباطل اجتمع رهط من الناس أطلقوا على أنفسهم- أو أطلقت الصحف على كل واحد منهم-: "مفكر إسلامى كبير"! مهمة هذا الرهط تدمير الإسلام من الداخل وتقرير أحكام ما أنزل الله بها من سلطان.!. وكان اللقاء هذه المرة عاصفا، لأنه للرد على متطرفين يطلبون من السلطة تحريم الخمر وإغلاق الحانات! وهذا طلب يراه المفكرون الكبار جهلا بالإسلام!!. قال كبيرهم: ألا يعلم أولئك المتطرفون ضرورة استقدام السائحين والحصول منهم على العملة الصعبة لتمويل المشروعات الكبرى؟ إن الخمر ليست متعة شخصية فقط، بل هى مصلحة قومية إذا اعترضت النصّ وقفته عن العمل! وتعطيل النص للمصلحة مبدأ فقهى مقرر!. وقال مفكر آخر: إن الخمر المحرّمة هى المغشوشة بغاز "الإسبرتو" المسموم، وهى التى قتلت جملة من السكارى المساكين! أما الخمر النقية فلا حرج فيها ولا يجوز منعها..! وقال مفكر واسع الاطلاع: ليس هناك نصّ على تحريم الخمر، الناس مخيرون فى شربها أو فى تركها! والقرآن بعد أن دعا لاجتنابها قال: (فهل أنتم منتهون )؟ فلم يقطع بالمنع..! وقال مفكر إسلامى آخر: التحقيق عندى أن المنع والإباحة يرتبطان بنسبة "الكحول " فى المشروب، فإن كانت قليلة كالبيرة الوطنية جاز شربها! أما "الفودكا" الروسية و"الويسكى" الاسكتلندي فهى أشربة ينبغى الابتعاد عنها.! ومضى المفكرون الكبار يتحدثون عن التطرف الدينى وخطره على الجيل الصاعد، وقالوا: نحن أصدق إيمانا وأعزّ تفرّا، وعلى استعداد لفتح الحوار مع من شاء لتعرية هؤلاء المتطرفين!. ص _032(1/29)
وفوجئ الناس بكتّاب ما صلوّا لله ركعة، ولا أدّوا له حقا يتحدثون عن الحلال والحرام وتطبيق الحدود أو وقفها...! وقال أولو الألباب: أين علماء الدين يصدّون هذا الإفك؟ ويقررون الفتوى من أصولها المتفق عليها؟ ويطلبون بحزم تحريم الخمور والمخدرات على سواء؟ ولم نسمع جوابا!. إن الجراء على قول الباطل ما اكتسبوا جراءتهم تلك إلا لما لاحظوه على أهل الحق من خور وتهيب، نعم لا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق... * * * ص _033(1/30)
إفريقيا مهددة بالتنصير بابا روما يقود أكبر تجمّع بشرى فى عالم النصرانية، إذ أن أتباع الكنيسة الكاثوليكية أضعاف الكنائس الإنجيلية والأرثوذكسية، وجهازهم التبشيرى شديد الدقة واسع الدائرة... ومن بضع سنين أعلن بابا الفاتيكان عزمه على تنصير أفريقية كلها مع نهاية القرن العشرين، أو بتعبير أضبط جعل النصرانية هى الدين الأول فى القارة القديمة، والمعروف أن الإسلام هو الدين الأول فى هذه القارة، تليه الوثنية، تليها المسيحية بشتى طوائفها.. وتبذل الطوائف المسيحية جهدا جبارا لبلوغ هذا الهدف، وهو جهد تدعمه الدول الناطقة بالفرنسية والإنكليزية، وتنظر إليه الدول الأخرى على أنه شئ طبيعى، وهى إن لم ترحب به فلن تضع عائقا فى طريقه.. وبابا الفاتيكان الحالى من أنشط رجال التبشير وأوسعهم حيلة وألينهم مقالا وأذكاهم خطة، ومع شيخوخته فهو ينطلق من معقله شرقا وغربا ليشرف بنفسه على تحقيق أهدافه، ويلقى التقدير العميق حيث حل، وقد راقبت زياراته المتكررة لقارة أفريقية وأدركت دون عناء أن الرجل يريد الاطمئنان إلى مستقبل الخطة التى وضعها، وفى سبيل ذلك يتنقل ويخطب فى المسلمين والنصارى وغيرهم، وهو لطيف العبارة ذكى الإشارة، يتخلص من المشكلات بلباقة، ويؤدى واجبه فى خدمة التبشير المسيحى بمهارة ملحوظة... قلت لنفسى: ماذا لدينا بإزاء هذا الموقف؟ وأعترف بأننا- فى خير أحوالنا- أصحاب ردود أفعال، ولسنا أصحاب أفعال إيجابية. أى أننا قد نتحرك إذا تحرك غيرنا وشممنا رائحة الخطر، وقد نتبلد حتى تقع الكارثة!!. ماذا أعددنا وديننا مهدد بالانقراض أو الانحسار فى قارة كبيرة؟!. ص _034(1/31)
الأمة التى قيل لها: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) ليس لها جهاز عالمى للدعوة إلى الخير، وإذا صنعت على الورق أجهزة لم يوجد الرجال الذين ينفخون فيها من قلوبهم روح الحياة والانطلاق! لماذا؟ هل نضب معين الإسلام؟ كلا ما نضب ولن ينضب.. إن الأخدود الغائر بين رجالات الدعوة ورجالات السلطة يجب ردمه على عجل حتى يوجد الرجال الذين يملئون الفراغ المخيف. كانت الخلافة العظمى مسئولة عن مستقبل الإسلام والمسلمين حيث كانوا، وظاهر أن دفن هذه المسئولية جزء من مخطط إسقاط الخلافة، وترك المسلمين دون انتماء ولا حماية ولا تناصر، على حين يحظى غيرهم بالانتماء والحماية والتناصر.. * * * ص _035(1/32)
الحاقدون على الشريعة أكره المغالاة والتطرف فى شئون الدنيا والدين على سواء، وليس ذلك خليقة خاصة لى! ولكنه مسلك يلزمنى به الإسلام، وقد أحمل نفسى عليه حملا إذا رأيتها تنزع إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار.. ومع ذلك فإنى أحب الاعتدال، وأطلبه من غيرى تجاوبا مع دينى! لذلك شعرت بالاستنكار عندما قرأت كلمات لبعض الكاتبين ظاهرها الحملة على التطرف وباطنها الحملة على الإسلام نفسه، والدعوة إلى وأد أحكامه وتجريد الحياة العامة من سماته !. قد يرفض البعض أن تسير مظاهرة تدعو إلى تحكيم الإسلام، لأن المسيرات الغاضبة وسائل غير مأمونة، ولأن العمل للإسلام يتطلب طرقا أحكم وأجدى، ولأن البناء الجاد للعقائد والأخلاق والشرائع يتم فى صمت وأناة! لا حرج من الاعتراض على هذه الوسيلة أو تلك! فهل الاعتراض الجائز ذريعة لشتم الإسلاميين والزعم بأن العودة إلى الإسلام نكسة حضارية ونزعة همجية؟؟. أعرف أناسا ما عرفوا طريقا إلى المسجد يوما، ولا غضوا أبصارهم عن الدنس لحظة، انتهزوا الفرصة العارضة وشرعوا يهاجمون الإسلام نفسه بدعوى مهاجمة التطرف، أى أن تحريم الخمر والخنا وقطع دابر اللصوصية والفوضى أمور هى من التطرف المعيب وليست من أركان التقوى ومعالم الوحى الحق!!. والذى جرّأ هؤلاء على الإسلام وكشف عن ضغائنهم ما شاع من أن القوى الكبرى المعادية للإسلام قررت مخاصمة العودة إلى التشريع الإسلامى، وهددت من يفعل ذلك! وتلك إشارة البدء بالهجوم على الإسلام كله واقتلاعه من جذوره!. قلت: التاريخ يعيد نفسه، ففى صدر الإسلام تابع المنافقون أعداء الأمة فى كراهية ص _036(1/33)
الوحى ورفض أحكامه فنزل فيهم قوله تعالى: ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم). وقوله جل شأنه: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم). لقد خرجت الأفاعى من جحورها تتحدث عن الإسلام بحقد غريب! ولما كانت الدساتير الموضوعة تقرر أن الإسلام دين الدولة والمصّدر الرئيسى لتشريعها فلا مناص من دفع أولئك الحاقدين بأنهم يريدون نقض البناء الاجتماعى لحساب قوى خارجية، وأنهم يقترفون جريمة الخيانة العظمى، أو بتعبير الإسلام الحنيف: يرتكبون جريمة الارتداد! إن محاربة التطرف لن تكون أبدا سبيلا لمحاربة الإسلام نفسه، ولن ندع هؤلاء يمضون فى عبثهم الشائن.. * * * ص _037(1/34)
كيف نحتفي بمن يهددنا بالموت؟!! أكّد "حاييم وايزمان " فى المذكرات التى نشرها أن وعد إنجلترا بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين لم يكن عملا سياسيا مجردا، بل كان توكيدا لعاطفة دينية عميقة، وأن "لورد بلفور" الذى أصدر هذا الوعد كان يترجم عن إيمانه بالعهد القديم، ويباشر تحقيق النبوءات التى وردت به.. وهذا كلام صحيح يسجله أول رئيس لإسرائيل، وقد كان تعليق العرب عليه: أن من لا يملك أعطى من لا يستحق!. واكتفوا بهذا التعليق دون أن يتعرفوا أو يستكشفوا المشاعر الدينية التى تكمن وراءه! وليس هذا أول تقصير للعرب فى دراسة خصومهم وأصدقائهم. وقد مضت عشرات السنين على القرار الصادر بتهويد فلسطين، أبيدت فيها قرى عربية، وحصدت آلاف الأرواح سرا وجهرا، ومحيت معالم تاريخ، وحل لقب العربى التائه مكان اليهودى التائه، وتعاون ذهول العرب مع ضغائن الدول الكبرى على إحقاق الباطل وإبطال الحق، وتشريد المواطن وتوطين المشرّد.! وقال ساسة الدول الكبرى: خلقت إسرائيل لتبقى، وليذهب العرب إلى الجحيم.. ومع ذلك كله أبى العرب أن يقولوا: إن التعصب الدينى وراء هذه السياسة، وإن الغارة الجديدة استئناف للحروب الصليبية الأولى. لا أدرى أهذا جهل أم تجاهل؟ أهو غباء أم تغاب؟!!. ولكن هل يصح أن يبقى شىء من هذا بعد ما قاله الرئيس الأسبق للولايات المتحدة كاشفا عن نيته نحو العرب والمسلمين؟!. كتب الأستاذ أنيس منصور: " يحتفل العالم بمرور أربعين عاما على استخدام ص _038(1/35)
القنبلة الذرية ضد اليابان، وفى هذه المناسبة الحزينة طلع علينا الرئيس "نيكسون" يقول: إنه كان سيلقى قنبلة ذرية على السويس أو بورسعيد أو القاهرة بعد انتصارات حرب أكتوبر لأن هزيمة إسرائيل أمام مصر تعادل هزيمة أمريكا أمام اليابان، وأمريكا لا تسمح بشىء من ذلك..!! هذا السفاح الأمريكى نيسكون هو الذى لقى فى مصر أعظم استقبال لرئيس أجنبى... إن الجماهير الطيبة التى خرجت لاستقباله هى التى كان يريد القضاء عليها بقنبلة أنا لم أستغرب كثافة الشر فى نفس "نيكسون" أو غيره من رؤساء العالم الشيوعى أو الصليبى، إنه وليد ضغائن تتنامى من ألف عام تستنكر علينا نحن المسلمين حق الحياة، وتريد أن تذيقنا ألوان الحتوف.. الذى أستغربه: بلاهة من استقبلوا نيكسون بحفاوة، ومن نظموا له هذا الاستقبال... * * * ص _039(1/36)
إهانة الإسلام فى الصحف الأجنبية أطلعنى بعض الشباب وهو غاضب على صور مستغربة فى مجلة فرنسية، وقال لى: يجب أن تردوا على هؤلاء المجرمين! فهدّأت من هياجه وقلت له: ما هذه الصور؟ فأخذ يشرح لى وأنا أعجب، هذه صورة محمد- عليه الصلاة والسلام- فى سمت تخيله رسام سكران. وهذه صور أصحابه الأقربين... وإلى جوارهم ركام متناثر من الجثث إشارة إلى انتشار الإسلام بالسيف ! وتلك صورة أخرى تمثل النبى الكريم وهو يخطب فى حجة الوداع وتحتها منظر يمثل جنون التدين! ورأيت صورة لباب الكعبة وفى أسفله صورة لشهادة بأن امرأة حجت وطافت وسعت...إلخ، فى إطار يذكر الناظر بصكوك الغفران التى يصورها قديما بابوات روما.. وقد أخذت لنفسى بعض هذه الصور، وكنت ضائق الصدر بالإسفاف الذى كتب معها، وشعرت بأن حقد الأوروبيين على محمد ودينه يتفجر من منبع لا يغيض أبدا.. قال الشاب: جزاء سيئة سيئة مثلها، ردوا على هؤلاء المعتدين! وفكرت ماذا أفعل؟. إننا معشر المسلمين نكن احتراما عميقا لموسى وعيسى ومريم وسائر أنبياء الله!! وحتى لو كان خصومنا يعبدون الأصنام والأبقار فنحن منهيون عن سب آلهتهم - مهما كان بطلانها- (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم). لكن إصرار أعداء الإسلام على النيل منه بأسلوب الرعاع يزيد ولا ينتقص، وقد أخذوا يطلقون أسماء مقدساتنا على بعض مباذلهم...! وما نعجز عن قمع هؤلاء وتمريغهم فى القذى! نعم نستطيع دون أن نكذب تصوير ما يشيعون- أعنى ما يتلون- من تهم هابطة لنوح ولوط وداود وسليمان.. الله يعلم أنهم فيها كذبة، وأن أنبياءه منها ص _040(1/37)
أبرياء. ويستطيع الغاضبون عندنا أن يطلقوا أسماء معينة على أماكن تخدش الحياء... بيد أننا نكره التدلى إلى هذا المنحدر ونحب من رجال الدين فى أوروبا أن يتراجعوا عن خططهم فى إهانة الإسلام ونبيه. فالبغى مرتعه وخيم، وتصوير محمد فى زى رعاة البقر من الهنود الحمر لن يغض من أمجاده فى الأولين والآخرين، وأعرف أن ملاحدة شرعوا يكتبون أسماء موقرة على سلع مهينة، وعقبى هذا الطيش مروعة (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). * * * ص _041(1/38)
لماذا نلوم أعداءنا ولا نلوم أنفسنا؟ من عشرين سنة تقريبا أرسل "عيدى أمين " الرئيس الأسبق لأوغندا إلى الشيخ الجليل الدكتور " عبد الحليم محمود " يطلب منه المعاونة فى تكوين مجلس أعلى للشئون الإسلامية بأوغندا، واستجاب شيخ الأزهر لهذه الرغبة فأرسل وفدا يتكون من الدكتور محمد بيصار وكيل الأزهر ومني أنا وكنت مسئولا عن الإدارة العامة للدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف!. كنت أظن أوغندا بلدا شديد الحر لأنها على خط الاستواء، وعرة الأرض صعبة المسالك! ثم أدركت أنى كنت شديد الخطأ، لقد تأملت- وأنا فى الجو- ما تحتى، فما وجدت بقعة جرداء، كانت الخضرة الجميلة تكسو كل شىء، فلما نزلنا أحسسنا نسائم الربيع تهب علينا، وبين الحين والحين يتساقط مطر خفيف يغسل كل شىء، وتذكرت قول الشاعر: فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمى! ثم تجاوزت هذا الاعتناء بالمكان إلى الاهتمام بالسكان، فذاك ما جئنا من أجله. المسلمون والنصارى هنا سواء فى العدد، ولكنهم ليسوا سواء فى الكيف، فالعلم والتقدم والغنى تكاد تكون السمة البارزة للمسيحيين، والفريقان معا يكونان خمسي السكان، أما الكثرة الباقية فهى من القبائل الوثنية... وكان وجود "عيدى أمين" نذير شؤم للتبشير، كما كان وقفا لسياسة تأخير المسلمين، وتعريضهم للجهل والفقر والمرض!. وكان الرجل صارما فى مطاردة قطاع الطريق، ومثيرى القلق هنا وهناك، ولم يكن مع إسلامه الشخصى متعصبا ضد أحد من الكاثوليك أو البروتستانت، بل كان واضح الإنصاف، يعطى كل ذى حق حقه!. ص _042(1/39)
العيب الأول فى الرجل أنه كان مسلما، وكان رياضيا يتصف بالشجاعة والصراحة، وقد تجاهله الساسة العرب ذوو الخبرة. وتركوه لمؤامرات الاستعمار العالمى التى أفلست فى تقليب الأمور عليه من الداخل، فساقت إليه جيوشا من الخارج أودت به!. فماذا حدث بعد ذهابه، والإتيان بسلفه؟! سمعت الرئيس الأوغندى الحالى يقول: إن أوغندا فقدت نصف مليون قتيل فى الاضطرابات الأخيرة!. نقول: وذاك عدا مئات الألوف من اللاجئين الهاربين إلى السودان وغيره من حرب الإبادة التى شنت عليهم فى صمت، وسكتت عنها أجهزة الإعلام الأجنبى، كما سكتت عنها أجهزة الإعلام العربى!!. كان الخطأ الذى يرتكبه " عيدى أمين " ينقل مضاعفا، وتضم إليه افتراءات لا حصر لها، حتى ظن الظانون أن الزعيم المسلم من مصاصى الدماء. ثم جاء من بعده من أزهق الأرواح بغزارة، وملأ الأرجاء بالفوضى والأثرة والتعصب دون أن ينبس أحد ببنت شفة! من نلوم؟ أنلوم أعداءنا؟ أم نلوم أنفسنا؟!. * * * ص _043(1/40)
تزوير التاريخ أحيانا أرى بعينى وأسمع بأذنى كيف يزوّر التاريخ وتستخفى الحقيقة ويخدع الناس! فأقول: إن الأجيال المقبلة معذورة عندما تضل السبيل وتتبع الأباطيل!. ألا يطول عجب الإنسان عندما يسمع ساسة الغرب الكبار يقولون للعالم أجمع: نحن نرفض الإرهاب الدولى وسوف نقاومه بكل سلاح.. يقولون ذلك للفدائيين الذين يدافعون عن أرضهم وعرضهم! والذين يقاومون بالسلاح التافه أفتك أسلحة العالم، والذين تلتف بهم مؤامرات الثعالب والذئاب وخيانات الأقارب والأباعد فلا يلتقطون أنفاسهم إلا بشق النفس، هؤلاء العرب المحروبون يوصفون بأنهم إرهابيون! ومن يصفهم بذلك؟ ساسة أوروبا وأمريكا الذين صنعوا المأساة كلها ولا يزالون يصنعونها، والذين استقدموا اليهرد إلى فلسطين لينبذوا أهلها بالعراء ويحتلوا هم البيوت التى أقفرت من أصحابها، والذين يصرون على إمداد اليهود المغيرين بالسلاح حتى يكونوا أقوى من الدول العربية كلها، ولو صارحوا بطواياهم لقالوا: حتى يكونوا أقوى من مسلمى العالم أجمع... هؤلاء المدحورون المحرجون إرهابيون! أما قتلتهم ومغتصبو أرضهم ودورهم فهم مساكين يحتاجون إلى ضمانات مجلس الأمن، وحماية الدول الكبرى... لا أزال أذكر قصة الطائرة الأمريكية المختطفة، أصل القصة معروف. فإن اليهود عندما انسحبوا من لبنان اختطفوا نحو سبعمائة شاب من مسلمى البلد الممزق، وحبسوهم فى سجن "عتليت "، وصرخ الأهل والأصدقاء يطلبون ترك المخطوفين، فما رق لصراخهم أحد، إنهم سيقضون بقية أعمارهم فى ظلام السجون... وغضب نفر من أولى النجدة والحمية، واختطفوا الطائرة الأمريكية وأعلنوا أنهم لن يدعوا من فيها حتى يتحرر الأسارى من سجن "عتليت "، وراقبت ما يقع لأدرس ص _044(1/41)
أحوال الناس، كانت الشتائم تنهال على رءوس الإرهابيين الخاطفين وتنعتهم بأقبح الأوصاف، وكان غضب الولايات المتحدة يغلى ويفور، والرئيس "ريجان" يرغى ويزبد... وقال الخاطفون: أفرجوا عن إخواننا نفرج عن إخوانكم.. وإلا... وتراجع الجبناء، وسكت الخطباء، وخرج من سجن " عتليت " الأحرار الذين تكسّرت قيودهم، وعادت الطائرة إلى أصحابها..!!. الشىء الذى يدعو للتأمل أن أحدا لم يلم اليهود على استرقاق المئات، ولم يعتب على الولايات المتحدة سكوتها المهين على تلك الجريمة وعشرات أمثالها؟ لأنه لا كرامة للعرب خافوا أم أمنوا؟ رضوا أم سخطوا؟. الصيحات التى تدوى كالرعد هنا وهناك هى: قاوموا الإباء العربى الرافض للضياع، إنه إرهاب كريه، إنه إرهاب دولى! إن الضحية التى تقاوم الجزارين يجب أن تتكاتف ضدها سكاكين المعتدين... * * * ص _045(1/42)
نحن وحدنا المرضى بالسماحة عندما طعن عمر بن الخطاب وهو يتأهب لصلاة الفجر علم وعلم الناس معه أنه ميت لا محالة. فإن الطعنات كانت نافذة مزقت الأمعاء، فإذا تناول شرابا خرج من البطن!. ورأى أمير المؤمنين قبل أن يودع الحياة أن يوصى الخليفة بعده بأمور ذات بال! إنه لا يعرف من سيختار المسلمون! ولكنه يعرف ما يجب أن يفعله الرجل الذين يليه فى حكم الأمة !. فذكر طوائف من المسلمين لها منزلتها، ثم قال للخليفة المرتقب: "... وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله- يعنى ما يسمّى فى عصرنا بالأقليات الدينية- أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم " ا!. تريثت طويلا وأنا أقرأ هذه الوصية ! خليفة نبيّ كريم يوصى وهو يموت بمخالفيه فى الدين ومعارضيه فى المعتقد، فيصفهم أولا بأنهم ذمة الله وذمة رسوله متناسيا الخلاف القائم فى أصل الإيمان، ثم يطلب من الحاكم المقبل ثلاثة أمور محددة: 1- الوفاء بعهودهم. 2- إقامة سياج يمنع كل عدوان عليهم، وفى سبيل ذلك يقاتل دونهم أو كما جاء فى النص: "يقاتل من ورائهم ". 3- لا يكلفون إلا بما يطيقون. هل وعى تاريخ العالم إلى يوم الناس هذا أشرف من هذه المعاملة؟. وهنا أطرح سؤالا: بماذا قوبل هذا المسلك النبيل؟ فتحت التليفزيون الجزائرى فإذا أمامى صور متتابعة لمقبرة جماعية احتوت على هياكل عظمية لأكثر من مائة شهيد، قال المذيع: هذا الهيكل مشوه من التعذيب، ص _046(1/43)
وهذا قطعت يده قبل الموت، وهذا الهيكل الكبير المنحنى على آخر صغير هو لأم تحتضن ابنها! والجميع عرايا، لا ملابس ولا أكفان، وأدوات التعذيب مبعثرة هنا وهناك. إن هذه المقبرة أصغر من سابقتها التى تحدثت عنها من قبل، والتى ضمت ألفين من المسلمين. وعندما أشحت بوجهى عن المنظر الكئيب لم ألبث طويلا حتى سمعت أخبار لبنان، وكيف يتعاون الانعزاليون- كما سمّوهم- مع المغيرين فى إفناء اللاجئين، وإخلاء الأرض منهم... إن أعداء الإسلام يتنادون من قريب ومن بعيد: الويل للمغلوب! خيل إلى أننى أسمع نداء وحوش فى البرارى تطلب دمنا..! قلت لصاحبى: يظهر أننا وحدنا المرضى بالسماحة، إننا وحدنا الذين نحسب الخلاف الدينى لا صلة له بالأحقاد!. ترى هل أيقظتنا الأحداث؟ أما يجب أن نحذر الأفاعى وأولاد الأفاعى؟؟. * * * ص _047(1/44)
عظماؤنا ظلموا، أحياءً وأمواتاً القارىء المسلم فقير إلى مراجع قريبة تعطيه فكرة حسنة عن تاريخ آسيا الوسطى وانتشار الإسلام فيها، وندرة هذه المراجع تكشف عن تقصيرنا المعيب نحن العرب فى الثناء على من خدموا الثقافة الإسلامية وأسدوا إليها يدا طولى، بل فى الإشادة بأقوام هرعوا لنجدتنا فى الأيام العصيبة من تاريخنا، وكانوا قاعدة انتصارنا على الصليبيين والتتار، وغسل عارهم عنا... لذلك أقبلت على قراءة العرض الأمين الذى قدمه الأستاذ " نادر خالد نصره "، للكتاب الذى ألفه فى هذا الموضوع الكاتب الروسى "يورى الاسكيروف ". ومنه عرفت أن " الإسكندر المقدوني " كان أول فاتح كبير لهذه البلاد، وأنه دمر مدنا بأسرها، وأباد أجناسا كانت تفر من أمامه فلم ينقذها الفرار من الهلاك الشامل على يد القائد الوارث لفلسفة الإغريق. وكان آخر الفاتحين- قبل الغزو الروسي- "تيمور لنك"، الذى أحرق عواصم شتى فى اندفاعته المشهورة نحو الشام ومصر. أما القائد الإسلامى العظيم " قتيبة بن مسلم الباهلى " فإنه كان أضوأ عبقرية وأرشد سياسة، وأحكمهم خططا، وأشد الفاتحين اقتصادا فى سفك الدم، يقول عنه الكاتب الروسى: "إن المحتلين العرب استخدموا سياسة فرق تسد، واستغلوا التناقضات بين الفلاحين والقبائل التركية الرحالة فخضعت لهم المناطق واحدة تلو أخرى ". ويقول الأستاذ المعلق: " إن أراضى ما وراء النهر فتحت دون إهدار للدماء، باعتناق السكان للإسلام، وقد وقعت بعض الاشتباكات والانتفاضات استطاع القائد المحنك والسياسى البارع " قتيبة " أن يقضى عليها ".. ص _048(1/45)
ومع ذلك فإن الكاتب الروسي نوه بعظمة " الإسكندر اليونانى "، وتجاوز بطشه الوحشى، كما تجاوز قسوة "تيمورلنك"، وصبّ جام حقده على القائد المسلم " قتيبة " فوصفه: " بأنه خبيث وقاس وفاسد ". إن هذا التعليق الماركسى أثار أشجانى، وهو نابع من ضغائن متوارثة ضد الإسلام لا ينساها الأوروبيون أبدا !. أما الشجن الذى ثار فى نفسى فهو لمصرع " قتيبة " نفسه بعد بلائه الطويل فى خدمة دينه، أحاط به كمين غادر، وظل يناوشه وحيدا حتى أثبتته جراحه فمات شجاعا، واجتز رأسه ليرسل إلى " سليمان بن عبد الملك ". قال المسلمون من أهل ما وراء النهر حين قتل قتيبة: يا معشر العرب كيف فعلتم هذا؟ والله لو كان "قتيبة" منا ثم مات لجعلنا جسده فى تابوت فكنا نستفتح به فى قتالنا لعدونا... لكن البطل العظيم قتل مظلوما فى العصر الأول، وشتم بريئا فى العصر الأخير، وما أكثر المهانين من رجالنا الذين ظلموا أحياء وأمواتا! أكذلك نجازى عظماءنا؟ إلى الله المشتكى.. * * * ص _049(1/46)
تراثنا وكيف نستفيد منه؟ سمعت محاضرا شيوعيا يقول بخبث: إن الإسلام أنصف الجماهير لكن علماءه- بدءأ من الغزالى ـ مالئوا الحكام وأغضوا الطرف عن مظالمهم. وشاء الله أن أكون حديث عهد بقراءة رسائل الغزالى إلى ملك خراسان وما وراء النهر، يوصيه بالعدل ويخوفه من الله وعقابه، فقلت للمحاضر: اسمع هذه العبارات لأبى حامد وقل لنا رأيك: "... يا ملك إن آباءك: " ألب أرسلان "، " وطغرل "، "وسلطان ماكشا ". يقولون لك من تحت الثرى: إياك إياك! لو تعلم ما حل بنا، وأي الأهوال رأينا لن تنام ليلة شبعان وفى رعيتك جائع، ولن تلبس برغبتك ثوبا وفى رعيتك عريان!! وما تبقي لك في مال يعرض عليك وتسأل عنه يوم القيامة وفق نصيحة القرآن (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وسترى جميع أعمالك ذرة ذرة.. " ويقول للملك "... عندما توقف للسؤال موقف المؤاخذة ويسألك رب العزة: ماذا فعلت بعباده الذاكرين لكلمة لا إله إلا الله، الذين جعلناهم رعيتك؟ لقد اهتممت بمواشيك، وغفلت عن عبادنا، وحرمة المؤمن عندنا أعظم من حرمة الكعبة!.. " ثم يقول الغزالى لملك الإسلام على عهده: "فما عندك من الجواب على هذا السؤال؟".. ثم يقوله له: " إن أهل طوس فى أزمة شديدة، قد أهلكهم الجفاف واستأصل كل الأشجار المثمرة، ارحمهم يرحمك الله، فقد انحنت أعناقهم من البلاء والجوع، ماذا يكون إذا خففت من ثقل أطواق الذهب فى أعناق مواشيك، وأنفقت على أولئك المساكين..؟ " .. ويقول الغزالى بعد ذلك عن نفسه: " ليست لى حاجة خاصة، إنني أعرضت عن الخلق، وجلست فى زاويتى اثنتى عشرة سنة، وقد لزمنى "فخر الملك" بالمجيىء إلى نيسابور، وأنا أريد العودة إلى زاويتى الأمنة.. إلخ ". سالت المحاضر الشيوعى: أكان من رجال الدين فى روسيا أو فى أوروبا كلها من ص _050(1/47)
وجه لملوكها هذا النصح العارى الموجع؟ إن الشعوب الإسلامية ما اعترفت بالإمامة فى الدين لرجل أعرض عن قول الحق ونصّح أصحاب السلطة. وتاريخ علماء الإسلام الكبار شاهد صدق على ما نقول. قال لى أحد السامعين: كنت أكره " أبا حامد " قبل الآن حتى سمعت هذه النقول! قلت: لماذا تكرهه؟ قال: لأنه من أهل التأويل! فأجبت: نحن نجمد من تراثنا ما يجب تحريكه، ونحرّك ما يجب تجميده، ونجنح إلى ما يثير الخلاف، وعصرنا يتطلب منا موقفا أرشد فى خدمة رسالتنا المضطهدة!!... * * * ص _051(1/48)
تصور مكذوب على الإسلام بعض الآيات يحتاج إلى تدبر وأناة حتى يتضح المعني، لاسيما إذا كان الخطأ كبير الضرر فى الحياة الاجتماعية ! يقول الله سبحانه: ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). إن هذه المقارنة ليست بين نقيضين متقابلين، فرب محروم من المال والبنين لا آخرة له، ورب مستمتع بالمال والبنين له عند الله الدرجات العلى..!. والعامة تتصور أن من أوتى المال والبنون لا مكان له عند الله، أو أن مكانته هابطة بقدر ما أوتى فى الدنيا من خير، كأن الصعلكة شرط لدخول الجنة، والظفر بالعاقبة الحسنة!. وهذا تصور مكذوب على الإسلام، وقد شاع فى بعض الأجيال فهبط بمكانة الأمة والدولة، وأضاع الدين والدنيا جميعا... الذى يرفضه الإسلام هو الجشع، وشدة النهمة إلى الحياة، والذهول عما وراءها، وعدم الإعداد له! أما إذا رزق المرء مالا ممدودا، وثراء عريضا فدعّم بغناه مكانة أمته فى عالم الاقتصاد، وأفضل على من دونه فسد ثغرات وستر عورات، فإن حوله وطوله يحسب من الباقيات الصالحات. ومثل هذا الرجل قدوة تحتذى، بل أمل منشود، ومنزلة ترجى، وهو يحسد على مكانته تلك، كما جاء فى السنة الصحيحة.. وليت للمسلمين أعدادا ضخمة من هؤلاء الأغنياء الموفقين، الذين تحتمى بهم الدعوات، وتستند إلى بذلهم ومواساتهم!. إن هذا الصنف العالى شيء آخر غير الصنف الذى جاءت فيه الآية: ص _052(1/49)
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) فهذا القبيل من الناس نسى الله، ولقاءه، وغرق فى المتاع الفانى، فما ادخر لغده شيئا، وربما نظر إليه فقير مؤمن فانخدع ببشاشة النعمة عنده، وتبرم بضيق ذات يده! فنهى عن هذا النظر القاصر، وزجر عن تلك الخدعة التافهة.. وقد رأيت بعض الجهال الذين لا يجوز لهم الكلام فى الإسلام يرجمون المجتمعات بآثار ما فهموها، وما يدرون شيئا عن ملابساتها ودلالاتها، يقول للناس: إن الأغنياء أكثر أهل النار، وإن النساء أكثر أهل النار، يعنون أن الغنى جريمة، وأن الأنوثة جريمة!!. وهذا لغو مقبوح الفهم والآثار، وقد آن للأمة أن تبرأ منه، وأن تنصح قائليه بالصمت والتوبة. * * * ص _053(1/50)
منزلة المرأة في الإسلام شكت لى سيدة فضلى أنها سمعت خطيب الجمعة يقول : رحم الله عصرا كانت المرأة لا تخرج أبدا إلا ثلاث مرات، من بطن أمها إلى الدنيا، ومن دار أبيها إلى الزوج، ومن دار زوجها إلى القبر!!! قالت: أذلك ما يصنعه لنا الإسلام؟ فأجبت بأن الخطيب وقع تحت ضغط الفساد الذى وفدت به الحضارة الحديثة. فقال ما قال، وكان غير موفق، فإن الانحراف لا يداوى بالانحراف.. إن للمرأة أن تخرج للصلوات الجامعة خمس مرات فى اليوم، ولها أن تخرج إلى حوائجها فى الأسواق والمحال التجارية، ولها أن تخرج مع الجيش إذا كانت لديها مهارة عسكرية أو طبية أو هندسية، والعصر الذى نترحم عليه أو نقتبس منه هو عصر النبوة، فهو خير القرون يقينا، أما عصور الانحراف أو الجهالة فلا يقاس عليها ولا يتأسى بها... والخطيب المذكور رأى انهيار الأسرة فى الغرب، وضيعة الأولاد، وانتشار الدنايا فقال ما قال... وخير من مقولته أن ينقل بأمانة وضع المرأة المسلمة كما رسمه القرآن، وأوضحته السنة الشريفة. كتب الزعيم السلفى العظيم "عبد الحميد بن باديس" عن " الربيع بنت معوذ " فقال: إنها حضرت بيعة الرضوان وكانت ممن يغزون مع النبى (صلى الله عليه وسلم) مع نساء أخريات يخدمن الجيش ويسقين الماء ويداوين الجرحى ويحملنهم إلى المدينة.. ص _054(1/51)
ثم قال " ابن باديس " بعد ما شرح موقف الدين من المرأة: إنه لابد من مراعاة ما يفرضه عليهن الإسلام من تصوّن، وعدم تبرج، وعدم اختلاط! ولن تكمل حياة الأمة إلا بحياة شطريها، الذكر والأنثى... وكشف الرجل عن قيمة ما رواه الطبرانى عن عائشة مرفوعا- فى شأن النساء: " لا تنزلوهن الغرف- يعنى لا يسكنّ فى الأعالي- ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل وسورة النور" فبين أنه حديث مكذوب... وقد أعلنّا نحن أسانا من أن هذا الحديث الموضوع يحكم المجتمع الإسلامى من قرون! أما السنن المتواترة والصحيحة والحسنة فقد تم تجميدها بطريقة غريبة، وبذلك أخذ المسلمون يتدحرجون إلى العالم الثالث، ويتزاحمون فى ذيل القافلة البشرية لفقدان التربية الصحيحة، ولا تربية مع جهالة المرأة، وعزلها عن العلم والعبادة، ودعوات الخير، وشئون المسلمين!!. وإيضاح أخير، إن الرجل قد يقول عن نفسه: أنا لا أذهب إلى المقاهى والأندية، حياتى بين عملى وبيتى! إن دلالة هذا القول معروفة، وهى لا تعنى أبدا أنه لا يذهب إلى المساجد، أو لا يتردد على الأسواق. كذلك الأمر بقرار المرأة فى البيت! إنه لفت إلى وظيفتها العتيدة من حيث هى ربة بيت وقيّمة على أسرة، ولا يعنى أبدا أنها سجينة لا تخرج إلا إلى القبر... أو الزوج!!. * * * ص _055(1/52)
الدعوة ليست طريقها العنف كانت الأمصار الإسلامية فى العهد الأول تضم طوائف من أهل الكتاب والمشركين بقيت على عقائدها وتقاليدها، وقد ضاق بهذا الوضع بعض الناس، لاسيما إذا ترك آثاره على الآداب العامة، وتساءل: ما يصنع بإزائه؟. روى البخارى فى كتاب الاستئذان ـ من صحيحه ـ قال سعيد بن أبى الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن! قال: اصرف بصرك (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم). وقد تململ بعض الشباب وأنا أنقل عن البخارى هذا القول وصاح: ليس هذا ما تعلمناه! ما تعلمناه أن المرأة المتعرية أو المتبرجة فى الشارع تسحر الناس بجمالها، وقد قال الفقهاء: إن الساحرة تقتل، فهذه أيضا تقتل! بل إن المستعلنة بالفاحشة يجوز قتلها دون إذن الإمام.. !!. قلت: هذا كلام ما سمعته طوال حياتى، وما قرأت لفقيه فى المتقدمين أو المتأخرين فتوى أو قياسا من هذا النوع، هذا رأى فوضوى وليس اجتهادا فقهيا...!!. قال: أيسرك أن تكون الشوارع معرض فتنة تزلزل العفاف على النحو الذى نشهد؟. قلت: ما يسرّ هذا مؤمنا، ولكن علاج هذا الخلل ما يكون بإرخاص الدماء على الطريقة التى ذكرتها، أين التعليم؟ والتربية؟ والأسوة الحسنة؟ والحكمة فى فطام الناس عما ألفوا؟ وشرح صدورهم بالحق حتى يعتنقوه عن رضا ومحبة؟. إنكم تجهلون طبائع الشعوب وأثر البيئات فى مسالك الأفراد وتحاولون فتح القفل بغير مفتاحه ولو انكسر وفسد الأمر كله!. ص _056(1/53)
قال: كيف هذا؟ إننا نريد محو الفجور.. قلت: المرأة فى الهند تتوارث لباسا يكشف عن خصرها، والمرأة فى أوروبا تتوارث لباسا يكشف عن رأسها، وأحيانا عن أطرافها.. وليست كل واحدة مشت مع هذه المواريث تريد الرذيلة أو تبغى الفتنة، ربما كانت خالية البال، وربما كانت سيئة. والعمل الصحيح هو نشر العقيدة أولا ثم بناء الخلق والسلوك على دعائمها.. والعقيدة لا تنشر بفتاوى القتل، واستباحة الناس!. قال: نحن نعالج مجتمعنا الذى تحلل من قيوده! قلت: تعنى أن نرخص دماء المنتسبين إلى الإسلام، ونصون غيرهم؟ إذا كنتم لا تحسنون الدعوة إلى الله، فدعوا ذلك لمن يحسنه. إن منطق قطاع الطريق لا يسمى فقها، والحرص على اتهام الآخرين بالإثم ليس غيرة على الدين. * * * ص _057(1/54)
المرتزقة يرثون الثورات ربما قامت أعذار تخفف المؤاخذة عن المخطئ، وتطلب له الرحمة! وهذا حسن، فالبشر كلهم فقراء إلى عفو الله، وجدير بنا أن نتواصى بالمرحمة... لكن هذا لا يمنع من التعرف على الخطأ وتحديد مداه وضبط موقعه.. ويجدر بنا التنبيه إلى أن الخطأ هو الخطأ لا ينقص منه ولا يزيد فيه أن يكون انحرافا ناحية اليمين أو انحرافا ناحية اليسار. فالزائغ عن الصراط المستقيم لا يخفف عنه أنه أوغل يمينا، ولا يغلظ له لأنه انحرف يسارا، إنه مخطئ على أية حال، ومن قال: إن خمسة وخمسة تساوى سبعة كمن قال: خمسة وخمسة تساوى ثلاثة عشر، ولا قيمة للزيادة أو النقص فى حساب الأخطاء. والناس قد يتغاضون عن الخطأ لأنه أدبى، ويجسمونه لأنه مادي. فمن سرق سلعة فهو لص يجب قمعه! أما من سرق فكرة علمية أو أدبية أو سرق منصبا من آخر أجدر منه، فإن الاتهام يتجه إليه خفيفا أولا يتجه إلية ابتداء..!! والواقع أن هذا تفريق بين متماثلات، فالجريمة واحدة، وأحسب أن مقترفيها يحشرون سواسية فى الدار الآخرة، وإن تفاوتت منازلهم فى هذه الدار.. والناس فى عصرنا يتندرون بالحق الإلهى للملوك الذى عرفته الكنيسة فى العصور الوسطى، ويردون إليه طغيان عدد من الحكام، بيد أنه باسم الشعوب ظهر حكام أيديهم مطلقة فى كل شىء لهم من السطوة باسم الجماهير ما ليس لأسلافهم من ورثة الحق الإلهى... إن العناوين والملابسات لا تغير الحقائق، وإذا انطلت على الناس فما تجوز على عالم الغيب والشهادة.... سمعت قائلا يردد فى ألم : نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن فى بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم ص _058(1/55)
يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك فى نظرى ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى ! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة!! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد فى الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟. إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هى التى تنتهى بذلك المصير!. * * * ص _059(1/56)
الحملات المسعورة على ديننا يحب اليهود أن ينتموا إلى نبي الله يعقوب- الملقب بإسرائيل- كما يحب النصارى أن ينتموا إلى نبي الله عيسى بن مريم- الملقب بالمسيح-. والانتساب إلى العظماء طبيعة بشرية شريطة ألا يكون ذلك تغطية لنقص أو مخادعة عن سوء. ويعقوب نبي من أولى الأيدى والأبصار، امتحن فنجح! وبقى أغلب عمره شديد التعلق بربه شديد الثقة فيه، ومع فقدانه لبصره لم يضعف فى الله رجاؤه حتى جمع الله شمله، وملأ بالرضا فؤاده... فهل اليهود كذلك؟ أم هم نماذج لنسيان الله وعبادة المال وقساوة القلب؟... والمسيح كان إنسانا نبيل السيرة مديد الرحمة، يبعثر مشاعر الحب فى طريقه حيث سار ويناشد من حوله أن يكونوا روحانيين سمحاء، فهل النصارى كذلك؟ إنهم اخترعوا من آلات الفتك ما أهلك الألوف المؤلفة، وكانوا مع مخالفيهم فى الرأى وحوشا. ومع معترضى نزواتهم ذئابا كاسرة!. والتفجيرات التى أبادت (هيروشيما) و (ناجازاكى) زادت كما وكيفا، وهى الآن مخزونة لأيام سود يشقى بها العالم أجمع!. فما معنى أن ينتسب القتلة إلى الحمل الوديع ويقولوا: نحن مسيحيون؟ أو ينتسب الغادرون الأنانيون إلى مثال الصبر والرضا ويقولوا: نحن إسرائيليون؟ الحق أن ذلك كله افتراء وتزوير... والغريب أن القوم على ما بينهم من فجوات جعلهم الحقد على الإسلام ونبيه وأمته جبهة واحدة، إنهم نسوا ما بينهم من خلاف شديد، وتعاونوا على أمر واحد هو كيف يمزقون أتباع محمد ويصرفونهم عن دينه؟ والأوربيون والأمريكيون يتوارثون جيلا عن جيل تقاليد السخط على الإسلام والكيد له فى كل ميدان، ومع ما أصاب الدين كله ص _060(1/57)
من تصدع وذوبان أمام تيارات الإلحاد، وفلسفات المادية المعاصرة، فإن اليهود والنصارى لا يزالون يعدون الإسلام عدوهم الأول!! وقد سرح برا الخيال بعيدا وأنا أقرأ فى إحدى الصحف التي وصفت مذبحة "صابرا وشاتيلا" وكيف أن ضابطا قاتلا أخذ يتوائب فوق جسد صبى فلسطينى حتى أزهق روحه، واطمأن إلى أنه لن يعود إلى الحياة!! لماذا هذا الغل الأسود؟!! لماذا هذه الوحشية القذرة؟!. هؤلاء بداهة لا دين لهم مهما انتسبوا إلى رسل الله.. والحق أنه لن يكف أذاهم إلا جيل يفهم هذه الآيات ".. ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)... ترى متى يتكون هذا الجيل...؟ * * * ص _061(1/58)
يرحبون باللقطاء ويرفضون الأبناء الشرعيين قرأت هذا العنوان فى إحدى الصحف: يتفقان على الطلاق وترفضه المحكمة! شعرت للفور أن الزوجين ليسا بمسلمين، ومع ذلك فقد أحببت أن أعرف القصة. إن الرجل أحسّ بعد عام من الزواج بالفشل فى اختياره، وأخذ يسهر بعيدا عن بيته، وكذلك أحست الزوجة، ثم رأت أن تعود إلى أهلها! وطالت الفرقة سنة بعد سنة ولم يغير أحدهما رأيه... !ا وأخيرا اتفقا على الطلاق لعل كليهما يجد رفيقا أصلح لحياته! ما معنى أن تكون الأسرة على الورق، ولا ظل لها فى الواقع؟ ولم يشتغل الطرفان بالتسول الجنسى ويحرمان العيش فى بيت آخر؟.؟ إن الإسلام يقول: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما).. لكن "بابا روما" يقول: إن الطلاق لا يجوز لأنه ضد الإنسانية، وهو فى سياحته الأولى والثانية بأقطار أفريقية يكرر حملته على"مبدأ" الطلاق، أى على الشريعة الإسلامية نفسها . إن الطلاق عندنا أبغض الحلال إلى الله، وعندما فكر " أبو أيوب الأنصارى " فى تطليق امرأته قال الرسول الرحيم: " إن طلاق أم أيوب لحوب " أى إثم، لكن ما العمل إذا تنافر الود وعز اللقاء واستحكمت القطيعة؟ لابد مما ليس منه بد ! والطلاق أفضل من الخيانة والخنا والبهتان. الغريب أن " بابا روما "- هداه الله- يصدر عنه ما يستحق التدبر العميق، فهو لم ينبس بكلمة عندما أقر مجلس العموم ومجلس اللوردات اللواط، كان شغله الشاغل الحديث اللاذع عن تعدد الزوجات! أما انحراف الشهوة وشذوذها ووضاعتها فالخطب سهل إ! ص _062(1/59)
وقرأ " البابا "- هداه الله- أن البكارة تكاد تختفى فى العقد الثانى من أعمار الفتيات، وأن الأعراض تكاد تكون كلأ مباحا، وأن اتصال الرجل بعشرات النساء حقيقة كالحة! ليكن ذلك كله، فهو عند الله أهون من تعدد الزوجات الذى نظمه الإسلام، وكان فى الأديان الأخرى لا حدود له! ألم يذكر العهد القديم أنه كان لسليمان ألف امرأة؟!! إن التحامل على الإسلام وتحريك الأحقاد ضده جعل البابا العظيم يؤثر الخلائل على الحلائل! وجعله يستقبل اللقطاء ببشاشة، ويرفض أن يكون للرجل أولاد شرعيون من صلبه إذا كانوا من زوجة أخرى!! والأغرب من ذلك التخليط المعيب أن البابا- هداه الله- يتحدث إلى شعوب، المسلمون فيها كثرة مسحوقة، والنصارى فيها قلة حاكمة غالبة، والوثنيون ينظرون دهشين إلى العلاقات المتردية بين أتباع الأديان السماوية كما يقال. وتزيد دهشتهم عندما يسمعون البابا يقول بدهاء: إنه يريد تقريب المسافة بين المسيحية والإسلام.. * * * ص _063(1/60)
من نبوءات الرسول وضع علماء السنّة معايير دقيقة لضبط الحديث النبوى وقبول ما صحت نسبته، وقد لاحظ بعض العلماء أن هناك أحاديث صدقتها الأيام، وكشفت الغيوب أنها كلام من لا ينطق عن الهوى، فجاء الواقع العملى ظهيرا للدليل العلمى نورا على نور. ولست أحصى هنا هذه الأحاديث، وإنما أسوق مثالا واحدا لها أرى فى تسجيله عبرة، لاسيما بعد الضجيج الهائل الذى أحدثته صحف أوروبا وأمريكا عن مرض " ا لأيدز"!.. هذا مرض لم يكن معروفا، ويبدو أن جرثومته تخلقت فى أكوام القذارات الجنسية التى انتشرت مع الحضارة الحديثة. وقد قال العلماء: إنه يجرد الجسد البشري من أسباب المقاومة لأية علة، ويتركه صريع ضعف متصل حتى يذوق الحتوف.. والحديث الذى أسوقه يشير إلى هذا المرض كما يكشف إلى سر فشوّه وتأذى الناس به، وقد رواه المنذرى بسند قوي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "يا معشر المهاجرين، خمس خصال إن ابتليتم بهن ونزلن بكم، آعوذ بالله آن تدركوهن.. (1) لم تظهر الفاحشة فى قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع التى لم تكن فى أسلافهم! (2) ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان (3) ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا (4) ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما فى آيديهم (5) وما لم تحكم آئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ". هل هذه نبوءات حققها المستقبل؟ أم هى سنن حضارية تحكم سير الجماعة الإنسانية عامة، والأمة الإسلامية خاصة...؟ عندما أنظر فى الخصلة الرابعة من هذه الخصال الخمس ألمس أسباب الاحتلال ص _064(1/61)
الأجنبى أو الاستعمار العالمى، الذى تألب على الشعوب الضعيفة فأكلها وأذلها، والذى أغار على المسلمين فجرد أيديهم مما تملك، وما أكثر ما كانت تملك!. السبب هو النقض المتصل لعهود الله، والعبث الدائم بمطالب الحق، وقد كان الاستعمار قديما يعالن بعدوانه. أما اليوم فهو يعمل من وراء ستار، بل يعمل وهو يشعر ضحاياه بأنه صديق مخلص!.. (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). وفى الخصلة الخامسة ترى سر الفرقة الضاربة فى الكيان الإسلامى، وكيف وقع بأس المسلمين بينهم، وانقسموا أحزابا متفانية، إنهم لم يحكموا بما أنزل الله، فبعثرهم الباطل فى جبهات كثيرة، وأقام بينهم فجوات عميقة!. إن الزائغين عن الصراط المستقيم لابد أن يعانوا متاعب التشرد والهيمان. * * * ص _065(1/62)
كيف ينتصر من أرخص الإسلام فى العالم دول كثيرة لا تدين بالإسلام، ونحن لا نكره غيرنا على اعتناق ديننا، ولا نتطوع بكره الآخرين لأنهم يعرفون غير ما نعرف ويعتقدون غير ما نعتقد.. نحن نؤمن بقوله تعالى (.. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) ويسرنا أن تقوم بين الناس كلهم علاقات حسنة، وأن تختفى الحواجز التى تحجب المبادئ والأفكار!. وثقتنا بما لدينا أساسها الاقتناع لا التقليد، واحترام الحق، لا الانسياق مع الباطل، ولذلك عقد النبى (صلى الله عليه وسلم) معاهدات مع عبدة الأصنام ومع أهل الكتاب، ووفى بما عاهد عليه وفاء كاملا، فكان الغدر من خصومه لا منه، إنه عليه الصلاة والسلام أشرف نفسا وأصدق قيلا.. وفى هذا العصر لا بأس علينا أن نصادق فى الميدان الدولى من نرى المصلحة فى مصادقته، وأن نعقد معه العهود التى تحدد ما علينا وعليه! لكن الفرق بعيد بعد المشرقين بين معاهدتنا لدولة ما وارتضائنا لمبادئها ونقلها إلى أرضنا وتغيير المجتمع وفق توجيهاتها.... إن لنا عقائدنا وشرائعنا، وكل انتقاص لهذه العقائد والشرائع مزلقة إلى الكفر..! وقد لاحظت على بعض الدول العربية التى تعاهدت مع روسيا أنها لم تتعاهد مع الدولة، تعاهدت مع الشيوعية ذاتها، وشرعت تنقلها كلا وجزءا، وأمست قبلتها "موسكو" لا مكة، واهتداؤها بـ " ماركس " لا " بمحمد "! وحل محل القرآن والسنة ولاء آخر لتعاليم " لينين " وغيره من سماسرة الإلحاد الذين يصيحون بكل قواهم: لا إله! والحياة مادة "!! ص _066(1/63)
وهؤلاء العرب الذين غيروا انتماءهم صنوف! منهم من اكتفى بتأييد الشيوعية فى الميدان السياسى، وأعلن أنه لا يعارض الروس فى اعتدائهم على أفغانستان مثلا، ولا يمنح المجاهدين ذرة من تأييد! لقد نسى الأخوة الإسلامية لأنه نسى الإسلام نفسه! ومنهم من أقام أحزابا ماركسية صريحة العنوان والحقيقة، تعمل سرا وجهرا على استبدال إيمان بإيمان ومنهج بمنهج، وهو يبسط لسانه بالمنكر ضد الدين كله، والإسلام خاصة!! إننى أتساءل: كيف يمد العرب أيديهم إلى هؤلاء؟ وكيف يستبقون صداقتهم ويحرصون على زمالتهم فى الجامعة العربية؟ إذا لم يكن ما صنعه هؤلاء العرب ارتدادا فما هو الارتداد؟!! ثم يجيىء سؤالنا الأخير: إذا أرخص العرب الإسلام فما مسوّغات بقائهم فى هذه الدنيا، وما انتظارهم لنصر الله؟؟. * * * ص _067(1/64)
الويل لأمة تفقد ذاكرتها اتفق المسلمون ما شذ منهم أحد على أن الهجرة بداية التاريخ الإسلامى، وتم هذا الاتفاق فى خلافة.. " عمر بن الخطاب " (رضي الله عنه)، والسبب واضح، فإن الهجرة كانت فاصلا بين عهدين مختلفين، كان المسلمون قبلها أفرادا مطاردين لا يعترف لهم بكيان مادي ولا أدبي ! فلما انتقلوا إلى المدينة قام لهم مجتمع بين الملامح ونهضت لهم دولة تملك كل السلطات التشريعية والتنفيذية. وظل التاريخ الهجرى الضابط الأوحد للأحداث الخاصة والعامة حتى دهم المسلمين الاستعمار العالمى الأخير، وبدأ خطته فى محو شخصيتهم وتشويه معالمهم، فإذا التاريخ الأوروبى يطارد التاريخ العربى ويحاول القضاء عليه.. ومن الغرائب أن اجتياز قناة السويس وتحطيم خط " بارليف " وانتصار العرب على اليهود فى معركة خارقة تم وفق خطة تحمل اسم " بدر" وتقع فى العاشر من رمضان سنة 1393 هجرية. وقد تنوسى هذا التاريخ الهجري وذكر اليوم الموافق له من التاريخ الأوروبى، وأمسى الاحتفال به فى السادس من أكتوبر كل عام...! ذكرنى ذلك بقصة تولي الملك " فاروق " عرش مصر وانتهاء مجلس الوصاية الذى تكون لأن الملك لم يكن قد بلغ بعد سن الرشد، لقد حسب عمره بالتقويم الهجرى لأن ثمانى عشرة سنة قمرية توفر بضعة شهور وتعجل بتسلم السلطة! حتى إذا تولاها طبق التاريخ الهجري اعتبر التاريخ الميلادى الموافق هو اليوم الرسمي لاحتفال الميلاد الملكى وتنوسى التاريخ الهجرى تناسيا تاما !! ومنذ أيام كنت أسمع إجابة علمية عن " صلاح الدين الأيوبى " فإذا المتحدث يذكره على أنه من رجال القرن الثانى عشر، يعني الميلادى بداهة... إنني أرفض كما يرفض كل مسلم أن يتدحرج التاريخ الهجرى على هذا النحو ص _068(1/65)
الشائن، وأن يستمكن الغزو الثقافى من إهانتنا على هذا النحو! قد أقبل أن تضبط الوقائع بالتاريخين العربى والفرنجى على شرط أن يتقدم التاريخ الهجرى، أو ينفرد فى أغلب الأحيان.. ولنعلم أن التقويم القمرى يرتبط بعقائدنا وعباداتنا السنوية، وأنه بعد تحديد الهجرة رمزا لدولتنا ودعوتنا أصبح تجاهل هذه الحقائق تهديدا للإسلام واستطالة على رسالته ومسيرته بل فصلا للحاضر عن الماضى. والويل لأمة تفقد ذاكرتها، وتعيش بلا وعى!. * * * ص _069(1/66)
نظرية دارون وعبث الملحدين قرأت فى رسالة علمية لطيفة هذه العبارة: " إن نظرية دارون التى فسرت خطأ قضية النشوء والارتقاء أمست محفوظة فى رفوف المتاحف، أو أمست ذكرى فى تاريخ العلوم، وهى لا تدرس الآن فى مدارس الأمم المتقدمة تقنيا ".. قلت: لكن هذه النظرية التى أعلنت وفاتها فى المحافل العلمية الجادة لا تزال تدرس فى العالم العربى على أنها حقيقة مؤكدة، كما تدرس معها فى علم الكيمياء قضية أن المادة لا تفنى ولا تستحدث!! وبقاء هذه الدراسة إلى الآن ليس عن غفلة أو اقتناع خاص، وإنما يراد به إشعار الأجيال الناشئة أن الإنسان حيوان خسيس النسب، وليس نفخة من روح الله، وأن الكون كله لم يصدر عن خالق عظيم، وإنما عثر عليه مصادفة فى طريق الوجود، دون أن يعرف له صاحب!! وبذلك يتم التطويح بالدين كله فى هدوء... والرسالة التى أشرنا إليها صدر هذا الحديث للدكتور " بشير التركى " الذى كان رئيسا للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالنمسا سنة 1969، والذى يعمل الآن مستشارا علميا لجامعة تونس، وقد فهمت من قراءتى لها أمرين: أولهما استحالة أن يكون الإنسان متخلقا عن قرد، فإن حاملات الوراثة فى الكيان الحى تتفاوت كماً وكيفاً فى مختلف الأنواع ابتداء من الـ " أميبا " فما فوق، ودراسة هذه الخصائص الوراثية تقطع باستحالة هذه السلالم الموهومة فى الترقى الحيوانى.. والأمر الثانى- وهو خطير- يقول فيه الدكتور بشير: " إن القانون العام للتطور فى العلم الحديث ينص على أن نظاما ما للتطور لا يكون إلا من نظام منسق دقيق إلى آخر أقل اتساقا ودقة... ثم إلى الفوضى، ثم إلى الهلاك آخر الأمر!! " أى أن التطور الملحوظ إلى أدنى لا إلى أعلى، وأن الكون المادى صائر إلى التلاشى لا إلى الزيادة! ص _070(1/67)
وقد ذكرنى هذا الكلام بنظرية " آنشتين " فى التمدد الكونى الذى سينتهى بالانشقاق كما تنشق الكرة إذا ظللت تنفح فيها بلا انقطاع. ولا أحب أن أدخل فى ميدان أنا فيه متفرج وحسب! وإنما أحب أن أسائل المؤمنين بأن المادة لا تفنى قائلا: هل إذا تفجر المخزون الذرى من القنابل كله أو بعضه، ودخل العالم أجمع فى الشتاء الذرى، وذهبت الحياة الدنيا مع أمس الدابر، وأصبحت كأنها فكرة مرت بذهن مكدود ثم نسيت! هل المخلفات الباقية بعد هذا الفناء تشهد بأن المادة لا تزال؟؟ إن الذين يتصورون العالم بغير خالق ينفثون أفكارهم من خلال دخان الحشيش لا التبغ! وإنها لسماجة مرفوضة أن يسمى ذلك علما.. * * * ص _071(1/68)
وسط إفريقيا وجنوبها حقل صليبي نشرت صحيفة "الهيرالد تريبيون " فى 25/ 8/ 1985 مقالا تحت عنوان: "البابا يرجو الحدّ من انتشار الإسلام مع بداية زيارته الثالثة لأفريقية". ومعروف أن هذه هى رحلته الثالثة خلال خمس سنوات، ويقول كاتب المقال: إن البابا يأمل فى تقوية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حتى تواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة وتستطيع صدها. فإن الفاتيكان يرى "أفريقية " من أنجح الميادين التى يعمل فيها النشاط الكنسى، كما يرى أن التوسع الذى تم ضاعف المتنصرين عشرات المرات. ففى سنة 1901 كان مدد الكاثوليك نحو مليون فقط ويبلغ عددهم الآن 65 مليون كاثوليكى ومطلوب أن يصل العدد فى السنين القادمة إلى مائة مليون..! والرحلة التى تمت هى السابعة والعشرون منذ تولى البابا منصبه سنة 1978 وتجواله فى العالم كله والرجل ناشط فى خدمة عقيدته ونشر مذهبه، وما يلومه على ذلك أحد! فلنفسه أو لدينه بغى الخير!. أما الذى عجبت له فهو مسارعة رجال من زعماء المسلمين إلى استقباله والاحتفاء به وحشد جماهير من الشباب لسماعه!، لقد خيّل إلى أن هؤلاء الرجال فقدوا رشدهم، أو نسوا كل النسيان دينهم.. وقد رفض زعماء السودان استقبال البابا للظروف الدقيقة التى يمر بها وللصراع الطائفى الدامى بين الشمال والجنوب وكان البابا يريد أن يجعل السودان الدولة الثامنة التى يتحدث فيها فى هذه الرحلة. ترى ما هذا الحديث، يقول كاتب المقال: إنه من المتوقع أن يحث البابا الأساقفة الأفارقة والقساوسة، وكل أتباعه على مضاعفة الجهود التبشيرية لمواجهة أو بتعبير أدق لمقاومة انتشار الإسلام فى اندفاعه الجديد من شمال القارة إلى جنوبها!!. وقد راقبت هذه الرحلة فى شتى الصحف والإذاعات، ومع التحفظ الدبلوماسى ص _072(1/69)
الذى سايرها، فإن الإسلام تنوول بعبارات لاذعة فى بعض تعاليمه، وذلك فى الخطب العامة، أما فى المجالس والتعليمات الخاصة فحدث ولا حرج!!. والذى استوقفنى هذا الحديث عن دفعة إسلامية هابطة من شمال القارة إلى جنوبها! من صنع هذه الدفعة! وأين هى؟ إن النشاط الإسلامى فى الشمال الأفريقى كله من الأطلسى إلى البحر الأحمر يبذل جهودا مستميتة ليبرز من القاع إلى السطح! فأنى له التسلل إلى وسط القارة وما تحته؟ إنه يمنح حق الحياة المجردة بمشقة! أما دول وسط أفريقية وجنوبها، فقلما تفتح فيها مدرسة إسلامية، وقلما تسند وظيفة إدارية إلى مسلم، وقلما يتاح لمسلم كيان اقتصادى، إن الاستعمار الصليبى احتكر العمل فى أرض فيحاء يجوبها طولا وعرضا دون عائق، وها هو ذا يشق طريقه إلى الأمام... * * * ص _073(1/70)
الاستعلاء على رغبات النفس القدرة على الامتناع عظمة نفسية لا يبلغها إلا قليل من الناس، ولا ريب أنها بعض الآثار المنشودة من فريضة الصيام، ونحن هذه القدرة يقول الرجل الصالح: إذا غلا شىء أرخصته بالترك! فيكون أرخص ما يكون إذا غلا... لكن من يستطيع هذا الترك؟ إن النفوس تتطلع، وتزعج المرء كى يجيبها إلى ما تبغى، وتلغ عليه إذا حاول كبحها، وما ينتصر على هواه إلا امرؤ قوي الإرادة واثق العزم معان من الله..!. وعند التأمل نجد النفوس فى كثير من الأحيان تتعلق بكماليات يمكن الاستغناء عنها، أو بمطالب لا يعنى فقدها شيئا ذا بال، وأغلب البيوت تزدحم بأدوات وسلع وأوان وفرش لو فقدت ما وقف تيار الحياة، ولا تغضن وجهها!. وأبو الطيب المتنبى لم يكن من الزهاد، ولا عرف عنه ازدراء الدنيا، ومع ذلك فقد قرر هذه الحقيقة القريبة فى بيت من الشعر تضمن ثلاث جمل أو ثلاث حكم بليغة.. ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ما فاته، وفضول العيش أشغال! وقد رأيت أمتنا تنظر إلى السلع البراقة التى تقدمها المدنية الحديثة بطفولة مضحكة وتتنافس فى اقتنائها مهما غلا ثمنها، وعندما ارتفع سعر النفط ضاعف الأوروبيون سعرها، وعندما هبط بقى السعر على حاله، وبقى المشترون على رغبتهم وتطلعهم!!. إن الاستعمار يعرف عجزنا عن "الامتناع " فيستغل هذا الضعف كى يملى إرادته ويثبت غناه وفقرنا، أو تقدمه وتخلفنا.. ولو أننا على قدر من الاستعفاف والاستعلاء على رغبات النفوس لكان لنا معه شأن آخر، ولعلمناه كيف يحترمنا..!. ص _074(1/71)
هل يستفيد المسلمون هذا الخلق من شريعة الصيام؟ كلا، إن المسلم يأكل فى رمضان أكثر مما يأكل فى سائر شهور العام، وهو يؤدى هذا النسك بأسلوب يبطل حكمته ويقتل ثمرته! والأمم عندما تهزل تهبط بمستوى العبادة بدل أن ترتفع هى إليها.. ولست أدرى- والاستعمار العالمى يتربص بنا- أنبقى عبيد أهوائنا، أم ننجح فى كبح جماحها، ومن ثم ننتصر على عدونا؟ * * * ص _075
فوضى الشهوات الجنسية في أوروبا فى غياب الوحى، أو فى جراءة الناس عليه، تقع آلام وأحزان كان ينبغى أن تكون مثار عبرة ومبعث توبة، ولكن يظهر أن الناس يكرهون الرشد. وإلا فبم تفسر هذه المتناقضات التى قرأتها أخيرا؟ قرأت أن ديون العالم الثالث تتضاعف، وأن الحلقة تضيق حول عنقه، وأن عرقه المتصبب فى الوفاء بما عليه لا يكاد يسد الفوائد الربوية على قروضه، بل إن بعض الدول تقترض لمجرد سداد الفائدة المستحقة! إذا اقترضت دولة فقيرة مائة مليون دولار وكان عليها أن تدفع عشر هذا المبلغ على الأقل ربا، وتبلغ هذه المائة مائتين خلال بضع سنين إذا عجزت عن الوفاء! والعالم الأول الذكى المتحضر مسرور فخور بموقفه المستعلى، وقدرته العظيمة على امتصاص الدم، والويل للفقراء.... ومع ذلك كله فالربا حق، لا يجادل فيه إلا متدينون متخلفون! وقرأت أن روسيا قررت مضاعفة العقوبات على السكارى بعد ما فقدت الآلاف من الرجال فى حوادث المرور وآلافا أكثر فى أعطال الآلات وخراب المصانع، وآلافا أكثر من ضحايا الإدمان الذين غصت بهم المصحات والمستشفيات، وسمعت صيحة التحذير التى أطلقها رئيسى أكاديمية العلوم هناك أن الشعب الروسى فى خطر وأن مستقبله مظلم بسبب الخمور والإغراق فى تناولها.. ومع ذلك فالخمر حلال، وشربها جائز، والقول بحرمتها تفكير إسلامى ردىء يجب أن تعترضه الشيوعية والصليبية على سواء... وقرأت إحصاء يفيد أن الأملاك الفردية الخاصة فى روسيا تبلغ مساحتها الزراعية 3% وأن هذه المساحة الضيقة تنتج 30%(1/72)
من المحاصيل. أما الى97% من المزارع الجماعية الباقية فلا تزيد غلتها على ثلثي الإنتاج العام... ص _076
ومع ذلك فالملكية الفردية جريمة، والمناداة بها ارتداد يختصر العمر. أو رجعية تستحق الازراء... وقرأت أن بابا الفاتيكان خطب فى قطر أفريقى مسلم! يندد بتعدد الزوجات ويصفه بأقبح الأوصاف، وتساءلت: ماذا قال عن فوضى الشهوات الجنسية فى أوروبا، وعن قدرة شخص واحد على الفتك بعشرات الأعراض؟ فلم أسمعه قال شيئا!!. إن البعد عن الدين الحق لم يثمر إلا البلاء، ومع ذلك فالعالم فى محنة عقلية تذكرنا بقول الشاعر: يقضى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن! * * * ص _077(1/73)
عندما نفقد أخوتنا لم أجد قومية أشأم على أصحابها ولا أسوأ عقبى من القومية العربية بعد تجريدها من الإسلام وإلحاقها بركب " العلمانية "! ربما أرجأ القدر العقاب على بعض الانحرافات الخلقية والاجتماعية. بيد أن الغدر التاريخى والعقوق المستعلن الصارخ لا يمران بسهولة ولا يفلتان من قبضة القدر الصاحى، وذاك سر النزيف الدائم الذى يتعرض له الكيان العربى ويوشك به على التلاشى، ولا عجب، فالجنس العربى ينتحر عندما يترك الإسلام! ويفقد القدرة على البقاء داخل سياج سياسي محترم! وهل أحس العالم كله من أزل الدنيا إلى أبدها وجودا دوليا محترما للأمة العربية إلا بعد ما اعتنقت الإسلام وحملت رسالته واصطبغت ظاهرا وباطنا بتعاليمه ؟؟. إن الحقد والعناد والعتو كانت رذائل تفصل بين القبيلة والقبيلة، بل بين الفرد والفرد حتي جاء الإسلام فمحا هذه الفواصل، وفي ذلك يقول الله تعالى لنبيه "وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم... " إن الله وحده بهذه الرسالة الخاتمة، وذلك الدين العظيم هو الذى أقام من العرب دولة تتماسك بالإخاء الإسلامى، ويشد بعضها بعضا فى صف مرصوص، أو بنيان صلب، وتلقى الأعداء فى المشارق والمغارب، فلا تنكس لها راية ولا يسود لها وجه إ!. أما اليوم، بعد ما زهد العرب فى الإسلام، وردموا منابع الطاقة التى يتحركون بها فى الداخل والخارج فقد استبيحت بيضتهم ولطمهم الحر والعبد، وليتهم ينتحرون بشرف! إنهم قبل أن يهلكوا يتعرون من الخصائص التى تجمع الأمم فى الأزمان، ويتشبث بها الأحياء طلبا للنجاة.. عندما كانت جماعة أمل الشيعية مدعومة بجيش ص _078(1/74)
لبنان الماروني تهاجم المخيمات الفلسطينية التعيسة سمعت المذيع يقول: إن لجنة ذهبت لوقف سفك الدم بين الأشقاء!! لقد صحت بأسف: أشقاء؟ ماذا تقول أيها المذيع؟ إن النسب الذى يجمع هؤلاء وأولئك قد تقطع وزال. إن الدين الذى أصلح قديما ذات بينهم، ووحد كلمتهم استبعد عن عمد وعقوق، ولم يبق إلا أن تقع النتائج التى ذكرتها الآية الكريمة: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) * * * ص _079
لماذا يكرهون الدولة المسلمة لم أكن أظن الكارهين لما أنزل الله بهذه الكثرة، ولا أن قلوبهم يغشاها كل هذا السواد! بيد أن الاستعمار الثقافى كان أنجح من الاستعمار العسكرى. فإن الجيوش التى احتلت أرضنا حينا من الدهر عادت من حيث أتت. أما الأفكار التى احتلت عقولنا فقد بقيت تفعل الكثير...!. قلت لرجل يزعم أنه " ديمقراطى ": ما تعريف الديمقراطية؟ قال: حكم الشعب بالشعب، فالأمة مصدر السلطة! قلت: يبدو أن للتعريف بقية لا تذكرونها.. قال: ما هذه البقية؟ قلت: إلا أن يكون الشعب مسلما، فيجب ألا يحكم نفسه بنفسه وألا يكون مصدر السلطات التى تدبر شئونه!!. إن أي شعب مسلم يريد أن يحكمه الإسلام، ولكن إرادته هذه تكبت بكل سلاح، وحنين المسلمين إلى عقائدهم وشرائعهم لا ينقطع، ولكنكم تسكنون هذا الحنين بأساليب لا حصر لها: تزوير الانتخابات، تزوير الإعلام، تزوير المقالات، تزوير الفتاوى، فإذا لم يغن هذا التزوير جاء دور السيف فكمم الأفواه وأنشأ المنافى..! والرجال الأحرار لا تستقر لهم دار ولا يهدأ لهم بال.. قال: إن الحكم الدينى هو الذى يفعل ما تقول، أما الحكم المدنى فلا..! قلت له: إن استقرار الشيوعية حيث أستقرت كلف الأمم ملايين القتلى، وحمامات من الدم لا يدركها جفاف، وحديث خرافة عن حقوق الإنسان، فهل هذه هى الديمقراطية الشعبية؟ ص _080(1/75)
وهذه الأقطار التى تحررت من الصليبية الغربية إنها تكافح لتستعيد تراثها الروحى والفقهى وشخصيتها المادية والأدبية، ولا تخرج من محنة إلا لتدخل أخرى. إنكم تريدون لها حرية الإسفاف والنزوات، أو حرية الفسوق والعصيان، فإذا أرادت التمسك بكتاب ربها وسنة نبيها ونهج سلفها سمع هنا وهناك عويل على الحريات المهددة! والغد المحفوف بالأخطار! وسمع ممن لا يملك ذرة من رصيد شعبى أنه- باسم الشعب- يرفض العودة إلى الإسلام!. قلت لرجل كثير الحديث عن الجماهير وحقوقها: إن الإسلام يقدم لها كل هذا الذى تقول! فكسا وجهه تجهم وضيق وقال: لا أظن! ونظرت إليه مليا ثم قلت: تحب أن أصارحك؟ إنك تكره شيئا آخر يضمه الإسلام إلى هذه الحقوق المقررة، إنه يضم إليها الصلاة والاستغفار والإعداد للآخرة، والارتباط الدائم بالله، وهذه معان تنكرون ما قد يرتبط بها من عدالة اجتماعية أو عدالة سياسية!. إذا كان الإسلام دينا ودولة، فأنتم تكرهون الدولة المسلمة، لأنكم تكرهون الدين نفسه. * * * ص _081(1/76)
معركة خاسرة يا دعاة التنصير كانت مشاعر الغضب والحقد والعناد بادية فى مؤتمر التنصير " التبشير" الذى انعقد فى شوال سنة 346اهـ بالقدس أيام الانتداب البريطانى، إذ وقف شيخ من دعاة النصرانية يقول: لقد صرفنا من الوقت شيئا كثيرا، وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألفنا كتبا، وألقينا خطبا، ومع ذلك فلم ننقل من الإسلام إلى النصرانية إلا عاشقا بنى دينه الجديد على أساس الهوى، أو نصابا سافلا لم يكن داخلا فى دينه من قبل حتى نعده قد خرج منه! ومع ذلك فالذين تنصروا أو بيعوا بالمزاد لا يساوون ثمن أحذيتهم!. فما الحل بعد هذا الفشل؟ يقول الداعية المجرب: يجب علينا قبل أن نبنى النصرانية فى قلوب المسلمين أن نهدم الإسلام فى نفوسهم! حتى إذا وهت صلتهم بدينهم سهل علينا- أو على من يأتى بعدنا- أن يتم رسالتنا، وأن ينشر النصرانية بين الضائعين التائهين عن دينهم!. وظاهر أن هذا الاقتراح هو الذى استقر عليه أمر المجتمعين، واتخذت الخطط لتنفيذه، ورأينا آثاره فيما استقبل الإسلام والمسلمون من سنوات عجاف.. وهدم الإسلام فى نفوس أتباعه قد يعنى هدم الإيمان كله، ومجافاة الأديان كلها، اى تشجيع الإلحاد والانحلال بين المسلمين ونقلهم إلى الشيوعية مثلا...!. ليكن! المهم أن يترك المسلم عقيدة التوحيد، واتباع محمد، وليذهب إلى المجوسية أو اليهودية أو الوثنية أو إلى أى نحلة مغموصة فى هذه الأرض، ليذهب حيث شاء! المهم أن يترك الإسلام، فإذا تخلى عنه أمكننا بعد أن نجتره إلى النصرانية..! ونتيجة هذه المقررات أخذت أجهزة إعلام شتى تخدم البهائية والقاديانية والوجودية والفرويدية والدارونية... إلخ. وظهر مسلمون! يستخفون بالسكر والرقص، ويتندرون ص _082(1/77)
بشعائر الحدود والقصاص، ويتأولون النصوص بمجون وجراءة، ويتضاحكون من المؤمنين وهم يرمقون الآخرة ويتقون الله!!. إننى أقرأ مقالات كثيرة فى هذه الأيام لم يضع المنصّرون " المبشرون " إمضاءهم عليها، لكنهم فى الواقع هم الذين أملوها، وتابعوها حتى ظهرت فى الصحف، وحسبت كلاما عاديا، أو رأيا شاذا، وما هي إلا تنفيذ لمخطط قديم ضد هذا الدين.. إن المشتغلين بالتبشير أو التنصير واهمون حين يديرون المعركة على هذا المحور، فإفلاسهم فى مواجهة التقدم الحضارى والرقى العلمى يجعل أملهم فى إرث الإسلام سرابا. والفاشل لا يفيده أن يقتل غيره... * * * ص _083(1/78)
متى نبرأ من هذه العلل من أمارات العظمة أن تخالف امرءا فى تفكيره، أو تعارضه فى أحكامه، ومع ذلك تطوى فؤادك على محبته وتأبى كل الإباء أن تجرحه. أحسست ذلك وأنا أقرأ رسالة لأبى حامد الغزالى وجهها إلى السلطان "سنجر" ملك المسلمين فى عصره على العراق وإيران وأفغانستان، وكان الغزالى قد اتهم بأنه نال من الإمام أبى حنيفة، وللإمام الكبير مكانته فى هذه الأرجاء، بل له مكانته السامقة فى الفقه الإسلامى كله. قال أبو حامد للملك ".. وأما ما قيل من طعنى فى الإمام أبى حنيفة- رحمة الله عليه- فلا أتحمله بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الحى الذى لا إله إلا هو بأن اعتقادى فى أبى حنيفة- رحمة الله عليه- بأنه كان أكثر غوصا من أمة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)- فى حقائق المعانى والفقه- فكل من حكى شيئا غير هذا من عقيدتى أو خطتى أو لفظى فهو كاذب ".. وختم رسالته برجاء إلى الملك أن يدعه يعبد الله فى زاويته وأن يعفيه من التدريس لعلماء عصره.. والذى استوقفنى فى كلام الغزالى حرارة القسم الذى تبرأ به من ذم أبى حنيفة، وثناؤه الجم على أحد الأئمة الأربعة المتبوعين! وذلك مع أن الغزالى (1) شافعى المذهب فى فقه الفروع، وهو فى علم أصول الفقه يخالف الأحناف فى بعض طرائق الاستنباط! بيد أن ذلك الخلاف العلمى القائم لم يتجاوز دائرة النظر وحرية البحث. ولكل وجهة هو موليها. وليس يغض هذا من تقدير الرجال والاعتراف لهم بالفضل. الواقع أن الخلاف العلمى لا يثير الحفائظ إلا لدى الرعاع! ولعله يكون متنفسا لمآرب وأهواء عند من لا يتقون الله. أما العلماء الكبار فلهم شأن آخر. ألا ترى مالكا (رضي الله عنه) ص _084(1/79)
يرفض عرض الخليفة أن يجمع الناس على كتابه "الموطأ"؟. لماذا؟ لأن لدى الناس علما آخر قد يؤثرونه على موطئه، فلا يجوز حملهم بالقسر!. لو كان رجل آخر دون مالك لفرح بتجميع الناس على رأيه أو على روايته، ولكن مالكا هو مالك ... فى هذه الأيام العجاف رأيت حرائق تندلع إثر خلافات مستصغرة، ورأيت دين الله يتسع لوجهات نظر لها وزنها المتقارب، ولكن دنيا الناس تضيق بما وسعه دين الله، إن الفقه مظلوم عندما نحمله اشتجار الآراء واحتدام العصبيات وتجريح الرجال، لعل المسئول قلة الفقه. أو لعل المسئول ضعف التربية الخلقية والآداب النفسية، فمتى نبرأ من هذه العلل؟! * * * ص _085(1/80)
الحكمة من الحج ذكر القرآن الكريم بعض الحكمة من لقاء الحجيج فى موسمهم الحاشد فقال: (ليشهدوا منافع لهم). فما هذه المنافع المشهودة؟ من التأمل والبحث نجدها منافع مادية وأدبية وسياسية وعسكرية، وإن كان المسلمون قليلى الدراية بما شرع لهم، ولننظر إلى أول حجة فى الإسلام لندرك هذه الحقيقة.. وقعت هذه الحجة فى السنة التاسعة بعد عام واحد من فتح مكة، ولعل كثيرين يحسبون أن الوثنية قد تلاشت من جزيرة العرب بهذا الفتح، وخمدت أنفاسها، وهذا خطأ، فإن ألوفا ضخمة من الدهماء ظلت على خصامها للتوحيد، وولائها للأصنام، وتربصها بالمؤمنين!. إن الصحابة رضى الله عنهم قد يجاوزون المائة ألف، وقد استطاعوا وراء نبيهم العظيم أن يدكوا معالم الكفر، لكن قوى الكفر بقيت متشبثة بمواقع شتى ترقب الغد لتتحرك!! وهذا ما عالجته الحجة الأولى، ونزلت سورة براءة لتطاردهم، وتدبر قوله تعالى لأولئك الأعداء المتربصين: (واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله …). السياق كما ترى يدل على أن أعداء الإسلام كانوا طامعين فى معاودة الكرة عليه والنيل منه، بل إن المسلمين مع النصر الذى أحرزوه من قبل كانوا يشعرون بالقلق من أولئك الكفرة الفجرة حتى قال الله لهم: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين). ص _086(1/81)
فى هذه الحجة الأولى، وفى ذلك الموسم الجامع وبين حشود المؤمنين والكافرين على سواء، تنزل الوحى وكأنه صواعق غضب يطارد فلول الظلام ويطالب المؤمنين أن يملكوا ناصية الموقف! وأن يثقوا فى الغد القريب والبعيد، وأن يتحركوا بمنطق الإيمان المقدام الجرئ غير مكترثين بشىء. قلت لنفسى: أما تتجدد " براءة " أخرى؟ إن المسلمين ربع سكان الأرض والهوان ينزل بهم من كل ناحية! أما تتكرر الروح التى سادت أول حجة فى الإسلام؟ أما تتحول الكثرة العددية للمسلمين إلى كثرة روحية؟ أما يحج المسلمون هذه السنة ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم، وتسود صفهم، وترد مهابتهم إلى قلوب أعدائهم؟.. يا قومنا إن الحج ليس لقاء أجساد، ولا شراء هدايا، ولا حمل ألقاب ! اجعلوا الموسم الجامع فرصة إعداد، وموطن دراسة علمية وعملية ورسم خطة لإنقاذ أنفسكم من طوفان مقبل... * * * ص _087(1/82)
تدبر القرآن القراءة دون وعى علة أصيب بها المسلمون من قديم جعلت صلتهم بالوحى الإلهى سطحية عقيمة، فهم يكتفون بتلاوة الآيات أو بسماعها، وقد تومض فى أذهانهم بعض الهدايات، ثم تنطفئ على عجل أو مهل قبل أن تملأ النفس بسناها العميم!. والعامة تحسب أن التلاوة الحرفية لها سر مغيب قد يعنى عن التدبر والتأمل! وقد لفت نظرى أن السورة التى شاع أن تقرأ على الموتى، أو على المحتضرين تضمنت هذا النص: (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين * لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) كما أن الله سبحانه وصف عباده الذين يشرفون بالانتماء إليه فقال بعد عدة أوصاف رفيعة: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) إن السماع دون فهم، والنظر دون روية، أمراض تمحق المواهب البشرية، وتجعل المرء شبحا لا روحا، والأشباح لا تصنع شيئا فى دنيا الناس، ولا يرتقى بها شعب من العالم الثالث إلى العالم الثانى بل الأول.. وقد تتبعت كلمة التلاوة فى آيات قرآنية كثيرة، فوجدتها تعنى عرض الرسالة الخاتمة، وبيان معالمها العامة، وإعطاء صورة مجملة للقضايا والأهداف، أى ما يسمى فى عصرنا بدليل الحركة أو منهاج العمل! ثم تكون بعد ذلك الدراسة، والتدبر، والتعليم. قال تعالى: (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك …) وقال على لسان نبيه: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن …). ص _088(1/83)
والآيات كثيرة فى أن التلاوة مفتاح الاطلاع على ما أودع الله كتابه من حق ونور، فكيف تتحول إلى ترانيم وترديد ألفاظ مع قصور إدراك؟. صحيح أن لألفاظ القرآن قداستها، ذلك لأن الله سبحانه أراد أن يحصّن القرآن ضد ما أصاب الصحف الأولى، فإن الاستهانة بالألفاظ من خلال الرواية بالمعنى، والنقل بالترجمة أضاع الحقيقة ذاتها شكلا وموضوعا، ولم يبق من تراث النبيين الأولين ما يصدق عليه عنوان الوحى. من أجل ذلك كان الحرص الشديد على ألفاظ القرآن، وجعل تردادها طاعة مأجورة! لكن ذلك لا يقلب الأوضاع. فإن الجواهر النفيسة توضع فى علب فاخرة، ويعتنى بالعلبة اعتناء خاصا. فهل تساوى العلبة شيئا طائلا إذا سرقت الجوهرة منها؟ وهل تنتفع بالقرآن إذا جودت أحرفه ونسيت معناه، لأن الشيطان سرق عقلك وأنت تتلو…؟ (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)؟ * * * ص _089(1/84)
التأدب مع العلماء من الفواقر- كما جاء فى الأثر-: "جار سوء إن رأى خيرا دفنه، وأن رأى شرا أذاعه ". ومن الفواقر كذلك قارئ سوء يطالع سير الرجال فى التاريخ فلا يستوقفه إلا ما ينسب إليهم من هنات أو ما يواقعون من أخطاء! أما ما أفاء الله عليهم من محامد، وما قدموا للناس من خيرات فلا اكتراث به... المؤسف أن هذه العلة النفسية تفشو بيننا نحن العرب، لقد ألّف فى " نابليون " نحو مائة كتاب. فكم ألف فى " خالد بن الوليد " أو فى " صلاح الدين "؟! ونابليون رجل حرب وحسب! يغدر ويظلم ويسف فى أحيان كثيرة، وهو من الناحية الخلقية والعسكرية دون خالد بمراحل. ومع ذلك فإن قومه جسّموا ميزاته وأهالوا التراب على رذائله. فما يذكر إلا بأنه العبقري المهيب!. إن تاريخنا ملىء بالعظماء فى كل ميدان. غير أننا موكلون بطيّ محاسنهم، ولولا أن هؤلاء العظماء تركوا من المواريث الحية ما بدد أكوام التراب التى أهيلت عليهم لجرّ عليهم النسيان أذياله من زمن بعيد! أقول ذلك لأنى نظرت إلى الرجولات السامقة التى ظهرت خلال القرن الأخير فوجدت المطاعن تناوشها من كل جانب، والتهم تترى. والمدافعين ذاهلين!! ووجدت المعجبين بأحد المصلحين يحسبون أن الأفق لا يتسع إلا لهالته وحدها، سبحان الله! إن الأفق رحب فلم نحاول إطفاء الآخرين؟ قلت لأحد أصحابى: إننى تتلمذت ومازلت على أئمة مختلفين، أقرا لأبي حنيفة إمام أهل الرأى، ولابن حنبل إمام أهل الأثر، ولابن تيمية، ولأبى حامد الغزالى، ولابن سينا وابن الجوزى، وهذا فيلسوف وذاك واعظ، وأقرأ لابن عطاء الله ولابن عبد البر. وأقرأ فى الأدب لأبى الطيب وأبى العتاهية، وللعقاد والرافعى- على ما بينهما من ص _090(1/85)
جفوة- إن الله سبحانه وزع جمال الفكر والأداء والخلق والسلوك على كثيرين، وينبغى أن أستفيد من مواهب الله عند خلقه. أما التماس الأخطاء للتشهير بها وانتقاص أصحابها فإنه لا يجدي على شيئا، ولا يرفع خسيستى أو يقيم عوجى. سمعت شابا حدثا يتعرض لأحد الأئمة الأربعة بالنقد الحاد، فنظرت إليه مستغربا، فقال: هم رجال ونحن رجال! فقلت له: إننى لا آمنك على قراءة جريدة يومية قراءة صحيحة، فأنى لك هذه الرجولة المزعومة؟ يا بنى أدب الإسلام- كما قال-: رسوله " ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه "!!. فلنتأدب مع عظمائنا..!! * * * ص _091(1/86)
استشهاد إسماعيل الفاروقى عرفت الدكتور " إسماعيل الفاروقى " من بضع وثلاثين سنة، كان من أبرز الدارسين للفلسفة الإسلامية، وكان يقدم الإسلام للعقل الغربى المستنير نظريات فى المعرفة والعدالة تثير الإعجاب والمحبة، والى جانب علمه الواسع كان دميث الأخلاق، مطمئن النفس، منصفا للخصوم والأصدقاء على سواء. وقد خامرنى فزع شديد عندما قرأت مصرعه، ومصرع زوجته، فى بيتهما، ونقل ولدهما بين الحياة والموت!! واقشعر بدنى وأنا أقرأ أن " اللصوص " أجهزوا على ضحاياهم بالسكاكين!. وشرعت أبحث عن أسباب الجريمة؟ قالوا: إن اللصوص غضبوا لما وجدوا البيت خاليا من المال الذى يبتغون، ونفسوا عن غضبهم بهذه المذبحة؟. وبديهى أن أى عاقل يرفض هذا السبب! ومضيت أستقصى الأنباء فعرفت أن الجريمة لم يرتكبها لصوص مال، وإنما ارتكبها لصوص عقائد! إن النشاط العلمى الإسلامى الذى يقوم الدكتور " الفاروقى " به هو الذى أحل دمه وأغرى بقتله!!. وقد ارتكب المجرمون " المتطرفون "- كما وصفوا- هذه المأساة، وانصرفوا فى هدوء، ثم خيم الصمت على القضية كلها، ومتروك للزمن أن يسحب عليها ذيل النسيان. إن فى أوروبا وأمريكا أشخاصا كثيرين يقتفون آثار" بطرس الناسك " فى التأليب على الإسلام، وافتراس العاملين له جهرة واغتيالا... ص _092(1/87)
ومع الاسترسال والذهول اللذين يسودان أمتنا سنفقد الكثير من رجالنا وعلمائنا دون أى قصاص!. إن جنديا أمريكيا مع عشيقة له قتلا فى إحدى الحانات، فى ليلة حمراء أو سوداء، فتحركت الأساطيل ومئات الطائرات ترجم من يظن أنهم أوعزوا بالقتل، أما نحن فإن واحدا من علمائنا يقتل مع زوجته فى بيتهما الطاهر المليىء بالبحوث والمقالات ثم،. ينشر النعى ويقبل العزاء وتطوى القصة!. ما أرخص دماءنا نحن المسلمين!. فى الريف المصرى يصفون بعض الناس بأن " هرهم جمل "! إنهم يصنعون ضجة كبيرة إذا أصيبت لهم هرة!. وهناك ناس- فيما يبدو- يعقر جملهم فلا يرثى لهم أحد! رحم الله الدكتور إسماعيل الفاروقى وزوجته، وإلى الله المشتكى!. * * * ص _093(1/88)
أوائل الشهور العربية اختلاف المسلمين حول أهلة الشهور العربية أمسى مهزلة أو كاد ! فعيد الفطر الماضى كان يوم السبت عند بعض الشعوب، وكان يوم الأحد، أو يوم الاثنين عند بعض آخر. والتذبذب فى إثبات الهلال على مدى يومين أو ثلاثة أمر صارخ الدلالة، وأثره على الوحدة الإسلامية لا يمكن إنكاره! وتجاهل ذلك كله شيء لا يطاق.. قرأت لجمع من علماء الفلك أن الهلال سيولد علميا يوم كذا، ساعة كذا، وأن رؤيته قبل ذلك مستحيلة! وما هى إلا فترة وجيزة حتى قرأت أن شهود عيان قد رأوا الهلال المرتقب!!. قلت: أحد أمرين، إما أن الشهود واهمون، وإما أن الفلكيين مخطئون، وليس هناك احتمال ثالث! إن القمر يسير فى مداره بسرعة مضبوطة لا تزيد ولا تنقص، إنه لا يحث الخطي أحيانا ليقابل منتظريه، ولا يتمهل ليزدادوا شوقا إلى لقائه!! الأمر كما قال ربنا (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق). والجملة الأخيرة حاسمة فى أن سير القمر يتم بالحق لا بالفوضى، وأن هذا السير إذا تم اكتشافه بطريق يقينى فلا مجال بعد ذلك لعبث!. تقول: وأنى لنا اليقين؟ وأجيب: إنني أطلب لجنة لاستجلاء الحقائق، تتصل بالمراصد فى واشنطن وموسكو ولندن وباريس، وتتعرف منها عن الوقت الذى يتم فيه الاقتران بين القمر والأرض والشمس، ونتلقى إجابة قاطعة عن إمكان الرؤية عند الاقتران، فإذا كانت مستحيلة رفضنا كل شاهد يزعم الرؤية، مؤكدين أنه شخص تخيل فخال!. ص _094(1/89)
إن اليقين العلمى لابد من احترامه، ومن استبعاد كل ما يخالفه.. والواقع أنى أشعر بالحيرة عندما أطال فى الصحف كلاما لفلكيين يجزمون باستحالة رؤية الهلال، ثم أسمع بعد ذلك أن الهلال رؤى فى كذا وكذا من البلاد!! إننى أطالب بتحقيق علمى وعالمى فى هذه المأساة! فإما غيرنا مراصدنا وعلماءنا لثبوت قصورهم، وإما عاقبنا شهودا رأت عيونهم ما لم يولد فى أفق، ولم يثبت له وجود! إن الصمت على هذا التناقض لا يجوز. * * * ص _095
حاجتنا إلى التعاون والتواد شكا لى خطيب فى أحد المساجد أن رؤساءه نالوا منه! قلت: لماذا؟ قال: لأنى فى خطبة عيد الفطر أفتيت بأن قيمة الزكاة لا تجزئ عن الزكاة نفسها، ونددت بأبى حنيفة ورأيه فى هذا الموضوع!. قلت له: ولم فعلت ذلك؟ قال غاضبا: قررت مذهب السلف، أفى ذلك جريمة؟! أجبت فى هدوء: إنك لست أعرف بمذهب السلف من شيخ الإسلام ابن تيمية الذى ربط الحكم بمصلحة الفقير، ورأى جواز إخراج القيمة إذا كانت القيمة أجدى عليه وأحب إليه! هل قرأت ما ذكره صاحب فتح البارى فى هذه المسألة؟!. وخيل إلى أن الخطيب المفتى لم يكن خبيرا بأقوال العلماء فى الموضوع، ومع ذلك فقد مضى فى تنديده بالمذهب الحنفى وصاحبه!. قلت له: فى كتاب "فقه الزكاة" للقرضاوى تلخيص للأقوال المروية عن علمائنا الكبار فى الزكاة وقيمة الزكاة وأيهما يخرج؟. ولعلك تدرى أن الزكاة شرّعت لمصلحة الفقراء، لا لإعناتهم، وأن عمر بن عبد العزيز الذى أخرج القيمة هو خامس الراشدين، وأن شتمه منكر! وأنه وأبا حنيفة لم يفتحا فى الدين ثغرة عندما فعلا ذلك. ثم إن المنبر لذكر الله، والحفاظ على شريعته وليس لنصر مذهب فقهى على مذهب فقهى آخر، فما الذى أغراك بعرض أبى حنيفة تلغ فيه؟. ص _096(1/90)
إن زميلا لك فى القاهرة قال: إن الشافعى هو الذى أفسد القاهرة! وآخر فى الجزائر قال: إن مالكا أخطأ السنة، ولم يحسن الاتباع... والفقهاء الأربعة الكبار هم من قمم السلف وأعلام الدين. فلماذا تنسون الأدب فى ذكرهم، وتلتزمونه مع من دونهم؟!. إن كثيرا من المتعلمين يسىء إلى السلفية تحت عباءة السلفية، وإنى لأحذر من أولئك المتفيهقين الضعاف.. كان أوّلى بهذا المتحدث أن يدرس الوافدين على المسجد، وأن يتعرف الفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يسألون الناس إلحافا، وأن يلفت إليهم أصحاب المروءات من أولى الفضل والسعة، فإذا أعطوا عسجدا بدل الشعير لم يبطل سعيهم أو يعكر صفوهم!. إننا حصدنا الفرقة والخصومة من أصحاب الألسنة العمياء. ولا أعرف أياما المسلمون فيها فقراء إلى التعاون والتواد أشد من هذه الأيام النكدة! فليتق الله خطباء يضرّون أكثر مما ينفعون، وليقرءوا كثيرا، فقد سمعنا قديما أن العلم نور. * * * ص _097(1/91)
المطالبون بالعلمانية آثمون بعض العرب يتركون دينهم، لأن شعوبا أخرى تركت أديانها، أو شاع عنها أنها تركت أديانها. ويقع ذلك دون تساؤل عن الأديان التى تركت: لم تركت؟ وما الذى زهد أصحابها فيها وصرفهم عنها؟ نعم، ويقع ذلك مع تغافل عما أسداه الإسلام للعرب قديما عندما كانوا قبائل لا ثقافة لها ولا حضارة، ثم أضحوا بالإسلام وحده أمة خفاقة الرايات فى المشارق والمغارب، ممدودة السلطان فى البر والبحر.. وتحت عنوان العلمانية أهمل كتاب لا ريب فيه، وتنوسيت سنة مضيئة النهج، وقدمت بين يدى الله ورسوله أوهام وأهواء غاض منها الجد والشرف، ولم نجن منها إلا الصاب والعلقم!. إننى أعرف أن العلمانية انتشرت فى أمم شتى، وعلى أنقاض أديان بعضها وثنى والآخر سماوى، ومع ذلك فإن هذه الأديان بقيت وبقى الانتماء إليها والتعصب لها.. وتفسير ما حدث سهل، فقد استغنى القوم عن الأجزاء المعطوبة والمكذوبة من مواريثهم، واستحدثوا "قطع غيار" جديدة تحل محلها، وصالحوا بهذا الترقيع بين ماضيهم وحاضرهم، وظهر ذلك فى كثير من دول أوروبا التى يحكمها الديمقراطيون المسيحيون، بل إن الولايات المتحدة نفسها جددت الدعوة إلى إدخال الصلوات الكنسية فى مراحل التعليم، واستنكر رئيسها الحالى قصة فصل الدين عن الدولة. إن العلمانية فى كثير من الأقطار غطاء دقيق للعقائد الأولى مع بعض التغيير والتحوير! والغريب أن اليهود رفضوا العنوان العلمانى لدولتهم الدينية، واستحبوا اسم إسرائيل ليكون رمز الولاء والانتماء والتشبث والوفاء!! على حين طولب المسلمون ص _098(1/92)
باستدبار قرآنهم ونبوتهم، واستجلبت العلمانية ليتم تحت شعارها تغيير الفقه والتشريع وتغيير الأدب والتربية، وتغيير العلاقة بالله ومنع الاستمداد من وحيه! المطلوب ارتداد يتم بطريق التدرج أو الطفرة حسب الظروف والأحوال! إن سيل الخسائر لا ينقطع من وراء هذا الفسوق، والهزائم المادية والأدبية تترى، وإذا كان غيرنا معذورا فى نبذ مواريث له ناقضت العقل، وخاصمت العلم، وأشقت الجماهير، فما عذر الذين يطلبون منا أن ننسى دينا قام على العقل والعلم وجعل شرع الله حيث تتحقق مصالح الجماهير؟. * * * ص _099(1/93)
أرفض الغناء عندما ألقى محاضرة أعزم على المستمعين أن تكون أسئلتهم فى موضوعها حتى لا يتشعب بنا الحديث إلى غير وجهة! ومع ذلك فبعد محاضرة ألقيتها عن معالم الرسالة الخاتمة اتجه إلى سؤال جهير ملح يطلب منى حكم الإسلام فى الغناء؟ وأكرهتنى الملابسات على الإجابة فقلت: الغناء كلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، إننى أسمع أغنية "أخى جاوز الظالمون المدى" كلمات الشاعر على محمود طه، ولحن محمد عبد الوهاب فتشجينى وأتجاوب معها، ثم أسمع للشاعر نفسه والمغنى نفسه قصيدة " كليوباتره " فأغلق الراديو وألعن الكلمات وملحنها ومذيعها.. ثم استتليت: كان الصحابة- وفيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام- يطوون مراحل الطريق إلى كفاح أعداء الله وهم يسمعون من يشدو: " والله لولا الله ما اهتدينا.. ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا ". فيكون هذا النشيد إلهابا لمشاعرهم وتخفيفا من معاناتهم. ثم قلت: إن الصوت الجميل يحرك الجمال فتسرع. أفلا يحرك الرجال؟ المهم هو المعنى النبيل والأداء الجيد ! أما المجون واللحن الخليع والصوت الخنث فتلك كلها آثام..!!.. وانصرفت من الحاضرة المهمة التى بذلت فيها جهدا مضنيا، وقلت: عسى أن ينفع الله بها.. وبعد أيام جاءنى أحد الناس وهو دهش يسائلنى بلهفة: هل خطبت فى إباحة الغناء؟ قلت: ماذا تقصد؟ قال: إننى جئت لفورى من ندوة دينية تحذر الناس من حكمك فى إباحة الغناء، وتثير عليك السخط!. ص _100(1/94)
ولم أشأ الرد السريع، فقد سرح فكرى فى أحوال بعض المتحدثين الإسلاميين. وفوضاهم الفكرية والنفسية، ثم أجبت شارحا ما وقع فى أعقاب المحاضرة التى تنوسيت وأهمل ما فيها من خير كثير، قلت: يا صديقي، هذا المتحدث ضدى تنقصه أمانة النقل، أو شرف القصد. فحكمه إلى الله! إن من حقه أن يعارضنى، ولكن بعد أن يذكر بدقة وجهة نظره. نعم، له أن يقول: أنا أرفض الغناء كله: حسنه وقبيحه، فلا تصدقوا غير هذا. أما أن يعطى تصويرا مبهما لرأيى ويوقع فى روع الناس أنى أشجع الطبل والزمر فى أرجاء المجتمع فهذا عيب!!. قال محدثي: سأرد عليه! قلت: لا تفعل، إن هذا ما ينشده بعض الناس، يشغلون الجماهير بقضايا فرعية، ويريدون باللجاجة المفتعلة أن يصلوا بها إلى مجلس الأمن، وذلك حتى لا يبقى وقت للقضايا المصيرية، ولا تجد لها متسعا فى أذهانهم. * * * ص _101(1/95)
التعصب أساسه الجهل التعصب الكريه أن يجمد المرء على فكرة وصلت إليه بطريقة ما فلا يقبل لها مناقشة، ويرفض أن ينظر فى أي رأى آخر يعرض عليه، بل إنه قد يعجز عن استبانة الرأى الآخر وما قد يكون فيه من صواب أو خطأ، لأن عقله استغلق، فلا يتحمل جديدا ولا مزيدا. وكثير من الناس مصاب بهذا البلاء، وقد وصف الله به المشركين الأقدمين عندما يسمعون القرآن: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) نعم إن حالتهم الفكرية طوحت بهم بعيدا جدا فلا يكادون يعون خطابا لبعد المسافة النفسية. والمرء قد يتعصب لمواريث فكرية آلت إليه دون اكتراث بما فيها من صواب أو خطأ، يكفى أنها تراث الأوائل فكيف يتركها؟!!. (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) وهذا التعصب على دمامته تمكن معالجته، لأن أساسه الجهل، ومع كثرة التعريف والتوضيح، يمكن أن يلين الجامح! لكن هناك نوعا آخر من التعصب يعز علاجه، لأن أساسه الجحود والاستكبار. لقد طلب موسى من فرعون شيئا محددا: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك…)! ص _102(1/96)
فكان جواب فرعون: ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك …)؟ إن فرعون اتّهم موسى بما لم يفكر فيه، وتغافل عامدا عما طلبه منه، وحول القضية إلى وضع انقلب فيه البرئ متهما والمتهم بريئا، وبدل أن يقول: لن أطلق سراح المعذبين، ولن أرسلهم معك قال: (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين) والغريب أن بني إسرائيل اليوم يتبعون المنطق الفرعونى فى معاملة العرب، فبعدما أخرجوا من أرضهم بالإرهاب المحلي والدولي أخذوا يصفون العرب الذين يجاهدون للعودة إلى أرضهم بأنهم إرهابيون!. هذا المسلك القائم على تعصب الجحود والاستعلاء لا أمل فيه ولا جدوى من مجادلته، وفيه يقول الحق: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). * * * ص _103(1/97)
هواة الجدل وتمزيق الصفوف كنت قد تطرقت فى أحد دروسى إلى الإسرائيليات فى ثقافتنا القديمة، وضربت مثلا لما شاع منها بيننا، فقلت: يرى أهل الكتاب أن الطوفان عالمى عمّ الأرض، والتحقيق أنه محلى لا يعدو ديار نوح. فصاح البعض: هذا غريب، ما دليل أولئك المحققين؟ قلت: اسرد عليكم ثلاثة مواضع من القرآن الكريم يتضح منها رأى القائلين بأن الطوفان ليس عالميا: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا). (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية …). (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون). قلت: وكانت أرض نوح شمالى العراق على عهد الدولة السومرية، أيام الأسر الحاكمة الأولى من الفراعنة، والطوفان لم يجئ وادى النيل، ولم يبلغ الهند، وأوغل فى البعد أن يصل الأمريكتين.. إلخ. فردّ أحد السامعين: هذا كلام لم نسمع به! وقال آخر: هذا خروج على الإجماع! وأخذت الردود تتدحرج حتى كاد البعض يصمنى ويصم المحققين بالكفر!!.. ورأيت ألا أمضى فى الموضوع، وأن أنتقل إلى صفحة أخرى من الحديث، ولكنى قررت أن أهذب أولئك الهمج، وأن أقمع تطاولهم!. ص _104(1/98)
قلت: لتكن الآراء ما تكون فى هذه القضية. فهى لا تتصل بعقيدة ولا عبادة، ولا يرتبط بها خلق ولا سلوك، إنها تفسير لفصل من فصول التاريخ يعتمد على فهم سطحي أو متعمق لبعض الآيات!. ومع ترجيحى لأن الطوفان محلى فإنى أستغرب ربط فلك بالإيمان والكفران، والشذوذ والإجماع، والغضب والرضا، والمخاصمة والمصالحة.. لماذا تحيصون هذه الحيصة وتريدون أن تخرجوا من مجلس علم أحزابا متفرقة لا إخوة متحابين وأصدقاء متعاونين متضاحكين؟ ما هذا الغرام بتمزيق الصفوف وتقطيع الكيان؟!!. قال لى أحدهم: هذا كلام ما سمعناه! قلت: ومن قال إنكم سمعتم العلم كفه؟ وليكن جديدا على آذانكم وضقتم به، فلم الاتهام الطائش؟ وما عليكم لو طلبتم مزيدا من الأدلة لكلا الفريقين وعالجتم الموضوع ببرود؟. آفة بعض الناس أنه لا يعقل إلا ما سبق إلى ذهنه، وأنه يجعل من الحبة قبة.. * * * ص _105(1/99)
طيور لبنان ومذابح البشر هناك خطر على الطير السارح فى جو لبنان! فإن الصيادين أسرفوا فى اقتناصه حتى لأوشك على الفناء.. ولست أدرى أكان الصائدون طلاب لهو أم طلاب طعام! كلا الأمرين جائز، فإن كانوا يبغون الأكل لأنهم جياع فليس عليهم من حرج! وإن كانوا ينشدون التسلية والمتعة فهم جديرون بالتوبيخ الذى استمعوا إليه من أقطار شتى، فإن إزهاق روح زاحفة أو طائرة دون سبب مشروع إثم لا ريب فيه.!!. لكننى أحسست بالدهشة عندما سمعت الصراخ الطويل الذى أرسلته أوروبا وأمريكا وراء هذا المسلك، فإن المستعمرين البيض فى جنوب أفريقيا قتلوا ومازالوا يقتلون آلاف الزنوج دون سخط مسموع، والمستعمرون اليهود فى أرض فلسطين يمحون آثار العرب، ويشنون عليهم حرب إبادة، دون نكير، بل إن الدول العظمى ترى ذلك حقا، وترى المقاومة الفلسطينية إرهابا.. يبدو أن حقوق الطير فى البقاء أرجح من حقوق بعض البشر! فليقرأ العقلاء معى هذا الكلام: كتبت مجلة ألمانية مقالا طويلا عن الجرائم التى تقترف ضد طيور لبنان، واستصرخت العالم كى يضع حدا لها بعد ما وصلت إلى حدود لا معقولة. وفى " فنلندا " استنكر رئيس الرابطة الفنلندية للمحافظة على البيئة هذه المذابح، وقال: إن الوقوف فى وجهها مسئولية العالم كله!. وفى لندن يواصل أصحاب الاختصاص توجيه النداء إلى الحكومة اللبنانية كى تبعث مندوبها لحضور مؤتمر يناقش هذه القضية الحساسة، ويواجه خطورتها.. ص _106(1/100)
قال الراوى: والأهم من ذلك أن الممثلة " بريجيت باردو " صعقت، وأصابها الانهيار العصبى والنفسى، وبقيت عدة أيام بدون طعام، وألغت كل لقاءاتها "التربوية" مع قططها وكلابها بسبب الصدمة التى اعترتها عندما بلغتها أنباء المذبحة التى وقعت لطيور لبنان!! وسؤالنا البديهى: أما تستحق دماء العرب والزنوج شيئا من الاكتراث؟!! إن حقوق المستضعفين من البشر استبيحت على نحو شائن، ومع مغيب الشمس كل يوم تغيب أرواح وهى تلهث وراء حق الحياة وحق الإيمان، وتهلك شعوب وهى تذاد بجبروت عن مطالبها المشروعة فى الكرامة والحرية!. لماذا تصم الآذان دون هذا الصراخ النبيل، ويعلن استنفار عام للدفاع عن بعض الدواب والهوام والحشرات والزواحف؟. ترى: ما الذى يحتاج إلى التصحيح: الضمير البشرى، أم العقل البشرى؟ * * * ص _107(1/101)
العيد الحقيقي لا أزال ألح على المسلمين أن يقتصدوا فى أفراحهم، وأن يتركوا تقاليد السرف التى ألفوها فى أعيادهم بل فى أحفالهم كلها، ما يسرّ وما يسوء!. إن لنا عادات ربما ورثناها من عصور الازدهار والانتصار يوم كنا سادة الدنيا بيد أن بقاء هذه العادات الآن فى أعراسنا وفى أحزاننا وفى المناسبات العارضة أمسى شيئا لا مساغ له. فأوضاع المسلمين الأن تبعث على الأسى، والآفاق ملأى بالغيوم.. عندما مات " أنور خوجة " زعيم ألبانيا الإسلامية- سابقا- لم أشعر بأمل فى عودة الحرية الدينية إلى شعب ظل يرسف فى الأغلال أربعين سنة كى ينسى دينه، إن الخلف والسلف سواء فى كره الإسلام والعمل على محوه، والعرب ذاهلون عن قضايا هذا البلد لأنهم قد أهمتهم أنفسهم، وغير العرب لا يدرى، وسيقول المؤرخون: لقد وجدنا جثة شعب مسلم قد ألقى بها اليم، ولا تعرف ظروف الغرق.. وما فعلته الشيوعية بألبانيا غربا فعلت مثله فى الجناح الأيمن للعالم الإسلامى، وهى تستأنف اقتراف الجريمة نفسها فى أفغانستان التى يستقتل أبناؤها فى الدفاع عنها، والمسلمون كأنهم مجموعات من النظارة فى ملعب كرة!!. وبين الحين والحين يرسل إلى مجاهدو الفلبين بأنباء قتالهم مع السلطات الصليبية، ويصفون ما يكابدون من أهوال !. والنشرة التى تأتينى من " جبهة تحرير مورو الإسلامية " أقرأ عليها عنوانا دائما (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) ص _108(1/102)
ويبدو أن الهجوم لا ينتهى لا فى " مورو" ولا فى سائر أقطار أفريقية وآسيا، فما موضع الفرح وسط هذه الآلام النازلة بأمتنا عن يمين وشمال؟. إن نبينا يدعو على طلاب اللذة وناشدي الراحة والخيلاء فى ملابسهم ومساكنهم فيقول: "تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، واذا شيك فلا انتقش"- يعنى إذا أصيب فلا جبر- فإلى متى نهتم بالملابس والمفارش والمظاهر الزائفة، والأمر كما شكا الشاعر: لك الحمد، أما ما نحب فلا نرى ونبصر مالانشتهي فلك الحمد! العيد الحقيقى يوم ندحر الغارات المتوالية على ديننا وتراثنا ووجودنا كله، أما قبل ذلك فلا. * * * ص _109(1/103)
وقاحة المتهجمين على السلف هناك قوم لم تمنحهم الأقدار سعة الأفق، ولا سعة الخلق، فهم يطلقون فى دروب الحياة قذائف موجهة لا يسيطر عليها إلا فكر ضيق، وطبع نزق، وإحساس بالذات، وانتقاص للآخرين... السمة الأولى لهؤلاء أن الرأى رأيهم،. وأن لا مكان لغيرهم، وإذا كان صدام فالحياة حقهم وحدهم، والسوءى لخصومهم، وقد يتزينون ببعض القراءات والطاعات لتعينهم على تحقير الكبار، وتكبير الصغار!. وهل قتل عمر بن الخطاب- أعدل حاكم فى التاريخ- إلا علج من هؤلاء؟. روى ابن مردويه عن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال: نظر رجل من الخوارج إلى أبى " سعد بن أبى وقاص " (رضي الله عنه) فقال: هذا من أئمة الكفر! فقال سعد: كذبت! أنا قاتلت أئمة الكفر! فقال له آخر منهم: هذا من الأخسرين أعمالا فقال سعد: كذبت!. (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم …). الواقع أن الحزن خامرنى وأنا أرى التافهين يخاطبون السابقين الأولين بهذا الأسلوب الفاجر، وإذا كان القادة الفاتحون يعاملون بهذا التجهم والاستهانة فهل يبقى للأمم تاريخ ؟. هل حكى الفرنسيون أن كناسا لقى نابليون فى إحدى الطرق واستطال عليه هذه الاستطالة؟ لعمرى أن سعدا وأشباهه من قادتنا أرجح كفة فى موازين البطولات من قادة أوروبا وأمريكا الذين تلمع أسماؤهم، وتحذف من السجلات هناتهم أو تتجاوز على ص _110(1/104)
عجل، وتضخّم أعمالهم ويشاد بها كى تكون نماذج للأجيال المقبلة. إن نبينا- صلوات الله عليه وسلامه- استبعد من جماعة المسلمين من فقد الأدب الواجب مع الكبار وتعمد خدش أقدارهم فقال: " ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه ". ما أنبله شعورا أن تثنى على عظيم، وتكشف جوانب فضله، وتستغفر الله لما قد يخطئ فيه.. وما أرذله شعورا ألا تؤتى ذا الفضل، وأن تضاعف الأقاويل ضده!. إنني أقول ذلك لأنى لاحظت نابتة من الغوغاء تتتبع الأعلام من رجالنا، بدءا من العصر الأول إلى هذا العصر، فلا ترى سنى إلا ردمته، ولا غلطة إلا كبرتها ألف مرة!. لمصلحة من يتم هذا الجور؟ لحساب من تبدو أمتنا هزيلة فى عالم يحاول فيه النحاف أن يسمنوا؟!. * * * ص _111(1/105)
صمود الدعاة سمعته يقول: سأعتزل الناس، وأحيا بعيدا عنهم كى أريح وأستريح! إن لغط الناس وسعيهم وأملهم ولغوبهم يثير الضجر والمقت! بل إنه يضع حجابا على بصرى وبصيرتي فلا أكاد أرى وجه ربى! ولا أكاد أشعر بلذة المناجاة والتأمل.. قلت له: أما أنك ستريح وتستريح فهذا حق، ولكنك ستريح الشيطان وتستريح من مقاومته، وتتركه يؤدى رسالته دون وجل! وأما لذة المناجاة التى تنشدها فهى لذة الشاعر الذى يصوغ قصيدة رائعة يهيج بها المشاعر ضد الأعداء، أو يثير بها الحنين لاسترجاع المجد المفقود، ثم تبقى عنده قصيدته؟ لأنه لم يجد لها ناشرا !. أخشى يا صاحبى أن يكون فرارك من المجتمع فرارا من الزحف، ونكوصا عن الجهاد...!. إن العبادة الحقيقية لله أن تحرس الفطرة الإنسانية، وأن تشتبك فى حرب دائمة مع البيئة التى تريد تشويهها أو تغييرها! أنت تعرف أن كل مولود يولد على الفطرة، أى على حقائق الإسلام، وأن التقاليد الفاسدة والعقائد الزائفة هى التى تتلقف الأجيال الناشئة وتنحرف بها يمنة ويسرة بعيدا عن الصراط المستقيم.. فكيف تترك المجتمعات يستقر فيها الباطل؟ ويتلاشى منها الحق؟ ويحل الخنا محل الطهر! والكفر مكان الإيمان، والجور بدل العدالة؟ ما يجوز أبدأ الانسحاب من الميدان فيخلو الجو للشيطان. قال: طالما زرعنا، فإما أغار الجراد على الحرث فالتهمه، وإما أغار عليه اللصوص بعد نضجه فانتهبوه! ماذا نصنع؟!. وخلال الحديث اقتربنا من سيارة تخرج من محطتها لامعة الإطارات والهيكل. فقلت لصاحبى ضاحكا: " ما أشبه حياتنا بهذه السيارة! إن وظيفتها الركض الدائم بين المدن والقرى، والتعرض للغبار والأوحال، والاصطدام أحيانا! إنها تعود إلى ص _112(1/106)
البيت للتنظيف والاستراحة القليلة أو الطويلة ثم تعاود الخروج لاستئناف الركض فى دروب الأرض! وإلا فقدت وظيفتها..!. إن عبارة القرآن الكريم فى وصف حياتنا توحى بهذا العناء: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)... ويعجبنى قول شوقى: قف دون رأيك فى الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد وكذلك قول مهلهل: ولست بخالع درعى و سيفي إلى أن يخلع الليل النهار..! * * * ص _113
الماركسية قمة الإلحاد مازلت أؤكد أن الإلحاد ظلمة نفسية لا استنارة عقلية، وأنه كنود طبع لا حدة ذكاء!. وقد كان الإلحاد فيما مضى مرضا فرديا لا وباء جماعيا، وكان صاحبه يذم به ويحذر منه، وإن كان فى عصرنا هذا قد تحول إلى شراء آخر.. على أنى أرفض الاتهام بالإلحاد الذى وجه إلى كثير من الرجال المرموقين، وأسئ الظن بأصحاب هذه الاتهامات!. قالوا: إن أبا العلاء ملحد! ونسبوا إليه شعرا مكذوبا ينضح بالريبة فى الأديان كلها، والرجل برئ، فإن أروع قصائده قيلت فى رثاء فقيه حنفى المذهب، وقد جاء فيها: خلق الناس للبقاء فضلّت أمة يحسبونهم للنفاد إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد! فكيف بعد ذلك يكون ملحدا؟ واتهم ابن المقفع بالإلحاد! ونسب إليه شعر يحن فيه إلى عبادة النار! ولا أدرى كيف يكون صاحب الأدب الكبير وكليلة ودمنة ملحدا؟ والذى أراه أن دوافع سياسية أو شخصية من وراء هذه التهم. وشغف بعض الناس بترويج تلك التهم كان من وراء تأليف الغزالى لكتابه "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة ". وندع ماضينا الأول، وننظر إلى عصرنا الحاضر، إننا واجدون مروقا لا يمكن إنكاره، وزيغا لا يلتمس له عذر! ربما ضل من ضل قديما وهو يستخفى بأوزاره ويشعر بعاره. أما اليوم فإن ناسا لا يرون حرجا من إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنهم من يأمر بترك الصلاة وفطر رمضان، ومنهم من يرفض الحدود والقصاص، وسمعت بغيا تقول: إن تعدد الزوجات زنّا مقنع!!. ص _114(1/107)
وقد نجح الاستعمار الثقافى فى تجهيل كثير من الناس بدينهم وتجريئهم على حدوده وحقوقه. وقمة الإلحاد فيما أراه أن تتألف أحزاب ماركسية علانية، وأن تصل إلى الحكم لتفرض على الجماهير مبدأ: " لا إله والحياة مادة ". إن هذا ارتداد صراح وقاح، وإني لمنزعج من تأليف حكومات عربية على هذا ا لأساس !. وقد راقبت النزاع الدامى بين مراكسة اليمن للانفراد بالحكم، فما رثيت لقتيل ولا حزنت لدمار، وإنما أسفت لشعوب غلبت على أمرها، واستخذت أمام سطوة الإلحاد أيا كان لونه، وعجبت كيف يستفحل الشر على هذا النحو وتكون لأحزابه رؤساء وحقوق ترعى دوليا!. (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * * * ص _115(1/108)
المؤمنون وحدهم يفهمون معنى الحج تبدأ أشهر الحج من شوال، غير أن انطلاق قوافله ينمو رويدا رويدا ثم يتحول إلى سباق ناشط دءوب مع إقبال ذى الحجة. وفى العشر الأوائل من هذا الشهر يبلغ النشاط قمته ويوفى على مداه. فإذا أفواج كثيفة من المؤمنين تزحم البر والبحر والجو مقبلة من المشارق والمغارب إلى البيت العتيق. وتشهد السموات والأرضون منظرا عجيبا.. طائرات تعلو السحاب ملأى بالمؤمنين الهاتفين لله تكاد أصواتهم تغطى ضجيج المحركات. وبواخر تشق عباب الموج مولية شطر البيت العتيق، لها بالتلبية جؤار موصول، أما قوافل البر فقد تلاحقت يطير بها الحنين، إن كانت تجرى على الثرى... وفى هذه المظاهرة التى استوعبت البر والبحر والجو، لا تسمع فيها هتافا إلا باسم الله وحده، يأبى الكون المسبّح بحمد ربه إلا أن يشارك هو الآخر فى التلبية التى يتجاوب صداها هنا وهناك كما جاء فى الحديث: " ما من ملب يلبى إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هنا وههنا عن يمينه وشماله ". إنه أمر جميل أن تبعث الشعوب الإسلامية وفودها إلى بيت الله لتشارك فى هذا الاستعراض الخاشع المنيب.. ولأمر ما كانت العشر الأوائل من ذى الحجة أحب الأيام إلى الله... رأيت رجلا قليل الاكتراث بشعائر الله التى تبرق فى هذه الأيام، وكأنه يتساءل عن سر هذه الزحوف المنسابة إلى مكة، قلت له: نداء الإيمان يتجدد على مر الزمان، ص _116(1/109)
فمن عشرات القرون أوحى الله لإبراهيم: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم .... ). إن اختلاف النهار والليل ينسى، لكن صوت الوحى ما نسى ولا ضاع صداه، بل ظل واضح النبرات لا تزيده الأيام إلا حدّة !!. قال: وما الغاية من وراء هذا الكدّ والضنى؟ قلت: إن الإنسانية واحدة من آدم إلى إبراهيم إلى محمد، شرفها فى معرفتها لله وولائها له وحده، وجهد الشيطان تعكير هذه المعرفة وتقطيع ذلك الولاء، وقد كان إبراهيم نموذجا للنبوات الأولى فى حرب الأوثان ومطاردة الشيطان، وقد بنى فى مكة هذا البيت الخالد شعارا للتوحيد، ومنارا للعبادة المجردة، ثم جاء خاتم المرسلين فأرسى القواعد لألوف مؤلفة من المساجد التى تتبعه فى الوسيلة والهدف، فلا غرابة إذا ارتبطت به وجاء أهلوها فى كل عام يجددون العهود!. وهز الرجل رأسه، فشعرت أن الإيمان لم يدخل نفسه، ومن هنا لا يعرف معنى الحج. * * * ص _117(1/110)
امرأة مترجلة تضيق بالأسلام كانت ذات منصب ونفوذ استغلتهما فى تشويه الإسلام، ومحاربة رجاله، وتنصير قوانين الأسرة، ومساعدة الاستعمار الثقافى جهد الطاقة! ثم شاء الله أن يذهب ذلك كله، ولكن بقى الكره فى نفسها لشراء الإسلام وشعائره.. وذهبت فى سياحة طويلة ثم عادت فوجدت الطالبات محجبات، وجمهرة كبيرة من النساء يملن إلى الاحتشام ويكرهن التكشف والتبرج، فإذا هى تعلن سخطها، وتقول: إن الرجعية عادت! وإن الأمة مهددة بانتكاسة، وإن ما بذل من جهود للنهوض بالمرأة ضاع أو موشك على الضياع..! ولم أعجب لما قرأت، فلم أكن أتوقع منها ولا من أمثالها توبة نصوحا! أما الذى عجبت له فما حكاه صاحبى لى بعد ذلك، قال: إنها طلبت مع بعض النسوة الكبيرات المقام أن يزرن بابا الفاتيكان، وقيل لهن: لا مانع، ومراسم الزيارة معروفة، إن البابا لا يستقبل إلا نسوة مؤدبات محجبات، يبدون فى أزياء الراهبات لا يظهر منهن إلا الوجه واليدان. وقلن فى رضا واقتناع: لا حرج!. ودخلت السيدة التى ازدرت الفتيات المسلمات المستعفات فى ملابس كاملة وزي تام الحشمة! وخرجت من المقابلة قريرة العين، شاعرة بالزهو... لقد فكرت طويلا فى هذا السلوك، إن فتياتنا الشاعرات برقابة الله الساعيات إلى رضائه ارتدين الملابس التى قضت بها آداب الإسلام، فكن موضع غضب هذه المرأة وأشباهها! فلماذا لبست هى لباس التقوى عندما سعت إلى مقابلة رئيس دينى آخر يطلب ذلك؟!!. وعرفت الجواب المحزن، إن بيننا رجالا ونساء يبسطون ألسنتهم فى الإسلام دون ص _118(1/111)
وجل، وينتقصون رجاله دون حياء.. فإذا كانوا خارج أرضه التزموا الحدود المقررة وتقيدوا بالآداب المرعية، بل لو رحلوا إلى بلد يعبد العجول لسارعوا إلى حمل حزم من الحشائش يتقربون بها إلى الإله المصنوع!! هؤلاء الرجال والنساء هم حصيلة سنين طويلة من الاستعمار الثقافى والعسكرى، أفرغ أفئدتهم من الإيمان كله، ومنحهم قدرة خارقة على إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، وتعريف المنكر، وإنكار المعروف. الإسلام وحده هو الذى به يضيقون، ودعائمه وحدها هى التى يهدمون.. وأحقر ما رأيت، منظر امرأة مترجلة تمتطى أحد الساسة لتبلغ على ظهره ما تريد..! * * * ص _119(1/112)
توجيه الشباب المتدين بحثت عن دوافع معقولة وراء اعتراف إسبانيا بدولة إسرائيل فلم أجد، بل وجدت موانع اقتصادية تعوق ذلك الاعتراف، وتجعله لونا من المجازفة أو التضحية!. فهناك استثمارات عربية حجمها ثمانية آلاف مليون دولار تنعش الأوضاع المالية والاجتماعية داخل إسبانيا، وهناك تجارة خارجية مزدهرة بين العرب والإسبان، وهناك علاقات صداقة وتعاون أجدت على إسبانيا كثيرا خلال السنين الماضية، فى مجال السياحة والسياسة على سواء.. ومع ذلك كله فقد قررت الحكومة الاعتراف بدولة إسرائيل، وليكن ما يكون! إن انضمامها إلى الأسرة الأوروبية يفرض عليها روحيا وفكريا ألا تشذ عن مثيلاتها... ثم ما الذى سيقع؟ إن المال العربى سيبقى فى أسواقها يعزز رخاءها، والتجارة الخارجية لن تنكمش بعد هذا الاعتراف! وأفواج السائحين لن تنقطع، فإن المتع المبذولة فى مصايف "الأندلس القديمة" تغرى طلاب اللذة بالقدوم، وما أكثر طلاب اللذة بين أثريائنا!.. لقد نجح الاستعمار الثقافى فى خلق حال من التبلد وقبول الواقع المهين، لو بقيت فلا بقاء معها لعروبة ولا إسلام، ذلك أن اليهود يطوون المراحل إلى غايتهم دون كلال، وهم الآن يضاعفون ضغوطهم على المسجد الإبراهيمى، وقد زارت لجنة من النواب المسجد الأقصى مرتين خلال أسبوع، وهى تفكر بداهة فى إقامة الهيكل على أنقاضه.. إن الشعور الديني يزداد وهجة هناك، بينما يسكب عليه الماء البارد عندنا، وهذا التفاوت أفضل جو لتحقيق الأمانى اليهودية جملة وتفصيلا، وحسب العرب والمسلمين أن توضع قضاياهم فى "ثلاجة" هيئة الأمم، ريثما ترمى فى المخلفات التاريخية بعد حين... إننا نحن الذين نصنع هزائمنا ونخذل قضايانا، وظاهر أن الروح الدينية تختنق فى ص _120(1/113)
كثير من البلاد، لأن الأسلوب الذى رسم لمحاربة التطرف الديني- كما يسمى- قضى على المتطرفين والمعتدلين جميعا.. بين اليهود شيوخ وشباب متطرفون لا يحسنون ضبط عواطفهم كما يفعل غيرهم من لا يقلون عنهم تعصبا، وقد عالج المسئولون هذا النزق بحكمة ودهاء، ونفسوا عن هذا الحماس بما زاد الدولة نجاحا ورسوخا، فلماذا لا نضع سياسة ذكية لتوجيه الشباب المتدين، والإفادة من حرارة إيمانه وعمق إخلاصه؟ إن المشاعر الدينية بين اليهود والمواريث التاريخية بين الأوروبيين والأمريكيين تتلاقى للإجهاز على جيل واهن الإيمان سقيم الوجدان... ولا نجاة إلا بإحياء الروح الإسلامية الشجاعة الفدائية! من الذى يواجه الشباب اليهودى الذى رفع راية إسرائيل أخيرا داخل المسجد الأقصى؟. * * * ص _1 ص(1/114)
لماذا نتخلف ونحن مسلمون ما قيمة الإنسان العربى يوم ينسلخ عن الإسلام، ويستعصى على توجيهه، ويمضى وفق هواه؟ كم يساوى محليا ودوليا من الناحيتين المادية والأدبية؟ لقد نظرت إلى العرب فى تاريخهم الحديث فوجدت الجواب فاجعا! وجدت أن ألف أسير عربى تم تبادلهم مع ثلاثة من الإسرائيليين، وكانت الصفقة فى نظر اليهود رابحة بل مرضية..!. لماذا؟ خيل إلي أن الإسلام بالنسبة إلى العرب كتيار الكهرباء بالنسبة إلى المصابيح التى تعتمد عليه وتضئ به وحده، فإذا انقطع التيار أمست زجاجات فارغة لا توقد بزيت ولا يشعلها عود ثقاب !!. إن الأجناس الأخرى قد تتحرك بفلسفات شتى، وقد تعلو وتهبط بتيارات أخرى. أما العرب فما يمسك خصائصهم العليا إلا دين، فإذا فقدوه عادوا قبائل متفانية، بل عادوا سقط متاع، أو أصفارا فى عالم الأرقام. فلا عجب إذا عودل ثلاثة يهود بألف منهم... ورجعت البصر فى الأحداث الكثيرة التى تلدها الليالى المثقلة، فرأيت ما يضحك ويبكى! ألوف من العرب يزحمون السجون فلا يعتبر حبسهم إرهابا، ولا تقييدهم إذلالا، أما أشخاص يعدون على الأصابع من أمة أخرى فإن اعتراض طريقهم، أو أشخاص يعدون على الأصابع من أمة أخرى فإن اعتراض طريقهم، أو تهديد أمنهم جريمة كبرى، وأزمة عالمية، ولغط الأندية، وشغل المحافل العالمية..!. ما أرخص الإنسان العربي فى دنيا الناس، وما أهون دمه وعرضه، وما أضيع حقه.. لكنه هو الذى فعل بنفسه ذلك كله، إن المنتحر لا يتهم أحد بقتله، فهو قاتل نفسه... ص _122(1/115)
إن الله شرف العرب يوم ابتعث منهم محمدا، واصطفاهم لتبليغ رسالته، فإذا أنكروا هذا النسب ونسوا تلك الرسالة، فما يكون شرفهم بين الناس؟؟.. قالوا: لنا رسالة أخرى، وولاء آخر! ترى ما تلك الرسالة إذا لم تكن الإسلام؟! وما هذا الولاء إذا لم يكن للوحى الأعلى؟. والعجب العجاب أن العرب يبتعدون عن القرآن والسنّة فى الوقت الذى يهرع فيه الآخرون إلى مواريثهم يتشبثون بها ويستمدون منها. قرأت عنوانا على مساحة ثلاثة أعمدة فى صحيفة كويتية يقول: "ريجان يلجأ إلى آيات إنجيلية للدفاع عن النفقات العسكرية " وقرأت لحكام إسرائيل ما هو أدهى وأمر... أما نحن العرب العظماء فلا نقر هذه الرجعية، ولا نحب أن نلجأ إلى نصوص القرآن والسنة لإعزاز أنفسنا، إننا أبناء هانيبال وامرئ القيس، وحسبنا هذا من شرف أو من " قرف "..!!. * * * ص _123(1/116)
حقب مجهولة من تاريخنا هناك عصور فى تاريخنا الإسلامى تكتنفها غيوم غامضة لا أعرف لها سببا، ولا معنى لبقاء هذه الغيوم تحجب الرؤية وتخلق الأوهام!. كان للمسلمين وجود حقيقى فى جنوب فرنسا، وجنوب إيطاليا، وفى جزيرة صقلية، وجزر أخرى فى البحر الوسيط، وقد امتد هذا الوجود قريبا من قرن ونصف، وكانت له آثار علمية واجتماعية بعيدة الآماد، بل كانت هذه الأراضى المعمورة بالإسلام أرقى حضارة وأرحب ثقافة من شمال فرنسا وإيطاليا وأقطار أخرى وسط أوروبا كانت غارقة فى الظلام.. والغريب أن هذه الحقبة من تاريخنا لا تدرس إلا لماما، وقد يكون الدارسون أصحاب غرض فيزورون الوقائع عن عمد.. وفى دراساتى الأخيرة تبين لى أن طوائف من الفرنسيين فى جنوب فرنسا الإسلامى عاونوا المسلمين فى حربهم ضد الشمال، لأنهم رأوهم أعدل حكما أو أكثر تسامحا..!. كما تبين لى أننى- وغيرى من القارئين- كنا على خطأ حين حسبنا معركة "بواتيه" هى التى وقفت الامتداد الإسلامى نحو الشمال، فهذه المعركة كانت مناوشة محدودة، بقى الوجود الإسلامى بعدها عشرات السنين. ولكن أوهاما جريئة أضفت على هذ الوقعة آثارا خيالية، والصحيح أن توقف الزحف الإسلامى جاء من أن مركز الدفع قد ضعف، وأن قوة الموجة قد تبددت، وذلك كله لعوامل داخلية فى الأمة الإسلامية، لا لأن المقاومة الأوروبية كانت صلبة، أو أنها كانت جديرة بالنصر... ص _124(1/117)
أما صقلية، فإن الفقيه المالكى أسد بن الفرات (رضي الله عنه) فتحها فى أثناء شيخوخته، وقام المجاهدون بعزم شديد، ويظهر أنه بعد هذا الأسد اشتغل الفقهاء بقضايا أخرى، فانحسر المد العارم من تلقاء نفسه، ولم يزعم الزاعمون أن هناك "شارل مارتل " آخر هزم المسلمين!! كما تيسر ذلك فى قصة بلاط الشهداء.. أريد من دارسينا أن يتعمقوا البحث فى تاريخنا السياسي والثقافي على سواء، فإننى أحس أننا نكرر أخطاءنا القديمة دون وعى، إن هزائمنا تجئ من داخلنا، نحن الذين نصنعها لا غيرنا: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون). * * * ص _125(1/118)
فساد الإدارة فى غياب الدين قلت يوما: إن الدين قد يضمن لنا آخرة حسنة عندما نلقى الله- جل وعز-، بيد أن ثمرة التدين لا تتأخر إلى ما بعد الموت، أو إلى ما بعد انقضاء هذه الدنيا، إن الإسلام ضمان يومنا العاجل، وحياتنا الأولى، إنه مجدنا هنا قبل أن يكون سعدنا هناك..!. والذين نهكوا قوى الإيمان، ونكسوا فى بلادهم راية الدين بدءوا يتجرعون الآثار المرة لذلك الانحلال، لأنهم خلقوا مجتمعات منحلة كسولا، وأنشئوا أجيالا ظالمة مظلمة لا تحسن صنعا ولا تبلغ هدفا.. والشكوى الآن عالية من ضعف الإنتاج وسوء الإدارة، وهما مرضان يورثان التخلف السياسى والفشل الاقتصادى، بل هما من وراء التخلف الإنسانى الذى يوصم به العالم الثالث، ويحرمه كل تقدير! وما ضعف الإنتاج وسوء الإدارة إلا نتائج ضعف اليقين، وغياب العزم، وسيادة الهوى، وإظلام العقل. كان العامل- أيام الرجعية- كما يقولون- يحسن ما بين يديه، ويخرجه متقنا أو أقرب إلى الإتقان، ويحمد الله على التوفيق، ويتناول أجره فينفقه فى مواضعه المشروعة، ويلحقه من بركات الله ما يمنحه الرضا. ثم تغيرت الأحوال، وامتدت العين إلى مزيد من المتاع، وجمحت الشهوات، فمع الطعام غناء ومع الغناء نساء، ومع النساء خمر، ومع الخمر مخدرات، وأمسى الأمر فرطا، ووقف العامل أمام آلته أو فى إدارته، يطلب حقوقا ولا يؤدى واجبات، ويكثر اللغو ولا يحسن العمل.. ص _126(1/119)
وتعلم من حداة الركب ألا يسمع حديثا عن الله، وألا يتعود التردد على المسجد، وألا يتعلق بالدار الآخرة!. وتراكضت النتائج المفزعة، فإذا الدول ترهقها الديون، وكانت من قبل خالية البال، وإذا الدول الغنية يتفلت ثراؤها من بين أصابعها، ويلوح أمامها شبح الضياع... وكأن الأرض كفت عن الإثمار، وكان من قبل عطاء مدرارا.. وأرسلت عينى إلى أجهزة الإدارة فرأيت العجب! هذا طلب لإنسان يشكو ضرا نزل به، لقد تحولت الورقة الواحدة إلى ملف كبير، وما انكشف ضر ولا تحققت مصلحة!. ولم أدهش عندما قرأت أن أصحاب فرن استخدموا سبعة عشر حدثا مختطفين فى تشغيل فرنهم لمدة سنين، وما انكشف لهم جرم، مع أن هناك تفتيشا يوميا عليهم!. إنه تفتيش على الورق، إن العمل صوري لا صلة له بالواقع، ومثل هذا السلوك لا جدوى منه أبدا.. إن الذى يتحرك فى موضعه لا يقطع مرحلة ولا يحقق هدفا، وتلك حالنا فى غياب الدين، وضعف اليقين، وانقطاع حبلنا مع الله. * * * ص _127(1/120)
السكوت على الظلم أصدرت محكمة فرنسية حكما بالسجن المؤبد على مجرمين قاتلين، وبالسجن أربعة عشر عاما على شريك لهما عاونهما فى الإجهاز على الضحية.. والقتيل فى هذه القضية شاب جزائرى مسلم كان يركب القطار فى فرنسا لشأن له، ورآه فى رحلته المشئومة بعض المجندين الفرنسيين فقرروا قتله بإلقائه من القطار، وهو منطلق بأقصى سرعته!. وتشبث الشاب بأذيال الحياة، وقاوم القتلة بكل ما فى كيانه من قوة، وكلما اقتربوا به من النافذة ليرموه أفلت منهم، وبقى على قيد الحياة، فانتضوا سكاكينهم، وأخذوا يطعنونه، حتى إذا خارت قواه، ونزف دمه، وعجز عن المقاومة، تعاون الأنذال الثلاثة على حمله وإلقائه من القطار لتجهز عجلاته على ما بقى من حياة فى بدنه... وكان فى القطار ثمانون مسافرا يشهدون فى صمت! هذه المأساة، لم يفكر أحدهم فى التدخل لإنقاذ الشاب البائس، ذلك لأنه جزائرى مسلم، وتلك جريمته!. ووصفت المحكمة الجريمة بأنها تدل على عنصرية بغيضة، ولذلك لم ترأف بالمتهمين!!. والقضاء الفرنسى قد ألغى عقوبة الإعدام، ولا يؤمن بشريعة القصاص التى أتى بها العهد القديم.. وليس ذلك ما أقف عنده، وإنما أتوقف عند المشاعر الخسيسة التى حملت ثمانين مسافرا على السكوت، وهم يرون ظلما هائلا يقع على إنسان برئ، واعتداء فاضحا على رجل لا ذنب له إلا أنه جزائرى مسلم... إن الصفة التى استحق بها أهل الكتاب القدماء أن يلعنهم الأنبياء هى التواطؤ على المنكر، والاجتماع على الإثم: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).! ص _128(1/121)
ثمانون مسافرا يشاهدون قتلا عمدا ولا يتحركون، ولا يصيحون، ولا يشفعون! هل قدت قلوبهم من حجارة؟. إننى أعرف المجرم الحقيقى وراء هذه المشاعر المتبلدة! أعرف من شحن القلوب بالضغائن، وحملها على أن تستبيح المسلمين وتتسلى بمصارعهم! إنهم رجال دين ينسبون إلى المسيحية، والمسيح منهم برئ، إنهم عبيد أنفسهم وشهواتهم وليسوا عبيدا لله.. وتحت العنوان الجميل: " الله محبة " يقترفون البهتان، ويزينون للاستعمار التهام الحقوق، وانتهاب الثروات، وإذلال المستضعفين، وقدرتهم على المداهنة باسم الدين فائقة! ولو قدروا لغلفوا قنابل هيروشيما وناجازاكى بعبارة: " الله محبة " ليتم إفناء الأبرياء باسم الله.. * * * ص _129(1/122)
مؤامرات المتاجرين بالدين التعصب الأعمى بعيد عن مسالك المسلمين عامة والعرب خاصة، ولم يؤثر فى تاويخنا الطويل! ما يسمى بالحروب الدينية أو المذابح الطائفية، ولم يتحول الخلاف العقائدى إلى ضغائن متوارثة تستبيح الدماء والأموال على النحو الذى عرفته أوروبا وشقيت به شعوبها قرونا مديدة! ثم شقينا نحن به عندما وقعنا تحت سيطرتها وضاعت منا حرياتنا!. والمسلمون ينظرون إلى مخالطيهم من أهل الأديان الأخرى نظرة بر ووفاء و إقساط، متعبدين لله بهذه النظرة، غير مدفوعين إليها برغبة أو رهبة... وما يعرف فى هذا العصر بالأقليات الدينية، وما يقع عليها أحيانا حيف لا وجود له فى دار الإسلام منذ بدأ الإسلام، بل يمكن القول بأن هذه الأقليات هى أسعد الأقليات فى العالم أجمع.. ويوجد الآن بين ظهرانى العرب المسلمين قرابة ثمانية ملايين مسيحى موزعين على هذا النحو: أقل من ثلاثة ملايين قبطى فى مصر، وذلك وفق آخر إحصاء قام به الجهاز المركزى المختص من بضع سنين، مع إضافة ما زاد بعد ذلك حتى اليوم. كما توجد ثلاثة ملايين أخرى فى هذه الأقطار مجتمعة: سورية ولبنان والعراق والأردن وفلسطين، ونستطيع ضم مليون نصرانى فى جنوب السودان، ومليون آخر فى بقية أقطار المغرب، وسائر أنحاء العالم العربى.. إن هذه الأقليات تحيا موفورة الكرامة مصونة الشعائر بين مائة وأربعين مليونا من المسلمين العرب دون تكلف ولا تعسف... بيد أن الاستعمار العالمى ضائق بهذا الوضع الكريم، وهو يفرض نظرته السياسية وأحقاده التاريخية على العلاقات العربية، والمشاعر الدينية لينحرف بها عن الطريق السوي.. ص _130(1/123)
وقد رفض من نصف قرن إجراء أى إحصاء سكانى فى لبنان، وراغم الواقع مراغمة صفيقة عندما جعل الموارنة أكثر من نصف السكان! ومنحهم حقوق أكثرية مطلقة، وطلب من الكثرة المسلمة أن ترضى بما دون الكفاف فى شئون الحكم والمال والتعليم وصبغة المجتمع !!. والدم الذى ينزف فى لبنان من أحد عشر عاما يرجع إلى هذا الغل المستديم، والإذاعات العالمية تميل إلى تصوير النزاع على أنه تطلع إسلامى رجعى!! ثم هى تحاول نقل جراثيم الفتنة اللبنانية إلى أقطار أخرى، وتلقى فى روع شتى الأقليات أنها أضعاف عددها المسجل من أيام الاحتلال البريطانى لوادى النيل وغيره!. إن السياسات الاستعمارية تتاجر بالدين، وهى آخر من يتحدث عن الضمير الدينى والوحى الإلهى، وعلينا أن نتيقظ لمؤامرات القوم، ونمزق النقاب عن وجهها الكالح وطلعتها المشئومة، فإن هذه السياسات لن تعقب إلا الخراب والشقاق. * * * ص _131(1/124)
تطاول الخونة على الشرفاء الكارهون لله ورسوله ترتفع أصواتهم بين الحين والحين كلما لاحت فرصة تنفس عن غليانهم المكتوم، وما أكثر الفرص مع تعاقب الليل والنهار، ومع تعرّض العالم الإسلامي لضغوط المغيرين على تراثه من شرق وغرب. هناك تقاليد إسلامية ذابت مع امتداد الغزو الثقافى إلى أعماق المجتمع، وهناك خرافات وبدع بقيت- مع استنكار الإسلاميين لها- لأن استبقاء ما يشين الإسلام مطلوب!. ولكنى لم أر أصوات الكارهين أعلى، ولا ضجيجهم أشد إلا عندما طلبت الجماهير العودة إلى شريعة الله..! لقد نطق الأخرس، وهاجم من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وأمسى ذا رأى من لا رأى له، ووسعت الصحف صدرها للتافهين والثرثارين فكتبوا وكتبوا. وطوت وريقاتها عن الناصحين الجادّين، فبدت الساحة وكأن أنصار الإسلام ماتوا... وإذا نشر شئ لنصرة الدين المحرج فكلمات مقتضبة ضعيفة، ربما كان كتمانها أجدى على الإسلام.. شعرت بالضيق ولم أشعر بالخوف، فقد عرفت من كتاب ربي عقبى الحاقدين على الحق مهما أرخى لهم الحبل، إنهم سيجزون به إلى مصارعهم يوما: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم * ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) ص _132(1/125)
لكن غضبى اشتد عندما قرأت كلمات لبعض " الدكاترة "، كانت أدنى إلى النباح منها إلى القول المرسل على عواهنه، يقول هؤلاء: إن المسلمين كانوا يحيون ساكتين لا يطلبون الحكم بما أنزل الله، فما الذى حركهم بغتة وأثار ثائرتهم؟ إن هذا التحريك أتى من الخارج! أى أن الشباب المسلم الحر المؤمن بربه ونبيه يعمل بإيحاء من وراء الحدود، أى يعمل ضد مصلحة وطنه !!. وهكذا تبلغ الجرأة بالمرتدين الخونة أن يتطاولوا على المخلصين الشرفاء، أو تبلغ الجرأة بسماسرة الاستعمار الثقافى أن يتهموا الأوفياء محكل لأصالتهم وعقائدهم. وعندما ينزلق المهاجمون على الإسلام إلى هذا المستوى فلابد من إعادة النظر فى الأوضاع كلها، وفى إعادة وزن هؤلاء الكاتبين، والمآرب التى استخدموا فيها... نحن فى عصر تتحرك فيها أوروبا وأمريكا بدوافع صليبية وصهيونية، وقضايانا المصيرية تتدحرج تحت أقدام اليهود، فكل تهوين من شأن الإسلام إنما يقع لحساب المغيرين! وكل تمزيق لأنصاره مدد لأعداء الله، وكل تحقير لشرائعه وشعائره إنما يتم لحساب المتربصين به: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). * * * ص _133(1/126)
آفة زواج المسلمين بأجنبيات أضحت الهجرة ـ مؤقتة أو دائمة ـ فريضة على كثير من المسلمين الذين يسعون لطلب الرزق أو لطلب العلم، وصار مألوفا فى عواصم أوروبا وأمريكا أن نرى الألوف من العرب والهنود والأتراك وغيرهم يزحمون بعض الأحياء، وينشغلون بما جاءوا من أجله.. والضرب فى أرجاء الأرض خلق إسلامى حسن! أما التقوقع فرذيلة تضير الدين والدنيا معا، ونحن نرفض قول الشاعر الكسول: يقيم الرجال المكثرون بأرضهم وترمى النوى بالمقترين المراميا!! إلا أننى درست ظروف المهاجرين، طورا عن خبرة، وطورا عن أخبار وثيقة، فشعرت بالقلق! وخيل إلى أن خسائرنا تربو على أرباحنا، وأن جماعات المغتربين والسائحين لم تجد من يعني بها العناية الصحيحة، والسبب واضح، فإن هناك سكرة عامة أبعدتنا عن قضيانا المهمة، وشغلتنا بما لا غناء فيه.. إن الحصول على العملة الصعبة قد يكون الباعث الأكبر على العناية بالمغتربين وتتبع أخبارهم.. أما أوضاعهم الروحية والاجتماعية حيث يحلون فشأن آخر!. وأنبه هنا إلى أن كثيرين من المهاجرين يعودون إلى أوطانهم بوجه آخر غير الذى ذهبوا به، هذا إن عادوا! أما الذين تبتلعهم الحياة الجديدة فجمهور فوق الحصر..! هناك رجال يتزوجون بأجنبيات، وتسيطر عليهم عقدة النقص فيتركون ذرياتهم لدين غير الدين ولغة غير اللغة. ومن الدول من يمنح جنسيته لكل طفل يولد على أرضه، أو لكل من تضعه أنثى من مواطنيها.. ص _134(1/127)
وهناك بيوت للشباب تحظى برعاية الكنائس المختلفة، وتقدم المأوى لكل وافد.. وهناك مسلمات " تزوجن " بأشخاص آخرين، وفقدن هويتهن إلى الأبد، وخرج أولادهن إلى الحياة يحملون نسبا غير النسب ودينا غير الدين.. وتيار الحضارة الغربية عاصف، والقادمون من الشرق الإسلامى لم يدربوا على سباحة، ولم يزودوا بالحصانات الواقية، فما ينجو إلا من عصم الله.. ولقد استبنت بعد ملاحظات فاحصة أننا نخسر الألوف فى صمت، وقد نشعر بالرضا لأن نفرا من الفلاسفة والمفكرين أعلن دخوله فى الإسلام! فهل فى هذا عوض عما فقدناه؟! إنه لابد من إعادة النظر فى مجتمعات المهاجرين والمغتربين، ورسم سياسة تعرف الواقع الذى يواجهه هؤلاء، وتقدم عونا حقيقيا يمكنهم من الوقوف على أقدامهم، والنجاة بعقائدهم وأخلاقهم.. وعلى علماء الدين المشغولين بالمجادلات الفقهية والكلامية أن يصحوا لمواجهة الموقف، وإلا هلكوا وأهلكوا. * * *(1/128)
الجزء الأول
ص _008
ما نريده.. وما يراد لنا أنا وأنت وغيرنا من الناس نشترك فى سباق طويل، سباق قد يستغرق العمر كله، نعرف بعده من المخطئ ومن المصيب ؟ من المصلح ومن المفسد؟ من المتقدم ومن المتأخر؟ أو يتكشف فيه السر المطوى فى قوله تعالى (...خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ). وبديهى أن يبذل العاقل قواه كلها للفوز فى هذا السباق، لكن هناك أشياء لا يكترث بها، أو هى ليست فى نطاق إرادته لو اكترث بها تتصل بمكان السباق وزمانه وطبائع المشتركين فيه وأعدادهم.. الخ. ما يدخل فى إرادتى أحتشد له ! وما لا يتعلق لى أتجاوزه!!. من أجل ذلك رفضت الإجابة على سؤال وجه إلى خلاصته: لو خيرت قبل المجيء إلى الدنيا فى العصر الذى تختاره لتحيا فيه، فأى عصر كنت تفضل..؟. قلت للسائل: إن إيمانى بربى، وثقتى فى حسن اختياره لى يجعلانى لا أختار إلا ما اختاره سبحانه وتعالى، فلا أحب أن أتقدم برغبة تخالف ما وقع لى! أنا راض بهذا العصر الذى شاء ربى إيجادى فيه!. قال: حسبناك ستطلب الوجود فى عصر الصحابة! قلت : إن الصحابة خيرة القرون وهم سلفنا الصالح، ومع ذلك فإن النبى عليه الصلاة والسلام ود لو يرى إخوانه! فلما قال له الصحابة: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابى، وإخوانى الذين يجيئون بعدى، آمنوا بى ولم يرونى..!!. والذين يؤمنون بالإسلام ونبيه فى هذا العصر المعنت ويحافظون على شعائر الدين ضد هجوم الإنس والجن، لهم عند الله مكانة صالحة. ص _009(2/1)
وقد يشاركون بعض الأصحاب فى الفضل.. إن الغربة التى يعانيها محبو الله ورسوله لها عند الله ثواب ضخم! ومن العبث التطلع إلى الوجود فى عصر الصحابة. ولكن الرجولة والحزم استغلال الواقع المتاح فى إدراك منزلة حسنة عند الله سبحانه وتعالى قال صاحبى: هل المسافة بعيدة بين ما نريده وما يراد لنا؟ أو بين قدر الله ورغبات البشر؟. قلت: لا أسوق إجابة محددة، وأكتفى بنماذج مما قصه علينا فى الكتاب العزيز عندما كنت أتلو سورة الأنفال. وأتتبع معركة بدر ، قلت لمن حولى : نحمد الله لأن قافلة قريش نجت، وفر بها أبو سفيان!. فسألنى سائل: لماذا ؟ وقد كان الصحابة يتمنون الاستيلاء عليها. وهم على أية حال أولى بها من مشركى مكة ؟. قلت: لو وقعت فى أيديهم ودار القتال من أجلها لقال المستشرقون : جهاد لطلب المال ، وحب الدنيا! من أجل القافلة خرجوا وفى سبيلها ماتوا. وسينسى المرجفون والأفاكون خمس عشرة سنة انقضت فى كفاح مرير وتضحية موصولة قبل معركة بدر! فشاء الله أن تسير الأمور ضد رغبة الأصحاب. وأن تخلص القافلة لعبدة الأوثان ، وأن يتجرد الكفاح لنصرة الحق وطلب الآخرة. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين). وهكذا أراد الله أن يدور القتال لا تشوبه شائبة بين توحيد يرجو الله واليوم الآخر، ووثنية لا ترجو لله وقارا ، ولا تنشد عنده ثوابا. فماذا كانت النتيجة ؟ كسب المسلمون المعركة بشرف باذخ وسطوة اشرأبت لها الأعناق فى جزيرة العرب! ثم ماذا؟ لعل أصحاب القافلة باعوا نفائسها لافتداء أسراهم فى المدينة الظافرة. ثم ماذا أيضا ؟ يحكى أبو تمام فى حماسته أن امرأة فى مكة سُمع صياحها لأن بعيرا لها انطلق فى الصحراء. فقال أحد رجال مكة المكظومين : أتبكى أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود؟ فلا تبكى على بكر ولكن على بدر(2/2)
تقاصرت الجدود! ص _010
ألا قد ساد بعدهم أناس ولولا يوم بدر لم يسودوا! نعم إن يوم بدر قلب موازين الشرك كلها، وخفض رجالا ورفع آخرين، فهل علم من يجهل حكمة الله فى تمكين القافلة من الفرار، وعدم تحقيق رجاء المسلمين فى الاستحواذ عليها..؟. ومثل آخر نسوقه لما نريده لأنفسنا وما يريده الله لنا. دخل يوسف الصديق السجن وهو أبعد الناس عن تهمة، وأحقهما بالتكريم والإجلال، وانتظر على مضض أن يخرج من عالم السدود والقيود! وهيهات. ثم عبر الرؤيا لصاحبى السجن، وشعر بأن رؤيا أحدهما تدل على أن سيكون نديم الملك، فقال له ـ وهو يتلهف على الخروج ـ اذكرنى عند ربك. كلمة مفعمة بالأمل من متهم برىء، يطلب العدالة، وهو أحق الناس بأن تعرف حقيقته وتنشر صفحته.. بيد أن النديم المبهور احتوته أضواء القصور، فنسى رفاق السجن، ونسى الرجل الصالح الذى بشره بمستقبله، وذكره بنفسه، فلم يفعل شيئا ما لإنقاذ يوسف (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين). واليوم فى السجن، ذاهب فى الطول مغرق فى الملالة، فكيف ببضع سنين؟. لكن الأمر بالنسبة إلى يوسف عليه السلام كان له معنى آخر، كانت فترة السجن إنضاجا وإعدادا لمستقبل لا يخطر ببال، كانت تهيئة لأرفع المناصب فى دين الله ودنيا الناس، كانت جمعا للنبوة والملك. واحتاج الملك وحاشيته إلى يوسف فى أعقاب رؤيا محيرة، ولكن الرجل الذى كان متلهفا على الخروج، ينشد له الوسائل الممكنة تريث هذه المرة، وأخذ يشترط قبل أن يتحرك نحو الحرية! (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ). يوسف عندما طلب للملك بعد تلك السنين الطوال كان فى حال نفسية أخرى! لقد بطل سعيه لنفسه، وامتد سكونه لربه، واستكان لِقَدره الغالب، واستراح لما يقع له فى الغد القريب والبعيد. فألهم الله الملك الرؤيا العجيبة؟ أليس هو سبحانه الذى يتوفى الأنفس حين ص(2/3)
_011
موتها والتى لم تمت فى منامها؟ فلم يخرج يوسف من سجنه فى عفو عام، كلا لقد عرف الجميع براءته وتقواه ووفاءه وشرفه. وعندما خرج من ضيق السجن كان الطريق ممهدا أمامه ليضع قدمه فى أى مكان من أرض الله الواسعة (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) إن ما صنعه الله ليوسف أفضل كثيرا مما صنعه يوسف لنفسه عندما قال لرفيق السجن (اذكرني عند ربك) المهم هو التبتل إلى الله، والتأميل فيه، والرضا بقضائه وألا تخون الرجل خصائصه الرفيعة فى الساعات الحرجة!! وما قصصناه آنفا توكيد لحقيقة إيمانية تغيب عن بالنا كثيرا. إننا نثق فى أحكامنا ومشاعرنا وقد نظنها عين اليقين وقد تكون عند البحث عين الخطأ، ومن هنا نفهم قوله تعالى لرجال قد يكرهون نساءهم ويرخصون عشرتهن ويخططون لمفارقتهن يقول لهم: لا تفعلوا، اتهموا هذه العواطف النافرة (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)، من يدرى قد تنجب من هذه الزوجات أذكى الأولاد، وأكرمهم معدنا، وأنضرهم مستقبلا. ويمتد هذا الحكم من ميدان الأسرة إلى ساحات الجماعة كلها، فالشعوب عادة تألف حياة السلام ، وتؤثر رغد العيش. وتكره سفك الدم ومغادرة البيوت والأهل إلى ميادين القتال.. لكن ما العمل إذا تعرضت العقيدة للاضطهاد، والمقدسات للإهانة، والكرامات للضياع؟ إنه لا مفر عندئذ من الحرب والتعرض لمكارهها! ومهما فدحت الخسائر فالنتائج المخوفة أفضل من النكوص على العقبين، وذلك معنى قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)! وقد تحولت أمم عن أرضها مخافة الموت فهل نجت منه ؟ إنها هربت منه فى ميدان فوجدته ينتظرها فى ميدان آخر ، ولو صمدت له فى الميدان الأول لقلت مغارمها ومآسيها فى الميدان ص _012(2/4)
الآخر. وإلى هذا يشير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. ) هل نجوا من الموت بالخروج الذليل؟ كلا ، " فقال لهم الله موتوا.. " ثم أحيا الله بقاياهم بعدما تابوا وآمنوا وتشجعوا وكافحوا وبذلوا على نحو ما حكى القرآن الكريم.. إن الله ـ لأنه حميد مجيد ولأنه كتب على نفسه الرحمة ـ يضع لعباده ما هو أفضل لهم وأجدى عليهم!. وثقتى فى فضله تباركت أسماؤه تجعلنى أستكين لأقداره وإن غابت عنى حكمتها وهناك أمر آخر لابد من معرفته: إن التفاوت بين المخلوقات، وحظوظها من الفضل الأعلى جزء من النظام الكونى السائد، فالناس ليسوا سواء فيما ينالون من عطاء الله، بل فما يقدرون عليه بملكاتهم المادية والأدبية! يوجد امرؤ طاقته أن يحمل على منكبه ثقلا. أو يجر وراءه عربة، ويوجد من يطلق الصواريخ ويغزو الفضاء! والقرآن الكريم صريح فى وجود هذا التفاوت، وخضوعه لمشيئة الله وحده ، إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". الكواكب فى السماء متفاوتة. يقول علماء الفلك: إن الشمس أكبر من القمر نحو ألفى ألف مرة! والملائكة وهم العباد المكرمون متفاوتون .. "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء " والأنبياء وهم أشرف الناس وأنفسهم معادن متفاوتون " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.. ". والظاهر أن هذا " البعض " الذى سما درجات هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فهو قمة الخليقة وعلمها المفرد وأشرف من حمل صفة عبد الله!!. ومع أن التفاوت بين الكائنات من شئون الألوهية التى تغيب عنا، إلا أننا نلحظ نوعا من الارتباط بين التغير النفسى الحاسم وبين الفضل الإلهى المأمول، ولكى يتضح ما نعنى نسوق الأمثلة الشارحة : خاصم الخليل إبراهيم أباه وقومه فى الأصنام التى يعبدونها من دون الله ،وبدأ الخصام نظريا فى(2/5)
قيمة هذه الآلهة المزعومة، وحاول بالأدلة العقلية والمحاورات المتأنية أن ص _013
يقنعهم بعبادة الله وحده لكنهم أصروا على عوجهما.. فكان لزاما على إبراهيم أن يمضى وحده فى طريقه، وأن تتحول مخاصمته لهم إلى اعتزال ومقاطعة. وأن يستوحش من الأقارب والأصحاب إيثارا للأنس بالله وحده ثم يشرع بعدئذ فى بناء مجتمع مسلم يعتز بالتوحيد. ويخطط له على وجه الأرض. ويجادل فيه الملوك وغير الملوك! فماذا صنع الله له؟ قال سبحانه: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا * ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا). إنها مكافأة سخية لرجل كان أمة اعتصم بالله وتحمل فى ذاته الكثير. فجعل الله له ابنه الثانى نبيا ـ بعد ابنه الأول إسماعيل ـ ثم زاد بركته فجعل حفيده من إسحاق نبيا كذلك.. وادخر فى عقب إسماعيل النبوة الخاتمة للرسل أجمعين. إن بركات الله إذا انهمرت لم يقفها شيء. فاللهم أنلنا منها حسنة فى الدنيا والآخرة، فما لنا غنى عن بركتك !!. وفى قصة أهل الكهف مثل لتنامى رضوان الله إلى حدود بعيدة. إن أولئك الفتية أشبهوا إبراهيم فى مخاصمة قومهم عبدة الأصنام، وإنك لترى نضارة الفكر المؤمن فى مسلكهم العقلى. الإيمان لديهم نزعة تقدمية تحترم الحقيقة وتحتقر الخرافة وتجرى وراء الدليل وترفض التقليد الأعمى! " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ". أى هلا أتوا بدليل واضح على ما يزعمون ؟ لكن الباطل لا دليل له. ولا سناد للكذب ولا اعتراف بأصحابه! " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) وجرت سنة الإيمان فى طريقها، ونفر الشباب المؤمن من مشاركة قومهم فى مراسم الوثنية. وقرر الاعتزال والمقاطعة، فكان الجزاء أن خلد الله ذكرهم فى قصص خارق ووحى يتلى أبد الدهر " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ". الغريب أن هؤلاء(2/6)
الشبان بعد رقدتهم المشهورة التى طالت قرونا استيقظوا وهم يحملون ذات العاطفة الناقمة على الشرك وأهله. الموقنة بمصيره الكالح، ونلمس ذلك ص _014
فى توصيتهم لرفيقهم الذاهب لشراء بعض الطعام لهم، تلطف حتى لا يحس بك أحد ، فإن القوم إذا قبضوا علينا أفقدونا ديننا، وهنا الطامة! "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " . يبدو أن النفس البشرية يتم تجميدها على ما ماتت عليه ، لتبعث به يوم النشور دون زيادة ولا نقصان ، سواء ظلت فى نومتها الأخيرة ثلاثة قرون أو ثلاثمائة قرن إن نهاية مشوارها فى الحياة تحدد درجاتها فى هذا السباق الكبير: كم مرحلة قطعتها؟. وكم مرحلة كان يجب أن تقطعها؟ ومن الفرق بين الرقمين يعرف الناشط والكسول والسابق والمسبوق. ص _015(2/7)
بيوتنا ـ وعقولنا ـ فى خطر! العلاقات بين أفراد الأسرة ـ فى أوربا وأمريكا ـ تكاد تكون حبرا على ورق، أو هى عنوان كبير على واقع صغير ، فالولاء للأسرة والرغبة فى جوها والتراحم والتناصر بين أعضائها بقايا قديمة توشك على التلاشى! أو هى تلاشت فى زحام الحياة المادية المشحونة بالأنانية الطافحة والرغبات الخاصة. وكثير من الأمهات والآباء يذهب إلى الملاجئ ليقضى أيامه أو أعوامه الأخيرة على حين يجرى الأبناء وراء مآربهم فى هذه الدنيا، وليلة يقضيها فتى أو فتاة مع من يحب أحلى لديه من مواساة أم عجوز أو أب شيخ... وقد يلتحم شمل الأسرة فى عيد ميلاد ساعة من الزمن ثم ينطلق كل امرئ إلى غايته لا يلوى على شىء، إن المدنية الحديثة جففت العواطف الشريفة بقدر ما ألهبت العقل ، وأذكت المشاعر الخاصة. ونحن نعرف أن الأديان كلها أوصت بتكريم الأبوين ، وتوثيق الروابط بين الزوجين، وتقريب المسافة بين أولى الأرحام مهما تباعدت الشقة. وقد جاء فى القرآن الكريم أن ذلك من المواثيق المأخوذة قديما على بنى إسرائيل!!. والمحنة التى تقلقنا أن تفكك الأسر فى أوربا ينتقل إلينا بسرعة، وأن بر الآباء وصلة الأرحام يوشك أن يتحول إلى ذكريات! وقد صوَّر الأستاذ مصطفى أمين هذه المحنة بقوله " يقشعر جلدى وأنا أقرأ حوادث هذه الأيام! طالب يضرب والده ليعطيه ثمن " الهيروين ". محاسب يطرد والدته من المنزل إرضاء لزوجته. أب يقتل ولده الوحيد بسبب شقة! أب يحرض ابنه على طعن أمه فى شرفها بعد زواج 23 سنة! أم تنتحر أمام أطفالها الثلاثة لأن زوجها ـ وهو عامل صغير ـ رفض شراء تلفاز لها.. ". ص _016(2/8)
إن هذه الملاحظة سبقت إلى نفسى وأنا أطالع الصحف لأتعرف على أحوال المجتمع! شعرت أن أمتنا تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وأن التربية الدينية النابعة من المدرسة ومن المسجد لا وجود لها، وأن فراغ الأفئدة من العقائد وانفلات الطباع من القيود قد بلغا بنا مبلغا مخيفا.. إنه لا حرج على وسائل الإعلام أن تعرض مباراة رياضية فى ساعة ونصف ساعة، يلتف الصغار والكبار حول ما يتخللها من صياح ومجون ، وتتوتر الأعصاب حول النتائج، أما قضاء بعض هذا الوقت فى محاضرة مجدية فلا... ولو حدث فإن المتكلم باسم الدين يملأ الآذان بقضية ثانوية أكثر مما يجتذبها بقول جاد حكيم. ص _017(2/9)
يتحمسون لباطلهم.. ونتراخى فى حقنا! تحدثت مع أمريكى أسم عن موقف بلاده من النزاع بين العرب واليهود، وشكوت أن دافعى الضرائب هناك يتبرعون بثلاثة مليارات من الدولارات صدقة جارية كل عام لكل نازح إلى فلسطين من الرجال والنساء والأطفال الذين يسهمون فى بناء إسرائيل، أى أن لكل فرد ألف دولار أمريكى سنويا..!. فقال لى مصدقا : نعم هذه الإعانات تدرج فى الموازنة العامة! وذاك غير الإعانات التى تصل إلى إسرائيل فى الخفاء تحت عناوين شتى وتبلغ مليارا ونصف.. ثم أضاف: إن عدد اليهود فى بلادنا لا يزيد عن خمسة ملايين. لكنهم قوة مرهوبة فى ميدان الإعلام، والتعليم، والاقتصاد، وأماكن أخرى عميقة التأثير فى الحياة العامة.. وربما أصدر الكونجرس قوانين لمصلحة إسرائيل وحدها، مع أن هذه القوانين ضارة بالمصالح الأمريكية وذلك مثل ما نشر فى صحفكم أخيرا عن رفع جميع القيود التجارية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. لقد أقر هذا القانون فى مجلس النواب بأغلبية هائلة "98.5% " أى أن 416 نائبا صوتوا معه على حين عارضه ستة نواب فقط، وقد حدث ذلك فى الوقت الذى كانت جميع المراكز المسئولة فى الإدارة الفيدرالية تؤكد أن القانون يضر المنتج الأمريكى. إن إسرائيل هى الربيب المدلل الذى نتعب من أجله ونخسر من أجله ونحن راضون!. قلت: أصارحك بما وراء هذا الموقف النابى ؟ إنه نتاج التلاقح بين الفكر اليهودى الكاره للعرب والمسلمين، والنفسية الصليبية المنطوية على الشعور نفسه! حتى إننى أتساءل فى حيرة: هل استغل اليهود النصارى لضربنا؟ أم أن النصارى هم الذين يستغلون اليهود لإذلالنا واستباحة حقوقنا. ص _018(2/10)
وسواء كان هذا الأمر أو ذاك فالنتيجة واحدة، سلسلة من الآلام والهزائم تتلاحق مدنيا وعسكريا ليطيح فيها مستقبل الإسلام وأبنائه. والمأساة لا تكن فى هذا التجمع الحقود، فالقوم منطقيون مع مبادئهم وتاريخهم! إننى قرأت أنباء المظاهرات الصاخبة التى قام بها اليهود المتدينون لمنع العروض المسرحية يوم السبت! فأدركت أن القوم متشبثون بشعائرهم، يرفضون التفريط فى ذرة منها... أما العرب ـ وهنا المأساة ـ فشعورهم الإسلامى فاتر وعملهما لدينهم واهن، وانتماؤهم الجهادى له مضطرب أو منكور، بل إن العلمانية لا تزال شعارهم الغالب! قلت ليس لدى إلا أن أتلو قوله تعالى : " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ". هل يتحمسون لباطلهم ونتراخى فى حقنا؟ أما نثوب إلى رشدنا؟. ص _019(2/11)
هزل فاضح! ليس الدين طلاء خادعا فوق كيان دميم! إنه علاقة بالله أساسها التقوى، والتقوى مسكنها قلب حساس صاح يتحرك بمشاعر الخوف والرجاء، ويتحرى مرضاة الله ، وطلب ما عنده! ومذ بعث الله أنبياءه، وكلفهم بهداية خلقه تقررت هذه الحقيقة حتى يعلم البشر أن : الدين جهاد نحو الكمال، وكفاح لوساوس الإثم قال تعالى : " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا". جاشت هذه المعانى فى نفسى عندما جاءنى فتى يسألنى على استحياء وبقلق: هل صحيح أنك تنكر السنة؟ ففزعت لسؤاله وقلت على عجل: كيف أنكر السنة؟ إن كتابا واحدا من مؤلفاتى ضم أكثر من ألف حديث فأنى تتجه لى هذه التهمة؟ قال: سمعنا من أحد العلماء أنك أنكرت سنة السواك! قلت: عجيب! لقد شرحت فى نظافة الفم وأنا أتحدث عن خلق المسلم قيمة السواك فى تذويب الفضلات وتقوية الأسنان واللثة.. يا بنى إن الذى اتهمنى كاذب إن صح نقلك عنه! فأكد لى أنه يعى ما يقول... ثم تذكرت بغتة أننى نقدت شابا دخل مكتبة عامة فى مدينة كبرى بالولايات المتحدة ، وكان فى زحام الداخلين للمطالعة يضع فى فمه سواكا، يديره يمنة ويسرة ، ويدلك به جوانب أسنانه بقوة، والنظارة ترمقه باستنكار، أو ترمق الدين الذى ينتمى إليه والبلد الذى جاء منه باشمئزاز.. الواقع أن المنظر غاظنى! وتعريض الإسلام للقيل والقال بهذه الصورة لا معنى له. ص _020(2/12)
ماذا على الشاب لو استاك فى بيته واطمأن إلى نظافة فمه قبل أن يخرج من بيته؟ إن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: " لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك لكل صلاة ". فسنة السواك لا تتناول بهذه الفوضى، ولا تعنى أن نقتحم المجامع والمجالس ونحن نبتلع ريقنا أو نقذفه على هذا النحو... ذاك ما كتبته على ما أذكر، لكن رجلا مسود السريرة شاء أن يقذفنى بكراهية السنة النبوية، وأن يجعل قذفه فى حديث عام.. إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم تراث من الحكمة والنور والسمو لا يعرفه إلا من ترشح لذلك بالأدب والخشية والإنصاف ، " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ". إنه من الهزل الفاضح الواضح أن تكون شارة السنة ثوبا أبيض على قلب أسود أو بعض العطور على سرائر متغيرة كدرة! الدين موضوع قبل أن يكون شكلا، وجوهر قبل أن يكون مظهرا ، وحكمة فى الرأس قبل أن تكون شعرا يطول أو يقصر.. !! ص _021(2/13)
إلى الذين يتهموننا بالرجعية! فى حوار مع كاتب علمانى أكدت ما ذهب إليه المحققون أن حركة الإصلاح الدينى فى أوربا تأثرت بتعاليم الإسلام وامتداد سلطانه! قلت : إن تحريم الرهبانية ، وإباحة الزواج لأهل النسك والعبادة جاء من عندنا، وإن مقاومة الاحتكار البابوى لتفسير الإنجيل جاء من عندنا! بل إن اعتبار القربان رمز لا حقيقة جاء من سطوة التنزيه الإسلامى، واستبعاد حلول الله فى مخلوقاته..!. قال لى الكاتب: وما حكاية القربان هذه؟ قلت: يقص الإنجيل أن عيسى قبل أن يصعد إلى السماء تناول العشاء مع حوارييه مودعا إياهم، وفى أثناء الأكل تناول لقمة من الخبز وقال: كلوا هذا جسدى ، وشرب جرعة من الخمر وقال: اشربوا هذا دمى.. فنشأت من هذه الكلمات عقيدة نصرانية تقول: إن الخبز والخمر يتحولان إلى جسد الرب حقيقة لا مجازا! ولما كان القسس خلفاء للمسيح فإنهم فى شتى الأحفال الدينية يحضرون الخبز والخمر ويتلون عليهما كلمات المسيح فى العشاء الربانى، فيتحولان إلى جسد المسيح ، ومع الأكل والشرب يسرى الكيان الإلهى فى البشر ويحل يسوع الرب فى أشخاص الآكلين!. وتضع الكنائس هذا المزيج من الخبز والخمر فى حُق ثمين، وترفعه فوق المذبح ويقع السجود له باعتباره الآله نفسه!. كانت تلك عقيدة المسيحيين أجمعين ، وكانت الكنائس المختلفة متفقة عليها حتى جاء عهد الإصلاح الدينى، وتأثر لوثر وغيره بالمقالات الإسلامية فقرر البروتستانت أن ص _022(2/14)
القربان مجاز لا حقيقة ورمز فقط وليس بابا للحلول... وقد انفرد البروتستانت بهذا الفهم المتأثر بالامتداد الإسلامى وبقى الكاثوليك والأرثوذكس على العقيدة الأولى!... ونحن المسلمين ننكر بشدة أن عيسى عليه السلام شرب قليلا أو كثيرا من الخمر، وندرك أن الخبز يستورد من الأفران، وأن الخمر تشترى من الحانات، وأن تحولهما إلى جسد الآله أمر يتعذر قبوله أو تصديقه. ومن الغريب أن خلافا حادا نشأ فى القرن الماضى بين مجلسى اللوردات والعموم فى إنجلترا: هل القربان المذكور حقيقة أو مجاز؟ انتهى آخر الأمر بغلبة التفسير البروتستانتى.. ونحن نهدى هذه القصص كلها إلى بعض الصحافيين العرب الذين لا هم لهم فى كتاباتهم إلا لمز الإسلام ووصفه بالرجعية! وآفة هؤلاء القوم التصور العلى، والجهل بالدين والتاريخ على سواء. وعلينا استنقاذ الأجيال الجديدة من براثن هؤلاء الأغرار. ص _023(2/15)
العلمانيون والإسلام كتب الدكتور " لويس عوض " يصف العلمانية بأنها الحرية العقلية، واستقلال الشخصية، واحترام حقوق الإنسان، والشعب، والتمشى مع منطق الحضارة... الخ. قلت على عجل : إذا كانت هذه هى العلمانية فكلنا علمانيون! وتذكرت فى خداع العناوين قول القائل إن كان رفضا حب آل محمد! فليشهد الثقلان أنى رافضى.! إن الدكتور لويس من قادة الفكر الغربى المهاجم على أمتنا بضراوة : وهو فكر يتجاوز تراثنا كله ويهيل عليه التراب ويحل محله فكرا آخر يعادى عقائدنا وشرائعنا وتقاليدنا وأهدافنا خصوصا ما يمت منها إلى الإسلامز وقد أصدر الدكتور أحكاما غريبة تتسق مع هذا الفكر الغازى الحقود. فالمعلم " يعقوب حنا " عنده زعيم قومى محترم. وهو رجل خان مصر وانضم إلى فرنسا فى حملتها الشهيرة، وألف فرقة من قومه تساند الفرنسيين فى الوقت الذى اقتحموا فيه الأزهر وربطوا خيلهما بأعمدته!. هذا الخائن الخسيس زعيم كبير. أما الثائر العقلانى الذى لم ينقطع له صراخ طول حياته لتأليب المسلمين على الاستعمار، فهو جاسوس جدير بالنبذ والإهمال.. إن العلمانية ـ كما ترى ـ كره أعمى للإسلام ورجاله، وحب أعمى لمن يخونون قضاياه ويظاهرون خصومه.. وتوفيق الحكيم علمانى عظيم لماذا؟ لأنه فى العهد الناصرى أدركته غيبوبة عميقة فلم يقل كلمة فى مأتم الحرية والشرف ومذابح الإيمان والكرامات التى روعت مصر كلها ص _024(2/16)
ومرغت الوادى المرهق فى العذاب الهون؛ فلما صحا من إغماءته وكتب عودة الوعى كتبه بعد ما وثق حباله بتل أبيب وسائر العواصم التى تقول: خلقت إسرائيل لتبقى..! أما المسجد الأقصى الأسير فمستقبله لا يعنى العلمانية فى قليل ولا كثير! إن العلمانيين متخصصون فى ضرب الإسلام وحده ، وقضايا أمته المهيضة الأجنحة. ومن أغرب ما قرأت محاولة إلحاق العقاد بركب العلمانية! والعقاد مؤلف العبقريات التى أضاءت التاريخ الإسلامى وجلت الآفاق التى يتألق فيها رجاله، وهو الذى ألف للمؤتمر الإسلامى " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه " وداس أفكار الملاحدة الحمر وغير الحمر بفيضه الفكرى الدافق ؛ إنه الرجل الذى لم ينحن يوما لصاحب سلطة على حين رأينا العلمانيين يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع وتسمع لأقلامهم زحاما منكرا كلمت أراد الاستعمار الثقافى زحزحة أمتنا عن معالمها، وشدها بعيدا عن محاور الوحى وتكاليف الإسلام! ص _025(2/17)
يحاربون التدين.. لا التطرف فقهاء الإسلام ودعاته يخاصمون التطرف الدينى ويعترضون تياره فى المجتمع! لكنى لاحظت أن هناك فريقا من الساسة الخبثاء وسماسرة الاستعمار الثقافى يعلنون الحرب على الدين نفسه تحت عنوان محاربة التطرف الدينى. ليس تحجب المرأة تطرفا!، وليس التحاء الرجل تطرفا، وليس اعتبار العربية هى اللغة الأولى للأمة تطرفا، وليس رفض القوانين الأجنبية تطرفا، وليس إيثار التقاليد الإسلامية تطرفا، إن هذا كله دين والتشبث به فريضة والدفاع عنه حق على كل مسلم. ومن ثم فنحن نرفض مسالك كل من يتصايحون ضد هذا الاتجاه، أو يثيرون الريبة حوله، أو يحاولون اتهام أصحابه! ونرى أن عملهم نوع من الفراغ الدينى، والفراغ الدينى أخطر من التطرف الدينى..! إن الفراغ الدينى فى عصرنا هذا كفر بالله والمرسلين، وانسياق مع شهوات البشرية الجامحة، أما التطرف فسوء فقه وقصر نظر، أو جهل بالدين وأهدافه وأوله، ونحن نعانى الأمرين من كلا الفريقين ، فالفارغون من الإيمان تربوا على موائد الاستعمار العالمى، وحكموا على الأمور كلها بمنطقه، وهم يترقبون تصرفا أحمق من بعض المؤمنين ليجتاحوا حقيقة الإيمان كلها، والشعار الذى يرفعونه هو محاربة التطرف ، والغاية التى ينشدونها محو الإسلام ذاته..! ومع كرهى لأعداء الإسلام وخبرتى بأساليبهم فى كيده أعلن أن المتطرفين البله يعطونهم فرصا شتى للنيل منه وإلحاق الهزائم به فى شتى الميادين .. لقينى يوما أحد الشباب ونظر إلىَّ بمقت وقال لى : رأيت صورتك على بعض كتبك! قلتُ : وأنا كذلك رأيتها ، وضعها الناشر على غير مشورة منى، ولو سألنى الرأى ما وافقته! فلما رأيتها ص _026(2/18)
لم أكترث ولم أكتئب. لاشىء هنالك! قال: أليس التصوير حراما ؟ قلت ببرود : لا! قال: لقد مزقت الكتاب، وتواصينا بالتنفير منه ومنك! قلت: قرت بكما عيون أعداء الإسلام، ما يطلبون غير هذا... وجاءنى يوم صديق ، وأخبرنى أنه استأجر خادمة نصرانية لبيته وأنها اشترطت قبل تسلم العمل أن تغيب ساعات يومى السبت والأحد للذهاب إلى الكنيسة!! واستمعت إليه وسرح بي الفكر بعيدا. فلما رآنى شاردا قال لى: فيم تفكر؟ قلت وأنا أعود إلى قضيته من حق فتاتك أن تذهب إلى معبدها غير أنى آسى لجماهير النساء عندنا. فقد انقطعت حبالهن بالمساجد، ما تحرص سيدة ولا خادمة على الذهاب إلى المسجد، لأن المتطرفين صبوا فى آذانهن أن الذهاب إلى المسجد محظور ص _027(2/19)
تواطؤ على تيسير الجريمة شعرت ـ وأنا أرمق القوانين التى وضعها الناس لأنفسهم ـ أن هناك تواطؤا على تيسير الجريمة ، وعطفا على مسالك المجرمين وتباطؤا متعمدا على محاسبتهم وأخذهم بما جنت أيديهم كأن المجرم مهما فدح عدوانه إنسان جدير بالعطف. حرى بالنجاة والعفو! وفى كثير من دول الغرب التى نعجب بها يغتصب وحش فتاة أو أكثر! ثم يقتل فريسته! ثم يقاد بعد محاكمة غريبة إلى السجن ليقضى بقية حياته فى ضيافة الدولة. وفى مشاهدة التلفاز!. إن عقوبة الموت ألغيت فى أغلب هذه الدول. وأعداد من المجرمين يسلبون غيرهم الحياة والعرض، ويقترفون مناكر غليظة تجعل القضاء عليهم عدلا، والخلاص منهم رحمة بالناس. ومع ذلك فضمير القانون الوضعى مستتر وجوبا! أو لا وجود له،! وقد يحكم هذا القانون بالسجن نحو مائة عام على رجل ارتكب جملة جرائم وهو حكم أقرب إلى الهزل منه إلى الجد.. وهناك آثام رفض القانون ابتداء تجريمها، فشرب الخمر ليس جريمة، وتراضى اثنين على فاحشة ليس جريمة ؛ وقد ينظر القضاء الوضعى إلى ملابسات تحيط بإحدى الجرائم ثم يقرر إلغاء العقوبة أو تخفيفها.. وأعتقد أن حاضر العالم ومستقبله محفوفان بالأخطار ما بقى هذا البلاء!. منذ أيام قرأت أن عصابة من الأشرار اختطفت امرأة من رجلها. واغتصبتها. وقبضت الشرطة على بعضهم وفر آخرون! إن هذه القضية سوف تبقى أمام القضاء بضع سنين ، ولا أدرى ما مصير المتهمين؟ ربما قيض الله لها رجلا مسلما حكم بقتل المجرم، وسيكون التنفيذ سرا بعد أن ينسى الناس القصة! ص _028(2/20)
لماذا لا يكون القضاء مستعجلا ، وينفذ حكم الموت فى ميدان مشحون بالخلق حتى تؤخذ العبرة من العقاب المرصد ؟ أليس يقول الله: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " الحق أن واضعى القانون الأرضى ينظرون إلى أنفسهم وأهليهم عندما يشرعون، يضع المرء منهم نفسه أو ولده موضع المجرم؛ ثم يصدر الحكم الذى ينقذه من عواقب سقوطه يقول: الخطأ يُستدرك ! والخطيئة تُغتفر، أما الضحايا فدماؤهم وأعراضهم هدر جرى به قدر! والويل للدنيا كلها من هذه الفلسفة الحيوانية فهى ليست إلا عودة إلى الجاهلية. ص _029(2/21)
مغالطات الفاتيكان فى الوثيقة الأخيرة التى أصدرها الفاتيكان لتبرئة اليهود من دم المسيح لوحظت عدة أمور. أولها: زعم الفاتيكان أن اليهود لم يحاربوا المسيح، ولم يبسطوا إليه أيديهم بالأذى!. وهذا زعم يناقض الواقع التاريخى، كما يناقض نصوص الأناجيل الكنسية المتداولة بين أيدى القوم، التى تقرر أن اليهود هم الذين سعوا إلى الحكام الرومان وحملوهم على صلب المسيح، وإهدار دمه!!. والأمر الثانى : زعم الفاتيكان أن أرض فلسطين هى أرض اليهود القدماء. أجداد اليهود المعاصرين! وهذا كذب.. فإقامة اليهود فى فلسطين كانت طارئة. وقد دخلوها غزاة مقاتلين سكانها العرب الذين عاشوا بها أعصارا أضعاف ما عاش بها اليهود! فكيف يقال للطارئ إنه أصيل وصاحب حق أكثر من صاحب الأرض الأول؟. وثالثة الأثافى فى وثيقة الفاتيكان الزعم بأن وجود إسرائيل فى هذا العصر الأسود هو إرادة الله، أى رضاه بقيام دولة لليهود تعذب العرب، وتخرجهم من بيوتهم إلى العراء، وتعرض رجالهم ونساءهم وأطفالهم للمهانة والإذلال حتى الإبادة... هذه إرادة الله التى لا تقاوم كما يرى الفاتيكان. إننا نحن المسلمين نتلو فى كتابنا " وما الله يريد ظلما للعباد " أما آباء الكنيسة الكاثوليكية فيرون أن إقامة إسرائيل واستبقاءها هما إرادة الله التى تعبر عن رضاه ومباركته... إن الفاتيكان يعلم مسار الفكر اليهودى ونظرته إلى الأمم كلها على أنها مخلوقة من طين نجس، وأنهم ما خلقوا إلا ليكونوا لليهود خدما، وأنهم ليست لهم حقوق مادية أو أدبية بل هم والبهائم سواء... ص _030(2/22)
كما يعلم الفاتيكان ما جاء فى التلمود أن اليهود أحب إلى الله من الملائكة، وأنهم من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه، وأن من يصفع اليهودى كمن يصفع الله، ولولا اليهود لارتفعت البركة عن الأرض واحتجبت الشمس وانقطع المطر.. ويعلم الفاتيكان كذلك ما جاء فى مواريث اليهود الفكرية: أن من يحاكم يهوديا بجريمة سرقة أو غش أو خداع أو زنا ضد شخص غير يهودى فقد اعتدى على حق من حقوق اليهود... يعلم الفاتيكان هذا، وأكثر منه عن إسرائيل! ومع ذلك فقيامها يمثل إرادة الله!! لماذا؟ لأنها تحارب العرب والإسلام! أى أنها تقف معه فى جبهة واحدة بإزاء خصم يجب الخلاص منه... ليت شعرى متى يعرف المسلمون من يتربص بهم ويود لحاضرهم ومستقبلهم البوار!!. ص _031(2/23)
الأقباط فى مصر قرأت ما نشره الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء عن أعداد السكان فى مصر حسب انتماءاتهما الدينية وذلك حتى أوائل سنة 1986 للميلاد، جاء فى هذه النشرة أن عدد النصارى 2.829.349 وأن نسبتهم إلى جملة السكان 5.87%. وكانت معلوماتى السابقة تقترب من هذه الحقيقة، لذلك لم أشعر بشيء من الدهشة، غير أن أحد الناس سألنى: ما تعليقك على هذا الإحصاء؟ قلت: لاشيء عندى! إن الأقباط الذين يقاربون ثلاثة ملايين لهم حقوق أمثالهم من المسلمين لا ينقصون ذرة، وعليهم واجبات ثلاثة ملايين مسلم لا يزادون شيئا ؛ وقاعدة الإسلام من قديم أنهم جزء من الأمة لهم مالنا وعليهم ما علينا.. قال: لا أعنى هذا، وإنما أشير إلى أن هناك شائعات تردد أن نسبة النصارى أكبر!! قلت: إن هذه النسبة معروفة منذ كان الإنجليز يحتلون مصر ويشرفون على ما يقع فيها من إحصاءات عامة، ومن الحماقة تصور أن الإنكليز كانوا يحابون المسلمين بتقليل النصارى! إن المماراة فى هذه المقررات لون من العبث.. قال: لكن بعض الإذاعات تضاعف أعداد المسيحيين فى مصر وغير مصر مثنى وثلاث ورباع، بل قال أحد المذيعين: إن النصارى فى مصر نحو ثلث السكان!! قلت: إنه لم يزعم ذلك فى مصر وحدها! بل قال ما قال عن مصر والسودان والشام وغيرها. وغرض الاستعمار العالمى واضح من ترديد هذه الأكاذيب، إنه يريد إشعار غير المسلمين بأن لهم حقوقا مغتصبة! وأن عليهم مقاومة هذا الاغتصاب، والمناداة باسترداد ما أخذ منهم، ورفض المظالم التى توقعها الكثرة الإسلامية بهم.. الخ. ص _032(2/24)
وفى أيام الاحتلال الأجنبى للشرق الإسلامى كان المثقفون المسلمون مطاردين فى الأجهزة الإدارية، بل إن دخولهم كان ممنوعا فى بعض المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية.. فلما تحررت البلاد، وأخذ الميزان يميل إلى الاعتدال بقى الدس الاستعمارى يريد استبقاء المسلمين غرباء فى بلادهم. ويعتبر لبنان نموذجا مجسما لهذا العوج فالموارنة فيه طائفة أقل من غيرها، لكن الاستعمار شاء أن يجعل زمام الحكم فى يدها، وأن يجعل الرياسة العليا لها، فما أحس الآخرون بالحيف، وتطلعوا إلى العدل رفضت الصليبية النزول عما اكتسبت. وآثرت خوض حرب مضت عليها إلى الآن سنوات طوال.. ويبدو أى منطق الجشع يريد أن يكسب كل شىء ولو على أنقاض المدن والقرى، إنه لا يتصور أن تجمعه مع المسلمين قسمة عادلة!. إن أقليات كثيرة تريد أن تدوس الأكثرية لا لشىء إلا لأنها أكثرية مسلمة. ص _033(2/25)
نطالب نصارى الشرق أطلب من نصارى المشرق ـ وهم يعيشون بين ظهرانى كثرة مسلمة ـ أن يحترموا معانى الإخاء والوفاء والمحبة والعدالة التى يجب أن تفيض ولا تغيض ولهم على المسلمين مثل ذلك! إن الأمة الإسلامية تواجه أياما عجافا ، وهزائم سياسية وثقافية كبيرة، ولا عجب فى ذلك فتاريخ الأمم كلها بين مد وجزر ، وقد يسىء المسلمون إلى ربهم وأنفسهم ويتعرضون بذلك لعقابه، ولم يستثن الله أحدا من سننه الصارمة. بيد أننا إذا كبونا نهضنا. وإذا نسينا ذكرنا ، وسرعان ما نعود إلى الصراط المستقيم الذى انحرفنا عنه. وسرعان ما يعود إلينا بر الله بنا ونصره لنا، فنحن الأمة التى توحده وتمجده وتقدره حق قدره. ومن غبش الفجر، إلى حمرة الشفق، إلى أوائل الليل، تنبعث صيحات المؤذنين من مئات الألوف من المساجد " الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. الخ " ونريد أن نصارح الطوائف التى عاشت دهرا بيننا فنمت وربت على حين فنيت طوائف فى مثل ظروفها. نريد أن نصارحها بأنه لا يجوز استغلال متاعبنا للنيل منا ومحاولة الإشراف علينا! لأن الاستعمار الأجنبى غلبنا ورجح كفتها علينا.!!. إن لبنان يحترق من عشر سنين أو يزيد لأن قلة دينية تأبي إلا أن تسود وتقود وتفرض صبغتها وشعائرها وتميت شرائع الإسلام وصبغته. وقد ألِفت طوائف دينية أخرى أن تزعم أن عددها أضعاف الحقيقة الثابتة فالذين عددهم ثلاثة ملايين أو أقل يصيحون بأنهم ثلاثة عشر مليونا ليكتسبوا حقوقا مادية وأدبية ليست لهم على حساب الكثرة المسحوقة!! ص _034(2/26)
وهناك مقالات وقحة تطالب المسلمين أن ينسوا دينهم تارة فى ميدان العقيدة، وتارة فى ميدان التشريع ، وتارة فى ميدان الانتماء والولاء، حتى لأصبحت القومية الإفريقية أولى بالتقديم من الأخوة الإسلامية!! فللقومية الإفريقية تاريخ أنضر وأزهر فى مجال الحضارة والارتقاء!!. إن الإسلام سوف يتجاوز الكبوة التى عرضت له، فليقصر الذين ينالون منه ويظاهرون عليه وإلا فسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. ص _035
محاذير الزواج من الكتابيات بلغت سطوة الحكم العلمانى حدا بعيدا فى أقطار شتى من العالم الإسلامى، ومكن لها الاستعمار الثقافى وعجز المقاومة الإسلامية حتى وقعت أمور ما كانت لتخطر ببال. لقد سجلت أجهزة الإحصاء فى فرنسا أن هناك 967 امرأة مسلمة تزوجن من فرنسيين، وذاك سنة 1978. وقد أخذ العدد يزيد كل عام حتى وصل 1360 سنة 1980م ، ثم هبط إلى 1002 سنة 1981م. ولا ندرى كم عددهن فى هذه السنة! فنحن المسلمين لا نضبط أحوالنا بإحصاء، إذ أن أمرنا فرط، وشئوننا فوضى. وتقول صحيفة الشعب الجزائرية " فى أغلب الحالات لم يغير الزوج دينه! ثم تناشد علماء الدين فى المغرب العربى الكبير أن يتدخلوا لوقف تزايد زواج المسلمات بالمسيحيين، وتقول: كان نادرا جدا أن يقع هذا أيام الاستعمار!! ". وأقول: إن خسائرنا من الاستعمار الثقافى أضعاف خسائرنا من الاستعمار العسكرى! والمؤسف أن الانحدار مطرد ثم إن ما وقع لا يسمى زواجا!، إنه سفاح وليس بنكاح..!!. قال رجل كان يقرأ معى الصحيفة المحذرة: لا تنس أن هناك إحصاء آخر يقول: إنه فى سنة 1978م تم الزواج بين 2865 فرنسية ومثلهن من المسلمين، وبلغ المسلمون الذين تزوجوا فرنسيات سنة 1981 م 5000 أى تضاعف العدد تقريبا، ولا ندرى ما تم الآن.. قلت: إن كفة الخسائر مع ذلك لا تزال راجحة، فإن هذا النوع من الزواج يقع فى الأغلب بين مسلمين تائهين، ومسيحيات واعيات. ص _036(2/27)
وقد راقبت الأسر التى تكونت على هذا النحو فوجدت الأولاد يشبوا على غير الإسلام ، وشكا إلى رجال أصابتهم هذه المحنة أنهم لما عادوا إلى أوطانهم أبت نسوتهم العودة معهم وبقين فى فرنسا! وفقد الرجل زوجته وأولاده جميعا. الحق أننا يجب أن نراجع قضية الزواج بالكتابيات، هل هن كتابيات حقا؟ وإذا كن كما يزعمن فهل هن محصنات حقا ؟ هل البيئات التى تجعل الاتصال الجنسى حقا مقررا للجسد لا دخل للدين ولا للخلق فيه يمكن أن يوثق بها، وتختار الزوجة من فتياتها؟. إن الزواج عندنا ليس قضاء وطر، وإدراك شهوة حيوانية! إنه امتداد لأمة ذات رسالة، وبناء لأجيال تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. فهل نعى ذلك أم نفقد شخصيتنا ونتبع شهواتنا؟. ص _037(2/28)
لو أنهم حاربوا المباذل والمفاسد! لو أن عشر ما تبذله الصليبية العالمية فى حرب الإسلام بذل فى محاربة الزنا والربا لارتفع مستوى الحضارة الحديثة واعتدل ميزانها وكان للأجيال الجديدة خلق أزكى وكان للتقاليد التى تسود الأرض منهج أرقى.. لكن علماء أهل الكتاب المحدثين صورة طبق الأصل لآبائهم الأقدمين يسلقون الإسلام بلسان حاد، ويدعون شعوبهم تقترف المناكر " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون". اقرأ معى هذه القصة منقولة عن مجلة فرنسية.. كان عمر "ساندرين " اثنتا عشرة سنة، ولما كانت طالبة مجتهدة شديدة الثقة بنفسها فقد حظيت بمحبة أسرتها التى كانت تستقبل " لويس " صديق الفتاة على الرحب والسعة!. بلغت "ساندرين " سن المراهقة، وخاضت تجربتها الجنسية الأولى فى الثالثة عشر من عمرها، وكانت لها الحرية المطلقة فى الخروج، وفى معاشرة من يكبرونها، وقد تعرفت على صديقها " لويس " فى هذا الجو، ونمت علاقتهما بسرعة! وفى عطلة الصيف حصلت "ساندرين " على إذن من أوليائها بالذهاب مع " لويس " إلى جزر الكنارى، ومع عودتها كانت الفتاة حاملا... قالت المجلة: لقد تعمدت ذلك بدافع رغبة صبيانية لا غير! وفى ذلك تقول: لقد كان حبى الأول كنت أريد منه طفلا! أما " لويس " فقد كان موقفه شديد البرود، وكان تعليقه منحصرا فى هذه الكلمات: البنات يعرفن كيف يتصرفن باستخدام الأقراص المانعة للحمل! لقد كانت "ساندرين " تريد طفلا وهذه مشكلتها.. إننى أسأل : هل هذا الوسط يعرف شيئا اسمه الإيمان بالله، وعفة النفس؟ هل سمع يوما أن الزنا حرام، وأن لأعراض النساء حرمة؟ هل مر بخاطره أن هناك شيئا اسمه اليوم ص _038(2/29)
الآخر، وأن كل امرئ يقدم حسابا عن سلوكه هنا على ظهر هذه الأرض؟ وأن كل نفس بما كسبت رهينة؟. إن شيئا من هذا لا يخطر ببال.. إن رجال الدين مشغولون بشىء واحد هو محاربة الإسلام، وشتمه بألفاظ قبيحة لأنه يبيح تعدد الزوجات... إن هذا التعدد سُبة. أما اتخاذ الأخدان وقدرة شاب ذئب على اصطياد ما شاء من فتيات مهما بلغ العدد فأمر لا يستحق الذكر... لست ألوم بابا الفاتيكان على رحلاته التى يهاجم فيها التعدد، ويتناول فيها الإسلام تصريحا أو تلميحا! إننى أتساءل: أين نحن ؟ وماذا نصنع للإسلام؟ بل ماذا نصنع به ..؟ ص _039(2/30)
إنها مؤامرة ضد الإسلام شعر حماة الإسلام أن دائرة الهجوم عليه تتسع فى هذه الأيام. وأن الأشخاص الذين يَتَس مَّوْن بالعلمانيين تزيد حدتهم، وتتفاحش نقمتهم، وتتساقط الأقنعة عن وجوههم. وأريد أن أسلط ضوءا على هذه العصابة يكشف خبيئتها ويفضح ما وراءها.. إذا كانت العلمانية بعدا عن الدين كله كما يزعم أصحابها، فالحقيقة أنها حرب على الإسلام وحده فى أقطاره المهددة بصنوف شتى من الاستعمار الثقافى والاجتماعى والقانونى ولذلك يتعاون فى دعمها الصليبيون والصهاينة والملاحدة جميعا... ومعروف أن العالم العربى يعتنق الإسلام، وأن النصارى، واليهود العرب لا تزيد نسبتهم فى أراضيه بين المحيط والخليج عن 3%، وأن توهين الإيمان وزلزلة دعائمه ستصيب المسلمين أول ما تصيب، بل إن الإسلام وحده هدف الهجوم!. ولا علاقة بين العلم المجرد وبين هذا الهجوم الخبيث. فالعلمانيون أجهل الناس بالإسلام وتاريخه وتراثه وأصوله وفروعه، ولو أنهم شغلوا بعض وقتهم بالتعرف على الإسلام وكتابه وسنته وشروح القدامى والمحدثين من أئمته لكان لهم موقف آخر، بدل تحاملهم الأعمى عليه... وهم مع الاستبداد السياسى حتى يتم قهر الإيمان أو هدم الإسلام بالعبارة الصريحة! وماذا بعد هدم الإسلام؟ استمكان الإلحاد من أمتنا وانفراده بزمامها وانطلاق الغرائز الدنيا تعربد كيف تشاء... وإذا كان العلمانيون يعطون صورا دميمة لأحكام الشريعة وينذرون بالظلام القادم فلنعط نحن صورة للمجتمع الإلحادى بعد أن يتجرد من جميع القيم السماوية: يقول ". لوى بووَلس " فى صحيفة الافتتاحية الفرنسية: قرأت كتاب " ليس الحب أمرا ص _040(2/31)
محزنا " طبعة دار " مازارين " ماذا فى هذا الكتيب ؟ أن علاقة اللواط أمر هين وطبيعى، وأنه لو لم يكن المجتمع متخلفا، وقاهرا لغرائزنا، إذن لكنا جميعا على قدر كبير من الازدواجية.!!. ويقول الكاتب المحافظ الغاضب لقيمه " نلمس فى هذا الكتيب ثناء على من يحترمون الأطفال بإشباع رغباتهم معهم!، كما نعلم منه إمكان علاقة حبب جد مرضية مع المحارم"!!. إن الإلحاد، أحمر كان أو غير أحمر هو انحدار حيوانى سحيق ، والعلمانيون الكافرون بالإسلام المستميتون فى تمويت شرائعه يجرون أمتنا المهيضة إلى هذا المنحدر. ليس لدى القوم علم نناقشه، إن القوى المشغولة بضرب الإسلام تحركهم هنا وهناك ليحولوا أرض الإسلام إلى خرائب ينعق فيها البوم. ص _041(2/32)
إله واحد.. ليس كمثله شىء كان حديثه عتابا شممت منه روائح التحدى! فقلت له: امض فى كلامك، وسوف أصغى بتدبر... قال : تصفوننا نحن النصارى بأننا مثلثون، وهذا باطل فنحن موحدون! قلت: لشد ما يسرنى أن تكونوا موحدين، لكنكم يا صديقى تقولون بإله آب، وإله ابن، وإله روح قدس، وهذه ثلاثة بيقين! فقاطعنى على عجل وهو يقول: إن الابن والروح القدس هما صفات العلم والحياة للإله الآب، إنكم تعترفون معنا بأن الابن يسمى الكلمة، والكلمة هى المعرفة والحكمة أى العلم! وكلمة الروح تعنى الحياة بداهة، فالله واحد.. قلت: أما أن الله عالم حى فذاك حق، لكن من قال إن صفة العلم تعنى بنوة لله سبحانه؟ إن الابن عندكم ذات توصف بالألوهية! فكيف يكون الوصف العلمى ذاتا؟ هل إذا كان شخص أسمر أو أحمر تحولت سمرته أو حمرته إلى شخص آخر يماثل الشخص نفسه؟ قال: لا يماثله، بل هو هو! قلت: هذا يعنى أن المسيح عندما قتل مصلوبا كان معناه أن الآب قتل أيضا، بل قتل كذلك الروح القدس معه، فالكل واحد كما تزعم!. وأمر آخر يحتاج إلى إيضاح، إن لله صفات القدرة والإرادة والرحمة والحكمة فهو بيقين منزه عن ضدها، فلماذا لم تكن هذه الصفات أقانيم هى الأخرى، وتكون الذات الأقدس مكونة من عدد أكبر من الأقانيم؟. يا صديقى سأكمل لك بقية ما قيل لك فأنا به عليم! لقد قيل لك: إن العلم الذى هو صفة يمكن أن ينفصل عن الذات. فيوضع مثلا فى كتاب مع بقائه صادرا عن الذات!!. ص _042(2/33)
وأقول لك: إن ما تحتويه الكتب من معرفة هو دلالة على العلم الأصلى. فلو احترقت هذه الكتب فقد احترق كم من الورق والحبر، وعلم المؤلف هو هو لا علاقة له بما حدث. وقد قيل لك ولغيرك ما يستحيل قبوله لأنه لعب بالألفاظ كلعب الحواة بالأشياء.. إن الله واحد، وماعداه مخلوق له عان لجلاله ، مقهور تحت سلطانه، سواء كان ملكا كجبريل روح القدس، أو نبيا كموسى وعيسى ومحمد، فلا تحاول أن تجعل أحدا ندا لله فإن الله ليس كمثله شىء. ص _043
كلام له خبىء! قال الرجل وهو حيران مضطرب: إنكم تحسبون بنوة عيسى لله نتيجة علاقة مادية أو وقاع جنسى، هذا مستحيل عندنا، فان الإله الابن تولد عن الإله الآب كما يتولد الفكر عن العقل! قلت له: إن للعقل وظائف يقوم بها من تذكر وتفكر وتنبه وتخيل الخ والعقل يقوم بهذه الوظائف دون أن يصفها أحد بأنها ولادة، أو مخاض وإذا قيل إن الفكر يتولد عن العقل فالتعبير مجازى لا حقيقى كما تتوهم ، والفكر الصادر عن العقل أو الرنين الصادر عن الجرس أو الشعاع الصادر عن المصباح أعراض عابرة وليست ذوات قائمة كما تتوهم. فكيف يكون الرنين جسما يتكلم ويتألم ؟ ثم كيف يكون ابنا متميزا وإلها معبودا ؟ هذا تخريف!. قال: أليس يصح فى التعبير العربي: لقد تحدثت مع عبقرية عظيمة ؟ قلت: المعنى صاحب عبقرية؛ إنسان له ذكاء فائق، أما الزعم بأن الذكاء يمشى على الأرض ويقوم ويقعد فهذه حماقة.. ! ذلك والزعم بأن مع الله إلها ثانيا وثالثا شىء لم يعرفه نوح ولا إبراهيم ولا موسى، ولم يدر بخاطر صالح فى ثمود ولا شعيب فى مدين، إن هذا الزعم اختراع من عندكم أنتم وحدكم قلدتم فيه التثليث المصرى والتثليث الهندى وسائر الوثنيات القديمة... قال: لا ، هناك فارق بين تثليثنا وتثاليثهم! إنهم يرون الابن مخلوقا بعد الآب أما ص _044(2/34)
نحن فنؤكد أن الابن قديم قدم الأب نفسه ، ومساو له فى جوهره. قلت: هم جعلوا شركاءهم دون رب العالين ، وأنتم جعلتم شركاءكم مساوين لرب العالمين فأى الفريقين شر من صاحبه ؟ قال : إنكم تفترون علينا فنحن موحدون !. قلت: يا صديقى دلنى على معنى التوحيد فى إيمان يقول: إن الابن إله قديم يساوى الإله الآب فى عنصره، ثم يجىء هذا الإله الثالث وهو مساير للإلهين الآخرين فى قدمه وبقائه، إله مع إله مع إله كيف تكون ذوات ثلاثة ذاتا واحدة ؟. قال: ألم أقل لك إن الإله الثانى هو صفة العلم، وأن الثالث هو صفة الحياة؟. قلت: عندما انفصلت صفة العلم عن الله ، وتحولت جسدا فى بطن مريم هل بقى الله عالما؟ قال: هى مفصولة وموصولة فى وقت واحد! قلت: وتسمون مريم أم الإله؟ قال نعم ! قلتُ : هذا كلام خبئ معناه ليست لنا عقول..! ص _045(2/35)
ولكنكم لا تعقلون! سمعت رئيسا لإحدى الكنائس الشرقية يهاجم الإسلام، ويقول: إنه يتهم المسيحية بما ليس فيها، وأن القرآن لا يعرف المسيحية. وما تقوم عليه من توحيد!. وكان الرجل ماهرا فى التلاعب بالألفاظ إلى حد مثير، يقول: إن القرآن يحكم علينا بالكفر فى الآية الواردة " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد.. " ونحن لم نقل إن الله ثالث ثلاثة، بل نقول: إن الله هو الثلاثة جميعا. ويقول: إن القرآن يصفنا بأننا عبدنا المسيح من دون الله! وهذا خطأ فنحن لم نعبد من دون الله أحدا فإن المسيح هو الله نفسه.!. والقصة التى نسج الرجل فصولها مبنية كلها على الوثوب من لفظ إلى لفظ بطريقة بهلوانية يلتقى فيها المكر بالسذاجة. فعيسى ـ عليه السلام ـ عندنا نحن المسلمين بشر خلقه الله بقدرته كما خلق الآلاف المؤلفة من الناس ! ومهمته على ظهر الأرض أن يعبد الله، وأن يدعو غيره إلى عبادته ! والأمر كله لا يعدو قول القرآن الكريم "لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " فلا هو إله ولا ابن إله ولا جزء من إله ولا صفة لإله، إنه بشر له فضل الدعوة إلى توحيد الله مع غيره من سائر النبيين. وكذلك جبريل كبير الملائكة وأمين الوحى، إنه هو الآخر عبد لله الواحد، وأشرف ما يوصف به أنه مع إخوانه الملائكة " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " فلا هو إله ولا شبه إله، إنه عبد يرجو ويخاف.. وحسب. والزعم بأن جبريل هو صفة الحياة، وأن عيسى هو صفة العلم، والانطلاق من هذين ص _046(2/36)
إلى أن هاتين الصفتين دون سائر الكمالات الإلهية أمستا إلهين مساويين للإله الأعظم ـ هذا الزعم لون من الخبال والإفك لا أساس له. فعيسى وجبريل عبدان لله وليسا أوصافا لأحد، وأنى يكون الوصف ذاتا؟ أو الذات وصفا؟. إن اللعب بالكلام مألوف بين أصحاب الفكاهة! قيل لرجل يبيع الحلوى لماذا اخترت هذه الحرفة ؟ قال كان لى صديق أحبه وكان لسانه ينقط عسلا ، فاخترت بيع الحلوى من لسانه! وقال آخر: اشتغلت أربعين يوما من شهر كذا.. فقيل له: الشهر ثلاثون يوما فقط! فقال استعرت عشرة أيام من السنة القمرية!. ماذا تصنع لرجل يقول: ربنا يسوع المسيح، فإذا قلت له: ربنا الله رب العالمين، قال لك: لا تناقض هذا وذاك شىء واحد! فإذا قلت له: هل عيسى عبد لله ؟ قال لك : بل هو إله مثله. هل هما إلهان؟ بل ثلاثة، وهم جميعا واحد.. ولكنكم لا تعقلون!!. ص _047(2/37)
لما كذبنا على الفطرة يعلم المؤرخون أن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج وهو شاب فى الخامسة والعشرين من سيدة تكبره بخمسة عشر عاما، وأنه بقى معها وحدها سبعا وعشرين سنة. كان خلالها فى شرخ الشباب. وكانت فى خريف العمر.. ويعلمون أنه قبيل الهجرة، وقبل الوفاة بنحو عشر سنين تزوج من بضع سيدات، أحاطت بهن ملابسات سياسية واجتماعية تجعل البناء بهن قضية إنسانية أكثر من قضية إرواء لرغبة جنسية، ولم تكن بينهن إلا بكر واحدة هى ابنة صاحبه أبى بكر. واتفقت كلمة المؤرخين على أن حياة النبى الخاصة قامت على التقشف والإقلال، فما تشبع من طعام، ولا خالطت سيرة المترفين بيته قط، كأنما كان وحده الذى يتحمل أعباء الحصار المضروب على الدعوة الإسلامية، والمطاردة المستمرة للداخلين فيها.. وقد يقول البعض: هذا كله لا ينفى ميوله الجنسية ، على نحو ما! ونقول: ليكن، فما فى الفحولة عيب! ومن الذى قال: إن العجز الجنسى منقبة جليلة؟ وإذا كان قد أحب المرأة، وعدد الزوجات ، فهل تصرف إلا فى نطاق الحلال المأنوس المعروف فى كل الديانات السماوية والأرضية؟ أين فى الكتاب المقدس ـ كما يضعون ما لديهم ـ ما يفيد منع التعدد؟ لقد مارسه الأنبياء ومن دونهم، وبلغت نساء سليمان ألفا. فهل النسوة التقيات المترفعات اللائى صحبن محمدا على السهر والصوم هى نقطة الضعف فى سيرته المتألقة، وجهاده الموصول؟. قد يقول بعض آخر: كان يستطيع الرهبانية! والتسامى عن الشهوة الجنسية! ونقول: إن الشهوة الجنسية ليست رجسا من عمل الشيطان يوم تكون لقاء باسم الله، وامتدادا للوجود البشرى، ومحضنا لأجيال تعرف ربها، ونماء لمشاعر الحنان والرحمة والتعاون بين رجل وامرأة!!. ص _048(2/38)
ماذا حدث عندما كذبنا على الفطرة وجعلنا الرهبانية دينا؟ الذى حدث يندى له الجبين وتسود له الوجوه! ولا يزال إلى يوم الناس هذا مثار اشمئزاز.. ولن ترقى الإنسانية أبدا إلا إذا ألغت نظام الرهبنة، وفهمت منطق الإسلام. ص _049
شهادات نسجلها كارهين هاك شيئا مما كتبه "ويل ديورانت " عن أخلاق الرهبان فى كتابه الضخم "قصة الحضارة " نسجله كارهين، ونهديه إلى من يهاجمون الإسلام من باباوات وكرادلة. فها هو ذا " بترارك " نفسه الذى غمر قلبه الإخلاص لدينه والوفاء لعقيدته ومبادئ شريعته ، يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين فى "أفنيون " والحياة الخليعة التى كانوا يعيشونها. ونقرأ عنها فى روايات " بوكاتشيو"... إذ يتحدث عما فى حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس فى الملذات، طبيعية كانت أو غير طبيعية.. وتكتفى الدلائل الواردة فى مصادرهم بسرد ما تستقذره الطبيعة الإنسانية من طباعهم، فلقد وصف "ماستشيو" الرهبان والإخوان بأنهم "خدم الشيطان "، وأنهم منغمسون فى الفسق واللواط، والشره وبيع الوظائف الدينية. والخروج على الدين ، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقا من رجال الدين. إن سوء حال رجال الدين وقبوعهم فى مرافئ الشطط ، استثار غضب كثير من رجالهم.. فكان " ديكايجيو" يفرغ كل ما يعرفه من ألفاظ السباب، فى التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين. ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم. وغطرستهم،.. وكان للراهبات نصيب فى هذا العوج، حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قربا يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين فى فراش واحد. ويتحدث "أريتينو" عن راهبات البندقية حديثا لا تطاوع الإنسان نفسه أن ينطق به. و"جو تشياردينى" الذى يتسم بالرزانة والاعتدال ينذهل حين يصادفه وصف رومة التى كان يقول عنها: "أما بلاط رومه فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذى لا ينمحى أبد الدهر، وهى مضرب المثل فى كل ما هو خسيس(2/39)
مخجل فى العالم ". ص _050
إن هذه الشهادات قد تخالطها المبالغة وقلة النزاهة ولكن شهد شاهد من أهلها، القديسة كترين السينائية إذ تقول: "إنك أينما وليت وجهك ـ سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين، أو الطوائف الدينية المختلفة أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغارا فى السن أو كبارا ـ لم تر إلا شرا ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة، إنهم كلهم ضيقو العقل، شرهون، بخلاء.. تخلوا عن رعاية الأرواح.. اتخذوا بطونهم إله لهم ، يأكلون ويشربون فى الولائم الصاخبة ، حيث يتمرغون فئ الأقذار ويقضون حياتهم فى الفسق والفجور... ويطعمون أبناءهم من مال الفقراء... ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون ". وليس هذا حال القساوسة فى رومة وحدها، بل لا ينجو من أحبولة الرذيلة.. الكثير من القساوسة فى كل مدينة من مدن شبه الجزيرة الإيطالية ، فلقد كانت البندقية أسوأ حالا من رومة. ص _051(2/40)
نحمده على نعمة التوحيد ذكر الدكتور ثروت عكاشة فى كتابه " تاريخ الفن " الذى أخرجته له "اليونسكو" أخيرا أن المصريين القدماء عاشوا موصولين بعبادة آلهتهم لا سيما الإلهة "ايزيس " التى جاوزت عبادتها مصر إلى غيرها من أقطار أوربا، وكان لها شأن فى رومة نفسها، كما أنها بلغت إنجلترا وحوض نهر الراين " ألمانيا " وغيرها ويظهر أن بعض الأوثان له حظ واسع فإن "هبل " الذى عرفه عرب الجزيرة هو "أوبللو" الذى عرفه الإغريق، وعبده هؤلاء وأولئك على سواء. أليس غريبا أن يهون بعض العباقرة ويكرم بعض الأحجار والأخشاب؟. لأدع ذلك ولأعد إلى تاريخنا القديم، لقد دخلت النصرانية مصر فى ظروف غامضة، ويقال: إن مرقس أول من دعا إليها فى الإسكندرية، ثم أخذت دائرتها تنداح! يقول الدكتور ثروت: غير أن عبادة الآلهة الأولى استمرت فى أماكن متفرقة برغم اضطهاد المسيحيين لكل من بقى عليها. وقد أخذ هذا الاضطهاد مظهر البطش حتى راح المسيحيون يلاحقون بغير رحمة كل من يمتلك قراطيس البردى التى نقشت عليها صور الآلهة، كما كانوا يعبثون برسومها فى المعابد، ويطلقون على الآلهة القديمة اسم الشياطين. وفى الإسكندرية ظهر مذهب "أريوس " الذى يفرد الله بالألوهية ويرى أن عيسى مخلوق لا خالق ، ويرفض أن تكون طبيعته من طبيعة الله، كما يزعم المثلثون!. أقول: وقد تعاون المصريون والرومانيون ـ على ما بينهم ـ حتى هزموا مذهب أريوس وشتتوا أتباعه ثم اختلفوا اختلافا عميقا فى تحديد العلاقة بين أفراد هذا الثالوث، وليس يعنينا نحن المسلمين تصوير مواقف الفريقين لأن كتابنا ينادى هؤلاء وأولئك "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا " ص _052(2/41)
إنما الذى يعنينا أن المتناقضات التى تلاقت فى صلب العقيدة جففت آثارها فى النفوس حتى ظهر فى إنجلترا وغيرها من يقول: إن الله مات..!!. والإله الذى مات هو إله الأقانيم، وليس رب العالمين، فهو الحى الذى لا يموت..! والمراقب من بعد يرى أن النصارى يتجهون أولا إلى يسوع " الأقنوم الثانى "! أما "الأقنوم الأول " فإن الاتجاه إليه محدود! وأما روح القدس فإنه مهمل لا يكاد يذكر إلا تكملة للعدد. ونحمد الله على نعمة التوحيد الحق ! والعبودية الخالصة ص _053(2/42)
لماذا يسكت علماء المسلمين؟ هناك كافرون بالإسلام لا يرون ضرورة لإعلان كفرهم! حسبهم أن صلتهم مقطوعة بكتابه وسنته، وأن إحساسهم بليد بهزائمه وانتصاراته، وأن سلوكهم بعيد عن صراطه ووجهته. لم هذا الإعلان؟ إن لغة الحال أجدى من لغة المقال.. فليسعهم الصمت، ويمكن ضرب الإسلام دون ضجة! لكن هؤلاء الكفرة يواجهون أحيانا ما يرغمهم على كشف المخبوء، وذلك حين يكون المطلوب منهم هدم ركن ظاهر من أركان الإسلام أو إماتة شعيرة من شعائره البارزة... كنت أستمع إلى إحدى الإذاعات العالمية ففوجئت بوزير للتربية والتعليم يقرر ـ لمناسبة افتتاح السنة الدراسية الجديدة ـ رفض تحويل بعض الغرف إلى مساجد تؤدى فيها الصلوات! إن اتجاه الطلاب لإقام الصلاة حركة رجعية يجب صدها، وكلمات الأذان التى تطهر الجو وتطارد الشيطان وتذكر الشباب بربهم لا يبغى أن تسمع!. كيف تكون التربية فى وزارة التربية إذا كانت الصلوات ممنوعة؟. ولمن يكون الهتاف إذا منع الهتاف لله؟ وشىء آخر قرره الوزير الهمام، منع الفتيات من ارتداء الملابس الطويلة! كنت أظنه سيمنع الفتيات من ارتداء " البنطلونات " الضيقة البالغة الضيق، أو القصيرة الفاضحة القصر! لكنه ـ وهو المسئول عن التربية ـ يريد تربية من نوع آخر.. إننى واثق من أن هذا الوزير ما صلى لله ركعة، ولا صان له حرمة، ولا فكر أنه سيلقاه يوما، فما معنى أن يتولى إنشاء أجيال برغمها ـ وهى كارهة ـ على الكفر والفسوق والعصيان؟. ص _054(2/43)
إن اللغة العربية تفقد مكانتها فى برامج الدراسة لتحل محلها اللغة الفرنسية، والرباط القومى أخذ ينحل ليحل محله الولاء للغرب، وهناك صيحة قذرة منكرة تقول: إن باريس أقرب إلينا من مكة!!! إن العرب الذين يكفرون بالإسلام أخبث أهل الأرض وأجدرهم بالويلات المضاعفة، يستوى فى ذلك فعلة الإثم والساكتون عليه! لقد تحرك أولو الغيرة وصاحوا بالقيادة المجنونة أن ترعوى، فما سر الصمت الذى لاذ به الكثيرون. فى مواجهة هذا المنكر الزاحف..؟. إن هناك هيئات عالمية لحقوق الإنسان رق قلبها لما وقع من محاكمات جائرة للإسلاميين فى تونس، وطلبت توفير جو من العدالة للمتهمين، والسؤال الذى نوجهه لعلماء الدين فى المشرق والمغرب : ما أسكتكم؟ أليس فى منع الصلوات ووجوب كشف العورات ما يثير غضبكم لله إن كنتم به مؤمنين.. !. ص _055(2/44)
آفة إرضاء الناس لا بأس أن تكون وسيم الطلعة جميل الثياب! " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق "؟ المهم أن يكون الجمال فى ظاهرك وباطنك سواء! أما أن يكون الشكل حسنا والموضوع رديئا فذلك تناقض ذميم. وقد لاحظ أحد الشعراء أن واقع الناس يستحق المؤاخذة، فهم يهتمون بكمال المظهر وحده ويتعهدون ملابسهم وهيئاتهم تعهدا تاما، أما ما وراء ذلك فلا اكتراث به! قال : أرى حللا تصان على أناس وأخلاقا تهان ولا تصان يقولون: الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان! فى المجتمعات المريضة يقوم التعامل بين الناس على تصحيح الشكل وتزيين العنوان، أما الحقيقة المخبوءة داخل القلب واللب فأمر ثانوى. وهم يقولون : " كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس " فطلب إعجاب الناس أساس ملحوظ فى مسالك شتى. وقد نشأ عن ذلك حرص كبير على إرضاء الآخرين، والنجاة من نقدهم، ثم نما هذا الإحساس حتى أصبح إرضاء الناس هدفا مقصودا، وأصبح الرياء عملة متداولة. هذا يطلب إعجاب ذاك وذاك يطلب إعجاب هذا، وفقدت الفضائل أسسها النفسية المكينة... والفضيلة ـ كما صورها القرآن ـ امتداد لأصل نفسى قائم، وتطلع إلى وجه الله أولا وآخرا.. تدبر قوله تعالى " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة.. " أى أن الخير لا يكون خيرا إلا إذا قارنه انبعاث داخلى قوى ثابت، أما مجرد التجاوب مع الناس والانسجام مع الوضع السائد فلا قيمة له.. هناك من يعرف الحق معرفة جيدة، ولكنه يتركه لأن التقاليد السائدة ضده يقول وهو مهزوم: ماذا أصنع؟ ماذا يقول الناس عنى؟. ص _056
إنه مسكين يعبد الناس ويهمل الحق انقيادا لهواهم، وجمهرة الأمم المتخلفة تعيش بهذا المنطق، كل امرئ يحاول إرضاء الآخرين، والعادات الحمقاء تفرض نفسها بقوة على كل شىء، أما الاستمساك بالفكر الزكى والخلق الرضى فلا مكان له مع اتجاه الدهماء وسيادة الرياء!. ص _057(2/45)
الديمقراطية فى بلادنا قضية الاقتباس والمحاكاة تحتاج إلى وقفة، فإن نقل الشكل لا يعنى أبدا نقل الموضوع والرجل لا يتحول إلى مقاتل شجاع عندما يرتدى لباس ضابط جيش!! مهما كانت صرامة ملامحه ووسامة بزته!. وقد نظرت فى أحوال أمتنا وهى تقلد الغرب المنتصر فوجدتها فى أحسن الظروف تنقل البناء ولا تنقل قاعدته ! فإذا الهيكل المنقول يظل أياما قلائل يسر الناظرين! فإذا هزته الأحداث تحول على عجل إلى أنقاض.. تابعت بإعجاب كيف انهزم حزب رئيس الولايات المتحدة فى الانتخابات التكميلية وفقد الكثرة التى كان يتمتع بها فى مجلس الشيوخ. وتابعت ما أشبه ذلك فى انتخابات اليونان، وما سبق هذه وتلك من انتصار أحزاب اليمين فى فرنسا على الاشتراكية التى يمثلها رئيس الجمهورية!!. وأحسست غُصة وأنا أرمق ما يوصف بالديمقراطية فى البلاد الإسلامية! إننا نقلنا نظام الانتخابات، وقيدنا أسماء الذين ينتخبون، وارتقينا أكثر وأكثر فقيدنا أسماء اللاتى ينتخبن ونظر العالم إلينا ونحن نطبق الديمقراطية الغربية، ولم يحاول أن يكتم ضحكاته الساخرة، فإن ما كان يقع فوق كل محاولة للكتمان! كان ملاك السلطة حواة مهرة يجعلون صناديق الاقتراع تتحول بسحر ساحر إلى تأييد ساحق يشترك فى صنعه الإنس والجن والأحياء والأموات!. وينتهى التنافس الوهمى إلى نصر أشرف منه الهزيمة، وإلى حكم شعبى أشرف منه الحكم الفردى الذى زهد فى التزوير والعبث.. إن هؤلاء نقلوا عن أوربا شكل الديمقراطية ولم ينقلوا قاعدتها الخلقية التى نهضت عليها ، وجوها الثقافى الذى ازدهرت فيه..! ص _058(2/46)
ثم رئى أن هناك من صور الديمقراطية ما هو أجدر بالاقتباس ومما ثبت نجاحه فى العالم الشيوعى نجاحا يغرى بنقله إلى العالم الإسلامى! ذلك أن يرشح رجل وحده للحكم، وينتظر الناس النتيجة بنفاد صبر، حصان واحد يجرى فى ميدان السباق كما قال أحد الكتاب اليوغسلاف!. قال رواة الفكاهة: ورئى الحصان الفذ واجما قلقا قبل أن تظهر النتيجة، فسئل: ما يقلقك! قال: أخشى أن يعاد الانتخاب!!. يعاد بينك وبين من يا أخ العرب!. ص _059(2/47)
من آفات الوثنية السياسية حسدتُ شعوب أوربا الغربية وأمريكا الشمالية واستراليا وغيرها على ما تستمتع به من حرية القول، والقدرة المحصَّنة على نقد الحكام وكشف أخطائهم ومحاسبتهم عليها حسابا عسيرا.. الحاكم هناك ترمقه ألف عين، وتسرع إلى مساءلته على كل تصرف يحتاج إلى شرح، وقد تابعت المحاكمة الإعلامية التى تعرض لها رئيس الولايات المتحدة، وهى أولى دول العالم، ورئيسها أعظم الرؤساء جاها وسلطانا، فرأيت الرجل الشامخ يوضع فى السفود، ويشوى على نار من النقد اللاذع القاسى، ويحاول الاعتذار والتنصل دون جدوى. وتذكرت بيتى الرافعى وهو يصف ما يفعل بخصمه: وللسفود نار لو تلظى بجاحمها حديدا ظن شحما ! ويثوى الصخر يتركه رمادا فكيف وقد رميتك فيه لحما؟ وليس ما وقع من الرأى العام الأميركى بدعا! إن ذلك يحدث فى إنجلترا وفرنسا وغيرهما. بيد أن هذه الحريات السياسية الجليلة للاستهلاك المحلى فى أقطار الغرب، ولا يسمح بتصديرها إلى بلاد أخرى! أو بتعبير أصح لا تفكر أقطار متخلفة كثيرة فى استيرادها لتنتفع بها، حسبها أن تنتفع بسلع اللذة ومواد الترف وثقافة الإلحاد والإباحة.. إن نظرة البلاد الراقية إلى حكامها هى نظرة الناس فى صدر الإسلام إلى الخلافة الراشدة! يقول الخليفة: إن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى!!. حتى الدول الشيوعية التى يشيع فيها الاستبداد السياسى، قلما توضع الأمور فيها إلا بيد أعتى الرجال وأصلبهم عودا وأشدهم مراسا.. ص _060(2/48)
أما البلاد المتخلفة فإن كيمياء الحظوظ هى التى تصنع القادة، وكيمياء الحظوظ هى التى قال فيها ابن الرومى: إن للحظ كيمياء إذا ما مس كلبا أحاله إنسانا! يرفع الله ما يشاء كما شاء متى شاء كائنا ما كانا..!! وقد ينهزم القائد الذى صنعته الحظوظ هزيمة تسود لها وجوه وتخزى بها شعوب ويضيع بها حاضر ومستقبل! ومع ذلك فإن الوثنية السياسية تمدحه ولا تلومه! وتستبقيه ولا تقصيه، وتزور له تاريخا وفلسفة بدل أن تصمه بالعار وتكويه بالنار، ما أغرب حياة الأمم المتخلفة وأسوأ أحوالها!. ص _061(2/49)
الدم الذى لا غاضب له أكتب هذه السطور وجيران المسجد الأقصى مكروبون محروبون، يطاردون فى الطرق، وتلقى عليهم القنابل الحارقة فى البيوت، ويتطلعون إلى الأمان فلا يجدونه! والسبب أن طالبا يهوديا قتل، ولابد من الأخذ بثأره على أوسع نطاق.. قلت: إن شابا عربيا خرج من بيته فى الأسبوع السابق ولم يعد، وتبين أن الجيش اليهودى قتله لأنه كان يسير فى منطقة محظورة ـ كما زعموا ـ فلماذا ذهب دمه رخيصا لا غاضب له؟ وبقى دم اليهودى حارا تزلزل له الأرض، وتنطلق له الرجوم؟. ولم أنتظر إجابة لأنى أعرف ما يقال!، إن العرب هم الذين أهدروا دماءهم وأضاعوا حقوقهم وجرءوا الذئاب على نهشهم. إن تفريطهم فى الإسلام ردهم أحزابا متشاكسة متطاحنة لا يلوى أحد على أحد، فلا عجب إذا طمع فيهم غثاء الأرض، ولن أعجب إذا قيل: داهمتهم الهوام والحشرات... إن اليهودى يجىء من بولندا أو روسيا أو إيران أو اليمن فينسى وطنه القديم ويبتُّ جبله. بل يذكره كأنه فترة مؤسفة فى حياته، ويقبل على عهد جديد من إخاء العقيدة ونسب التوراة والتلمود، والأمل فى إقامة هيكل الرب على أنقاض المسجد الأقصى، وسيطرة بنى إسرائيل على زمام العالم أجمع... أما المسلمون فلهم شأن آخر، إنهم قدموا قرابة الدم على قرابة الدين، ونداء المصلحة على نداء العقيدة، وأطماع ذوى السلطة على حقوق الأمة الكبرى، وأينما رميت بصرك لا ترى إلا الفرقة والخصام... فكيف نلوم غيرنا على ما أوقعناه بأنفسنا؟ إننى قرأت حديثا للبيهقى جاء فيه: " ليأتين على ص _062(2/50)
الناس زمان، ولقيد سوط ـ أو قال ـ قوس الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له أو أحب من الدنيا جميعا " ومعنى الحديث أن المسلمين سيحال بينهم وبين المسجد الأقصى حتى يتمنى الرجل لو كان على مسافة ذراع من المسجد. ولقد وقع ذلك من ألف عام وانتزع الصليبيون المسجد من أهله وظل بأيديهم تسعين سنة، ثم استعاده صلاح الدين على جسر من الأشلاء والدماء. ثم تكررت أسباب فقداننا للمسجد، فوضع اليهود أيديهم عليه، وأمسوا أصحاب الكلمة المسموعة فى مساحته، وإذا مضت الأمور على ما يهوون خربوه، وطردوا أهله، وبنوا فوق خرائبه هيكلهم!. ترى: أنظل على حالنا أم نتغير ليغير الله ما بنا؟ إن اللجَّة التى تحمل العرب الآن ساسة وشعوبا تقودهم إلى الغرق؛ ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. فهل يرتفع شعار الإسلام وترفرف رايته، أم نبقى تحت الرايات الأخرى لنبلغ القاع؟. ص _063(2/51)
الانتفاضة الإسلامية فى فلسطين من خصائص الإسلام أنه كلما حصدت الهزائم والآلام جيلا من أبنائه نبت جيل آخر أقدر على المقاومة وأصبر على الجلاد وأبصر بطرق النجاح.. ولعل تلك الخصيصة سبب بقائه ونمائه على كثرة ما لاقى من محن وواجه من متاعب.. فى عام 1948 سقط نصف فلسطين فى أيدى اليهود إثر هزائم ومؤامرات شاركت فيها هيئة الأمم وقوى الاستعمار العالمى. ووجد عرب فلسطين أنفسهم فى سجن كبير لا يستطيعون الحراك إلا داخل مصيدته، وأحس المسلمون الأحرار أن الدنيا ضاقت بهم وأن الآفاق اسودت أمامهم.. بيد أن الإيمان العميق لا ينهزم مهما كان الحاضر كئيبا، لقد شرع فى هدوء يتحرك ليثبت وجوده، وليتعرض بصبره وأمله إلى روح الله.. كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" تحت عنوان " الاتجاهات الإسلامية بين عرب المناطق المحتلة تتحول إلى ظاهرة سياسية " قالت: فى قرية أم الفحم العربية الواقعة على مسافة ساعة شمالى تل أبيب أقام متشددون مسلمون مواقف للسيارات وزودوها بأماكن انتظار خصص بعضها للنساء والآخر للرجال، وعلى الطريق الخارجى للمدينة، وعلى مسافة بضعة أميال منها توقف "مطعم يونس " عن تقديم الخمور وأنواع البيرة لرواده، وكان ذلك المطعم المكان المفضل للزوار اليهود! وحدث ذلك الامتناع انسجاما مع موجة إسلامية متنامية شملت جميع القرى العربية المجاورة.. بعد ذلك انسحب عدد من الرياضيين العرب من الدورى اليهودى، وشكلوا رابطة لكرة القدم تضم 38 ناديا، وتنتظم فرق القرى العربية فى الأرض المحتلة. قالت الصحيفة الأمريكية: "وفى أثناء اللعب، وعندما يقرع الآذان صوت المؤذن ص _064(2/52)
لأداء الصلاة يتوقف الجميع عن اللعب، ويصطفون أمام القبلة ويقيمون الصلاة فى خشوع، ولا تستأنف المباراة إلا بعد انتهاء الصلاة.. ومن القرى العربية الرازحة تحت الاحتلال فى "الجليل " إلى الجامعات الفلسطينية فى الضفة الغربية، إلى مخيمات اللاجئين المتناثرة بين الشمال وقطاع غزة تسود روح الانتفاضة الإسلامية، ويسرى روح جديد من الانتماء الإسلامى والاعتزاز بالنفس والتراث، والعودة إلى الله بعد ما وقع من أحداث جسام. إن الكفاح الفلسطينى بدأ إسلاميا خالصا تمثله عمامة محمد أمين الحسينى مفتى فلسطين، ومع ضراوة القوى الشريرة، وتكاتف الشرق والغرب ضده فإن اليهود لم يظفروا بشىء، وربما نالوا مواطئ أقدام لهم فى عدة أماكن، إلا أنهم ما أحسوا معها استقرارا، ولا خلص له! كيان، لأن المجاهدين المسلمين ما وهنوا ولا استكانوا. فلما أبعد الإسلام ضاع كل شىء! ولا أمل إلا فى العودة إليه. ص _065(2/53)
صحوة المسلمين فى تركيا قلبى مع الشعب التركى الذى يحن إلى دينه، ويريد الحياة فى ظلاله! الشعب الذى غلبه البكاء وهو يستمع إلى الأذان ينطلق باللغة العربية من المساجد بعد أن خرست المآذن دهرا وحرم عليها دعاء المؤمنين إلى الصلاة بلغة الوحى!. إن الأتراك يحلمون بعودة جادة إلى دينهم، أى إلى مجدهم الباذخ وعزهم القديم ، ولكن الشعب المؤمن يكابد أهوالا جمة وهو يشق طريقه إلى تلك الغاية!. وأعداء الإسلام يرقبون هذه الصحوة الإسلامية بحذر وضيق ويضعون العوائق فى وجهها، وتقول جامعة " بافلو" الأمريكية: إن هذه الصحوة موجهة ضد الثورة الثقافية التى قام بها كمال أتاتورك. وهى بهذا الاتهام تستحث الدولة على ضرب الشعب ، ومنعه من العودة إلى دينه!. وقد قرأت نبأ ندوة أقامتها الجامعة الأمريكية المذكورة عن الاتجاهات الجديدة فى الشرق الأوسط المعاصر! وعقدت جلسة خاصة بالإسلام فى تركيا تحدث فيها الدكتور " إدوارد فيلب " عن الأحوال السائدة فى هذا القطر الإسلامى التى تهب عليه تيارات الفتنة من كل ناحية. استوقفنى أن الرجل اعترف بفشل كل محاولات التكفير والإضلال و "العلمنة " و "التغريب " التى تتعرض لها الأمة التركية من ستين عاما! وبقاء الجماهير متشبثة بعقائدها وعباداتها وتقاليدها الإسلامية وشعائرها وشرائعها، لا تزيدها الفتن المتلاحقة إلا يقينا وصلابة.. ورأى الدكتور المحاضر أن للصحوة الإسلامية المحذورة مظاهر، منها تشييد آلاف المساجد لإقام الصلاة، ولتلقين النشء الجديد دروس القرآن الكريم ، وقد لوحظ إقبال شديد على حلقات التحفيظ. ص _066(2/54)
ومنها ارتداء الطالبات لغطاء الرأس، وإصرارهن على هذا الزى الإسلامى برغم القرار الذى أصدرته إدارات ثمان وعشرين جامعة ومعهدا عاليا بتحريم هذا الزى!. والقرار المذكور كما يمنع ملابس الحجاب ويطارد أصحابها يمنع من دخول الجامعات الطلاب الذين يوفرون لحاهم.. والغريب أن المحكمة العليا أمضت هذا القرار حماية للنظام العام.! ومع هذا كله فدائرة الإسلام تنداح، والجماهير تقبل عليه وتهتف به، وحصون الإلحاد الكمالى تتداعى حصنا بعد حصن، ودسائس الاستعمار العالمى تفتضح يوما بعد يوم، إن الرغوة التى غطت سطح الموج تتلاشى مؤكدة قول الحق: " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ". ص _067(2/55)
آلام المسلمين لعل المسلمين فى هذا العصر هم أكثر الناس آلاما، ولعل أرضهم هى التى يستنسر بها البغاث! إنهم يدافعون عن قضاياهم بالصياح، ويردون السلاح الفاتك باليد العزلاء. ذاك يوم تصحّ فى صفوفهم حركة، ويرفضون قبول الدنية، وإلا فالواقع يفرض نفسه وما أشأم هذا الواقع، وأمر مذاقه. من أجل ذلك أحسست دهشة عندما وصف المسلمون بأنهم إرهابيون، وعندما نشرت جريدة "الموند" الفرنسية تحقيقا أبرزت فيه أن 50% ممن أبدوا آراءهم ذكروا أن الإسلام من وراء العنف الذى يشكو العالم منه!. إن حرب إبادة تتم فى أفغانستان تزهق فيها أرواح المسلمين دونما ضجة تذكر، وحربا أخرى تقع فى فلسطين رميت فيما ألوف الأسر العربية فى العراء، واحتلت مدنها وقراها أسر يهودية قادمة من شرق أوربا وغربها، والقانون الدولى المحترم جعل المالك الطريد إرهابيا لا حق له، وجعل اللص الغالب رب بيت محترما!. ومن أيام أصدرت الكنيسة الإصلاحية فى جنوب إفريقية بيانا صرحت فيه بأن الإسلام عقيدة زائفة! فما غضب المسلمون وتظاهروا رافضين هذا الوصف الحقير، ضربوا بالسياط، وألقيت عليهم القنابل المسيلة للدموع! وتقاسم المسلمون والملونون لذع الإهانة والازدراء والتفرقة، والعالم كله يسمع ويرى. أما مسلمو الفليبين وبلغاريا وألبانيا فإن الويلات تحل بهم فى سكون، ولا يكترث بهم أحد. بل إن الإسلام فى أرضه يتنفس بصعوبة، ولا يؤذن له أن يبسط تعاليمه فى ساحات أبعد عنها عمدا..!. ومع ذلك فالمسلمون إرهابيون! وهم مصدر العنف الذى يفزع العالم منه... ص _068(2/56)
مطلوب منا أن نلعق جراحنا ونبتسم للجلادين الذين يلهبون ظهورنا!. مطلوب منا أن نعتبر حقنا باطلا وباطل غيرنا حقا! مطلوب منا أن نكون كما قال الشاعر: إذا مرضنا أتيناكما نعودكمو، وتخطئون فنأتيكم ونعتذر من الملوم ؟ المجرمون الذين استباحوا حرماتنا دون قلق؟ أم المستباحون الذين أهدرت كراماتهم، وديست شعائرهم وشرائعهم فلم يفزعوا إلى المقاومة المستميتة؟ إننا فى عالم قلبت فيه الحقائق وخون فيه الأمين وائتمن الخائن وليت المسلمين فيه يملكون ما يخيف المعتدى، ويردع الكذوب!! ص _069(2/57)
منطق المجرمين واحد تزوير العناوين: أو تحريف المفاهيم، أسلوب شائع فى محاربة الحق ومطاردة أهله مع مجافاته الشديدة للواقع المقرر المأنوس، فالرجل يدافع عن أرضه وعرضه وتاريخه وتراثه يوصف بأنه إرهابى! والطارئ المغير الذى يغتصب التراب الوطنى ويقيم فوقه سلطة أجنبية يوصف بأنه صاحب حق..!. وقد كنت أحسب هذا البلاء بدعة العصر الحديث الذى بلغ الغاية فى تشويه الحقائق! ولكنى بعد تأمل قريب وجدت منطق المجرمين واحدا وإن تطاولت القرون! لقد حكى القرآن الكريم مقالة فرعون لما استباح دم موسى وقرر قتله "وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"!!. فرعون الغيور على الدين المحب للصلاح والإصلاح يخاف من أن يفسد موسى فى الأرض وينشر فيها الفوضى! أى أن موسى إرهابى لا يستحق البقاء!. المنطق نفسه الذى يعلنه " المستعمرون البيض " فى جنوب إفريقية للخلاص من السود، والذى يلوذ به الصليبيون فى الفليبين للقضاء على المسلمين فى الجنوب. هؤلاء المسلمون الذين كانوا إلى قرن مضى جمهرة السكان، وأصحاب الأرض الخصبة هنا وهناك، فمازال الغزو الطارئ يلحّ عليهم ويدحرجهم قبيلا بعد قبيل ، حتى ألجئوا إلى مساحة من الأرض تضيق بدينهم ودنياهم على سواء!. وبين الحين والحين أسمح مصارع " مسلمين أصوليين " فأستغرب العنوان وأبحث عن الحقيقة.. إن القتلى المضطهدين لا يطلبون أكثر من العيش داخل إطار الإسلام، بيد أن هذا الإطار مرفوض والمعالنة به لون من الإرهاب!. ص _070(2/58)
اقرأ معى هذا الخبر الذى ختمت به صحيفة " نيويورك تايمز" مقالا لها عن الحالة الإسلامية فى إسرائيل، قالت الصحيفة " فى الضفة الغربية انتهت مسابقة أجراها طلاب الدراسات الإسلامية فى جامعة " بيرزيت " واشترك فيها 400 طالب بصياح انطلق من كل حنجرة بحماس شديد يقول: أنا مسلم، وعربى، وفلسطينى! ". وعلقت الصحيفة على ما حدث قائلة: كان هناك طالب علمانى يراقب هذا المشهد عن كثب ويصفه بأنه نوع من التخويف!. الانتماء الإسلامى نوع من الإرهاب، أما أى انتماء آخر فلا حرج ولا ضير!. ص _071(2/59)
من يخدم عقيدة التوحيد قلت لرجل عاش طويلا فى الاتحاد السوفييتى، وقضى زمانا مماثلا فى الولايات المتحدة ، إنك خبرت الحياة الداخلية فى الدولتين العظميين، وعرفت طباع القوم الفردية والاجتماعية فحدثنا عنهما، وتجاوز السلبيات التى تعرفها!. قال: ما تعنى بالسلبيات ؟ قلت: لا تحدثنا عن شيوع الخمر، وإدمان الجماهير لها، فهم يعاقرونها ويلعنونها! ولا تحدثنا عن انطلاق الغرائز الحيوانية ، فهم يرون ذلك نداء طبيعيا لا معنى لوضع العراقيل أمامه! ونحن المسلمين نعرف زيغ هذا المسلك ، ونوقن بأن موسى وعيسى ومحمدا يرفضونه! غير أن العراقيل التى رفضوا وضعها أمام الحرام وضعناها نحن أمام الحلال ، فأمسى الزواج فى عالمنا الإسلامى قاصمة الظهر. على أية حال أرجو أن تعدو هذا الجانب، وحدثنا عن الجوانب الأخرى للأمتين اللتين تتصدران الآن قافلة البشر.. سكت الرجل قليلا ثم قال: السمة الأولى فى هذه البلاد هو العمل الدائب الذى لا تنقطع حركته، ولا تهدأ ضجته، ولا تستريح الجماهير منه إلا لتعود إليه على عجل. كأنما كانت راحتها استجماما مؤقتا تستأنف بعده الكدح واللغوب!. من مطلع النهار ترى سيولا من المشاة والركبان حثيثة السير إلى غايتها، سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، حتى إذا باشروا أعمالهم اشتركت الجوارح والمشاعر والأفكار والآلات والأجهزة والتقاليد فى جهاد هائل للإنتاج المطلوب، أو المفروض، ولا تضع هذه الحرب أوزارها إلا مع مواعيد الراحة المقررة ، ثم يدور دولاب العمل مرة أخرى لا يقفه شىء !. قلت: أهذا النشاط المحموم فى روسيا وأمريكا على سواء ؟ قال : نعم على سواء وإن ص _072(2/60)
اختلفت البواعث، فالذى لا يعمل فى روسيا يموت جوعا ، إن ضمانات الأكل والسكنى لا تكون إلا مع بطاقة العمل، وفى أى ميدان ترسمه الدولة!. قلت: وفى أمريكا ؟ قال : إن الأمريكى يبنى بيته. ويشترى متاعه. ويفصل بدلته ويقتنى سيارته بالأقساط التى تدفع شهريا، فهو يقبض مرتبه ليحوله إلى هذه الجهات التى أقرضته، وإلا جاع وضاع!!. واستأنف الرجل حديثه: هناك سباق رهيب فى الحقول والمصانع والأسواق والمدارس والمجامع جعل هذه الأقوام تبذر وتحصد القناطير المقنطرة!!. قلت: وجعل من ينكر الألوهية قديرا على خدمة إلحاده، ومن يجعل الآلهة ثلاثة قديرا على خدمة شركه.. ترى ما القوى التى تخدم عقيدة التوحيد؟. وما الإنتاج الذى يظاهرها فى حرب أو سلام ؟؟. ص _073(2/61)
جورباتشوف والمسلمون نشرت المجلة الفرنسية " اكتيالتى " مقالا قصيرا له عنوان مثير " الـ K.O.B ضد محمد ". تعنى أن المخابرات الروسية تخاصم صاحب الرسالة الخاتمة.. جاء فى هذا المقال أن جمهوريات الاتحاد السوفييتى فى آسيا الوسطى ضاعفت هجومها على الإسلام خلال الأشهر الأخيرة، وشددت النكير على طوائف المسلمين الذين يعيشون فى هذه الأقطار ـ وهم الكثرة الساحقة من السكان ـ بغية صرفهم عن دينهم وتزهيدهم فى عقائدهم وعباداتهم. وقد لوحظ أن جماهير متحمسة أخذت تكثر من زيارة قبر " قربان مراد هشام " قائد المقاومة الإسلامية للغزو الروسى إبان الحكم القيصرى! وهى مقاومة باسلة شجاعة حاول فيها مسلمو تركستان رد الجيش القيصرى الصليبى على أعقابه. ومع استماتة المسلمين التى ضرب بها الأمثال فقد عجزوا عن رد الغزاة، واحتل الصليبيون الروس البلاد ثم ورثها عنهم المستعمرون الحمر وفشل المسلمون مرة أخرى فى استنقاذ أنفسهم وتراثهم، ومع ذلك فإنهم لم ييأسوا أو يستكينوا بل ظلوا مثابرين على الاحتفاظ بمقوماتهم الروحية والتاريخية.. وقد ذكرت صحيفة " سوفيت أوزباكستان " أنه تم حل جماعة إسلامية نشيطة تعمل داخل البلاد لإحياء الإسلام، وحكم على زعيم هذه الحركة بالسجن سبع سنين ـ وهو عامل فى "طشقند " العاصمة وأودع السجين فى معسكر معروف بالقسوة والشدة!. كانت الجماعة المنحلة توزع كتيبات ثقافية محررة باللغتين العربية والأوزباكية، كما كانت توزع أشرطة سجل عليها القرآن الكريم. وصرحت الصحيفة الشيوعية أنه فى الفترة نفسها تم إغلاق مدرسة غير قانونية تقوم ص _074(2/62)
بتحفيظ القرآن وتعليم الإسلام. وتبين أن المدرسة يديرها " ملاَّ " مجهول!!. إن اشتعال الروح الإسلامية شرق ووسط الاتحاد السوفييتى أغضب "جورباتشوف " زعيم روسيا الكبير، وحمله على المطالبة الملحة بإعلان حرب جديدة على الإيمان والقضاء على بوادر عودته بسرعة وحسم، وتغيير عدد من الزعماء المحليين المعتدلين.. إن الصحوة الإسلامية تنساح فى أرجاء العالم الإسلامى كله. وتهز بالحياة كيانا طالما أغفى واسترخى!!. فهل يدرى العرب ذلك؟ وهل ترصد صحفهم هذه الحركات النبيلة ؟ أم سنعرف أنباء إخوان العقيدة من الصحافة الأجنبية ؟ ص _075(2/63)
ماذا فعلنا لهم؟ المسلمون فى الاتحاد السوفيتى يزيدون على ربع السكان وهم كثرة فى شرقه وجنوبه وقلة مبعثرة فى وسطه وشماله ، ومع أن البقاع التى يسكنونها مصدر قوة وغنى للروس فإن جمهرة المسلمين مغموطة المكانة ضائعة المستقبل. عندما كانت روسيا تحت حكم القياصرة كان المسلمون يعاملون بوصفهم كفارا خضعوا للكنيسة الشرقية! وعندما سقطت الكنيسة فى أيدى الثوار الحمر الكارهين للدين كله تحمل المسلمون كفلين من العذاب. وانضم إلى التعصب القديم تعصب جديد..!. وقد تابعت التغير الذى طرأ على الإدارة الشيوعية فى عهد زعيمها الجديد " ميخائيل جورباتشوف " وحاولت أن أستبين أبعاده فماذا وجدت؟ الرجل يحاول تنشيط الاقتصاد الشيوعى حتى يلحق فى الجودة والغزارة بالاقتصاد الغرب، ويريد أن يتولى المناصب الكبرى رجال أقدر وأذكى وأحب إلى الجماهير! ويريد أن يداوى ضعف الحوافز وشدة الصرامة وقصر النظر فى الرياسة المركزية لشتى الصناعات والزراعات... هذا ما سُمى انفتاحا فى السياسة الجديدة، إنه انفتاح يعين على اللحاق بدول أنجح وأقدر على ترفيه الشعوب.. أما الناحية التى تهمنا فإن الرفيق " ميخائيل " ضاعف الدعوة إلى الإلحاد ، وشن غارات أوسع على اليقظات الدينية، وقاوم كل نزعة إلى الإيمان بالله. وكان نصيب المسلمين كبيرا من هذا البلاء إذ طرد بعض زعمائهم وأحكم الرتاج على أنشطة علمية واجتماعية كان المتدينون ينفسون بها عن أنفسهم... ومع سخطنا الشديد على هذا العمى المضاعف ، وألمنا لعشرات الملايين من المسلمين البائسين فإنى لا أملك إلا أن ألوم نفسى وإخوانى.. إن اليهود فى الاتحاد السوفيتى أقل من 2% من عدد السكان ، ومع ذلك فقد وصلوا إلى مناصب علمية حساسة! ونالوا جوائز عالمية فى ص _076(2/64)
أهم الثقافات وأعلاها قدرا، وسمعت أصواتهم مدوية فى قصة حقوق الإنسان، واستعدت فئات من العامة والخاصة للهجرة إلى إسرائيل كى تدعم مستقبل اليهودية!. ما الذى شغل المسلمين عن هذه الأنشطة ؟ ما الذى أخفت صوتهم فى هذه الساحات . أخشى أن تكون الثقافات المغشوشة والخلافات فى الفروع الفقهية قد خدَّرتهم أكثر مما خدرتهم الشيوعية نفسها، وهذه هى الطامة. ص _077
أنجلز المؤيد لاحتلال الجزائر! إذا ذكر "كارل ماركس " ذكر معه رفيق النضال وشريك الفكرة "فردريك انجلز " فهما معا مخططا الشيوعية وراسما مسارها، والشعار المرفوع هو تحرير الشعوب وتكريم الإنسانية وتكسير قيود الاستغلال والاستضعاف التى وضعها أعداء الجماهير وعبيد أنفسهم!. فلنلق نظرة عجلى على تفكير "أنجلز" وىرائه فى أحد الشعوب العربية عندما كان مراسلا فى باريس لصحيفة " ذى نورثن ستار" الإنكليزية ، وكان الفرنسيون فى ذلك العهد يشنون حربا صليبية عدوانية على الجزائر وكان الدم الإسلامى يسفك بغزارة، وكانت القيم البشرية تداس تحت أقدام الغزاة بازدراء وغضب.. ماذا كان موقف فيلسوف الشيوعية الكبير؟ انحاز إلى الاستعمار الفرنسى فى مواقفه الغادرة لأنه يحقق نوعا من تسلط البورجوازية المتحضرة على الجزائريين الذين وصفهم بأنهم لصوص وإقطاعيون!!. وكان الفرنسيون قد وعدوا الأمير عبد القادر بعد هزيمته أمام جيوشهم الكثيفة أن يدعوه ينطلق إلى مصر أو أى بلد عربى. ثم بدا لهم أن يستبقوه أسيرا. فقال انجلز: من رأينا أنه من حسن الحظ القبض على هذا الزعيم العربى، ذلك أن نضال البدو معه كان بلا جدوى. وقال : ورغم التعسف العسكرى الفرنسى الجدير باللوم فإن احتلال الجزائر هو فى مصلحة التقدم الحضارى، وسيوقف قرصنة دول المغرب كلها، وسيطرتها على البحر المتوسط وسيرغم حكومات هذه الدول على التماس وظائف أخرى لشعوبهم غير القرصنة! وغير أخذ الجزية من دول أوربا الصغيرة.. ثم يقول: فيلسوف الشيوعية(2/65)
الشريف النفس: إذا كنا نأسى لأن بدو الصحراء ص _078
فقدوا حرياتهم فلا ينبغى أن ننسى أن هؤلاء البدو كانوا أمة من اللصوص! إن هذه الشعوب من الهمج تبدو من بعيد شريفة ماجدة لكنك لن تكتشف حقيقتها إلا إذا اقتربت منها لأنك عندئذ ستجدها محكومة بالرغبة فى الربح غير مبالية بأسوأ الوسائل.. ثم يختم " أنجلز" تعليقه بهذه الكلمات : إن الفرنسى المزود بالحضارة والصناعة أفضل لهذا المجتمع الهمجى من السيد الجزائرى الإقطاعى، أو اللص قاطع الطريق ! هذا هو رأى قطب الشيوعية فينا! نهديه للشيوعيين العرب، ونعلم أنهم سيقبلونه باحترام!!!. ص _0 ص(2/66)
مقولات تلامذة المبشرين رأيت حشرة تطير فى الجو تستطيع لضآلتها أن تلج فى سم الخياط! قلت: سبحان المشرف على أجهزتها وأجنحتها! إنه فى الوقت نفسه يشرف على طيران أرضنا فى مدارها بل كوننا كله فى فضاء يقطعه الشعاع فى مليارات من السنين الضوئية!. إننى عرفت طرفا من عظمة الله بعد ما قرأت كتاب محمد وسيرة محمد وسنة محمد. وأعترف بأننى قرأت كتبا أخرى تنتمى إلى السماء، فشعرت بأن حديثها عن الله بالنسبة إلى حديث القرآن الكريم خامد الأنفاس معتم الفكر زائغ الهدف...!!. ومع ذلك، فإن ناسا كفروا بالقرآن، وكذبوا نبيه، أولهم أسراب من البدو فى الجاهلية الأولى " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا". ثم جاء من بعدهم عصابات من المبشرين والمستشرقين تتبعوا خطى البدو القدامى حذوك النعل بالنعل، وحملوا على القرآن حملة شعواء.. ثم جاء شر الثلاثة، وهم تلامذة المبشرين فى بلدنا، فكرروا كلام سادتهم بأسلوب لم أعجب له، حمله إلى الناس الدكتور "محمد أركون " فى مقال له عن الإسلام والعلمنة جاء فيه " نقول ذلك دون أن ندخل فى متاهات "الثيولوجيا " ودون أن نعتبر القرآن كلاما آتيا من فوق.. "!! القرآن ليس وحيا إلهيا، ليس هذا اتهاما جديدا، إننا سمعناه من قبل، وعرفنا قيمته ووزن قائليه. لكن العجب العاجب أن يكون أصدق الكلام موضع اتهام، أما الكتب المغشوشة فلا حديث عنها. التوحيد النقىُّ، وكشف الغطاء عن عظمة الله فى ملكوته، وتحرير العقول من أثقال الهوى وقيود التقليد، وتبرئة الأنبياء من السكر والزنا والغش والغدر وتحديد مسئولية ص _080(2/67)
الضمير الإنسانى فى العاجلة والآجلة، ذلك كله ليس آتيا من فوق!. يظهر أن الوحى الإلهى يجب أن يكون فكرا وضيعا، وأوهاما مريضة.. لندع هذا كله.. ولننظر إلى شىء آخر ساقه الدكتور أركون ضد القرآن، ولعله أول من اخترعه فله حق الاختراع! إنه يذكر أدلة أخرى على أن القرآن لم يأت من فوق، فهناك " محاولة البحث عن وثائق أخرى كوثائق البحر الميت التى اكتشفت مؤخرا، ويفيدنا أيضا سبر المكتبات الخاصة عند دروز سوريا وإسماعيلية الهند أو زيدية اليمن أو علوية المغرب!! يوجد فى تلك المكتبات القصية ـ هكذا يقول الدكتور المكتشف ـ وثائق نائمة، متمنعة ، مقفل عليها بالرتاج". هذه الوثائق النائمة، المتمنعة كالست المستحيية تشهد بأن القرآن لم يأت من فوق، وكذلك مخطوطات البحر الميت..!!. إننى على كثرة ما قرأت ضد الإسلام لم أجد أحقر من هذا الكلام.. وانتظار تكذيب للقرآن من هذه المصادر الوهمية ليس كلاما علميا ولا قريبا من العلم. ونحن نوجه السؤال إلى المسئولين عن جامعة السربون : هل هذا هو أسلوبكم فى دراسة القرآن والتحامل عليه؟ هل هذا أساس الإجازات العلمية التى تمنحونها؟ هل هذه نزاهة البحث وتحرى الحقيقة؟. إن معالجة البحوث الإسلامية بهذا المنهج شىء مضحك حقا، ألا فلنعرف قيمة هذه الجامعات الخادعة ومشاعر الحقد الأعمى التى تستخفى وراء ألقابها... ص _081(2/68)
جهل فوق جهل! أشعر بالضجر عندما أقرأ لكاتب يسىء الفهم ويسىء الحكم ويُحسن التحدى !. يقول الدكتور أركون فى النقاش الذى دار حول خلافة النبى : " كان هناك طرف يمثل عائلة النبى نفسه، كان هؤلاء معبئين بتلك العصبية غير المشروطة التى تقتضى بأن ينصر الأخ أخاه ظالما كان أو مظلوما! كما يقول العربى وهذا الكلام جهل فوق جهل ! فإن أحدا من عائلة النبى لم يحضر النقاش الذى دار فى سقيفة بنى ساعدة حول اختيار الخليفة، وما دار بين المجتمعين لا علاقة له بعصبية غير مشروطة كما يذكر الكاتب فى المثل الذى ساقه!. هذا المثل هو النصف الأول من حديث صحيح " انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل كيف ننصره ظالما ؟ قال تحجزه عن ظلمه! " فمنطق الأخوة الإسلامية أن تكف أخاك إذا جار ! وأن تعترض طريقه إذا تعدى! فأين هى العصبية التى تؤيد المبطل لأنه قريب؟. يقول الكاتب: وهنا نجد أنفسنا أمام مسألة تخص " البسيكولوجيا " التى يجهلها التاريخ الوضعى. أى علم يا رجل ؟ يظهر أننا أمام مسألة من اختصاص علم الماليخوليا والتهريج الاستشراقى. ويمضى "أركون " فيقول عن جمع القرآن: "كان طبيعيا أن تطرح مسألة جمع هذه السور فى كل متكامل، فكر الخليفة الأول بتجميع أكبر عدد من السور وكتابتها من أجل حفظها!. ص _082(2/69)
وقد وضع هذا المصحف عند عائشة بنت أبى بكر. ". فى هذه العبارات جملة أكاذيب ، فإن أبا بكر ما كتب ولا أمر بكتابة شئ من القرآن. الأمر الذى أصدره هو جمع المكتوب بين يدى رسول الله. وقد جمعه كله، وأودعت الصحائف عند حفصة لا عند عائشة. والمصحف الذى جمع لا علاقة له بالتواتر القرآنى المقطوع به قبل الجمع وبعده، فقد قامت بالقرآن وللقرآن دولة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم كانت سياجا حكوميا يظاهر السياج الشعبى الذى استوعب القرآن حرفا حرفا. والصحف المودعة لدى حفصة انتفع عثمان بها فى ضبط وجوه القراءة وحسب ولم يزعم أحد أن جماهير الحفاظ احتاجت إليها فى تلاوة أو فى دراسة. هل يعرف الدكتور أركون أن إنجيل عيسى اختفى باختفائه، وهرب الأتباع من بطش الدولة المعادية له ؟ هل يعرف أن موسى مات وقومه محبوسون فى أرض التيه فلما قامت لهم دولة بعد ذلك هجم أعداؤها عليها وهدموا الهيكل واختفت التوراة؟. إنه لا يعرف أن القرآن وحده هو الذى بقى من تعاليم السماء للأرض، ولكن السادة الذين لقنوه خصومة الإسلام أفلحوا فى تجريئه على القرآن ونبى القرآن. إنه يتحدث فى مقال طويل عن صاحب الرسالة الخاتمة فيفقد فى تعبيره كل أثارة من احترام وحياء، بينما يتحدث بخشوع وأدب جم عن البابوات الذين جعلوه مسئولا عن الثقافة الإسلامية فى السربون. ص _083(2/70)
من دروس مصرع عثمان بن عفان أحيانا أقف أمام مصارع الصالحين لأطيل التفكير! قد أفكر فى حقارة الدنيا التى غادرها هؤلاء الرجال على نحو مزعج، وأسلوب خشن غليظ وأقول: لو كان لها عند الله مقدار ما هان فيها أولياؤه، وسفكت دماؤهم بهذه الطريقة الهمجية!. أو أقول: ما أشد ظهور الحق لدى بعض الناس، وخفاءه لدى بعض آخر! حتى أرى البعض يموت فداء لما يعرف وأرى آخرين يميتون غيرهم غضبا لما يعرفون!. ونحن نعلم أن اليوم الذى يقتل فيه شهيد هو يوم ميلاده فى ساحة الخلد، وانتقاله إلى جنة النعيم! ومع ذلك فإن سخطنا لا يخف عن المجرمين الذين سفكوا دمه، وأباحوا حرمته.. ولى أصحاب رفع الله قدرهم فاستشهدوا وسبقوا سبقا بعيدا، ولى أساتذة قضوا سحابة عمرهم مجاهدين ثم توج جهادهم بتمزيق أجسادهم فى سبيل الله، إنهم الآن سعداء بما قدموا، وقد أقرأ لهم الآن أو أقرأ عنهم ثم أغوص فى لجج عميقة من الفكر، ما أغلى حياة الشهداء، وما أغبى الذين ظلموهم. ما الذى أثار هذه المشاعر فى نفسى؟ كلام قرأته لعثمان بن عفان وهو يحاور قتلته قبل أن يتمكنوا منه! قال لهم: " إن وجدتم فى كتاب الله أن تضعوا رجلى فى القيود فضعوهما"!. ولما رأى إصرارهم على قتله قال : لم يقتلوننى وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا فى إحدى ثلاث، رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس، فوالله ما زنيت فى جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت أن لى بدينى بدلا مذ هدانى الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلوننى؟. ص _084(2/71)
وجاء زيد بن ثابت إلى عثمان يقول له: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون : إن شئت كنا أنصارا لله مرتين، فقال عثمان أما القتال فلا..!!. إن عثمان كان غريبا فى نبله وإيثاره السلام ورفضه المقاومة الدامية كما كان غريبا فى حياته وسخاوة نفسه ودماثة أخلاقه وحبه لربه!! ووثب الغوغاء والسفلة على الرجل الذى تستحى منه الملائكة فقتلوه وهو يتلو القران الكريم. قال محمد بن سيرين: لما أحاطوا بعثمان ، ودخلوا عليه ليقتلوه قالت امرأته: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن!. إن كلمات عثمان قبل أن يموت، وبلاءه الطويل فى خدمة الإسلام ، وجراءة الرعاع عليه دون أى احترام لسابقته، إن ذلك كله أثار فى نفسى الاحتقار للدنيا! والازدراء للغوغاء والنقمة على خصوم الحق... كما جدد مشاعر الولاء والتقدير لكل شهيد ختم الله حياته بالموت فى سبيله. فأحياه أولا وأحياه أخرا. ص _085(2/72)
ملك الإنجليز الذى أسلم عاب المؤرخ المغربى الدكتور عبد الهادى التازى على ابن خلدون أنه قصر فى التعليق على رسالة الملك " جوهان " حنا إلى الخليفة الناصر محمد الموحدى فى الأندلس، وهى رسالة جاءت مع سفارة مشهورة سجل التاريخ الإنكليزى أعضاءها، وفيها يعرض الملك على خليفتنا اعتناق الإسلام ودخوله هو وشعبه الإنجليزى فى أمة التوحيد! وقد غضبت البابوية لذلك أشد الغضب، وبذلت جهودها للقضاء عليه والانتهاء من هذه البادرة وهى فى المهد... وغضب البابا مفهوم! ولكن الأمر الذى لا يفهم والذى لا ينقضى عجبنا منه، هو سكوت ابن خلدون وسكوت المؤرخين بعده عن ذلك الحدث المثير! فالملك "جون " أو حنا هو صاحب "الماجنا كارتا" أعظم مواثيق الحرية عند الإنكليز، وتاريخه ومسلكه لا غموض فيهما، وإعجاب الرجل بالإسلام لا ريب فيه! ترى أين كنا ؟ وماذا صنعنا؟ وفيما أنا أفكر مشدودا إلى هذه القضية وقع بين يدى كتاب آخر للمؤرخ المصرى مصطفى الكنانى يثبت فيه بأدلة كثيرة أن هذا الملك المعجب بالإسلام كان خلفا لملك آخر أسلم فعلا، هو الملك "أوفاركس " الذى حكم إنجلترا تسعا وثلاثين سنة (757- ص 6 م)، وقد ابتعد هذا الملك ابتعادا كبيرا عن الكنيسة وغير العملة، فسك دينارا ذهبيا محا منه شارة الصليب، كتب على أحد وجهى الدينار شعار الإسلام " لا إله إلا الله ". وقد نشر المؤلف المصرى صورة الدينار الجديد فى كتابه منقولة عن المتحف البريطانى!. وبدهى أن يهيج البابا لما وقع، وأن يرسل رجاله إلى إنجلترا لمقاومة ما اعتبره ردة منكرة، بيد أن الملك المسلم ثبت على معتقده الجديد حتى مات.. ص _086(2/73)
وقد نجح خصومه بعد موته فى النيل منه، فلم يدفن فى مقابر الملوك المخصصة لأمثاله بل أودع قبرا معزولا فى مكان تكثر فيه الفيضانات المدمرة، تم أهيل التراب على حياته وكفاحه حتى أمسى نسيا منسيا. إن الكنائس الموحدة أبيدت فى أوربا، والرجال الذين تأثروا بالإسلام إيمانا وحضارة وثقافة قضى عليهم بالحديد والنار مهما كانت مناصبهم ومعارفهم.. إننى لا أوجه أصابع الاتهام إلى خصومنا!! إننى أوجهها إلى أجهزة الدعوة عندنا، فإنها لا تكيد عدوا ولا تدعم صديقا، وإلى مؤرخينا الذين لم يتابعوا مسيرة الإسلام شرقا وغربا ولم يسجلوا ما وقع له !. ص _087(2/74)
خرافة تدويل الأماكن المقدسة أسطورة تدويل الأماكن المقدسة تبدو عند التأمل سرابا خادعا أو هى إلى الهزل أقرب منها إلى الجد، فالدول الإسلامية عندما تنتمى إلى الإسلام تأخذ منه وتدع، وتقارب وتباعد، وعدد كبير منها لا يرتبط بشرائعه، وسيكون الحرمان ـ والحالة هذه ـ أضيع من الأيتام فى مأدبة اللئام!. ما الذى تصنعه للحرمين الشريفين دولة تبيع الخمر وتفتح حاناتها للسكارى وتحميهم وهم يشربون؟. ما الذى تصنعه للحرمين دولة تنظم البغاء، وتكشف طبيا على المومسات حتى يطمئن الزناة إلى مواقعتهن دون خطر؟. ما الذى تصنعه للحرمين دولة ترى صيام رمضان معطلا للإنتاج، فتأمر بالإفطار!. أى إنتاج تعطل؟ أكياس من العجوة، أو أوان من زيت الزيتون؟ فكيف لو كانت الأفران تصهر الحديد، والمراصد تعد لغزو الفضاء؟ أى هزل هذا؟. ما الذى تصنعه للحرمين دولة تحارب الفتيات الأطهار وهن يرغبن فى الحشمة ويرتدين ملابس الحجاب؟. إن الجهاز الإدارى للجامعة العربية يكاد يتوقف لأن مجموعة كبيرة من الدول الأعضاء لا تدفع القسط المقرر عليها!. فهل تنتظر توسعة الحرم المكى أو المدنى هؤلاء المفلسين حتى تجتمع لجنتهم الدولية وتقدم الفتات الذى لا طائل وراءه مصحوبا بمن وإذلال لا آخر لهما؟؟. ومن الدول الإسلامية من يرى انتماءه إلى القومية الإفريقية أحظى لديه من الانتماء الإسلامى! ولم لا؟ وإفريقية مجمع الأمجاد ومشرق الحضارات وأم الفلسفات. أما ص _088(2/75)
الإسلام المظلوم فدون ذلك! وإذا لم تستح فاصنع شئت... لقد توزعت الألوان الكثيرة على رايات الدول العربية والإسلامية بين أبيض وأسود وأحمر. الخ ولم تجرؤ دولة على إبراز شعار التوحيد، ووضع كلمة الإسلام على رايتها لعل الحكومات الجبانة التى وجلت من السير تحت كلمة " لا إله إلا الله " هى التى تتولى خدمة حرم الله ؟. لست منتميا إلى قومية ما ، ولا أرضى عن الإسلام بديلا، وإذا رأيت مم يلتمس شرفا من خدمة الحرمين فكيف أوثر عليه من يلتحق ذنبا بفكر أوربى أو أميركى علمانى أو غير علمانى ؟. إن كلمة التدويل عملة مزيفة! أو هى حديث خرافة. ص _089(2/76)
مناظرة ديدات وسواغارت كنت واحدا من الألوف التى شهدت المناظرة الكبيرة بين الداعية الإسلامى الشيخ أحمد ديدات ـ من جنوب أفريقيا ـ والمبشر النصرانى " جيمي سواغارت " ـ من الولايات المتحدة ـ وسرنى أن المناظرة تمت فى هدوء ، وكانت الصراحة فيها محكومة بأدب المجاملة، وأحسب أن كلا الفريقين قال أكثر مما عنده. غير أننى تأملت طويلا فى عبارتين وردتا على لسان القس جيمى قال فى أولاهما: إن نبوءات الكتاب المقدس صدقت كلها فلماذا أرتاب فيه؟ والمبشر البروتستانتى يقصد بالنبوءة التى تحققت قيام إسرائيل. ونحن نعلم أن عودة اليهود إلى فلسطين صرحت بها إصحاحات شتى فى العهد القديم، وقد ذكرت القضية كلها فى كتابى "حصاد الغرور "!. والمسيحيون فى أوروبا وأمريكا يؤيدون قيام إسرائيل لأسباب دينية وجماعات المبشرين على اختلاف كنائسهم تظاهر الغزو اليهودى ، وقد نجحت فى تأليب الشعوب والحكام ضد عرب فلسطين، ونجحت فى تسويغ المظالم الفادحة التى تنزل بهم كيما تصدق نبوءة الكتاب المقدس!. ومع خساسة هذه المعجزة القائمة على الخيانة والاغتيال فقد قلت: ليكن! إن لدينا نبوءة أخرى تقابلها أو تقاومها، إنهم يتجمعون للعدوان علينا ولكن القصاص سيكون رهيبا ، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ". أما العبارة الأخرى التى جاءت على لسان المبشر جيمى فهى أن الله ضحى بابنه الوحيد ليكفر عنا خطايانا! ونحن المسلمين نعم أن الله لا يلد ولا يولد، وشأن الألوهية فوق هذا الإسفاف ص _090(2/77)
بيد أنى أريد أن أكشف أثر هذه المقولة فى مسالك المبشرين ناقلا ما أقول عن الصحافى الكبير ناصر الدين النشاشيبى الذى أعلن أن سلسلة من الفضائح أخذت تطفو على السطح عندما راح المبشر " جيمى سواغارت " يعلن من مقر إقامته فى " لويزيانا " حربا على زميله المبشر"جيمى بيكر" ويتهمه بإقامة علاقة جنسية سرية مع سكرتيرته الحسناء الآنسة "جاسبك هان ". وقد قامت السكرتيرة المذكورة على الفور برفع الدعوى ضد مديرها طالبة التعويض السريع وما مضى أسبوع حتى كان المبشر الآخر "جيمى بيكر" يتهم زميله "جيمى سواغارت " بسرقة تسعين مليون دولار من خزينة الكنيسة التى يشرف عليها، وبأنه يمارس نوعا من النفاق الدينى المنبوذ... الخ ". إننى لم أفاجأ بهذه التهم المتبادلة فقد قرأت من زمان بعيد قوله تعالى : "إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله " ولم لا يفعلون ذلك وقد ضحى الله بابنه الوحيد ليغفر لهم؟. هذا هو بطل المناظرة الكبرى فى الدفاع عن الصليبية. ص _091(2/78)
زحف الصحراء على أقطارنا زحف الصحراء على أقطار العالم الثالث مشكلة حقيقة بإنعام النظر، فإن مساحة الأرض التى أجدبت ـ وكانت خصبة ـ تضاهى مساحة غرب أوربا كله.. تحت أراضى المغرب الكبير وحده! أما فى شرق إفريقية فإن الحبشة والصومال وأريترية وغيرها قد اكتسحها الجفاف. ولا يقل مصابها عن مصاب وسط إفريقية وغربها، والمسلمون هم جمهرة السكان فى هذه البلاد المنكوبة! قال المراقبون: لابد من زراعة غابات كثيفة تحمى الرقعة الخضراء كما أنه لابد من تحويل المراعى على عجل إلى حقول دائمة البذر والحصاد فإن تركها إلى غيرها عندما يتخلف المطر يجعلها صحراء بعد حين!. قلت: زراعة غابات تحمى ما وراءها لا تحتاج إلى عبقرية! إنها عمل بشرى عادى وكذلك استدامة حرث الأرض لإنتاج الحبوب والبقول! هل نتصل بعالم الجن لاستقدام نفر منهم يقوم بهذه الوظائف ؟ ما الذى عرا النفس الإسلامية حتى انطفأ وهجها وبرد نشاطها وأمست تحسن الاستغاثة والاستجداء أكثر مما تحسن الكدح والربح ؟ ولنفرض أن المتصدقين أرسلوا إليهم قناطير من الخبز والدهن، أذلك يغير حالهم ويذهب عيلتهم، إنه نجدة إلى حين ؟ المشكلة نفسية قبل كل شىء، لماذا يكون نهر النيل على بعد ميل منا ثم لا نستورد منه مياه الرى؟ لماذا نترك السيول تنداح لتتبدد فى العراء أو فى المحيطات ولا نقيم حولها سدودا تخزن مياهها؟ لماذا تكون المياه الجوفية تحت أقدامنا على مدى عشرة أو عشرين ذراعا فلا نستخرجها؟ إن الله لا يقبل صلاة الاستسقاء من كسالى خاملين ؟ ولا يمنح عونه لمن يعجز عن معونة نفسه !! ص _092(2/79)
إن الهوام والحشرات تسعى لتأمين حياتها. فهل يعجز عن ذلك بعض البشر؟ وقد رأينا أتباع أديان أخرى فتتوا الصخور وجعلوا القيعان الناشفة حدائق غناء فهل اختصصنا نحن المسلمين بالبطالة فى عالم يهتز تحت أقدام المردة ؟. فى كتابنا الكريم أن الله سخر لنا مما فى الأرض فكيف أضحينا نحن مُسَخرين فى الأرض ؟ يبتُّ فى مصيرنا من يقول: الآلهة ثلاثة! ومن يقول لا إله والحياة مادة! ومن يقول: أصنام بوذا وبراهما أجدر بالبقاء. ومن لا يقول شيئا، لأنه لا شىء عنده.. !. إنك لن تكون جنديا إذا سرقت بدلة جندى وارتديتها، فالعسكرية علم ودربة وليست ثوبا يُلبس.. وكذلك التدين، إنه صقل للنفس والفكر وارتقاء بالخصائص الإنسانية وإحسان لقيادتها، إنه قدرة على تسيير الحياة وتقويم عوجها، لا تماوت وشلل وغرور ودعوى. ص _093(2/80)
الإيمان بالغيب والإيمان بالخرافة الإيمان بالغيب من عات المتقين ، فأهل الدين يؤمنون بالمادة وبما وراء المادة. ويوقنون بأن الكون المحسوس ليس الوجود كله، بل وراءه وجود أرحب منه وأبقى. بيد أنى أرفض أن يكون الإيمان بالغيوب ذريعة إلى الإيمان بالخرافة، وثغرة ينفذ منها أصحاب العقول السقيمة لترويج الأساطير وتصديق الترهات. ومصاب الأديان يجىء من أناس يختلقون الإفك ثم يقحمونه إقحاما على حقائق الدين تحت عنوان الإيمان بالمغيبات.. وقد ذم القرآن الكريم بنى إسرائيل لأنهم حولوا الدين إلى هذه الوجهة أيام تخلفهم العقلى والخلقى "... واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " إن العلوم المادية لها منطق صلب يكشف عن حقائقها وتدرس به فى شتى المعاهد ، والعلوم القائمة على مصادر غيبية لها مهاد ثابت من الوحى المعصوم ترتبط به وتستمد صدقها منه. ومن ثم فلا مجال لذوى الخيال الجامح والهوى الطافح أن يخدعوا الناس. ولا مجال لمن فقدوا الاتزان العقلى أن يلتصقوا بالدين أو يجعلوا كلامهم من قبيل الغيوب المسلمة.. إن للوحى الإلهى معالم اختص بها وهو يتحدث عن عالم الغيب، فميلاد عيسى من غير أب ليس قاعدة يقاس عليها. وطيران عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين كذلك، وخالق الأسباب لا تحكمه الأسباب والمرويات من هذا الباب لا تتبع خيالات من كتبوا ألف ليلة وليلة! ص _094(2/81)
إن خبر المعصوم الذى قطع العقل بصدقه هو الأساس. وقد روج بعض المتصوفة والخرافيين لأمور عكرت صفو الدين وأثارت الشغب على تعاليمه يجب أن نسارع إلى تكذيبها. وفى بعض الكتب أن الشيخ فلان كان الطير فى السماء يقف لوعظه! وأن طيورا سقطت ميتة من فرط تأثرها به! وأن مصلين نقلوا إلى المقابر بعد سماعهم له..!!. وهناك ناس كانت شواطئ البحار البعيدة تدنو لهم فينتقلون من المشرق إلى المغرب سابقين رواد الفضاء الآن.. وليست المصيبة فى رواج هذه الأكاذيب بل فى أناس يريدون باسم الدين تصديقها والدفاع عنها.. يجب إقصاء الملتاثين عن ميدان الدعوة الدينية، إنهم بلاء على الإسلام وفتنة للذين كفروا. إن الإسلام ـ وهو لب الأديان كلها ـ يقوم على أضواء المعرفة، ونضج العقل، وهو عدو السفه والبلاهة... ص _095(2/82)
سر هزائمنا المتلاحقة ظل العالم الإسلامى قرابة ألف عام وهو متجانس متماسك يشد بعضه أزر بعض ويأرز إلى عقيدته الجامعة كما تهدد كيانه خطر. وليس معنى ذلك أنه كان منتصرا طوال تاريخه، لا، إنه كان بين كر وفر، يكبو ويقوم، ويخسر ويربح، وينال من الأعداء وينالون منه، ولكنه منذ فقدان الأندلس سنة 1492 م، وهى سنة اكتشاف الأمريكتين وقع تغير رهيب فى حياته، فقد أخذت أرضه تنتقص من أطرافها، استولى الروس على الشمال الشرقى منها، فضاعت سيبريا والتركستان وأقطار أخرى، واستولى الاستعمار الهولندى والأسبانى على الجنوب الشرقى فضاعت الفليبين وإندونيسيا، واقتسم الإنكليز والفرنسيون الهند والهند الصينية. أما فى غرب العالم الإسلامى فبعد ضياع الأندلس دارت رحى الحرب فى إفريقيا كلها، وتناولت أقطار المغرب الخمسة. وعاثت فسادا فى سائر المدن والقرى الواقعة شرقى الأطلسى، وتحت الصحراء الكبرى أو فوقها. تم اتجه هذا الغزو الحاقد إلى صميم العالم الإسلامى، هاجما على فلسطين؟ ومتأهبا لما حولها.. وبدا كأن الكيان الكبير القديم يوشك على التداعى! لولا المقاومة الهائلة المستميتة التى أشعل نارها أولو النجدة والفداء وحماة الحق الباقون على الوفاء له إلى آخر رمق... وأريد ـ فى ميدان العلم الدينى ـ أن أنبه إلى أمر له ما بعده: لماذا لم نبحث أسباب هذه الهزائم والخسائر الفادحة ؟ هل ترجع إلى غش ثقافى أو عوج خلقى، أو خلل سياسى واقتصادى، أو زيغ فى التقاليد السائدة أو قصور معيب فى خبرتنا بأسرار الكون وقواه المادية، أم إلى مزيج متفاوت النسب من هذه العلل جميعا ؟. ص _096(2/83)
إن أصحاب الألسنة الذين يسكتون عن هذه البحوث، وحملة الأقلام الذين يدعونها إلى غيرها يقترفون خيانات قاتلة فى حق دينهم وأمتهم.. إن الذين يجترون الأفكار والمقررات التى صاحبت عصر الاضمحلال، وأسقطت راية الإسلام فى غير ميدان يساعدون أعداء الإسلام على بلوغ أهدافهم.. ما الذى أفقد كياننا قوة الاندفاع ثم جعله يتلقى الضربات ويضرع أمامها؟ إن الإسلام الحق أمكن العرب ـ وكانوا شعبا خفيف الوزن ـ أن يكونوا الدولة الأولى فى العالم كله، وأن يقدموا رسالتهم بشرف إلى الأحمر والأسود من الناس! ماهى المعاصى الخلقية والسياسية والثقافية التى ارتكبوها فأصابهما ما أصابهما؟؟. إننى أرسل هذه الصيحة، لأنى أجد متحدثين باسم الإسلام لا يعون أبجديات الإيمان الحق والاتجاه الصحيح... إنهم يؤخرون يوم النصر ولا يقدمونه. ص _097(2/84)
نهج النبى فى التربية الظلمات التى تملأ آفاق الأمم بالسواد هى ظلمات الكفر والجهل والفوضى والفساد، وقد تساءلت: كيف كشف محمد صلى الله عليه وسلم هذه الظلمات، وأنقذ الناس من حيرتها وأنا أتلو قوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور" إن أخاه السابق موسى أنقذ قومه من ظلمات الاستبداد السياسى والتفرقة العنصرية بعد رحلة طويلة من المعاناة مع الفراعنة " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله... " والنبى الخاتم مكلف بإخراج العرب أولا ثم العالم كله من بعدهم إلى حياة جديدة ملأى باليقين والمعرفة والنظام والصلاح وأن يشق بهم طريق الكمال شقا فى نهج من التربية الواعية والمجاهدة النفسية القاسية.. لقد حول عقيدة التوحيد من فكرة نظرية صحيحة إلى سلوك عملى صارم محسوس، خذ مثلا قضية المال: إن حب الناس للمال معروف، وكدح الجماهير لكسبه سحابة النهار لا ريب فيه.. فجاء القرآن يصف الإنسان البار بأنه يقهر هذه الغريزة، وأنه يؤتى المال ـ على حبه ـ من يحتاجون إلى العون والمواساة... وفى الناس من يتنازل عن المال لعوض آخر أحظى لديه، حب الثناء وطلب الشهرة، أليس ذلك ما يقرره حاتم الطائى: أماوىَّ: إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر! لكن القرآن الكريم يرسم أوجا أعلى من هذا العطاء المقرون بتلك المقاصد " وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ". لقد انتقل التوحيد من دائرة ضيقة إلى دائرة تشمل صورا شتى من السلوك البشرى، ص _098(2/85)
ترتبط بوجه الله فى الأخذ والعطاء، وتتجاوز التصرفات المالية إلى تصرفات أخرى قد تكون التنازل عن الحياة كلها فى لحظة فداء وصدق ، كما يقول أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع إن النهج الذى سار فيه صاحب الرسالة العظمى يقوم على تغيير حقيق فى النفس البشرية يتناول البواعث والغايات كلها.. هكذا أخرج قومه من الظلمات إلى النور. ولن يكون لنا نور نمشى به فى الناس إلا إذا سلكنا هذا الدرب نفسه وتحملنا برجولة صعوبات الطريق. ص _099(2/86)
التشريع بين مكة والمدينة القرآن الذى نزل بمكة كالقرآن الذى نزل بالمدينة فى أثره وإعجازه ومكانته وبنائه للرسالة! ولم يختلق فروقا بينهما إلا نفر من جهال المستشرقين ومن لف لفهم من سماسرة الاستعمار الثقافى. فإن هؤلاء الناس يرون أن القرآن من كلام البشر وأن البيئات التى نزل فيها تركت طابعها عليه!! والزعم بأن القرآن من وضع محمد بدأ به عباد الأصنام، وتبناه فى عصرنا هذا كذبة المبشرين والمستشرقين كما ذكرنا، ثم مضوا فى إفكهما يقولون: إن القرآن المكى عاطفى لا عقلى وإنه لا علاقة له بالتشريع ، وأنه.. وأنه. الخ... ولم أر أوغل فى الكذب من هذه التخرصات، فإن العقل الإنسانى النائم استيقظ على صوت الوحى النازل بمكة يهتف بالبشر "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا... " ويسائل الخلق كافة " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" ويقرر حقيقة التوحيد على هذا النحو " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ". هل هذه إشارات عاطفية بعيدة عن المنطق العقلى ؟ أم هذه يقظات عقلية عارمة تطارد التقليد الأعمى والاسترسال الشارد الذاهل.. ؟. إن الكتب التى يحملها خصوم الإسلام بين أيديهم، ليس فيها لفظ يبلغ هذا المستوى من التألق الفكرى والارتقاء الإنسانى والقرآن الذى نزل بمكة أوائل الرسالة كان دعوة إلى الذكاء والاستقراء وسداد الحكم وإطراح التعصب وعشق الحق وحده ، ومنه قوله تعالى: " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء.. " ؟ ص _100(2/87)
هل توجيه الأنظار على هذا النحو الشامل النازل فى مكة يدل على أنه قرآن عاطفى ؟. إن القران كله مكيه ومدنيه سواء فى تحريك العقل وتصويب الفكر! لكن " البروفسير" " تأبط شرا " يقول فى أيامنا هذه: لا إله والحياة مادة! أو يقول: إن هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع! أو يقول: إن العالم قطاع عام تحكمه أسرة مقدسة! أو يقول: إن القرآن كتاب بشرى تبدو فيه خصائص البيئة العربية الأولى.. " وتأبط شرا " الجديد ليس أغبى ولا أذكى من "تأبط شرا " الغابر، وإنما الغباء الحقيقى فيمن يصدقه ويستمع إليه ! والجنون فنون! وهذا وهم آخر لم يكن بمكة تشريع! التشريع بدأ بعد الهجرة. أما قبل الهجرة فقد كان الإسلام فى مرحلة وعظ وإرشاد.. ونقول جازمين إن شرائع العقيدة والأخلاق والقيم الرفيعة والسير الطاهرة وأغلب الطاعات التوقيفية نزلت بمكة المكرمة فالوصايا العشر التى يهتم المربون والمفسرون بها، جاءت فى ثلاث آيات من سورة الأنعام المكية بدءا من قوله تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.." ثم اتسعت دائرة الحكمة والتوجيه فى خمس عشرة آية جاءت فى سورة الإسراء المكية بدءا من قوله تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه.. " والصلوات الخمس التى نقيمها اليوم شرعت فى مكة، ليلة الإسراء. والزكاة فرضها الله فى مكة. ففى سورة " فصلت " ـ وهى من أوائل ما نزل بمكة ـ يقول جل شأنه " وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ". وفى زكاة الزروع نزل قوله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " من سورة الأنعام المكية. والحج ميراث من شريعة إبراهيم. وعالمية الرسالة الإسلامية تقررت فى عشر آيات نزلت كلها بمكة. وفى القرآن المكى خطاب لأبناء آدم كلهم يتضمن وصايا هى لباب الملة! وعتها سورة الأعراف. إن الزعم بأن مكة لم ينزل بها تشريع جهل فاضح! إن دعائم التشريع قامت فى مكة ثم علا الصرح فى المدينة، وتناول أحوال المجتمع الدقيقة ومتطلبات الدولة الصاعدة،(2/88)
والجهاد المادى والأدبى لأعداء الإسلام الناقمين منه! ص _101
وجماعات المبشرين والمستشرقين يروجون لفكرة انعدام التشريع فى مكة ليقولوا إن الرسول استفاد من أهل الكتاب المجاورين له فى المدينة! ماذا استفاد منهم؟ وما الذى نقله عنهم؟. إن محمدا لو أخذ من أهل الكتاب شيئا لفسد دينه ولسرى العوج فى كتابه: ولنفذ فيه قوله تعالى: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين" إن الأذان شرع فى المدينة نداء لصلاة شرعت فى مكة، والجهاد العسكرى شرع فى المدينة دفاعا عن عقائد حوربت فى مكة وفى غيرها... وطبيعة التشريع تتبع ظروف الدعوة والدولة، والوحى الإلهى واحد هنا وهناك. ص _102(2/89)
الذين يخونون الأمانات رأيت رجلا يلى منصبا كبيرا ترتبط به مصالح مهمة، ومع خطورة ما أسند إليه كان لا يفعل خيرا ولا يحجز شرا ولا يفهم من وظيفته إلا أن ينظر إلى الناس من فوق! فبسطت لسانى فيه بالقدح وحكمت عليه بقسوة.. لكن أحد السامعين قال: إننى أراه يتردد على المسجد أحيانا! فسارعت إلى توكيد حكمى وذكرت الحديث المعروف " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " فقال لى السامع: ما علاقة الحديث بتقصير الرجل فى منصبه؟ قلت: إننا معشر المسلمين لا نعرف معنى العقد أو العهدة ولا نعرف معنى الأمانة! ويتبع ذلك أننا لا نرعى ما جعله الله من حقيقة الإيمان، ولوازمه اللاصقة به، ولا ننزل عند قوله جل شأنه "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ". إن الوظيفة عقد بين الدولة ـ أو أية مؤسسة ـ وبين شخص ما ليقوم بعمل محدد، لقاء مرتب مقدور يصرف له. فهو لا يستحق راتبه شرعا إلا إذا قام بالعمل المنوط بعنقه! فبم يستبيح أخذه إذا كان لا يؤدى واجبه؟ وإذا كان الشخص متكاسلا، ضائقا بالناس، كارها لخدمتهم، مفرطا فى حقوقهم، كل ما يعرفه من وظيفته الاستطالة على الجمهور والتجهم فى وجهه، فهو امرؤ غادر، ناقض للعقد يأكل سحتا، كل لحم ينبت على سحت فالنار أولى به!. إن ما يسمى " بالبيروقراطية " القاتلة للمشروعات الكبيرة المضيعة للمصالح الحساسة ليس إلا هذه السيرة الخائنة لبعض الموظفين المفرطين البلداء. وقد سمى نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ الوظائف أمانات وطلب من الأقوياء التيقظ لها، وطلب من الضعفاء ألا يطلبوها أو يتعرضوا لها.. ونبه إلى المسئوليات الجسام التى تترتب ص _103(2/90)
عليها فى الدنيا والآخرة، وأبعد عنها عمه حمزة بن عبد المطلب، وصاحبه أبا ذر رضى الله عنهما، وقال: " ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خر من الثريا ولم يل من أمر الناس شيئا "!! إن المناصب كبيرها وصغيرها ليست وسيلة ترفع أو ترفيه لبعض الناس! إنها كيان دولة، وحاضر أمة ومستقبلها، فمن ولى عملا وخان فيه، فهو من السراق والنهابين، وهو نكبة للدنيا والدين. ص _104
الرأى الآخر فى الإسلام للرأى الآخر مكان عريض فى ثقافتنا الإسلامية، تراه واضحا فى علم الكلام وفى الفقه المقارن وفى علم الملل والنحل! وذكر الرأى الآخر ومناقشته والرد على أصحابه بدأ فى القرآن الكريم نفسه. وإنك لترى فى مواضع متقاربة من سورة الفرقان قوله تعالى "وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.. " " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق... "؟ " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة..!! ". وأنا أحب أن أسمع الآراء الأخرى التى تخالفنى، وأتأنى فى دراستها، وقد أعتذر لأخطاء أصحابها مع اعتراضى الممتد عليها!!. خصوصا إذا كانوا من أديان أخرى، ذلك لأن البشر عادة يتوارثون عقائدهم من بين ما يتوارثون من شئون مادية أو أدبية! وقد يربطون بها كرامتهم الشخصية ومكانتهم الاجتماعية! فزحزحتهم عنها لا تتم بالصياح والمعاندة. وقد تحدثت يوما مع واحد من علماء أهل الكتاب أراد إحياء المجادلات القديمة، وترديد ما قالوا وقلنا خلال العصور الماضية، فرأيت أن أمضى به فى نهج آخر أقرب إلى طبيعتى النفسية، ولعله أقرب إلى طبيعة العصر الذى نعيش فيه... قلت له: إننى أعتمد على العقل وحده فى بناء اليقين! فى الأرض الآن خمسة مليارات من البشر، أى عشرة مليارات عين وعشرة مليارات أذن وعشرة مليارات كلية، وما لا يحصى من الخلايا والأعصاب! فإذا تجاوزت أجساد البشر إلى آماد الكون والفضاء الرحب الذى تسبح فيه كواكب نبصر منها القليل ونعجز عن(2/91)
الكثير.... إن الإشراف على ص _105
هذا العالم العجيب الرهيب لا يقدر عليه إلا إله ليس كمثله شيء..!. قال: هذا صحيح، قلت: فأقرب الأديان إلى القبول أدقها وصفا للكمال الإلهى قال : لا بأس! قلت: عندما سأل فرعون موسى عن الله قال ـ فى رواية القرآن ـ " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" هذا حديث القرآن عن الله فى كتاب محمد ، أما حديث التوراة عن الله كما نسبتم إلى موسى فنسق آخر. إن الله ندم على إغراق الأرض بالطوفان، وحتى لا يتكرر منه هذا الخطأ صنع موسى قوس قزح حتى يتذكر فلا يغرق الأرض مرة أخرى وهو ذاهل... إننى بالعقل وحده أومن بالله العظيم، فبأى عقل أترك تراث محمد فى تنزيه الله ثم أمضى معكم فى قبول ألوهية لا تعرف عواقب ما تفعل؟. لقد سقت لك مثالا خفيفا جدا مما أعرف عندكم، ولديكم عظائم تشيب لها النواصى أوثر السكوت عنها!!. ص _106(2/92)
ليتنا نتعلم لكل حضارة هنات تحسب عليها وقد تخدش مكانتها! ربما ظهرت الهنات كما تظهر الحشائش الطفيلية وسط الحقول والحدائق، ما يستنبتها أحد، وما تكاد تظهر حتى تجتث!. ولآحاد الناس كذلك أخطاء ومثالب تنهض إلى جانب خواصهم العظيمة ووظائفهم المجدية، فهذا مهندس عبقرى ولكنه يلعب الورق! وهذا تاجر ناجح ولكنه يكثر التدخين! وهذا صحافى لامع ولكنه يستبيح المجون.. والأمم والأفراد تقوم أولا بدعائمها المادية والأدبية وآثارها العلمية والعملية. وقد يغطى ذلك على هناتها أو يجعل أخطاءها خفيفة الضر. والحضارة الأوربية الحديثة من هذا القبيل ! لها مباذلها التى تحط من قدرها. ولها قبل ذلك وبعده إنتاج صناعى وتنظيم إدارى يردان البصر وهو حسير.. وأغرب ما رأيته من قومى عفا الله عنهم أنهم يرمقون المسارح أكثر مما يرمقون المصانع والمعاهد، ويستجلبون أدوات الزينة قبل أن يستجلبوا مقومات الحياة.. ويعرضون تسريحة المرأة الأوربية لشعرها قبل أن يعرضوا ألوان الآداب والمعارف التى حصلت عليها المرأة ورفعت مستواها. فى حصار المخيمات الفلسطينية المخزى قرأت نبأ طبيبة إنجليزية حبست نفسها مع المرضى والجياع حتى جاء الفرج بعد لأى، وخرجت من جوف المأساة لتحكى ما واجهت من آلام وما أسدت من جميل دون من ولا أذى. فقلت: ليتنا نتعلم !. وفيما أنا أفكر وأجتر الذكريات جاءنى نبأ من الأرض المحتلة أن هناك مسابقة بين الفتيات الفلسطينيات لاختيار ملكة جمال فلسطين المحتلة!!، وسرنى أن خطباء الجمعة فى الضفة الغربية وقطاع غزة هاجموا المحاولة الخسيسة وقتلوها فى مهدها! قلت: أدَّى ص _107(2/93)
علماء المساجد واجبهم وبقي شىء لابد من تقريره!: إن هناك أشخاصا يمشون فى سراديب الحضارة المعاصرة كما تمشى الكلاب والفئران فى الظلام لا تعرف إلا الفضلات والفضول. سمعت أحدهم يصيح ننحن بحاجة إلى نهضة مسرحية! وآخر يقول : يجب اعتناق المادية الجدلية! وآخر يقول: نشطوا الألعاب الرياضية ، وسمعت دابة تشتغل للأسف بالسياسة العامة تقول: لنترك ماضينا كله. نتركه ونتبع ماذا ؟ أيها الحيوان الأنيق ؟ ص _108
لأننا نعمل بنصف وعى شكا لى أحد رجال الصناعة من إقبال الجمهور على السلع الأجنبية، وزهده فى مثيلاتها من الإنتاج الوطنى وقال: إن المستقبل لا يطمئن مع هذا المسلك!. قلت له: أحسب أن التفوق الصناعى وليد التفوق الأخلاقى ، ولو أننا نهضنا بأخلاقنا لجاد ما نصنع ولأقبل الناس عليه، وقد يغضون الطرف عن بعض التفاوت! فرد الرجل بأن سبق الأجانب يعود إلى خبرات مادية وقدرات دعمها الزمن، وأن إقحام الأخلاق هنا أمر مستبعد!. فعدت إلى توكيد رأيى عائبا على العرب والمسلمين بإجمال أنهم يباشرون أعمالا بنصف وعى ونصف جد ، وأن الرغبة فى الإكمال والتجويد قد تكون شهوة عند غيرهم يندفعون إليها بشوق وحماس، أما عندنا فإن الإتقان قد يكون واجبا مُملى من الخارج أو تكليفا شاقا نساق إليه سوقا. وهذا الجو لا يجود فيه شىء. ولا نكسب فيه سباقا.. إننى قد أطالب الحكومات بأن تفرض ضرائب ثقيلة على السلع المستوردة إلى أن تستطيع سلعنا الاستواء على قدمها والفوز فى المنافسات الحرة، لكننى أرفض أن يتم ذلك حماية للكسالى والمفرطين الذين لا يبالون بما تصنع أيديهم أهو محكم أم هو مختل ؟ أهو مستقيم أم هو معوج.. ؟ قال: إننى أنظر إلى بعض الصناعات التجميعية عندنا فأدهش لأن ضم هذا إلى ذاك تم على صورة حسنة هناك وتم على صورة رديئة هنا! لماذا ؟ قلت: إننا نعمل بنصف وعى، الهمة فاترة والعزيمة خائرة. ضم إلى ذلك إدارات تائهة سائبة، يخرج الرجل من بيته إلى مكتبه فيصل(2/94)
وهو يشعر كأن أمرا مهما نسيه، إنه لم ينس شيئا ما ، كل ما هنالك أن صلته بعمله ثانوية، ص _109
يشغله عنها وهم غير محدد. ومن ثم فهو يتعامل مع الأشخاص والأشياء ببلاهة وكبرياء إن الدين يدخل النفس البشرية ليحرك المفاتيح التى تضيئها من الداخل، وليحرك الأجهزة التى تنطلق بها فى دروب الحياة على بصيرة.. والذين يعيشون فى غيبوبة وذهول لا تهيج فيهم إلا غرائز الحياة البهيمية ليسوا من الله فى شىء، وهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. ص _110(2/95)
لكى يقف سيل هزائمنا يسىء المسلمون إلى أنفسهم أكثر مما يسىء إليهم أعداؤهم! وفى أحيان كثيرة ينطبق عليهم ما انطبق على اليهود قديما أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم أو أنهم " كالتى نقضت غزلها من بعد قوة " فى "تشاد" أسست الصليبية العالمية قاعدة صلبة لها، ينعم فيها الزنوج المنتصرون بالسلام والاستقرار والنماء الأدبى والمادى! أما المسلمون فى الشمال فمن عشرين عاما والحروب تشتعل بينهم ، وتوهن قواهم، وتنشر الخراب فى ربوعهم! وفى السودان تعاونت كنائس أسكانديناوة مع الفاتيكان مع كندا والولايات المتحدة على تنصير الجنوب، وإنشاء جسور تعبر منها النصرانية إلى وسط أفريقية كله، ولا يزال عرب الشمال ممزقى الشمل مفرقى الكلمة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى!!. وبين إيران والعراق حرب مجنونة حصدت الأخضر واليابس، وآذت البرىء والمريب ، لو أن معشار الضحايا فيها بذل لتحرير فلسطين ما بقى من العرب لاجئ ولا ضاع لهم حق! ومع ذلك فإن الرحى الفاجرة ما تزال تدور ، والمغارم الموجعة تتضاعف.. وقد قبضت مصانع السلاح فى أوربا وأمريكا وآسيا مئات المليارات ثمن ما بعثت به من أدوات الدمار فى البر والبحر والجو فكيف تصنع أمتنا هذا كله بنفسها؟ وكيف تعمى عن دينها ودنياها بهذا المسلك المنكر؟. معروف أن العالم الإسلامى يتدحرج من قرنين أو ثلاثة، وأنه يعانى من هزائم ثقافية وسياسية وعسكرية، وأنه ـ لكى يوقف سيل هذه الهزائم ـ يجب أن يراجع نفسه ويسدد خطوه ويصطلح مع ربه ويدع المعاصى الاجتماعية والشخصية التى أزرت به... لكننا لم نفعل، ففى أيام السلام كنا نركض فى ميادين الشهوات ننفق القناطير ص _111(2/96)
المقنطرة فى ملذات البطون والفروج وفى عماية من نسيان الله ذهبت أيام السلام بأوزارها وجاءت أيام الحروب بعارها ونارها وها هى ذى أيدينا تكاد تصفر مما أفاء الله علينا، لقد أضعناه فيما يضر ولا ينفع، فيما يخفض ولا يرفع ! وهذا هو الانتحار الجماعى الماحق!. إن نهاية العرب معروفة إذا ظلوا متنكرين للإسلام، رافضين الانتماء إليه، زاهدين فى حمل رسالته " ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين ". أما إذا غيروا ما بأنفسهم ، واحتموا بعقائدهم وشرائعهم ، وجددوا سيرة سلفهم فسيداوى الله جراحهم ويلم شعثهم ويؤتيهم خيرا مما أخذ منهم. ص _112(2/97)
إذا لم تعد للدين مكانته إذا لم تعد للدين مكانته فى تطييب الخواطر وتهدئة النفوس فسيبقى الناس متدابرين متحاقرين لا يجمع شملهم شىء، ويؤسفنى أن نقلة الإصلاح عن أوربا لا يعرفون هذه الحقيقة.. حدث أيام عبد الناصر أن صدرت قوانين بتخفيض إيجارات المساكن فقد فيها المالك ثلاثة أخماس ما كان يأخذه من المستأجر، وقد حزن لذلك الملاك وفرح المستأجرون وتحولت العلاقات القديمة إلى جفاء وعصب.. لكنى أعرف أحد علماء الأزهر الأتقياء، وكان يقيم فى مسكنه بالإيجار ذهب إلى صاحب البيت بالأجرة القديمة وكأنه لم يصدر بتخفيضها قانون، ودهش المالك وخشى أن يخالف القانون الثورى بيد أن العالم الورع اتفق معه شفويا على استدامة الوضع الذى كان، رافضا أكل أموال الناس بالباطل..!. ومضى القانون فى مجراه، ونما على مر الأيام فتجمدت القيمة المفروضة، ثم تقرر أن يورث العقد، أن يحل الأولاد محل الآباء والأجداد.. أى أن عقد الإيجار تحول إلى عقد ملكية مقنعة . ونشأ عن ذلك أن أحجم الملاك عن التأجير، فاختفى هذا النوع من المعاملات مع الحاجة إليه، وتوجد الآن مئات الألوف من المساكن المغلقة على فراغ، لأن المالك لا يريد أن يفقد ماله على نحو جائر.. إن التظالم بين الناس لا يجوز، ومن العبث أن تحل مشكلة بصنع مشكلة أخرى، أو أن تعز طبقة بإذلال طبقة أخرى.. إن بعض الحكام يتصرف بدواء الحقد فيعمى عن طريق المصلحة، ويعجب بفلسفة مستوردة فيطمس بها حدود الله ومعالم الدين، ولا يبالى بما يقع بعد، وقد رأيت أن جماهير من العمال والفلاحين أمست تجتاح حقوق غيرها بدل أن تقنع بحقوقها، ص _113(2/98)
وأن عواطف القناعة والرضا تبخرت لتحل محلها مشاعر الاستئثار والجشع وهضم الغير... يمكن عن طريق التشريع محاربة الاحتكار، وتقليم أظافر الباغين، لكن ذلك يتم فى المحل الثانى! أما المحل الأول فهو تنمية الإيمان وإشاعة أخلاقه وتقاليده. إن الاستعمار الثقافى استبعد أثر العقيدة والصلاة فى كل إصلاح، بل إنه يطارد التدين ويفترى على أصوله ورجاله، ويستحيل أن تحقق أمتنا خيرا ما بقى هذا الافتيات. ص _115
خواطر متناثرة فى قضايا المرآة. ص _116(2/99)
النهضة النسائية الحقة أنا وغيرى من المخلصين مشغولون بالنهضة النسائية المعاصرة. نفرح لاستقامتها ونأسى لعوجها، ونتفرس فيما تنقله عن الحضارة الحديثة كى نميز الخبيث من الطيب ، ونضمن مستقبلا طهورا وضيئا لأمتنا كلها. إننى أعترف بأن المرأة لم تعامل بتعاليم الإسلام خلال قرون مضت ! لقد فرضت عليها الأمية وحظرت عليها المساجد، وأقصيت إقصاء حاسما عن ميادين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقطعت صلاتها بشئون الإسلام الحضارية والسياسية والعسكرية، بل مسها الضيم فى شئونها الخاصة وأمست لا تحسن إلا الخدمة البيتية والغرائز البدنية. واتسعت مسافة البعد الروحى والعقلى بينها وبين النساء فى سلفنا الأول كما تتسع المسافة بين الإنسان والحيوان... وشاء الله أن يدفع المسلمون جميعا ثمن هذه الخيانة لمبادئ الإسلام فاحتلت أرضهم وأدمغتهم وأفئدتهم ، وبعد أن كانوا طليعة هادية أو عالما أول أصبحوا قافلة تتبع غيرها. أو عالما ثالثا يقاد ولا يقود.. ومن حق النساء أن يسعين نحو عالم أفضل ولكن سوء التقليد ورَّط النهضة النسائية فى هنات تحتاج إلى التحذير، إن المرأة الأوربية شاركت الرجل فى جميع فنون المعرفة ، واتسعت آفاق الجنسين على سواء، ووجد من النساء من تصبّب عرقها وهى تستكمل شخصيتها العقلية والأدبية. وفى ميدان الدين رأيت بعينى نسوة فى الجزائر يخدمن عقائدهن ببأس واستماتة!. فلما نظرت إلى المرأة الحديثة عندنا وجدت التقليد فى عرى الرأس لا فى امتلائه بالمعرفة ، وفى ارتداء الثياب الفرنجية المخصصة للصباح أو المساء! وفى الحرص على ص _117(2/100)
أدوات الزينة ، وفى التجهم لتعاليم الدين. وقل من تكترث بصلاتها أو تهتم بقضايا أمتها الثقافية والسياسية.. وللحضارة المنتصرة مباذلها المخوفة ، وهى مباذل يكسر حدتها التقدم العلمى الهائل هناك ، بيد أننا نجحنا فى نقل هذه المباذل إلى جانب التخلف المحزن السائد بيننا فتضاعفت الأخطار. ولست أحب أن أسمع للمتشائمين ولا أن أتابع المتهورين! إننى وقاف عند تعاليم دينى كما عرفتها من كتاب ربي وسنة رسولى لا كما صورتها عصور الاضمحلال أو أهواء الرجال!. وما أكثر القضايا التى انحرفنا فيها عن منهاج الكتاب والسنة ، فإذا نحن اجتماعيا وسياسيا نتراجع وتنتقص أطرافنا. حتى كاد الانتقاص فى هذا العصر يأتى على حقيقتنا. ولعل قضايا المرأة ورسالتها فى الحياة من أهم هذه القضايا. ص _118(2/101)
شائعة مكذوبة! الفتوى الشائعة بين بعض المسلمين والمتناقلة بين خصوم الإسلام أن الإسلام يقيم أسوارا عالية بين الجنسين حتى لا يرى أحدهما الآخر، فالرؤية المجردة محرمة!، لقد رجعت إلى القرآن الكريم والسنن المتواترة والصحيحة فوجدت أن هذه الشائعة مكذوبة وأن الرؤية العادية لا شىء فيها، وإنما المرفوض هو الرؤية الجريئة الوضيعة التى تبحث عن الإثم! ومن ثم أمر الدين بغض البصر، أمر بذلك الرجال والنساء على السواء. فإذا حدث أن وقع البصر على شىء يثير، وجب على المسلم ألا يعاود النظر، وأن يحصن ضميره من الريبة وشتى الوساوس. فالمسجد والشارع وأرجاء المجتمع يوجد فيها الجنسان تحكمهما هذه الآداب : عدم التبرج والإثارة ، غض البصر والتزام العفة، انشغال كل مسلم ومسلمة بالأغراض المشروعة التى خرج من أجلها.. وقد تواتر ذلك فى حياة السلف الأول فرئيت المرأة فى المسجد، بل تبعت الجيوش المقاتلة، يحيط بها سياج من آداب الإسلام المقررة. وأعرف أن هناك أثارا واهية نبذها أصحاب الدقة العلمية فى تمحيص المرويات ، ولم يذكرها عالم يروى الصحاح، ولا احترمها فقيه ينقل حقائق الإسلام، مثل ما روى عن فاطمة أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل، ومثل حديث منع الرسول بعض نسائه أن يرين عبد الله بن أم مكتوم! وتلك كلها أخبار لا تساوى الحبر الذى كتبت به، وهى ظاهرة التناقض مع مقررات الكتاب والسنة المقطوع بثبوتها ودلالتها. ولكن هذه المرويات المنكرة من الناحية العلمية هى التى صنعت الفكر الإسلامى فى العصور الأخيرة، وفرضت الأمية والتخلف لا على المرأة وحدها، بل على نظام الأسرة وكيان المجتمع وطبيعة التشريع . ص _119(2/102)
ووجد من خطباء المساجد من يقول: المرأة لا تخرج من بيتها إلا إلى الزوج أو إلى القبر! ومن أيام جاءتنى امرأة ثاكلة تقول: إن فؤادها يحترق من الحزن، وإنها تريد أن تزور قبر ابنها. قلت لها: ولماذا لم تزوريه ؟ قالت: إن إمام المسجد ذكر أن اللعنة تنزل على من يفعل ذلك! قلت لها: زورى قبر ابنك وأنت محتسبة صابرة. ثم عودى إلى بيتك وأنت مسلمة بقضاء الله، ولك الأجر إن شاء الله. إن النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما روى البخارى ـ لم ينه عن هذه الزيارة. ولا لام صاحبتها. إن هناك عقولا معتلة، تتعشق الآثار المعتلة ، وتبنى عليها ما تهوى من أحكام والإسلام النقى برىء من هذه الانحرافات.. إننا فى عصر شاركت المرأة الرجل غزو الفضاء فلا يجوز أن نترك القاصرين يثيرون على ديننا التهم، وينقلون إلى الناس ما فى نفوسهم من علل. ص _120(2/103)
لهن مثل الذى عليهن شرف الأمة أن تحكمها تقاليد النبل أكثر مما تحكمها قوانين القمع. إن سلطان الأخلاق أجدى وأرحب من سلطان الدولة، والمنعة الحقيقية للأمم هى فى سيادة الهدى والتقى والعفاف والغنى ـ الاكتفاء والرضا ـ وقد عين عمر بن الخطاب قاضيا أيام أبي بكر. فظل سنة كاملة لا يأتيه خصم، لأن الناس أنصفوا من أنفسهم، وقديما قيل: إذا أنصف الناس استراح القاضى ! وأذكر أن رجلا قال لعمر: أريد أن أطلق امرأتى! قال له عمر: لم ؟ قال: لأنى لا أحبها! قال عمر: أو كل البيوت بنى على الحب ؟ فأين التذمم والوفاء ؟ والواقع أن الأخلاق وحدها هى التى تقوم عليها البيوت، وأن سياط القانون أفشل شىء فى إقامة علاقات أسرية سليمة.. وفى الحديث "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم " وفى رواية " إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله ". وكما أوصى الإسلام الرجل بامرأته، أوصى المرأة بزوجها. وجعله جنتها أو نارها حسب معاملتها له.... غير أن بيوتا كثيرة فقدت روح الدين وتعاملت بطباع الحيوان أكثر مما تعاشرت بخلائق الإيمان، فهى تتنفس فى جو من الشراسة والنكر، ولست أدرى أين فى جنباتها مكان المودة والرحمة... لقيتنى فى المسجد زوجة تجن من الغيظ، تقول: إن زوجها ضربها ضربا مبرحا. وأحسست أنها سوف تبيع الدين والدنيا معا لتتركه.. ولقيت الرجل وسألته معاتبا فإذا هو يجيبنى: إنى أؤدبها لأنها تكثر من مراجعتى! قلت له: ليس لك هذا. إن الضرب ما يقبل إلا إذا نشزت المرأة واستكبرت على زوجها واحتقرت رغبته وتركته وكأنه بلا صاحبة! وحالة أخرى: أن تأذن فى بيته لمن يكره دخوله فإن من حقه أن يغار، وألا ص _121(2/104)
يرى فراشه أجنبى! أما الضرب خبط عشواء ، فهذه حيوانية وليس يجوز للرجل أن يكون مع زوجته وحشا ولا قبيحا؟. إن الإسلام جعل الرجل قيما على بيته. وجعل الحقوق والواجبات قسمة متبادلة بين الزوجين، " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " وأعرف أن من النفوس حرائر وإماء وأن من الرجال والنساء من يستجيب للعنف أكثر مما يستجيب للطف! لكن شيئا من هذا لا يبيح لنا أن نظلم الإسلام أو نسلك مسالك تجر عليه التهم ، وتجعل البعض يقول : إنه يهين الأنوثة ويجرح كرامتها ويستبيح الخشونة معها. ص _122(2/105)
حدود الله فى البيت لكى يبقى البشر على ظهر الأرض، ذكرانا كانوا أم إناثا لابد من أمرين: الطعام والزواج. فالأكل لحفظ الحياة، والزواج لاستدامتها. وهناك مخلوقات أخرى تعيش بهذين الأمرين على نحو ما، إلا أن الله عز وجل كرَّم بنى آدم فجعل طعامهم من الحلال الطيب، وجعل تواصل بقائهم فى لقاء شريف محترم!. إن الدواب تأكل ما تجد، أما البشر فقد رفع الله مستواهم وقال لهم " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.. " والحيوانات تتكاثر بضروب من السفاد المرئى أو المستور، أما البشر فقد جعل الله لهم الزواج سكينة ورحمة ونماء، ونسبا وصهرا " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ".. وكما رفض الإسلام الأكل من سحت حرم التسول الجنسى، وحرم كل لقاء يتم فى غيبة الإيمان. ولا شك أن الإسلام عندما رفض الرهبانية كان أقرب إلى سلامة الفطرة وأعرف بحق الحياة من الأديان التى ظنت الرهبانية قربى إلى الله! إن الله لا يُتقرب إليه بتخريب الوجود، وانتهاء الحياة فى جسد رجل أو امرأة!. لكن ما الحياة التى ينشدها الدين من الزواج؟ هل هى زيادة الإنتاج الحيوانى وتكثير أعداد السكان؟ كلا إن الزواج كما شرحه القرآن تعاون بين الزوجين على أن يقيما حدود الله، وهذا هو السر فى قوله تعالى معالجا مشكلات البيت " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ". ص _123(2/106)
وأحسن وصف لحدود الله قول الرسول الكريم: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته فى نفسها وماله". والبيت المسلم فى هذا النطاق محضن لتربية الأولاد كما هو مستقر للزوج يستجم فيه من وعثاء الكدح ومشقات الدنيا والمسلمون للأسف لا يعرفون كيف يقيمون حدود الله فى البيت، ذلك أنهم من زمان بعيد تواصوا بتجهيل المرأة وتواصوا ازدراء الأنوثة! وظنوا وظيفة المرأة طهو الطعام وإجابة الشهوة وتسمين الأطفال، وحسبها هذا! والانهيار العلمى والروحى الذى أصاب العالم الإسلامى، ثم أصاب العالم كله بعد ذلك يعود إلى النظرة الحيوانية المجردة لوظيفة المرأة فى المجتمعات الإنسانية ، واعتبار العلاقة بين الجنسين الأكل والسفاد . ص _124(2/107)
الوجود النسائى فى المساجد مازلت أحذر من أثر الأحاديث الضعيفة فى الميدان التربوى والاجتماعى، وكذلك من الأفهام المعوجة للأحاديث الصحاح، وديننا ولله الحمد محفوظ يذود عنه الراسخون فى العلم هنا وهناك. قرأت حديثا عن أبى الدرداء "من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه صادقا كان أو كاذبا "!. رواه أبو داود موقوفا، وابن السنى مرفوعا، وقال المنذرى: مثله لا يقال من قبيل الرأى فسبيله سبيل المرفوع، وقال الشارح: إن الكاذب يقبل دعاؤه ببركة هذه الكلمات! ونحن نرفض هذه المجازفات، فالرواية باطلة سواء كان الحديث موقوفا أو مرفوعا، وتسوية الكاذب بالصادق ضرب من الخبال، وإذا لم يكن ذلك علة قادحة فى قبول المتن فما تكون العلل؟. ولكن بعض المشتغلين بالسنة يفقد ملكة الفقه الدقيق، فتمر به الترهات وهو غير فطن لها. ومن ذلك ما ورد فى السنن " أن أحب صلاة المرأة إلى الله فى أشد مكان فى بيتها ظلمة" حتى أن بعضهم فضل ذلك على صلاة المرأة فى المسجد النبوى.... وقد رد ابن حزم هذه المرويات كلها وحكم بكذبها. ولست من أتباع المذهب الظاهرى، ولكنى أعلم علم اليقين أن النبى عليه الصلاة والسلام نظم صفوف النساء فى مسجده الشريف، وجعل للنساء بابا خاصا بهن، ونهى الرجال أن يقتربوا من صفوف النساء بأن يتأخر بعضهم عن الصفوف الأولى ليكون قريبا من النساء وقال فى ذلك: " لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله فى النار". وكان النساء يحضرن الجماعات كلها من الفجر إلى العشاء، فإذا كان ذلك يخالف الفضل أو ينقص الأجر فماذا تركهن النبى عليه الصلاة والسلام يتحملن هذه المعاناة ليلا ونهارا؟. ص _125(2/108)
ولست مع ابن حزم فى أن النساء والرجال جميعا سواء فى سنة الجماعة، والذى أراه أن المرأة راعية فى بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها، فإذا احتاج الرجل والأولاد إلى إعداد طعام أو تهيئة راحة، ظلت المرأة فى بيتها ولم يجز لها الذهاب إلى المسجد وترك البيت مهملا ضائعا، ولها ثواب الجماعة التى تخلفت عنها لعذر شرعى.. أما إذا قامت بأمانات البيت كلها، فالأفضل لها أن تلحق بالمسجد، وتشارك فى الجماعة، وليس للرجل أن يمنعها، كما جاء فى الحديث " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " إن إلغاء الوجود النسائى فى المساجد محو لسنة عرفها عصر النبوة والخلافة الراشدة، ولسنا أولى بالله من سلفنا الصالحين . ص _126(2/109)
ليست الرجولة أشرف من الأنوثة دخلت مكتبى فتاة يبدو عليها الضيق والغضب، وقالت لى: أرجو أن تسمع شكاتى وتعمل على إنصافى! إننى طالبة فى الجامعة من ثلاث سنين، أنجح غالبا بدرجة الامتياز، وكانت أمى تخدمنى أنا وإخوتى فى البيت، وإخوتى طلاب فى الجامعة مثلى، وينجحون غالبا بدرجة مقبول ، وحدث ما لم نكن نتوقع فقد مرضت أمنا ولزمت الفراش، والأخوة الآن يطلبون منى أن أخدمهم مكان أمهم، وقد عرضت عليهم أن نتقاسم أعباء البيت جميعا بعد أن نعود من الجامعة، فأبوا قائلين: أنت امرأة وعليك وحدك واجب الخدمة!. قلت: وما تطلبين منى؟ قالت : تكتب لهم أن نتعاون، وتذكر لهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان فى خدمة أهله، وأنه كان يقوم فى البيت بأعمال يستنكف منها الآن بعض الرجال ، إن تكليفى بالأعمال المنزلية وحدى ظلم لى وأنا متقدمة فى دراستى وتدليل لهم وهم متخلفون عنى!. ولم أطق أن أسمع أكثر من هذا، فجئت بورقة كتبت فيها حديث أم المؤمنين عائشة، وأعطيتها إياها كى يقرأها الأخوة!!. قال لى شخص كان يرقب الحوار: لم فعلت هذا؟ أليس يقول الله تعالى : "وليس الذكر كالأنثى "، يجب أن تخدم إخوتها وأن تلزم البيت وتترك الجامعة!. قلت: الآية التى ذكرتها بقية كلام لامرأة عمران التى كانت حاملا فنذرت ما فى بطنها سادنا للمسجد، وكانت تنتظره رجلا، والرجل أقدر على إمامة الناس: إقامة الشعائر من المرأة، فلما جاء المولود أنثى هى مريم الصديقة اعتذرت إلى الله عن الوفاء بنذرها قائلة: " رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ". ص _127(2/110)
لقد طلبت من الله أن يحمى الفتاة التى جاءت على غير انتظار، مادامت لن تستطيع توجيهها إلى سدانة بيت المقدس وإمامة المسجد الأقصى!. لكن الرجل قال لى: الذكورة على كل حال أشرف من الأنوثة، وما يجوز لك أن تحرض الفتاة.. فقاطعته غير منتظر أن يتم حديثه وقلت له: تعنى أنك أفضل من مريم لأنك رجل وهى امرأة؟ إن امرأة فرعون أرجح فى ميزان التقوى منك، وإن كنت رجلا وكانت هى زوجة جبار من الدعاة إلى النار... لكنكم تجهلون حقائق الدين والدنيا. ص _128
صوت المرأة ليس عورة كان شاب قريبا منى يكاد يتميز من الغيظ، ونحن نستمع إلى بحث تلقيه إحدى السيدات. قلت له : ما بك؟ هل فى الكلام خطأ؟ فرد على عجل: أتقر هذا؟! أليس صوت المرأة عورة؟ فأجبت فى برود : هذا كذب لا أصل له فى دين الله. اسمع حكم الإسلام من كتاب الله، يقول الله لأمهات المؤمنين إذا حدثن أحد : ".. فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " فهل يصمتن فلا ينبسن ببنت شفة لأن الصوت عورة؟ كلا "... وقلن قولا معروفا " أى ليكن الكلام طبيعيا ليست به نغمة مريبة ولا لحن مثير!. وعندما جاءت المؤمنات مهاجرات من مكة بعد عهد الحديبية عقد لهن امتحان شفوى لتعرف أحوالهن، هل هن فارات بدينهن حقا؟ أم لهن مآرب أخرى، فإذا تبين من النقاش إيمانهن قبلن فى المجتمع الإسلامى "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" ولم يدر بخلد أحد أن صوت المرأة عورة ؟. وعندما جاءت المجادلة تشرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قضيتها، وتراجعه فى الحكم لم يقل لها اسكتى إن صوتك عورة... وعندما جاءت بنت شعيب ـ التى صارت زوجة لموسى فيما بعد ـ تقول له : " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" لم يقل لها موسى كيف تتحدثين معى هكذا وصوت المرأة عورة؟ وعندما دخلت ملكة سبأ قصر سليمان، وأراها العرش الذى استحضره من اليمن إلى القدس وسألها: " أهكذا عرشك قالت كأنه هو"! قال المفسرون: عرف من إجابتها ص _129(2/111)
ذكاءها لأنها مع إحساسها بأنه عرشها استبعدت أن يطير آلاف الأميال لتلقاه هنا! ولم يقل عالم ولا جاهل: إن صوتها عورة. وعندما خرجت زينب بنت رسول الله على المسلمين فى المسجد وأعلنت أنها أجارت زوجها الذى أسره المسلمون فى بدر، استمع الناس إلى الصوت الراجى المحزون ، وقال الرسول الكريم فى رقة: لم نتفق على هذا وإن شئتم رددتم إليها زوجها ولم يقل أحد : إن صوتها عورة... إننى أكره من أعماق فؤادى علاقة المرأة بالرجل فى الحضارة المادية التى أقامها الغرب ـ الصليبى والشيوعى ـ بيد أن هذه الحضارة سوف تبقى بأرجاسها وأدرانها ما بقى المتحدثون عن الإسلام يقدمونه بهذا الجهل والعمى!. إن صوت المرأة ليس عورة، العورة هى فى هذا التفكير الذى لا سناد له، والذى يصرخ به شباب جهول، باسم الإسلام المظلوم. ص _130(2/112)
التعدد عندنا: ماذا عندهم؟! سمعت فتاة تهاجم الإسلام فى حفل كبير، وتصف تعدد الزوجات بأنه بغاء!. وقلت للحفل المستمع : إن الأديان كلها، وليس الإسلام وحده، يبيح التعدد، ولم يقل موسى أو عيسى أو من قبلهما إن التعدد حرام، والذى يثير الدهشة أن الإسلام يهاجم لإباحته التعدد ـ لقيود معروفة ـ وأن الحضارة الحديثة لا تهاجم وهي، تبيح الزنا واللواط، ولا تهاجم وهى تحبذ مراقصة لأنثى غريبة عليه ! ولا تهاجم لأنها تركت الرغبة الحيوانية تنطلق على ظهر الأرض دون عائق!! إن التعدد قليل بين المسلمين الآن لظروف اقتصادية واجتماعية، لكن أتباع ديانات أخرى يلغون فى الأعراض المحرمة على نحو لم تعرفه الدنيا من قبل ، ويستطيع العامل المحدود الدخل أن يتصل بعشرات النساء إذا شاء دون كلام أو ملام!. بل يستطيع رجل الدين أن يتأسى بسليمان الحكيم الذى جاء فى التوراة أنه كانت لديه ألف امرأة، ثلاثمائة من الحرائر وسبعمائة من الإماء، ومع ذلك فقد كان ينطلق مغنيا فى شوارع القدس وراء " الحبيب المجهول" كما جاء ذلك فى العهد القديم فى سفر " نشيد الإنشاد الذى لسليمان "...!! لقد قرأت أن " ريشيليو" الكاردينال الفرنسى المشهور كان مريضا بالزهرى! فهل جاءه المرض من كثرة الصلاة ؟ ونشرت مجلة " النيوز ويك " فى عددها الصادر فى 1/7/1974 أن أحد الكرادلة الكبار فى فرنسا مات فى أحضان إحدى العاهرات، ونشرت إحدى العاهرات مذكراتها فى فرنسا! فجاء بها أسماء ثلاث بابوات وأحد عشر كاردينالا. وتد نشرت "الديلى ميل " سنة 1970 فى تحقيقات قامت بها أن الإحصاءات تشير إلى أن 80% من الرهبان والراهبات يمارسون الزنا ، وأن 40% ص _131(2/113)
يمارسون علاقات شاذة، فهل هذا الوضع أزكى وأفضل من العلاقات الطبيعية التى يقررها الإسلام ؟ وهل الشرف والإيمان والتحضر، فى السكوت على هذه المآسى وتناول الإسلام وتعاليمه بالذم والانتقاص ؟ إن الإسلام يشتم لأغراض استعمارية دنيئة، وقد استمعت إلى بابا الفاتيكان فى رحلته الأفريقية الأخيرة وهو يهاجم مبدأ " تعدد الزوجات " ويلمز تلميحا أو تصريحا الدين الذى يبيحه، فهززت رأسى فى صمت. ولكنى لم أستطع كتمان دهشتى وهو ـ بعد أن أعلن الحرب علينا ـ يدعو إلى السلام بين الناس!. أى سلام بعد نهب أراضينا وطى أعلامنا ؟ ص _132
الحجاب الطريد!! جاءتنى فتاة يبدو عليها الحزن والضيق، وقالت لى: إن حياتى الزوجية مهددة! قلت: لماذا؟ قالت: زوجى يرفض ملابس الحجاب التى أرتديها. ويطلب إلى التكشف وتعرية الرأس وإبداء زينتى للناس!! وأنا مستمسكة بتعاليم الدين، لكننى الآن مهددة بالطلاق إذا لم أستجب له.. الحق أننى استغربت القصة وبعد لقاء مع الزوج أفلحت فى تأخير العقوبة التى يتوعد بها امرأته، وعدت وأنا أتساءل: هل الدياثة طبع فى بعض البشر؟. وما كدت أجلس إلى مكتبى وأفتح الكتب المرسلة إلى حتى استوقفتنى رسالة موقعة من نحو ستين فتاة بين طالبة وعاملة يستنجدن بى مما نزل بهن.. الرسالة من قطر عربى " مسلم " صدر به منشور إدارى تطلب فيه الحكومة التخلى عن " ملابس الحجاب " وإلزام كل طالبة فى المعاهد والجامعات، كل عاملة فى القطاعين العام والخاص بتعرية الرأس والسيقان وكشف ما تيسر من الأذرع، أى نبذ الحجاب الشرعى والظهور فى الملابس الغربية الشائعة فى العصر الحديث... وتتعرض للطرد فورا كل من تخالف هذا الأمر، وقد فصل عشرات من الطالبات اللاتى تمسكن بالزى الإسلامى.!. وتم طرد طبيبات وممرضات من بعض المستشفيات لإصرارهن على التزام الحجاب. وقال مدير أحد المعاهد العلمية: إن الطالبة التى تدخن أفضل عندى ممن تلبس الحجاب!!. ص _133(2/114)
وتحت وطأة هذا الإكراه ورغبة فى استكمال الدراسة خضع بعض الفتيات على حين آثرت أخريات المكث فى بيوتهن دون تعليم!. وأريد أن يعرف العالم الإسلامى أن الحجاب الممنوع إداريا هو كشف الوجه واليدين مع ستر باقى الجسم، أى أن الفتيات لسن منقبات! ومع ذلك فإن صورة التدين فى هذا الزى المحتشم مرفوضة. المطلوب أن يختفى كل اتجاه إلى الإسلام.. والذين أصدروا هذا القرار الظلوم يطبقونه بصرامة... على المسلمات وحدهن بداهة، أما الراهبات المسيحيات فلا يجرؤ أحد على اعتراضهن، وإن كان زيهن هو هذا الحجاب المطارد!! ص _134(2/115)
امرأة أفضل من الرجال هذه قصة امرأة أفضل من بضعة رجال " نسيبة بنت كعب " المكناة بـ "أم عمارة " وهى صحابية جليلة، شهدت معركة أحد، وأبلت فيها بلاء حسنا، وثبتت عندما هرب غيرها، وكانت قريبة من النبى صلى الله عليه وسلم تنافح عنه ببسالة ومقدرة، فقال يصف قتالها للمشركين: " لمقام نسيبة اليوم خير من مقام فلان وفلان! " قال كتاب السيرة: كان يراها تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا.. ويظهر أن أشد جروحها ما أصابها وهى تقاوم " ابن قمئة " وهو رجل من المشركين أقبل ساعة الهزيمة يصيح : دلونى على محمد! لا نجوت إن نجا! فكانت أم عمارة بين من اعترض طريقه من فرسان المسلمين، فضربها على عاتقها ضربة غائرة ظلت تتداوى منها فيما بعد عاما.. وضربته هى ضربتين لم تؤثرا فيه لأنه كان يلبس درعين!. ومن الطرائف ما روته أم عمارة قالت: رآنى عليه الصلاة والسلام لا ترس معى، ورأى رجلا موليا ومعه ترسه، فقال له: ألق ترسك لمن يقاتل! فألقى ترسه فأخذته وتتريست، قالت وجعلت أدافع عن النبى عليه الصلاة والسلام، فأقبل علىَّ فارس وضربنى بسيفه ضربة وقانى منها الترس، فلما فشل ضربت عرقوب فرسه بسيفى فوقع على ظهره، وعاوننى ابنى عليه بعدما نبهه الرسول إلى ما حدث وأذقناه كأس الموت... واعترضت أم عمارة فارسا آخر كاد يقتل ابنها، ضربته بسيفها على ساقه فبرك، ومازالت به هى وابنها حتى هلك، والنبى عليه الصلاة والسلام يشهد فعالها ويشد عزمها ويثنى على شجاعتها، قال الراوى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم أحد: ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دونى..!. وقد شهدت أم عمارة بيعة العقبة، كما شهدت بيعة الرضوان، وبعد انتقال النبى ص _135(2/116)
إلى الرفيق الأعلى قاتلت مع خالد بن الوليد فى حروب الردة، وشاء الله أن يستشهد ولدها، وأن تقطع يدها فى معركة اليمامة، وكان عزاؤها أن الله نصر المسلمين، وقتل مسيلمة الكذاب وقضى على فتنته.. ورجعت الأم البطلة إلى المدينة، وهى مصابة فكان أبو بكر خليفة رسول الله يعودها ، ويتابع السؤال عنها رضى الله عنها وأرضاها. أما تحتاج أمتنا فى هذا العصر إلى رجال من هذا الطراز، إنها أولى ببيت المتنبى: ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال! ص _136(2/117)
فضيلة مدمرة! الرهبانية عبادة اخترعها البشر، وجعلوها رمزا للتسامى وقهر الغرائز وانتصار الروح على المادة. ونسأل: هل الرهبانية فضيلة حقا؟ ونجيب : لو أن هذه الفضيلة شاعت بين الناس واعتنقها الرجال والنساء لقضت على الإنسانية خلال قرن أو بعض قرن! لأن الحياة تنتهى بها والنسل يتوقف عندها.. إنها فضيلة مدمرة! وطبيعة الأخلاق والمسالك الفاضلة إذا شاعت أن تعمر لا أن تخرب وأن ترقى بالعالم لا أن تقضى عليه.. ومن ثم فنحن من الناحية العقلية والاجتماعية نحارب الرهبنة وننظر إلى أصحابها ودعاتها وكأنهم مرضى.. وقد رفضنا فى مواضع كثيرة وصف الغريزة الجنسية بأنها رجس من عمل الشيطان، ويستحيل أن يجعل الله امتداد الحياة قائما على هذا الرجس! إن هذه الغريزة عندما تستقيم وتنضبط تكون من سنن الفطرة ودعائم المودة وقيام الأسر وكفالة الأولاد وإشاعة العفاف!. وقد أسهب الإسلام فى شرح هذه الحقائق، وأظن العالم فى عصرنا هذا أحوج ما يكون إلى فهم الإسلام والتمشى معه، واعتبار الزواج عبادة والاعتراف بمطالب الغريزة داخل نطاق محكم من العدالة والتقوى وحسن التقدير... إن الكنائس المختلفة تهاجم بضراوة نظرة الإسلام إلى الغريزة الجنسية، ولا تنفك عن مهاجمته واتهامه، وقد لاحظت أن آباء الكنيسة فى إنجلترا أيدوا مجلسى اللوردات والعموم فى إباحة اللواط، ورفضوا بإباء وشمم إباحة التعدد ـ بشروطه الإسلامية ـ ص _137(2/118)
ترى هل ندموا على ذلك بعد ما انتشر وباء " الإيدز" فى العالم كله نتيجة النظرة الغربية إلى العلاقات الجنسية ؟. يستطيع أى صعلوك فى مدن الغرب وقراه أن يشبع نهمته الجنسية من عشرات النساء، والدول الآن فى ظل حضارة الغرب تيسر البغاء، وتضمن بالكشف الطبى المنتظم سلامة المومس لأن يطرقها من شاء! فهل هذا هو البديل الدينى المحترم الذى يرتضيه آباء الكنيسة ويرونه أزكى وأشرف من إباحة التعدد ـ بشروطه الإسلامية ؟. لقد قرأت كلاما لبعض الكهان والرهبان يصف تعدد الزوجات بأنه زنى صريح أو مقنع، ولم أقرأ لواحد من هؤلاء غمزا للفوضى الجنسية التى نقلت الحرام من عبث يتم فى جنح الليل إلى تهتك يتم فى وضح النهار، إن هذا الفحش أرضى لنفسه المريضة من البيوت التى يبنيها الإسلام على النسب الصريح والطهر الكريم والعلائق المكينة. هؤلاء الكهان والرهبان هم المسئولون عن شيوع الإيدز والزهرى والسيلان.. وحقدهم على محمد ودينه مرض أفتك من هذه الأمراض الخبيثة كلها. ص _138(2/119)
عبث بأسرار الخليقة أحسست قدرا من القلق عندما انكشفت للناس بعض أسرار الخليقة ، فقد ساء تصرفهم فى العلم الذى أفادوه. وتفاقمت الأخطار مع ضعف الدين والخلق..! لقد تجاوزنا عما سمى طفل الأنابيب! وهى تسمية مزورة لأن المزيج المتكون من ماء الرجل والمرأة هو من صنع الله وحده، ظل فى الأنبوب بضع عشرة ساعة ثم عاد إلى الرحم ليتكون فيه خلقا من بعد خلق فى الشهور التسعة المقدورة.. قلنا: أعان العلم زوجين على الإنجاب، ووصل الزوج إلى زوجته بوسيلة ما فلا حرج! ثم فوجئنا بما سُمى الرحم المستأجرة! أى أن النطفة المتجمعة من شخصين توضع فى رحم امرأة أجنبية لتتحمل بالثمن الغالى أو الرخيص متاعب الحمل والوضع!. والحق أن هذا مسلك وضيع، وقد رفضت محاكم إنجلترا ذلك العقد، وحكمت بالطفل لمن وضعته لا لمن استأجرها، ونحن نرفض هذا العمل من أصله!. الأدهى والأمر من ذلك مما قرأته فى مجلة اليونسكو عدد مارس سنة 1986 تحت عنوان " العلاقة بين الجنسين فى الغرب " جاء فيه: " إذا عرفنا أن علماء البيولجيا وعلماء الوراثة يتوقعون أن يتمكن العلم فى وقت قريب من إخصاب بويضة الأنثى دون الاستعانة بحيوان منوى!. أدركنا مدي اقترابنا من تحقيق حلم عريق قوى السلطان، وهو حلم الإنجاب دون حاجة إلى الجنس الآخر. لولا أنه يعنى فى هذه الحالة! إنجاب المرأة دون حاجة إلى الرجل.. الخ ". ويزداد الطين بلة عندما نقرأ ما جاء فى الأهرام 10 مايو سنة 1986: "أعلن العلماء البريطانيون والأميركيون أمس أن الرجال يستطيعون الإنجاب خلال السنوات الخمس القادمة وأن الأطباء سوف يزرعون بويضة الأنثى فى أنبوب داخل جسم ص _139(2/120)
الرجل.. ثم تتم الولادة بعدئذ بعملية قيصرية.. ويقول الطبيب الإنجليزى "جون برسونز" إنه يمكن تزويد الرجل بالمكونات الخاصة بالجنين " تلك المكونات التى يعجز جسمه عن إفرازها، وبذلك ينفتح الباب أمام من تعجز زوجاتهم عن الإنجاب كى ينجبوا بأنفسهم "!!!. لا أرتاب فى أن العالم فقد وعيه بهذا المسلك الطائش! إنه يجب الضرب على أيدى هؤلاء العابثين! إن الحضارة الحديثة تشبه غلاما شديد البأس سقيم النفس يوشك أن ينتحر! ص _140(2/121)
أدوية إسلامية لعلل العصر فى الإسلام أدوية لعلل تشكو منها الحضارة الحديثة، لكن هذه الأدوية قلما توصف وإذا وصفت فيستحيل أن تقبل لا لشىء إلا لأنها إسلامية.. خذ مثلا قضية الخمر! إن كلتا الجبهتين الشيوعية والرأسمالية تشكو من ضراوتها وآثارها، وتحصى الخسائر الناجمة عن شربها فى مجال الإنتاج والمواصلات والصحة العامة، إلى جانب الأخلاق والأعمال المختلفة. ومع ذلك فإن اللجوء إلى تحريمها ليس موضع تفكير لأن الإسلام سبق إلى هذا التحريم البات. وأذكر أنه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية فكر الألمان فى إباحة تعدد الزوجات لأنهم فقدوا نحو ثمانية ملايين من القتلى والأسرى، وزاد عدد النساء زيادة كبيرة، ثم رئى أن الزنا أفضل من اتباع الإسلام فى حل هذه المشكلة... أكتب ذلك بعد أن قرأت لكاتب فرنسى " محافظ " كلمة تحت عنوان "هذا اليسار الذى يفسد أولادنا... " جاء فيها ما يلى: يوجد فوق مكتبى كتيب مصور يحمل عنوان " أحبَّ واستعلم " وموضوع الكتاب لا علاقة له بالحب، وإنما هو إرشادات عملية لممارسة وقاع لا يخشى معه إنجاب ودعوة لإجهاض مضمون ووطنى باسم حقوق الشباب!!. وقد تم إنجاز هذا الكتاب بتعاون مشترك بين وزارات الشبيبة والرياضة، وحقوق المرأة، والصحة، واتحاد مدارس المربين، ومنظمة التضامن الطلابى!. وطبعت منه خمسمائة ألف نسخة على نفقة المكلفين ووزعت على جماهير الطلاب الذين طلب منهم عدم الأخذ بآراء أوليائهم فى هذه القضية... يقول الكاتب لويس بوولس فى المقال الذى نشرته له صحيفة الافتتاحية الصادرة بتاريخ 5/5/1984 إن هذا الكتيب الرسمى لم يرع أية اعتبارات نفسية أو خلقية أو ص _141(2/122)
فكرية أو أسرية ـ ولم يذكر الكاتب شيئا ما عن الاعتبارات الدينية ـ ولخص فكرته العامة الموجهة للشباب فى هذه العبارة: اسقطوا فى الوحل والدولة تطهركم..!. إن اليسار الفرنسى ترك الحكم فى الانتخابات الأخيرة، فهل كان اليمين أزكى ؟ إن الإسلام وحده الموجه الحاسم لهذه الفوضى، والقاضى الصارم الذى يستأصل تلك الحيوانية الجامحة.. أو قل بتعبير أدق يحول دون وقوعها بما شرع من عبادات وحدود وضوابط.. لكن المسلمين بعد ذوبان شخصيتهم يرنون بإعجاب إلى مباذل الغرب ومآسيه ومعاصيه... ص _142(2/123)
عالمية الرسالة الإسلامية عالمية الرسالة الإسلامية عقيدة من مقررات الفكر الإسلامى، تعتمد على نصوص قاطعة فى كتاب الله وسنة رسوله! ويستطيع قارئ القرآن الكريم أن يطالع هذه العالمية فى سور التكوير، والقلم ، وص ، وسبأ، والفرقان، والأنبياء، ويوسف، والأعراف، والأنعام.. أى فى عشرة مواضع متفرقة أثبتناها فى مكان آخر. ولفتنا النظر إلى أن هذه السور جميعا مكية بل نزل بعضها فى السنة الأولى من بدء الوحى، مما يرد أوهام المستشرقين الذين زعموا أن فكرة العالمية طرأت على الرسول بعدما نجح فى إخضاع العرب عسكريا، فأغراه النصر الذى أحرزه بأن يمد رسالته إلى الأجناس الأخرى.. لابد أن المستشرق الذى أرسل هذا اللغو كان مخمورا فاقد الوعى، وعلى أية حال فليس فيما قاله أثارة من علم، أو سناد من تاريخ!. وينضم إلى نصوص القرآن فى تقرير عالمية الرسالة حشد من السنن القولية والعملية بلغ حد التواتر، ما نازع فيه منازع، بل لم ترق إليه شبهة.. وقد توارثت هذه العقيدة أجيال المسلمين المتعاقبة فلم يشغب عليها شاغب! وعندما حاول التبشير الصليبى أن يهمس بكلام آخر نظر العلماء إلى هذه المحاولة باحتقار، واستبعدوها من ميدان الرأى المحترم، وعدوها من وساوس الحقد الموروث. ثم جاء دور العبث السياسى بالمقررات الإسلامية! فإذا الرفيق "ميشيل عفلق " يصف محمدا بأنه عبقرية عربية وقائد عظيم من قادة الأمة الخالدة!!. ودعك من الوحى الأعلى وختم النبوة وهداية العالمين!!. ص _143(2/124)
وهذا المدح لا يساوى قلامة ظفر، فإن تجريد كبير الأنبياء من تلقى الوحى الإلهى هو أقذع هجاء. ثم جاء الرفيق الدكتور محمد خلف الله يقول إن الإسلام طور من أطوار الترقى للشخصية العربية! وأن محمدا عليه الصلاة والسلام زعيم هذه العروبة فى طورها الجديد، أى أنه رسالة من الأرض نبعت، وفى قوانينها مشت..!!. فلما قال شيخ الأزهر: إن الإسلام رسالة سماوية عالمية جاء الرفيق لطفى الخولى يقول : إن تفسير القرآن ليس حكرا على الأزهر، ولا على علماء الدين!! أى أن أولى الناس بتفسيره من يقولون: لا إله ، والحياة مادة !. ما أظن الهزل فى ميدان المعرفة بلغ هذا الحد من الإسفاف الذى نقرؤه اليوم! وأحسب أن الأمر يحتاج إلى علاج آخر. ص _145
الجزء الثانى
ص _146(2/125)
فارس ضد الإسلام فى أوائل احتلال الفرنسيين للجزائر أصدر الحاكم العام أمرا بتحويل أكبر مساجدها إلى كاتدرائية! وتحركت فرق الجيش المستعمر إلى مسجد "كيتشاوة" فحولته إلى كنيسة بعدما ذبحت أربعة آلاف مسلم استماتوا وراء أبوابه يقاتلون الغزاة الصليبيين.. ثم بعد قرن أدال الله للمسلمين فاستعادوا مسجدهم وشق الأذان أجواز الفضاء مرة أخرى يهتف بتكبير الله وتوحيده. ماذا يقول رجل مثل محمد أركون عن الصلاة والأذان وإقامة المساجد وحضور الجماعات؟ يقول : " ليس من الضرورى دائما التجمع فى مسجد لأداء الصلوات، فالصلاة علاقة فردية بين الإنسان وربه ـ أو بين الإنسان والمطلق كما يسمى الله ـ إنها قضية بين الفرد وربه فى الإسلام وفى أديان التوحيد الأخرى "!! . إذن لماذا بنى المسلمون المساجد، وعكفوا على حضور الجماعات ؟ يقول أستاذ الدراسات العليا فى السربون: الحكام ورجال السلطة هم الذين فعلوا ذلك! إن التاريخ الإسلامى وقع بين أيدى أسر مالت به إلى هذه الوجهة!. وعبارة فيلسوف الفكر الإسلامى فى جامعة السربون هى " الشر كله آت من الخلط الذى استقر لأسباب تاريخية بين الاستعمال السياسى لما هو دينى، والفراغ الفردى عند المؤمن "!!! هذا هو التفسير العلمى لبناء المساجد وإقامة الجماعات بها!. وقد كوفئ أركون بأن منحته فرنسا لقب فارس "شيفالييه " على هذه الجهالة المركبة!. إنه فارس ضد الإسلام وأمته، ونحن لا نلقى هذا الفارس بسيف، إننا لا نلقاه إلا بالعصا أو بما هو دون!.. ص _147(2/126)
وعلى طريقة المبشرين فى مهاجمة الإسلام يقول الدكتور أركون "إن الحكومات تفسر قراءة متوارثة للنص القرآنى على طريقتها، لكن النص نفسه مخبوء ومشوّه ومنسى! " وهو يرسل هذا الكلام الطائش بين يدى حكم له أن الدين يحرم تعدد الزوجات... ونحن نعلم أن القرآن فوق شبهات أدعياء العلم فكيف بشبهات الحمقى؟. لكننا ننصح جمهور المبشرين وأذنابهم بأن يلتفتوا وراءهم وينظروا إلى بلادهم! إن الإسلام خيَّر بين إباحة الزنا وبين إباحة تعدد الزوجات، فاختار الحل الثانى وأبيتم أنتم إلا أن تبيحوا الزنا واللواط والبغاء، وأن تحصدوا من هذه الإباحة مجموعة من الأمراض العفنة آخرها "الإيدز" الذى شرعت هيئة الأم تكافح غارته على الحضارة البشرية.. أعرف أن ببغاوات كثيرة من المشتغلين بالإعلام والتعليم تشتغل الآن لفتنة المسلمين عن دينهم، وإثارة لغط أجوف حول عقائدنا وعباداتنا.. وهيهات أن تصل هذه الببغاوات إلى شىء، سينهزمون كما انهزم سادتهم.. وسوف نرى!!. ص _148(2/127)
هراء يجب أن ينتهى أشعر بازدراء نحو الذين يرفعون راية المنطق العقلى فإذا تحدثوا عن الإسلام لم تر فى حديثهم أثارة من منطق أو بقية من عقل! يقول أستاذ الثقافة الإسلامية فى السربون : " إن المسلمين مشغولون بالسعى وراء المطلق!. ـ والمطلق تعبير فلسفى عن الله ـ وقد تنسب إلى هذا المطلق أمور من صنع الناس هى فى الحقيقة جرثومة التعصب الذى نشكو منه". وما علاج هذه الحال عند الأستاذ الألمعى ؟ يقول فى آخر مقاله : " أرى من الضرورى من خلال التجربة الإسلامية والأزمات الحالية طرح السؤال من جديد حول مكان المطلق فى حياة الناس ". أى لا داعى للارتباط بالله والاستهداء بتعاليمه! هل هذا الاقتراح موجه لأتباع الأديان كلهم؟ لا، فالمقال كله هجوم على شعائر الإسلام وحده، على الصلاة والصيام والتشريع كل ما تهتف به الصحوة الإسلامية المعاصرة. أما الهجوم الدينى على فلسطين فالسكوت عنه فرض عين! وكذلك انسياب الصليبية العالمية فى أرجاء الدنيا تفرض صبغتها وتحكم قبضتها وتضرب سياجا حول المستضعفين فى الأرض، ذاك كله لا حرج فيه عند أستاذ الدراسات الإسلامية فى جامعة السربون!. يقول المحقق العلامة عن صوم رمضان: ذات يوم استدعى الرئيس بورقيبة أصدقاءه لتناول الغداء فى نهار رمضان فلما تساءل الناس عن هذا التصرف واستنكروه قال المجاهد الأكبر: لقد استدعى الرسول نفسه أصدقاءه للأكل والشرب فى رمضان!. نعم كان هذا استثناء له ما يسوغه وهو خوض إحدى المعارك... لكننا نحن أيضا نخوض معركة ضد الفقر!!. ص _149(2/128)
ويعلق معلم الإسلام فى السربون على هذه الحكاية التى تصلح للنشر بين الحشاشين فيقول: "كما ترون يجب قراءة القرآن والتفكير فيه بشكل آخر يغاير كل المغايرة ما يشاع ". هذا الهزل يصدر عن رواد الحانات ولا يجوز بتة أن يصدر عن أساتذة جامعات. أى جهاد باشره الرئيس المخلوع يبيح له الإفطار فى رمضان ؟ أظن جميل بن معمر كان أولى بلقب المجاهد الأكبر عندما أنشد : يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأى جهاد غيرهن أريد؟ لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل بينهن شهيد! فلنترك لقب المجاهد الأكبر يتنازعه مجنون ليلى وحبيب بورقيبة ولننظر إلى أستاذ الدراسات الإسلامية فى السربون لنقول له: يا سيد محمد أركون أما تنتهى عن هذا الهراء؟ أكل مرتد عن دينه ناقم على قومه يلتحق بجامعة صليبية ليهاجم الإسلام؟. ص _150(2/129)
ما هى حدود غفلتنا؟ تحت عنوان "هل بلغت غفلتنا هذا الحد؟" نشرت صحيفة النصر الجزائرية كلمات من القاموس الفرنسى "لاروس " المتداول بين بعض الطلاب الجزائريين، وفى هذه الكلمات يقول المؤلف "محمد هو نبى الدين الإسلامى الذى بشر به على أنه مرسل من الله، إن هذا الرجل نبى للشر، وينبى بحلول الشرور". والطبعة التى احتوت على هذى البذاءة طبعة إيطالية تحت سنة 1986م وكانت لحساب وزارة التربية الوطنية. وعندما انكشفت هذه المأساة طردت الدولة المسئولين عنها، وأنزلت بهم ما يستحقون من عقاب... لفتنى هذا الخبر، ولم تفتنى دلاته! إننى أعلم كما يعلم غيرى أن المستشرقين والمبشرين القدامى استباحوا حرمات الإسلام، وافتروا على نبيه الأكاذيب، وكانوا يتخيرون فى مهاجمته الألفاظ التى تدور بين الرعاع.. ثم جاء من بعدهم خلف أنظف ألسنة إلى حد ما، فيهم المعتدل والمتطرف، فيهم المقسط، والقاسط، فيهم صاحب الهوى وطالب الحق، وبدت فى كتابات المستشرقين مسحة من العلم، وإن كانت مشوبة. ثم نشرت هذه الطبعة من قاموس لاروس منذ عام واحد، ويبدو أن القوم حنوا لسيرتهم القديمة وعادوا يرددون شتائم الآباء. وليس فى هذا الأسلوب ما يخيف! بل هو سلاح يصيب أصحابه قبل أن يصيبنا، وإنما الذى أخافه على أبنائنا حماسة الاستعمار الثقافى فى الميدانين الإدارى والأدبى.. هناك أشخاص يقبعون فى أركان المكاتب الحكومية لهم سلطات بعيدة المدى يستطيعون من خلالها الإساءة إلى الإسلام وجر المتاعب على أمته المسترسلة الذاهلة، وقد يصدرون ص _151(2/130)
أو يعينون على إصدار أوامر تبدو محايدة أو بريئة وفى أطوائها شر كثير على الدين ومستقبله، ولا ينكشف خبؤها إلا بعد أن تحقق غرضها.. إن عشرات من مكاتب تحفيظ القرآن غلقت لأسباب صحية!. وقد رأيت موظفين حكوميين كانوا أنجح فى محاربة الإسلام من مبشرين حاقدين!. هذا رئيس إدارة محدودة يكره موظفا معروفا بإقامة الصلاة ويؤخر ترقيته، أو يكره موظفة محجبة ويقدم عليها أخرى متبرجة...!. وهذا الرئيس الخائن لأمانات عمله هو الذى تراه بقدرة قادر قد أضحى فى الصدارة! ولعل مثله فى فراغ القلب واللب هو الذى تعاقد على استيراد قاموس لاروس لتسميم عقول الطلبة لقاء شىء من حطام الدنيا.!. أما إخوان المبشرين والمستشرقين فى ميادين التعليم والإعلام فحدث ولا حرج عن جراءتهم على الله ورسوله، وشغلهم الجماهير باللغو الذى لا طائل تحته، أو بالحديث الذى يصدق عليه القول بأنه علم لا ينفع وجهل لا يضر!. المهم تدويخ الفكر الإسلامى وحسب. ص _152(2/131)
متخلفون علميا أم خلقيا؟! هل نحن متخلفون علميا أم خلقيا؟ إننا فى ميدان الإنتاج الصناعى والزراعى ضعفاء ، وفى آفاق الثقافة والحضارة أتباع نخطو حينا ونكبو أحيانا! قلت أعزى النفس: لعل أخلاقنا أزكى !! ثم قرأت هذا الخبر الآتى من الصين فقد السيد "شان تو" عضويته فى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى. لماذا ؟ لأنه وهو مدير عام للطيران المدنى سعى للحصول على تذاكر سفر مجانية لأولاده! إنه ـ لهذه المحاباة ـ فصل من عمله ومن الحزب معا. قلت: ما أكثر الذين يستغلون نفوذهم عندنا لنفع أقاربهم وأصدقائهم، ولا ينالهم أذى!!. وقرأت كيف رفض مجلس الشيوخ الأميركى اقتراح رئيس الجمهورية "مستر ريجان " تعيين أحد القضاة فى منصب خال بالمحكمة العليا وسبب الرفض أن القاضى المرشح اتهم فى شبابه بتدخين " الماريجوانا"! قلت: إن لدينا من شرب الخمر ودخن الحشيش وتولى أعلى المناصب!.. وعلم الناس ولم يعترضوا! ولو وقع اعتراض لعوقب المتكلم ونجا المتهم!. قال صديق: على أية حال نحن من الناحية الجنسية أشرف أخلاقا وأنقى أعراضا.. فسكتّ وتملكتنى حيرة وقلت: نعم الأعراض هناك مستباحة على نحو منكر؟ بيد أنى أتساءل : لماذا انسحب مرشح الحزب الديمقراطى من الانتخابات لرئاسة الجمهورية عندما اتهم بعلاقة مريبة مع إحدى الغوانى ؟. لماذا استقال وزير الحربية فى إنجلترا لعلاقته السيئة بسكرتيرته؟ إن شئون هؤلاء الناس تبدو غامضة أمامى! مباذلهم شائعة، وضوابط الحياة العامة ص _153(2/132)
صارمة، وأهواء الأفراد تحترق أمام المطالب القومية والمصالح الوطنية. أما فى العالم الثالث فالأفراد تحاكم الشعوب. بل تحاكم التاريخ وعمالقته ، وقد استمعنا إلى رويبضة يرفض السنة النبوية كلها ويخطى عمر بن الخطاب لتأريخه بالهجرة! أخشى أن أقول: إن التخلف الأخلاقى فى العالم الثالث أسبق وأقسى من التخلف العلمى والصناعى والحضارى. إن بعض المجتمعات العربية نقلت النظام الشيوعى إليها أو بتعبير أدق مبادئ الاشتراكية الحديثة فماذا حدث؟. لقد رأيت موظفين يستغلون المرافق الحكومية وكأنهم ملوك الإقطاع! ويتخوضون فى مال الله قدر ما يستطيعون ما داموا يستغفلون القانون ويخادعون حراسه!!. المأساة الكبرى أنه لا ضمير ولا خلق. وأبرز خصائص الأمة العربية أنها تفقد نفسها حين تفقد الدين ، ولن تنقذها نعرة جنسية أو وطنية. ص _154(2/133)
أين تذهب فى المساء؟ من شبابى الباكر إلى اليوم كنت إذا قرأت الصحف اليومية أتجاوز باب "أين تذهب هذا المساء"؟ لأنى أعرف أين أذهب، ولأنى لست بحاجة إلى من ينظم لى وقتى! إننى أطلب أبدا المزيد من المعرفة ، والمزيد من نفع الناس، وقلما أجد فراغا بعد تلك الواجبات، إلا أنه بدا لى فى أحد أيام الشهر الماضى أن أتعرف كيف يقضى الناس أوقاتهم فى المساء؟ فأمسكت إحدى الصحف الكبرى، وقرأت أسماء "الأفلام " التى يقضى الناس معها أمسياتهم ، وغلبتنى الدهشة والحيرة وأنا أطالع هذه العناوين المعلن عنها فى مساء يوم واحد : لهيب الشيطان. السفلة المحترفون. ثورة كنج كونج ـ ولما كنت لا أعرف قائد ثورة اسمه كنج كونج فقد سألت أحد الناس عنه فقال: هو قرد هائل يهشم ما يقع تحت يده. وتابعت قراءة الأسماء: الرجل المدمر، ميراث الغضب . علاء الدين. النمر والأنثى. رجل فى عيون امرأة. جرى الوحوش. عزبة الصفيح. الملعوب. قسوة الانتقام. قاهر التماسيح. الننجا الجبار ـ ولا أعرف هذا الننجا ـ الثأر والانتقام. الهجوم الدامى أو القتلة الطائرون. معركة التنين الجبار. سيف الشيطان . بنات من نار. المنتقم بقبضته. وسقوط نيويورك! ـ يعنى وضاعة وهبوط نيويورك، فإن هذا البلد لم يسقط فى يد الأعداء فيما أعلم ـ انحراف. شهوة الانتقام!. هذه الروايات كلها تعرض فى مساء أسود، ولو كان مضاء بالكهرباء، مساء واحد يضم هذا الفكر الخسيس كله ! ويتدبره النظارة المسوقون بسياط الدعاية، وحماسة الغزو الثقافى، يقضون معه الساعات الطوال ويترك فى النفوس أسوأ الآثار.. هل يخرج أحد بانطباع عال، أو بطموح كريم ؟ هل هذه العروض تعين على تربية ص _155(2/134)
سليمة أو تدعم خلقا زاكيا، إن الجيل الذى يخرج من هذه الدور لا يخرج فارغ العقل والقلب وحسب بل يخرج مليئا بالصغائر والكبائر على سواء.. عندى أن سموم الحشيش والهوروين ليست أكبر ضررا من سموم هذه المهالك المجلوبة من الخارج، وأن الأمة التى تشهد هذه القصص تضل الطريق إلى مستقبل معقول!!. وأقبل على المساء، ولا تزال عناوين الأفلام المطلوب مشاهدتها ماثلة فى نفسى فتذكرت هذا الدعاء: "اللهم اجعل مساءنا هذا مساء صالحا لا مخزيا ولا فاضحا". ص _156(2/135)
الإسلام فى فلسطين تابعت الانتفاضة الكبيرة لإخواننا فى فلسطين المحتلة، ورأيت البنين والبنات يقذفون بالحجارة جيش إسرائيل المزود بأحدث الأسلحة وأفتكها، لم تخنهم شجاعتهم ولم يتسلل إلى قلوبهم خوف أو جزع! ورأيت الأمهات العربيات يخرجن من المخيمات المحاصرة لجلب الطعام إلى أطفالهن، ورأيت هذا الطعام يداس تحت نعال الجنود، واستمعت إلى التعليقات الجريئة المتجبرة التى كان يصدرها القادة اليهود، وأحزنى أن البغاث بأرضنا يستنسر، وأن الأحرار يضامون، وأن ساسة العالم الأول ينظرون إلى المعركة الدائرة إما باستخفاف، أو بكلمات ميتة، أو باستنكار سلبى خافت. ولكن الذى أثار غضبى واشمئزازى ما كتبه هنا بعض الصحافيين العرب! فقد لاحظوا أن الإسلام محرك هذه الانتفاضة ومشعل حماسها، وأن صيحات التكبير كانت تملأ الجو وتمد بالطاقة.. فقلت لمن حولى: ما هؤلاء الناس؟ قال: ظاهر من تعليقاتهم أنهم لا يريدون إضفاء الطابع الإسلامى على الثورة المتجددة، ولا يريدون العودة إلى عصر الحروب الدينية! قلت: ومن يريد هذه العودة؟ إن الحروب الدينية لا تخطر لنا ببال! إن غيرنا هو الذى فعلها! إن بنى إسرائيل هم الذين تحركوا باسم التوراة، وزعموا أن الأرض المقدسة ميراث لهم، وأن العرب مغتصبون يجب إخراجهم منها، وأن الأحق بهذه الأرض لا أصحابها من عشرات القرون، بل مهاجرون يُستخرجون استخراجا من روسيا وبولندا، وشتى أقطار الأرض ليحلوا محل العرب الذين يطردون من مدنهم وقراهم ويسكنون فى مخيمات للاجئين لا حاضر لهم ولا مستقبل.. فإذا أقبلت عقيدة ما لاغتصاب الأرض وطرد السكان جاز لها أن تعلن عن نفسها، وأن تتخذ الدين عنوانا لها، أما إذا استظهر السكان بعقيدتهم وهم يدافعون عن حقوقهم فإن ص _157(2/136)
ذلك مثار النقد والغرابة ؟ قال صاحبى: ذلك لأن الإسلام هو الدين المدافع، والإسلام اسم ينبغى أن يختفى من ميادين كثيرة، وألا تتحرك تحت لوائه جماهير أو طوائف!. ماذا أقول عن هؤلاء الصحافيين الناقمين على الإسلام ؟ إنهم لم يرتدوا عنه لأنهم لم يسبق لهم أن دخلوا فيه! إنهم نوع من الناس لم يُصنع عقله فى مصر أو غيرها من بلاد العرب، إنهم صناعة الاستعمار الثقافى الأنكى من الاستعمار العسكرى.. فلنحذر على أنفسنا. ص _158
الدم الفلسطينى المهدور لماذا تحسب تضحياتنا صغيرة مهما كبرت، وتحسب تضحيات غيرنا كبيرة ويزاد فيها كما وكيفا؟. لقد عدت بذاكراتى إلى المغارم التى تحملها شعب فلسطين خلال نصف القرن الأخير فوجدت صفحة مجللة بالسواد، مفعمة بالمآسى! عند محاولة الاستعمار البريطانى إقامة إسرائيل وبعد نجاح هذه المحاولة كانت أرواح العرب تزهق بالآلاف، وأرضهم تغصب، وبيوتهم تخسف، والهوان البشرى يلاحقهم فى المدن والقرى! ومع ذلك كله لم ييأسوا من روح الله ولم تضعف مقاومتهم للغزاة. ولكن. أمواجا من النسيان تذهب بجهادهم، وتسدل عليه أستار من الغمط والجحود.. !. وعلى عكس ما وقع ويقع فوق أرض فلسطين رأيت اليهود فى ألمانيا النازية ينزل بهم ضيم أقل مما ينزل بالعرب، ويحبسهم هتلر فى المعتقلات ويعدهم مسئولين عن هزيمة قومه فى الحرب العالمية الأولى... وينهزم الألمان فى الحرب العالمية الثانية ، فإذا طبول الدعاية تدق بصوت مزعج. تروى للناس أن عدة ملايين من اليهود أحرقوا فى الأفران! وأن ملايين أخرى فرت مذعورة إلى الشرق والغرب لا تجد مأمنا ولا مأوى!. وما ننكر نحن أن اليهود عذبهم الألمان، ولكننا ننكر المبالغات الهائلة التى لجأ إليها بنو إسرائيل فى تصوير نكبتهم كى يستدروا العطف العالمى ، وتترك لهم فلسطين، ويقصى عنها أهلها.. واليوم يلقى عرب فلسطين من الحكم اليهودى شرا مما لقيه اليهود فى ألمانيا النازية؟ لماذا؟ ص _159(2/137)
وبأى شريعة؟ قرأت أن المجاهدين العرب يوضعون فى علب حديدية قاعدتها نصف متر مربع، وفوق رءوسهم أكياس من الرمل يزن الكيس 20 كيلوجرام لمدة ساعات طويلة، وأنهم يغطسون فى حمامات من الماء المثلج، وأنهم يجبرون على شرب بولهم، ويضربون على خصيهم.. وأن اليهود يبصقون فى أفواههم. ويجبرونهم على الانحناء لجنودهم ومناداتهم بأنتم سادتنا!!. إن اليهود لم يلقوا فى ألمانيا النازية هذا العذاب! وقد أثبت البحث العلمى أن حرق ملايين اليهود هناك أسطورة لا أساس لها، ولو فرضنا أنهم نزل بهم أشد العذاب، فما ذنب العرب؟ ولم يقتص منهم ؟. الحق أن للعرب ذنبا آخر قد يكون أشد من كل الذنوب! لقد وهت علاقتهم بالله. وتقطعت ما بينهم من أخوة، بل إن بعض العرب حاصر مخيمات اللاجئين قبل أن تحاصرها شراذم اليهود! وظل هذا الحصار بضع سنين حافلا بالمآسى حتى ألفت طبيبة إنكليزية كتابا عن آلام أطفال الحصار! فلنلم أنفسنا قبل أن نلوم غيرنا. ص _160(2/138)
من يعيننا على السلام؟ لى أصدقاء من أهل الكتاب ف نفوسهم طيبة. وفى عقولهم ذكاء ولهم منطق رأيت أن أستمع إليه وأجيب عليه.. قال لى أحدهم: ما نهاية العداء القائم بين العرب واليهود ؟ فعرفت ما يقصد! وقلت له : يا صديقى. إن أولى الإنصاف من المؤرخين يقررون أنه لولا ظهور الإسلام لبادت اليهودية واليهود جميعا فى وقدة التعصب القديم ضدهم. وعدهم مسئولين عن دم المسيح كما تقرر ذلك الأناجيل التى بين أيدى أصحابها. لقد عاش اليهود فى أرجاء العالم الإسلامى موفورين. ما اضطهد أحدهم فى اليمن أو فى مصر أو فى العراق أو فى المغرب ولو أنهم كانوا ضعف عددهم الحالى ـ وهم نحو خمسة عشر مليونا ـ ما فكر المسلمون فى اضطهادهم، ولا نظروا لاختلاف الدين نظرة حيف أو بغضاء.. إن المسلمين يعلمون أن نبيهم الخاتم مات ودرعه مرهونة عند تاجر يهودى مصون الدم والعرض والمال، قادر كل القدرة على ألا يسلف النبى إلا برهن، ما شعر بقلق ولا حرج إن التظالم لاختلاف الدين لا تعرفه أخلاقنا ولا تقاليدنا ولا شرائعنا. لكن عندما يزحف اليهود على فلسطين ونيتهم المعلنة إعادة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى. وتشريد وإذلال العرب فى البلد المحروب وانتهاز الهزيمة الإسلامية للقضاء على تراث محمد كله فماذا تنتظر من العرب والمسلمين؟ الموت دون هذا بيقين! وشىء آخر لابد من مواجهته! إن الإنكليز لما ملكوا فلسطين قاتلوا العرب تمكينا لليهود أعطشوا أرضهم وأذلوا جانبهم. وقرروا إذا وجدوا رصاصة فى بيت يدافع بها ص _161(2/139)
عن نفسه، أن يدمروا البيت ليسكن أهله فى العراء! وذلك كله يقع فى ظل الكلمة التى قالها مارشالهم "اللنبي " بعد الاستيلاء على فلسطين: اليوم انتهت الحروب الصليبية.! وتفككت الإمبراطورية البريطانية ـ وخلفها فى قيادة العالم الأمريكان، فاستأنفوا المساندة الصليبية لبنى إسرائيل. وأمدوهم بسيل من المال والسلاح لا تغيض منابعه، ووقفوا محامين عنهما فى مجلس الأمن، فإذا قرر أعضاء المجلس التنديد بإسرائيل لما تقترفه من آثام سارع المندوب الأمريكى بإبطال القرار، وإعطاء إسرائيل الحق فى المزيد من الطغيان.. ظاهر أن الإسلام يلقى عنتا موصولا. وأن أهله يلقون من إخوانهم أهل الكتاب، إن صح التعبير، الامتهان والغدر. يا صديقى ضع نفسك مكانى ثم أجب أنت عن السؤال الذى وجهته إلىَّ، إننا نَحنُّ إلى سلام يملأ العالم ، فهل تعينونا على صنعه؟. ص _162(2/140)
محاربة الإسلام باسم التطرف نرفض المسلك الجديد لأعداء الإسلام فى أقطار كثيرة، إنهم يعبثون بالألفاظ ويخادعون بالعناوين متوسلين بذاك إلى بلوغ غاياتهم!. إنهم يحاربون الإسلام ذاته تحت راية محاربة التطرف!. والذي يقيم الصلوات ويدعو إلى إقامتها لا يوصف بتطرف! والذى يحترم حدود الله ويكره اعتداءها لا يوصف بتطرف ! والذى يستنكر الاستعمار التشريعى والاجتماعى. ويريد العودة بالأمة إلى ينابيع الوحى لا يوصف بتطرف!!. إننا نرعى البناء الإسلامى كله حجرا حجرا. ونريد إعادة الجدة والرونق إليه بعد ما حوّله الاستعمار العالمى إلى أنقاض فى السنين التى خلت.. والتطرف الذى نأباه ونحاربه هو عجز علمى عند بعض المنتمين إلى الإسلام يجعلهم يتصورون المباح حراما، أو النفل فرضا أو العادات عبادات أو تقاليد بعض البيئات هديا سماويا. وقد تصح لهم أفهام فقهية غير أنهم لا يحسنون وضع الخطط الراشدة لإنصاف الدين المظلوم، ويسارعون إلى دخول معارك لم يأخذ الإسلام لها أهبته، أو يستكمل عدته.. والأدهى من ذلك كله الاشتباك مع الظواهر الشائعة دون تعمق فى فطرة الإسلام. وصبغته العقلية. وقدرته على تطويع الحياة لخدمة أهدافه ومثله. فى القرن الماضى ظهر جمال الدين الأفغانى. وكان رجلا حاد الذكاء حاد الطبع يحتقر التعصب الأوربي ويمارس إنقاذ الجماهير من غارته وكان يرى أن الحكومات الإسلامية مصدر الداء وأصل البلاء فوجه إليها حملات منكرة ودخل معها فى حرب حياة أو موت.. وترك دويا واسعا ولم يصنع شيئا طائلا.. ص _163(2/141)
وكان الشيخ محمد عبده ألمع تلامذته ، وقد شارك فى الثورة العرابية، وجنى معها الفشل، ولكن محمد عبده له ذكاء الفيلسوف ودقة الفقيه وأناة المربى، فأدرك أن الأمة التى تفقد التربية السليمة لا تحقق شيئا، ولا تنجح لها ثورة، وإذا نجحت لها ثورة لأمر ما، فسرعان ما يستولى عليها الشطار ونهازو الفرص، ويستغلونها لمآربهم! من أجل ذلك لجأ إلى التربية، ورفع مستوى الشعوب، وإبعاد العطب الذى سرى فى كيان ثقافتنا الدينية، واشتغل بتشكيل العقل الإسلامى على نحو صحيح!. ونحن نؤكد أن الأمة التى لا تتربى لا تفلح، ولا يقوم بها جهاز إدارى محترم، وقد تكون الجامعات بها قصورا شامخة لكنها مبنية على أسس واهية. فلنرب أنفسنا وأمتنا لنضمن الحاضر والمستقبل. ص _164(2/142)
أولياء الدم نسوه أغضبنى أن الصليبية العالمية تحقق آمالها بدهاء وفى سكون على حين نتابع نحن الهتاف ونكثر الضجيج ولا نبلغ هدفا من أهدافنا.. وفى الآونة الأخيرة تعاونت الصهيونية والاستعمار على إقصاء " أحمد مختار امبو " من رياسة اليونسكو، وبعد مؤامرة متعددة المراحل وضيعة الوصائل استطاعت إبعاد الرجل الشامخ وإخلاء الميدان من خصم عنيد للتبشير فى ميدان الثقافة، ومن خصم عنيد " لإسرائيل " وهى تحاول محو طابع فلسطين العربى، وإضفاء الصبغة العبرية على كل شىء فى البلد المحروب.. كانت الولايات المتحدة وإنجلترا تؤيدان اليهود فى تشويه التاريخ، وتريدان خلق آثار عبرية وإزالة معالم عربية وجعل الحاضر الكاذب امتدادا لماض مختلق، فلما وقف الرجل الكبير معترضا ورافضا انسحبت الدولتان الكارهتان للحق، ومنعتا عونها " لليونسكو" ولم يأبه الرجل الشريف لهذا الانسحاب، وتحمل متاعب السير وحده، ولكن الاستعمار الغنى القوى لم يتركه.. وكان نفر من المستشرقين الأجراء للدول الحاقدة على الإسلام قد ألفوا بحوثا رخيصة طعنا فى تاريخنا وحضارتنا ونبوتنا ووجودنا الروحى والمادى على سواء! وشعر أولو الغيرة بما تقدمه اليونسكو للناس من دسّ. وما تزينه من غش فأتاحت الهيئة فرصا للرد العلمى النزيه ـ وذلك فى عهدها الماضى ـ فكان هذا الموقف المحايد سببا فى ضيق أمريكا وإنجلترا، وتركهما هيئة للإسلام فيها صوت مسموع فى بعض الأحيان!. إن إخراج أحمد مختار امبو من " اليونسكو" انتصار لتيارات مريبة، وهزيمة للغرب والمسلمين، وليس أغرب من هذا الانتصار إلا فقدان الإحساس بضراوته ونتائجه..!! ما أفدح الخسائر التى تلحقنا دون أن نشعر! من ربع قرن أو أكثر كنت أخطب فى نقابة ص _165(2/143)
المعلمين بالقاهرة، وكان نقيب المعلمين السيد كمال الدين حسين : واختلط صوتى بالأنين وأنا أنعى بضعة عشر ألف قتيل ذبحوا فى زنجبار ذبحا رهيبا، كانوا جميعا من العرب! وضاع صوت الناعى مع دفن رفات الضحايا، وجف أرخص دم على ظهر الأرض ، وضمت زنجبار إلى تنجانيقا فى البر الأفريقى، وتكونت جمهورية تنزانيا الاشتراكية! وتعاون حكامها مع الفاتيكان على الإطاحة بالحاكم المسلم فى أوغندا. وتتابعت هزائم العرب والمسلمين فى شرق إفريقية! ومنذ أيام كنت أسمع إذاعة لندن تقول : إن العرب فى تنزانيا يتناقص عددهم، لا لإرهاب يواجهونه ، بل لأن مستقبلهم التجارى غامض فى بلد اشتراكى!. لقد نسيت أو تنوسيت المصارع القديمة لألوف من العرب! وأى غرابة فى هذا ؟ إن أولياء الدم نسوه كل النسيان فكيف يذكره غيرهم؟ ص _166(2/144)
العلاج فى الإسلام.. هل نعى؟ لاحظت أن هناك اتفاقا بين العالم الشيوعى والعالم الرأسمالى على كراهية الخمر ومحاولة فطام الناس عن شربها! وفى شكاة من المسئولين الروس أن الخسائر فادحة من مدير يصدر أوامره وهو مخمور، وأن الخسائر فادحة كذلك من عامل يعالج آلته وهو فى غيبوبة والحديث موصول عن أخطار الطرق التى تنشأ من تهور السائقين السكارى، وآلاف الضحايا كل يوم، بل كل ساعة من جنون أو أولئك السائقين !.. وقد رفع الروس أخيرا سعر زجاجة الخمر ستة أضعاف، وقرروا إغلاق الحانات من السابعة مساء!! وما يقع فى روسيا صورة مشابهة لما يقع فى أوربا وأمريكا من مآس خلقية واجتماعية واقتصادية بسبب الإقبال على الخمور، وتهالك الجماهير على شربها!.. والقوم يَزِنُون الأضرار المحتومة بما يعترى الإنتاج من نقص. وما يصيب الأجسام من علل، وقلما يذكرون ما يصيب الكرامات من هوان وما يصيب الأرواح والعقول من دنس.. وكنت أناقش قادما من روسيا عن الاضطرابات الجنسية هناك فقال لى: الشذوذ نادر! ومن أراد الزواج فلن يتكلف أكثر من الذهاب إلى المسجل الحكومى ليذكر بمن تزوج ؟ قلت: هل معنى ذلك أنه لا زنى؟ قال: لا! فإن هذه الفاحشة تنتشر مع انتشار الخمر وغلبة السكر وتحرك الغرائز وغيبة العقول!. واستطرد: إن الجماهير تحترم من المسلمين صدوفهم عن الخمر ورفضهما للخنا! ويوم يرون مسلما يسكر فإنهم يزدرونه ويسقط من عيونهم. وعواصم العالم الغربى تجعل من الخمر مهادا لانطلاق شهوانى ردىء، والخمر وراء مذابح الأعراض رضا أو اغتصابا، وهى الجسر الذى تعبر عليه المخدرات لتأتى على ما بقى من حضارة الغرب، ولتنشئ أجيالا محقورة تفقد العلم والإيمان... ص _167(2/145)
ونتساءل : لماذا لا يحرم الناس الخمر بالأسلوب الحاسم الشامل الذى وضعه الإسلام ؟ والجواب المحزن: لأنهم لا يريدون أن ينسب إلى الإسلام صواب ، ولا يحبون القول بأنه سبق إلى خير!. وقد زعم قسٌّ غيور أن النصرانية تحرم الخمر، ودعا قومه إلى تركها! وليته كان صادقا ، كيف يصدُق وفى الإنجيل لديهم أن عيسى شرب خمرا فى العشاء الربانى! وكذلك شرب أنبياء العهد القديم الخمر حتى فقدوا الوعى واقترفوا المناكر!. إنه لا علاج إلا فى الإسلام فهل نعى ؟. ص _168(2/146)
ما يطلبه المستمعون أسمع الإذاعات الأجنبية لأعرف أحوال سائر الخلق بعد أن أعرف أحوال قومى ، وقد وقفت أسفا دهشا وأنا أتابع ما يطلبه المستمعون من الموسيقى والغناء الغربى!. ناس فيهم الذكران وفيهم النسوان، من أحياء وطنية، وأماكن بدوية، هذا يطلب سماع المغنية الفرنسية فلانة، وهذا يريد أن يسمع المغنى الإنجليزى فلان، وتلك تهدى الألحان لحبيبها وذاك يهديها لحبيبته الغالية جدا!.. وبلغ الضياع القاع عندما عرضت رواية "عايدة" باللغة الإيطالية قريبا من أهرام الجيزة، وحضر الألوف وانصرفوا وهم بحمد الله لم يفهموا شيئا غير بغام يعلو ويهبط!!. وتذكرت ما حكى عن المغنى الزنجى المحقور " مايكل جاكسون " الذى يكره العرب أشد الكراهية، فقد قيل له : إن العرب يحبون أن يسمعوا أغانيك! فقال: لو علمت ذلك ما غنيت!! قلت : هذا المغنى يخدم اليهود، وكان جديرا أن يسقط من عين العرب ولكن عشاق الطرب لا دين لهم ولا غيرة!! لقد فكرت طويلا فى هذا المسخ الذى أصاب طوائف من أمتنا فأصابها ما أصاب اليهود قديما عندما جعلهم الله قردة وخنازير.. ؟. إن هذا المسخ بدأ بين المثقفين الذين احتقروا لغتهم، وأهانوا تراثهم الأدبى وشعروا ألا كيان لهم إلا إذا تحدثوا بلسان أجنبى، وتعاملوا بتقاليد مستوردة. وأخذت شخصية الأمة تتفتت، حتى شعرت أنها كالإسفنجة التى تمتص كل ما حولها لأنها خاوية خالية تجتذب ما يعرض لها. إن الشعر العربي العامر بالجمال والحكمة اختفى من لغة التخاطب. وكنا قديما نحارب ص _169(2/147)
الغزو اللغوى فأمسينا اليوم ننشئ للأطفال مدارس اللغات التى تؤخر العربية أو تهملها لتبنى على أنقاضها اللغات الأخرى.. وما نحارب معرفة اللغات ولكننا نأسى عندما نرى النطق بالعربية رديئا حافلا بالأغلاط الفاضحة بينما نرى الحديث بالإنجليزية أو الفرنسية مضبوطا لاعوج فيه.. ليس للعربية كرامة ولا للحفاظ عليها حراس ولا يخزى من الجهل بها رئيس أو مرءوس.. والآن أسمع شخصا من بولاق فى القاهرة. أو من الباسطة فى بيروت ! أو من القصبة فى الجزائر يريد أن يشنف آذانه أو آذان حبيبته بسماع أغنية من أغانى "البوب" أو موسيقى " الروك والرول ". جدع الله آذانكم وأنوفكم وأصم أسماعكم!! إن هناك انحدارا تهوى به أمتنا فى مجال اللغة والأدب والفن، وإذا لم نسارع إلى علاجه سقطنا فى هاوية لا قرار لها... ص _170(2/148)
هل نحن إرهابيون حقا؟ فى أقطار كثيرة تهدر حقوق المسلمين وترخص دماؤهم، فإذا أبدوا مقاومة واهنة ضد المغيرين عليهم ودفعوا بالراح أفتك أنواع السلاح، ارتفعت صيحات معروفة: المسلمون معتدون! المسلمون إرهابيون!. المسلمون يعودون إلى همجيتهم الأولى! وأعطيت الإشارة للدبابات أن تصب حممها على الصبية الذين يقذفون المغيرين بالحجارة!. ويبدو أن حبل هذا الإفك لا ينقطع، وقد وزعت أدوار هذه الأكذوبة الكبرى على أطراف شتى تجمع بين مبشرين وصحافيين وممثلين وتجار كتب وتجار سلاح وباعة "كاسيتات " وأشرطة " فيديو" ، وساسة خبثاء وأتباع حمقى.. والإصرار على اتهام الإسلام بأنه دين إرهابى هو ـ كما يقول علماء النفس ـ نوع من الإسقاط الذى يدفع المرء إلى اتهام غيره بما فى نفسه هو من شر، وبما كسبت يداه من إثم.. وأكتفى بتسجيل عبارات رواها لوقا فى إنجيله عن المسيح ـ عليه السلام ـ وهى عبارات يدور عليها التاريخ الصليبى كله، ومع أننا نحن المسلمين نستبعد صدورها عن عيسى بن مريم إلا أن القوم صدقوها ونفذوها وعاشوا وما يزالون فى جوها. يقول إنجيل لوقا على لسان المسيح [12 : 49 ـ 53] : " ولقد جئت لألقى على الأرض نارا! فماذا أريد إلا أن تكون قد اضطرمت ؟ ولى معمودية لأصطبغ بها، وما أشد ما أعانى حتى تتم! أتظنون أنى جئت لألقى على الأرض سلاما ؟ أقول لكم : كلا! بل انقساما... فإنه منذ الآن سيكون خمسة فى بيت واحد منقسمين، ثلاثة ضد اثنين ، واثنان ضد ثلاثة، فيعادى الأب ابنه، وابن أباه! وتعادى الأم ابنتها والابنة أمها، والحماة زوجة ابنها، وزوجة الابن حماتها ". ص _171(2/149)
ولم ينفرد لوقا بهذا المعنى، بل أيده متى [10 ـ 35]، ويوحنا [7 : 43 ، 9 : 16 ، 10 : 19]، وإذا كان الانقسام فى بيت واحد غاية دينية فكيف إذا تعلقت الرغبة السيئة بمستقبل قطر كبير؟. لقد كان الشام قطرا واحدا فإذا هو الآن أربع دول، سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والخطة مطردة لجعل فلسطين دولتين وجعل لبنان دولتين! إن الانقسام أو التقسيم مشيئة إلهية كما ترى الصليبية.. ووسيلة ذلك القتل والختل واتهام الإسلام بأنه دين إرهاب! واتهام المسلمين المضيمين فى أرجاء الأرض بأنهم ضد السلام، وأنهم مشعلو الحروب!!.
ص _005(2/150)
مقدمة ما أكثر الأخطاء التى تستقر بين الناس لأنها لم تجد من يصححها فور وقوعها.. إنها قد تدوم بعد ما تحولت إلى وضع قائم! وللأوضاع القائمة حقوق مرعية فى كثير من الأحوال!. لكن لماذا يتأخر تصحيح الخطأ ؟ أو لا يختفى كل الاختفاء ؟ فى ظنى أن الجهل بالحقيقة له دخل كبير فى ضياعها، وأكثر الناس يترك الخطأ يسير لأنه لا يعرف الصواب! وقد رأيت جمهرة من الناس تواقع الأخطاء ـ أو الخطايا ـ وهى لا تدرى ما تصنع.. وقد يكون الكسل الفكرى أو الضعف الخلقى وراء شيوع الأخطاء وتناميها. وسر هذا الكسل الاستهانة بقيمة الخطأ وأثره القريب والبعيد! أو إيثار السلامة بترك الخطأ يمر دون اشتباك متعب! أو فقدان الحمية للصواب والرغبة فى انتصاره وازدهاره! إن للمبطلين أشواقا إلى نشر أهوائهم، والإذاعات العالمية تسارع إلى تلبية رغباتهم بسماع كذا وكذا، فهل لدى محبى الحق هذه المشاعر الممتدة والرغبات المتحركة فى إذاعة صواب مهجور أو حق مستوحش؟ وقد يكون استقرار الأخطاء ناشئا عن ضراوة المنحرفين ! وتكميمهم للأفواه، أو تضييقهم للدائرة التى يمكن أن يعمل الخير داخلها.. وإنى لأذكر محزونا أن هذه الكلمات التى أكتبها تحت عنوان " الحق المر " تنشرها مجلة " المسلمون " ولا أقرؤها أنا، لأنها لا تصل إلى الأقطار التى أتنقل بينها!!. وعندما ينطلق الخطأ داخل قذيفة مداها ألف ميل ، فلن تجدى فى مقاومته قذيفة مداها ألف ذراع!.
ص _006(2/151)
سيتقبل الخطأ امرؤ ساذج ويتأثر به وقد يموت عليه قبل أن أصل إليه أنا بالحقيقة التى يحتاج إليها ويرد هنا السؤال الذى لابد منه: لماذا يكون الصواب رد فعل ؟ لماذا لا يبدأ عملا إيجابيا مدفوعا بقواه الذاتية ؟ أهو الكسل كما أومأت آنفا؟ لك أن تقول : لا كسل ولا مجال للتهمة! المرض يطرأ والطبيب يستدعى لوصف الدواء. العوج يحدث والناصح يقدم لتسوية الصف واستدامة المسير على الصراط المستقيم! إننى أقبل هذا التفسير بشروط : أن نضع نحن قواعد الصحة التى تحمى من العلل ، وأن نرسم المعالم التى تدل السائر على الهدف وتعصمه من الزلل. ولما كنت واحدا من الدعاة المكلفين بهذه الواجبات فإننى أفتش فى نفسى، وفى رفاق الدرب الطويل الذى يجمعنا ثم أغض الطرف فى استحياء!! لماذا ؟. أشعر بأن اللصوص نجحوا وفروا بمغانمهم لأن رجال الأمن كانوا نائمين. كم خسر الحق من قضايا لأن رجال الإيمان كانوا نائمين!!. وبعد، هذه طائفة ثانية من الكلمات التى سطرتها تعليقا على ما يقع بالعالم الإسلامى أو ما يقع عليه! ربما فقدت بعض قوتها لانفكاكها عن مناسباتها التى أوحت بها، بيد أن الذى أغرى بتأليفها وتجديدها تشابه الآلام والأزمات التى تعرض لأمتنا! حاضرها وماضيها! فالمناسبات باقية!! وما يغنى ذلك أبدا عن أن يكون للدعوة الإسلامية جهاز راصد يقظ ، يكشف كل شبهة، ويفل كل هجمة ، ويرسل الرد السريع على كل تساؤل مريب فلا يدع فرصة لتلبيس أو فرية !. ثم إن العالم الإسلامى واسع الرقعة مديد الأطراف ، وقد تكاثرت عليه الرزايا والسنون العجاف، ولا تزال البدع تغلب السنن ، والأوهام تغلب الحقائق. وأنشطة الاستعمار الثقافى تعمل عملها لمحو شخصيته بعد ما اخترقت حدوده من أمد ليس بقريب! فلتكن هذه الكلمات الوجيزة إلى جانب الرسائل المسهبة جهدا إلى جانب جهد فى إسداء النفع وإيقاظ الغافين.. محمد الغزالى(2/152)
مقدمة ربما اعتمدت وسائل الإعلام الحديث على الصورة الساخرة، أو الخبر الموجه، أو التعليق السريع.. فإن القارئ المعاصر يشغله عن الإسهاب ما هجمت به الحياة على الناس من تعقيدات وهموم.. ولما كنت واحدا من الذين يحملون أعلام الدعوة ويرابطون على ثغور الإسلام فإنى أخذت أرمق كل حركة مريبة تصدر عن خصومنا- وما أنشطهم فى هذه الأيام- لأنبه خطوط الدفاع المترامية، وأدفعها إلى اتخاذ الأهبة ولزوم اليقظة.. وأعداؤنا لهم باع طويل فى المكر السئ، والإساءة إلى الرسالة الخاتمة، وتاريخهم امتداد لماض مليء بالغارات، وهم فى هذه الأيام يضمون إلى الحروب الساخنة غزوا ثقافيا كثير الشعب، مخوف العواقب! ومن هنا كانت كلماتنا ذات موضوعات شتى، تستمد سطورها من الواقع، وتعتمد على إثارة الوعى الكامن فى أفئدة المؤمنين، وحسبها أن تكون كضوء البرق الذى يكشف الظلام، ويوضح الطريق.. إنها كلمات قصار لكنها فواتح لمعان جمة عند أولى الغيرة على دينهم وأمتهم، أحيانا تتناول العقيدة، والأخلاق، والتاريخ، والفقه وأحيانا تغوص فى واقعنا الحى لتشد أزر المجاهدين فى سبيل الله، وتحق الحق وتبطل الباطل. وجماهير المسلمين- فى يومهم الحاضر- بحاجة إلى هذه اللفتات، فإن مناسباتها إن مضت تكررت على مر الأيام، حتي لتحسب أن ما يتمخض عنه الغد صورة لما كان بالأمس، وتدبر قوله تعالي: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) وستظل كلماتنا- بتوفيق الله- وميضا يبرق بالإيمان، ويحامى عن الحق. محمد الغزالى
ص _004(3/1)
نظرة ذكية فى أحاديت الفتن... فى حديث لأبى ذر أن الفتن سوف تنتشر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهيج الغرائز القديمة نحو القتال، وهى غرائز كامنة فى البشر عامة والعرب خاصة! ولابد أن تستفز النفوس بحجة المحافظة على المبادئ! قال أبو ذر: يا رسول الله أفلا آخذ سيفى وأضعه على عاتقى؟ قال رسول الله له: شاركت القوم إذن! قلت: فما تأمرنى؟ قال: تلزم بيتك! قال: فإن دخل على بيتى؟ قال: إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك، يبوء بإثمك وإثمه! وفى رواية " فإن دخل على أحد منكم فليكن كخيرا بنى آدم " أى ليكن القتيل ولا يكن القاتل! جلست مع صديق لى نتذاكر هذا الحديث ونتعرف مغزاه! كان أول ما خطر بالبال كيف نقبل العدوان؟ من اقتحم بيتي يريد قتلى قتلته ولا كرامة. والآية تقول: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) وفى الحديث الآخر " من قتل دون نفسه فهو شهيد " لابد من مقاومة مستميتة لجالبى الشر ومهددى الحرمات!! لا هدنة هنا! قال لى الصديق: هنا معنى آخر يتراءى لى من بعد ووددت لو تدارسناه! إن القصاص لا يحل المشكلات الداخلية، والقطيعة بين ذوى الأرحام تنمو على العقاب وتضمر مع العفو، وعندما تتعقد الأمور بدوافع سياسية فمفتاحها الحل السياسى لا سفك دماء الأفراد.. ص _005(3/2)
قلت لصاحبى: لا أفهم ما تعنى! قال: عندما يجد الأب أن الشجار بين الأخوة أودى بحياة أحدهم فإنه لا يصيح بطلب القصاص فقد ينتهى ذلك بفناء الأسرة كلها، إنه سيحاول تهدئة الأمور ثم يبدأ النظر فى إصلاح ما وقع.. الحل السياسى هو وحده الذى يمكن اللجوء إليه ولعل ذلك هو ما عناه النبى عليه الصلاة والسلام عندما أوصى بموقف سلبى فى مقابلة الفتن إلى أن يفضن أولو النهى المعركة بردم منبع الشر. قلت: كأنك تذكر قول الشاعر فى وقف الحروب بين الأهل والأقربين: كفى حزنا أن لا أزال أرى القنا تمج نجيعا من ذراعى ومن عضدى وإنى وإن عاديتهم وجفوتهم لتألم مما عض أكبادهم كبدى! فإن أبى عن الحفاظ أبوهم وخالهم خالى وجدهم جدى! قال: كأن الوصية النبوية تؤكد هذا المعنى، وتكفكف النار المستعرة عندما تقول عن الفتنة " القاعد فيها خير من القائم، والماشى فيها خير من الساعى ". وعندما أتأمل فيما بين المسلمين اليوم من محن أقول: ما أحوج الأمة إلى رجال لهم حلم وأناة، لهم إخلاص وتجرد يبتعدون عن أسباب النزاع ويرفضون صيحات الجاهلية ويتحرون وحدة الكلمة، ويشدون الفرقاء المتخاصمين إلى الخلف ريثما يتم إصلاح ذات البين بحل تتغلب فيه المصلحة العامة ويبتلع البعض غيظه لوجه الله ووحدة الكلمة. ص _006(3/3)
غمط متعمد.. وراءه سر!! لماذا تحسب تضحياتنا صغيرة مهما كبرت، وتحسب تضحيات غيرنا كبيرة ويزاد فيها كما وكيفا؟! لقد عدت بذاكرتى إلى المغارم التى يتحملها شعب فلسطين خلال نصف القرن الأخير فوجدت صفحة مجللة بالسواد، مفعمة بالمآسى.. عند محاولة الاستعمار البريطانى إقامة إسرائيل وبعد نجاح هذه المحاولة كانت أرواح العرب تزهق بالآلاف، وأرضهم تغصب، وبيوتهم تنسف، والهوان البشرى يلاحقهم فى المدن والقرى! ومع ذلك كله لم ييأسوا من روح الله ولم تضعف مقاومتهم للغزاة. ولكن أمواجا من النسيان تذهب بجهادهم وتسدل عليه أستارا من الغمط والجحود..!! وعلى عكس ما وقع ويقع على أرض فلسطين.. رأيت اليهود فى ألمانيا النازية ينزل بهم ضيم أقل مما نزل بالعرب، ويحبسهم " هتلر " فى المعتقلات ويعدهم مسئولين عن هزيمة قومه فى الحرب العالمية الأولى... وينهزم الألمان فى الحرب العالمية الثانية، فإذا طبول الدعاية تدق بصوت مزعج، تروى للناس أن عدة ملايين من اليهود أحرقوا فى الأفران وأن ملايين أخرى فرت مذعورة إلى الشرق والغرب لا تجد مأمنا ولا مأوى! وما ننكر نحن أن اليهود عذبهم الألمان، ولكننا ننكر المبالغات الهائلة التى لجأ إليها بنو إسرائيل فى تصوير نكبتهم، كى يستدروا العطف العالمى، وتترك لهم فلسطين، ويقصى عنها أهلها.. واليوم يلقى عرب فلسطين من الحكم اليهودى شرا مما لقيه اليهود فى ألمانيا النازية! لماذا؟ وبأى شريعة؟!! ص _007(3/4)
قرأت أن المجاهدين العرب يوضعون فى علب حديدية قاعدتها نصف متر مربع، وفوق رءوسهم أكياس من الرمل يزن الكيس 20 كيلوجرام لمدة ساعات طويلة، وأنهم يغطسون فى حمام من الماء المثلج، وأنهم يجبرون على شرب بولهم، ويضربون على خصيهم، وأن اليهود يبصقون فى أفواههم ويجبرونهم على الإنحناء لجنودهم ومناداتهم بأنتم سادتنا..!! إن اليهود لم يلقوا فى ألمانيا النازية هذا العذاب! وقد أثبت البحث العلمى إن حرق ملايين اليهود هناك أسطورة لا أساس لها، ولو فرضنا أنهم نزل بهم أشد العذاب، فما ذنب العرب؟ ولم يقتص منهم؟!! الحق أن للعرب ذنبا آخر قد يكون أشد من كل الذنوب! لقد وهت علاقتهم بالله، وتقطع ما بينهم من أخوة، بل إن بعض العرب حاصر مخيمات اللاجئين قبل أن تحاصرها شراذم اليهود! وظل هذا الحصار بضع سنين حافلا بالمآسى حتى ألفت طبيبة إنجليزية كتابا عن آلام أطفال الحصار! فلنلم أنفسنا قبل أن نلوم غيرنا. ص _008(3/5)
أينا الإرهابى؟! فى أقطار كثيرة تهدد حقوق المسلمين وترخص دماؤهم، فإذا أبدوا مقاومة واهنة ضد المغيرين عليهم ودفعوا بالراح أفتك أنواع السلاح، ارتفعت صيحات معروفة: المسلمون معتدون! المسلمون إرهابيون! المسلمون يعودون إلى همجيتهم الأولى..! وأعطيت الإشارة للدبابات أن تصب حممها على الصبية الذين يقذفون المغيرين بالحجارة! ويبدو أن حبل هذا الإفك لا ينقطع..!، وقد وزعت أدوار هذه الأكذوبة الكبرى على أطراف شتى تجمع بين مبشرين، وصحافيين، وممثلين، وتجار كتب وتجار سلاح، وباعة " كاسيتات " وأشرطة "فيديو"، وساسة خبثاء، وأتباع حمقى... والإصرار على اتهام الإسلام بأنه دين إرهابى هو- كما يقول علماء النفس- نوع من الإسقاط الذى يدفع المرء إلى اتهام غيره بما فى نفسه هو من شر، وبما كسبت يداه من إثم..! وأكتفى بتسجيل عبارات رواها " لوقا " فى إنجيله عن المسيح- عليه السلام- وهى عبارات يدور عليها التاريخ الصليبى كله، ومع أننا نحن المسلمين نستبعد صدورها عن عيسى بن مريم إلا أن القوم صدقوها ونفذوها وعاشوا وما يزالون فى جوها. يقول إنجيل " لوقا " على لسان المسيح :" ولقد جئت لألقى على الأرض نارا! فماذا أريد إلا أن تكون قد اضطرمت؟ ولى معمودية لأصطبغ بها، وما أشد ص _009(3/6)
ما أعانى حتى تتم! أتظنون أنى جئت لألقى على الأرض سلاما؟ أقول لكم: كلا (!) بل انقساما... فإنه منذ الآن سيكون خمسة فى بيت واحد منقسمين، ثلاثة ضد اثنين، واثنان ضد ثلاثة، فيعادى الأب ابنه والابن أباه! وتعادى الأم ابنتها والابنة أمها، والحماة زوجة ابنها، !زوجة الابن حماتها ". ولم ينفرد لوقا بهذا المعنى، بل أيده متى ويوحنا . وإذا كان الانقسام فى بيت واحد غاية دينية فكيف إذا تعلقت الرغبة السيئة بمستقبل قطر كبير؟ لقد كان الشام قطرا واحدا فإذا هو الآن أربع دول، سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والخطة مطردة لجعل فلسطين دولتين وجعل لبنان دولتين! إن الانقسام والتقسيم مشيئة إلهية كما ترى الصليبية... ووسيلة ذلك القتل والختل واتهام الإسلام بأنه دين إرهاب! واتهام المسلمين المقيمين فى أرجاء الأرض بأنهم ضد السلام، وأنهم مشعلوا الحرب!! ص _010(3/7)
قانونى جاهل يفترى على الإسلام... هذا مقال مشحون بالأخطاء الجريئة، بعضها من صنع الكاتب لم يسبقه إليها أحد! وبعضها مشى الكاتب فيه وراء غيره مقتنعا بشبهات ليس لها من وزن! ونبدأ بالرد على السىء، ثم نثنى بالأسوأ لحكمة رأيناها.. يقول المستشار محمد سعيد العشماوى: " قياس تحريم المخدرات على الخمر قياس فاسد، لأن الخمر فى القرآن مأمور باجتنابها وليست محرمة، فالمحرم على سبيل القطع من الأطعمة والأشربة ورد فى الآية الكريمة : (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) والاجتناب فى رأى بعض الفقهاء أشد من التحريم، ولكنه فى الحقيقة أمر يتصل بالشخص المخاطب.. ". نقول: والآية التى ذكرها الكاتب إحدى آيات أربع، نزلت اثنتان منهن بمكة، والأخريان بالمدينة، وهن جميعا فى المحرم من الأنعام، ولا صلة لهذه الآيات بالخمر من قريب ولا من بعيد. ويظهر أن الكاتب لا يدرى معنى كلمة طاعم، فقد حسبها تتناول المشروبات إلى جانب المأكولات... ولم يقل ذلك عالم باللغة ولا بالتفسير.. وربما وردت كلمة طعم بمعنى تذوق، وتستعمل عندئذ فى الروائح والسوائل، ومن ذلك قول شوقى: وما ضر الورود وما عليها إذا المزكوم لم يطعم شذاها! ومنه ما جاء بالقرآن الكريم (ومن لم يطعمه فإنه مني) أى الماء. ص _011(3/8)
والزعم بأن آية الأنعام تبيح شرب الخمر لم يخطر ببال مسلم فى الأولين والآخرين!، ولو صح فهم المستشار العشماوى لها لوجبت إباحة المخدرات فهى نباتات وأزهار تطعم- بالتعبير اللغوى- ولا بأس على المدمنين ولا على السكارى من اتباع مذهب المستشار المجتهد، وهنيئا للسكارى والحشاشين! أما كلمة "اجتنبوه " فقد استعملها القرآن فى تحريم الإشراك والتزوير قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وقال فى وصف المؤمنين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) فهل الكلمة التى استخدمت لتحريم جرائم الشرك والزور وشتى الآثام والمناكر تترك للشخص المخاطب بترك الخمر كى يكون له الخيار فى السكر أو الصحو؟! ولماذا يكون التخيير فى تناول الخمر وحدها؟! لماذا لا يكون فى سائر الجرائم الأخرى..؟! إن تحريم الخمر قد انعقد عليه إجماع المسلمين من سلف وخلف إلى يوم الناس هذا.. ولا أشك فى أن المستشار محمد سعيد العشماوى لم يكون فى وعيه عندما قال: إن الخمر ليست محرمة فى القرآن! ولكن هذا الخطأ على فداحته أهون من الخطيئة التى بنى عليها مقاله، وهى أن سلطة الله فى التشريع قد انتهت بوفاة الرسول الكريم، وانتقلت إلى الشعب! فلنتابع هذا المستشار فى هجسه لنعرف ماذا يعنى؟! ومن وراءه؟ يقول المستشار عشماوى: " بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم انتهى التنزيل ووقف الحديث الصحيح وسكتت بذلك السلطة التشريعية التى آمن بها المؤمنون وكانت أساس خضوعهم لأحكامها، وكان يجب على الخلفاء والفقهاء إدراك أن الشريعة انتقلت إلى الأمة أى الجماعة الإسلامية، فأصبحت الأمة أساس الشرعية فى الخلافة والوزارة والتشريع والأوامر والأحكام.. " ويشرح المستشار ما يريد فيقول: " إنه مع انعدام الوحى، وبعد فترة النبوة لا يكون الحديث عن عمل الله وأمر الله وخلافة الله إلا ضربا من التعابث والتخابث والتحايل.. الخ. ". ص _012(3/9)
ونتساءل: ما معنى انعدام الوحى وقد نزل منه مصحف كامل؟! وما معنى توقف الحديث وقد ضبطت الأمة آلاف السنن الصحيحة؟ يرى فقيه مجلس الدولة أن السلطة الجديدة للشعب أمسى لها حق النظر الحر فى هذه المخلفات التى تركتها السلطة السابقة، فما قبلته بقى، وما رأت أنه يخالف المصلحة ألغته ولا كرامة..!! ولكى يصل إلى غايته من ترك الكتاب والسنة أرسل هذه الكلمة العوراء " القرآن ليس كتاب تشريع ولكنه فى الأساس كتاب دين و إيمان وهو فى ذلك عكس التوراة"!! التوراة كتاب تشريع أما القرآن الذى قال منزله : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) والذى قال- بعد ذكره التوراة والإنجيل- (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) هذا الكتاب ليس كتاب تشريع بل هو دون التوراة عند المستشار عشماوى..! ومضى الرجل التائه المسكين يحاول إثبات أن عمر ألغى أحكاما قرآنية بوصفه ممثل الشعب، والشعب هو السلطة الجديدة الحاكمة بأمرها عند هذا المفكر المخبول.. وعمر ما كان له.. بل يستحيل عليه أن يعترض نصا قرآنيا، لقد أبطل تطبيقا خطأ لمبدأ صحيح ثابت إلى آخر الدهر.. فقد ضبط بدويا يأخذ صدقة من سهم المؤلفة قلوبهم، وذلك بعد ما انتصر الإسلام على الروم والفرص وعجب عمر أن يتصور هذا الأحمق أن الإسلام لا يزال يتألفه كما كان أيام ضعفه القديم فحجب عنه الصدقة وطرده! هل هذا إلغاء للنص؟! أم منع لخطاف يريد الاختباء خلفه؟! وقد تعرضنا لهذه الشبهات فى مكان آخر، لكن المستشار العشماوى يريد إلغاء الكتاب والسنة بأسلوب يجعل الجامعة العبرية ترشحه لجائزة نوبل.. ما أيسر ذلك! ونعود للمقال الذى نشرته له مجلة أكتوبر عن انتهاء سلطة الكتاب والسنة وبدء سلطة الشعب! لنقول: إن هذه الكلمة مظلومة! إن الشعب مسلم وفى لدينه مخلص لكتاب ربه وسنة نبيه، والقصة كلها محاولة ص _013(3/10)
طائشة لحفنة من سماسرة الغزو الثقافى تؤدى بين ظهرانينا دور المستشرقين والمبشرين، وسنكون لهم كالشرطة مع اللصوص. يظهر أن الإلحاد أخصر طريق للشهرة، فإن وغدا مغموصا كسلمان رشدى أمسى بين عشية وضحاها من ألمع الأسماء لأنه ولغ فى سيرة أشرف الرسل!، ولكن ما قيمة الشهرة؟!! إن إبليس هو أشهر مخلوق! ولعل أشرف منه وأسعد عصفورة ولدت فى خفاء وماتت فى عماء لم يشك من شرها أحد.! والطاعنون فى الإسلام من العرب المعاصرين يجدون مع الشهرة حظوة لدى إحدى الجبهتين المغيرتين على تراثنا، وتكبر هذه الحظوة بقدر ما يثيرون من شكوك ويوقظون من شهوات. من أجل ذلكم أشعر بأن جرائم هؤلاء المهاجمين الخبثاء على الإسلام تدخل فى دائرة الخيانة العظمى! ومن أيام نشرت مجلة ماجنة مقالا مسموما تحت عنوان: الإسلام ليس دولة! فقلت: قديمة! ونكتة سخيفة، والواقع أن الكاتب ما يرى الإسلام دينا ولا دولة، ولكن المطلوب إثارة اللغط حول الإسلام حتى يفقد ما بقى له من مكانة! وأوصيت من حولى أن يدفنوا الموضوع مكانه فذاك أفضل.. من هذا القبيل قول المستشار العشماوى كان بعض الفقهاء يجاهر بوضع الأحاديث، ويتفاخر بهذا الوضع ويقول: نحن نكذب للنبى لا عليه. وهذا الكلام لون من الإفك، فلم يضع فقيه حديثا، ربما ضبط بعض الأغرار يضع حديثا فى فضائل القرآن لإغراء الناس بقراءته، وما وقع هذا السفه من فقيه، وقد كشف المجرم وأحيط به. ولكن المستشار يريد تلويث سمعة الفقهاء فيهرف بما لا يعرف، وهو لا قدم له فى فقه أو حديث. ومن جراءته البالغة زعمه أن آيات التشريع فى القرآن الكريم تبلغ مائتين، ألغى منها بالنسخ 120 آية أى ثلاثة أخماس الآيات التشريعية ولم تبق إلا ثمانون آية. ص _014(3/11)
وظاهر أن العشماوى لا قراءة له فى هذه القضايا، ولو تناول كتابا كالتشريع الإسلامى للخضرى لعلم أنه لم تلغ آية واحدة، وأن الكلام يدور بين الإجمال والتفصيل والعموم والخصوص والتقييد والإطلاق والرخصة والعزيمة والتدرج فى التشريع، وأن ما من آية قيل بنسخها إلا وقيل بإحكامها! ولكنه مسكين يجهل الحقائق ويتكبر على السؤال وطلب المعرفة! لا بل هو يسعى إلى شئ آخر! يريد أن يقول: إذا كان أغلب آيات التشريع ألغى فى ربع قرن- مدة نزول الوحى- فلماذا لا يلغى الباقى على امتداد القرن واختلاف المصالح؟! وبذلك يستطيع الشعب- وهو السلطة التى خلفت الله فى الحكم- أن يحل ما يشاء وأن يحكم ما يريد، بل هذا المستشار يرى واضعى الحديث أخطئوا الطريق، كان عليهم بدل الوضع أن يتصلوا بالشعب، وعن طريق الدستورية يضعون ما يشاءون من أحكام لها سندها ووجاهتها.. إن الإنجليز أباحوا اللواط بحكم من مجلس العموم! والشعوب تملك ما تريد وعند فقيه مجلس الدولة- بعد ما أباح الخمر- بلاء كثير. ص _015(3/12)
محاباة جديرة بالدراسة.. يظهر أنه مطلوب من المسلمين أن يساءوا فلا يتألموا، وأن يضاموا فلا يتظلموا! بل مطلوب منهم ما هو أشد وأنكى، أن يلتمسوا لضاربهم العذر، وأن يبحثوا عن حل إذا تعقدت المشكلات أمام من يجور عليهم ويجتاح حقوقهم! أقول هذا وأنا أقرأ مطالبة الفاتيكان لمسلمى العالم أن يجتهدوا فى إقرار السلام بلبنان، كأن المسلمين هم صانعوا المأساة التى أشعلت الحرب بضعة عشر عاما فى هذه البلاد المسكينة! إن قلة من سكان لبنان تريد فرض سيطرتها المادية والروحية والسياسية على الكثرة المستميتة فى رفض هذا البغى، فلمن تكون المناشدة بالاعتدال واحترام العدالة؟ لماذا تطارد الطائفية فى بقاع كثيرة وتصان وتحمى فى لبنان وحده؟!! إن بعض رجال الدين من الموارنة وقف موقفا سيئا فى الصراع العربى اليهودى، وطلب من الرعية أن تنحاز إلى إسرائيل! فعل ذلك المطران مبارك لولا أن الشيخ بشارة الخورى- وهو رجل مدنى- استغاث بالبابا الأسبق فاستدعى المطران الشاذ، واستبقاه فى روما حتى هدأ الموقف، وقد شكرنا لرجل الفاتيكان الواعى ما فعله، وكان حريا بالبابا الحالى أن يحذو حذو سلفه، ويترك لبنان عربيا وفيا لجيرانه، محترما مشاعر أربعة أخماس سكانه! لكن الزمام ترك للحاقدين على العروبة والإسلام، فوقعت ولا تزال تقع أمور لا يجوز السكوت عليها! كيف نشأ جيش لبنان الجنوبى ليحرس ظهر إسرائيل، ويضرب المجاهدين على أرض لبنان نفسه؟!! لماذا تنامت الأحقاد فى قلوب بعض الموارنة المتفرنسين، فدخلوا مخيمات صبرا وشاتيلا بإيعاز من بنى إسرائيل فأهلكوا الحرث والنسل، وارتكبوا مجازر تقشعر منها الأبدان؟! ص _016(3/13)
إن اللغة العربية تختفى من بيوت كثيرة لتحل محلها اللغة الفرنسية، والخطة موضوعة لمحو العروبة والإسلام فى بلاد يسكنها ثمانون فى المائة من العرب المسلمين. وقد ذكرت فى بعض كتبى أن الهوس بلغ ببعض الرؤساء الدينيين أن يتحدى فى تصريح طائش الفهم الإسلامى للعقائد، وكأنه يقول: هل من مبارز؟! إن علاج الأوضاع فى لبنان لن يتم أبدا فى ظل النفاق والجبن، ولن يتم أبدا وفق مبدأ هضم الكثرة المسحوقة ونسيان حقها فى الحكم والسيادة والعيش بدينها ولسانها وتراثها وتاريخها. إن الجامعة العربية تتلطف فى حل "معضلات " من صنع الدول الكبرى، وتحاور وتداور كى تصل بشعب لبنان إلى موقف وسط يأخذ فيه المظلوم جزءا أو جزيئا من حقه، ويترك النصيب الأكبر للظالم الذى وضع يده على الكثير!! ومع ذلك فإن القلة المتفرنسة فى لبنان تأبى بكبر أن تتنازل عن شئ! ثم نسمع وسط هذا الإصرار نداء يناشد فيه الفاتيكان المسلمين فى العالم أن يبذلوا جهودهم لإقرار السلام..!! لعل الحل الأمثل أن يترك السنيون والشيعة والدروز والروم الأرثوذكس والأرمن الأرض كلها لدولة تكمل أطماع إسرائيل فى محو التراث والدين والدنيا عن هذه البقعة الغالية التى ورثتها أمتنا المحروبة المنكوبة....!! ص _017(3/14)
من تمام التوبة النصوح..! من فضل الله علينا وعلى الدكتور مصطفى محمود أنه أصبح من معالم الفكر المؤمن، وأنه ببصيرته الثاقبة يعرض من آيات الله فى الأنفس والآفاق ما يدعم الحق وما يدفع الباطل.. لقد أمحى ماضيه الذى كان مشوبا بالشك، وحل مكانه حاضر مديد ملئ باليقين! لماذا قلت هذا الكلام؟ لأنى قرأت فى صحيفة الأخبار هذا العنوان السار: "نجيب محفوظ: بعد فترة شك قاسية ورحلة عقلية شاقة يفخر بإيمانه وانتمائه إلى الإسلام " لقد دعوت للرجل، وقلت: زاده الله هدى. ولنسمع إليه يحكى طرفا من سيرته: يقول: " لقد أخذت الإسلام أولا من البيئة التى نشأت فيها، كان إسلاما مختلطا بكثير من الخرافات والسلبيات، وعندما شببت عن الطوق، وعرضت ما تلقيته على عقلى، كان لابد أن أرفضه، بيد أنى وقعت فى خطأ عقلى كبير، إذ ظننت أن الخرافات التى أنكرتها جزء من الدين، وأنى بالابتعاد عنها أبتعد عن صميم الدين.. ثم استبانت لى الأمور، فعرفت ما هو من حقائق الوحى الإلهى، وما هو من إضافات الوهم البشرى!.. " ثم يقول: " أنا الآن فخور بإيمانى وانتسابى للإسلام، لقد دخلته بعد مرحلة شك، وتعرفت عليه باقتناع، وبعد دراسة واسعة لمختلف المذاهب والأفكار والعقائد.. " ويؤكد الكاتب الكبير أن الإسلام فيه كل المقومات التى تنجح بها النهضات وتعلو الأمم، إنه دين العمل والأمانة والطهارة وباعث الحريات التى تعترض الطغاة والمنافقين والمفسدين. ويأسف أخيرا للتدين المهتم بالشكليات، الغافل عن اللباب، بل يرى أن المتدينين من هذا الصنف لا يقلون خطرا عمن يدعون إلى ترك الدين.. ص _018(3/15)
إننى طبت نفسا بهذا البيان، ودعوت للكاتب الآيب، ولكن لى تعليقا أذكره بعد سوق هذه الحكاية السريعة.. عرفت الشيخ عبد الرازق فى أواخر أيامه، كان يصلى الجمعة معى فى الأزهر الشريف، ويبكر لسماع الخطبة، ويعاتبنى أحيانا عندما أطيل- لمرض أصابه- ونشأ بيننا ما يشبه الود! كنت أكرهه أولا لكتابه: " الإسلام وأصول الحكم " فقد خلط فيه خلطا منكورا بين آيات نشر الدعوة وآيات إقامة الدولة، ووقع هذا الخلط فى حين أسود، سقطت فيه دولة الخلافة وأطبق الاستعمار العالمى علينا من كل جانب، فكان الكتاب خطأ عقليا وخطيئة خلقية.. وهاهو ذا الرجل قد رجع إلى الله، وعرفت أنه أبى إعادة طبع الكتاب! وأهال التراب على هذه الذكرى.. إنها توبة سلبية! كان الأستاذ خالد محمد خالد أشجع منه وأتقى لله عندما وقع فى مثل خطئه ثم ألف كتابا آخر أثبت فيه أن الإسلام دولة ودين! ونتج عن سلبية الشيخ عبد الرازق أن الكتاب الذى رجع عنه ينشره الآن نفر من أعداء الإسلام وكارهى دولته.. من أجل ذلك أتوجه- مع جمهور المؤمنين- بهذا الرجاء إلى كاتبنا الكبير نجيب محفوظ أن يضيف إلى كل طبعة جديدة من كتبه التى تحتاج إلى استدراك صفحة واحدة يؤكد فيها أن العلم والإيمان قرينان، بل شئ واحد فى الحقيقة! وأنه ليس هناك يقين دينى يناقض يقينا علميا، وأن كلمات الله فى وحيه ترديد لكلماته فى صحائف الكون والحياة، وفى قيام السماوات والأرض. ص _019(3/16)
أهؤلاء على دين؟؟ أكره أصحاب الغلظة والشراسة، لو كان أحدهم تاجرا واحتجت إلى سلعة عنده ما ذهبت إلى دكانه ولو كان موظفا ولى عنده مصلحة ما ذهبت إلى ديوانه، لكن البلية العظمى أن يكون إمام صلاة أو خطيب جمعة أو مشتغلا بالدعوة، إنه يكون فتنة متحركة متجددة يصعب فيها العزاء. إذا لم يكن الدين خلقا دميثا ووجها طليقا وروحا سمحة وجوارا رحبا وسيرة جذابة فما يكون؟! وقبل ذلك، إذا لم يكن الدين افتقارا إلى الله، وانكسارا فى حضوره الدائم، ورجاء فى رحمته الواسعة، وتطلعا إلى أن يعم خيره البلاد والعباد فما يكون؟! بعض المصلين تحركه لينتظم فى الصف فكأنما تحرك جبلا! وبعض الوعاظ يتكلم فكأنه وحده المعصوم والناس من دونه هم الخطاءون! وهذا شاب حدث يحسب نفسه مبعوث العناية الإلهية لإصلاح البشرية فهو ينظر إلى الكبار والصغار نظرة مقتحمة جريئة.. إن القلب القاسى والغرور الغالب هما أدل شئ على غضب الله، والبعد عن صراطه المستقيم... ومن السهل أن يرتدى الإنسان لباس الطاعات الظاهرة على كيان ملوث وباطن معيب. لو أن إنسانا عرف معايبى فسترها عن الناس وقصد إلى ليكشف لى أخطائى، ويرجع بى إلى ربى لشكرته ودعوت له! أنه أسدى إلى جميلا، ورحم الله امرءا أهدى إلى عيوبى.. إننى أخاف على نفسى وعلى الناس صياحا فضاحا سفاحا يرتقب الغلطة ليثب على صاحبها وثبة الذئب على الشاه، فهو فى ظاهره غيور على الحق وفى باطنه وحش لم تقلم التقوى أظافره، ولم يغسل الإيمان عاره ولا اوضاه. ص _020(3/17)
قديما كان الخوارج يسلكون هذه المسالك: قال التاريخ: غزا " عمارة بن قرض " غزوة مكث فيها ما شاء الله، ثم رجع حتى إذا كان قريبا من الأهواز- فى فارس- سمع الأذان، فحن إلى إقامة الصلاة مع الجماعة، واتجه ناحية الصوت، فإذا هو بالإزارقة، وهم فرقة من الخوارج ترى الأمويين كفارا ومن يجاهد مع الكفار فى ظل دولتهم فهو منهم!، فلما رأوا القائد الكبير مقبلا عليهم قالوا: ما جاء بك يا عدوا الله؟ فقال: ما أنتم بإخوانى؟ قالوا: أنت أخ الشيطان، لنقتلك! قال لهم: أما ترضون منى بما رضى به رسول الله؟ قالوا: أى شئ رضى به منك؟ قال: أتيته وأنا كافر، فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فخلى عنى..!! ولكن الخوارج أخذوه وقتلوه..! إنه تحت شعار الإسلام يوجد ناس ليس لهم فقه وليست لديهم تربية، يغترون بقراءات وشقشقات واعتراضات على بعض الأوضاع، ويرون أن الدين كله لديهم وأن الكفر كله عند معارضيهم، فيستبيحون دماءهم وأموالهم وكراماتهم. ما هذا بإسلام وما يخدم بهذا الأسلوب دين من الأديان. ص _021(3/18)
بديع السموات والأرض..!! كانت الطائرة تنطلق بى من الجزائر إلى القاهرة، كنا نطير فوق السحب المبعثرة فى الآفاق! ومررنا بمنطقة كثيفة السحاب، ورمقت عن بعد قمة سحابة شامخة الذروة، استوقفنى منظرها فثبت بصرى عليها وشرعت أتساءل: ترى من أين تكونت هذه السحابة؟ هل تجمعت أبخرتها من البحر المتوسط تحتنا؟ أم من المحيط الأطلسى إلى جوارنا؟ لا أدرى، الذى يعلم هذا مرسل الرياح تلتقط الأبخرة من فوق الأمواج، ثم تصعد بها إلى أعلى، ثم تنبسط فى السماء كيف شاء الله، ثم تسير مسخرة إلى حيث يريد! ونبت فى ذهنى سؤال آخر: هذا الجبل المائى الذى يسير الهوينى لابد له من مستقر! ترى أين يهبط؟ هل سيسير أنهارا على سطح الأرض؟ أم عيونا سائلة، أم آبارا يستقى منها بالدلاء، أم نشربه من الصنابير التى أعددناها لاستقباله؟ أم لعله يتحول إلى حبوب وفواكه وموالح فأشرب من هذه السحابة كأسا من عصير البرتقال؟ قلت: الله وحده يعلم أين ستهمى هذه الديم، وماذا سيفعل عباده بها؟ لكن ذهنى كان ملحاحا فى أسئلته، فهو يقول: هل هذه هى المرة الأولى لحركة السحاب المتراكم الذى تراه، فهو لأول مرة يستثار، ولأول مرة يشرب؟ وكان الجواب: ما أظن، إن قطرات ملأت بطونا وبطونا، وارتوى منها ألوف وألوف، ثم عادت الفضلات إلى البحر لتثار مرة أخرى سحبا تتهادى فى الآفاق، ويرتقبها الناس بالشوق والأمل. لعل الجبل المائى الذى أراه الآن يكرر رحلته المليون أو المليار التى وصفها القرآن ص _022(3/19)
الكريم : (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) إن عصورا متطاولة تمر على هذه الرحلات المتتابعة، ونحن البشر فى دائرة حاجاتنا المتجددة نشرب ونروى أرضنا، ونحسب بالساعات المحدودة حاجتنا إلى الشراب، ونحسب بالأيام المعدودة حاجة أراضينا إلى الرى والمشرف الأعلى على السحاب المسخر بين السماء والأرض يرسل الغيث ويهيئ دوراته وفق ما قال لـ (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) ومع ذلك فإن الحضارة الحديثة كونت إنسانا غريب الأطوار، يرتوى ويتجشأ ولا يدرى من أطعمه ولا من سقاه قد يقول: لا إله والحياة مادة! وقد يقول: أسرة الآلهة غادرت جبل الأولمب إلى مسكن آخر يجرى البحث عنه!! (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) إن يكون هؤلاء ملومين فأحق باللوم من أوتى القرآن ثم نام فى ضحاه فهو لا يدرى إيمانا من إلحاد، ولا صلاحا من فساد. ص _0 ص(3/20)
العلم يهدى إلى الله... عندما أتتبع آيات الله فى الأنفس والآفاق أرتبط بالواقع وأنأى عن الخيال، وفى هذا الارتباط يستوى عندى الضخم والضئيل! فللكبير جدا عظمته، وللصغير جدا دقته! الواحد الذى على يمينه عشرون صفرا يمثل عددا هائلا فى الضخامة فإذا كان هذا الواحد ذو الأصفار العشرين يمثل كسرا عشريا أو كسرا اعتياديا كما يقال فى علم الحساب فالأمر باغ الضالة.. ومن هنا فأنا أتعرف على آيات الله فى عالم الكواكب، كما أتعرف عليها فى عالم الجراثيم، وهذه ترى بمنظار مكبر وتلك ترى بمنظار مقرب.. وربما تخيلت ما أراه من آيات بعد مرورى بها، كنت فى الجزائر فشاهدت جبلا يشبه حرف الألف، كان صخرة شاهقة يرتد الطرف عن قمتها، وتوهمت كأنه يريد أن ينقض!! وبعد ساعة من البعد عنه عادت صورته إلى خيالى فقلت: أما يزال يريد أن ينقض؟ لا، سيبقي كذلك حتى يأذن الله، ويتحقق قوله : (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا و لا أمتا) وكما سبح بى الخيال هنا يسبح بى الخيال وأنا أتصور الألوف المؤلفة من الشموس والنجوم الدوارة فى الفضاء البعيد، إنها كشمسنا المألوفة تشرق وتغرب ونحن أيقاظ أو رقود، قد تبلغ مليارات من الكواكب تجرى غير متوقفة، ولا متعثرة، هي كما وصفها الله : (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا* والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا). إنها مسخرة بأمر ربها، دوارة بإذنه وحده، ويوشك أن يأذن لها بالتوقف والانطفاء، متى؟ (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة). ص _024(3/21)
إن أمجاد الألوهية تذهل العقل، ويزداد الذهول عندما أعلم أن المشرف على هذه السماوات الوسيعة مشرف فى الوقت نفسه على حيوانات جرثومية تجتمع المليارات منها فى سنتيمتر، ومشرف على مليارات الخلايا فى مخ واحد، بين خمسة مليارات مخ بشرى تسكن الأرض! ذلك عدا كائنات أخرى يقول فيها جل شأنه : (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) إن القوانين التى تنتظم الكون من الذرة إلى المجرة واحدة. فى النهر الذى أتخيله من الشرايين الممتدة، فى كل جسم بشرى لا تند قطرة واحدة من الدم السارى فى العروق، لا تند عن علم الخالق ومشيئته وقدرته وحكمته. فإذا تركت المادة إلى الفكر، تكررت العبرة نفسها. إن تيار الشعور الذى يهتز فى بدنى إدراكا ووجدانا ونزوعا- كما يعبر علم النفس- ليس حكرا على وحدى، إنه ينتظم الخلائق طرا.. فكل خاطر يساور نفس بشر، وكل علم يحصله، كتبه أو قرأه، سجله أو لم يسجله، ذكره أو نسيه، كل ذلك ينتظم صفحة واحدة أمام رب العالمين، جامعا بين شتى اللغات وشتى الأزمنة (وكل صغير وكبير مستطر) ستحيل أن يغيب عنه، أو يتم بعيدا عن سمعه وبصره وإحاطته!! أريد أن أقول للمسلمين: إن قرآنكم هو المصدر الأول للاعتقاد الحق، وإن علوم الكون والحياة هى الشارح الجدير بالتأمل والمتابعة.. و إن العظمة الإلهية تزداد تألقا فى عصر العلم و إن التقدم العلمى صديق للإيمان، وخصم للإلحاد.. وأريد أن أحذر المسلمين من منتسبين إلى العلم لا قدم لهم فيه، فليس " فرويد " أو " دوركايم " من العلماء، إنهم مفكرون مرضى ضلوا السبيل، وليس " ماركس " وأتباعه علماء، إنهم كهان جدد، استبدت بهم علل نفسية، وما كانوا يستطيعون السير لولا الفراغ الذى أتيح لهم من قصور المتدينين، وتفريطهم فى جنب الله. ص _025(3/22)
هل يفهم العرب؟ أريد أن أهمس فى آذان العرب بشىء! لقد قال اليهود وكرروا القول: إن فلسطين لن يعيش فيها إلا شعب واحد! نحن أو أنتم أيها العرب، أحد الجنسين يجب أن يختفى من على وجه الأرض، وقد قررنا البقاء، فاستعدوا أنتم للموت!! ولست أقول لأى عربى أذهب واشتر أكفانك واستعد للموت الذى سينزل بك ليلا أو نهارا.. إننى أذكره بقولة أبى الطيب العامرة بالحكمة: وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا مادام لابد من الجلاء أو الفناء فلا يسوغ أن أترك عدوي دون صراع يمرغه فى العار قبل أن يقذف فى النار! لا يسوغ أن أدع له الأرض غنيمة باردة بل يجب أن تكون مقبرة لى وله وليرث الأرض بعد ذلك من يرثها، وفق سنن الله فى هذه الحياة... أريد أن أهمس فى آذان الساسة العرب! لماذا لا يكون ولاؤكم للإسلام صريحا فصيحا، وانتماؤكم إليه باديا غاليا إذا كان بنو إسرائيل يقدسون السبت ويرفعون التلمود ويشقون حناجرهم بمواريث التوراة، وبناء دولة دينية من الفرات إلى النيل، وبناء هيكل الرب على أنقاض المسجد الأقصى لتعود مملكة سليمان فى هذا العصر الأسود تحكم المشارق والمغارب. إن بعضكم أيها الساسة الأكابر يعتنق العلمانية أو القومية أو أى شىء تستخفى فيه معالم الإسلام، فلا تظهر فيه عقيدة ولا شريعة، ولا تلمح فيه أخوة الإيمان ولا مواريث حضارة قامت باسم الله بضعة عشر قرنا.! إن أوروبا التى قلدتموها أخذت تتوحد وفق مواريثها وتوشك أن تقوم فيها دولة كبرى تذوب فيها اللغات والجنسيات، وتسودها منافع مادية وأدبية مشتركة! ولست أدرى: لماذا يرتبط الناس بأديانهم؟ وتزهدون أنتم فى دينكم؟! أليس فيكم رجل رشيد؟ ص _026(3/23)
أريد أن أقول للعرب: إذا كان عدوكم يتدرع بالدين وهو يعتدى!! فلماذا لا تتدرعون بالدين وأنتم تدافعون؟! إننى أسمع القائد الزنجى "جارانج " يصرح بأنه إذا دخل السودان فيجب أن يخرج الإسلام، تتبعه العروبة مقهورة مدحورة! وأسمع الرئيس اليهودى " شامير " يقول للعالمين: ليست للعرب ذرة من حق فى فلسطين! لا مكان لهم على شبر من الأرض! هذا ميراثنا كما سجلته التوراة لنا وحدنا!! أما الرؤساء العرب، فلا تجري على ألسنتهم كلمة القرآن، ويظهر أنهم لا يدرون شيئا عن رسالته ولا حضارته، بل يظهر أنهم لا يعرفون حقيقة ما يجرى حولهم فى دهاليز السياسة العالمية ومبلغ تأثير هذه السياسة بالصهيونية والاستعمار..!! إن فى أمريكا رجالا يؤخرون مصلحتها ويقدمون عليها مصلحة إسرائيل، وقد ذهب خطيب أمريكى إلى إسرائيل ليقول لليهود لا تختلفوا على قضية "أرض مقابل السلام "! إن العهد القديم فصل فى هذه القضية وجعل الأرض كلها لكم! يبدو أن ساستنا فى واد، والدين والدنيا فى واد آخر!. ص _027(3/24)
ذكر أم أنثى.؟؟ أثبت علماء الأجنة أن السائل المنوى يحمل حيوانات مذكرة وأخرى مؤنثة، وأن أى هذه الحيوانات سبق إلى اختراق جدار البويضة حدد نوع المولود ذكرا كان أو أنثى! وتتفق هذه الحقيقة العلمية مع ظاهر القرآن الكريم فى سورتى النجم والقيامة، ففى الأولى يقول سبحانه : (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى) وفى الثانية يقول سبحانه : (ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى). وقد كنت وقفت عند هذه المقولة المؤيدة بالكشوف العلمية وتجاوزت المرويات الأخرى، ثم زاد اطلاعى على شروح علماء الأجنة لتخلق الإنسان فوجدت ما يستدعى إعادة النظر وزيادة البيان! يقول هؤلاء العلماء: إن للرحم إفرازات تتدخل فى مسار الحيوانات المنوية، وقد تعرقل نشاط الحيوانات المذكرة وتقف تقدمها فتتيح الفرصة للحيوانات المؤنثة أن تسبق إلى اختراق جدار البويضة، ومن ثم يجيىء المولود أنثى! وقد تقل هذه الإفرازات، ولا يجد الحيوان المذكر ما يغلب نشاطه فيجيىء المولود ذكرا..! هل أحد الزوجين مسئول عن هذه الإفرازات القليلة أو الكثيرة؟ كلا! المسئول عنها هو القائل (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور). والحيوان المنوى لا يجرى على خشب أو حجر، إنه يسبح فى الماء، ولا علاقة لهذا الماء بحقيبة الوراثة التى يحملها فى كيانه الدقيق، مادية كانت أو أدبية، جسمية أو عقلية، وكذلك الأمر مع بويضة الأنثى التى تحمل نفس الخصائص. ص _028(3/25)
ويسمى العلماء هذه وتلك "بالكروزومات " فهى حاملة الصفات الوراثية التى يكمن بعضها ويبرز بعضها فى الأولاد والأحفاد وفق مشيئة من قال : (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم). وقد جاء فى الحديث " أن الرجل إذا غشى المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها ". وأرى أن التعبير كما يقول علماء البلاغة من قبيل المجاز المرسل علاقته الحالية والمحلية! فمصدر الوراثة الحيوان المنوى نفسه عند الرجل، والبويضة وحدها عند المرأة وما الماء إلا حامل وحسب للمصدرين العتيدين! وعناصر الوراثة معقدة، فقد يحمل المرء خلقة أمه وخلق أبيه، أو جده وجدته وقد ينزعه عرق إلى أبعد من ذلك : (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون). إننى بهذه الكلمات أحاول التوفيق بين حقائق علمية وأخرى دينية، ولست أدرى حظى من التوفيق، وأيا ما كان الأمر فأنا متشبث بحبل الله المتين، فلا أعدل بالقرآن الكريم شيئا، مع رغبة صادقة فى ربط شتى الأحاديث به ما استطعت، ويسرنى أن أسمع من عنده مزيد من العلم. ص _029(3/26)
من حقوق العقيدة..! الذى يعرف ربه ويخلص له يستحيل أن يمنح مودته لملحد ينكر الألوهية وينشر الجحود. والذى يتبع تقاليد الشرق ويلتزم بمبادئ الطهارة والتقوى يستحيل أن يختار أصدقاءه من الشطار والعهار. ولذلك جاء فى السنة أن الحب فى الله والبغض فى الله من الإيمان! فلا يجوز أن نصافى جائرا، كما لا يجوز أن نخاصم طيبا!! حق الطيب أن نقترب منه ونشعره بحبنا، وحق الخبيث أن نبتعد عنه ونشعره ببغضنا.. وقد عرفت هذه المعانى فى ديننا "بالولاء والبراء" وليس هناك خلاف عليها، ألا أنه عند التطبيق تقع أمور جديرة بالنظر أقرت فى كتاب الله وسنة رسوله، نومئ إليها بإيجاز، فإن المقاتل قد يتقهقر ليتقدم! وقد يدور حول عقبة كأداء حتى لا يفقد قوته فى تحطيمها وهو ماض إلى غرضه! وقد يقسم الحق إلى أجزاء ليحصله جزءا جزءا بدل أن يفقده كله، وقد ينزل على أوضاع ألفها ذوو المروءات فيقرها وينتفع بها، وما ينسيه ذلك دينه وهدفه. ويشرح الأخ الدكتور عبد الله عزام ذلك على ضوء تجاربه الهائلة فى ميدان الجهاد الأفغانى فيقول: وأما البراء والولاء فليث شعرى هل فهم الأخوة التطبيق العملى لهذه العقيدة؟ كأنهم يجهلون أو يتناسون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أصحابه إلى الحبشة معللا ذلك أن فيها ملكا نصرانيا لا يظلم الناس عنده، وقد ثبت فى الحديث الحسن أن النجاشى قد خرج عليه رجل آخر يقاتله فقام المسلمون يدعون للنجاشى بالنصر، وأرسلوا الزبير ليرى نتيجة المعركة فرجع يلوح بثوبه مؤذنا بانتصار النجاشى. ولعل هؤلاء الشباب- الذين لا يشك فى إخلاص الكثيرين منهم- يجهلون أن كثيرا من الصحابة دخلوا فى جوار الكفار فى مكة، فدخل عثمان بن مظعون فى ص _030(3/27)
جوار الوليد بن المغيرة، وأبو بكر فى جوار ابن الدغنة، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم فى جوار المطعم بن عدى لدى عودته من الطائف إلى مكة. وأوى فى الطائف إلى بستان لشيبة وعتبة ابنى ربيعة هاربا من السفهاء والغلمان الذين يتابعونه بالحجارة، وكذلك فإنهم يجهلون أن قبيلة خزاعة كانت عيبة (خزانة) نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم. أما بالنسبة لأخذ المساعدات فقد اتفق الفقهاء الأربعة على جواز أخذ المساعدة عند الضرورة من الكفار على أن لا يكون هنالك شروط، وقد سئل أحمد بن حنبل عن رجل جاء امتنع عن أكل ميتة حتى مات فقال أحمد: إنه مات آثما. هناك قضايا لم يساوم عليها الأفغان خاصة الأصوليين الملتزمين بالكتاب والسنة، وهى أن اللافتة يجب أن تكون إسلامية! يجب أن تكون واضحة! الهدف محدد لا تقاعس عنه، وهو لتكون "كلمة الله هى العليا"، الحكومة يجب أن تكون إسلامية ليست ائتلافية ولا محايدة ولن يدخلها الشيوعيون. قال الدكتور عبد الله عزام: إن المجاهدين رفضوا قبول المساعدات من أمريكا وقالوا معتذرين نحن نقبل مساعدات من باكستان والسعودية والشعوب الإسلامية أما أمريكا فلا- حتى لا تملى علينا إرادتها- أما بالنسبة للشباب فنقول لهم: إنما دواء العى السؤال: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " إنما الأمر كما قال سيدنا على- رضى الله عنه: " قصم ظهرى رجلان: عالم فاجر وعابد جاهل " فكثير من هؤلاء الشباب عابد جاهل. وإنما أفسد الدين أنصاف المتعلمين فلا هم جهلة حتى يسألوا، ولا هم علماء حتى يفقهوا ويدركوا. ولذا لا يسأل عن القضايا الإسلامية من لم يسبر غورها، ومن لم يخض غمارها، ومن لم يدرك أسرارها، ولا يسأل القاعدون الذين لا يدركون طبيعة هذا الدين، لأنهم لا يتحركون من أجل إقراره فى الأرض ولا يضحون لنصرته فى الحياة. وليت شعرى كيف ينصر دين الله شاب لا يستطيع أن يواصل مع المجاهدين عاما! فأين الصلابة التى تجرى فى(3/28)
عروقك حتى تنقلها إلى الآخرين؟ وأين هو من القاعدة الصلبة حتى يبنى بنفسه القاعدة الصلبة؟ الدكتور عبد الله عزام سدد الله خطاه، وآتاه تقواه، يتكلم عن إيمان وتجربة. ونحن فى ميدان الدعوة الرحب- لا نعانى من علل المرضى قدر ما نعانى من أدعياء الطب، وأدويتهم المغشوشة ومن الدهماء المخدوعين بهم..!! ص _031
سياسات خسيسة لدول كبيرة.. الجريمة فى الميدان الدولى كالجرائم التى تقع بين الأفراد، قد تكون زلة قدم أو كبوة جواد، وقد تكون عن خطة مدروسة ونية مبيتة! وما يقع بين الدول يغلب أن يكون من الصنف الأخير، ومن ثم فإن الإقلاع عنه يكون صعبا أو متراخيا. وقد توقعت أن إنجلترا وأمريكا بعد ما مهدتا لإقامة إسرائيل وسرقة فلسطين من أهلها أن تتوبا من خطيئتهما وتستشعرا الخزى على ما اقترفتا من إثم، وتقف كلتاهما ممن جنت عليهم موقفا رقيقا!. لكن القوم على ما يبدو مات ضميرهم السياسى والخلقى، وظلوا على عدائهم التقليدى لشعب فلسطين البائس الشريد.. إن هذا الشعب الذى يقاوم الغزاة منذ وطئوا أرضه بكل ما يملك، انتفض منذ عشرين شهرا انتفاضة واسعة. خسر فيها أكثر من ألفى قتيل و3000 جريح، وآلافا من المسجونين والمطرودين، ودمارا شديدا فى أرجاء حياته كلها.. إنه شعب بلا أرض يملكها، وبلا دولة تحميه، الأرض تدعيها إسرائيل، والدولة بين يديها.. هذا الشعب اضطر بعد عشرات السنين من الكفاح البائس أن يقبل قسمة الأرض بين صاحبها الأصيل والمغير عليها، وأن ينزل على المثل السائر " بعض الشر أهون من بعض "، وأن يقبل وجود إسرائيل على ترابه القديم، فى مقابل أن يكون له وجود رسمى إلى جوارها!! فماذا صنعت إنجلترا وأمريكا؟ قالتا: هذه خطورة متواضعة! هذا إقرار غامض! إنكم أيها العرب لم تنبذوا الإرهاب الذى تمارسونه! إنكم لم تعترفوا صراحة بحق إسرائيل فى الوطن الآمن المستقل!! ص _032(3/29)
لقد رضى القتيل ولم يرض القاتل! لقد سكت المغصوب وظل الغاصب يتبجح! إن الإنجليز فى محنتهم أثناء الحرب العالمية الأولى باعوا فلسطين مرتين، باعوها لليهود عندما أصدروا وعد بلفور المشئوم، وباعوها للشريف حسين عندما ناشدوه أن ينضم العرب إليهم فى محاربة دولة الخلافة!! والقانون العادى يحاكم من يبيع مسكنا لرجلين فى وقت واحد، ويعده لصا، ويحاكم من تتزوج اثنين فى وقت واحد، ويعدها بغيا. ولكن القانون الدولى لم يرتق إلى هذه المنزلة من العدالة والشرف، ومن هنا مرت إنجلترا بجريمتها السياسية دون عقاب! وكل ما فعله العرب أهل البلاغة أنهم قالوا: إن من لا يملك أعطى من لا يستحق! كفى !! فلا عجب إذا وقفت إنجلترا فى هيئة الأمم المتحدة مظاهرة لأمريكا ومؤيدة لليهود على نحو يتسم بالدهاء، ولكنه- عند أولى الألباب- لا يثير إلا الازدراء! ومرة أخرى لا ألوم العدو الموغل فى عدوانه، وإنما ألوم العرب الذين تقطعت حبالهم مع الله، وآثروا الهوى على الهدى! إنهم سيبيدون إذا لم تتوحد كلمتهم.. ص _033(3/30)
لا تكذبوا على..! عندما جودلت فى كتابى الأخير لم أغضب لقلة الدراية أو لنقصان المعرفة، وإنما غضبت من تلمس العيوب للبراء، والانتشاء من تهم ليس لها أساس. فى المقدمة قلت: سنحشوا بالتراب أفواه من يتغنى بالإثم والمجون، ومع ذلك قيل عنى: إنني أدعو إلى الغناء، هكذا بإطلاق! أهذا صدق؟! وكتبت أن شوارع باريس أنظف من شوارع القاهرة، بل قلت: إن العامل الأوروبي ينتج أضعاف ما ينتجه العامل العربى! فإذا جرىء يصفنى بأننى أدافع عن الاستعمار العالمى، وأثنى على الحضارة الحديثة!! أنا الذى كتبت " قذائف الحق " و " ظلام من الغرب "، و " الاستعمار أحقاد وأطماع " وعلمت هؤلاء الهاجمين ما لم يعلموا من أحقاد الصليبية الحديثة! أهذا صدق؟ ورددت رواية نافع عن عبد الله بن عمر فى جواز إتيان المرأة من الخلف، وأنصفت الكتاب والسنة، وقد قدم رجل للقضاة فى مصر، ووصلت قضيته محكمة النقض والإبرام، الزوجة تشكو ما نزل بها، ومحامى الزوج يتشبث بكلام نافع ويطلب البراءة! فهل نترك الإسلام لهذا الخلط؟ وهل أتهم بالهجوم على التابعين! لأنى قلت: إن نافعا تائه؟! لقد تركت الكلمة التى قالها سالم بن عبد الله بن عمر عندما سمع اتهام أبيه! قال: كذب العبد! إنما أراد عبد الله الإتيان من حيث أمر الله. ومع ذلك فقد استمرأ البعض عرضى وزعم أنى أنال من الصحابة والتابعين! أهذا صدق؟ ص _034(3/31)
وفى هذه الأيام التى صفرت فيها أيدى المسلمين من سلاح يدفعون به عن حماهم وحرياتهم، يحلو لبعض الذاهلين أن يصور الإسلام دين غارات تأخذ الناس على غرة، فإذا جئت تشرح كيف قام الإسلام على الإقناع، وكيف رفض الإكراه، وأنه لا يضع السنان مكان البرهان، قيل لك: هذا رجل منهزم أثرت فيه مقالات المستشرقين، وهو لذلك ينكر قيام الإسلام على السيف!! أهذا صدق؟ إن الخلاف فى الفروع الفقهية لا يغالى به ولا يضخم شأنه إلا صغار العقول والهمم! إذا هذا مصل يضع يده على بطنه، أو على صدره، أو تحت عنقه فهل نذهب بالخلاف إلى محكمة العدل الدولية لتبت فيه؟!. وإذا كان جمهور الفقهاء يرى أن الوجه ليس بعورة، ويرى غيرهم أنه عورة فهل نذهب بالقضية إلى مجلس الأمن خوفا على السلام العالمى؟!.. لم هذا الضجيج الهائل وهذا الغضب الجارف؟؟. القصة فيما أرى ليست تفاوت معرفة، أو اختلاف وجهات نظر! إن شيئا فى القلوب يجب تصحيحه، إن خللا فى المسالك ينبغى أن يزول! فى خلق صاحب الرسالة الخاتمة- وهو سيد الناس كافة- أنه كان يأسى لخطأ الخاطئين لطول ما يود هدايتهم، حتى ليبرح الحزن به وينال منه، إن الوالد يكره رسوب أولاده ويفرح أشد منهم لنجاحهم. وأنا اليوم أتفرس فى وجوه من يجادلونني فأرى من يحاول بناء نفسه على هدمى، ومن يختبىء وراء عنوان السلف فيرسل القول شرودا حقودا، لا هو سلف ولا هو خلف!. ماذا لو طلبنا الحق لوجه الله؟ واعتمدنا على الإنصاف والتلطف؟ إننى أفتح قلبى وفكرى لهؤلاء. ص _035(3/32)
اتهام باطل..! كانت الجزائر مشرفة على الغرق بعد وفاة رئيسها " هوارى بومدين " فقد أدت الثورة الزراعية التى نقلها عن روسيا إلى بوار المحاصيل وفقر الأمة كلها لا الفلاحين وحدهم! كما أدى إلغاء التعليم الدينى إلى فوضى ثقافية واجتماعية واسعة، ونشأة جيل مزعزع لا يعتمد على قاعدة ولا يرتبط بقيم، وخلو البلاد من فقهاء ودعاة، بل إن التراث الأدبى بدأ يذوى مع التراث الدينى الذائب، وكاد يخلو الميدان للغة الفرنسية، وما يقترن بها من أخلاق ومسالك وفلسفات.. ولما جاء " الشاذلى بن جديد " شرع يعالج التركة المثقلة بما خبل عليه من إيمان وتؤدة! ولا علاقة لى بما فعل فى ميدان السياسة والاقتصاد، إن الذى أثبته فى هذه العجلة ما فعله فى ميدان التعليم، كان الرجل يتابع ملتقيات الفكر الإسلامى، ويستمع إلى كلمات المتحدثين، وعرفه الشيخ " عبد الرحمن الشيبان " وزير الشئون الدينية يومئذ بأسماء لفيف منا يمكن التعويل عليهم.. وشاء الله أن ألقى الرجل المؤمن وأن أستمع إلى رغبته فى إنشاء جامعة إسلامية بالجزائر تشبه الأزهر الشريف فى رعاية علوم الدين واللغة. وهو بعد أن اطلع على جهودى فى القاهرة ومكة وقطر يختارنى للإسهام فى حمل هذا العبء مع علماء الجزائر، وكان الحديث مباغتا لى، وشعرت بأن التكليف شاق، ولم أدر بماذا أجيب؟ لكنى طويت ترددى عندما سمعته يقول: قد نؤخر إنشاء الجامعة إذا لم تشارك معنا.. اعتمدت على الله، وتركت عملى فى قطر إلى العمل فى "قسنطينة" حيث أنشئت جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، وكأنما كان بى مس من النشاط الدءوب، والنجاح فى مقاومة اللغوب ووصل الليل بالنهار لتنمية الجامعة الوليدة وإشعال ص _036(3/33)
العاطفة الإسلامية فى أفئدة الطلاب ودفع الأساتذة إلى البذل والتحمل، وإطفاء المؤامرات التى لا حصر لها لتعكير الصفو وإظلام المستقبل. وضممت إلى ذلك نشاطا إعلاميا فى التلفاز، وتنقلا بين ولايات الجزائر الكثيرة وبعد سنين خرجت الجامعة أول أفواجها من شتى المعاهد التى قامت فيها، وسقطت أنا بين براثن مرض كاد يقضى على، مازالت أقاومه ويعاودنى.. إن الجزائر حكومة وشعبا أخجلتنى من كثرة ما كرمتنى وقدرتنى. ولذلك عرانى ذهول عندما قرأت أن وزير الداخلية فى القاهرة يتهمنى بأنى أخذت أموالا كثيرة من إحدى الدول العربية الكبيرة! لقد عملت فى الجزائر خمس سنين أخذت فيها المرتبات التى يأخذها أمثالى من الأساتذة، فما الذى يعيبه على وزير داخليتنا!. وقرأت أنه عرض على مثل ما أخذ من الخارج حتى لا أذهب! وهذا أيضا خبر مدهش، فإن أحدا لا يملك منعى من أداء واجبى، ولحساب من يحال بينى وبين الإسهام فى إنشاء جامعة إسلامية؟!. وأعترف بأن أحدا من الناس لم يحاول منعى من الذهاب إلى الجزائر.. إن ما نشرته مجلة " الحقيقة " من اتهامات وزير الداخلية لى أمر مؤسف، أنا لا أحب أن أحمد بما لم أفعل، ولا أن أذم بما لم أفعل، إن مرضى يمنعنى من أغلب الأنشطة التى كنت أقوم بها فى خدمة دينى، وأريد أن أذكر بحديث شريف جاء فيه أن أبغض الناس إلى رسول الله الذين يتلمسون للبراء العيب، فلا تتهمونى يا عباد الله بما أنا منه برىء، ودعونى وشأنى.. ص _037(3/34)
تصرف مرفوض فى ميدان التعليم كنت مع مسئول عن التعليم فى أحد الأقطار العربية، فقال لى: إننى نويت أن أجعل المدرسة الثانوية مختلطة فى بلدنا! فقلت له: لا تفعل! هذا مسلك وخيم العاقبة! إن جمع الفتيان والفتيات فى هذه السن يقدح الشرر، بل يوقد الشر. قال: حسبتك توافقنى وقد بلغنى أنك قبلت اختلاط البنين والبنات فى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية! فأجبته: فى هذه الجامعة كان نحو ثلث الطلاب من البنات المحتشمات، لم أر فيهن طالبة غير محجبة، إلا أثنتين أصرتا على وضع النقاب، وقد جعلنا للمدرج بابا خاصا بهن يدخلن منه ويخرجن، وقسمنا المدرج نفسه قسمين أحدهما تجلس فيه البنات والآخر يجلس فيه البنون، فلا يقع تجاور ولا التصاق. فإذا سمع أذان الظهر أو العصر كان الجميع فى المسجد الذكور فى الصفوف المقدمة والإناث فى الصفوف المؤخرة، وكان الطابع الدينى يسود أرجاء الجامعة ويملؤها بالخشية والأدب والحياء. أما ما تقترحه فى المدرسة الثانوية فشأن آخر، لقد رأيت ثلاثة أرباع الطالبات كأنهن فى معرض أزياء، وربما رأيت من تلبس السروال الأمريكى "جينز" بضيقه الفاضح، أو من تلبس فستانا قصيرا، قد يغطى الركبتين فى القيام، وتنحسر عنهما فى القعود!. وسوف تكون الطالبة بين طالبين أو الفتى بين فتاتين، ولابد من ذكر طبيعة هذه السن فى الشباب الباكر، وخفة الأحلام، وطيش الخيالات، إن وارع الدين والخلق سوف يخفت فى هذه الأحوال، وأعتقد أن الدراسة نفسها ستكون فاشلة.. ص _038(3/35)
فرد على المدير المسئول عن التعليم قائلا: إننى أريد إزالة الوحشة أو ردم الفجوة القائمة بين الجنسين فى بلادنا، وربما كانت هناك ضحايا أول التجربة، لكن المستقبل الاجتماعى خير لأمتنا. قلت له اسمع ما يقوله علماء الصحة النفسية والجنسية عن الشباب بين الثالثة عشر والسابعة عشر إنهم يتطلعون إلى الأخريات برغبة متفاوتة القوة، ويحاولون إشباع ميولهم بأساليب شتى.. تقول منظمة الصحة العالمية: ".. يشكل هذا ورطة كبيرة لدى المجتمعات المعاصرة، تتجلى فى صعوبة الضبط والتحكم فى تصرفات المراهقين الذين يبحثون عن إرواء رغباتهم الجنسية، تلك الرغبات التى تتأثر- إلى حد كبير- بالتغيرات الهرمونية والتشريحية المرافقة لمراحل النضج الجسمانى وتشتد هذه الرغبات، وتزداد ثورتها تحت وطأة العوامل المحيطة!. أفيجوز مع تأجج هذه المشاعر إذكاؤها بحشر الأجساد، وتقريب الأنفاس وإهاجة الكوامن؟! قال: إن أوروبا تفعل ذلك! قلت: ولذلك اختفت البكارة عند الفتيات قبل انتهاء مرحلة المراهقة! أفلا نقلد أوروبا إلا فى مباذلها؟! إن التشبث بتعاليم الإسلام ضمان للنجاة وعصمة من الآثام. ووددت لو توحد زى الطالبات فى جميع مراحل التعليم، وفرضت كل وسائل التصون وحوربت كل أسباب التبذل. ص _039(3/36)
بين العروبة والإسلام (1) إخواننا من النصارى العرب كثيرون فى مصر والشام، وتبلغ نسبتهم إلى جماهير المسلمين العرب حوالى 7% ولكن ظروفا سياسية وثقافية تجعل آثارهم أكبر من أعدادهم. ونشاطهم فى ميدان العروبة واسع ينضم إليهم فيه الشيوعيون والعلمانيون والبعثيون، ومرتدون عن الإسلام يخفون ردتهم لأسباب شتى. والقاعدة التى أنطلق منها فى أسئلتى: هل هؤلاء وأولئك عرب يخدمون جنسهم ولسانهم؟ من السهل أن ترى أغلب قادة العروبة يجيدون اللغات الأجنبية أكثر مما يجيدون لغتهم العربية!! لماذا لا تدرسون قواعد اللغة وآدابها وأنتم تتحدثون وتخطبون؟ لماذا لم تعملوا على تعريب العلوم الكثيرة من طب وصيدلة وهندسة وكيمياء.. الخ.. بدل أن تدربوا أولادكم على تعلم اللغات الأخرى، كى يلحقوا بموكب الحضارة؟! ما الذى استفدناه من تعريب " شرلوك هولمز " ، " واسكندر ديماس " وغيرهما..؟!! لماذا لم تصوغوا كلمات عربية لما استجد من مخترعات فى ميادين الحياة كلها، ولديكم وسائل الاشتقاق والنحت، بدل أن تجعلوا الألفاظ الأجنبية تحتل العقول والألسنة؟! إن الأحياء الوطنية فى كثير من العواصم العربية كادت تغلب عليها الكلمات والمصطلحات المستوردة؟ وذلك كله فى ظل العروبة الجديدة!! هل درستم التراث العربى فى العلوم والآداب لتبنوا عليه الطريق الذى تنشدونه؟ إن الأوروبيين يتعصبون لتراث يونان ورومان، وهم ما نهضوا إلا بعد ما تركوه! فلماذا انفلتم وراءهم من التراث العربي، واحتفلتم بفلسفة اليونان وقوانين الرومان؟ ص _040(3/37)
هل أنتم عرب حقا؟ هل فتحتم مدرسة عربية للمهاجرين العرب فى أوروبا وأمريكا؟ أو هل فتحتم مدرسة عربية لمن شاء من الأعاجم أن يدرس لغتنا وتراثنا؟ إن هناك روابط دولية لمن يتكلمون الإنجليزية، ولمن يتكلمون الفرنسية، فهل فكرتم فى مثل هذه الرابطة لتضم العرب والمستعربين؟! سئلت يوما عن هويتى؟ فقلت: مصرى عربنى الإسلام! إن الدائرة الوطنية ضمن الدائرة العربية، وكلتاهما ضمن الدائرة الإسلامية، لا تناقض هنالك ولا تزاحم! ولاشك أن الإسلام ولى نعمة العرب فقد أحيا مواتهم، والحضارة التى تريد الإسلام أن تهب ريحها رخاء على العالم كله، وتقيم دولة تحسن فهم الإسلام والدعوة إليه، أساسها البين هذه الآية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا …). إن التعارف ينشأ من اللطف لا من العنف، ومن الإقناع لا من الإرهاب، ومن إثارة الإعجاب لا من إثارة التوجس، ولا يعنى هذا أبدا انتفاء القصاص والعقوبات، وقمع العدوان، ورد الفوضى.. المهم توزيع النصوص على محالها وعدم تحريف الكلم عن مواضعه! فهل يعى ذلك إسلاميون يضعون السيف موضع الندى، والندى موضع السيف، ولا يحسنون الفهم ولا التطبيق؟ هذه أسئلة توجهت إلى الإسلاميين لا للتعجيز ولكن ليتعرفوا مواضع الأقدام وأبعاد الآمال!! فما هى الأسئلة التى نوجهها بدورنا إلى العروبيين؟؟ نسردها ونحن نشرح الأمر الثانى، وهى أسئلة لا تقل صراحة وقسوة.. ص _041(3/38)
بين العروبة والإسلام (2) فى ندوة العروبيين والإسلاميين تكشف لى أمران يحتاجان إلى الإيضاح!. الأمر الأول: أن الإسلاميين متهمون بغموض الفكرة، والعجز عن تقديم مناهج جامعة مانعة للقيم التى يدافعون عنها، وعن تقديم حلول كافية شافية للمشكلات العالمية والمحلية التى يشكو الناس منها.. وهذا سر الأسئلة التى وجهها " يوسف خليل " للإسلاميين عندما يعرضون دينهم، إنه يقول لهم: " هل سيكون الإسلام عامل أصالة وتقدم- كما يريد أهله- أم سيكون عامل إغتراب وجمود؟ هل سيكون عامل توحيد أم عامل تجزئة؟ هل سيكون عامل انفتاح على متغيرات الدنيا أم عامل انغلاق على الدنيا الماضوية؟ هل سيكون عامل حرية وتحرير أم عامل تقييد وعبودية؟ هل سيكون عامل إسهام فى الحضارة الإنسانية أم عامل تقوقع واستيحاش؟ هل سيكون إسهامه وقفا على بعض الناس دون سواهم أم سيتناول بإسعاده الناس كلهم؟ ليبددن من آفاقهم الكآبة والحرمان؟ هل ما يريده الإسلام وما يستطيعه هو السعى إلى خلاص قسم من البشر هم أتباعه وحدهم؟ أم هو يسعى إلى خلاص البشرية جمعاء ". قال لى بعض من سمع هذه الأسئلة: ماذا يعنى؟ قلت: أشرح لكم المراد! الشورى ركيزة الحكم الصالح، والمسلمون أحوج أهل الأرض إلى أن يعيشوا فى ظلها، فهل وضعتم القواعد التى تكفلها وتحميها من طغيان النظام الفردي؟ أم سيظل اللغو الذى يقول: إن الشورى معلمة لا ملزمة، ومن حق الحاكم أن يتجاوز أهل الحل والعقد؟ فلماذا سمو أهل الحل والعقد إذا كان وجودهم نافلة! وزينة مجالس؟ والعدالة الاجتماعية إطار لإنتاج غزير وتوزيع منصف، فكيف تسدون الطريق أمام الاشتراكية التى تعد الجماهير بالمن والسلوى، وتحشد كل القوى لتكثير الخير؟ ص _042(3/39)
إن الجوع الكافر والكسل الشائن سوف يقضيان على الدين إذا لم يسارع الدين إلى القضاء عليهما، فهل وفرتم من الدين ضمانات هذه العدالة؟ قصة النقاب والجلباب والقبقاب! أما زلتم تفكرون فيها، بعدما غزت المرأة الفضاء وصارت ملكة ورئيسة جمهورية ورئيسة وزراء.. الخ؟ إن تصوركم الفردي للعبادات أنساكم أن الإسلام حضارة عامة، وارتقاء إنسانى بالرجال والنساء على سواء! وجعلنى أنا المصرى البعيد عنهم أتعصب للغة الوحى الأعلى. وبذلك أنداحت دائرة العروبة وتجدد دمها، وتحت راية الإسلام ازدهرت العلوم الدينية والإنسانية، وأسهم فى دعم بنيانها أناس من كل جنس، بعد أن ذابوا فى بوتقة العروبة- لأن العروبة لسان لا دم- فأصبح المسلمون العرب- بلغتهم لا بنسبهم- هم دماغ الإسلام وقلبه، وفكره وعاطفته.. الذى ظهر لى أن الذين رفعوا راية العروبة المجردة، لا هم عرب ولا هم عجم!! إنهم جنس مهجن التفكير والشعور، من ترك منهم الإسلام ووالى خصومه فهو ناكص على عقبه، زاغ عن غايته، خائن لرايته.. أما إخواننا من النصارى العرب فنحن نذكرهم بالمواطنة المشتركة، والعهود القديمة، والمصالح الجامعة، فإن الاستعمار الغربى والشرقى سواء فى الغدر والعدوان، وأولو الألباب لا ينخدعون به، ولا يغترون بهبوب الريح معه. ص _043(3/40)
ما الكبت المرفوض؟! فى غياب الوحى، ومع رغبة البعض عنه، يأخذ الفكر خطا مائلا يجعل المرء أدنى إلى الحيوان منه إلى الإنسان! فإذا كان صاحب هذا الفكر بارزا فى ناحية ما من المعرفة كانت فتنته أشد! قال لى بعض الناس: إن فرويد ألمع رجل فى ميدان التحليل النفسى، قلت لفورى: ولكنه أوضع رجل فى ميدان الإغراء الجنسى! إننى لا أخشى فلتات الألسن، وكبوات الطباع، فما أيسر علاج هذه وتلك. هناك السنة الحسنة والسنة السيئة، هناك الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة هناك النهج الذى يمهد للآخرين فيسيرون فيه وهم لا يدرون! بماذا تصف هذه الجملة المحقورة "لفرويد": إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسى، وكل قيد من دين أو أخلاق أو مجتمع أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان، وهو كبت غير مشروع..!! هذا فكر مسعور، وهو من وراء حريق الفضائل الذى شب فى أرجاء أوروبا ولم ينطفىء إلى اليوم، بل أخذ شرره يتطاير إلى بلادنا.. لو كان الرجل يحارب الرهبنة المطلقة لقلنا: نعم فالفطرة البشرية تأبى حياة الرهبانية، وجمهرة المرسلين عاشت بعيدا عنها : (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية). والمرء السوي يهش للمرأة، ويسعد بالزواج منها والالتقاء باسم الله معها، وما أحسب الرجل الذى يكره النساء سليم المواهب والغرائز.. وفى الحديث الشريف "حبب إلى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة ". ص _044(3/41)
أما أن يقال لا مكان للكبت فى السلوك البشرى، وهو تصرف غير مشروع فهذا هو المجون والفوضى.. والواقع أن كل إنسان محتاج إلى الكبت منذ يعقل إلى أن يموت، فتطلع النفس إلى ما ليس من حقها المادى أو الأدبى لا ينتهى، والنفس أمارة بالسوء، ولو أننا نفذنا كل ما تشتهيه لاختفت الحدود والمعالم وأمست الدنيا غابة ملأى بالوحوش.. إن هناك أمورا يجب أن نصوم عنها إلى آخر الدهور، وهناك محرمات يجب أن يداس تحت الأقدام كل جنوح إليها أو اشتهاء لها وفى هنا يقول الله تعالى : (فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). ربما كان فرويد رجلا ذكيا، ولكنى تأملت فى كلماته وفى العلة التى أصيب بها آخر حياته، فخيل إلى أن هذا الشخص مات " بالإيدز "! وليس يستبعد على من يرفض كبت أى نزوة تعرض له أن ينتهى بهذا المصير الكالح.. إننا نحذر الفتيان والفتيات من سماع هذا اللغو، وخير لهم أن ينتصحوا بهدايات الله وحكم المرسلين. ص _045(3/42)
ما الكبت المرفوض؟ إن وسطية الإسلام تبدو جلية فى موقفه من الغريزة الجنسية، فقد كره تسيبها الأعمى واضطرابها هنا وهناك كما كره قتلها واعتبارها رجسا من عمل الشيطان... للإنسان أن يتملك ما يشاء، لكن بغير طريق السرقة والإكراه والغش! والمعضلة التى واجهت الغرب وأثرت فى عقول مفكريه نظرة النصارى إلى الرهبانية على أنها النموذج الأعلى للإنسان الراقى، وأنه يبلغ من الروحانية والتسامى بقدر ما يبتعد عن المرأة ويميت كل ميل إليها.. وهذا تدين باطل! وقد صحبه إحساس دائم بأن المرء لن يخرج من سجن الإثم أبدا مادام هذا الميل يتحرك فى دمه، وانتزاع هذا الميل من الطبع البشرى مستحيل، وإلا لانمحت الحياة الإنسانية على الأرض.. وقد نشأ عن هذا العوج الفكرى يأس من التسامى، ثم انطلاق مع الدنايا على أنها ضرورة ماسة أو قدر غالب ولعل ذلك ما يقصده "فرويد" عندما قال: " إن الكبت ليس هو الامتناع عن العمل الغريزى، فذلك مجرد تعليق للعمل أو إرجاء موقوت، لكن الكبت هو استقذار الدافع الغريزى والشعور بأنه دنس لا ينبغى للإنسان أن يفكر فيه، فيكبته فى عقله الباطن وهذا الكبت- بمعنى الاستقذار- يظل دائما فى النفس ولو أتى المرء الفعل الغريزى فى اليوم عشرين مرة، فلا علاقة له بالممارسة، إنما علاقته بالشعور". تقول منظمة الصحة العالمية- شرق البحر المتوسط- أما الإسلام فيقول خلافا لفرويد: إن الدافع الجنسى لا يستقذر لذاته! إنه يستقذر إذا كان وراء انحراف أو ص _046(3/43)
عدوان، ولنتدبر الحديث الشريف: " فى بضع أحدكم صدقة!! " أو" إن فى بضع أحدكم لأجرا !! قالوا: يا رسول الله: إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون له عليها أجر؟! قال: أرأيتم إن وضعها فى حرام أليس عليها فيها وزر؟ فإذا وضعها فى حلال فله عليها أجرا "!! ثم تقول المنظمة: إنه فى الإسلام يمارس الجنس باسم الله، خير الأسماء ويكون مع هذا الاتصال دعاء الله بالإنجاب الصالح.. والزواج فى الإسلام نصف الدين وليس التفكير فيه جريمة ولا شبه جريمة! وصدق الله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). بيد أن الأمة الإسلامية لم ترتفع إلى مستوى دينها لا فقها ولا تطبيقا ولا دعوة، فكان أن ظهر دجالون كثيرون يعملون باسم العلم فى مجالات لا يعرف العلم الحق طريقا إليها... ص _047(3/44)
ضوء على فتوى... أصحاب الأحوال المتوسطة عندنا يعجزون عن تثمير أموالهم إذا كانت لديهم مدخرات قليلة أو كثيرة، كان أحدهم- قديما- يستطيع بناء بيت يسكن بعضه ويؤجر بعضه، أو يشترى أرضا يستأجرها منه بعض الفلاحين، يرجون جميعا فضل الله مع الحصاد المرتقب.. لكن القوانين التى صدرت " لتنظيم " العلاقة بين المالك والمستأجر جعلت ذلك صعبا أو مستحيلا! وصدرت فى ميدان التجارة قوانين للتصدير والاستيراد وللتجارة الداخلية والخارجية وللقطاع العام والقطاع الخاص أحس الكثيرون معها أنهم لا أمل لهم فى هذا الميدان، فابتعدوا عنه.. وعرف هذه الأوضاع رجال لهم خبرات ومواهب فأقاموا شركات توظيف الأموال التى وجدت إقبالا شديدا من الناس، لأنها تعتمد فى تعاملها على الكسب الحلال- أى على رفض الربا- ولأنها وفرت لمن أسهم فيها نسبة رفيعة من الربح الطيب.. وقد عرفت أنه منذ عامين كان ما بين مليونين أو ثلاثة ملايين من الجنيهات تصب فى الشارع المصرى كل صباح وتجعل الجمهور فى يسر وسعة. ولكن قرارا سياسيا صدر- أحسب أن وراءه صندوق النقد الدولى- اختصر المساحة الرحبة التى كانت تعمل فيها هذه الشركات، ووضع أمامها عراقيل شديدة، وما أدرى بعد ذلك كله كيف ستستطيع الحياة؟ ومن الحظوظ السيئة أن يصحب ذلك فشل محزن للمصرف الإسلامى الدولى أساسه فيما بلغنى الفوضى الإدارية والخلقية بين مسئولية الكبار، مما كان سببا فى ابتعاد هذا المصرف عن الأسس التى قام عليها. وحاول الزبانية أن ينالوا من بنك فيصل الإسلامى، ولكن البنك كان أمنع وأعز. ص _048(3/45)
فى هذا الأفق الملبد بالغيوم، ومع حاجة أصحاب الدخول الضيقة إلى مصادر لحياة معقولة، وبعدا عما تكتنفه الريبة من وسائل الارتزاق، أبحنا أرباح صندوق التوفير وشهادات الاستثمار على أنها عطاء من الدولة لمن يدعمون بأموالهم جهود التنمية، ولا صلة لهذه الأرباح بأعمال البنوك، واقترحت مع غيرى تسمية المصرف منحة! إن الملابسات الاجتماعية هى التى جعلتنى أرجع إلى قانون الضرورة، ولو أن الحرية الاقتصادية توفرت لجمعيات توظيف الأموال ولغيرها من المؤسسات لكان لنا رأى آخر، وهذا هو السبب فى أن فتواى كانت غامضة نوعا ما!! لقد علمت أن بنك فيصل يستطيع زراعة ألف ألف فدان فى الصحراء، وأن "الشريف" يستطيع بناء مصانع لإطارات السيارات وللأسمنت، وأن " الريان " كان يستطيع عمل الخوارق، ولكن الإسلام ثقيل الظل عند صندوق النقد الدولى. أرجو أن أضع هذا بين يدى الأخ الأستاذ " وحيد غازى "، إجابة للفتته الذكية فى جريدة الأحرار. ص _049(3/46)
قروض العالم الثالث... العالم الثالث يترنح تحت وطأة الديون التى يسأل عن سدادها، ونصف هذه الديون أو أكثر ناشىء من الربا المضاعف الذى فرضته الدول الغنية. ومع مرور الزمن ودوام العجز فإن المشكلة تزداد تعقيدا، والمستقبل يزداد سوادا. وقد اقترح أمير الكويت حلا عادلا رحيما لهذه المحنة عندما طلب من الدول الغنية أن تسقط الربا الذى فرضته، وأن تنظر إلى المدين المعسر نظرة عطف فتتصدق عليه ببعض ما أعطت.. وقد لقى هذا الاقتراح وجوما وصدا لا يستغربان ممن نبتت لحومهم على السحت ونمت على الابتزاز والاحتيال. إن الاستعمار العالمى بنى عواصمه الكبرى من نهب الأقطار المتخلفة فى أفريقيا وآسيا، وكلف العراة من سكان القارتين أن يقدموا الفراء الثمين لسكان الشمال المحظوظ. وهو الآن يغير وسائله فى النهب مع بقاء عوامل الجشع والبغى تطلب وقودها الدائم من عرق الفقراء والمنكوبين! إن الارتقاء الحقيقى ليس فى إخفاء المخالب وراء قفازات من حرير، بل الارتقاء أن يقمع المرء جشعه، وأن يخجل من البغى والأثرة. ويبدو أن حضارة الغرب لا تؤمن بهذا..! إن الربا مرفوض بين الأفراد والدول، وقد يخالف بعض الفقهاء فى وصف بعض العقود بأنها ربوية أو غير ربوية ولكن أحدا منهم لا يخالف أبدا فى أن ما تصنعه الهيئات الدولية الآن هو عين الربا، وأن استغلال الضوائق فيه ظاهر، وأن أحط الغرائز الحيوانية تكمن وراءه... وقد آخذ القرآن الكريم أهل الكتاب- خصوصا اليهود- باستباحتهم الربا وخلط ص _050(3/47)
معاملاتهم المالية به، قال تعالى : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ….) وكنت أتوقع من المؤسسات الدينية ومن شتى المذاهب المسيحية أن تظاهر أمير الكويت فى صيحته العادلة، بيد أنها مشغولة بأمور أخرى لا نتحدث عنها الآن.. فى الجاهلية الأولى سمع واحد من الرجال المنصفين بعض آيات القرآن التى توصى بالمكارم والمروءات فقال: والله لو لم يكن هذا دينا لكان فى خلق الناس حسنا!! ونحن نسائل أتباع الأديان جميعا: ماذا لو اتفقت الكلمة على محاربة الرذائل والمظالم.. والوقوف فى جبهة واحدة ضد البغى والطغيان.. إن هذا المسلك يوجه قوى كثيرة لحماية الإنسانية، وصيانة يومها وغدها، وأعتقد أنه مع شيوع الأمان سيشرق المستقبل أمام الإيمان، وتقل الفرص أمام الإلحاد. ص _051(3/48)
يهود متحدون وعرب متخلفون... قال مستر " شامير " فى صلف: إن الفلسطينيين الذين يرشقوننا بالحجارة لن يرسموا سياستنا، ورد بهذا القول على اقتراح بأن يناقش " الكنيست " الانتفاضة الفلسطينية التى طال أمدها... وبديهة أن تكون الحجارة سلاحا مغلولا فى مقاومة الدبابات والبنادق! وسيبقى رماة الحجارة مستباحين ( فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ). أليست لدى العرب والمسلمين أسلحة أخرى يدفعون بها الأذى، ويصدون العدوان؟ بلى ولكن هذه الأسلحة لها وظيفة لم يعرف العالم لها شبيها فى الخسة والبوار!.. إنهم يقتلون بها أنفسهم! هناك هذه المجزرة بين العراق وإيران التى أربى القتلى فيها على المليون، واستخدمت فيها كل الأسلحة، وسعرتها ولا تزال تسعرها مشاعر وحشية، أدهشت العالم بحدتها وشدتها. إن عشر معشار ما أنفق فى هذه الحرب كان يستطيع تحرير المعذبين فى فلسطين! لكن الأمر كما قيل قديما: سريع إلى ابن العم يلطم خده وليس إلى داعى الندى بسريع! لعنة الله على من أشعل هذه الفتنة، ولا يزال يمدها بالوقود، ويضاعف الضحايا والخسائر. ويرمق أهل فلسطين جماهير المسلمين بين الأطلسى والهندى فيرونهم مشغولين بحرب الأحقاد عن إسعاف إخوان العقيدة، واستنقاذ حقوق الإنسان أيا كان لونه أو دينه.. ص _052(3/49)
بين المغاربة والصحراويين حرب لا معنى لها.. وبين ليبيا وتشاد!، والسودان مشغول برد الشيوعيين الهاجمين عليه من الجنوب، ومخيمات اللاجئين فى لبنان تعانى من حصار وضيع. والباكستان تحمل أعباء اللاجئين من أفغانستان، والبنغال يقاتل شعبها حاكمها.. وفى كل بلد مسلم- إلا ما عصم الله- تجد فتنا مائجة، وشعوبا نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ووسط هذا الشتات السياسى والعسكرى يرسخ اليهود أقدامهم فى الأرض التى أغاروا عليها وهم آمنون مطمئنون.. وتتحرك ضمائر أناس لهم غيرة على كرامة الإنسان وحقه الطبيعى ويصيحون بضرورة وقف المأساة التى تدور رحاها فى فلسطين، بيد أن الولايات المتحدة- وهى الدولة الأولى فى العالم- تعترض الصائحين، وتخرس ألسنتهم، وتشد أزر إسرائيل فى عدوانها، وما كان ينتظر غير ذلك من ولية نعمة إسرائيل والقيم المحامى عن مطامعها فى تراثنا كله. من ألوم؟ ما ألوم إلا المسلمين كافة والعرب خاصة! فحرب الحزازات أزهقت روح الأخوة واستدبار الإسلام حرمهم تأييد الله! وكأننا لم نسمع قول الله : (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). لقد اجتمعوا على باطلهم فلماذا نتفرق على حقنا؟! إنهم رفضوا كل يد تمتد إليهم بصلح أو هدنة! فماذا نرجو؟ ص _053(3/50)
تدين غبى...!! فى مدينة كبيرة من قطر إسلامى رأى شباب مسلمون يمشون حفاة إلى المسجد! فلما سألهم أحد المراقبين عما يفعلون قال قائلهم: إن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يمشون إلى المسجد منتعلين أحيانا وحفاة أحيانا فأحببنا أن نحيى سنتهم ونقتدى بهم! وبلغنى الخبر مع طلب الفتوى! فقلت للسائل: ربما استطعت الإجابة عن أشياء يفكر الناس فيها بأدمغتهم! أما ما يفكرون فيه بأرجلهم فلا أستطيع إجابة عنه...! * * * وسمعت من إذاعة لندن هجوم بعض الشباب على مسجد للإخوان تصنع فيه حقائب صغيرة فيها هدايا للفتيان الذين يحضرون مصلى العيد، وتتضمن الحقيبة كتاب المأثورات وبعض التمور والحلوى، قال المهاجمون: هذه بدعة لم تعرف على عهد السلف! وكان الهجوم بقضبان وسلاسل حديدية، وانتهى ببضعة عشر جريحا نقلوا إلى المستشفى، وعدد من المتهمين نقلوا إلى السجن! وقد استقصيت النبأ ووجدته صحيحا، ودعوت لأولى الألباب الذين تدخلوا على عجل لمنع الفتنة ومحاصرة المعركة! لقد شاهدت بنين وبنات فى أيديهم الهدايا المقدمة وكانوا فرحين بها، وسألت المشرفين على المصلى: ما هذه الهدايا؟ قالوا: أحببنا أن نجتذب قلوب الصغار، وأن نفهم رجال الأمن أننا لا نفكر فى خصام، ولذلك أهديناهم منها، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: " تهادوا تحابوا.. " . ص _054(3/51)
لكن فرحة العيد حولها المتقعرون إلى مأساة! هذا هو إجتهاد الأئمة الجدد الذين لا يعجبهم فقه الأئمة الأربعة!! * * * وجاءنى رجل غاضب يقول: هل "صدق الله العظيم " حرام؟!! لابد أن أفعل كذا وكذا... وأدركت أننا على أبواب معركة أخرى، وقررت إطفاء الفتنة قبل أن تقع.. قلت: يا عباد الله، إن الله صادق فيما يقول لا يمارى فى ذلك ذو عقل "ومن أصدق من الله حديثا" ؟ فإذا قال الكلمة قارىء أو سامع يحكى بها ما فى نفسه من تصديق ومحبة للوحى فلا حرج عليه، وقد كان تصديق الله سبحانه فيما يلقاه الناس من خوف أو أمان شيمة أهل الإيمان (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله). وقد أمر الله بتصديقه عندما يتجلى الحق فى شئون الحلال والحرام (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا). فإذا كان قارئ القرآن أو سامعه يعبر عن هذه المشاعر عندما يقول صدق الله فلا حرج عليه، وما زعم أحد أنها فريضة لازمة، ولا نوجه لوما لساكت عنها.. أين البدعة التى تريدون سفك الدم لإطفائها؟!! كفاكم فضائح للإسلام. ص _055(3/52)
تساؤل عن جريمة غامضة.! تملكتنى حيرة شديدة عندما قرأت خبر قتيل حى "الظاهر" الذى ظل يعذب أربعة أيام نقل بعدها إلى المستشفى القبطى، ودلت التقارير الأولى على أن هناك اشتباها فى ارتجاج بالمخ، وكسر بالجمجمة، وآخر بالرسغ الأيسر، وآخر بالضلوع والقفص الصدرى ونزيف دموى حاد!! وقالت جريدة الشعب: إن ضباط المباحث بشرطة قسم الظاهر: نكلوا به، وتم تهشيم جمجمته وفقء عينه وبتر جهازه التناسلى كله.. الخ.. خامرنى الشك لهول ما قرأت، وقلت: لابد أن يظهر توضيح لما حدث ولاسيما الجريدة تقول: إن رئيس المباحث عندما علم بوفاة هذا البائس أمر الأطباء بكتابة تقرير يفيد أن الوفاة كانت إثر هبوط حاد فى الدورة الدموية! وأن المريض كان فى غيبوبة عند نقله إلى المستشفى! وتم إخفاء جميع صور الأشعة التى تثبت الحقيقة! أى أن الجريمة ارتكبت، واتخذت بعد ذلك كل الوسائل التى تضلل القضاء وتنقذ المجرمين، وتهيل التراب على المأساة المرعبة!. قلت لنفسى مرة أخرى: أيمكن أن يقع هذا؟! فلأنتظر بيانا يلقى الضوء على القضية كلها، ومرت بضعة أيام ولم يتكلم أحد! ما هذا الصمت؟! أيختطف شاب غير متهم بشىء خفى أو ظاهر، ثم يتعرض لأهوال تزهق فيها روحه ويشوه فيها جسده، حتى إذا هلك تحت وطأة العذاب الأليم تم إبعاد المعتدين عن أى اتهام، وزورت تقارير طبية كى يمرح الجناة على ظهر الأرض دون قلق، أو لعلهم يكلفون باقتراف جريمة مشابهة وهم آمنون؟؟ كيف يقع هذا كله؟!! وعدت أقرأ القصة الكئيبة، إن القتيل حاول أن يثنى رجال المباحث عن اعتقال جار له مع والدته دون أسباب ظاهرة لاعتقالهما!! ص _056(3/53)
أى أنه ذهب ضحية شهامته، ولو جبن وخرس وترك الاعتقال يقع دون تدخل منه لنجا بنفسه!! وما دق له أحد عظما ولا قطع له عضوا.. أهكذا نبنى الرجال على الكرامة والإباء وننشىء أجيالا عالية الرأس موفورة العزة؟! وتقول القصة: إن أهل القتيل بحثوا عنه فى قسم الشرطة وفى المستشفى الذى نقل إليه، ولكنهم تاهوا! و إن الشهود على الواقعة المحزنة يهددون حتى لا يذكروا الحقيقة... و إن المحامى "صفى الدين سالم " تقدم ببلاغ إلى النيابة لحماية العدالة، وإن الأسرة أرسلت أربعة بلاغات إلى النائب العام تناشده التحقيق فى الأمر. ذلك، وقد كلفت المنظمة العربية لحقوق الإنسان خمسة من كبار المحامين لتولى هذه القضية على نفقتها.. لقد تساءلت: ما معنى هذا كله وما دلالته؟؟! من يدرى عدد الضحايا الذين قتلوا مظلومين، وأبرزوا للناس على أنهم قتلة ظالمون؟ كان يجب أن يصدر بلاغ رسمى بما حدث! قال النبى عليه الصلاة والسلام: " لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ".. وروى فى حديث أخر: " من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام ". إن هذه الحوادث تفضح أمتنا وتسقط رايتنا بل لا تجعلنا أهلا لحرية أو أهلا للتمتع بحقوق الإنسان. ص _057(3/54)
مسلمو بريطانيا وغضبهم على كاتب مرتد.. يعيش فى الجزر البريطانية نحو ثلاثة ملايين مسلم هاجروا إليها من آسيا وإفريقيا لظروف اقتصادية واجتماعية كثيرة، وفيهم إنجليز اعتنقوا الإسلام بعد دراسة متعمقة وتصديق جازم..! والمسلمون المهاجرون بعضهم يعمل فى شركات كبرى، وبعضهم يرتزق من حرف صغيرة، ومع أن مستواهم الحضارى والمالى دون مستوى اليهود إلا أنهم معروفون بدماثة الأخلاق وشرف السيرة، وجمهرتهم لا تعرف الخمر ولا القمار ولا الدنايا الجنسية الشائعة بين غيرهم. وقد تعرض مسلمو إنجلترا هؤلاء لمحنة كبيرة فى الأيام الأخيرة، فإن شخصا من مواليد الهند- يحمل اسما إسلاميا للأسف- ألف كتاب جرح فيه مشاعر المسلمين جميعا، ووجه إليهم أقبح السب. وما نشك فى أنه موعز إليه ما كتب، وأن ناسا من العاملين فى الظلام الحاقدين على نبى الإسلام هم الذين وسوسوا للكاتب باقتراف ما اقترف.. ومحور الكتاب أن بغيا افتتحت محلا للدعارة جعلت اللافتة الدالة عليه كلمة " الحجاب " (!). هل كلمة " الحجاب " تصلح عنوانا لدار بغاء؟ هكذا صنع المؤلف! ثم استأجرت المرأة المتمرسة بالدعارة اثنتي عشرة امرأة من المومسات، يعملن معها واختارت لهن أسماء زوجات النبى العربي المحمد (إ) أطهر من مشى على الثرى وأندى عباد الله صوتا فى الدعوة إلى الشرف والسمو!! فهل هذا نهج فى عرض سير الأنبياء أو حتى سير الرجال الكبار؟ وهاج المسلمون هياجا شديدا وطلبوا من أولى الأمر مصادرة الكتاب، فكانت الإجابة: نحن لا نصادر حرية الفكر! هل هذا النوع من الكتابات يدخل فى دائرة الفكر؟!! ص _058(3/55)
هل من حرية الفكر أن يؤلف رجل كتابا ينشره بين الأوروبيين يتهم فيه مريم بأنها مومس، أو الإنسان الجليل عيسى بن مريم بأنه شاذ ؟؟ إن هذا المؤلف لو كان مسلما لاجتمع مؤتمر فى الأزهر وقرر أنه مرتد عن الإسلام، ولما شغب على هذا القرار مسلم فى طول العالم الإسلامى وعرضه! ولكن الغريب أن تؤلف قضية حول الإسلام وحرية الفكر لأن المسلمين أحرقوا كتاب "آيات شيطانية" الذى ألفه وغد اسمه سلمان رشدى، يشتم فيه الإسلام ونبى الإسلام.. وظاهر أن هناك مؤامرة واسعة لا تخفى علينا القوى المشاركة فيها كى ينتشر الكتاب فى أوسع دائرة ممكنة تحت عنوان دفاع عن حرية الفكر..! وما قال عاقل: إن حرية الفكر تعنى السباب المقذع والافتراء والإسفاف. وقد سمعت رئيس جماعة إسلامية فى إنجلترا يشكو من أن القانون هناك لا يعاقب على سب الإسلام والتهجم على مقدساته! وهذا أمر يشين الإنجليز ولا يشيننا، وهو باب إذا انفتح لن يؤذى محمدا وحده، ولكنه سوف يؤذى كل نبى سبق وكل منتسب إلى السماء!! إننا ننصح إخواننا من رجال الأديان الأخرى فى إنجلترا وغيرها أن يتبصروا عواقب هذا النزق وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. ص _059(3/56)
حول التشريع الإسلامى الغائب... عندما كنت طالبا صغيرا بمعهد الإسكندرية الدينى ألفت رؤية أحد أقسام الشرطة مملوءا بالجنود الإنجليز يغدون ويروحون فى هدوء! وبعد كفاح طويل تم جلاء هؤلاء وغيرهم من الأرض المصرية! ولكن الاستعمار العسكرى زال، وبقى الاستعمار التشريعى والفكرى ينشر مباذله ومفاسده، إن الاحتلال العسكرى يسكن الأرض إلى حين أما الاحتلال الثقافى والاجتماعى فيسكن النفوس ويستقر والجهاد الأكبر هو مطاردة هذا الغزو حتى يعود من حيث أتى... إن التشريع فى أوروبا وأمريكا يعتمد على العرف الشائع والأهواء المتبعة، ويعقد صلحا مشبعا بالعطف مع القتلة والزناه وناهبى الماد، ولم أشعر بأى غرابة عندما أباح الغربيون اللواط فعوقبوا بالإيدز، وعندما ألغوا القصاص فكثر القاتلون والفوضويون. المثير للغرابة حقا هو اقتفاء أثر القوم والسير بعمى وراء مجونهم وجنونهم، يقول الأستاذ الجليل عبد الحليم الجندى: " إن الشريعة الإسلامية هى صميم الفكر الإسلامى، وهى ملاك العلاقات بين الأفراد، فإذا لم تطبق على هؤلاء الأفراد فى مجتمعهم، فقد صار المجتمع بالضرورة غير إسلامى، واصطبغت معاملاته بصبغة أجنبية، وكلما اطرد تطبيق القانون الاستعمارى زادت مسافة البعد بين الناس ومجتمعهم الحقيقى المهزوم، وما كفله من مزايا وفضائل.. ثم جرت البيوع والإجارات والقروض والإعارات على محاور غير إسلامية، تتنكر لقواعد الفقه الإسلامى، وهى قواعد قوامها العدل الإجتماعى ومصالح الأفراد. ولقد أثبت تطبيق القانون الجنائى الأوروبى زيادة كبيرة فى الجرائم، وترتب عليه إنشاء نظام ضخم للسجون، وقضاء ضخم مثله للجنح والجنايات، وفحشت نسبة جرائم الأخذ بالثأر، كما كثرت جرائم الاغتصاب والاعتداء على الآمنين..!.. ص _060(3/57)
إن العقوبات المرصدة للسطو على الأعراض كأنما وضعها ديوث لا يبالى بالحرمات وصيانتها! والمرء يعجب للعطف الشديد الذى تبديه القوانين الوضعية على أصحاب الانحرافات الجنسية والأمزجة الدموية!! وقد طال عجبى وأنا أسمع رئيسا عربيا يعد بأنه سوف يلغى عقوبة " الإعدام " كأنه بهذا الإعلان يثبت رقيه الاجتماعى، وما درى أنه يؤكد تخلفه الفكرى والخلقى؟! إن فى حضارة الغرب " شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برإيه " وهذه الرذائل علل سوف تأتى عليها إن قريبا وإن بعيدا.. وما يبقى هذه الحضارة إلا عدم وجود صالحين يرثون الأرض ويقودون الخلق إلى الله! ذلك أن حملة الإسلام غرباء عليه ولما يدخلوا بعد فيه.. بل إن مسلمى اليوم ينقلون عن الغرب أخبث ما فيه، ويزهدون فى العناصر التى سبقت به، وبوأته المكانة المادية التى دفعت به إلى الأمام. ص _061(3/58)
حول وجه المرأة.. لقينى رجل فوق الأربعين يتحدث وكأنه يافع غر! قال لى بصوت مهتاج: أنت الذى تفتى بأن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة؟ قلت بهدوء: نعم! قال: أما تتقى الله؟ قلت: أوصيك ونفسى بتقوى الله. قال: إنك مخطىء فيما تذكره للناس ويجب أن تتوب! قلت له: لست وحدى الملوم، فإن كبار المفسرين سبقونى إلى هذا الخطأ، كما سبقنى إليه رواة عشرة من الأحاديث الصحاح، وشاركنى فى خطئى أيضا أئمة المذاهب الأربعة، وعدد من المذاهب الفقهية الأخرى. أولئك جميعا هم الذين استقيت منهم قولى أو تابعتهم فى غلطهم، ولا أشعر بغضاضة إذا كنا جميعا أصحاب تهمة واحدة.. قال الرجل وهو دهش: ماذا تقول، أهؤلاء جميعا يفتون بأن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة؟ قلت: نعم! ولكنكم تؤثرون التقاليد السائدة، وتتشبثون بآراء مرجوحة.. ولنفرض جدلا أن فى المسألة قولين اخترت أنا أحدهما فلم الغضب ولم التحامل والشتم؟!! هل سمعت حديث سلمان وأبى الدرداء؟ قال: لا! قلت له اسمع: (روى البخارى عن أبى جحيفة قال: آخى النبى صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسى- وأبى الدرداء.. فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة- عليها ثياب لا جمال فيها- فقال لها: ما شأنك؟- لماذا هذا المنظر؟- قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة فى النساء (!). وجاء أبو الدرداء وصنع طعاما وقال لسلمان كل فإنى صائم فقال: ما أنا بآكل حتى ص _062(3/59)
تأكل! فأكل- أفطر لأداء حق الضيف- فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له نم فنام! ثم ذهب يقوم فقال له نم فنام، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعا. وقال سلمان: إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك- زوجك- عليك حقا فأعط كل ذى حق حقه. فأتى- أبو الدرداء- النبى فذكر له ذلك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم صدق سلمان ". والذى يعنينى من سرد الحديث الحوار الذى جاء فى صدره، فلو أن هذا الحوار وقع فى عصرنا لضرب الزائر، وقتلت المرأة!! ولقيل للرجل: ماذا يعنيك من النظر إلى ملابس الزوجة؟! ولماذا تتطفل بهذه الملاحظة، ولقيل للزوجة: كيف تشكين زوجك وتكشفين للآخرين انصرافه عنك؟! لكن سلامة الفطرة فى عصر الصحابة تنفى كل شبهة ولا تدع لظنون السوء مكانا، فلما فسدت النفوس، جاء قول الشاعر: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعلى هذا الأساس وجدنا الطباع المريضة تصف كشف الوجه بأنه فجور، وأنه حرام لأنه باب إلى الكبائر والعياذ بالله.. ص _063(3/60)
العالم يدل على خالقه.... شرحت لأحد المبهورين بالمنطق المادى بعض مالا يعلم! قلت له: أترى السلالم التى نستخدمها صاعدين هابطين؟ إنها لا تعرف شيئا عن الأقدام التى تدوسها، لقد صنع المهندس درجها لتسلم كل درجة إلى زميلتها، وأقامها بفنه على هذا النحو، وهى لا تدرى من فعل بها ذلك ولماذا؟ أتعرف العنصرين المكونين للماء فى كوب أمامك أو فى البحار الفيح؟! إنهما منفعلان لا فاعلان وما يدرى أحد العنصرين ما هو أولا، وما هو بعد أن امتزج بصاحبه، ثم سالا أنهارا وبحارا. أتحسب الأرض تحت قدميك هى الخالق للزروع والحبوب؟ فأسرع يجيب: نعم هى الخالق! قلت ضاحكا: لعل التراب صنع الشعر الأبيض فى لوزة القطن، والماء هو الذى صنع البذور الحافلة بالزيت، والشعاع هو الذى صنع أعواد الحطب.. إن الخلق- أيها المسكين- وظيفة لا تستطيعها ذرات التراب أو الماء أو الضوء! إن هذه الذرات لخشب السلالم التى تصعد فيها، إنها لا تعى لنفسها وجودا فكيف تهب الوجود لغيرها؟!! إن ما نراه من فوق ومن تحت وعن يمين وشمال غطاء لقطرة عليا يتحرك بها الكون ظاهرا وباطنا، قد تغلى بالحركة، وقد تهمد بالموت، وهي على الحالين منفعلة لا فاعلة (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم). اقرأ هذه الأمثلة ثم سل نفسك: من الفاعل؟ خذ هذا المثال: ص _064(3/61)
تصفى الكليتان فى الإنسان البالغ نصف متر مكعب من الدم يوميا! وتحتوى الكليتان على تمديدات من القنوات الدقيقة يقدر عددها بمائتي مليون تقريبا، وطول كل منها نحو خمسة سنتيمترا، فيما يشكل طولها نحو عشرة آلاف كيلو مترا! وهذا المثال: يبلغ عدد الحويصلات الهوائية فى رئتى الإنسان البالغ أكثر من 375 مليون حويصلة! وخلال ساعات اليوم الواحد يسحب الإنسان البالغ نحو 180 مترا مكعبا من الهواء فى عمليات التنفس! ويتولد عن ذلك طاقة تكفى فى مجموعها لرفع قاطرة سكة حديدية إلى علو مترين! وهذا المثال: قلب الإنسان كمثرى الشكل، فى حجم قبضة اليد. يزن ما بين 225 إلى 340 جراما. وينبض معدل 70 مرة فى الدقيقة أى 4200 مرة فى الساعة. أى 100800 مرة فى اليوم، أى 36792000 مرة فى السنة، فإذا كان متوسط عمر الإنسان 60 سنة فإن هذا يعني أن هذا القلب العجيب يكون قد نبض 2207520000 مرة " أى مليارين ومائتين وسبعة ملايين وخمسمائة وعشرين ألف نبضة لما دون توقف! من الفاعل؟ من؟ إلا الله..! ص _065(3/62)
هل القومية العربية بديل عن الإسلام؟ بعيدا عن الخيالات والأحلام نقرر أن القومية عند أكثر العرب بديل جديد عن الدين! والبعثيون والعلمانيون يصرحون بذلك دون مواربة!.. أما القومية عند اليهود فهى مرادف للدين، أو عنوان آخر لحقيقته عند بنى إسرائيل! ليست اليهودية رسالة روحية عامة لأبناء آدم كلهم، بل هى علم على التعاليم التى أوحى بها رب الجنود إلى شعب من الناس اختاره لينتمى إليه ويحكم الناس به..! وقد نشأ عن هذا الاختلاف بين مفهومى القومية عند العرب واليهود- فرق واسع من النواحى الاجتماعية والسياسية، فقد ذابت الاختلافات العرقية والوطنية عند اليهود، ولم شملهم المبعثر! إحساس واحد وهدف واحد، وتكاتف القادمون من روسيا ومن أمريكا على إقامة الدولة الدينية الحديثة.! أما العرب فإن استبدالهم القومية بالدين أحيى بينهم النزعات القبلية، وأفقدهم الخصائص الروحية الإسلامية، وأقام للأهواء الرخيصة سوقا رائجة، وأعجزهم عن الإفادة الحقيقية من الحضارة الحديثة! إن البيئات القومية ليست ساحة للعبادات ولا أرضا خصبة لنمو الفضائل والأخلاق. وفى النزاع اليهودى العربى يقاتل اليهود بعقيدة دينية طاغية، أما العرب فهم يتحركون عراة عن الإسلام ووصاياه. ولنذكر أن اليهود النازحين إلى فلسطين طليعة لعالم كبير طويل عريض يعج بحاقدين على العرب ليس لحقدهم نهاية أذكر معه قول الشاعر: من كان يسألنى عن أصل دينهم فإن دينهم أن يقتل العرب! ص _066(3/63)
إن للنزاع جذورا تاريخية عميقة، جعلت وراء اليهود مستودعا من الرجال والأموال فى أوروبا وأمريكا يستندون إليه وهم يهاجمون. أما البائسون من عرب فلسطين فماذا وراءهم وهم يدافعون عن أرضهم وعرضهم؟ عرب متخاصمون، أو مسلمون بأسهم بينهم شديد، شغلتهم حزازاتهم عن نجدة إخوان العقيدة! أى عقيدة؟. الإسلام الذى أداروا له ظهورهم وأصموا عن ندائه آذانهم! إن الانتفاضة التى تهز فلسطين اليوم هزا تقع فى أيام نحسات فاليهود أمرهم جميع، وشعارهم واحد، والشيوعية الرأسمالية تظاهرانهم، والكنائس المسيحية تقول وهى تتحدث باسم السماء: إن اليهود والعرب ينبغي أن يقتسموا فلسطين قسمة عادلة! يأخذ رب البيت غرفة أو غرفتين ويأخذ اللص الصهيوني سائر الحجرات والشرفات..! فى هذه الفوضى العمياء أقول للعرب التائهين عن شرفهم وعزهم: عودوا إلى دينكم، تظفروا بالحياتين! فإن أبيتم إلا ما أنتم فيه فأمركم كما قال الله: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). ص _067(3/64)
الحروب الصليبية لا تزال دائرة.. عندما يواجه الإسلام تحديا علميا فى ساحة ما نطير خوفا إلى مواجهة التحدى، وملء نفوسنا الثقة والاطمئنان، فنحن أغنى أهل الأرض بالأدلة التى تدمغ الباطل وتدعم الحق.. إن قوما لديهم القرآن لن يطيش لهم سهم، و إن قوما يعرفون محمدا لن تضعف لهم حجة، إن الإعجاز الأساسى للإسلام أنه جملة الحقائق التى قامت بها السماوات والأرض، وتضافر الأنبياء على إبلاغها كابرا بعد كابر. فكيف يوصف الإسلام بأنه يفر من معركة علمية؟! أو تخف كفته فى أية موازنة بينه وبين غيره؟! فى جو حرية الفكر نحن ننتعش ونتحرك، فأين هى حرية الفكر التى يتحدث عنها قادة الغرب؟! هل الحكومات العلمانية محايدة فى أى نزاع بين الإسلام وغيره من الأديان؟ هل الحكومات العلمانية محايدة فى أى عراك بين المسلمين- عربا كانوا أو عجما- وبين غيرهم من أهل الأرض؟ حين خطب وزير داخلية إنجلترا فى المسجد الكبير بأحد البلاد وقال للمسلمين يجب أن تخضعوا لقوانين الأمة التى تعيشون فيها..! وهذا كلام ظاهره حسن وباطنه دميم! فالقانون الإنجليزى يعد سب النصرانية جريمة، ويسكت عن سب الإسلام، وهذا القانون يرى اللواط مباحا،،يرى الحجاب منكرا، أو يرى تعدد الزوجات محرما، ويرى الزنا لا حرج فيه!! ليكن للقوم ما أرادوا لأنفسهم، فالمسلم فى إنجلترا لا طاقة له على تغييره أوضاع ارتضاها أصحابها ونحن لا نكره أحدا على ما نريد، وكتاب ربنا يقول لنا: (فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر). ص _068(3/65)
فماذا على الكافر لو ترك المؤمنين على نهجهم، وبقى هو على نهجه؟ ماذا عليه لو سكت فلم يشتم محمدا ويتطاول على تراثه وأتباعه؟ لماذا تمنح الجوائز لمن يهين الإسلام وتبسط عليه الحماية؟ هل هذه هى الحرية التى يرفع شعارها؟! لقد حاولت أن أجد قضية علمية واحدة فى الكتاب الذى وضعه سلمان رشدى فلما أجد أثارة من علم!. الكتاب كله لون من الإسهال الفكرى خرج من دماغ عفن منتن ثم وضعت إنجلترا عليه حمايتها، وأعلنت عنه رضاها!! وبعد برهة وجيزة تحرك "السربطرس هاو" ناسك القرن العشرين فجعل بقية أوروبا وأمريكا الشمالية تشاركانه الرأى . بل إن الحماس الصليبى اتسعت دائرته فرأى أن يضم روسيا الشيوعية إليه! وإذا نجح فسيتجه إلى بقية العالم ليجعل الحملة على محمد ودينه تشمل أرجاء الدنيا..! إن بطرس الناسك عاد مرة أخرى ليحرق الأخضر واليابس! ورمقت أمتنا المحروبة وأمضنى الألم، إن مسلمين فى الهند وباكستان حصدهم الرصاص وهم يعلنون غضبهم على الكتاب النجس!! والأسوأ من هذه المصائب أن المعركة أخذت عنوانا مقلوبا، فالغرب يقاتل عن حرية الرأى وحقوق الإنسان، والمسلمون يقاتلون عن التعصب والرجعية!! أليس بديعا أن يقاتل إبليس عن كرامة البشر، ويقاتل موسى وعيسى ومحمد لإذلال الإنسان وإظلام مستقبله؟ ترى من وضع هذا العنوان؟ ص _069(3/66)
سكرة الجدل تغطى العقل والدين... دخلت مجلسا يحتدم فيه الجدل، ورأيت شابا قد شمر عن ساعد الجد يستعد لخوض معركة شديدة تتمخض عن هزيمته أو انتصاره، وكأن النصر والهزيمة فى هذا المجلس هما بالنسبة له الحياة أو الموت! ورأى البعض أن يحتكموا إلى لأحسم الموقف، ولكنى كنت زاهدا فى سماع الأطراف المتنازعة وكارها لتقرير الخطأ والصواب، عند هذا أو ذاك! كنت مقتنعا من المنظر الذى رأيته أن الغلبة الشخصية أغلى من معرفة الحق، وأن إهانة المخطىء هدف مهم، وأن شموخ المصيب غاية مطلوبة، وأن الشيطان هو سيد الموقف! وتذكرت ما رواه أبو سعيد الخدرى قال: كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، ينزح هذا بآية، وينزح هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفقأ فى وجهه حب الرمان- أى يتلون وجهه بالبياض والحمرة من شدة غضبه لما سمع- فقال: " يا هؤلاء بهذا بعثتم؟! أم بهذا أمرتم؟! لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ". إن معارك الجدل من أسوأ المعارك أثرا، وأوخمها عقبى، والفرار منها أشرف للعاقل وأصون للدين! وتبعنى شاب يطالبنى بتحديد الحقيقة العلمية بعيدا عن جو الجدال، فقلت له: إن بعض الناس يعرف جزءا من الحق ويجهل جزءا آخر ينطبق عليهم قول القائل: فقل لمن يدعى فى العلم معرفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء وإنى أقدر على بسط الحقيقة كلها، لكنى أريد تغيير المسلك الشائع، وإشعار أولئك الشباب بأن الإسلام لا يخدم بهذا الأسلوب! لماذا يكون التدين كلاما كثيرا أو قليلا؟ لماذا لا يتوجه المتدينون إلى التنقيب فى أرجاء المجتمع للبحث عن عوج ص _070(3/67)
يقومونه، أو ثغرة يسدونها أو عورة يسترونها أو رحم يصلونها أو علة يداوونها أو أزمة يفجرونها؟؟ إننا ورثنا أمة حاقت بها هزائم شتى وسادت فيها تقاليد رديئة، والإصلاح يحتاج إلى لباقة ومصابرة وإخلاص لا إلى ثرثرة وعناد. والتدين السلبى بضاعة مزجاة فى هذا العصر، ولن يلقى من الله إلا المقت، ولكى يسدى المؤمنون خيرا لدينهم يجب أن يتجمعوا على دراسة البيئة التى يعيشون فيها، والمسارعة بالنجدة إلى كل من يرتقبها من العاجزين والمنقطعين. تدبر هذا الوصف لسلوك المؤمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على كل مسلم صدقة قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق! قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف! قيل: أرأيت إن لم يستطع ؟ قال يأمر بالمعروف أو بالخير! قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال يمسك عن الشر، فإنها صدقة له!.. إن السلبية عجز بائن، ربما كانت أقرب إلى النفاق منها إلى الإيمان. ص _071(3/68)
سماسرة الغزو الثقافى.. فى مطلع عصر النهضة الأوروبية كان الأوروبيون عامتهم وخاصتهم يعلمون أن العرب أولياء نعمتهم! وأن الثقافة الإسلامية من وراء عصر الإحياء الذى أيقظهم من سبات وأنقذهم من خبال! ولم يزعم عاقل أن وسط أوروبا أو غربها له مدخل فى هذه الصحوة، ولكن بعض المضللين زعم أن هجرة علماء القسطنطينية بعد سقوطها فى يد العثمانيين هى التى أنشأت عصر الإحياء، بيد أن المنصفين كشفو القناع عن وجه الحقيقة عندما أكدوا أن شرق أوروبا كان أسوأ حالا من غربها، وأن المسلمين وحدهم هم آباء النهضة العلمية الحديثة فى أوروبا، وأن تحويل الأنظار عن هذه الحقيقة أحقاد صليبية وأكاذيب على التاريخ الإنساني.. ويقول الأستاذ جلال مظهر فى كتابه النفيس " الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمى الحديث ": إن حضارة العرب والإسلام تعرضت فى القرنين الماضيين إلى عملية من أبشع عمليات التضليل التاريخى.. وأنه قام بهذه الحركة المضللة نفر من علماء أوروبا لأغراض سياسية أو دينية.. وأنهم دسوا وروجوا آراء كان لها أثر كبير فى البلبلة الفكرية التى أصابت الشرق العربى والإسلامى، هزت شخصيته وأعقبت النتائج التى نعانى منها الآن..!. وأقول: إن الاستعمار الثقافى سكت الآن ليتكلم بدلا عنه أناس من جلدتنا وينطقون بألسنتنا يحترمون كل تراث إلا التراث الإسلامى. ويؤثرون كل انتماء إلا الانتماء الإسلامى. وقد طال لغطهم فى هذه الأيام، وأعطتهم الصحافة مساحات واسعة استطاعوا فيها تحريف الكلم عن مواضعه، وإهالة أكوام من التراب على أمجاد المسلمين والعرب متوسلين إلى ذلك بالكذبة الفاجرة، والنكتة الباردة والجهالة الطامسة. ص _072(3/69)
إن منطق التجربة والاستقراء عرفه العرب من المنهج القرآني الذى يبنى الإيمان على دراسة الكون والحياة. وممن طبقه فى ميدان النقد العلمى " الجاحظ " أديب العربية الكبير فى كتابه"الحيوان" حيث نقل مقررات أرسطو ثم وضعها على محك التجربة فتساقطت كلها! وقد شرح ذلك الأخ الدكتور مصطفى عبد الواحد فى الملحق الثقافى لجريدة الندوة السعودية. ومعروف أن الارتقاء العلمى فى الغرب تم بعد استبعاد منطق أرسطو على أساس أنه لا يأتى بجديد! إنه تحريك للمياه داخل صحن مسطح أو عميق! لن تزيد ولن تنقص. وقد كتب الفقيه الحاذق ابن تيمية سفرا ضخما عن وظيفة العقل الإنسانى، تناول فيه منطق أرسطو بالميزان المنصف، فوضعه فى مكانه الطبيعى! ومع ذلك فإن بعض الدكاترة الذين ضربت عقولهم عواصم الاستعمار، وأشرف على توجيههم سماسرة الصليبية العالمية، اختاروا هذه الأيام ليطعنوا فى أسلافنا ومواريثنا اعلاء لقدر الغرب وفلسفة يونان. متى يحدث ذلك؟! فى الوقت الذى تتحول فيه أساطير اليهود الدينية إلى دعائم هائلة لدولة جديدة على أنقاضنا! إننا نرقب هؤلاء المرتدين، وننذرهم إن لم يتوبوا بيوم رهيب. ص _073(3/70)
قصور الفقه خطرعلى الإسلام... كنت فى أحد كتبى قد ذكرت حديث البخارى الذى جاء فيه: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج. فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذى بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم! سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.. قلت: إن أنسا رضى الله عنه كان يعلق بما قال على الفتن السيئة التى بدأت بمعركتى الجمل وصفين وانتهت بالاعتداء على الكعبة واستباحة المدينة.. إن الإسلام نهض بعد هذه المحنة وشرق حتى دق أبواب الصين، وغرب حتى بلغ أواسط فرنسا وسويسرا.. وقلت: إن الذين يرون أن الحديث حكم على مستقبل الإسلام كله مخطئون ويستحيل أن يخبر نبينا بأن رسالته تنحدر كل يوم، وأنها تسير حثيثا إلى الهزيمة والتلاشى! وقلت: إن هناك مرويات أخرى تؤكد أن الحكم الإسلامى سوف يبسط ظلاله على المشارق والمغارب، وأنه بتعبير مسند أحمد بن حنبل سيبلغ ما بلغ الليل والنهار.. وينبغى فهم ما رواه البخارى فى ضوء المرويات الأخرى، وفى ضوء الواقع التاريخى الذى يشرح أن الأمم عامة والمسلمين خاصة عرضة للهزيمة والنصر والمد والجزر! بل الدلائل عندنا تشير إلى أن الدين سيظهر على الدين كله، وأن أمر محمد سيعلو حتما وإن كثرت أمامه العراقيل..!! وفوجئت بعد نشر مقالى- وكنت يومئذ أدرس بكلية الشريعة فى مكة المكرمة- بكتيب ينشر عنى يتهمنى بتكذيب السنة، ويوصم فيه محمد الغزالى المصرى- بتعبير المؤلف- أنه يرد ما روى البخارى، ويحارب التراث النبوى! والواقع أن الأوساط العلمية رفضت الكراسة المنشورة، وتجهمت لمؤلفها، وإن كنت أنا قد ارتبت فى الغرض من وراء النشر، واعتقدت أن ثم قصدا غير شريف.. ص _074(3/71)
وكنت أتساءل: ما الحكمة فى إثبات أن مستقبل الإسلام غائم؟! وأن كل يوم يمر يدنيه من أجله، وأنه لا أمل فى جهاد مع هذا القدر المكتوب! إنه لا يستفيد من هذا الشرح الجاهل إلا أعداء الحق والحاقدون على رسالته، أعنى أعداءنا من اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين! على أن أمرا آخر شغلنى ومازال يشغلنى.. ما السر فى أن بعض الكاتبين فى الإسلام شديد الرغبة أن يتلمس للبراء العيب؟! إذا كان قاصر الفقه فلماذا لا يتفقه فى الدين، ويزداد علما بالكتاب والسنة؟! ولماذا ينحصر فى حظه التافه من المعرفة ويتحصن داخله لقذف المخالفين بالأحجار؟! ثم لماذا لا يحمل حال المسلمين على الصلاح ويدعو لهم بالخير إن أخطئوا وينتفع بما لديهم من فقه؟! إننى متأكد أن سماسرة الاستعمار الثقافى تستغل فقر العلم والخلق عند بعض الناس وتطلقهم فى أرجاء العالم الإسلامى ليقطعوا أوصاله بالخلافات اليسيرة والشائعات الكذوب. وهكذا تكثر العثرات والعوائق أمام دعاة الإصلاح، وينبرى لهم داخل الأمة نفسها من يبطل سعيهم، ويبعد هدفهم! والله غالب على أمره و إليه المشتكى. ص _075(3/72)
غيبوبة تعترى العقل الإسلامى.! أيام نزول الوحى، وعلى حياة الرسول الكريم، وفى عهد الخلافة الراشدة، كان العقل الإسلامى سليما معافى، فالقرآن المتلو يوقظ الفكر الغافى ويقيمه على صراط مستقيم، والرسول القائد يبنى باقتدار أمة صاحية هادية، تعلم أن الله خلق لها ما فى الأرض جميعا، وأنشأ لها السمع والأبصار والأفئدة، فهى تتعامل مع الكون والحياة بخلائق السادة المالكين.. ومع هيمنة المسلمين على الممالك الكبرى اتصلوا بأفكار وفلسفات أخرى كثيرة.. يقول بعض المؤرخين: لا حرج هذا لون من الانفتاح على مواريث الثقافة الإنسانية لا بأس به! وأقول: إن الانفتاح ساء يوم أحسن التعامل معه والأخذ والرد منه، ولكن بعض المتعاملين مع الثقافة الوافدة لم يكن على المستوى المنشود فوقعت فتن كبيرة فى تاريخنا الثقافى لا أريد التعرض لها هنا. وشاء الله أن تسقط الفلسفة الإغريقية مع عصر الإحياء الذى استيقظت به أوروبا من سباتها أو تحركت به بعد مماتها، وأن تقوم فى غرب العالم حضارة تعتمد على توظيف العقل، وتسخير الكون، أى على مقررات تشبه الحركة الإسلامية على عهد النبوة والخلافة الراشدة.. ويقع ذلك والعالم الإسلامى قد نسى خصائص رسالته السماوية، والطبيعة الإنسانية لسلفه العظيم. فإذا مفارقة رائعة تقع، القوم يشتغلون بعالم الشهادة، ونحن نشتغل بعالم الغيب!! الآخرون يسخرون لأنفسهم البر والبحر، ونحن دون غيرنا من الخلق المسخرون فى البر والبحر!. الناس تخدم عقائدها ومبادئها بتفوق حضارى ساحق، ونحن لا نزال نعالج قضايا ص _076(3/73)
من مخلفات الاختلاط الفوضوى بين الإسلام قديما وبين الأفكار الأرضية الأخرى... إن الخلاف العتيق بين السلف والخلف يجب تجميده وأن ننفض اليدين من مباحثه فى الغيبيات والمتشابهات، وأن نضعه فى "أرشيف " الذكريات المحزنة.. وعلى العقل الإسلامى أن يرجع إلى توجيهات القرآن التى تبنى الإيمان على النظر فى الكون، وتبنى نصرته على العمل فى هذا الكون وتطويعه لمثلنا الراشدة. ألا يشعر المسلمون بالخجل عندما يقرءون قول الله " (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) فإذا غيرهم يزحم الأمواج بأساطيله، بينما نحن ندرس فلسفات نظرية بائدة عن الذات الإلهية، ولا يزال من رجال الدين عندنا من ينكر غزو الفضاء، بل من ينكر دوران الأرض!! إن الأوروبيين رجعوا إلى أصول الفكر البشرى كما رسمها القرآن الكريم وإن كانوا لا يؤمنون بالقرآن، ونحن محصورون داخل دائرة المتشابه من الآيات لا ندرى ما وراءه، ولا نحس بمطارق الاستعمار تقرع الأبواب بعنف، وتوشك أن تنسف المسجد الأقصى وسائر المقدسات! يا قومنا! أفيقوا من هذه الغيبوبة، وعودوا إلى فهم الحياة الصحيحة من كتابكم وما أحكم الله فيه من توجيهات... عودوا قبل أن تستيقظوا من نومكم على دبابات العدو تزلزل الأرض أو صواريخه تنقض من السماء. ص _077(3/74)
صرخة من ميدان الجهاد فى أفغانستان سمعت شكاة مفعمة بالألم والوجل من إخواننا المجاهدين فى أفغانستان! إنهم يستقبلون شتاء مزعجا فى أرجاء تهبط فيها الحرارة دون درجة الصفر، وهم فى مرابضهم أمام العدو يريدون الاحتفاظ بالأرض التى حرروها، وكيف يستطيعون الثبات وهم محتاجون إلى الصوف والفراء وأسباب الدفء؟ ولو تراجعوا إلى القرى وراءهم التماس النجاة من البرد تقدم الشيوعيون إلى الأماكن التى خلت منهم، واستولوا عليها غنيمة باردة، وهم ما كسبوها إلا بدماء أعز الشهداء! ترى هل يمدهم المسلمون بالخيام والبطاطين والثياب الواقية؟! وهم بحاجة ملحة إلى أسلحة وذخائر أخرى، ففى هذا العام وصلتهم عدة مئات من الأطنان، وذاك عشر ما وصلهم فى العام السابق أو أقل، مع أن القتال الذى يخوضونه يتطلب أنواعا حديثة من الأسلحة تمكنهم من اقتحام الحصون و إحكام الحصار ومقاومة الطائرات والصواريخ.. إنهم عاجزون عن دفع أجرة البغال والحمير التى تحمل إليهم أمتعتهم وأسلحتهم! أما وراء الجبهة الشيوعية فإن الطائرات الروسية تقوم بآلاف الطلعات حاملة أنواع العتاد والمؤن لجيش الحكومة الحمراء. الحق أن الجهاد الإسلامى فى أقطاره المترامية لا يشتبك مع قوى متكافئة، أو قوى ترجحه بنسبة معقولة، كلا.. إن الشباب المؤمن المحتسب المتعشق للدار الآخرة يراد منه أن يصارع ببندقيته الدبابات من طراز ثقيل، وأن يصيب بمدفعه اليدوى أعتى الطائرات!! ص _078(3/75)
وحسب القاعدين فى دورهم الآمنة أن يعلقوا بالكلام الغث على التقدم والتقهقر والنصر والهزيمة! هل فكر هؤلاء فى أن شباب الانتفاضة يقاومون بالحجارة عدوا يملك أفتك الأدوات، إن المستوطنين اليهود يتعاونون مع المستوطنين البيض فى جنوب إفريقيا على إنتاج أسلحة ذرية جديدة، وعلى تجربة مدافع بعيدة المدى تعبر قذائفها الآف الأميال!! هل يترك هذا الشباب المؤمن يلقى مصارعه كل يوم فردا بعد فرد، وثلة بعد ثلة.. إننى أناشد المسلمين فى أقطار الأرض أن يعيدوا النظر فى أساليب حياتهم، وطرائق تفكيرهم، وأن يتأكدوا من أن الدائرة ستدور عليهم حتما إن هم ظلوا على هذا البرود.. إن الروس مع أزماتهم المالية أنفقوا فى حرب أفغانستان 70 بليون دولار! ومع ما يعانون من زلازل فهم باقون فى المعركة.. واليهود فى تصديهم للجهاد الفلسطينى ينفقون ما يثقل كاهلهم، ويتعرضون لأزمات شتى مع هذا وذاك، فيجب على أمتنا أن تصابر الليالى، وأن تساند الشباب الذى يتعرض للحتوف وهو يكافح عن دينه وأرضه وشرفه وحاضره ومستقبله. لابد من إعادة النظر فى الطريقة التى يعيش بها المسلمون فى أنحاء الدنيا مادام عدوهم مصرا على إنزال رايتهم، وإسقاط رسالتهم وميراث أرضهم، ودحرجتهم إلى الفناء أو العيش بلا دين. ص _079(3/76)
الإلحاد الشيوعي يترنح.. عندما احتفلت روسيا بالذكرى الثالثة والسبعين لقيام الحكومة الحمراء، وميلاد النظام الشيوعى، كانت الدولة تستعرض قواتها فى الميدان الكبير، لكن بضعة آلاف من الناس كانوا فى جانب قصى من العاصمة يصيحون: السلطة للشعب لا للحزب! إن هذه الآلاف القليلة كانت الترجمة الشجاعة لما استكن فى نفوس الملايين من كره للاستبداد الفردى، ورغبة فى سيادة الحريات واستعادة ما فقد الناس من كرامة خلال عشرات السنين.. أكثر من سبعين سنة عجز فيها الحمر عن اقناع الجماهير بسلامة مبادئهم وقدرتهم على الإصلاح فمحو كل إشارة للديمقراطية. إن الحكم القيصرى كان سيئا بالغ السوء! والتمرد عليه كان غضبة صادقة عارمة، ولكن الشعوب لا تريد استبدال قيصر أحمر بقيصر أبيض! إنها تريد جوا صحوا يحسن الفرد فيه أن يقود ما يعتقد دون توجس، وأن يحاسب الحاكم على ما يصدر منه دون تهيب.. أما أن يرتكب " ستالين " باسم الشعب من المآسى ما كان يعجز القيصر عن ارتكاب عشر معشاره فهذا هو العجب العاجب.. فى ظل بعض النظم تذهب الجماهير فى غيبوبة طويلة، وتعرض لضميرها وتفكيرها إغماءة فاجعة محزنة تقع خلالها مآسى مخزية.. وقد كان ألوف الأحرار فى السجون يوم كان المغنى فى القاهرة يقول للرئيس عبد الناصر: يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب.. كان الحاكم المسيطر يفرض نفسه على أنه الشعب نفسه.. وهكذا فعل حكام روسيا الحمر حتى جاء الزعيم الأخير للشيوعية، وبدأ حركة تراجع عن شتى المقررات التى كانت مقدسة.. ورأينا كيف طارت حصون من ورق، ص _080(3/77)
وكيف أن المبادىء الحاكمة أمست كأوراق النقد التى ليس لها غطاء، فهى لاتصلح للتعامل، ولا تساوى من قيمتها الإسمية شيئا.. والغريب أن الذين بلوا بالشيوعية بدءوا يتخلون عنها إلا فى الشرق العربى، فلا يزال هناك من يقول: عنزة ولو طارت.. وأنا ممن يؤمنون بالحرية ويقدسون حقوق الإنسان، فهل الذين يريدون فرض الإلحاد على الناس بالسلاح، وبالقوانين الاستثنائية، يحق لهم أن يذكروا اسم الشعب على لسنتهم!! إن الشعوب مؤمنة بربها وفية لدينها، وهى تأبى أن تجعل زمامها إلا فى يد متوضئة، ولدى عقل مؤمن وضمير يتقى الله! فما معنى الصياح باسم الشعب حين يراد قهر الشعب و إذلاله؟! أعلم أن بعض المتدينين ليس صورة حسنة لدينه، لكن هؤلاء العجزة لن يساندهم أحد عندما ينكشف أمرهم، وما ينكشف أمرهم إلا فى جو الحرية، أما السياط فسترسخ مكانتهم وتجمع العامة عليهم! إن التحرر من الاستبداد السياسي دعامة كل حضارة راشدة. ص _081(3/78)
فظائع شنعاء فى إريتريا الإسلامية... أكثر من 85% من شعب إريتريا مسلم، وقد خاض حربا قاسية ضد "هيلاسلاس" يوم كان يحكم الحبشة كى يسترد حقوقه الطبيعية، وكنت أعرف هذه القيادات، والتقيت ببعضها وهى تحمل أعباء الكفاح.. ثم وقع تحول غامض لا يزال مبهما أمامى، أمست به قيادة الثورة الإسلامية، جبهة شعبية شيوعية!! وجاءتها الأسلحة والتوجيهات والمبادىء من الخارج، فماذا حدث للشعب المسلم المعزول الضائع؟ أنقل هذه الواقعة عن صحيفة القبس كما سجلها الأستاذ فيصل الزامل تحت عنوان الجبهة الشعبية: خافت الأم الإريترية على ولدها خليفة، عندما أحست بالسيارات تدخل القرية، قالت: اجر يا خليفة.. اجر يا بنى.. اهرب منهم.. سيأخذونك ويعلمونك كيف تقتل أخاك. يقول خليفة: جريت وكنت ألهث من التعب، وعندما اقتربت من مدينة " كسلا "، قررت العودة لأرى أمى.. وصلت البيت.. ناديتها.. أمى.. أنا خليفة.. قومى افتحى.. لم ترد على.. ذهبت إلى بيت خالتى. فنادانى زوج خالتى قائلا: تعال يا خليفة، ربنا معاك.. لقد خطفوا أمك..!! فى إريتريا تخطف النساء لتسعة أشهر.. فى خطة، لتكوين جيل جديد يتم إنجابه سفاحا من المخطوفات، وقد تم حتى الآن إنجاب 1200 طفل وذلك بعد اختطاف 6 آلاف فتاة إريترية مسلمة. كشف الصحفى العربى شريف قنديل هذه الحقيقة المرة بعد أن تجول لسبعة أيام بين تلك القرى المنكوبة المحيطة بمدينة " كسلا " على الحدود مع إريترية. فقد قررت الجبهة الشعبية هناك أن تشكل قوات " الكوكب الأحمر ".. وأنشأت لهذا الغرض معسكر " الورود الحمراء "، حيث تجلب الأمهات والفتيات القادرات على الإنجاب لمجموعة من الجنود الذين وصفتهم إحدى العائدات من قرية.. وهى ص _082(3/79)
ترتجف.. قائلة: هؤلاء يشربون الخمر، وتخرج من أفواههم رغاوى تشبه ما يصدر عن الجمل ثم يهجمون على الفتيات المسلمات، و... و... وبعد أن تحمل الفتاة وتنجب وهى تعرف مصير ما ستنتجه.. يتركونها ترضع المولود حوالى شهرين ثم يأخذونه إلى معسكر بذور الثورة حيث توجد مرضعات وخادمات ودادات، وفى سن الرابعة يبدأ تعليمه كل شىء ليكون من أبناء الثورة. لقد تابعت التحقيق الصحفى المنشور فى إحدى الصحف العربية بألم لما وصلت إليه أحوال الإنسان، حيث انتشر خطف الأمهات بمعدل 25 فتاة أو امرأة فى الشهر.. وقد تضمن التقرير أسماء فتيات التقى الصحفى العربى بأسرهن من قرية "عرا " وقرية " هبردا " وقرية " حبيب دامر" وقرية "رقة " وقرية "عد هارون " وقرية " دلك جنوب اغوردات " ولك أن تتخيل الدمار النفسى لأم تعود لأبنائها وزوجها بعد أن تترك مولود السفاح.. بأى وجه تلقاهم؟! محمد إبراهيم لا يترك زوجته تخرج من البيت، ويعود من طلب الرزق كل يوم وهو يتوقع ألا يجدها.. فقد سمعت زوجته أحد رجال الجبهة الشعبية يقول لها: الدور عليك.. وبالفعل.. رجع ذات يوم فلم يجد ليلى، فاتجه إليهم يركض ويصرخ، فلم تمهله رشاشاتهم فتناثرت أشلاؤه.. ولم يستطع رجال القرية أن يعرفوا وجهه لكثرة الرصاص. إنها مأساة.. أن يحدث كل هذا.. ومن بيننا من له كلمة مسموعة عند هذه.. (الشعبية).. ولا تخرج من فمه كلمة تنقذ فتيات إريتريا من هذه البهيمية. ماذا أقول بعد سرد هذه المخازى والمآسى؟ وقرأت أخيرا أن هناك مفاوضات تحت إشراف دولى بين حكومة " أديس أبابا " وبين الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والجبهة الشعبية لتحرير، "تيجرى"، الأولى فى كينيا، والثانية فى إيطاليا، لإقرار العلاقات وتخطيط المستقبل. ترى ما مستقبل الإسلام فى شرق أفريقيا؟ هل نهتم به أم لا نزال صرعى الخلافات الفقهية والمآرب الشخصية؟!! ص _083(3/80)
وفاة مرتد محقور، مهما احتفلوا به!! عندما جاءنى نبأ وفاة " كاتب ياسين " قلت: إنه ما كان حيا قبل أن تدركه منيته! وكل ما فعل الموت به أنه نقله من دار الغرور إلى دار الجزاء، ولو كان الأمر إلى لأوصيت بدفنه فى فرنسا لا فى الجزائر، فقد عاش يكتب بالفرنسية لا بالعربية!! أما علاقته بالإسلام فهى الكفر البواح! وقد وجهت إليه ثلاثة أسئلة من إحدى دور النشر فى لندن، فكانت إجابته على هذا النحو: هل النظام السياسى فى الإسلام مرحلة حتمية يجب أن تمر بها الشعوب العربية فى طريق تطورها؟ فقال: لا.. قطعا. هل يجوز لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم؟ قال: لا أعتقد أبدا.. وأخيرا سئل: من هو العدو الأول للإسلام فى هذه الأيام؟ قال: هو الإسلام نفسه فى اعتقادى..!! وظاهر من هذه الأقوال أن الرجل ارتد عن الإسلام ارتدادا ملأ أقطار نفسه، كما تمتلئ قارورة الخمر من قاعها إلى عنقها بالرجس، أو بالنجس. وهو بيقين ممن تتناولهم الآية : (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). والرجل أدنى عندى من أن أتكلم عنه، و إنما أردت أن أكشف مؤامرة بدأ تنفيذها بالنسبة له وسيتم تنفيذها بالنسبة لكل من يخدمون الغزو الثقافى، ويحاربون الإسلام وأمته.. إن إذاعة لندن نعت للعالم العربى الكاتب الكبير، ونوهت بآثاره الأدبية، ووعدت بذكر المزيد من مآثره وأياديه البيضاء!! ص _084(3/81)
وستتبعها إذاعات شتى من عواصم الشرق والغرب تحاول أن تعلى خسيسة الكاتب الكاره للإسلام والعروبة، وأن تجعله من قادة الفكر المرموق! ألم يؤلف كتابه الخسيس: "محمد.. خذ حقيبتك وارحل "؟!! ماذا يريد المبشرون والمستشرقون أكثر من ذلك؟! وعندما يأخذ محمد ما جاء به ويذهب عن أرضه فمن يرثها...؟! إن المسيح لن يرثها لأن موسى وعيسى اخوة لمحمد ولو كانوا أحياء ما زادوا عن أن بلغوا رسالته وأكدوا دعوته! إن الإلحاد هو الوارث الفذ لتراث الأنبياء كلهم ملخصا فى حقيبة التى لا تحتوى إلا الوحى الحق كما تنزل على المرسلين أجمعين. إن " كاتب ياسين " وأشباهه من سماسرة الاستعمار الثقافى يجب أن نكشف خباياهم، وأن نفضح حقائقهم حتى لا يمضى الاستعمار العالمى فى خطته الآثمة ضد الإسلام وأمته.. إننى أعرف أن ألقابا معينة تقرن بأسماء عدد من مروجى الثقافة الأوروبية المسمومة، ومعها محاولات ملحة لفرض هؤلاء الخونة على أدبنا وفكرنا، وأرى أنه قد آن الآوان لمنابذة هؤلاء الخائنين والتحذير منهم أحياء وأمواتا.. إنهم كما جاء فى الحديث من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ولكنهم دعاة على أبواب جهنم، من استجاب إليهم قذفوه فيها! فليذهبوا إليها وحدهم. ص _085(3/82)
الأنظمة التى تحارب الله ورسوله.. سياسة تمويت الإسلام تمضى إلى غايته دون ضجيج! فرئيس وزراء تركيا يصرخ من إذاعة شاكيا اضهاد البلغار لقومه! لقد هرب خلال الأسبوعين الأخيرين فقط عشرون ألف تركى، مخلفين أرضهم ودورهم طالبين النجاة بأنفسهم! ممن يهربون؟ إن بلغاريا قررت إرغام المسلمين على ترك عقائدهم وتغيير أسمائهم وأسماء آبائهم حتى الجد السابع، فلا يبقى هناك شىء يدل على إسلام فى الحاضر أو فى الماضى.. إن الاحتلال التركى القديم جعل هؤلاء مسلمين، وقد زال فليزولوا معه!! ولما كانت تركيا قد تحولت رسميا إلى العلمانية، فقد صورت النزاع خصومة بين قوميتين وبهذه السياسة يطحن أكثر من مليونى مسلم فى صمت، ويستمر الارتداد الجماعى وسط ضحك الأعداء. وتابعت استنكار الولايات المتحدة لقمع التظاهرات الطلابية فى الصين، وبكاء زعمائها على حقوق الإنسان وطيش الحكام الشيوعيين فى مطاردة الأحرار! هذا شىء حسن، هو غيرة مشكورة على الحريات المهدرة والدماء المسفوحة لكن ذلك وقع بعد ساعات من اعتراضها على مجلس الأمن وهو يلوم إسرائيل على ذبح الفلسطينيين، واستباحة كل حق، وهدم الدور وتشريد سكانها..!! ما الفرق؟! ولم السكوت هنا والصياح هناك؟! لا ريب أن الدعم العربى أخف وزنا وأحقر شأنا! والبعثيون العرب فى سوريا علمانيون، وما سمع عنهم أحد حنينا إلى الإسلام، وهم إذا انتصروا فى لبنان فسوف يقيمون حكما عربيا بحتا! ولكن هناك سياسة أخرى يراها العالم أولى بالمؤازرة والتأييد هى تمكين الموارنة من ناحية السلطة لأنهم يرنون بأبصارهم إلى أوروبا، ويحلون الفرنسية مكان العربية، والأحد مكان الجمعة، إن الحياد بين الأديان هنا جريمة وطنية وحركة رجعية..!! ص _086(3/83)
والواجب هو سحق الحركات العربية، وإخراج الجيوش الأجنبية من أرض لبنان.. وكان " حبيب بورقيبة " من سماسرة الاستعمار الثقافى فى المغرب العربى، بيد أنه كان أشد صفاقة من زملائه المشارقة، ما عرف طريقا إلى مسجد! ولا اكترث بحرمة لرمضان، بل كان يدعو إلى إفطاره علانية مخافة أن يتعطل الإنتاج فى المصانع الذرية التى أقامها بتونس لزيت الزيتون، والجنون فنون! ونشأ عن هذا المسلك قيام جماعات شعبية كبيرة تريد توفير الاحترام لدينها، والحكم به! وما العجب فى ذلك؟! وأطاح القدر بالرجل الماجن، وحل مكانه رئيس عاقل أملنا فيه الخير، ولا نزال! وقد بلغتنا من تونس أنباء مريبة ترددنا فى تصديقها، ونرجو أن تكون كاذبة، فقد قيل: إن هناك سياسة لجعل الفرنسية اللغة الأولى! ولإضعاف الثقافة الإسلامية، ومنع الكتب والصحف المشرقية من دخول البلاد، حتى تجف منابع الدين واللغة بين الأجيال الجديدة!! نحن نعرف ما تبيته الصليبية العالمية لحاضرنا ومستقبلنا، ونعرف المسارب الخفية التى تسلكها لبلوغ أهدافها، وإذا كانت السنوات العجاف قد آذتنا، فإن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها، ولا يجوز أن نرخص مواريثنا لمحنة عارضة، أو سراب خداع. ص _087(3/84)
الارتداد.. والخيانة العظمى قال لى صحفى أمريكى: ما الخط الفاصل بين الحرية الدينية أو حرية الارتداد كما نفهمها، وبين حماية الدعوة أو الدولة أو الجماعة الإسلامية كما تذكر؟ قلت: إنكم تعرفون هذا الخط جيدا فى حياتكم الديمقراطية، فقد حكمتم بالقتل صعقا على الكرسى الكهربائى على بعض علماء الذرة الذين كشفوا أسرارها لخصوم أمريكا، عددتموهم خونة، ولم تشفع لهم ضمانات الحرية فى النظام الديمقراطى!. وكسر الاحتكار الذرى هو المخرج الوحيد من حرب الإبادة التى يقدر عليها مالك القنبلة الذرية ، إن الولايات المتحدة قهرت اليابان واحتلت أرضها بعدما دمرت لها مدينتين وأهلكت نحو مليون نفس.. فإذا رأى بعض علماء الذرة إشاعة السلاح النووى فإن استعماله سيبطل مخافة الثأر المنتظر، أى أن الرعب النووى سيوقف الحرب الذرية! ولكن القضاء الأمريكى اعتبر هذا المنطق خيانة أو ارتدادا وقرر قتل العالم الذى أفشى السر! كان يريد أن يحتكر هذا السلاح لنفسه حتى يملى على الدنيا إرادته.. والذى يحدث الآن فى العالم الإسلامى أبعد شىء عن الحريات كلها، إن الخطة موضوعة لتحويله عن الإسلام طوعا أو كرها.. وعندما قسمت أفريقيا إلى أكثر من خمسين دولة روعى فى التقسيم الماكر أن توضع أقطار مسلمة بين أخرى وثنية تساويها عددا أو تفوقها ثم تتولى إدارة هذا الكيان قلة صنعها التبشير الغربى فإذا المسلمون فى الجهاز الإدارى صفر، ربما كان منهم الكناسون والبوابون..! وإذا الجهاز التعليمى يخضع لنفر من الكرادلة المدربين المتخصصين فى تجهيل المسلمين أو تنصيرهم. ص _088(3/85)
أما الاقتصاد فقد قام على دحرجة الفلاحين المسلمين من الأرض الخصبة إلى الأرض الجدبة، وعلى جعل الحرف والصناعات فى أيدى الآخرين.. وعندما تعجز السياسة المدنية تظهر القوة العسكرية لقهر المسلمين على الخضوع، فإما بادوا- كما حدث فى زنجبار- أو خضعوا للمؤامرات التبشيرية المحكمة.. ولا بأس أن يقع ذلك كله فى إطار ديمقراطى متقدم تباركه الدول الكبرى وتتعامل معه باحترام.. وعلى هذا المحور دارت سياسة الارتداد عن الإسلام فى وسط أفريقيا وأطرافها، وفى جنوب آسيا خصوصا أندونيسيا والفلبين..!! فهل مطلوب من علماء الإسلام أن يقروا هذه السياسات الجائرة الماكرة وأن يرفضوا آثارها باسم الحرية؟ أين هذه الحرية المزعومة؟! وهناك محاولات خبيثة لفصل جنوب السودان عن شماله، وذلك لإقامة دولة صليبية به! ومسلمو الجنوب يساوون فى العدد نصاراه، لكن الخطة موضوعة لتذويبهم فى صمت، وعدم الاعتراف بوجودهم وحقوقهم! فإذا قامت هذه الدويلة ومن ورائها الاستعمار العالمى فستخمد أنفاس الوثنية والإسلام معا خلال عشر سنين، وستختنق الجماعات الإسلامية المبعثرة فى ست دول لا حول لها ولا طول وسيتم الفصل بين أفريقيا السوداء، وبين أفريقيا العربية المسلمة فى الشمال وسوف يستسلم المكافحون فى صمت وسط القارة لمصيرهم الكالح.. وقد نجحت حرب الإحصاءات المزورة فى حجب أعداء المسلمين الحقيقية هنا وهناك، وأعانت على ذلك صيحات العلمانية والقومية التى يدفع الإسلام وحده ثمنها!! فى أيام السلام لا نواجه منافسة عادلة، وفى أيام الخصام نواجه الضغائن والمطاعن والمهالك فأين هى حرية التدين؟!! لقد تحرك حلف الأطلسى كله لحماية شخص نال من نبى الإسلام، ولم يكتف بذلك بل ضم إليه السيد "جورباتشوف " بعدما ضم إليه من قبل وثنيات آسيا وتلك هى الحرية المنشودة. ص _089(3/86)
العرب الذاهلون!! نشرت الصحف ما قاله حاخام " إسرائيل " الأكبر عن عرب فلسطين! لقد أكد ضرورة طردهم جميعا، ثم أردف تصريحه بكلمة أخرى: إن كل إسرائيلى يعترف بأن للعرب حقوقا مشروعة فى أرض إسرائيل فهو خائن يجب على المجتمع اليهودى أن ينبذه! وشرح الحاخام الأكبر ما يعنيه من الناحية الدينية قائلا: " إن لليهود حقوقا كاملة على أرض إسرائيل، ولا مكان- من ناحية الشريعة- للحديث عن حقوق وطنية أو أية حقوق أخرى للعرب الفلسطينيين.. "! ثم يورد نصا من التوراة يقول: " من جاء لقتلك فقم واقتله "! ومضى فى حديثه يوصى شعب إسرائيل بالإجهاز على شباب الانتفاضة: ".. إننى أوصى بطرد هؤلاء الذين يخوضون حربا بالحجارة والزجاجات الحارقة ضدنا، أدعو إلى طردهم جميعا خارج أرض إسرائيل، الأطفال والنساء والشيوخ.. "!. والواقع أن الحاخام الأكبر كان مترفقا فى كلامه، ولم يذكر النصوص الحقيقية لطبيعة الحرب التى يشنها اليهود على عدوهم، فإن هذه النصوص توصى بالإبادة العامة للكبار والصغار والرجال والنساء والزرع والضرع، فلا يبقى أثر لحياة بين المهزومين من خصوم إسرائيل، لابد أن يحصدهم الفناء فلا يبقى لهم عينا ولا أثرا، هكذا قال رب الجنود، رب إسرائيل.!! وقد قرأت هذه النصوص من العهد القديم لطلابى فى كلية الشريعة بمكة المكرمة بيد أن عرب اليوم تائهون، ويبدو أنهم لن يستفيقوا إلا على مصارعهم! إن إسرائيل تمثل تجسيدا حيا للحقد على الناس كافة وعلى العرب خاصة، ولن يرضى ضميرها الأسود إلا إذا قدمت غير اليهود قرابين لربها المتعطش إلى سفك الدماء... والنصوص الموحية بذلك قائمة بين أيدى القوم ولكن العرب لا يقرءون! ص _090(3/87)
وإذا كان الحقد اليهودى سافرا فى صحائفه "المقدسة" فإن هناك حقدا آخر وضع على وجهه نقابا سميكا أو نقابا خادعا.. لقد روى الجبرتى كيف نثرت جثث بضعة عشر شابا من علماء الأزهر، حول القلعة، عندما احتل الفرنسيون القاهرة، يقودهم ابن الثورة البكر "نابليون بونابرت" وكيف اقتحم الجامع الأزهر، وربطت الخيل فى أعمدته، وعاث الجنود فسادا فى صحنه.. وكيف ظلت النار تشتعل أربعة أسابيع فى امبابة حتى أتت عليها، وأخمدت ثورتها التى كانت امتدادا لثورة القاهرة كلها على جيش الحرية والإخاء والمساواة..! أما الألوف المؤلفة من الجزائريين الذين جدلتهم الثورة الكبرى، والذين بلغوا فى آخر انتفاضة لهم مليونا ونصف من الشهداء فحدث ولا حرج! بل إن طبيعة الثوار انكشفت فى معاملة بعضهم للبعض الآخر فقد حكم بالإعدام على بضعة عشر ألف متهم، سيقوا إلى المقصلة لتفصل رءوسهم عن أجسامهم مما دعا " السيدة تاتشر " رئيس الحكومة الإنجليزية إلى وصفها بأنها ثورة الرعب والدم! أما العرب المعاصرون فيقولون ثورة النور فى عاصمة النور! ألم أقل لكم إن العرب لا يقرءون؟! إن علم التاريخ واحد من العلوم الخطيرة التى ظلمت فى ثقافتنا والتى انكمشت مساحتها فى وعينا حتى صرنا لا نعرف أنفسنا ولا نعرف غيرنا، ومن ثغرات هذا الجهل تتسرب المهالك والعطوب. ص _091(3/88)
هكذا يعمل خصومنا... مع شعورنا بصدق الحديث الشريف: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"! ومع ما بلوناه من عواقب الاسترخاء فى تنفيذ قوله تعالى : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) مع ذلك كله فإن المسلمين بقوا أحزابا متخاصمة على حين يتجه من عداهم إلى التقارب والاندماج!! حدث نزاع بين الفاتيكان وبعض الأساقفة فى لغة العبادة: هل تكون اللاتينية أم اللغة المحلية؟ وبدأ النزاع حادا وسرعان ما تدخل البابا مصرحا بأن وحدة الكنيسة لا تمس، وقال: أننا ندعو الجميع للبقاء داخل الدار الأبوية- يعنى المسيحية الجامعة- ثم قال: هناك دارات خاصة كثيرة- لشتى المذاهب- لكن هذه الدارات فى نطاق البيت الكبير، بيت الله، الذى هو كنيسة المسيح فى العالم! وذهب البابا إلى ما هو أبعد من ذلك فى توثيق العلاقات بين المذاهب النصرانية المتضاربة التى كانت إلى أمد قريب يكفر بعضها بعضا، فأمست الآن وحدة متماسكة يصلى هؤلاء وراء أولئك دون نكير! لم يحدث ذوبان يمحو الفوارق القائمة، وإنما حدث تسامح يوحى بالإغضاء والتجاوز لمصلحة الوحدة الجامعة والقيم المشتركة ( لوموند 30/6/1988 ). وخطا "بابا الفاتيكان" خطوة أخرى فى أثناء زيارته الأخيرة للنمسا فعقد اجتماعا فى مدينة "زالتبورغ" فى كنيسة المسيح حضره مندوبو 13 كنيسة تمثل المذاهب الكبرى- الكاثوليكية والبروتسنتية والأرثوذكسية- كما تمثل الفروع المهمة المتشعبة عنها، وفى هذا الاجتماع استبعدت الخصومات المذهبية واستنكر ما وقع منها فى الماضى.. ص _092(3/89)
ووقع شىء آخر عميق الدلالة بعيد الآماد، فإن البابا زار المعبد اليهودى بروما منهيا مرحلة الجفوة بين اليهودية والنصرانية ومنوها بالتراث المشترك بين اليهود والنصارى (!) وقائلا: " إن اليهود والنصارى أمامهم أولا أن يضعوا معا مستقبلا جديدا للإنسان "!! ونسأل نحن: ما صورة هذا المستقبل؟ إن اليهود مصرون على مطاردة العرب، وإقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى! هل سيقف الفاتيكان أمام رغبتهم أم يسارع فى هواهم؟ لكنى أعود إلى نفسى ألومها على توجيه هذا السؤال! إن التساؤل الحقيقى يقع داخل البيت الإسلامى الكبير الذى تندلع نيران الخلاف فى جنباته، وترى ألسنتها من نوافذه.. إن المسلمين ينتحرون! هل العقل الدينى عندنا أصيب بخبل؟ أم غلب عليه الهوى فهو لا يدرى: ما الطريق؟! العراك على أشده بين مؤيدى " على " وأبنائه من ناحية وبين جمهرة المسلمين من ناحية أخرى بعدما استخرجت القضية من مقابر التاريخ! والعراك على أشده كذلك بين دعاة السلفية وأتباع أبى الحسن الأشعرى!! شاهت الوجوه!! أما توقظنا الهزائم الموجعة المتتابعة؟؟ ص _093(3/90)
ادرسو الثغور التى نهاجم منها... الميدان الذى نجاهد فيه- كى يسلم لنا ديننا وتراثنا- واسع جدا.. إنه ذاهب فى الطول والعرض حتى ليشمل الحياة كلها، ففى كل شبر مظنة هجوم إن لم نكن أيقاظا له أخذنا من قبله...! هذا يقول: الإسلام دين لا دولة! وهذا يقول: الإسلام نظام أخلاقى عربى وليس نظاما اجتماعيا عالميا! وهذا يقول: النصوص يجب إلغاؤها عند معارضتها للمصلحة العامة- أو الخاصة- وهذا يقول: ما صلح قديما لا يصلح للعصر الحاضر! والغريب أن النغمة التى تسمعها فى غرب إفريقيا هى هى التى تسمعها فى شرق آسيا، أهو تشابه فكر؟! كلا بل هى وحدة المصدر الذى تهب منه رياح الفتنة! ويجيىء منه الخطر على الإسلام وأهله! وسمعت فى إذاعة عالمية كبيرة أن السودان مهدد بثلاثة أخطار: الفيضان، والجراد، والأصوليين الإسلاميين! أى دعاة الحكم بما أنزل الله، وإحياء النصوص التى أماتها الاستعمار العسكرى ويريد الغزو الثقافى أن يهيل التراب فوقها حتى لا يسمع بها أحد! ثم ينطلق من قبل ومن بعد دعاة العلمانية الذى يختلون العامة والخاصة عن مبادئهم ومواريثهم فى الجامعات والمجامع والمجلات والكتب وبرامج الإذاعة وأنواع الفنون. فلا يكاد أهل الحق ينجون من شرك حتى يلتف على أقدامهم شرك آخر! إن ميدان الكفاح لاستنقاذ الإسلام وصون رسالته أضحى لا حدود له. ص _094(3/91)
وقد استيقنت من أمر أريد شد الانتباه إليه. إن تصور هذه المعركة الشرسة دون قيادة ماكرة وخطط مرسومة ضرب من الغفلة. إن أعداء الإسلام يعرفون ما يريدون ويسيرون إليه بتؤدة وحزم.. لست أخاف حرب المواجهة وإنما أخاف حرب الاحتيال والاغتيال.. فى ساحة العلم المجرد يجيىء جاسوس يعمل لأعداء أخفياء، فيقول عن ديننا كلاما ما يستطيع أولئك الأخفياء أن يرددوه! وذلك تحت عنوان البحث العلمى! والجاسوسية فى العصر الحديث جندت أسماء لامعة، وكبراء لهم وزن، وقادة ذوى مناصب، وصحافيين مرموقين.. هؤلاء وأولئك يمكرون بأمتنا المسترسلة ويدسودن لهم السم فى الدسم وينحرفون بها عن الصراط المستقيم خطوة خطوة، ويصبحون ويمسون وهم يختلونها عن عقائدها وشرائعها.. فلنأخذ حذرنا من جاسوسية العلم والإعلام (إنهم يكيدون كيدا * و أكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا). لقد انتهت حرب السيف والرمح، وانتهت معها حرب السب الصريح للرسالة الخاتمة وبدأت حرب أخرى تقوم على الخديعة والمداهنة والتزوير والدوران فلنعرف كيف نقف. ص _095(3/92)
تجارب نستفيدها لو صح الوعى دخول جزيرة العرب كلها فى الإسلام جاء بعد جهود يعجز القادة العاديون عنها. وما كان ليقدر عليها أحد غير محمد عليه الصلاة والسلام، جنوب الجزيرة وشمالها استعصيا قديما على دعوات الرسل لا عن قصور فى البلاغ ولكن عن رسوخ فى الضلال، ومن هنا بادت ديار " عاد "، وخربت أرض " سبأ " وهلكت "ثمود ومدين " وقرى " المؤتفكة "، ونزل العقاب الإلهى بالجنوب والشمال على سواء... ثم جاء إبراهيم وإسماعيل إلى مكة، وبنيا الكعبة المشرفة لتكون حصنا للتوحيد، غير أن الأوثان سرعان ما أحاطت بها، وغرقت الجزيرة كلها فى الظلام.. وهربت قبائل يهودية إلى الحجاز، وإلى اليمن فماذا صنعت؟ علمت الناس الربا والغدر والأثرة! وانعقد صلح خسيس بين اليهودية والوثنية! ودخلت النصرانية الأراضى العربية مع الاستعمار الرومانى والامتداد الحبشى، فاشتد عود الشرك صلابة وزادت الفطرة الإنسانية عوجا. وبقى العرب غرقى فى تلك الظلمات حتى طلع الشروق المحمدى، فإذا كل ما فشلت فيه الرسالات الأولى يتحقق، إذا عقيدة التوحيد تتحول إلى فيضان غامر يغسل الأرض من الوثنيات الدينية والاجتماعية على نحو لم يعرف من بدء الخلق.. ولسنا نقول! إن محمدا عليه الصلاة والسلام نقل العرب فقط من الجاهلية إلى الإسلام فنجح حيث عجز غيره، لا.. الأمر أكبر من ذلك! لقد أدخل فى قلوب العرب مقادير من الإيمان تكفى لهداية سائر العالم أى لإخراج الناس كلهم من الظلمات إلى النور.. ومن هنا كان الجهد لإنشاء أئمة لا لمجرد إحياء أمة! كان الجهد لتكوين أطباء لا لشفاء مرضى وحسب. وكان هذا الشعور يخامرنى وأنا أسمع الأذان فى تاريخ الدنيا من سابق إلى لاحق.. ص _096(3/93)
على أن العرب كثيرا ما هبطوا عن المستوى المرسوم لهم، فكانت القلة الراشدة تهذب الكثرة الفاسدة، وتعود بها إلى الطريق.. حدث ذلك بعد سقوط دولة الوثنية، وتطهير مكة من الأصنام فقد استخفت الوثنية فى جحور خفية وحاولت بالأيمان الكاذبة والنيات المغشوشة والغدر المبيت أن تعرض الصباح الطالع، فنزلت سورة براءة تخير المجرمين بين التوبة وبين ترك الجزيرة لعقيدة التوحيد، وأمهلتهم أربعة شهور. وحاول المرتدون أن يردوا الظلام بعد ذهاب ليله، فقاتلهم أبو بكر حتى أخمد أنفاسهم وتحولت الجزيرة كلها دولة وأمة- إلى التوقر على البلاغ المبين.. وبدأت حضارة جديدة ترث الأرض، وتعلى قدر الإنسان، وتحيى تعاليم السماء، وتجعل الناس أنصار الله لا عبيد لأهوائهم. فهل ظل العرب أوفياء لميراث محمد؟ حملة لرسالاته، وجسورا لهداياته؟ هل أمسوا شهداء على الناس كما كان الرسول شاهدا عليهم؟ هذا سؤال نتريث فى الإجابة عليه " ص _097(3/94)
تجارب نستفيدها لو صغ الوعى قال لى باحث حائر: أحيانا أشعر بأن نظام الشورى والشعبية المفرطة التى صاحبت فى ولة الخلافة الراشدة كانت إصلاحأ سابقا لعصره! قلت له: ماذا تعنى؟ قال: إن العرب لم يقدروا هذا الكسب الرائع الذى انفردت بة أرضهم، ولم يحسنوا الدفاع عنه، فجاءت مصارع الخلفاء الثلاثة على نحو قضى على أشرف حكم فى الدنيا يوم إذ! فأجبت: إن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا يمثلون أبوة دينية ودنيوية للأمة جمعاء، كانوا أساتذة يعلمون، وأئمة يصلون، وساسة يحكمون، وأسوة حسنة يذكرون الناس برسول الله وهم يمشون فى سناه ويقتفون آثاره! من الخطأ حسبانهم حكاما وحسب. وقد أدوا واجبهم على النحو الأكمل فى استقبال القرآن وتوريثه للأجيال من بعدهم إلى قيام الساعة! كما إستبقؤا الإسلام عقيدة وشريعة وتبيانا لكل شىء.. وهناك أمر يجب إبرازه، فقد اصطبغوا بالإسلام ظاهرا وباطنا وهم يقضون على الاستعمار العالمى ويدفنون القيصرية والكسروية ويهدمون السجون التى عاشت داخلها الجماهير العانية. إن فى ولة الخلافة حمت العالم أجمع من إفك كثير وضلال كبير.. قال: فهل يكون القتل نصيب عمر وعثمان وعلى قادة المسلمين بعد أبى بكر؟ أهذا جزاؤهم؟! قلت: لا أرتاب فى أن هناك خطأ وقع من جمهور العرب فى حماية رجالهم! لقد زحف على المدينة كثير من الناس من أذناب القوى المهزومة ومن أتباع الوثنيات المدبرة ومن الحاقدين على زوال المستعمرات اليهودية بالحجاز.. ص _098(3/95)
لقد تأمر أولئك جميعا على ضرب الدولة الجديدة، واستغلال سذاجة العرب للنيل من قادة الدين الجديد، أو بتعبير آخر، من رؤساء الأمة التى خلقها الإسلام.. كان أولئك الخلفاء الذين غيروا وجه العالم يمشون فى الطريق، ويرتادون المساجد، ويغشون الأسواق، ليس مع أحدهم حارس! والغريب أن عمر لما قتل حسبت قضيته عدوانا شخصيا من أحد المجرمين.. ثم كان مقتل عثمان بعده مثيرا للدهشة، فقد حاصر الرعاع داره كأن ليس بعاصمة الإسلام رجال شرطة يحفظون الأمن ويحرسون الحاكم! وانتهت الصفحة الدامية بمقتل على، وظاهر أن المأساة الكبيرة تمت وفى خطة موضوعة، ونفذت بدهاء لم يألفه فرسان الصحراء الذين لا يعرفون الحرب إلا فى وضح النهار. لقد هززت رأسى منكرا، وأنا أقرأ أن الجن قتلوا سعد بن عبادة، وقلت: متى اشتغلت الجن بالاغتيالات السياسية؟! إن مقتل الرجل كان تدبيرا لفتنة تقع بين الأنصار والمهاجرين! فتنة حاكها أعداء الإسلام، فلما فشلت، اتجهوا إلى الرأس الكبير إلى عمر نفسه! إننى أحذر العرب اليوم من مؤامرات أعدائهم الذين يبغون استئصال شأفتهم، إنها مؤامرات هائلة فهل يصحون؟ * * * * ص _099(3/96)
رمتنى بدائها..! كنت أستمع إلى إحدى الإذاعات العالمية، فاستوقفنى تصريح لبابا الفاتيكان يلوم فيه السودان على موقفه من القلة النصرانية فى الجنوب، ويتهم الكثرة المسلمة بأنها تفتات على مخالفيها وتفرض عليهم ما يكرهون! وقد استغربت هذا التصريح لأن مسلمى السودان ما فكروا قط فى مصادرة شعائر الآخرين أو خنق حرية العبادة أو التفرقة فى الحقوق والواجبات بين أتباع الأديان المختلفة! ولو أنهم فعلوا شيئا من ذلك لتصديت لهم، ولأيدت من يلومهم، إنصافا لدينى وإحقاقا للحق، لكن الواقع غير ذلك فإن الذين شقوا عصا الطاعة فى جنوب السودان ظاهرتهم الشيوعية وأمدتهم بكل سلاح وتسترت على جرائمهم! وسمعناهم نحن وهم يطلبون من السلطات الحاكمة أن تترك الإسلام، وتهجر تعاليمه وتعلن حكما علمانيا لا علاقة له بدين! وبديه أن يرفض المسلمون هذا الطلب، ووضع الأديان فى الجنوب معروف فعشر السكان فى أرجائه مسيحيون والعشر الثانى مسلمون، والبقية وثنية، فبأى حق يريد الأقليون أن يجعلوا الحكم علمانيا مبتوت العلاقة بالإسلام؟! وماذا يضيرهم وقد استمتعوا بحريتهم الدينية كاملة أن يتمسك المسلمون بعقائدهم وشرائعهم؟ وأن يصطبغوا بها شعبيا ورسميا؟ هل يوصف هذا الموقف بأنه عدوان على الغير يستحق اللوم؟! لقد قرأت بدقة الخطاب اللبق الذى ألقاه سيد الفاتيكان فى المغرب بين عشرين ألف طالب وطالبة جمعوا له- وهم جميعا مسلمون- لقد جاء فى هذا الخطاب: " إن الصراحة تقتضى أن نعترف بتبايناتنا وأن نحترمها، وأن أهم هذه التباينات هى نظرتنا إلى شخص سيدنا يسوع الناصرى وعمله، إنكم تعلمون أن سيدنا يسوع ص _100(3/97)
المسيح فى اعتقادنا هو الذى يدخل المسيحيين فى معرفة حميمة للذات الإلهية تفوق كل إدراك بشرى.. ثم يقول: " لذلك يشهدون ويقرون بأنه هو الرب المخلص ". ويقول: "إنها لتباينات من الأهمية بمكان يمكن قبولها بتواضع واحترام وبروح التسامح المتبادل". ونقول نحن: إن المسلمين منذ ظهور الإسلام وملكوا باسمه السلطة تركوا من شاء يعتقد ما شاء، وقد رفض عمر بن الخطاب أن يصلى فى الكنيسة حتى تبقى ملكا لأهلها يقيمون فيها وحدهم شعائرهم، وحتى لا يجىء مسلم فيقول: هنا صلى عمر، فلنصل مثله! وكنا نريد من سيد الفاتيكان- وقد دعا إلى احترام التباينات بين الأديان- أن يدع مسلمى السودان يتمسكون بكتابهم وينفذون أحكامه! وأن يقول للثائرين فى الجنوب وهم قلة ضئيلة: ألقوا السلاح وامرحوا فى بحبوحة الحرية المتاحة لكم فهى خير من حكم شيوعى...! ص _101(3/98)
اليهود مع التوراة فهل العرب مع القرآن؟ إذا استوحش أهل الحق ومشوا على الأرض يشعرون بالعزلة والكآبة فهم معذورون، إن المتأمل المتعمق فى أحوال الناس يشعر بأن الجمهرة الكبرى من الخلق تسيرهم الأوهام أو الأهواء، وأن وراثات غبية، وتقاليد طائشة ومآرب عاجلة، وغرائز جامحة هى التى تمسك بالزمام وتنطلق إلى غاياتها دون دليل راشد، حتى ليقول الرجل المخلص فى أسى: إن قول الحق لم يدع لى صديقا.! ورميت ببصرى بعيدا عن بيئتى فماذا وجدت؟ هناك أكثر من مليار وثنى يطوفون حول أصنامهم وأكثر من مليار شيوعى ينكرون الحقيقة الأولى فى العالم، أعنى وجود الله! أى أن برامج التعليم والإعلام فى دنيا الناس تشرف على تأسيس الكفر وتأييد الظلمة فى الشرق والغرب.. وذلك فى نصف العالم.. أما أهل الكتاب من يهود ونصارى ومسلمين فإن أعدادا غفيرة منهم ينطبق عليهم قوله تعالى : (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). وذلكم بين بقية المليارات الخمسة التى تسكن أرضنا! فبم نصف الناس؟ وبم نحكم عليهم؟ ما أصدق قوله تعالى : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون). لا أريد الحديث عن العقائد مع أنها لباب الحياة ومناط النجاة، وإنما أتعرض للأعمال العامة التى يتصور البعض أن العقل قد ينفرد بفهمها والحكم فيها. إن الناس فى هذا الميدان الثانوى يقترفون الخطايا ببرود، ويرتكبون الدنايا بكبرياء، ويجتاحون المستضعفين دون حرج.. ص _102(3/99)
شاهدت صورة رئيس الولايات المتحدة يراقص رئيسة وزراء إنجلترا فى حفل ساهر بهيج! ثم سمعت تصريحات أولئك الساسة الكبار، قبل الحفل وبعده، عن قضية فلسطين. فمن قائل إنهم لم يعترفوا صراحة بحق إسرائيل فى الحياة! ومن قائل إنهم لم يقرروا ترك العنف! ومن قائل إن طلب نصف فلسطين شىء سابق لأوانه! الخ. أما فى الجبهة العربية فالصيحة المعلنة أن الدولة المقترحة علمانية يستوى فيها الهلال والصليب والكفر بالهلال والصليب معا! ثم رأيت علامة النصر الإنجليزية التى كان يرفعها "تشرشل" ضد النازى! ثم انشقت الحناجر بنشيد العودة إلى الوطن السليب.. مساكين أولئك العرب اليتامى! إنهم لم يعرفوا ولا يريدون أن يعرفوا أباهم الحقيقى الذى يناشدهم العودة إلى أحضانه! أما بنو إسرائيل فهم يرددون أن إبراهيم أعطى يعقوب هذه الأرض المقدسة، وهم وحدهم ورثتها. كأن الله بعث رسله إقطاعيين ينهبون الأراضى ويورثونها ذراريهم على امتداد القرون! إن الحق مستوحش أعزل فمن يؤنس وحشته؟ لست أدرى لماذا يبعد الإسلام عن قضية فلسطين ويبقى غيره؟ ص _103(3/100)
فن الإدارة من الأعمال الصالحة! قال لى خبير إقتصادى: إن الإدارة الحسنة ركن ركين فى إطراد التنمية ووفرة الإنتاج ! وإلى حسن الإدارة يرجع تفوق الحضارة الحديثة علينا فى ميادين الزراعة والصناعة والتجارة، إن هؤلاء الخواجات يستغلون الأوقات كلها فلا يضيعون لحظة، ويستغلون المواهب كلها فلا يغمطون ذكاء، ويحسنون التنسيق والترتيب والجمع بين المتجانسين وإتاحة المجال لذوى الأمزجة المتفردة فلا مكان للتنافر والتشاكى والتحاسد! ومن هنا استخرجوا المعادن من بطون الثرى وحولوها إلى طاقات وآلات تزحم البر والجو. وفى الحقول والحدائق حيث ورثنا الحرف الفلاحية من قديم سبقونا سبقا بعيدا فاستصلحوا الأرض السبخة وجعلوها تجود بالخيرات قناطيرة مقنطر، وبقينا نحن راضيين بالنزر اليسير. قلت: هذا حق! وما ينكر منصف التفوق الإدارى لدى خصومنا فى شئونهم المدنية والعسكرية، ولكن لتخلفنا أسبابا ينبغي أن تعرف فليس الداء عياء.. إن النجاح الإدارى تكمن وراءه خصلتان سهلتان فكر واسع، وحماس كامن، وكلتا الخصلتين وليد شرعى للعقيدة المتأصلة التى تجعل صاحبها يواجه الحياة مقبلا غير مدبر مقتحما لا يعرف الجبن والعجز.. ويعلم الله أن العقيدة الإسلامية عندما تتصل بالنفس البشرية تهب لصاحبها الأمرين جميعا: سعة الفكر وشدة العزم. وأسلافنا الأولون ما شانهم غباء أو تبلد، وما أزرى بهم عجز ولا قصور! كيف؟ واليقين عندهم وليد عقل متألق جواب بالآفاق فتاح للإغلاق، ثم هو- إلى جانب ص _104(3/101)
الفكر الذكى- حماس يسيح فى البر والبحر لا تنطفىء له شعلة، ولا ينكسر أمام عقبة.. أما اليوم فللإيمان منطق عجب، قارىء للقرآن لا يعى منه حرفا فهو أحد الذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا، أو مصل يقف فى الصف لا يدرى أمام من يقف؟! قيل لواحد من هؤلاء: متى تسوى حسابات دكانك؟ قال: فى أثناء الصلاة!! وهو فى الدكان نصف نائم، لا تكتمل يقظته إلا إذا شم رائحة طمع، أو خداع مسترسل، عندئذ يثب كالوحش على الفريسة!!. أو مدير عمل يرى الإدارة استكمال وجاهة وإشباع غرور، وإصدار أوامر واستقبال مداحين!! إن كل إيمان لا يحرك العقل، ولا يوسع الآفاق لا خير فيه.. وإن كل إيمان لا يشعل المشاعر ويزرع البواعث ويفيد الإقدام لا خير فيه.. وليس غريبا أن ينهزم ذلك الإيمان أمام عقائد أخرى أورثت أصحابها سعة المعرفة وسعة النشاط، بل ليس غريبا أن ينهزم ذلك الإيمان أمام الفراغ النفسى الذى يسود الآن بين أمم ومذاهب سبقتنا فى أرجاء الدنيا لأنها أوسع منا خطى... ص _105(3/102)
الكفر ملة واحدة، فهل المؤمنون صف واحد؟ غطتنى لجة من الفكر العميق بعد ما سمعت خطاب " جورباتشوف " فى هيئة الأمم يدعو إلى السلام ويعلن عزم بلاده على تقليص أسلحتها فى أوروبا وآسيا ويطلب إبطال الحروب الكيماوية.. الخ. قلت فى نفسي: إن مستقبل الدين كله مربوط بمسالك أهله وقدرتهم على التسامى أو رغبتهم فى الإسفاف! إن أمر الدين يعلو ويمتد إذا التزم حملته الطهارة الاجتماعية والسياسية، وصانوا دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، أما إذا انطلقوا معربدين شرقا وغربا، فإذا الناس ستلقى أسماعها إلى أصحاب الفلسفات المادية الرافضة للوحى والملتصقة بتراب الأرض وحده!! إن القرآن الكريم استنكر بغضب سيرة ناس من أهل الكتاب الأولين يستحلون مخالفيهم فى العقيدة، ويلتهمون حقوقهم، ويحقرون عهودهم، لماذا؟ لأنهم لا يرعون إلا أنفسهم ومآربهم! (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). نعم إنها فتنة تطعن الدين فى صميمه أن يكون الملحد أنظف يدا وأدنى إلى الشرف من شخص يرتدى شارة الإيمان. إن " جورباتشوف " لا ينتمى إلى دين أو ينظر إلى المعركة الدائرة بين " أهل الكتب السماوية " كما يزعمون، أعنى معركة فلسطين فلا يزداد إلا بعدا عن السماء، ونشدانا للعدالة بعيدا عنها.. فالولايات المتحدة- المؤمنة- تشد أزر اليهود- المؤمنين- وهم يدوسون العرب ويخمدون أنفاسهم بكل وسيلة متاحة.. ص _106(3/103)
إن مستقبل الدين كله فى خطر- كما قلت- إذا كان يهود أمريكا ونصاراها ينساقون وراء شهواتهم بعمى طامس ويتحركون لإنقاذ حوتين حبسهما الجليد فى القطب الشمالى، ويجمدون كالحجارة أمام مصارع الصبية والعزل فى فلسطين! ليتهم كانوا جامدين! إن الولايات المتحدة اختارت أيام الحزن والحداد في الأرض المقدسة لتعلن استئناف إمداد اليهود بالقنابل العنقودية، حتى إذا أصيب مجاهد بشظية، تفجرت فى بدنه كله فأعجز الأطباء شفاؤه، ولا بأس أن يقال لليهود عند تسلم هذه المهلكات: لا تستعملوها ضد المدنيين! إن التدين المزيف حريص على استكمال مظاهر النفاق كلها.. هل ننتظر من الأجيال الناشئة أن تحترم دينا ما إذا كان المتدينون على هذا الغرار الهابط.. سيشق الإلحاد طريقه، وسيقول الكثيرون إن الدين عملة مزيفة تعتمد على رصيد كبير من الإفك والنفاق. أما الإسلام- وأنا أحد دعاته- فالبحث يجرى عنه فى المدائن والقرى، ويبدو أنه لا أمل اليوم فى العثور عليه إلا فى الصحف، فهو حبر على ورق. ص _107(3/104)
محور التنصير فى بلادنا... طالما شكوت من أن الهجوم على الإسلام منظم والدفاع عنه مرتجل! الهاجمون الجدد لهم قلب " بطرس الناسك " ومشاعره المشبوبة بيد أنهم أذكى منه عقلا وأوسع حيلة. فتمويت الإسلام فى هذا العصر تدرس له خطط، وتعقد له مؤتمرات، ويعرض بدقة حساب الأرباح والخسائر، ولا حرج من الاستعاضة بمشروع عن مشروع وبرجل عن رجل! وقد لاحظ ذلك الأستاذ محب الدين الخطيب عندما كتب أوائل القرن الماضى يقول: " وقف شيخ من دعاة النصرانية فى آخر مؤتمر عقده البروتستانت قبل الحرب العالمية الأولى يقود لزملائه الدعاة: " لقد جربت الدعوة إلى النصرانية فى أرجاء كثيرة من ديار الإسلام، وإن تجاربي تخولنى أن أعلن بينكم على رءوس الأشهاد أن الطريقة التى سرنا عليها إلى الآن لا توصل إلى الغاية المنشودة، فقد صرفنا من الوقت شيئا كثيرا وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألفنا كتبا ورسائل وخطبنا ما شاء الله أن نخطب ! ومع ذلك فنحن لم ننقل من الإسلام إلى النصرانية إلا عاشقا بنى دينه الجديد على أساس الهوى أو نصابا سافلا لم يكن داخلا فى دينه من قبل حتى نعده قد خرج منه! ولا محل لديننا فى قلبه حتى نقول: إنه دخل فيه، ومع ذلك فالذين تنصروا لو بيعوا بالمزاد لا يساوون ثمن أحذيتهم... الخ ". وقرر كبير الدعاة أن الخطة المثلى هى إفساد المسلمين على دينهم وتوهين الروابط التى تصلهم به وخلق أجيال فارغة من عقائد الإسلام وتعاليمه، وتشجيع حملة الأقلام الذين ينشرون الأدب الغث والمقالات الهابطة والذين يكتبون فى كل شىء إلا فى الإسلام وقضاياه ومطالبه.! وتبنى رجالا يزورون التاريخ ويجعلون أمتهم دون ماض تستند إليه أو تراث تعتمد عليه.. وتشجيع الإسلاميين المخرفين الذين تكمن فى دمائهم جراثيم البدع المفسدة ص _108(3/105)
والانقسامات الهادمة وتشجيع " المفكرين " الذين يلمزون الإسلام ويغمزون أصوله وفروعه...! ودفع العلمانيين من صدارة المجتمع، ووضع مقاليد الأمور فى أيديهم، وتدويخ المسلمين المخلصين وإقامة السدود فى وجوههم.. الخ. وظاهر أن الأسلوب الجديد هو الذى تقرر اتباعه، وإن لم يهجر الأسلوب الأول هجرا تاما.. ولعل أخطر شىء فى الحملة على الإسلام رفض الانتماء له محليا وعالميا، وقد راقبت باحتقار شديد الجهود التى تبذل لإبعاد الإسلام عن الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، مع أنه باعثها وموقد جذوتها، ومع أن اليهود يصرخون بالولاء لدينهم والانتماء إليه وصبغ أرض "الميعاد" بصبغته!! ص _109(3/106)
محنة أندونيسيا أمام هجمات التنصير.. نقلت مجلة " لواء الإسلام " عن وكالات الأنباء أن أسلوب التنصير العلنى فى أندونيسيا دخل فى طور لم يسبق له مثيل، فقد بلغ نفوذه إلى مكتب لتسجيل المواليد، زورت فيه ديانات الأطفال، وأثبتوا فى الدفاتر على أنهم نصارى لا مسلمون! وقع ذلك فى مكتب بمدينة "لهوكسمارى" شمالى " سومطرا " حيث كتب أمام كل مولود جديد أنه نصرانى! وقد اندلعت المظاهرات الصاخبة استنكارا لهذا السلوك الخبيث، واقتحم المتظاهرون المكتب مطالبين بإحراق الدفاتر المزورة، ورجموا المكتب بالحجارة، واضطرت قوات الأمن للتدخل إنقاذا للموظفين الذين بقوا محاصرين داخله مدة يومين.. ومع هذا الخبر المحزن كان هناك خبر آخر أشد منه إحزانا! فقد ذكرت مجلة الجهاد الأفغانية أن سبعين مؤسسة صليبية طلبت من حكومة المجاهدين الأفغان السماح لها بالعمل داخل أفغانستان، وأن 19 مؤسسة منها اجتمع مندوبها بالفعل مع " صدر الدين أغاخان " لتنسيق العمل، والاستعداد للمرحلة القادمة، مرحلة ما بعد سقوط نظام " كابول ". أى أن الصليبية تريد أن ترث الشيوعية بعد هزيمتها! والعفاء على دماء الضحايا ورفات الشهداء، وجهود المسلمين فى المشارق والمغارب لنصرة إخوانهم المحروبين! وأنا خبير بما سوف يفعله دعاة النصرانية، إنهم يدخلون فى صمت القرى المنكوبة ويتجهون إلى البيوت التى قتل أربابها، باحثين عن اليتامى والأرامل، فيبنون الملاجىء التى تتعهد اليتامى بالتربية والتعليم، ويرسلون إلى الأرامل ما يتطلعون إليه من ملابس وأغذية، وينتظرون فى صبر وأمل نتائج هذه السياسة البانية الحانية، وهى نتائج تسود لها وجوه الموحدين! ص _110(3/107)
فماذا يصنع دعاة الإسلام مع هذه المآسى؟ أهداهم طريقة يذهب إلى أحد المساجد ليذكر الحديث المشهور: " الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله " أو الحديث الآخر: " أنا وكافل اليتيم كهاتين. مشيرا بالسبابة والوسطى ". ولا يفكر فى تحويل خطبته إلى مشروع علمى وخطة واقعية. أما النوع الآخر من الدعاة- وهم كثيرون- فيقولون: الأفغانيون أحناف مبتدعون، وهم عندما يصلون لا يرفعون أيديهم قبل الركوع ولا بعده! فالجهاد فيهم واجب حتى يحملون على السنة حملا! وهنا تندلع حرب أخرى بعد انتهاء الحرب مع الشيوعية! ربما ضاع مستقبل الإسلام كله فيها! ألا يستيقظ أولو الألباب لحماية الأمة من هذا الخراب؟ إن الدعاة الجهلة لا يقلون شرا عن المبشرين!! ص _111(3/108)
توبة سياسى أعجمى!.. هل نقتدى؟! سمعت من إذاعة لندن ما فعله رئيس كوريا الجنوبية السابق بعدما أقتيد إلى السجن تلبية لأمر الجماهير الغاضبة، قالت الإذاعة: إنه وقف أمام عدسات التلفاز، واعترف بما اقترف من آثام خلال فترة حكمه، وصرح بأنه يشعر بالأسف والندم على ما وقع منه! وأنه يقدم أرضه التى يملكها وبيته الذى يسكنه، وعشرين مليون دولار فى حوزته كفارة عما ارتكب خلال فترة حكمة...! قالت الإذاعة: وبعد هذا الاعتذار الحى ترك العاصمة "سيول " إلى منفى بعيد يقضى فيه بقية عمره فريدا مجردا من المال والجاه.. وربما هدأت هذه الخاتمة مشاعر السخط العام، وأنهت سيل المظاهرات التى كانت تتجه إلى بيته طالبة رأسه. * * * أنصت إلى هذا النبأ وغمرتنى لجة من الأفكار والعواطف المهتاجة! كنت أعلق بارتياب على نبوءة تزعم أن جنوب شرق آسيا سيقود الحضارة العالمية، وأقول: ربما كانت هذه الشعوب قديرة على صنع بعض الأجهزة والأدوات والملابس التى يعجز العرب عنها! أما أن تقود العالم بديانتها" البوذية " فلا!! لكنى بعدما ترويت فى دلالات هذه القصة أخذت أراجع نفسى وأوازن بين شعوب وشعوب.. فى عام 1967 ذاقت مصر والعرب جميعا أحط هزيمة فى تاريخ الحروب! ففى بضع ساعات فقدنا الضفة الغربية لنهر الأردن، وفقدنا قطاع غزة، وتحطم الأسطول الجوى كله، ووقع الألوف من أنضر الشباب المقاتلين فى مصيدة رهيبة! ووقف الزعيم الذى قاد المعركة يعتذر عما حدث ببغام لا يقوله ذو عقل! ص _112(3/109)
وانعقد مجلس الأمة فإذا أحد الأعضاء يرقص لأن الزعيم قرر البقاء فى الحكم! وتحدثت الصحف عن أن الذى حدث ليس هزيمة لأن المراد كان القضاء على قيادة الثورة، ولم يتحقق المراد بفضل رب العباد..!! وسميت المخزاة الطامة نكسة !! وقيل للشيوخ: حدثوا الناس عن نكسة أحد!! وهكذا أدخل الدين فى معركة يلطخ فيها بالأوحال، ويسخر فيها لعبادة الأصنام!! ومنذ عشرين سنة والعرب يحاولون استعادة الضفة والقطاع، ولكن اليهود يعالنون العدو والصديق بأنهم لا يتنازلون عما قدم إليهم غنيمة باردة.. وتمضى الأيام العجاب على الأمة البائسة وهى أعجز من أن تقول لمخطىء أخطأت، أو لسارق منصب دع ما اغتصبت!! قلت: ليست هذه الأمم صناعة إسلامية! بل ليست صناعة بوذية! فإن الجماهير فى كوريا الجنوبية البوذية كانت أحمى أنفا وأشد بأسا، نعم، قد يقع فيها الاستبداد والقهر بيد أن عمرهما يكون قصيرا، والعقاب عليهما يكون رادعا. وتذكرت كلمة لسيد الأحرار ومربى الأبطال صاحب الرسالة الخاتمة يقول فيها: " إذا رأيتم أمتى تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها " أى أنها تتهيأ للانتقال إلى القبور فليست أهلا للحياة.. هل توطنت حميات الاستبداد الفرعونى فى العالم الإسلامى كما توطنت ذبابات مرض النوم فى بعض المناطق الحارة؟؟ فى دفع هذا البلاء ينبغي أن تتكاتف جهود، وتتعاون همم. ص _113(3/110)
كل شىء يدل على الله.. عندما انطلقت مركبة فضائية لاكتشاف المريخ لم أشعر بحفاوة، فقد اعتبرت ذلك من نافلة العلم، وقلت: إننا لم نستكمل بعد معرفة الأرض ومن عليها فلنعرف أولا ما حولنا.! هل كان مبعث هذا الشعور أنني واحد من العالم الثالث الذى لم يدرس أرضه ولا سماءه؟ ربما. لكننى أحسست شيئا من سعة العالم كله عندما عرفت أن المركبة لن تبلغ غايتها إلا بعد أزمنة مع أنها تندفع بسرعة كبيرة ودون عائق، والمريخ عضو فى الأسرة الشمسية وهو أقرب توابع الشمس إلى الأرض.. ثم صحا فكرى فتساءلت: ما قيمة هذه المسافة إذا قيست بالأبعاد السحيقة الفاصلة بيننا وبين دارات النجوم الأخرى؟ إن علماء الفلك يذكرون أن فى الفضاء النائى عنا مجرات تزيد أعدادها على حبات الرمال حول شواطىء البحار والمحيطات! الحق أنى شعرت بكلال عقلى وأنا أتصور جو السماء الذى تسبح فيه هذه الألوف المؤلفة من النجوم! كيف تدور؟ كيف تنتظم وتنسجم؟ ما أحجامها وما إشعاعها؟ ماذا فيها وماذا عليها؟؟ ليكن الجواب ما يكون فلست أشك فى أن خالقها أوسع منها وأبدع! نعم إذا كان هذا الكون كبيرا فالله أكبر.! وعدت إلى عقلى أتابع النظر، هل المؤمن بحاجة إلى سياحة فى السماء ليعرف ربه؟ إن هذه المعرفة ميسورة له عن قرب، فى الأرض التى يمشى عليها، فى نفسه التى بين جنبيه!! قال تعالى : (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون). ص _114(3/111)
قد يكون للأحجام الكبيرة أو للأعداد الكبيرة إيحاء صارخ ثم إن العدد ينطلق فى صعوده إلى غير نهاية، أبدأ بواحد، 2، 4، 8، 6 1، 32، 64، 128 الخ. إنك لن تقف عند رقم معين ستظل تحصى إلى آخر العمر! قال لى عقلى: الأمر كذلك فى الجهة المقابلة عد وأنت نازل: 1/2، 1/4، 1/8، 1/16 ،1/0032 الخ. إنك لن تبلغ كسرا تقف عنده.. والعظمة الإلهية التى فى خلق الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب تروع كذلك وربما أكثر من ذلك فى خلق الجراثيم التى تجتمع ألوف مؤلفة منها على رأس مخيط.. إن خلق الإنسان يبدأ من نطفة، ويقول العلم الآن: إن فى النطفة مئات الملايين من الحيوانات المنوية التى يتخلق البشر من واحد منها فقط، والباقى يذهب إلى دورة المياه! ثم يقول العلم: إن فى هذا الحيوان تكمن خصائص الوراثة كلها، وراثة الجنس ووراثة النوع فما هذه المورثات؟ ما حجمها وما وزنها؟؟ إن عصرنا الحاضر استخدم التلسكوب ليقرب البعيد واستخدم الميكروسكوب ليكبر الصغير، والإبداع الإلهى يتجلى على سواء فى القريب والبعيد والصغير والكبير!! ثم عدت إلى نفسى أقول: لم هذه السياحات فى أعلى وفى أدنى؟ وما يتوقف الإيمان العادى عليها إن كل امرىء يأكل فلينظر من أين أتى طعامه؟ "فلينظر الإنسان إلى طعامه... ". الواقع أن منابع الإيمان ميسورة للدهماء وللعباقرة، وما يكفر بالله إلا أحمق. ص _115(3/112)
الدنيا الخادمة للحق... دين!! ما معنى إيثار الآخرة على الدنيا؟ هذا سؤال يسخر منه الماديون عبيد الحياة الذين يصبحون ويمسون لا يعرفون إلا يومهم الحاضر أو غدهم القريب، ولذلك يجيب الواحد منهم: لا أبدل موهوما بمحسوس، وأرفض التفكير إلا فى الأرض وما عليها. هذه إجابة عند أولى الألباب سيئة، ولا عقبى لصاحبها إلا السقوط ! وهناك إجابة تبدو للناس صحيحة، أو هى فى العرف الشائع إجابة سائر المؤمنين، يقولون : الحياة الدنيا حقيرة، وينبغي أن نمرق منها كما يمرق السهم لنصل إلى مستقرنا فى جنات عدن! وأريد أن أقف طويلا عند هذه الإجابة! ما معنى أن أعبر الحياة دون تعريج على شىء منها؟ إن خالق هذه الحياة قال: اعرفوا أسمائى الحسنى وصفاتى العلا فى تضاعيف المكان والزمان وفى مسيرة الحياة والأحياء! إنكم لن تعرفوا عظمتى إذا انطلقتم من المهد إلى اللحد عميانا عن آياتي فى الأرض والسماء وعن أقدارى فى الأفراد والأمم إنه أقسم بالشمس والقمر والليل والنهار والفجر والشفق والوالد والولد، بل يقسم بما نبصر ومالا نبصر لأن رؤية السطوح لا تغنى عن رؤية الأعماق، أقسم بالرياح عاصفة ولطيفة وبخيل المجاهدين يتطاير الشرر من تحت سنابكها وهى فى المعركة الأزليه بين الحق والباطل، أقسم بهذا كله لنتعرف عليه ونعيش فى جوه ونفيد من عبره. فكيف يقول: أنا عارف بالله من هو جاهل بالحياة وأسرارها وقواها وقواميسها؟ إن بعض الناس يمر بالحياة كما يمر الكناسون بدكاكين الصاغة، لا ينظر إلى حلية أو زخرفة لأن الأمر لا يعنيه، أو كما يمر الفلاح الأجير بالسنابل الحافلة والثمار الطالعة فلا يفكر إلا فى أجرته وحسب! ص _116(3/113)
عندما تساءل منكرو البعث: كيف يقع النشور؟ جاءت إجابة القرآن الكريم على هذا النحو : (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير). السير فى الأرض لدراسة الحياة هو طريق الإيمان بالله ولقائه، لابد من السباحة فى أمواج الحياة، ومعرفة تياراتها ومداها وجزرها وشواطئها وأسباب الغرق والنجاة.. ليست البلاهة إيمانا ولا الجهل صلاحا، إن الخبرة بالحياة والقدرة على امتلاكها وتطويعها لخدمة ربها هى الإيمان والعمل الصالح.. ما أحقر العقل الكليل والفكر القاصر والثقافة الضحلة، إن هناك شعوبا تنتسب إلى القرآن لا تعرف أنه كتاب حياة لا تستفيد من الكون إلا ما يستفيده الضرير من أشعة الشمس، وطالما التقيت بهؤلاء فى ميدان الدعوة فضاق بهم صدرى، وأشفقت على الدين ومستقبله من جهلهم الطامس أو زهدهم البارد!! قلت: لأمر ما كان الشاهدون بوحدانية الله هم الملائكة وأولو العلم. ص _117(3/114)
إلى أبطال الانتفاضة الفلسطينية فى العام الأول يا أبناءنا الأبطال فى فلسطين المجاهدة، حى الله كفاحكم ونضر وجوهكم! لقد أثبتم أن الإسلام كان ولا يزال صانع الرجال، وملهم المقاومة الباسلة ومقدم الشهداء العظام. إن انتفاضتكم الأخيرة مسحت عن وجوهنا الخجل، وأخرست المرتدين والخونة، وأثبتت للعالم أن جذوة الإيمان لم تخمد، وأن عزيمة الأبطال لم تضعف، وأن كل هدوء يعقبه إعصار يلحق بالمعتدين الخزى والعار. يا أبناءنا الأبطال فى فلسطين المجاهدة! إذا كانت اليهودية سلاح هجوم فليكن الإسلام سلاح دفاع! احرصوا على انتمائكم الإسلامى وتشبثوا به فإن المعتدين يريدون اغتصاب الأرض والعرض والدين والدنيا جميعا، وليس لنا إلا الاستمساك بديننا والتحصن بعقائده وفضائله، والجهاد الطويل تحت رايته إلى أن يمن الله علينا بالحرية التى تكسر القيود وتغسل أرضنا من أدران اليهود وترد كيدهم إلى نحورهم. نعم يجب أن نستخلص حقوقنا من إخوان القردة الذين استباحونا ونالوا منا وأخرجونا من ديارنا، وحاولوا محو تاريخنا ورسالتنا ووجودنا كله.. يا أبناءنا الأبطال فى فلسطين المجاهدة.. اثبتوا فى مواقف الحراسة (اصبروا وصابروا ورابطوا) إن سلاحكم قليل على حين يملك اليهود أسلحة هائلة، وتظاهرهم قوى الشر التى تعادى الإيمان والشرف وكذلك المؤامرات التى فقدت كل حيلة، ليكن هذا كله فنحن نستند إلى الله القادر، ونعتمد عليه فى هذا العراك المر، (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون). ص _118(3/115)
يا أبناءنا الأبطال فى فلسطين المجاهدة.. لا تفقدوا روح المسجد وأنتم تواجهون العدو إن الجماعة من شعائر الإسلام فسووا صفوفكم، وسدوا كل ثغرة، ولا تتركوا فرصة للشيطان كى يفرق كلمتكم ويمزق وحدتكم.. الناس فى كل قطر يعرفون أن أعداءكم جبناء، وأنهم (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر) وأنهم وراء الدروع والقنابل والقذائف الفتاكة يواجهون الفتيان الرامين بالحجارة! ليكن اليوم لهم، فالغد بإذن الله لنا (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). يا أبناءنا الأبطال فى فلسطين المجاهدة.. إن بعض الرؤساء العرب جبن عن متابعة الكفاح، والبعض الآخر أخلد إلى الأرض واتبع هواه، لا تهولنكم هذه المواقف الجبانة وارفعوا راية الإسلام بقوة (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون). وفى أشد المواقف حرجا اعتصموا بالله وادعوه قائلين : (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). يا أبناءنا فى الأرض المسروقة من دار الإسلام قاوموا فمن بقى منكم ظفر بالنصر، ومن مات ورث جنة عرضها السموات والأرض، قاوموا والله معكم. * * * ص _119(3/116)
قيم الرجال والشعوب المناصب لا تصنع العباقرة، والثروات لا تخلق الرجال، وقد يلى العبقرى منصبا ما فيزدان المنصب به ولا يزدان هو بالمنصب! والثروة الطائلة بين أصابع الرجال أداة لفعل الخير وقضاء الحقوق وليست وسيلة لرفعة الخامل أو ستر السفيه! زدت يقينا بهذه الحقيقة وأنا أرجع البصر بين حالة اليابان العلمية والمالية وأحوال أممنا فى الشرق الأوسط! إن تربة الأرض اليابانية ليس فيها شىء يقيم صناعة، لا نفط ولا حديد! لا معادن ولا وقود! لكن المعدن النفسى للإنسان اليابانى تغلب على هذا الفقر. لقد شرع يشترى النفط من الأقطار الغنية به، وأنواع المعادن التى يحتاج إليها فى صناعاته، وأخذ ينتج وينتج فإذا السلع اليابانية تغزو العالم القديم والجديد وإذا إتقانها ورخصها يغلبان سائر السلع حتى ضجت الأسواق الأخرى من هذا الغزو الاقتصادي، وقاومته بكل وسيلة... يحدث ذلك كله والذين يملكون الأرض الغنية، والإمكانات المتاحة لا يفعلون شيئا! إن الأساس الأول لكل نهضة هو الإنسان، لا ما تحت قدمه، ولا ما فوق رأسه! ولذلك كان اتجاه الأنبياء منذ الأزل إلى النفس الإنسانية يغيرونها، ويصقلون معدنها ويعلمون ملكاتها فإذا تم لهم ذلك أطلقوها فى فجاج الأرض تصنع الخوارق، وتغزو المغارب والمشارق!! ومازلت ألفت النظر إلى عبارة القرآن الكريم فى وصف الرسل العظام بأنهم أولو الأيدى والأبصار. الإيمان عقل مؤمن، ولا وجود له إذا ضاع العقل، ويد مقتدرة ولا وجود له إذا انقطعت اليد! والجماهير الإسلامية إذا خف علمها ووهن إنتاجها لا يرفع الإسلام خسيستها. ص _120(3/117)
وقد أزعجنى أن بعض المتنبئين يقولون: إن قيادة الحضارة ربما انتقل إلى الشرق الأقصى، وجنوب آسيا قلت: ولماذا لا يعود كما بدأ إلى الشرق الأوسط وإلى الأمة العربية؟ وكانت الإجابة محزنة أو مخزية! نحن فى مضمار الإنتاج كسالى، يصنع لنا غيرنا ولا نصنع نحن لأنفسنا! وفى ميدان العلم كذلك نحن مستوردون لا مصدرون وما السبب فى هذه المكانة المتخلفة؟ السبب أننا نكترث بتزويق الظاهر ولا نهتم بدعم الباطن أو بتعبير أدق لا نعول على إصلاح النفس وتغييرها وإزاحة ما بها من علل، وكتابنا يقول : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ص _121(3/118)
هكذا يعامل الإسلام وحده كثيرون من الناس لم يكونوا يتصورون الحقد الصليبى على الإسلام بهذه الضراوة! بعضهم ظن الارتقاء العلمى قد خفف السخائم القديمة! وبعضهم ظن المنافع الاقتصادية تصنع شيئا من التجاوز والسماحة. وآخرون قالوا: إن فن الدبلوماسية فى العصر الحديث نقل العالم أجمع إلى مرحلة جديدة ردمت الفجوة بين الأديان المختلفة... حتى وقف الغرب وقفته الأخيرة ضد نبوة محمد وينابيع الإسلام، عندما احتضن رواية "آيات شيطانية" وبسط حمايته على صاحبها. إنه حسر القناع عن وجهه، أو طفحت كراهيته على نحو لم يستطع مقاومته.. قد يقول البعض: إن كرامة المسيح قد أهينت من قبل ذلك! وألفت رواية اتهم فيها بالشذوذ! ونقول: إن الرواية منع تمثيلها وأحرقت دار السينما التى قامت بعرضها وأهيل التراب على الموضوع كله.. وفى إنجلترا قد يسمح بنقد كلى أو جزئى لبعض المبادىء والهيئات، ولكن نقد الملكة مستحيل، ومن فعل ذلك نبذ شعبيا ورسميا.. على أن الرجس الذى صبه فى روايته كاتب آيات شيطانية بلغ حدا من الوساخة جعل أحد الصحافيين يقول: إن المؤلف جدير بأن يضرب بجميع النعال التى فى أقدام الناس، على جميع المقاسات.. وأولى بالاستنكار والشناعة الوزراء الكبار الذين تنادوا على شاطىء الأطلسى فى أوروبا وأمريكا بتأييد المؤلف واعتبار المحاماة عنه قضية قومية، وغاية إنسانية. إنه موقف فى الدرك الأسفل من السقوط! وقد شعرت بمدى ما تنحط إليه البشرية من ضعة وهى تهاجم الإسلام وأمته بتلك الطريقة. وشاء الله أنى كنت أستأنف تلاوة وردى من القرآن الكريم، وأصداء الهجوم على ص _122(3/119)
محمد تتردد فى نفسى، فقرأت هذه الآيات، التى تضمنت خمسة أوامر صادرة في الحى القيوم إلى النبى الخاتم محمد بن عبد الله : (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين) هذه هى الآيات الشيطانية التى تلقاها محمد عن ربه !! فما تكون الآيات الإلهية الصحيحة؟!! إذا كان هذا وحى الشيطان فما يكون وحى الرحمن؟!! هل فى تاريخ الأحياء إنسان حارب الشيطان وضيق على وساوسه الخناق مثل ما فعل محمد؟ هل وعى ضمير العالم سيرة لرجل وصل الليل بالنهار عبادة لله وكدحا فى سبيله، وتقطيعا لأوصال الجاهلية وتثبيتا لمعالم الحق والخلق والعدل والفضل، مثل النبى العربى المحمد؟ هل بقى فى الدنيا تراث يحمل الوحى الأعلى ويستنقذ البشر من الحيرة والضياع غير تراثه؟ إن كان القرآن آيات شيطانية فهل الآيات الإلهية هى التى تقدم الأنبياء زناة وقتله، وتقدم الوحى طريقا إلى الشرك والعمى؟ أهذا ما يريد ساسة الغرب أن نفهمه؟! ( ألا ساء ما يزرون ) ص _1 ص(3/120)
أين الوعى العربى؟؟ عقدت هيئة الأمم جلسة لبحث الانتفاضة الفلسطينية التى توشك أن تتم عامها، وذلك بعد أن اشمأزت المشارق والمغارب من عدوان اليهود على الشعب البائس.. لقد انتهكت حقوق الإنسان، واستبيحت الدماء والأموال والأعراض، وقد رأيت صور البيوت وهى تتحول إلى أنقاض بعد تهديمها ومرور الجرارات على بقاياها، ورأيت صور النخيل وهى تهوى بسعفها وثمرها بعد قصم جذوعها، وقابلت الرجال المطرودين من وطنهم السليب، وسمعت بمقاتل الأطفال فى الثالثة والخامسة، ودق عظام الشباب الذى يؤسر فى المظاهرات، كما سمعت بالأحوال الوحشية التى يوضع فى جحيمها المعتقلون.. إن بني إسرائيل لا يبيتون لأهل فلسطين إلا السيف والنار والعار! وقد اطلع أعضاء الهيئة على مائة وأربعين صفحة تصف ما ينزله اليهود بالعرب، ثم قررت 130 دولة إدانة إسرائيل، واستنكار خروجها على المواثيق الدولية.. وشذت دولة واحدة عن تجريم إسرائيل هى الولايات المتحدة، وامتنعت 16 دولة من أصدقاء أمريكا عن التصويت!! لو كنت أمريكيا لشعرت بالخزى من موقف المندوب الأمريكى، ولقلت لقومى: ما أنصفتم أنفسكم ولا أنصفتم أصدقاءكم من الدول العربية، إن هذا الجور فى الحكم وهذه الخسة فى ممالأة العدوان ستجعل أصدقاء أمريكا ييأسون من نزاهتها، ويفكرون طويلا فى علاقاتهم بها.. كان لى حديث مع نفر من عرب الخليج عن القوى العظمى فى العالم، وعن المواقف الواجب منها فقيل لى: لقد تجاوزنا الروس لأن فلسفتهم المادية هى الكفر بالله والمرسلين! أما أهل الكتاب فلهم مواريث سماوية تدنينا منهم.! قلت: ليت الأوروبيين والأمريكيين يؤمنون برسالات موسى وعيسى ويصدقون بالله واليوم الآخر إن خصامنا معهم على هذا! ص _124(3/121)
إنهم يعبدون الحياة الدنيا وحدها، وينطلقون مسعورين وراء شهواتهم. وليس للاستعمار دين إلا السلب والنهب وضروب التفرقة العنصرية والدينية.. ولو كان للقوم علاقة بوحى ما صنعوا بنا الذين يصنعون.. إننى أحفظ للشاعر القروى- وهو مسيحى مخلص صادق- قوله يناجى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: فيا حملا وديعا لم يخلف سوانا فى الورى حملا وديعا!! أحبوا بعضكم بعضا، وعظنا بها ذئبا فما نجت قطيعا!! فماذا يقول العرب الآن إذا تحول الصهاينة إلى ذئاب، وتحول الأمريكان إلى أنصار للمفترسين.؟! إنني أناشد شعب الولايات المتحدة أن يثوب إلى رشده، وأن يوقظ ضميره النائم، وأن يستغل قوته الحاضرة فى إقامة العدل وإحقاق الحق.. وأن يقف يوما ما فى المحافل الدولية مؤيدا عرب فلسطين وحقهم فى أرضهم، وفى رد العدوان النازل بهم، ذلك خير له!! ص _125(3/122)
مع لجنة العفو!! فى أحد مؤتمرات الدعوة قدم الدكتور المهندس مصطفى مؤمن اقتراحا بأن تقوم علاقة بين أجهزة الدعوة الإسلامية وبين لجنة العفو الدولية. وقد أيدت هذا الاقتراح بحماس، ودعوت لإقراره بيد أن التيار المعارض نجح فى طيه! ولما رآنى بعضهم محزونا قال لى: لا تنس أن لجنة العفو هذه علمانية تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام.. قلت: إن تعطيل القصاص غلط كبير لا يدافع عنه عاقل، بل إن إطالة حبل الحياة للمفسدين فى الأرض إفساد للحياة كلها وترويع للأبرياء، ولو كان الأمر بيدى لحكمت بالموت على مغتصبى الأعراض وتجار المخدرات وقتلة النفوس بغير حق.. وموقف لجنة العفو هنا لا يقبل منها، وإن كنت أذكر ضميمة لابد منها لشريعة القصاص عندنا، فولى الدم يستطيع العفو، وإذا تقدم أحد لترغيبه فيه جاز ذلك، "وما زاد الله أحدا بعفو إلا عزا " وللدولة حقها المقرر فى حماية النظام والأمان بعد ذلك.. ولا أحب أن أقف عند هذا الحكم الفرعى المعروف إنما يعنينى أمر آخر أهم! إن لجنة العفو تستقصى أخبار المظلومين فى أرجاء الأرض، وتمسك بتلابيب المجرمين! وتصرخ بصوت يوقظ الغافلين طالبة وقف العدوان، وحماية الضعفاء، ولا تنس أن جمهرة المعذبين فى هذه الدنيا منا نحن المسلمين!! قال: كيف؟ قلت: إن المؤامرة على ضرب الإسلام تتبع نشاطه فى الميدان التشريعى والميدان الاقتصادى والميدان السياسى وتقاتله بضراوة، وتدوس كل حقوق الإنسان فى هذه المجالات الخطيرة. ذلك أن إسلام العبادات سوف يموت من تلقاء نفسه إذا استقرت الأوضاع للقوانين الأجنبية والانحرافات المالية والمفاسد السياسية. ص _126(3/123)
لن تطول الأيام التى يغلق المسجد بعدها أبوابه، فإن تغير المجتمع حوله سوف يقضى عليه عاجلا أو آجلا.. إن المشتغلين بالاقتصاد الإسلامى يذادون بوحشية عن ساحات العمل، وكذلك المطالبون بإقامة حدود الله، والمنادون بالانتماء الإسلامى! إنهم يعتبرون رجعيين لا كرامة لهم، وأفضل مكان لهم السجن حيث يلاقون صنوف التعذيب.. ثم تجند أقلام المرتدين والمرتزقة وشيعة الاستعمار الغالب كى تحبذ ما يقع وتدفع عنه، ولا يسمع الناس أصواتا غيرها!! وربما لاذ بعض المتعبدين بالصمت مخافة أن يبطش به !! فإذا تحركت لجنة العفو، وغضبت للإنسانية المهيضة وهتكت الستار عن وجوه المجرمين فهى أولى بالله من الشياطين الخرس، بلى هى أحق بالحياة من أعداء الحياة الذين يستخفون وراء أشكال التدين، وبينهم وبين التدين بعد المشرقين. ص _127(3/124)
إيمان مغشوش لا يحتوى إلا على الحقد العام عندما فر اليهود من الاضطهاد الرومانى إلى شمال الحجاز كانوا يحملون فى حناياهم وفى سيرتهم تدينا جديرا بالتأمل، كانوا يرون أنهم شعب الله المختار، وأن سائر الأمم خلقت لخدمتهم وأن ما بأيديها من أموال هو حق اليهود الذى يجب أن يستردوه... وإذا كان العرب فى جاهلية فلتبق هذه الجاهلية إلى الأبد، فذلك أعون على بقاء بنى إسرائيل فى وضعهم العالى، وأعون على بقاء الفروق بين الشعب المختار والعبيد المسخرين.. ومن ثم لم يرتفع صوت يهودى بمحاربة الوثنية السائدة، ولم ينطلق مبشرا بجنة أو منذرا بنار! إن الدين عند القوم لون من الصلف الجنسى والاستغلال الخسيس للآخرين! وإذا كانت هناك علل تؤذى الجيران الأقربين أو الأبعدين فليزيدوا هذه العلل ضراوة، وليصدروا إليها مزيدا من الجراثيم التى توسع دائرة الفتك وأعداد الضحايا.. ذلك ما صنع اليهود قبل البعثة! عاشوا سعداء على متاعب العرب. وبنوا ثراءهم على بيع السلاح للفرقاء المتخاصمين، حتى جاء الإسلام فمحا هذه الفوضى محوا، ووطد سلطات الإيمان والخلق.. وكأن التاريخ يعيد نفسه فى هذه الأيام النكدات، فقد هجم اليهود على فلسطين، وشرعوا يكيدون للعرب حولهم بأساليب أنكى مما صنع آباؤهم الأقدمون.. وقد وضعوا ثلاثة أهداف لجعل الأجيال العربية الناشئة تشب وفيها قابلية الاستعمار والاستسلام لما يراد منها.. ص _128(3/125)
أول هذه الثلاثة إضعاف الصحوة الإسلامية وتأليب القوى ضدها وإمداد خصومها بكل سلاح والثانى: نشر المخدرات وتيسير الحصول عليها للمدمنين، واصطياد السذج لتذوقها ثم الوقوع فى براثنها والاتفاق مع المهربين من كل جنس لترويج بضائعهم فى الأسواق العربية عامة والمصرية خاصة، وثالثة الأثافى: استجلاب فتيات يهوديات أو غير يهوديات يشتغلن بالبغاء ويعتبرون إغواء العرب سياسة قومية تحقق مصلحة إسرائيل العليا، وتنشر مرض "الإيدز" بين طلاب اللهو والمجون من المصريين وغير المصريين، وتخيف السائحين من القدوم إلى بلادنا! هذه هى عاطفة التدين الراقى التى يكنها أبناء الله وأحباؤه لغيرهم من البشر! وعندما تنتصر إسرائيل ويهدم المسجد الأقصى وينهض مكانه هيكل سليمان فإن رب إسرائيل سيحل فى الهيكل المقدس ليحكم العالم عن طريق شعبه المختار، وعندئذ سيتبختر الصهيونى الغالب على أنقاض شعوب استهلكتها المخدرات والمسكرات، واستنزفتها الأمراض السرية والعلنية لأنواع الشهوات وانهمك ساستها فى جدولة الديون تحت ضغط ما تعانى من أزمات. ص _129(3/126)
هل العروبة المجردة تنصر فلسطين؟ لقيت صديقا قديما من قادة الانتفاضة نفاه اليهود من فلسطين فهو يضرب فى أرض الله بعيدا عن الميدان الذى يهوى إليه فؤاده، ويثمر فيه جهاده. كانت على فمه وعينيه ابتسامة تجمع بين الجلد والكمد ذكرتنى بقول الشاعر يصف محزونا غريبا عن وطنه: تبسم كرها، واستبنت الذى به من الحزن البادى، ومن شدة الوجد! وعادت بنا الذكريات إلى أيام خلت كنا نخدم فيها الدعوة الإسلامية، وكان يخطب الجمعة أحيانا فى مسجد بالجيزة عندما كنت أخطب فى مسجد عمرو بن العاص. قلت له: ماذا فعل اليهود بك فى سجونهم؟ فأبى أن يجيب! قلت: أخائف أنت؟ قال: لا أعرف الخوف، إننى خجلان وحسب! فلما رأى إلحاحى فى تعرف ما نزل به وبإخوانه قال: أذكر آخر ما سمعت من محقق يهودى معى قال لى: إننا خلال شهور الانتفاضة قتلنا من العصاة المتمردين نحو مائتين! إن مثل هذا العدد قتل فى أيام بين أتباع عرفات وأتباع أبى موسى! وقبل ذلك قتل العرب منكم مئات ومئات فى حرب المخيمات التى دارت فى العام الماضى! أما فى العام الذى سبقه فقد استحر القتل فيكم، ودمرت عليكم مساكنكم فى "صبرا وشاتيلا" و "تل الزعتر" وأماكن أخرى. وقد طاردكم إخوانكم العرب فى أرجاء لبنان حتى تلقفكم المصريون فى عرض البحر من ميناء طرابلس.. ص _130(3/127)
قال: ومضى المحقق يصف مقاتلنا هنا وهناك حتى اسود وجهى من الخزى، وها أنت الآن تنكأ الجراح! قلت: معذرة فقد نسيت علل أمتى حتى عادت أعراضها الدميمة أمام عينى! لكأنه نزل فينا قوله تعالى: (يخربون بيوتهم بأيديهم) وبقيت ضميمة أخرى.. وأيدى المؤمنين بالعهد القديم! إن عربا كثيرين كانوا من وراء مأساة فلسطين، ولا زال أولئك العرب يتحدثون بفخر كبير عن العروبة وهم فى الوقت نفسه يسدون إلى اليهود أجل الخدمات! ويسددون إلى المجاهدين أحد الطعنات. وتساءلت: ماذا قدم العفالقة لنصرة فلسطين؟ إن " ميشيل عفلق " جعل العلمانية أساس البعث العربي، وأقصى العقيدة الإسلامية عن قلوب العرب وصفوفهم. وهذا وحده نصف الهزيمة التى يصبو إليها اليهود! ثم هاهو ذا يتابع كل تجمع فلسطينى لينقض دعائمه، ويهوى بالمطارق عليه حتى يجعله هباء.. إن مبادىء " ميشيل عفلق " كانت أشد على العرب من عدة حملات صليبية ناجحة، فهل يستفيق العرب من غفلاتهم؟ ص _131(3/128)
الصليبية الحديثة تواصل زحفها المتقدم... أخشى أن ينسى العرب دينهم، وأن ينسوا إخوان العقيدة المنتشرين فى المشارق والمغارب، وأن يتجاهلوا قضاياهم وأحزانهم الكثيرة.! إنهم إن فعلوا ذلك نسيهم الله ونسوا أنفسهم ومكنوا أعداءهم من أعناقهم ووقعوا فى فخاخ ماكرة نصبت لهم هنا وهناك.. إن الأقليات الإسلامية فى العالم تزداد تعاسة وعزلة، ولا أدرى لماذا لا يكون لطلاب الحرية من هذه الأقليات المهضومة من يمثلها فى المجامع الإسلامية، رسمية كانت أو شعبية؟ حبذا لو كان فى الأزهر، أو فى رابطة العالم الإسلامي قسم خاص لكل أقلية مهدرة الحقوق، يدرس أحوالها ويتابع آمالها ويعلن ما يحاول الأعداء كتمانه، ويكشف للعالم ما يراد إتمامه فى الظلام. لقد علمت بأن رئيسة الفلبين كانت تنوى إسداء خير للمسلمين هناك، وأن تضع حدا لحرب قاسية خسر فيها المسلمون أموالا ورجالا، وبقوا إلى الآن محروبين مكروبين، ولكن الرئيسة خضعت لضغط المتعصبين من رجال الدين فبقيت الأمور تتدحرج من سيىء إلى أسوأ. ومن نصف قرن والمسلمون هناك يطاردون إلى البقاع المجدبة، ويحرمون حقوقهم الطبيعية ويحملون السلاح دفاعا عن عقائدهم وكراماتهم، والناس من حولهم ينظرون غير مكترثين! ومنذ أيام قرأت تحذيرا للمشير عبد الرحمن سوار الذهب كبير الأمناء فى منظمة الدعوة الإسلامية جاء فيه أن حملات التنصير فى وسط إفريقيا امتدت إلى المسلمين أنفسهم بعد أن كانت قاصرة على الوثنيين، وأن الذى أعان على ذلك ما يعانيه السكان من الجفاف والجوع والضياع.. ص _132(3/129)
ونبه المشير إلى أن جماهير الجياع فى الحبشة وإريتريا وغيرها من الأقطار المنكوبة هم من المسلمين، وقد استغلت الحملات التنصيرية هذه الأوضاع لتحقيق مأربها، متوسلة إلى ذلك بالقدرات المادية الهائلة التى تمتلكها..! وقال: إن أكثر من 74 مجلة أسبوعية للتبشير تصدر فى إفريقيا وأن هناك ثمانية مليارات من الدولارات رصدت لحملات التنصير وحدها (!) وقد نجحت فى ضم 900 ألف جدد إلى المسيحية! ولم لا؟ وهم لا يجدون طعاما ولا شرابا..!! أما الدعوة الإسلامية فلا عون لها، ولا مدد! والظروف التى تعمل فيها شديدة التعقيد، وقد اصطلحت الأضداد على خصومة الإسلام، فلا تستغرب أن تجد الشيوعيين يساندون المبشرين على حرب الإسلام، والصورة العامة لجنوب السودان تحتاج إلى وعى وتبين ويقظة.. مرة أخرى أقول للعرب: لا تغرقوا فى خلافاتكم، ولا تذهلوا عن رسالتكم، إن مستقبلكم رهن عودتكم إلى الإسلام. ص _133(3/130)
الثرثارون بالإسلام من غير عمل مثمر.. عندما أرى صاحب حرفة من الحرف المهمة عاجزا فى عمله، أو فاشلا فى إتقانه أشعر بالأسى! فإذا وجدت هذا العاجز الفاشل يتكلم فى الدين، ويثرثر فى بعض القضايا الفقهية شعرت بالغضب! ذلك أن التفيهق هنا ستارة لإخفاء التقصير وإتقان التزوير! ماذا على صاحب أية مهنة أن يعبد الله بإجادة مهنته؟ وإبرازها فى أبهى صورة؟ إن المهارة الفنية والإدارية عمل صالح كالصلاة والصيام، ويستحيل أن تنهض أمة أو تنجح رسالة إلا إذا توفر لديها جيش من الفنيين والإداريين المهرة. والذى يقدم سلعته دميمة الصورة منقوصة الأطراف لا يغنى عنه أن يذكر بعض الأحكام الفقهية! فإن ذكر هذه الأحكام ليس دليل اكتمال، بل قد يكون شقشقة لسان، أو مداراة لنقص، أو مطاولة للعلماء، وكأنه يقول لهم: لستم أفضل منى فأنا أعرف ما تعرفون! قد تقول: هذه دعوة لاحتكار العلم الدينى وحبسه على نفر مخصوصين، والإسلام يأبى هذه الدعوة، وليست لديه طائفة من الكهنة أو رجال الدين وأقول: إن الدعوة إلى التخصص غير الدعوة إلى الاحتكار، وبلاء الأمة الإسلامية جاء من أنصاف متعلمين لا يحسنون الفتوى، ولا ينصفون الحقيقة، ولا يكملون الصورة، ولا يحسنون ضبط المقادير التى يشفى بها الداء، ولا تحديد العلل التى يشكو منها المجتمع. وهم بهذه الجهالة يضرون ولا ينفعون. وقد كتب الراغب الأصفهانى ينهى عن التوسع فى تعليم أصحاب الحرف مالا يحتاجون إليه فى إجادة حرفهم، ورأى تقوية إيمانهم بما ورد فى القرآن من ترغيب وترهيب، وإبعادهم عن القضايا الخلافية ومصادر الشبهات! ص _134(3/131)
قال الراغب: فإذا اضطربت نفس أحدهم لمقولة باطلة أو بدعة عارضة وتطلع إلى مزيد من الدرس والتمحيص اختبرناه، فإن كان ذا فهم ثاقب وتصور صائب أعناه بالشرح والتعمق حتى شفينا ما به. وإن كان مريض القصد نزاعا إلى الجدل والظهور وقفنا دون غرضه! وقال الراغب: إننا يجب أن نفرغ هؤلاء المحترفين والصناع إلى أعمالهم التى لا قيام للأمة إلا بها، ويجب أن نحول بينهم وبين الشغب بعلم قليل وقلب مدخول.. وقص علينا الراغب هذه القصة: سأل جاهل من هؤلاء حكيما عن مسالة دينية، فأعرض عنه ولم يجبه! فقال له السائل: أما سمعت قول الرسول: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة "؟ قال الحكيم: بل سمعته! أترك اللجام هاهنا واذهب! فإن جاء من ينفعه علمى وكتمته فليلجمنى به! الحق أن ناسا يتكلمون فى الإسلام يود الدين لو خرسوا فلم يسمع لهم صوت.. والمحزن أنهم كثروا فى هذه الأيام الهزيلة، حتى يكاد يتسع الخرق على الراقع.. ص _135(3/132)
طبيعة وحشية للقدامى والمحدثين خداع العناوين أمر بغيض حقا، ويبدو أن الأوروبيين قديما وحديثا يتقنون هذا الفن من الخداع، ويسيرون وراءه نحو أغراضهم. فتحت " الدعوة إلى السلام " يستعدون للقتال، ويتقنون صناعة الموت. وتحت طلاء من المدنية يقترفون ألوان الهمجية ويثقلون كواهل الشعوب بالديون والآلام.. منهم إلا فلول تشهد بما أصاب آباءهم من اضطهاد واستئصال.. وفى الوقت الذى يخبىء القوم فيه مخالبهم وأظافيرهم خلف قفازات من حرير يصفون غيرهم بما هم منه براء! فالمدافعون عن أرضهم وعرضهم إرهابيون. والمسلمون ينشرون عقائدهم بالسيف! والإسلام دين مادي يخدم الغرائز! أما هم فأصحاب روحانية لا نظير لها فى الماضى والحاضر.. وتبحث عن هذه الروحانية المزعومة فلا تجدها إلا فى لياليهم الحمراء، وحاناتهم الطافحة بالآثام.. نقل الأستاذ عمر عبيد هذه الفقرات عن الكاتب الفرنسى "جوستاف لوبون " يصف أفاعيل الصليبيين عندما اجتاحوا بيت المقدس أواخر القرن الرابع الهجرى، قال:، كان قومنا يجوبون- كاللبؤات التى خطفت صغارها- الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، كانوا يذبحون الأطفال والشبان والشيوخ ويقطعونها إربا إربا. كانوا لا يستبقون إنسانا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة! ص _136(3/133)
كانوا يقبضون على كل شىء يجدونه. ويبقرون بطون الموتى بحثا عن قطع ذهبية! كانت جموعا تسيل كالأنهار خلال مدينة مغطاة بالجثث! ثم أحضر "بوهيموند" جميع الذين اعتقلهم فى برج القصر فأمر بضرب رقاب العجائز والشيوخ والضعاف ". ويستأنف " غوستاف لوبون " وصفه الكئيب فيقول: " لقد أفرط قومنا فى سفك الدماء فى هيكل سليمان. فكانت جثث القتلى تعوم فى الساحة هنا وهناك! وكانت الأيدى والأذرع المبتورة تسبح كأنما تريد الاتصال بجثث غريبة عنها.. وأراد الصليبيون الاستراحة من عناء تذبيح الأهالى قاطبة، فانهمكوا فى كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة.. ". * * * إن المسلمين أهل نسيان وغفلة، لقد طووا ستارا على هذا التاريخ البشع، وقلما يذكرونه إلا بإيجاز وتجاوز، بل إنهم ما يذكرونه إلا بعد ما استعادوا بيت المقدس وأعلنوا عفوا عاما عن أبناء المجرمين الذين اقترفوا هذه المجازر فى رحابه البائسة .. وها هى ذى أوروبا قد استقدمت الصهاينة ليأخذوا بيت المقدس من المسلمين مرة أخرى.. إلا أن اليهود تركوا هذه المرة خداع العناوين.. وقالوا للمسلمين فى صراحة لا مقام لكم هنا!.. أحدنا سيبقى على أشلاء الآخر! ترى ماذا سيفعل المسلمون؟! هل يبقون على ما نرى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى الخصوم؟! ص _137(3/134)
مدرسة مظلومة... نرفض المسلك الجديد لأعداء الإسلام فى أقطار كثيرة، إنهم يعبثون بالألفاظ ويخادعون بالعناوين متوسلين بذلك إلى بلوغ غاياتهم. إنهم يحاربون الإسلام ذاته تحت راية محاربة التطرف. والذى يقيم الصلوات ويدعو إلى إقامتها لا يوصف بتطرف. والذى يحترم حدود الله ويكره اعتداءها لا يوصف بتطرف. والذى يستنكر الاستعمار التشريعى والاجتماعى، ويريد العودة بالأمة إلى ينابيع الوحى لا يوصف بتطرف!! إننا نرعى البناء الإسلامى كله حجرا حجرا، ونريد إعادة الجدة والرونق إليه بعد ما حوله الاستعمار العالمى إلى أنقاض فى السنين التى خلت.. والتطرف الذى نأباه ونحاربه هو عجز علمي عند بعض المنتمين إلى الإسلام يجعلهم يتصورون المباح حراما، أو النفل فرضا أو العادات عبادات أو تقاليد بعض البيئات هديا سماويا. وقد تصح لهم أفهام فقهية غير أنهم لا يحسنون وضع الخطط الراشدة لإنصاف الدين المظلوم بها ويسارعون إلى دخول معارك لم يأخذ الإسلام لها أهبته، أو يستكمل عدته.. والأدهى من ذلك كله الاشتباك مع الظواهر الشائعة دون تعمق فى فطرة الإسلام، وصبغته العقلية وقدرته على تطويع الحياة لخدمة أهدافه ومثله.. في القرن الماضى ظهر جمال الدين الأفغانى، وكان رجلا حاد الذكاء حاد الطبع يحتقر التعصب الأوروبى ويمارس إنقاذ الجماهير من غارته. ص _138(3/135)
وكان يرى أن الحكومات الإسلامية مصدر الداء وأصل البلاء فوجه إليها حملات منكرة ودخل معها فى حرب حياة أو موت.. وترك دويا واسعا ولم يصنع شيئا طائلا.. وكان الشيخ محمد عبده ألمع تلامذته، وقد شارك فى الثورة العرابية، وجنى معها الفشل، ولكن محمد عبده له ذكاء الفيلسوف، ودقة الفقيه، وأناة المربى، فأدرك أن الأمة التى تفقد التربية السليمة لا تحقق شيئا، ولا تنجح لها ثورة، وإذا نجحت لها ثورة لأمر ما، فسرعان ما يستولى عليها الشطار ونهازو الفرص، ويستغلونها لمآربهم! من أجل ذلك لجأ إلى التربية، ورفع مستوى الشعوب، وإبعاد العطب الذى سرى فى كيان ثقافتنا الدينية، واشتغل بتشكيل العقل الإسلامى على نحو صحيح! ونحن نؤكد أن الأمة التى لا تتربى لا تفلح، ولا يقوم بها جهاز إدارى محترم، وقد تكون الجامعات فيها قصورا شامخة لكنها مبنية على أسس واهية. فلنرب أنفسنا وأمتنا لنضمن الحاضر والمستقبل. ص _139(3/136)
لا عرب إن تركوا الإسلام لم يكن العرب فى جاهليتهم شيئا مذكورا، فإن الوثنية المنتشرة بينهم أزرت بأفكارهم وأخلاقهم، ونشرت بين ظهرانيهم صنوفا من الرذائل والمقابح! حتى شاء الله أن يرفع أقدارهم وأن يجعلهم قادة للناس، فبعث فيهم محمدا عليه الصلاة والسلام يتلو كتابه ويفتح به البصائر ويزكى السرائر، وقيل للعرب الأولين كما يقال للعرب المعاصرين (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) أى فيه شرفكم ومجدكم فاعقلوا ما فعل الله لكم! فإن تقاعستم وتراخيتم فاحذروا عقابا لم ينج منه الجاحدون قبلكم، ولذلك جاء هذا التهديد (و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة و أنشأنا بعدها قوما آخرين). وقد تردد العرب أول الأمر فى قبول الإسلام ولكنهم خلال عشرين سنة أقبلوا عليه وحملوا رسالته، وخلال عشرين سنة أخرى كانوا به الأمة الأولى فى العالم، فقد هزموا الروم والفرس فى معارك متقاربة الأزمنة متباعدة الأمكنة! وحققوا بهذا النصر معجزة عسكرية وسياسية لم تعهد قط فى تاريخ الأمم! والفضل الأول والأخير للإسلام وحده.. على أن النسيان سرعان ما يعترى البشر ويخدعهم عن ماضيهم الهابط كما قيل: كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ولم يكن صعلوكا إذا ما تمولا...! فجاء من الأخلاف الذاهلين من نسى فضل الإسلام، وشرع يذكر آباءه وأجداده! وما آباؤه وأجداده ليس الأعاريب عند الله من أحد! ص _140(3/137)
إنما نحو بالإسلام وحده، حياتنا حياته ومجدنا مجده! وكان المفروض أن يقود العرب العالم الإسلامى بالرسالة التى اصطفاهم الله لها ووضع بين أيديهم علمها. يقول الأستاذ أحمد بهاء الدين: " لكن العرب لم يقوموا بأعباء هذه القيادة، بل قدموا للعالم الإسلامى المشاكل فوق ما لدى كل قطر من مشاكل، قدموا خلافاتهم وحروبهم الدموية، وتخبطهم فى البحث عن هوية لهم فى هذا العصر "! نعم، العرب المعاصرون- بعد تأخير الإسلام- لا هوية لهم، وأغلبهم رفع شعار العلمانية، أو قبل الإسلام عنوانا ليس له موضوع، أو شريعة بلا أحكام، يقول بهاء الدين: ".. رحم الله رئيس غينيا الراحل أحمد سيكوتورى- الذى تكلم عدة ساعات فى القمة الإسلامية السابقة- فى الرباط- يلقن الدول العربية دروسا فى السياسة والأخلاق وإيثار المصلحة العليا والنهى عن الأضراب! قال لى عربى كبير حضر ذلك المؤتمر: كان الرؤساء العرب جالسين وقد نكسوا رؤوسهم لا يجد أحدهم ما يرد به على هذا الدرس القاسى البليغ! ". أقول: كلما ابتعد العرب عن الإسلام هووا من شاهق، وأطبقت على آفاقهم ظلمات جاهلية جديدة، وغيوم تمطرهم مطر السوء، فهل من عودة إلى الله . ص _141(3/138)
الطوائف الإسلامية المأكولة فى أنحاء العالم لن أسأم الحديث عن جماهير المسلمين الذين يعيشون " أقليات " فى شرق العالم وغربه وهم ألوف مؤلفة. إن سبعين مليونا من المسلمين يعيشون فى روسيا وحدها، بدأت مأساتهم قبل سقوط الخلافة الإسلامية وتضاعفت بعدها! وهذا العدد يساوى عدد السكان فى عشر دول عربية بينها مصر! ومع أن الرفيق " جورباتشوف " بشر بتكسير القيود وعودة الحريات فإن العداوة التقليدية للأديان عامة وللإسلام خاصة لم تخف حدتها، بل إن المسلمين شرقى الاتحاد السوفييتى وجنوبه ووسطه زادت آلامهم وفصل بعضهم من الحزب الحاكم. وبقيت الدعاية ضد الإيمان ناشطة واسعة. ومن العجائب أن " أرمينية " المسيحية ضيقة الصدر شديدة الغضب لأن بعض الأرمن يعيشون داخل أذربيجان الإسلامية، وأذربيجان دخلها الإسلام من أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان، قبل أن تعرف روسيا المسيحية، وكلا الإقليمين محكوم بالفلسفة المادية التى تقول لا إله!! فعلام الهياج والصياح؟! ومآسى المسلمين فى شرق أوروبا معروفة ولا يرثى لها أحد! قال لى سائح قادم من هناك: لو رأيت المسجد فى " بوخارست " لشعرت بالخزى! طلل متداع يكاد البوم ينعب فوقه بدل كلمات الأذان التى خفتت وانسحبت من الحياة سنين طويلة.. ص _142(3/139)
أما فى بلغاريا فالحرب لا تهدأ لمحو كل آثار تدل على أن الإسلام كان هنا.. حملات الاضطهاد، وتغيير الأسماء الإسلامية، وتغليق المساجد والمعاهد، وتقتيل المتشبثين بعقائدهم، وإشعار بقايا الأمة الإسلامية فى هذا العصر أنهم أحيط بهم، وليس لهم من ناصر يهتم بهم أو يأسى لمصابهم!! وقرأت أن الدكتور نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى قدم تقريرا لوزراء الخارجية المسلمين عن مذابح المسلمين فى بلغاريا! فهل وقع شىء؟! الذى أعلمه أن المؤتمر الإسلامى أصم أذنيه عن نداء مسلمى الفلبين ولم يقدم لهم التأييد السياسى الذى يحتاجون إليه، وكان يجب أن يكون لمسلمى الفلبين مراقب يمثلهم فى هذا المؤتمر، ويدعم قضيتهم التى تتدحرج من سىء إلى أسوأ.. إن عددا من القساوسة المتعصبين، والعملاء الصهيونيين يطاردون المجاهدين والدعاة، ويرسمون للسيدة "أكينو" سياسة استئصال وقهر للمسلمين المكافحين من عشرات السنين كى يظفروا لأنفسهم ودينهم بحق الحياة.. إننا نسأل العرب: هل سيعيشون لأنفسهم وجنسهم أم يوفون لدينهم ورسالتهم؟ إنهم إذا تجاهلوا أحزان العالم الإسلامى الكبير فلن يطول الانتظار حتى تنتقل الأحزان نفسها إلى دورهم وأهليهم. ص _143(3/140)
النفوس الكبار ما أجمل العمل المصحوب بالسرور والرضا، إن المرء يقوم به وهو مستريح له، يطوى مراحله بأجنحة الشوق ويغالب صعابه بعزم من حديد.. أما العمل الكريه فإن الإنسان يباشره ضائق الصدر يستصعب سهله، ويود الخلاص منه!طالب المعرفة يقرأ بشغف ويشارك قلبه وبصره فى الوعى والإفادة! أما المكره على الدراسة فهو يرمق الكتاب وكأنه عدو مبين..! وما يتم عمل عظيم إلا إذا كان مقرونا بالرغبة الصادقة والإقبال العارم، عندئذ تنتظر مواقف البطولة وترى مغالبة بين الإرادة الشديدة والغاية البعيدة، يتحقق فيها قول أبى الطيب: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام! والمربون العظام هم الذين يجعلون وراء كل تكليف عاطفة صادقة ووراء كل واجب باعثا حيا.. إن الله عذر فى الهجرة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، ماذا يصنعون؟ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.. فليبقوا إذن فى أوطانهم.. بيد أن قوة اليقين قد تخيل لصاحبها أنه يفعل ما لا يطيق وأنه قادر على الهجرة مع ضعفه وعجزه، ومن هنا يرسم خطته وكأنه سليم معافى، ويأبى التسليم بما فى بدنه من علة!! قال ابن عباس: سمع رجل من بنى ليث أن الله عذر المستضعفين وأسقط عنهم الهجرة! وكان الرجل شيخا مسنا مريضا، فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله! و إنى لأجد حيلة، ولى من المال ما يبلغنى المدينة، وأبعد منها، والله لا أبيت الليلة بمكة، أخرجونى! فخرجوا يحملونه على سرير حتى أتوا به " التنعيم "- على مرحلة ص _144(3/141)
من مكة- فغلبه المرض وحضره الموت! إن الحماسة الشديدة لم تغلب العلة الكامنة، وشعر الرجل المؤمن بأنه يموت دون أن يتحقق أمله، ودون أن يرضى ربه وينصر رسوله وينضم إلى إخوانه المهاجرين، فماذا يصنع؟ ضرب بيمينه على شماله كهيئة المبايع ثم ناجى ربه قائلا: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايع رسولك، ثم مات.. هذا جهد الرجل وهذا قدره، وقد نفس عن إيمانه الكامن بحركة يمناه على يسراه، وهو علي فراش الميت! وبلغ خبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية الكريمة (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما). ماذا كان سيحدث له لو بقى حيا وتمت هجرته؟ كان سيتشهد فى مقاتلة اليهودية المستكبرة التى لم تبذل أى جهد فى محاربة الوثنية، أو تهذيب الجاهلية وبذلت الجهد كله فى مقاومة الإسلام ومحاربة عقيدة التوحيد!! أو كان سيقتل فى محاربة الاستعمار الرومانى الذى أهان الإنسانية وشوه حقائق الإيمان، وبعثر وحشيته فى كل مكان!! إن صاحب الرسالة الخاتمة عليه الصلاة والسلام نجح فى صنع الرجولات الرائعة والبطولات الشامخة لأنه نجح كما لم ينجح أحد فى صياغة الأفئدة الزاكية والبصائر الهادية، فكانت طلائع الحضارة الجديدة التى أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وربطت العالم بالله الصمد. ص _145(3/142)
الساكت عن الحق.. فى أثناء متابعتى للمؤتمر الشيوعى المنعقد أخيرا فى موسكو سمعت نقدا شديدا لغزو أفغانستان، وتنديدا بالطريقة التى تم بها والمطالبه بألا يتكرر مثل هذا الخطأ فى المستقبل، واتهاما لأصحاب القرار بالعناد وقصر النظر..! كان الناقد رئيس تحرير إحدى الصحف الأسبوعية، وقد استطاع الكلام فى عهد الرئيس الروسى الجديد الذى رفع الكمامات عن الأفواه وأباح تصويب الأخطاء. ووددت لو كان بعض الصحافيين العرب يسمع معى! فإن هذا البعض هاجم المجاهدين، ووصفهم بالرجعية (!) ونظر إلى الحكومة الخائنة فى " كابول " على أنها حكومة تقدمية تحارب الإقطاع وتنشر الاشتراكية وتنصف الشعب من مستغليه!! إن الشيوعيين العرب يتمتعون بقدر كبير من الغباء والغرور، وجراءتهم على الإسلام شديدة لأنهم لا يعرفونه ولا يريدون أن يعرفوه.. قد يكون العالم العربى مبتلى ببعض الأنظمة السيئة..! لكن الذين يطلبون الإصلاح من الشيوعية كالمستجير من الرمضاء بالنار! وخير لهم أن يتعلموا قبل أن يتهجموا، وأن يدرسوا ما يقع من تجارب وتطبيقات قبل أن يصوغوا قصائد الثناء على أنظمة شرع أصحابها يتخلصون من قيودها.. يقول صديقنا الشيخ عبد القادر العمارى عن الشيوعيين العرب: إنهم ملكيون أكثر من الملك وإنهم تجهموا لما سمعوا النقد اللاذع الذى وجهته صحيفة "برافدا" للطريقة التى كان يدار بها الحزب الشيوعى خلال السبعين سنة التى انقضت!. ولا أدرى ماذا كان تعليقهم على قصة عشرين فتاة انتحرن بسبب ما يتعرض له النساء أحيانا من استغلال رؤساء الحزب وأصحاب النفوذ فيه! ولا أريد الوقوف عند هذه الفضائح! بل أريد أمرا أهم!! إن العالم العاقل يتجه إلى ص _146(3/143)
المزيد من حرية النقد، والأخذ والرد، والبحث النزيه عن الحقائق والحلول العادلة لشتى المشكلات، فهل العالم الإسلامى يسلك هذه الوجهة؟ أو بتعبير الإسلام العتيق هل العالم الإسلامى يمضى فى طريق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر و إقامة العدالة الفردية والاجتماعية والوعى الدقيق بقوله صلى الله عليه وسلم "كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم "؟ إن أخطاء الآخرين كثرت أو قلت لا تغنى عنا شيئا! إذ واجبنا أن نقدم الإسلام أسلوبا مشرفا للحياة ومنهاجا مضيئا يغرى بالدراسة والإقتداء.. وقد يشرف الآخرين أن ينقدوا أنفسهم، وأن يعترفوا بأخطائهم! ولن يشرفنا نحن أن نسكت على تقصير يقع بين ظهرانينا لأن الدنيا مليئة بالأخطاء والخطائين. ص _147(3/144)
كذب باسم الشعوب! هل نلحظه؟ قصة الفتن التى تفتك بالإيمان وأهله تحتاج إلى دراسة وتأمل، فقد كان الجبابرة قديما يقولون للمستضعفين: إنا عليكم غالبون وفوقكم قاهرون! أما اليوم فإن مالك السلطة المستبد يقول للمغلوب على أمره: أنا لك ممثل. وباسمك ناطق، ولمصلحتك أعمل! فإذا رفضت فإنى سأخمد أنفاسك!! جرى هذا الخاطر فى نفسى وأنا أقرأ إحدى خطب " جورباتشوف " الزعيم الأول لأكبر دولة شيوعية، إنه رجل صريح يبصر علل قومه ويحاول علاجها على طريقته! قال: هنالك الآن فى الاتحاد السوفييتى أربعة عشر مواطنا من كل خمسة عشر ولدوا بعد الثورة- بعد سنة 1917م- مازالوا يدعوننا إلى التخفى عن الاشتراكية (!) ثم يطرح سؤالا: لماذا ينبغى للناس الذين ولدوا فى كنف الاشتراكية ونما فيها عودهم أن يتنكروا لنظامهم؟! ولم يجب الزعيم الشيوعى عن سؤاله الذى طرحه، وإنما بذل وعودا جادة للإصلاح وتخفيف المعاناة وإشاعة الرضا.. إننى فكرت بعمق فى النسبة الكبيرة لرافضى الشيوعية، أربعة عشر مواطنا من كل خمسة عشر! أى أن المؤمنين بالشيوعية نحو 7% من سكان روسيا! وقد فرض هؤلاء الأقلون أنفسهم على الأكثرين المسحوقين، فى ظل نظام باطش لا يتيح للمعارضين حركة!. والذى يثير العجب أن المتحدث باسم الشيوعية الحاكمة يقول: باسم الشعب نعمل! لمصلحة الشعب نحكم! الولاء للشعب! الويل لأعداء الشعوب!. أين هذا الشعب الذى تتحدثون باسمه إذا كنتم 7% من تعداده؟!! وللشيوعية جانبان: أحدهما اقتصادى لا أتحدث عنه، والآخر اعتقادى أساسه إنكار الدين كله، وشعاره لا إله والحياة مادة.. ص _148(3/145)
وإنكار الدين قدر مشترك بين الشيوعية والرأسمالية والعلمانية وبعض الفلسفات الأخرى.. فهل هذا الإنكار ينهض على حرية متاحة، وقدرة متساوية على الأخذ والرد ومقارعة الحجة بالحجة، ولجوء المهزوم إلى الانسحاب أو السكوت إذا بارت بضاعته؟ كلأ، إن الإلحاد المدحور فى ساحة الرأى يتحول إلى مارد جبار، شديد الخبث طافح الشر يقول لأهل الإيمان: أنتم أعداء العقل وحرية الفكر وتقدم الحضارة وارتقاء العالم، أنتم وأنتم!!. أريد من أهل الحق أن يدرسوا خصومهم بذكاء، وأن يتابعوا الأطوار التى تتقلب فيها الفتن، وهى تنفث دخانها ليعتكر الجو، ويظلم الأفق، ويتحير الناس، إن الملاحدة أصحاب دعاوى عريضة، وهم يصلون إلى أغراضهم فى غفلة أهل الحق واسترسالهم. ص _149(3/146)
أهل الكتاب المتدينون والعرب المنحلون.. لم يتعمد المذيع أن يجمع بين الخبرين، ولكن لما سمعت أحدهما عقب الآخر شعرت بما بينهما من شبه، كان الخبر الأول إطلاق شرطة جنوب إفريقية النار على جمهور من الزنوج وقتل أربعة، وكان الخبر الثانى إطلاق شرطة إسرائيل النار على جمهور من العرب وقتل ثلاثة.. المستعمرون البيض فى جنوب أفريقية والمستعمرون اليهود فى فلسطين المحتلة يقومون بعمل واحد، إلا أن مسلسل القتل فى الأرض العربية لم ينقطع منذ الانتفاضة الأخيرة حتى أمسى قتل العرب كل يوم كالأنباء الجوية المعتادة..!! ولا أدرى لماذا احتفل العرب والمسلمون بعيد الأضحى الأخير؟! ولماذا لم يقتصر استقبال العيد على الشعائر الدينية وحدها؟ إذا كان الرجل الأبيض فى جنوب القارة السوداء يريد جعل المواطنين خدما له، وينظر إليهم بازدراء ومقت، فإن اليهودى الوافد على أرض فلسطين يريد محو كل شيء فى ثراها وإنشاء وطن له وحده، وإذا قبل بعض العرب أن يعيش رقيقا إلى حين، فلا حرج على أن يتم طرده فور الاستغناء عنه! هناك تغير هائل يقوم على المحو والإثبات، ويتناول التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والماضى والحاضر، وكل مظهر من مظاهر الوجود البشرى.. محو لما هو عربى فى جوهره أو مظهر وإثبات لما هو عبرانى بحيث تتغير الأرض غير الأرض والسكان غير السكان.. حتى العناوين المألوفة، فخليج السويس اسمه خليج سليمان، والعقبة اسمه خليج إيلات، والمسجد الأقصى اسمه الهيكل، وهناك جسر بنات يعقوب، ص _150(3/147)
واستخرجت الأسماء العتيقة من التوراة والتلمود لتوضع هنا وهناك، حتى النقد الإسرائيلى حمل اسمه الأول !! وظاهر أن العقيدة الدينية من وراء هذين الجهدين الهائلين من محو وإثبات تناولا الماضى والحاضر إعدادا لمستقبل لا عروبة فيه ولا إسلام! وبين الساسة الأوروبيين والأمريكيين من يعتبر "شيخ طريقة" فى ملته! أى أن تدينه صارخ اللون والوجهة، وهو ينظر إلى ما تفعله إسرائيل على أنه حق نابت هى عنه فى فعله، ولو قصرت لأدى هو الواجب المفروض عليه، وتقرب إلى ربه بمحو الإسلام والعروبة! أما العرب فالدين لديهم لغو على الألسنة، ونوع من الذكريات! وكان اكتفاؤهم بالعلمانية العربية من وراء حرب الحزازات التى التهمت المخيمات وساكنيها وشتت القوى التى يمكن أن تتجمع يوما لاستنقاذ الأرض والعرض! إن العرب يهلكون أنفسهم عندما يزهدون فى دينهم، ويرفضون الانتماء إليه، إنهم يفقدون دنياهم وأخراهم معا. ص _151(3/148)
الإسلام ليس دعوى! "رب ساع لقاعد" مثل يضرب للرجل يكدح فى هذه الحياة، ولكن ثمرة كدحه تصل إلى غيره ممن لم يبذل جهدا، ولم يحس تعبا.. تذكرت هذا المثل فى قضية أخرى مشابهة، فمن نصف قرن كنت كثير الكتابة فى آلام الطبقات الكادحة ، والمظالم التى تقع على رؤوس العمال والفلاحين! ولم أكن مغاليا فقد رأيت من يزرعون القطن ويكادون يمشون عراة! ومن ينحنون على آلاتهم سحابة النهار ولا يجدون إلا الكفاف على ما قدموا من عناء.. وتغيرت الدنيا، وشرعت قوانين جديدة، وضمنت للكادحين أرزاقا أرغد، بيد أن الذين تعبوا قديما ماتوا محرومين، وظفر بالأجور السخية قوم آخرون! قوم عملهم قليل وطمعهم كثير! قوم لا يعرفون أن عليهم واجبات بل يعرفون أن لهم حقوقا. قوم يحسنون: هات! ولا يحسنون خذ! هذا الصنف من الناس ينتشر على امتداد الحقول والمصانع وأنواع الحرف والوظائف ليس لهم إنتاج يذكر وليس لمطالبهم حدود! وما أرتاب فى أن هذا النوع من الأخلاق وراء تأخر الأمة وعجزها العام ومستقبلها الغائم.. وينضم إلى هذا العوج النفسى عوج آخر! فالمحفوظ في تعاليم الإسلام أنه لا آخرة لمن فقد زكاة نفسه كما قال تعالى : (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). ص _152(3/149)
ولا أريد أن أحلم مع الحالمين فأتصور الزكاة المنشودة مزيدا من الصفاء والإيثار والتسمامى وذكر الله عز وجل، ومع أن هذا كله أساس الزكاة المطلوبة للقلب والخلق.. إننى أريد المبادىء الأولية لبناء الإنسان المحترم مثل صدق الكلمة، ونظافة البدن والوسط!! عندما يضرب لك العامل موعدا لإنجاز أمر ما، ثم تجيئه فينظر إليك ببلاهة أو بصفاقة ويبدأ يختلق الأعذار! أو عندما تنظر إلى محله وأدواته فترى الفوضى والمهملات تحف به! بماذا تصف هذا المرء؟ هل فكر يوما فى ترقية نفسه وفكره؟ هل رفع مستواه بتزكية يلقى بها ربه؟ هل الإسلام بهذه الأدوات البشرية المعطوبة يشق طريقه إلى الأمام أم إلى الخلف؟ لقد رأيت عمالا وثنيين مقبلين على الواجبات الملقاة عليهم باقتدار وابتسام، يفرح بهم أصحاب الأعمال، ويؤثرونهم على غيرهم! فهل يحسب العمال المسلمون أنهم بالإهمال والاسترخاء يحفظون إيمانهم؟ ويشرفون دينهم؟ إنهم يكذبون والكذب طريق العار والنار..! ص _153(3/150)
فلسفة الصليبية فى حرب الإبادة.. ينبغى أن نعرف ما يقوله خصومنا عنا، وما هى وجهات نظرهم التى يتحركون بها ضدنا! هناك سفهاء ينطلقون بغرائز الوحوش ولا يعنيهم إلا تحقيق مآربهم، فلنعرف طباع هؤلاء! وهناك من يردد أعذارا لما يفعل، أو يذكر شبهات يحسبها براهين! ليكن، يجب أن نتبين ما يقول خصومنا على أية حال.. * * * نشرت "لوموند" فى 24/12/1959 تقريرا لضابط فرنسى فى تسويغ حرب الإبادة التى أعلنت على الجزائر، وتأييد الأساليب المفزعة فى قمع الثائرين جاءت به هذه العبارات: " إن كل حرب من هذا النوع تستلزم التعذيب، فلولا التعذيب ما ثبتت فرنسا فى وجه الغزاة سنة 1793 م، ولولا التعذيب ما انتصر "ستالين "- وثبت الشيوعية- وفى الصراع بين الحضارات الذى فرضته علينا الثورة الجزائرية لا نستطيع ترقية سكان الجزائر بدون الضغط والإكراه فهؤلاء الناس قوم بدائيون متعلقون بنبيهم محمد تعلقا قويا، ويبغضون الفرنسيين ويحتقرونهم بدوافع من دينهم! وليس فى الإمكان أن ندخل أساليب الحياة العصرية إلى بلدان الشمال الإفريقى المتشبثة بدينها بدون الديانة المسيحية، فهى وحدها الكفيلة بنشر الحرية والارتقاء بين أولئك السكان!. * * * قرأت هذه العبارات، وكنت قد طالعت فى صحف اليوم أن شابا قتل امرأة عجوزا واستولى على حليها كى يتزوج به من شابة يهواها! ص _154(3/151)
إن الشاب الحيوان لا يعرف إلا هواه، لو قلت له: أتحب أن صاحبك يقتل أمك ويستولى على ثروتها لينفقها على عشيقته لخرج بالصمت عن لا ونعم! (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)! والمستعمرون القدامى والجدد لا يعرفون إلا أهواءهم، وقد سخروا تفوقهم فى السلاح كى يبلغوا مآربهم، وعلاقاتهم بموسى وعيسى مقطوعة، وما يذكرون الدين إلا تزويرا. أما المسلمون فإن محبتهم لمحمد لا تنكر، و اعتصامهم بدينه ظهير لهم فى حرب تصون حقوقهم وتضمن بقاءهم، وقد أشار إلى ذلك مؤلفوا كتاب "الجزائر الثائرة" حيث قالوا " إن الحرب القائمة بالجزائر ليست حربا دينية أو جنسية أو حضارية! إنها حرب شعب مظلوم يريد أن يتحرر من ربقة شعب ظالم، إلا أن الإسلام عنصر فعال فى دفع الجزائريين إلى طلب هذا التحرر، ولقد أيقن الجزائريون منذ الأيام الأولى للاحتلال الفرنسى أن الهدف هو القضاء على الإسلام، ومن أجل ذلك أدركوا أن الاعتصام بالإسلام مقرون بإرادة التحرر، والواقع أن الاحتلال حمل منذ البداية صفة الغزو الصليبى ". واليوم يكرر التاريخ نفسه فى فلسطين، فالمراد محو عقيدة وتراث وتاريخ ولغة، محو شخصية كاملة لشعب مستباح الأرض والعرض! واستبعاد الإسلام من المعركة، أعنى استبعاد الإسلام وحده، وبقاء إسرائيل تختال بدينها، هو فى الحقيقة هزيمة عاجلة قبل الهزيمة الماحقة التى يمهد لها العلمانيون، ويتحدث عنها دبلوماسيون خونة. ص _155(3/152)
هذه الانتفاضة المجيدة، لا يجوز أن تترك الشهور تمضى ثقيلة طويلة على الانتفاضة الفلسطينية، والخسائر البشرية والمالية تزيد، والحرب لا تؤذن بنهاية، ولا يزال اليهود يهدمون البيوت، وينفون الزعماء، ويدقون بكعوب البنادق عظام الفتيان الذين يأسرونهم!. والضمير العالمى يغط فى غيبوبته غير مبال بما يقع، لا، بل إن كبرى دول العالم- أعنى الولايات المتحدة- تؤيد سياسة إسرائيل، ويقول نائب رئيسها: إنه يرشح نفسه للرئاسة وعندما يظفر بها سيمضى فى برنامج حرب الكواكب حتى يقى أمريكا غزو الصواريخ العابرة للقارات، وحتى يضمن حماية إسرائيل!!. حماية إسرائيل ممن؟! الفتيان الذين يقاتلون بإلقاء الحجارة؟! من الجيران الذين لا يصنعون صاروخا يحمل كيدا لعدو؟!. إنه تصريح غريب، ولكن الرجل يترجم بأمانة عن مشاعره ضد العرب " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " ولا يزال التدين المنحرف الحاقد يعمل عمله ضد أمتنا الساذجة!. إننى أوازن بين وضعين متباعدين: الفتية الذين يملكون العقيدة ولا يملكون السلاح ومع ذلك يصابرون ويرابطون ويقاومون ويمدون أجل انتفاضتهم ما بقى فى صدورهم نفس! والجيوش التى قاتلت فى حرب الأيام الستة أو الساعات الست، والتى كانت تملك السلاح ولا تملك الإيمان، والتى أهدت إسرائيل أخزى نصر عرفه التاريخ، ولحقت بالعرب أسوأ هزيمة فى ماضيهم الطويل! إن العقيدة كانت ولا تزال صانعة المعجزات، والذين يوهنون الإيمان فى صفوفنا، ويحاربون الدين فى أخلاقنا ومناهجنا ناس ليسوا منا، بل هم فرقة من جيش العدو ص _156(3/153)
متنكر داخل بلادنا، وتعمل لمصلحة خصوم مكرة مهرة، بل هم أجدى على إسرائيل من حرب الكواكب التى يعد بها "جورج شولتز" الطامع فى رياسة أمريكا!. إن المجاهدين الأفغان الذين صنعهم الإسلام وحده أثاروا الدهشة بالنتائج الباهرة التى حققوها، قال المراقبون العسكريون: إنهم أسقطوا ستين طائرة سمتية بصواريخ "ستينجر" التى يحملونها على أكتافهم! وأن براعتهم فى إلحاق الدمار بخصومهم هى التى جعلت الروس يقبلون فكرة الانسحاب ووقف إطلاق النار. وأجمع خبراء حلف الأطلسى أن أولئك المجاهدين أصبحوا يتمتعون بخبرات قتالية فى الجبال لا تتوفر لقوات الحلف..!. ذاك أثر الإيمان الحق، والانطلاق باسم الله لإعلاء كلمة الله! وذاك ما يكمن الآن فى أفئدة شباب الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، الانتفاضة التى داست العلمانية بنعالها، وردت الحياة إلى قضية فلسطين.. ص _157(3/154)
تحذير إلى قادة الجهاد الأفغانى يظهر أن بعض القادة فى الجهاد الأفغانى لا يقدرون أمل المسلمين فيهم ولا مستقبل الإسلام على أيديهم! وإلا فكيف أفسر الأوامر المتناقضة التى تصدر عنهم؟!! هذا قائد يقول للمجاهدين: لا تتعقبوا الجنود الروس المنسحبين، ودعوهم يتركوا أرضنا، وهذا قائد آخر يقول: اشتبكوا معهم وألحقوا ما استطعتم من خسائر بهم! أليس لكم أيها القادة مجلس حرب تدرسون فيه خططكم، وتصفون فيه خلافاتكم، وتنزل فيه القلة على رأى الكثرة كما يصنع الناس فى كل مكان؟!! هل من مصلحة المعركة أن تدار بهذا الشجار؟! هل يشرف المسلمين أن يكتشف القريب والبعيد ما بينكم من فجوات؟! أما كفاكم أنكم مازلتم جبهات شتى وكان يجب أن تكونوا رجلا واحدا؟! الحق أن نصر الله الذى تنزل على المجاهدين إنما جاء من الشهداء المجهولين والمكافحين الخاملين الذين خرجوا عراة من كل أعراض الدنيا وجاهها، وقاتلوا لتكون كلمة الله هى العليا، وكلمة أعدائه السفلى! وصدق رسول الله: " هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟.. " ولو نظر الله إلى شعور القادة بذاتهم واستدامتهم لخلافاتهم، ما ساق لهم نصرا، ولا أنزل عليهم خيرا.. إننى أذكر قادة الجهاد الأفغانى بقوله تعالى : (و أطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم). ص _158(3/155)
لننسى أشخاصنا فى الأيام العصيبة التى تمر بها أمتنا.. لكننا لم ننس- بعد- أشخاصنا، ومازلنا ندور حولها! وأصارح إخواني بأني استقبلت قرار الأردن بمغادرة الضفة الغربية بفتور أو بانكسار، فإن الطابع الإسلامى للمعركة هو الذى يعنينى، لأنه وحده طريق النصر! إن اليهود يقاتلون فى كل مكان بعقيدتهم الدينية، والقوى التى تحالفهم وتشد أزرهم تفعل ذلك ببواعث دينية!. أما نحن فعن عمد نغفل دور الإسلام فى إعداد المقاتلين وتصبيرهم على التضحية وتعليقهم بوجه الله، ونحسب الفدائية لونا من الجراءة التى كانت تحرك عنتر بن شداد!. وأريد أن أصارح العدو الصديق بما عندى: إذا خيرت بين جمهورية علمانية أو مملكة إسلامية فسيكون هواى مع الإسلام وحده، ويعلم الناس أنى ما كنت يوما فى حاشية أحد الملوك.. إننى لا أنتظر خيرا أبدأ من قيادة " جورج حبش "، أو أمثاله من اليساريين! ولا أنتظر بركات الله فى رفع شعار العلمانية وتنكيس راية الإسلام!. إننى أحذر العرب من الغرق إذا آثروا الانتماء العلماني، وزهدوا فى الإسلام عنوانا وموضوعا! إن اللجج المقبلة ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور. اذكروا ربكم وانسوا أشخاصكم تفلحوا.. ص _159(3/156)
لا تظلمونا.. يا أهل الكتاب لى أصدقاء من أهل الكتاب فى نفوسهم طيبة، وفى عقولهم ذكاء، ولهم منطق رأيت أن أستمع إليه وأجيب عليه.. قال لى أحدهم: ما نهاية العداء القائم بين العرب واليهود ؟ فعرفت ما يقصد! وقلت له: يا صديقى إن أولى الإنصاف من المؤرخين يقررون أنه لولا ظهور الإسلام لبادت اليهودية واليهود جميعا فى وقدة التعصب القديم ضدهم، وعدهم مسئولين عن دم المسيح كما تقرر ذلك الأناجيل التى بين أيدى أصحابها. لقد عاش اليهود فى أرجاء العالم الإسلامى موفورين، ما اضطهد أحدهم فى اليمن أو فى مصر أو فى المغرب.. ولو أنهم كانوا ضعف عددهم الحالى- وهم نحو خمسة عشر مليونا- ما فكر المسلمون فى اضطهادهم ولا نظروا لاختلاف الدين نظرة حيف أو بغضاء.. إن المسلمين يعلمون أن نبيهم الخاتم مات ودرعه مرهونة عند تاجر يهودى مصون الدم والعرض والمال، قادر كل القدرة على ألا يسلف النبى إلا برهن، ما شعر بقلق ولا حرج.. إن التظالم لاختلاف الدين لا تعرفه أخلاقنا ولا تقاليدنا ولا شرائعنا.. لكن عندما يزحف اليهود على فلسطين، ونيتهم المعلنة إعادة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وتشريد وإذلال العرب فى البلد المحروب، وانتهاز الهزيمة الإسلامية للقضاء على تراث محمد كله.. فماذا تنتظر من العرب والمسلمين؟ الموت دون هذا بيقين!. وشىء آخر لابد من مواجهته! إن الإنجليز لما ملكوا فلسطين قاتلوا العرب تمكينا لليهود، أعطشوا أرضهم، وأذلوا جانبهم، وقرروا إذا وجدوا رصاصة فى بيت يدافع بها عن نفسه، أن يدمروا البيت ليسكن أهله فى العراء! وذلك كله يقع فى ظل الكلمة التى قالها مارشالهم "اللنبى" بعد الاستيلاء على فلسطين: اليوم انتهت الحروب الصليبية..!. ص _160(3/157)
وتفككت الإمبراطورية البريطانية، وخلفها فى قيادة العالم الأمريكان، فاستأنفوا المساندة الصليبية لبنى إسرائيل، وأمدوهم بسيل من المال والسلاح لا تغيض منابعه، ووقفوا محامين عنهم فى مجلس الأمن، فإذا قرر أعضاء المجلس التنديد بإسرائيل لما تقترفه من آثام سارع المندوب الأمريكى بإبطال القرار، وإعطاء إسرائيل الحق فى المزيد من الطغيان.. ظاهر أن الإسلام يلقى عنتا موصولا، وأن أهله يلقون من إخوانهم أهل الكتاب، إن صح التعبير، الامتهان والغدر. يا صديقى ضع نفسك مكانى ثم أجب أنت عن السؤال الذى وجهته إلى، إننا نحن إلى سلام يملأ العالم، فهل أنتم تعينونا على صنعه؟. ص _161(3/158)
من هذر الكتاب المرتدين تابعت الانتفاضة الكبيرة لإخواننا فى فلسطين المحتلة، ورأيت البنين والبنات يقذفون بالحجارة جيش إسرائيل المزود بأحدث الأسلحة وأفتكها، لم تخنهم شجاعتهم ولم يتسلل إلى قلوبهم خوف أو جزع! ورأيت الأمهات العربيات يخرجن من المخيمات المحاصرة لجلب الطعام إلى أطفالهن، ورأيت هذا الطعام يداس تحت نعال الجنود، واستمعت إلى التعليمات الجريئة المتجبرة التى كان يصدرها القادة اليهود، وأحزننى أن البغاث بأرضنا يستنسر، وأن الأحرار يضامون، وأن ساسة العالم الأول ينظرون إلى المعركة الدائرة إما باستخفاف، أو بكلمات ميتة، أو باستنكار سلبى خافت. ولكن الذى أثار غضبى واشمئزازى ما كتبه هنا بعض الصحافيين العرب! فقد لاحظوا أن الإسلام محرك هذه الانتفاضة ومشعل حماسها، وأن صيحات التكبير كانت تملأ الجو وتمد بالطاقة.. فقلت لمن حولى: ما هؤلاء الناس؟ قال: ظاهر من تعليقاتهم أنهم لا يريدون إضفاء الطابع الإسلامى على الثورة المتجددة، ولا يريدون العودة إلى عصر الحروب الدينية!. قلت: ومن يريد هذه العودة؟ إن الحروب الدينية لا تخطر لنا ببال! إن غيرنا هو الذى فعلها! إن بنى إسرائيل الذين تحركوا باسم التوراة، وزعموا أن الأرض المقدسة ميراث لهم، وأن العرب مغتصبون يجب إخراجهم منها، وأنهم الأحق بهذه الأرض لا أصحابها من عشرات القرون، بل مهاجرون مستخرجون استخراجا من روسيا وبولندا، وشتى أقطار الأرض ليحلوا محل العرب الذين يطردون من مدنهم وقراهم ويسكنون فى مخيمات للاجئين لا حاضر لهم ولا مستقبل.. فإذا أقبلت عقيدة ما لاغتصاب الأرض وطرد السكان جاز لها أن تعلن عن نفسها، وأن تتخذ الدين عنوانا لها. ص _162(3/159)
أما إذا استظهر السكان بعقيدتهم وهم يدافعون عن حقوقهم فإن ذلك مثار النقد والغرابة؟! قال صاحبى: ذلك لأن الإسلام هو الدين المدافع، والإسلام اسم ينبغى أن يختفى من ميادين كثيرة، وألا تتحرك تحت لوائه جماهير أو طوائف! ماذا أقول عن هؤلاء الصحافيين الناقمين على الإسلام؟! إنهم لم يرتدوا عنه لأنهم لم يسبق لهم أن دخلوا فيه! إنهم نوع من الناس لم يصنع عقله فى مصر أو غيرها من بلاد العرب، إنهم صناعة الاستعمار الثقافى الأنكى من الاستعمار العسكرى.. فلنحذر على أنفسنا. ص _163(3/160)
شعب مختار!! العبقرية لا تورث، وأغلب القادة والمفكرين الكبار ولدوا من آباء عاديين، فلما أعقبوا أولادا من بعدهم كان أغلب هؤلاء من سواد الناس ذكاء وقدرة.. وقد اتفقت كلمة علماء التربية على أن الحق وليد تفاعل معقد بين الوراثة والبيئة، ونحن لا سلطان لنا على روافد الوراثة ولا على عناصر البيئة، يكاد الأمر كله يكون غيبا! ومع ذلك فإن الاعتداد بالآباء والاعتماد على الأصول مسلك شائع بين كثير من الناس! وإذا كان هذا الاعتداد أو ذلك الاعتماد منكورا فى عمل الأفراد فهو فى أحوال الأمم والجماعات أشد نكرا! وعندما ندرس التاريخ الإنسانى نجد الحضارات الكبيرة تنقلت من جنس إلى جنس، ومن قطر إلى قطر، وأن شعوبا ارتفعت حتى بلغت القمم، وهبطت حتى بلغت السفوح، فكانت كأسراب الطير التى قال فيها الشاعر: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع ومن ثم فإن الزعم بأن هناك شعبا مختارا خلقه الله للسيادة! وجعل الآخرين له فى مكان الخدم! فرية افتراها ذهن مريض!. وقد طالعت من مدة مقالا فى مجلة " لوفيجارو " الفرنسية عنوانه: أما تزال هناك مسألة يهودية؟ ماذا يعنى أن تكون يهوديا عام 1987؟ جاءت فيه هذه العبارات لكاتب يهودى: " ليس هناك شعب أكثر عبقرية من الشعب اليهودي، لا يوجد هذا الشعب المزعوم، فاليهود هم الذين أوجدوا وأمدوا أكبر الإيحاءات فى هذا الكون! وقد تركوا بصماتهم على التاريخ العالمى! وفى كل حقبة يوجد بينهم من استحق الخلود! إنهم شعب عبقرى وعبقريته ترجع إلى ظروفه السيئة، إنه- كما يقول الكاتب- عبقرى لأنه مريض، متفوق لأنه مهان، مبدع لأنه شاذ "!. ص _164(3/161)
وهذا الكلام يشبه هذيان المحموم، فاليهود مثل غيرهم من الشعوب سادوا وأسفوا، غلبوا وانهزموا، وتاريخ ضيعتهم أطول كثيرا كثيرا من تاريخ عزهم! وقد أتعبوا أنبياءهم، وآخر من تحفل أذاهم بجلد عيسى بن مريم عليه السلام، وقد أعتبر من أولى العزم لصبره الطويل فى كسر غرورهم. وقديما هرب اليهود من التعصب الدينى أيام الرومان وأنشئوا مستعمرات لهم فى الجزيرة العربية، وأحسن العرب جوارهم سنين عددا فلما ظهر النبى الخاتم من العرب وكانوا يتوقعونه منهم، كانوا أول كافر به وأشد الناس إيذاء له.. واليوم يكرر التاريخ نفسه، فقد شن عليهم الأوروبيون حرب إبادة من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، فاتجهوا إلى فلسطين ينتقمون من العرب (!) ويقتضون منهم آثاما لم يرتكبوها! وحققوا المثل الشائع بين العوام: لم يستطع ضرب الحمار فضرب البردعة!. ولكن العرب يستحقون لأنهم أمسوا بين الناس براء! ولن ينجوا من عصا الأذلاء حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى دينهم. ص _165(3/162)
أزمة الدعاة.. طاحنة لعل الصلاحية الذاتية للإسلام هى التى تستبقى وجوده وتوسع دائرته جيلا بعد جيل! أما أجهزة الدعاية التى تفتح عقولا جديدة، وتزيد أعداد المؤمنين فليس لها أثر يذكر لاسيما فى هذا العصر الذى شهد فى بلاد الإسلام سلطات لا تظهر الانتماء إليه، ولا تكترث بالولاء له!. والحكومات المرتبطة ارتباطا وثيقا بإحدى الجبهتين الكبيرتين فى العالم تؤثر العلمانية أو القومية أو أى عنوان يؤخر الدين ويوهى الروابط به! ومن ثم فإن أجهزة الدعوة الصحيحة تنبت بين الشعوب وتستمد قدرتها من روح الجماهير وتتعرض بين الحين والحين لمفاجآت كئيبة.. ومع ذلك فإن هناك سلطات رسمية بادية الاهتمام بالدعوة والدعاة، تضع خططا لا بأس بها كى تستطيع الرسالة الإسلامية المضى فى طريقها ومغالبة العوائق التى تبعثر فى وجهها. وأرى أن تكوين الدعاة هو حجر الأساس فى كل جهاز ناجح! إن الله اختار رسله من أنفس المعادن البشرية، وزودهم بعناصر عقلية وروحية غلابة، ومن ثم فليس يصلح لخلافتهم فى نشر الدعوة أصحاب الآفاق الضيقة والمواهب الرخيصة! أما المتملقون والمرتزقون فيجب أن يكنسوا كنسا من هذا الميدان، فليسوا يصلحون له أبدا. ونحن المسلمين نتبع كتابا هو قمة البلاغة العربية ولا يملك فهم هذا الكتاب إلا أديب ذواقة حى العاطفة ذكى الفكر، ولذلك ينبغى الابتعاد- فى علوم الدين كلها- عن ذوى المشاعر الخامدة والأذهان الخاملة فهم لا يصلحون للفقه فكيف يصلحون لتفقيه غيرهم؟!!. ص _166(3/163)
والبصر بالسنة الشريفة لا يقدر عليه محروم من معرفة العظمة المحمدية، مبهور بجلالها، مربوط بخلالها، مشغول بحسن الأسوة ودقة الاقتداء! أما المتكلمون فى السنن وقلوبهم هواء فمن مصلحة الإسلام أن يصمتوا فهم وبال عليه! سمعت خطيبا تكلم كثيرا وأطنب، فقلت فى نفسى: هذه خطبة أخذت من ليل الشتاء ثلاث صفات الطول، والظلمة والبرودة!. وسمع الحسن البصرى رجلا ألقى خطبة بليغة فلم يرق قلبه لها فقال للخطيب: إن بقلبى شيئا أو بقلبك!. والإسلام فى هذه الأيام مبتلى بفوضى هائلة فى أجهزة الدعوة، وكثير من المتكلمين والمفتين والمدرسين مصاب بضحالة الثقافة وسقام الفطرة، وطلب الدنيا وتهيب الظالمين ، ذلك إلى عدد كبير من أصحاب الجهل المركب الذين يدعون إلى وجهات نظرهم أو تقاليد بيتهم وهم يحسبون أنهم يدعون إلى الإسلام.. حتى لقد خيل إلى أن أجهزة الدعوة يديرها أحيانا بعض أعداء الإسلام، وقد يكون الجاهل عدو نفسه إن لم يكن أداة لغيره من الأعداء. ص _167(3/164)
الصحافيون الخونة لقضايانا الكبرى رجوت ومازلت أرجو أن تهتم وسائل الإعلام العربى بشئون المسلمين حيث كانوا، وبقضايا الإسلام المعقدة فى كثير من الأقطار، فإن هناك قصورا أو تقصير فى هذا الميدان. قرأ على صديق يهتم بمطالعة الصحف الأجنبية عنوانا لفت نظرى فى إحدى المجلات الفرنسية " الى. كى. جى. بى " ضد محمد! أى الاتحاد السوفييتى يخاصم الإسلام! قلت للصديق لا جديد فى هذا، فعداوة الشيوعية للإسلام معروفة، وهى نابعة من عداوتها للدين كله! ومع ذلك فأحب استجلاء الخبر! قال: خلال الأشهر الأخيرة ضاعفت السلطات فى آسيا الوسطى نشاطها فى مراقبة المتدينين، وتعقب حركاتهم لاسيما عندما تجددت ذكرى وفاة البطل المجاهد "قربان مراد هشام" وحجت الجماهير إلى قبره تدعو له وتحيى كفاحه. وقربان مراد هشام واحد من أشجع القادة الذين قاوموا غزو القياصرة القدامى للبلاد الإسلامية فى وسط آسيا، إن القرن الماضى شهد حربا صليبية مروعة شنها القياصرة الروس على تركستان، وقد استمات المسلمون فى صد الجيوش الزاحفة، وأذهلت بسالتهم المهاجمين، لم يتخلوا عن شبر من الأرض إلا بعد ما تركوا فيه أثرا من دمائهم! لكنهم عجزوا عن الصمود، وتركهم العالم الإسلامى للقياصرة المتعصبين، فاحتلت أرضهم وطوى تاريخهم! وورثهم الشيوعيون بعد ثورتهم من سبعين سنة، والمسلمون الآن ربع سكان الاتحاد السوفييتى، والأرض الإسلامية المنهوبة نصف مساحته الرحبة!. هل استسلم المؤمنون المهزومون لما وقع؟ تقول جريدة "سوفيت أزبكستان " فى الأيام الماضية تم حل جماعة إسلامية ناشطة، واعتقل زعيمها وهو عامل فى "طشقند" وحكم عليه بالسجن سبع سنوات فى معسكر عمل خاضع لأنظمة صارمة! ص _168(3/165)
كانت هذه الجماعة تبيع نشرات دينية وشرائط مسجلا عليها القرآن الكريم، وتربط المسلمين باللغة العربية.. كما تم فى الفترة نفسها- كما تقول الصحيفة- إغلاق مدرسة غير قانونية كانت تقوم بتحفيظ القرآن الكريم فى ضواحى "طشقند"، وتقول الى"كى. جى. بى" إن مدير المدرسة مجهول!. هذه المعلومات كلها نشرتها صحيفة فرنسية، أما صحفنا العربية فتفضل على نشرها صورة لعارضة أزياء، أو خبر عن قاتل نساء، أو آخر المحاولات لعلاج مرض الإيدز أو نشاطا دمويا لإحدى المنظمات الانفصالية. أما رجالنا الرابضون فى مواقف الحراسة، المدافعون عن معالم الإسلام فى الفليبين، وأفغانستان، وأعماق روسيا، وأواسط إفريقيا فأمرهم دون ذلك! إننا نذكر هؤلاء بالحديث " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " . ص _169(3/166)
المذابح الطائفية بالهند ما تزال تفتك بنا بين الحين والحين يتعرض المستضعفون من المسلمين لما يشبه حرب الإبادة! فيقتل العشرات والمئات من الأولاد والشيوخ، وتوارى جثثهم فى ضجة أو فى خفوت، ولا يشعر القتلة بإثم أو عار! بل قد يشعرون براحة النفس عندما ينفسون بجرائمهم عن تعصب دينى مسعور، أو تفوق جنسى محقور!. ومستبيحو الدم على هذا النحو يقترفون آثامهم وهم واثقون من أنه لا قصاص! لأن التفكك الذى عرا المسلمين فى أرجاء الأرض جعل بعضهم لا يشعر بآلام البعض الآخر، بل ربما جهل وجوده، ونسى أخباره.. وقد قرأت ما أذاعته لجنة العفو الدولية عما أصاب المسلمين فى ولاية " أوتار برادش " الهندية، " فإن رجال الشرطة! هناك ذبحوا أعدادا كبيرة من المسلمين، ومن بين الضحايا أطفال فى سن الثالثة.. وذكر تقرير اللجنة أن القوات الإقليمية للولاية ألقت بعدد كبير من الجثث فى الأنهار والقنوات.. كما تخلصت بالحرق من عدد آخر...! وأضاف التقرير أنه تم العثور على أكثر من 80 جثة منها 29 مقتولة، والأخرى ذكر أنها مفقودة.. ونقل التقرير عن طالب نجا من المذبحة بعد سقوطه فى النهر مصابا برصاصة: أن الجنود أطلقوا دفعات من النار على الأسر الهاربة عند الشاطىء، وأنه شاهد الأجسام وهى تسقط فى الماء.. كما ذكر التقرير أن قرى إسلامية هوجمت..، وأبيدت عائلات بأكملها..، وأن النار أشعلت فى المساكن، وأمكن التعرف على ثلاثين جثة بينها عشرة أطفال.. ". ذلك ما ذكرته واستنكرته لجنة العفو الدولية، وطلبت من الحكومة الهندية معاقبة المسئولين عن هذه المأسى!. ص _170(3/167)
ونحن نعرف أن الضمير الوثني لا يستيقظ أبدا، وأن سلسلة الآلام لن تنقطع مادام المسلمون فى الأوطان الأم على الحال التى نحسها. هناك جماعات تبحث عن الطعام وعن سلع غائبة بعضها من الضرورات وبعضها من المرفهات!. وهناك ثرثارون مشغولون برأى الدين فى الغناء والموسيقى، والميل الحاد إلى مذهب التحريم، والحملة العميفة على مذهب الإباحة!!. وهناك من لا يبكى على القتلى لأنهم يتبعون المذهب الحنفى!!. وهناك من لا يدرى مواقع المسلمين على ظهر الأرض، ولا يشعر باهتمام لإخوان العقيدة هنا وهناك، ولكنه يهتم أشد الاهتمام بإحفاء شاربه!!. وأمة هذه حالها لابد أن تسقط من عين الله، وأن تتجمع الذئاب على جيفتها، وقانون الله الخالد هو : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ص _171(3/168)
أدعياء الدعوة وخطرهم على ديننا فى أحد الأقطار التى زرتها سمعت شكوى عامة من قلة قطع الغيار للسيارات المعطوبة، مما أغلى الأسعار وضاعف المشقات! فقلت: ترى ماذا يحدث لو أغلق الباب كل الإغلاق أمام هذه القطع المطلوبة؟ فكان الجواب الصمت! قلت: سنركب بدل السيارات الخيل والبغال والحمير!! وسمعت شكاة أخرى عن غلاء الأدوية وندرتها، قلت: ما السبب؟ وكان الجواب لا توجد عملة صعبة نشترى بها الأدوية من صانعيها! وساكت: ماذا يحدث لو دامت تلك الحال؟ وكان الجواب: تستفحل العلل ويتعرض المرضى للهلاك! قلت: أو نعود لاستعمال الأعشاب وعقاقير العطارين! وربما عدنا إلى تعليق التعاويذ والتمائم!! يا قوم إن تسعة أعشار العمل الصالح مجهولة لديكم، والعمل الصالح ضميمة لابد منها إلى الإيمان، ولا نجاة لكم فى الدنيا والآخرة إلا بإتقان الصالحات التى لا تعرفون منها غير النزر اليسير!. دائرة العمل الصالح تشتمل كل الصناعات المدنية والعسكرية، وكل الأنشطة الصحية والإدارية، وكل الجهود الزراعية والتجارية، والراسخون فى هذه الميادين ربما كانوا أجدى على الإسلام من ثرثارين فى فضول العلوم التى نسميها دينية! إن هؤلاء الثرثارين شغلوا الناس بقضايا هى من قبيل "علم لا ينفع وجهل لا يضر" وأذكر أنى كنت أقول لطلابى فى إحدى المحاضرات: إن مصدر الاعتقاد عندنا هو الخبر المتواتر، فى كتاب الله وسنة رسوله! وفوجئت بكاتب يرد على فى إحدى الصحف يقول: إن هناك عقائد كثيرة من أخبار الآحاد مثل نبوة آدم، ونزول الحجر الأسود من السماء، والعشرة المبشرين بالجنة والإمام المهدى المنتظر.. الخ.. وجاءنى طالب يسأل: ماذا أقول؟ فأجبت غفر الله للبخارى إمام المحدثين إنه ص _172(3/169)
ما كان يدرى هذه العقائد! ما روى حديثا عن المهدى، ولا عن نزول الحجر ولا عن العشرة الكرام، ولا عن رسالة آدم!! أكان الإمام الكبير كافرا عندما جهل هذه الأمور أو عندما تجاوزها فى صحيحه؟ يا بنى هذه قضايا يتناولها العلماء بالقبول والرد حسب المقاييس العلمية ولا تتعلق بكفر ولا إيمان، وإنما تتعلق بالخطأ والصواب، وخير لكم أن تعلموا المسلمين ما هم فى أمس الحاجة إليه، لاسيما فى هذا العصر العضوض! وقابلنى الكاتب يريد استغضابى، وكان عابس الوجه! فقلت ضاحكا: قال رجل لأبى حنيفة: لا أدرى نصف العلم! فقال له أبو حنيفة: قلها مرتين تحرز العلم كله! وقال له الحلاق: لو نزعنا الشعرة البيضاء حفت محلها شعرتان! فقال له: انزع الشعر الأسود كله فلعله يعود مضاعفا!! كان علماؤنا الأولون يجمعون بين الفقه والظرف! أما أنتم فتجمعون بين القصور والتجهم، ما أشقى الإسلام بكم.. ص _173(3/170)
خطورة المسكرات على العالم لاحظت أن هناك اتفاقا بين العالم الشيوعى والعالم الرأسمالى على كراهية الخمر ومحاولة فطام الناس عن شربها! وفى شكاة من المسئولين الروس أن الخسائر فادحة من مدير يصدر أوامره وهو مخمور، وأن الخسائر فادحة كذلك من عامل يعالج آلته وهو فى غيبوبة. والحديث موصول عن أخطار الطرق التى تنشأ من تهور السائقين السكارى، وآلاف الضحايا كل يوم، بل كل ساعة من جنون أولئك السائقين.. وقد رفع الروس أخيرا سعر زجاجة الخمر نحو ستة أضعاف، وقرروا إغلاق الحانات من السابعة مساء!!. وما يقع فى روسيا صورة مشابهة لما يقع فى أوروبا وأمريكا من مآس خلقية واجتماعية واقتصادية بسبب الإقبال على الخمور، وتهالك الجماهير على شربها.. والقوم يزنون الأضرار المحتومة بما يعترى الإنتاج من نقص، وما يصيب الأجسام من علل، وقلما يذكرون ما يصيب الكرامات من هوان وما يصيب الأرواح والعقول من دنس.. وكنت أناقش قادما من روسيا عن الاضطرابات الجنسية هناك فقال لى: الشذوذ نادر! ومن أراد الزواج فلن يتكلف أكثر من الذهاب إلى المسجل الحكومى ليذكر بمن تزوج؟ قلت: هل معنى ذلك أنه لا زنى؟ قال: لا! فإن هذه الفاحشة تنتشر مع انتشار الخمر وغلبة السكر وتحرك الغرائز وغيبة العقول!. واستطرد: إن الجماهير تحترم من المسلمين صدوفهم عن الخمر ورفضهم للخنا! ويوم يرون مسلما يسكر فإنهم يزدرونه ويسقطون عيونهم. ص _174(3/171)
وعواصم العالم الغربى تجعل من الخمر مهادا لانطلاق شهوانى ردىء، والخمر وراء مذابح الأعراض رضا أو اغتصابا. وهى الجسر الذى تعبر عليه المخدرات لتأتى على ما بقى من حضارة الغرب، ولتنشىء أجيالا محقورة تفقد العلم والإيمان.. ونتساءل: لماذا لا يحرم الناس الخمر بالأسلوب الحاسم الشامل الذى وضعه الإسلام؟. والجواب المحزن: لأنهم لا يريدون أن ينسب إلى الإسلام صواب، ولا يحبون القول بأنه سبق إلى خير!. وقد زعم قسن غيور أن النصرانية تحرم الخمر، ودعا قومه إلى تركها!. وليته كان صادقا وكيف يصدق، ففى الإنجيل لديهم أن عيسى شرب خمرا فى العشاء الربانى! وكذلك شرب أنبياء العهد القديم الخمر حتى فقدوا الوعى واقترفوا المناكر..!! إنه لا علاج إلا فى الإسلام فهل نعى قيمة الحظر الصارم الذى فرضه الإسلام على الخمور كلها، ونحترم هذا الحكم؟. ص _175(3/172)
مع سفير ألمانى أسلم!! عندما علمت أن سفير ألمانيا فى الجزائر أعلن إسلامه من أمد قريب أحسست قدرا من السرور، ودعوت الله له أن يزيده هدى وثباتا. كان اسمه "ووليفريد هوفمان " فاستبقى الاسم القديم وضم إليه اسما إسلاميا هو "مراد". ومراد فى مصطلحات الصوفية أعلى من مريد! لأن المراد من اختارته العناية العليا، وسبقت إليه بالحسنى. وقد ألف الأخ الكريم عدة كتب شرح فيها إيمانه الجديد، منها: " يوميات جرمانى أسلم " و"مدخل فلسفى إلى الإسلام " ورأيت بعض الترجمات الإنجليزية لما كتب. الحق أن الفكر سرح بي وأنا أتأمل فى هذه القصة. إن الشاعر الألمانى "جيته " أبدى إعجابا عميقا بتعاليم الإسلام. وقال عندما شرح له: إن كان هذا هو الإسلام فكلنا مسلمون. ثم إن هناك أمرا جديرا بالتسجيل! قال لى الدكتور حمدى زقزوق عميد كلية أصول الدين بالقاهرة: إن لديه صورة من الإجازة العلمية التى حصل عليها الفيلسوف الألمانى "كانت " فقلت له: وما قيمة هذه الصورة؟! قال: فى صدرها من أعلى كتبت الآية.. " بسم الله الرحمن الرحيم "! وشعرت بالأسى والفخر معا! وقلت: كتبت البسملة يوم كان العلم يمشى فى ركابنا وينطلق من كتابنا، وتزخر به صحائفنا! فأين نحن الآن؟ وأعود إلى السفير الذى دخل فى الإسلام، إن الرجل قهر عوائق كبيرة، أولها المواريث التى آلت إليه، وارتبط بها حينا من الدهر، وكثير من الناس يشعر بالريبة فيما ورث، ويساوره قلق وضيق، ومع ذلك يبقى فى مكانته لا يحب التحول عنها. ص _176(3/173)
وهناك أمر أخطر من هذه المواريث المريبة، هو غربة الحق أو غموضه!. والإسلام تكتنفه ثقافات مغشوشة تشينه ولا تزينه، وتكتنف أمته تقاليد اجتماعية وإدارية تدفع إلى الهرب منه.. ومع ذلك كله فإن بعض الرجال يقتحم هذه العوائق كلها، ولا يستريح حتى يعرف الله الواحد، ويسلم إليه وجهه، ويقضى بقية عمره عابدا داعيا إلى الله على بصيرة! إن هذا السفير المهتدى جدير بالشرف الذى ساقه له القدر. وهو يقينا أرجح عند الله من القائد اليهودى " موشى ديان " الذى ألف كتابه "الحياة مع التوراة" وأهداه إلى مستر " كارتر " وغيره من رؤساء العالم، ولكن لماذا أذكر " ديان " هنا؟ لأن بعض الصحف التى تصدر فى العواصم العربية تكره الدين كله، ثم تصب جام غضبها على الإسلام وحده وتحاول النيل من رجاله ومن مستقبله. ولو أن قائدا عربيا كتب " الحياة مع القرآن " لنبحه جرو تائه هنا أو هناك، ولطالب بإقصائه عن قيادته لأنه رجعى؟!! إن مصابنا كبير بيد أن أملنا أكبر.. ونحن بإذن الله قادرون على تطهير بلادنا من سماسرة الاستعمار ومروجى أفكاره بيننا. ص _177(3/174)
فضل الإسلام علينا.. الإسلام ولى نعمة العرب باسمه غرفوا قى الدنيا وبتراثه بقوا أصحاب رسالة! واقترن اسم العروبة والإسلام حتى لكأنهما عنوانان لمفهوم واحد، حتى قال "غوستاف لوبون ": لم يعرف العالم فاتحا أرحم من العرب، مع أن الفاتحين المسلمين من أجناس شتى، ومع أن صناع الحضارة الإسلامية من أعراق مختلفة!. ولو لم يظهر محمد فى جزيرة العرب، ويتدفق خيره فى المشارق والمغارب خلال القرون المقبلة ما كان للعرب من ذكر، وبم يذكرون إذا لم يكن لديهم كتاب ولا سنة؟ ربما عاشوا فى أرضهم كشعب "بورما" فى آسيا، أو كشعب " ناميبيا " فى إفريقية..!! وأشرف ما يذكره العرب تزكية لأنفسهم أن الإسلام ضاعف فضائلهم، وكبت أهواءهم وغرائزهم، وبذلك أمكنهم من صعود هم له أهل! فلسنا حريصين على الزراية بأحد!.. المهم أن العرب بالإسلام كانوا، وبغيره هانوا، وأن كبواتهم التاريخية الكبرى جاءت من تفريطهم فى تعاليم الإسلام وتراجعهم إلى سيرتهم الجاهلية الأولى.. وقع ذلك عندما فسدوا فى الأندلس وأترفوا واتخذوا دينهم لعبا ولهوا، فأذن الله بطردهم شر طردة! لقد جاءوا هنا باسم الإسلام فما بقاؤهم إذا تخلوا عنه وأداروا ظهورهم له؟. لقد تنكرت لهم الأرض، وركبت أقفيتهم الفرنجة فلم يبقوا لهم وسما ولا رسما.. ومن قبل ذلك سقطت الخلافة العربية فى بغداد، ومات الخليفة الضائع ركلا بأقدام المغيرين! وجلس المؤرخ العربى يسطر الأحداث التى أظلمت بها الآفاق وزهقت خلالها الأرواح، وأحرقت المكتبات ومغانى المعرفة الإنسانية الزاهرة.. كان يقول: ليت أمي لم تلدنى لأرى هذه الأحداث الهائلة..! ص _178(3/175)
وأصلحت الأمة الإسلامية شأنها بعد ذلك، واستأنفت رسالتها الجليلة بقيادة العثمانيين، وكان على العرب أن يصطلحوا مع ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويحملوا رسالة الإسلام الثقافية إن فاتتهم قيادته السياسية، ولكن العرب اتأدوا أو استكانوا ثم تركوا الميدان خاليا إ!. وليته بقى خاليا منهم فإن لله جنودا لا يتخلون عن واجبهم أبدا.. الداهية الكبرى أن بعض العرب شرع يرسل صيحات الارتداد عن الإسلام، ويرفع راية العلمانية، ويتنكر لمواريث الوحى الأعلى، ويجحد العبادات والمعاملات جميعا، ويرفض العقيدة والشريعة، ويقول وهو تائه العقل: إن محمدا زعيم عربى الجنس والرسالة، وفى هذا النطاق نعمل. قلت: بل فى هذا القبر تموتون!. إن محمدا لأقطار العالم أجمع، ورسالته عصارة الحق من أزل الدنيا لأبدها، ومبلغ علمى أنكم لا تمتون إلى عروبة ولا إسلام، إنكم عنصر غريب علينا ضرب عقله وراء حدودنا. ص _179(3/176)
الجانب العاطفى من الإسلام.. الإحسان قمة العبادة لأنه حالة نفسية وعقلية تجمع بين مشاهدة الله ومراقبته وسط شئون الحياة المختلفة من سقم وسلامة وسفر و إقامة وقلق وطمأنينة ويأس ورجاء وجدال وقتال.. الخ والمرء- وهو خال- قد يستجمع مشاعره ويملك أعصابه، أما فى زحام الناس وفى معركة الخبز فالأمر صعب، وهو يحتاج إلى علم يصفه الخبراء بالوحى الإلهى والنفس الإنسانية. سميت هذا العلم الجانب العاطفى من الإسلام، وسماه آخرون علم القلوب والأخلاق، وأطلق عليه البعض علم الإحسان، وشاع بين الناس باسم التصوف، وأنكر هذه التسمية أئمة محافظون، وعندى أنه لا مشاحة فى الاصطلاح، والمهم هو الموضوع لا العنوان. نعم فالموضوع كبير جليل، إذ هو أحكام العلاقة مع الله وبسط سيطرة الدين على الباطن والظاهر أو على القلب والجوارح، فمن الناس من يبالغ فى الوضوء والغسل، ولكنه لا يطهر نفسه من الأثرة والغفلة.، وعبادة الذات والدوران حول الشهوات.. وربما أتقن صورة الصلاة وفشل فى تدبر ما يقرأ وفى إشراب روحه حقيقة الخشوع.. والعبادة الصحيحة حقا ارتباط بالله، وإرادة للآخرة، وتحرر من قيود الدنيا.. وقد لاحظت أن الداخلين فى الإسلام من رجالات الغرب اجتذبهم لهذا الجانب الرقيق الجياش وربما يستمعون إلى الكلمة من حكم ابن عطاء الله السكندرى فتهزهم من الأعماق، والسبب واضح فهم من حضارة مادية موغلة فى عالم الحس ملتصقة بتراب الأرض، لا ترنوا إلى السماء إلا فى ساعات العسرة والحرج!. والغريب أن بعض المسلمين يهاجمونهم ويتهمونهم بالتخريف، وذاك لشيوع الجهل عندنا فإن قادة السلفية المحدثين أفاضوا فى هذا العلم، ولابن تيمية فى فتاواه مجلدان كبيران عن أحوال القلوب، ولابن القيم مؤلفات كثيرة تبع فيها أستاذه.. ص _180(3/177)
ولكن جهلة عصرنا لا يدركون، أو كما قلت: لا يحسنون استقبال الداخلين فى الإسلام لقصورهم العلمى. هناك تصوف فلسفى مرفوض لأنه تراث هندى أو يونانى مشوب بالوثنية والحلول، ونحن- وسائر المسلمين- نحارب هذا التصوف! على أنه لا يجوز أن ننسى أن جماهير من أمتنا مشت تحت راية التصوف السنى- كما يقول ابن خلدون- ونشرت الإسلام جنوبى آسيا وشرقها، وغربى أفريقية ووسطها، وإذا كانت هناك أخطاء علمية فمن الذى سلم من هذه الأخطاء؟ لعل أشد الناس اتهاما لغيرهم هم أكثر الناس تورطا فى الأوهام! والذى أمسيت مقتنعا به أن أمتنا فقيرة جدا إلى التربية الدينية الجيدة، أكثر من افتقارها إلى عشرات الأقوال فى فقه الوضوء، وحركات العبادة.. إن التربية فن عسير، يتطلب سعة المعرفة الدينية وسعة المعرفة بأحوال النفس والمجتمع وقضايا الشباب وضغوط الأوضاع الاقتصادية وغير ذلك من شئون وشجون!. ما أيسر الفتوى العابرة، وما أصعب اقتياد الناس إلى الحق!!. ص _181(3/178)
حاجة العالم إلى الإسلام... الدين فكر ثاقب، وقلب نابض بالمشاعر الحية، إنه عقل ذكى ووجدان جياش بالعواطف الصادقة.. الأحمق لا يتماسك فى رأسه إيمان، وقد يكون المرء متصورا لعناصر الإيمان ولكن فؤاده متحجر لا يحس إلا نفسه ولا يسمع إلا نداء مآربه، وكلا الرجلين ناقص العقيدة غائم الوجهة.. كان سلفنا الذين بنوا حضارتنا يجمعون بين صحة العقل وسلامة الضمير، بالأولى عرفوا الله الواحد، وبالثانية حثوا إليه المسير، حتى ليقبل أحدهم على الموت وهو يقول : (وعجلت إليك رب لترضى). وقد كثرت القراءات الدينية فى عصرنا ولكنها لم تلق الأستاذ اللبق الذى ينظمها، ومع خطورة هذه الآفة فإن الأخطر منها فى نظرى فقدان التربية التى تصقل القلوب وتوثق رباطها بالله وتصحح النية باستمرار.. أى تجعل الجهاد فى سبيل الله لا فى سبيل آخر، والعمل ابتغاء مرضاة الله لا ابتغاء شىء آخر.. والعالم فى عصرنا بلغ من التقدم العلمى شأوا رفيعا بيد أنه يشعر بجفاف روحى محرق، وهو يتطلع إلى دين يشبع عقله الذكى المكتشف، ويروى ظمأه النفسى، ويرده إلى ربه الذى تاه عنه وهو أحوج ما يكون إلى عطفه وحنانه. هذا العالم يرفض تصوير العهد القديم للألوهية! أى صلة تربطه برب إسرائيل، رب الجنود! الإله الغضوب الغيور المنتقم المؤثر لشعبه على سائر الشعوب؟! إنه يهفو إلى إله سبقت رحمته غضبه، إله يفرح بتوبة عباده كلهم إليه، إله ص _182(3/179)
يتحبب إلى الناس بالنعم إن تبغضوا إليه بالمعاصى! إله يقول لسكان الأرض (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون). والعالم الآن يأبى المتناقضات فى تصوره لربه، إنه يوم ينشرح بالإيمان صدرا فهو يؤمن بإله واحد لا شريك له، ولا ند ولا ضد ولا والد ولا ولد. وبنبى يقول فى إخلاص (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون). وآيات القرآن الكريم تهدر بالوحدانية النقية، وفى هديرها الممتد تطحن الإلحاد والإشراك وتغرس فى النفوس الإجلال للفرد الصمد!. فهل يحسن المسلمون عرض دينهم على هذه القواعد؟ إن الإسلام هو الدين الثانى فى أوروبا وأمريكا بعد المسيحية وذلك برغم الظروف التعيسة التى يمر بها فى هذه الحقبة من تاريخه والمسلمون المعاصرون يصدون عن سبيل الله بأحوالهم المتردية، ثم هم لا يحسنون استقبال أولى الألباب من الغربيين الداخلين فى الإسلام، ولا يقدمون لهم العناصر التى شعروا بالحاجة إليها يوم كانوا محتفظين بمواريثهم القديمة. ص _183(3/180)
بين القومية والدين.. الوثنيات الدينية والقومية تستمد قوانينها وتقاليدها من غرائز الفرد والجماعة، أو من حاجاتها التى تحسها، فلا صلة لها بوحى يجىء من خارجه إما لأنها لا تؤمن بالله ورسله أصلا، أو لأن ما لديها من وحى قديم طال عليه الأمد ففقد بريقة، وأمسى لا أثر له. والقوميات فى العصر الحديث قد تستضيف الدين وتمنحه مكانة إسميه! على أن هذه المكانة مهما سمت لا تجعله رب البيت، ولا تسمح له بصدارة، إنه تابع وحسب. لكن اليهود مزجوا مزجا مدهشا بين عرقهم ودينهم، فلا تكاد تميز أحدهما عن الآخر، واليهودية الآن آصرة دم قبل أن تكون هداية سماوية، وإذا حدث خلاف بين تعاليم الله ومطالب الجنس فالغلبة حتما للشعب المختار!! إن الوصايا الإلهية ستحترق فى لهب التعصب الوطنى أو الشعور القومى. تقول الأساتذة "مريم جميلة" وهى يهودية أسلمت، فى كتابها "الإسلام فى النظرية والتطبيق " "إن الدين فى اليهودية مختلط بالقومية، ويجد الإنسان صعوبة فى التمييز بينهما، وأن اسم "اليهودية" مشتق من "يهودا"- سبط يعقوب- واليهودى هو فرد من سبط يهوداء . وحتى الإسم لهذا الدين لا يحمل أى معنى لرسالة روحية إنسانية. فاليهودى ليس يهوديا بفضل اعتقاده بوحدانية الله، وضرورة اتباع هديه المنزل للبشرية، بل لمجرد أنه حدث أن ولد من أبوين يهوديين. فإن أصبح ملحدا معروفا، فإنه لن يعدوا أن يكون يهوديا فى نظر قومه اليهود. وهكذا، فإن إفسادا كبيرا بالقومية جعل هذا الدين يفلس روحيا فى جميع مظاهره. فالإله ليس إله كل البشرية بل إله إسرائيل. والكتب السماوية ليست وحى الله للجنس البشرى عامة، بل هى فى الدرجة الأولى كتب التاريخ اليهودى. ص _184(3/181)
وداود وسليمان، عليهما السلام، ليسا رسولين لله بالمعنى التام، بل هما ملكان يهوديان ليس إلا، والخلاص عند اليهودى لا يكمن فى الآخرة كما يكمن فى استعادة فلسطين. وباستثناء "يوم كفير"- يوم كفارة اليهودى أو توبتهم- فإن الأعياد والعطل التى يحتفل بها اليهود، كيوم حانوخاه، وبوريم، وبيصاح- هى أيام ذات أهمية قومية أكثر منها دينية. ونتيجة لذلك، فإن المسيح ويحيى- عليهما السلام- كذبا واحئقرا فى قومهما بوصفهما مبتدعين منشقين. لأن الرسالة التى جاءا بها لم تتفق مع الشعور القومى السائد آنذاك. ولذلك فقد نزع الله النبوة من بنى إسرائيل وأنعم بها على أشقائهم العرب " أ. هـ ويبعثنا على الأسى أن العرب المعاصرين أوغلوا فى التحريف أكثر من خصومهم فإن اليهود خلطوا دينهم بقوميتهم على حين رأينا القومية العربية عند الكثيرين نزعة متجردة من الدين..!!!. ص _185(3/182)
حراسة اللغة العربية دين منذ قرن والمستشرقون ودعاة الصليبية يبذلون جهودا مضنية لإنشاء أجيال من العرب والمسلمين يخدمون قضاياهم ويتبنون وجهات نظرهم وينصرونهم فى شتى الميادين! وظاهر أنهم- مع الدأب والإلحاح- قد بلغوا أغراضهم وكونوا عصابات قوية فى أجهزة الإعلام والتربية والاقتصاد وشئون المجتمع عامة، وشرعت هذه العصابات تؤدى أدوارها بمكر أو فى علانية!. وسكت أعداء الإسلام وتكلم رجالهم! نعم لا معنى لأن يظهر سماسرة الاستعمار والتبشير إذا كان أتباعهم سيحققون المطلوب على نحو أيسر وبأسلوب أخصر! وشرعت الأبواق المعدة بذكاء تحقق ما يعجز السادة عن تحقيقه وتقول ما كانوا يجبنون عن قوله!. هذا يصيح: ما اللغة العربية وعلوم الطب والهندسة والصيدلة؟! إن تعريب العلوم مستحيل! تقول له: إن اليهود نقلوا العلوم الحديثة إلى العبرية وهى لغة ميتة استخرجت من المقابر وحررت من الأكفان منذ نصف قرن! فهل تعجز لغة حية، لغة الوحى الإلهى عما حققته العبرية؟! وكذلك فعل الصينيون واليابانيون وغيرهم! أفلا يسعنا ما وسع الآخرين؟ ولكن الذين صنعهم الغزو الثقافى يواصلون حربهم على لغة القرآن، تلك الحرب التى شنها المستشرقون علينا منذ قرن أو يزيد! والفرق أننا كنا نواجه خصوم الأمس بقوة. أما خصوم اليوم فقد استمكنوا من خناقنا يريدون فرض خيانتهم علينا! فى قضايا أخلاقية وعقائدية وفى أحكام أصلية وفرعية تقتحم خطوط الإسلام الدفاعية ببأس شديد، ونرى الضربات الموجعة تتجه إلى النواصى والأقدام. من يوجهها؟ لقد سكت المستشرقون والمبشرون، وناب عنهم أناس من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويتسللون خلف صفوفنا وبين ظهرانينا، ويوقعون بلبلة شديدة فى ص _186(3/183)
حياتنا الفكرية والدينية عامة، وأعداؤنا من وراء الحدود يضحكون وهم يرون تلامذتهم يؤدون دورهم بنجاح!. أشعر بأن هناك ردة حقيقية لدى بعض الأقلام التى تكتب ويفسح لها المجال، وتبعثر بذور الفتنة وتنتظر نضجها بثقة وأمان، وتقوم بين الحين والحين بغارة على شعائرنا وهى آمنة من كل عقاب، بل وهى تنتظر المكافأة على ما ألحقته بالإسلام وأمته من جراح!. والآن نرى القوميات الكافرة بالإسلام ترفع رأسها، والنزعات المعادية لشرائع الله تهين الأحكام السماوية وتعارض عودتها بتبجح، وأنصار الله يطاردون أشد مما يطارد باعة المخدرات والذين يحملون رايات الجاهلية الجديدة هم أناس ضربت عقولهم فى عواصم الاستعمار العالمى أى أنها عقول لا تحمل أفكارا، إنما تحمل أهواء جامحة وتخدم ضغائن كالحة. ص _187(3/184)
خط صليبى ثابت.. من تسعة قرون والسياسة الدينية لفرنسا تأخذ نهجا ثابتا وإن اختلفت أنظمة الحكم! فخلال الحملات الصليبية فى العصور الوسطى أغار لويس التاسع على مصر ولقى هزيمة كبرى حبس عقبها فى سجن المنصورة، ثم أطلق من دار ابن لقمان بعد أداء فدية غالية. ولكن القديس لويس- هكذا يسمى- نجا من مصر ليعاود الغارة على تونس حيث صرعه المرض وراء أسوارها، وفشلت الحملة.. وبعد بضعة قرون أغار نابليون على مصر، ثم تركها على عجل لظروف لم تكن فى الحسبان، لكن الإمبراطور نابليون الثالث كان مشغولا بالأوضاع الدينية فى الشام. متابعا للعراك المتصل بين الدروز والموارنة. وحدث أن الدروز أنزلوا هزيمة فادحة بالموارنة. فنجدهم الإمبراطور بجيش أنقذهم ودعم جانبهم واستطاع إرغام العثمانيين على منحهم استقلالا ذاتيا فى الجبل الذى يعيشون فيه. وبعد الحرب العالمية الأولى انتزع الفرنسيون لواءين كبيرين من سوريا هما لواء طرابلس ولواء عكار وضموهما إلى الجبل المارونى، وأنشأوا لبنانا كبيرا يضم مسلمين سنيين وشيعة ودروزا وأرمن وروما أرثوذكس.. الخ وجعلوا السلطة الرئيسية فى هذا الكيان الجديد للموارنة الذين التحقوا بالحضارة الفرنسية لغة وأدبا وتقاليدا وقيما، وحاولوا فرض صبغتهم على جميع الطوائف والمذاهب. ومع أن المسلمين وهم الكثرة ارتضوا العلمانية نظاما يشمل السكان جميعا، ويمكن تقاسم السلطة فيه على نحو عادل إلا أن فرنسا وحلفاءها أبوا إلا جعل السيادة للكنيسة المارونية وحدها.. ومن هنا اندلعت الحرب التى لا تزال تشتعل من بضعة عشر عاما. ص _188(3/185)
وقد تدخلت فرنسا اليوم بزعامة فرانسوا ميتران الاشتراكى الحر كى تدعم الموارنة وتعيد لهم السلطة! واجتمع مجلس الأمن للمرة الأولى فى حياته كى يبحث نزاعا داخليا، ويصدر إليه توجيهاته إ!. ونسأل: لماذا لم يفعل مجلس الأمن فعلته هذه فى فلسطين، حيث الخسائر أفدح، والدماء أغزر، والمعتقلات مشحونة بالأسرى، والمواطنون يطردون وراء الحدود وبيوتهم تنسف أمام أعينهم؟!! إن الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات قبل طوعا أو كرها حكومة علمانية على نصف التراب الوطنى لقومه، ولكن العالم الغربى يرفض إلى الآن هذا الحل الملىء بالغبن! لماذا؟ لأنه يريد تهويد فلسطين كما يريد تنصير لبنان. ونسأل مرة أخرى: إذا ترأس العماد " ميشيل عون " حكومة من صناعته ماذا سيفعل بجيش لبنان الجنوبى المتعاون مع إسرائيل وكثرته من الموارنة؟ وهل سيسمح لعرب فلسطين بالبقاء لاجئين مكافحين على أرض لبنان الذى يحكمه؟ إننا فى محنة عقلية وخلقية! وليس للمسلمين "بابا" يصلى من أجلهم ويستصرخ الناس لهم! بل إن المسلمين أنفسهم حيارى لا يدرون أين يساقون؟! إن هيئة الأمم المختلفة تمسى هيئة الأمم المتحدة فى مواجهتهم! ومجلس الخوف يمسى مجلس الأمن حين يوجه النداء لهم! بماذا؟ بالتصالح! على أى أساس؟ على أساس انتصار الموارنة فى لبنان، وانتصار الصهاينة فى فلسطين! أى على أساس هلاكنا!! وأرى أن التبعة تقع علينا وحدنا. ص _189(3/186)
دعوا الخلافات القديمة.. أحاول قدر الاستطاعة ألا يتحول الخلاف إلى عداوة، وأعرف أن فساد ذات البين ضار بديننا ودنيانا. وإذا رأيت نية حسنة وراء رأى معارض استثمرتها لمصلحة أمتنا واستبقاء وحدتها. والظروف التى أحاطت بى.. وأنا أطلب العلم فى الأزهر، أعانتنى على ذلك، فقد ألفت اختلاف وجهات النظر، وسماع الأدلة المتباينة، حتى تكسرت النصال على النصال. وأضرب مثالين استخرجتهما من ذكريات بعيدة لسبب سوف يعرفه القارىء. كان الشيخ يشرح حديث نزول الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا فى ثلث الليل الأخير يغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين، ثم يقول: الحديث أنكرته المعتزلة، لأن النزول من إمارات الحدوث وهو مستحيل على الله، فهو لن يدع مكانا إلى مكان آخر! وقال علماء السلف: هو نزول لا نعرف كنهه يليق بذاته سبحانه وتعالى، وقال الأشاعرة: إن العبارة مجاز عن تجليه جل شأنه على عباده فى هذه الساعات المباركة.. ومثال آخر: ورد فى السنة أن الله خلق آدم على صورته. قال الشيخ: أنكر المعتزلة الحديث وقالوا: إنه من أساطير العهد القديم فى سفر التكوين. وقال علماء السلف: إن الله ليس كمثله شىء ونفوض حقيقة هذه الصورة إلى الله تعالى، مع إثباتها له. وقال الأشاعرة: للحديث معنيان كلاهما صحيح وما عداهما باطل. المعنى الأول أن آدم وجد على صورته الإنسانية المعرفة وليس كما يزعم علماء النشوء والارتقاء أنه كان قردا مثلا ثم صار إنسانا. ص _190(3/187)
والمعنى الثانى أن الصورة هى الصفة، ويستحيل على قيم السماوات والأرض ورب الملكوت الأعلى أن يشكل من طينة الأرض تمثالا على هيئته- سبحانه- ولكنه نفخ فى الجسد من روحه فأصبح الإنسان عاقلا قادرا مريدا متكلما إلى آخره.. ولا أستطرد فى ذكر مواضع الخلاف، فهى فى نظرى قد صارت فى ذمة التاريخ، لماذا؟ لقد كان المسلمون يختلفون بعد ما دانت الدنيا لهم، وبعدما سيطرت جيوشهم على المشارق والمغارب، كانوا يطعمون من أرضهم، ويلبسون من نسيجهم، ويصنعون أسلحتهم من معادنهم، ويتداوون من عقاقيرهم.. كان هذا الخلاف لونا من الترف العقلى يسود الحضارات المنتصرة المستقرة. ثم إن خلافا كثيرا نشأ عن ترجمة فلسفة يونان وهذه الفلسفة قد سقطت عن عرشها فى العصر الحديث، فأمسى ما انبنى عليها سلبا كان أم إيجابا لا موضوع له. وبقى لنا نحن المسلمين ما نعض عليه بالنواجذ، ما نتشبث به إلى آخر رمق، ما نحيا به ونموت عليه، وهو كتاب الله وسنة نبينا. وقد قامت دولة الخلافة وانسابت جيوش التحرير فى أقطار الأرض وهى لا تعرف شيئا عن هذا الخلاف كله، فليكن بناؤنا على الدعائم التى وضعها أولئك الآباء. إننى قرأت باستنكار كتابا من تأليف أحد علماء " نجد " يعيد فيه الحرب القديمة بين المتكلمين، وعنوان الكتاب "عقيدة أهل الإيمان فى خلق آدم على صورة الرحمن"!. ووددت لو عاش هؤلاء العلماء فى عصرهم، وأحسوا مشكلات أمتهم ! إن الموضوع الذى أثاره لا يتصل بكفر ولا إيمان، وهو إن دل على شىء فعلى أن الغيبوبة الفكرية التى تسيطر على بعضنا تهدد مستقبلنا كله. الأخ الكاتب لا يعرف أن الأقمار الصناعية تصور الآن أسطح النجوم البعيدة، وأعماق البحار القريبة، فى وقت يرتدى هو ملابسه من مصانع الشرق والغرب لأننا لا نصنع شيئا غير إثارة المشكلات التى ماتت، وإمساك الهراوات لضرب مخالفينا فى الرأى. ص _191(3/188)
قدرة اليهود العسكرية..!! قبيل احتفال اليهود بمرور أربعين سنة على إنشاء دولتهم فى فلسطين، قاموا بغارة جريئة على تونس انتهت بمقتل القائد العربى للكتائب الفلسطينية "خليل الوزير" وعدد من الحراس. ثم ركب اليهود البحر عائدين من حيث أتوا، مخترقين أمواجه فى زهو، ومستمتعين بنسيمه الرطب، كأنهم ما ارتكبوا جرما، أو عانوا من رحلتهم نصبا! لقد أطرقت كئيبا خزيان عندما قرأت النبأ الدامى، فتلك هى الغارة الثانية التى يقوم بها اليهود على تونس دون اكتراث أو مبالاة أو خشية عقاب.. وزادنى غيظا أن مندوب إنجلترا فى مجلس الأمن قال: إن العالم لا يعرف من القاتل، أما مندوب الولايات المتحدة فهو يوزع بسماته بين الشماتة والسخرية، ووظيفته معروفة هى حماية إسرائيل من قرار يدينها..! لم أحس أن الضعف جريمة ورذيلة ومصيبة إلا وأنا أتابع ما يتخذ ضد العرب من قرارات فى الهيئات الدولية. هذه الدول لا تحترم إلا من له ناب وظفر، إنها تستمع إلى كلامه بتهيب وتأدب، أما الحق الأعزل فإن مجلس الأمن هو صانع كفنه ومهيل التراب عليه فى صفاقة نادرة لاسيما إذا كان الحق يمس العرب، أو يرجح كفتهم، أن وأده فريضة لازمة نافذة.! وسألت قومى: لماذا يخرج المعتدون من أرضكم سالمين؟ لماذا لم تدن أعناقهم ثمن جراءتهم؟ وأجابنى مستمع قريب: إن رجال الأمن لا يعرفون نيات اللصوص عندما يقررون السطو على بيت واغتيال من فيه وفى طيات الختل والظلام يفعلون فعلتهم ثم يفرون! قلت: ذاك لو لم تكن هناك حرب قائمة، وأراض محتلة، وانتفاضة شعب يقاوم ص _192(3/189)
بجهده المحدود أحدث أسلحة العالم وأمكر شعوب الأرض.. إن حسن الظن- والحالة هذه- عجز، وعدم الاقتصاص من القتلة مهانة. وعدت بذاكرتى إلى أدبنا العربى القديم أردد أبياتا قالها شاعر يشكو قومه، ويتاثم لتخاذلهم وقلة أخذهم لأنفسهم: لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا لكن قومى لهان كانوا ذوى نفر ليسوا من الشر فى شىء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا لماذا ألجأ إلى الشعر فى هذا الموقف العصيب؟ لماذا لا أذكر كلام الله وسيرة نبيه البطل؟ إننى أفعل ذلك لأستنهض ناسا ينتمون إلى العروبة! ولو كان الانتماء إلى الإسلام لقلت (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم …). لكن الإسلام استبعد ولا يزال مستبعدا من المعركة، على حين بقيت اليهودية تصول وتجول. ص _193(3/190)
عظمة محمد (1) دكتور " مايكل هارت " عالم الفضاء الأمريكى ألف كتابا عن المائة الأوائل من عظماء العالم وعباقرته وتاركى أعمق الآثار فى تاريخه، ورأى بمقاييسه العقلية المجردة أن محمدا نبى الإسلام هو طليعة أولئك المائة، وقمتهم الشامخة وأنه يصعب- أو قل يستحيل- أن يتقدمه أحد!. والأمر واضح بالنسبة إلى حملة الوحى الإلهى، فقد مكث نوح يدعو إلى الله عشرة قرون ثم كان أتباعه آخر الأمر لا يملأون ظهر سفينة! وأما إبراهيم فإن صحائف وحيه تلاشت فى أعقاب وفاته.. وبذل موسى جهودا عصيبة ليجعل من بنى إسرائيل شعبا يعرف ربه ويتأدب معه ويسدى الخير للناس فإذا بنوا إسرائيل يجعلون الألوهية احتكارا على جنسهم، وكأن الله خلق السموات والأرض لهم وحدهم وكأن أهل الأرض خلقوا لخدمتهم.. ومع ذلك كله فما رفعوا لله راية ولا احترموا له وحيا ولا اتخذوا عنده ذخرا، وما بين أيديهم من تراث يؤكد هذه المزاعم! وأما المسيح عيسى بن مريم فقد كان إنسانا واسع الرقة، باذخ الشرف، يرحم المستضعفين ويضىء الطريق للخاطئين، فإذا نظرت إلى المتمسحين باسمه، وجدت للرذيلة أسواقا مائجة. ما أظن العالم رأى نظير لها فى إشاعة الخنا و إقامة الربا، ونسيان الآخرة وعبادة الدنيا. والغريب أن أتباع المسيح تكاتفوا مع اليهود على نصرة قضاياهم، و إهانة الحق والشرف من أجلهم وتمكينهم من أعناق العرب ليكسروها أو يذلوها. وتسأل: أين بقايا الوحى التى تجعل هؤلاء وأولئك أهل الكتاب؟ لقد استخفت نظريا وعمليا! ص _194(3/191)
يقول الدكتور هارت: إن اختيارى محمدا ليكون الأول فى قائمة أهم رجال التاريخ! قد يدهش القراء! ولكنه الرجل الوحيد فى تاريخ الإنسانية كله الذى حقق أعلى نجاح على المستويين الدينى والدنيوى.. وهو الرجل الوحيد الذى أتم رسالته الدينية كاملة، حيث تحددت كل أحكامها وآمنت بها جماهير كثيفة.. ولقد أقام إلى جانب الدين دولة جديدة، ووحد القبائل فى شعب، والشعوب فى أمة، ووضع كل أسس حياتها ورسم شئون دنياها ووضعها فى موضع الانطلاق إلى العالم أجمع قبل أن يرحل عن هذه الحياة. وهذا حق، فلم يوجد فى أصحاب الرسالات المعروفة الآن من أقام دولة لدينه تبسط سلطانها على أرض فيحاء، وتتحرك بدستورها جماعات من القوامين الصوامين المجاهدين، إلا محمد، تئم ذلك فى حياته وتحت إشرافه وبين سمعه وبصره. أما موسى فقد مات فى أرض التيه، لم يعرف له قبر، وزعم اليهود أنهم قتلوا عيسى، وأعجزوه عن تبليغ رسالته! ونحن نعلم أن اليهود كذبة، وأن من يصدقهم أسوأ منهم.. وإذا كان عيسى لم يتم رسالته، فإن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله، أنصف موسى وعيسى ونوحا وإبراهيم، وبلغ عنهم ما ماتوا دونه، إن المرسلين كلهم تلتقى تعاليمهم فى رسالة محمد، لقد وصل ما انقطعوا عنه واستبقاه إلى آخر الدهر. *** ص _195(3/192)
عظمة محمد الباحثون عن أسرار العظمة فى شخص محمد، من كتاب أوروبا وأمريكا يحدقون بأبصارهم فى زوايا شتى من السيرة النبوية ويستخلصون نتائج جديرة بالتأمل.. وأرى أن السر فى تلك العظمة القدرة الفريدة على خلق أمة تطلع على العالم زاكية هادية تزهق الباطل وتحيى الحق وتنقل العالم من الظلمة إلى النور. إنه لم ينقل العرب من الجاهلية إلى الحنيفية وحسب بل زودهم بطاقات روحية وفكرية يستطيعون بها تغيير الدنيا، ومعنى هذا أنه- صلى الله عليه وسلم- أوجد أجهزة إدارية وثقافية وعسكرية، وقيادات روحية ومدنية هزمت القوى الطاغية فى الشرق والغرب، ووضعت يدها على مواريثهم، ثم أنشأت من ذلك الحطام القديم حضارة أعلت الهتاف لله والعمل بهداه!. لقد تحول الحكم إلى مسئولية، والحاكم إلى أجير للأمة يحاسب أمام الله وأمام الناس عن سيرته! أكان ذلك معروفا فى شرق أو غرب؟ كلا، كانت الشعوب درج السلم الذى يصعد فيه طلاب العلى والمجد، حتى غير الخلفاء الراشدون هذا المفهوم الوثنى! وكان المنتصر يدل على الناس بعنصره ويزعم أنه أرفع منهم درجة! لكن الفاتحين الجدد يحملون للناس كتابا يقول لهم، ويقول للناس معهم : (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب …) لا قيمة للدعاوى الفارغة والآمال الغرور إنما القيمة للجهد والعرق- (..من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)- الجزاء مربوط بالعمل وليس لامرئ إلا ما سعى مهما كان جنسه أو نسبه. يقول الدكتور هارت: " إن معظم الذين غيروا التاريخ ظهروا فى أحد المراكز ص _196(3/193)
الحضارية العالمية، أى فى بيئة يؤلف ظهور العظماء بها، لكن محمدا هو الوحيد الذى نشأ فى بقعة من الصحراء الجرداء تفقد جميع مقومات الحضارة والتقدم، وقد جعل من البدو السذج الدائمى الاحتراب قوة معنوية هائلة قهرت فارس وبيزنطة المتقدمين بما لا يقاس. ونحن نجد فى تاريخ الغزو فى كل زمان ومكان أن الغزو يكون عسكريا فقط ! أما فى حال الرسالة المحمدية فإن معظم البلاد التى فتحها الخلفاء استعربت، وتغيرت دينا ولسانا وقومية من الخليج إلى الأطلس غربا و إلى السودان جنوبا، ثم بقيت أمة واحدة إلى يوم الناس هذا.. كذلك لا يوجد فى تاريخ الرسالات نص نقل عن رجل واحد وبقى بحروفه كاملا دون تحريف طوال هذه الأعصار المتتابعة سوى هذا القرآن الذى بلغه محمد.."أ.هـ. نعم المصحف هو المصحف، لم يتغير ما فى الأرض عن اللوح المحفوظ فى السماء. المصحف هو المصحف لا تختلف نسخة عن أخرى فى أرجاء القارات الخمس، الصوت المتردد فى المحاريب منذ خمسة عشر قرنا لا يزال يرن صداه لم تتغير نغمة ولا لفظة، وما يعرف هذا لكتاب فى الأولين والآخرين.. كذلك صنع القرآن العرب قديما، فقادوا بجدارة، فما حال العرب الآن؟ وما مكانهم من الكتاب؟ وما دهاهم حتى تراجعوا عن عزهم الأول؟ ص _197(3/194)
عظمة محمد (3) قلت لرجل من المشتغلين بعلوم الدين: أتعرف سنة محمد صلى الله عليه وسلم فى إخراج الناس من الظلمات إلى النور؟ قال: ما تعنى؟ قلت: كان العرب أمة فقيرة متخلفة، فلما جاءهم خاتم الرسل أضحوا به أمة ذات عافية وحضارة، يتعلم منها الآخرون بعدما كانت هى غارقة فى الجهل، وتمرح فى بحبوحة من العيش بعد أنا كانت تكتفى بالتمر والماء. ما سر هذا التغير؟ إن الإناء المثلوم لا يبقى به السئل وقد كان جهد صاحب الرسالة أن يصحح الكيان الإنسانى للأمة، ثم يفرغ فيها بعدئذ حقائق الوحى ومعادن الدين الجديد!. نعم لقد أعاد بالإسلام تشكيل الأمة العربية، فإذا العقل الكسول ينشط للتفكير، وإذا لطبع الجموح يستمسك بالأدب، وإذا البصر الكليل يرمق الآفاق، وإذا المزدلفون أمام الأوثان يدوسونها بعد ما أشرق على بصائرهم التوحيد، وعرفوا من هم؟ ومن يعبدون؟ إن الإسلام جعل العرب أثقل وزنا فى كل ميدان مادى أو معنوى! إذا كان غيرهم عاطلا فهم عاملون، وإذا كان مخطئا فهم مصيبون، وإذا كان مرذولا فهم الأفاضل الموفرون!. كان الاكتفاء الذاتى- وهو خلق يعرفه الأبطال- صفة للعرب وهم يقاومون الاستعمار الباطش بالشعوب شرقا وغربا حتى إذا تم النصر عاد العرب يأخذون الحياة ويعطون، ويأكلون ويتصدقون، وتعتمد أجهزة الجهاد بينهم على إنتاج لا يشينه قصور، وفيض لا يلحقه غيض! ثم غدرنا برسالتنا وعاقبنا القدر! الاكتفاء الذاتى لدى المجاهدين الأولين حسبه السخفاء فقرا، فدعوا إلى الفقر واستداروا للدنيا وصفرت أيديهم من كل خير، وهل يستطيع نصرة الحق مسكين يتضور؟ ص _198(3/195)
إن اليد السفلى لا تستطيع أن تخدم المثل العليا والشعوب التى تقترض لتعيش أعجز من أن تحمل رسالة! وكيف يقدم الإيمان لغيره من يجثوا أمام الغير لحاجة تدنيه وتخزيه!. فى تقرير أمامى أن العرب أكبر مستوردى الغذاء فى العالم. إذ بلغ ما استوردوه من المواد الغذائية سنة 1980 م 14 مليارات من الدولارات ارتفعت سنة 1985م إلى 25 مليار ووصلت سنة 1987م إلى 30 مليارا. ويأكل العرب يوميا 750 مليون رغيف المستورد منها 500 مليون رغيف. كما أنهم يستهلكون 77% من كل ما يدخل السوق العالمية من الأغنام والماعز، 20% من الألبان ومنتجاتها. والأرض العربية تجرى فيها أنهار النيل والدجلة والفرات وغيرها، وتستطيع أن تزرع كل شىء وأن تأكل وتبيع وتتصدق.. ولكن المشكلة قلة العاملين، وكثرة العاطلين، فأين عمل الدين بين هؤلاء الخاملين؟! إن الإسلاميين مشغولون بأمور أخرى، وهم- أمام شعب الإيمان- لا يدرون ما الرأس؟ وما الذنب؟ وأمام البنيان المنهدم، يريدون إقامة السقف قبل إقامة الجدران! وهم مسترخون فى مطالب العقيدة وأصول الأخلاق وتصحيح التقاليد الشائعة وإحكام مناهج التربية على حين يكثر الصياح حول وظائف الحكومة ومسالك الحاكمين! من يأبى الحكم بما أنزل الله؟ لا يأباه إلا كفورا! لكن هذا الحكم لا يقيمه إلا من أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا قلوبهم له، وجعلوا من حياتهم الخاصة وتربيتهم الزاكية وسيرتهم العاطرة ما يصدق الظنون وينعش الآمال.. ص _199(3/196)
الله جل جلاله... سألنى: ما الفرق بين وحدة الوجود ووحدة الشهود؟ فقلت له: وحدة الشهود إحساس داخلى يطغى على مشاعر المرء كلها فيرى الله فى كل شىء! أعنى أنه يرى الشمس تجرى لمستقر لها ويعلم أنها ليست لها أجنحة تطير بها فى الفضاء، وليست بها أجهزة كالسيارات والطائرات تحرق الوقود، وتنطلق بها إلى الأمام، فمن يسيرها طوال الدهر دون كلل أو ملل؟ إنه الله! فهو يرى الله أكثر مما يرى القرص المتوقد فى كبد السماء.. وكذلك يرى الإنسان القمر، تلقى الأرض عليه ظلالها فيضىء منه هذا الجانب حينا، ويضىء منه ذلك الجانب حينا آخر، وقد تنحسر عنه الظلال كلها فيظهر بدرا مكتمل الصفحة! إن ذلك ليس نتيجة اتفاق معقود بين الأرض والقمر، سجل أمام المحاكم أم لم يسجل! إنها مشيئة من أراد إنارة ليل الناس بمصباح هادئ السنا (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا). وننزل من السماء إلى الأرض فنرى الذين غمرتهم وحدة الشهود ينظرون إلى الزروع التى تحمل حب الحصيد وإلى النخيل التى يزينها الطلع النضيد، فلا يرون عمل الفلاح ولا عمل الأرض، ماذا عمل هذا أو عمل تلك؟ إن الذى حول الطين إلى أغذية وطعوم وكوان، هو الله الرحمن.. وتطرد وحدة الشهود حتى تجعل المؤمن يرى الدول وهى تعلو أو تهوى، والأفراد وهم يضحكون أو يبكون، فيحسن هيمنة القدر على كل شىء، وأسماء الله الحسنى تكمن فى سنن الكون كلها وقوانينه الخفية والجلية، فلا يرى إلا الله على نحو ما قال الشاعر: وفى كل شىء له آية تدل على أنه الواحد ص _200(3/197)
وهذا الذى نقوله من قريب من قول علماء الكلام، إن وجود الله سبحانه نابع من ذاته! أما هذا العالم الذى نعيش فيه فليس له من ذاته وجود، وإنما يستمد وجوده أنا بعد آن من إمداد الله له.. ولو انقطع هذا الإمداد لحظة لهلك العالم، إن تيار الإيجاد كتيار الكهرباء الذى يضىء مدننا وقرانا، لو انقطع حل الظلام فورا.. هذا معنى وحدة الشهود وهو معنى لا غبار عليه بل هو قمة اليقين.. أما وحدة الوجود فهى عنوان من عناوين الكفر بالخالق الأعلى، إذ مبناها أنه لا شىء وراء مادة هذا العالم، فهى من تلقاء نفسها تسكن أو تتحرك، وإذا فرضنا ألوهية كما يقول الأنبياء جميعا فإن هذا الإله حال فى الكون حلول الروح فى الجسد، لا فكاك بين حال ومحلول به، أو خلاف بين البيت وساكنه كلاهما قديم وهما شىء واحد.. وهذا الكلام ينتهى يقينا بمقولة: لا إله والحياة مادة. وافتراض الألوهية فيه نوع من التوهم إذ لا وجود إلا للعالم المحسوس. نحن لا نرى أغبى ولا أسفه ممن يتصور الجنين قد خلقته حوايا البطن، أو اشترك الأبوان فى منح الحياة والذكاء له.. إن الأرض مخلوق لا خالق، والإنسان موجد لا موجود، ومجعول لا جاعل، والكفار فى نظرى نوع من الأنعام. ص _201(3/198)
العسكريون والحكم... هذه قضية يوجس الناس خيفة من الحديث فيها أو التعرض لها، قضية استيلاء العسكريين على أغلب الوظائف المدنية العليا، وحرمان الجيش من تجاربهم ومواهبهم التى تكونت لديهم على المدى الطويل، مع أن الأمة العربية تواجه عدوا ماكرا ماهرا يضاعف استعداده للبطش بها وفرض نفسه عليها.. إن العرب، والحالة هذه، محتاجون إلى رجال يجيدون صناعة الموت والفداء، وينظرون إلى الجيش نظرة الصياد إلى البحر، والفلاح إلى الحقل، والعابد إلى المحراب بل نظرة الطائر إلى الجو الذى يحلق فيه ويروح ويغدو فى آفاقه.. ولا مساغ أبدا لنقل الضابط من العمل الذى له كى يكون مدير "بنك" أو رئيس شركة أو حاكم إقليم أو نائب وزير.. الخ. إن الجيوش العربية تحتاج إلى خبراء محترفين فى فن القتال، وقد اتسعت فى هذا العصر ميادين الكفاح العسكرى، واستبحرت الثقافات البرية والبحرية والجوية استبحارا تنوء به الكواهل الصلبة، ويتطلب مجموعة من العبقريات العظيمة، ذلك فضلا عن الجهود التى يجب توفرها للتدريبات والمناورات وملاحقة الجديد من الكشوف والمخترعات..! وأحسب أن شغل العسكريين بغير مهامهم العظمى هو بعض الأسباب الكامنة وراء هزيمة 1967 التى مرغت العرب فى الأوحال. وقد شعرت بإعجاب كبير عندما نوقشت رسالة علمية فى كلية التجارة بجامعة أسيوط عنوانها.. العسكريون ودورهم فى الحكم العالم الثالث مع التطبيق على مصر من 1952 إلى 1970.. ص _202(3/199)
فالقضية كان لابد من إثارتها واستبانة النتائج الحزينة التى تقترن بها، ومن الجبن ترك الأخطاء تقع دون تصويب أو ترك الخطيئات تقع دون إنكار.. كما أنى تتبعت بالرضا والإكبار قول الدكتور أحمد عامر أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية التجارة بجامعة قناة السويس: " إن بعض الحكام العسكريين لم يفعلوا شيئا من أجل التنمية الاقتصادية أو دفع مسيرة الديمقراطية، وإن المشكلات الداخلية فى عهدهم تفاقمت وزادت عما كانت عليه أيام الاستعمار الأجنبى ". من المؤسف أن يكون الحكم وسيلة لتحقيق مآرب خاصة، وأن تكون الوظائف مغنما لا عبئا ثقيلا، أو كما يعبر البعض تشريفا لا تكليفا.. وقد انتهت هذه الأيام بيد أن عبرتها باقية، وعلينا أن نختار للمناصب مدنية كانت أو عسكرية من يعبدون الله بتوليها، ومن يتصببون عرقا وهم يباشرون أداءها.. وأن ننظر إلى الجيش خاصة على أنه درعنا الواقية وسياج حياتنا الخاصة والعامة، فنمنحه أثمن ما نملك من قوى مادية وأدبية. ص _203(3/200)
كيف تمنح هذه الجائزة؟ المسئولون عن جائزة نوبل يبحثون فى أرجاء العالم عن أكفأ رجل لنيل هذه الجائزة الرفيعة، فى شتى الفروع العلمية والأدبية التى تقررت لها. ولا يدور فى خلدهم أى بحث عن إيمان الرجل أو إلحاده إذا كان مبرزا من الناحية الفنية! ولذلك لم يترددوا فى منح جائزتهم للفيلسوف الوجودى "جان بول سارتر" مع أنه جرىء الكفر منكور السيرة.. والمفاجأة التى وقعت أن "سارتر" رفضها بكبرياء لأنه يزدرى نوبل ومؤسسته، ويحيا وفق قيم أخرى ليست موضع حديثنا..! وقد تتدخل معان ذات بال فى سوق الجائزة إلى قوم آخرين، فقد نالتها الراهبة "تريزا" أكبر داعية للنصرانية فى الهند لأعمالها الاجتماعية الجليلة. وأرى أنها جديرة بها، ولا ريب أنها وجهت قيمتها المادية إلى أعمال البر التى تشرف عليها. كما نال الجائزة "مناحم بيجن " أستاذ "إسحاق شامير" وكلا الرجلين يؤمن بأن اليهود ملاك العالم وملوكه، وسادة العرب وأصحاب الأرض التى يعيشون عليها!! وهى فلسفة تشبه فلسفة قطاع الطريق وهم يقومون بالسلب والنهب، ويجتاحون حقوق الآخرين بما أتيح لهم من قوة.. أما أنور السادات فله شأن آخر لا نذكره هنا! وقد نال الجائزة أخيرا الأستاذ " نجيب محفوظ " وهو قصاص كبير وروائى متمكن والرجل ليس دون من نالوها من قبل، وقد يكون خيرا منهم، ولكن لفت نظرى أن من بين الأعمال التى رشحته لنيلها رواية "أولاد حارتنا" التى نشرت فى الخمسينات بصحيفة الأهرام... ص _204(3/201)
إن هذه الرواية هجوم على عقيدة الألوهية، ورفض للوحى كله، وإنكار ساخر لنبوات موسى وعيسى ومحمد، ونزعة علمانية تجعل الدين أوهاما ومهازل.. وأذكر أن الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة كتب تقريرا إضافيا عنها، وأن الدكتور أحمد الشرباصى قام بالعمل نفسه كما أنى كتبت تقريرا عن الرواية. والتقت هذه التقارير عند الأستاذ حسن صبرى الخولى الرقيب العام يومئذ! وقد رجع إلى الرئيس عبد الناصر ثم صادر الرواية ومنع تداولها تسكينا لثورة المؤمنين.. واليوم يتحدث البعض عن إبطال المصادرة و إعادة النشر! وقد كنت أظن المؤلف- وهو فى العقد الثامن من عمره- وفى رحلة العودة إلى الله يحب ترك الرواية فى مرقدها، طارحا ما فيها من أفكار. فهل أخطأت الظن؟ لا أدرى، على أية حال نحن نقبل التحدى! وستكون نتائجه مرة المذاق فى أفواه كثيرة... إن الملاحدة فى بلادنا لا تنتهى لهم جراءة على الله ورسوله، ولهم الويل مما يصفون. ص _205(3/202)
الموارنة واليهود وجيش لبنان الجنوبى الخيانة خلق مقبوح قد يتصف به بعض الناس فيكون موضع الزراية والإنكار، لكن الشىء المستغرب أن يشيع هذا الخلق وتنمو جراثيمه فى كيان أمة نمو الخلايا السرطانية فى الجسم المعتل حتى تجهز عليه .. ذكرت هذا وأنا أتابع أنباء ما يسمى بجيش لبنان الجنوبى، وهو عصابات من المرتزقة والمرتدين والحاقدين على العروبة والإسلام، جمعهم اليهود ليضربوا بهم العرب! وذكرت أن خالد بن الوليد وهو يحرر العراق من حكم الفرس وجد بعض العرب يقاتل مع المجوس المستعمرين للعراق! فقال لهم: أأنتم عرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من العدل والإنصاف؟.. وهذا الكلام نفسه يقال- بعد أربعة عشر قرنا- للموارنة الذين يظاهرون إسرائيل، ويعينونها على تشرد العرب والتهام حقوقهم! إن هؤلاء الناس نسوا حقوق النسب والجوار، وقبل ذلك نسوا نداء الشرف والوفاء، ومشوا وراء وساوس الاستعمار الذى يكيد للعرب والمسلمين، ويبنى خططه كلها على ألا يكون للإسلام وجود.. لقد جعل العثمانيون لجبل لبنان كيانا ذاتيا، ثم جاء الفرنسيون وخلقوا لبنان الكبير بعد ما سلخوا من سوريا بعض ألويتها.. والمهم أنهم قرروا أن تكون السيادة فى لبنان الجديد للموارنة وحدهم، وأوعزوا لأغلب الطائفة أن تدحرج معالم الإسلام فى كل ميدان حتى تكون الكثرة الإسلامية قلة تائهة تافهة.. ص _206(3/203)
وهذا سر القتال الدائر من بضع عشرة سنة بين مسلمى لبنان وغيرهم. وصانعو هذا الوضع المحرج يقولون: إما أن يكون لبنان هكذا أو لا يكون!! فماذا نحن قائلون؟ والقصة نفسها تتكرر فى السودان، فإن ماركسيا من زنوج الجنوب ألف جيشا زعموا أنه من المسيحيين! سماه جيش الشعب السودانى أعلن أنه يريد به التحرير!! تحرير من؟ تحرير السودانيين من الإسلام وأحكامه وأهدافه وإقامة حكومة علمانية... وقد لفت نظرنا أن الحبشة الشيوعية تمد الجيش الجديد بالسلاح، وأن الإرساليات التبشرية من السويد فى الشمال، إلى حوض البحر المتوسط فى الجنوب، تمد الجيش الثائر بالمؤن وكل ما يعين على النصر! لماذا؟ ليتم الإجهاز على الإسلام والعروبة فى نصف السودان تمهيدا للقضاء عليهما فى السودان كله.. وصانعا هذا الوضع المحرج يقولون: إما أن يكون السودان هكذا أو لا يكون... إن المؤامرات قد افتضحت ضد الإسلام عنوانا وموضوعا، عقيدة وشريعة وقد ظل المسلمون يتقهقرون حتى أصبحت ظهورهم إلى الجدران، فإما قاوموا العدوان الوقح إلى آخر رمق، وإما ذهبوا فى خبر كان... ولنعلم أن الجيوش الخائنة فى لبنان أو فى السودان تتلقى الأوامر من جهات لا تكتم ضغائنها على يومنا وغدنا.. ص _207(3/204)
مدرس ينشر الإلحاد بين تلامذته هو مدرس فلسفة، توهم لأمر ما أن حرفته تفرض عليه تبنى الإلحاد فكرا ونشرا، ولما كان الشر لا يستطيع أن يمشى مكشوف السوأة، بل يتوارى غالبا فى رداء من الخير، فإن صاحبنا اتخذ العلم شعارا يدس تحته ما يريد، ومن الممكن باسم المنطق العلمى أن يهاجم الدين وأركانه وأن يضلل الأغرار ويفتنهم! قلت له: مالك وللعلم؟ إنك تتحدث كأنك سبقت أنشتين فى اكتشاف نظرية النسبية، أو شاركت نيوتن فى تقرير قوانين الجاذبية! وتخصصك الذى تعيش فى نطاقه لا علاقة له بهذا أو بذاك.. إن جمهرة المشتغلين بالعلم والفلك والأحياء والفيزياء والكيمياء.. الخ مؤمنون بأن للعالم ربا يشرف عليه، وليس سيارة تنطلق بلا قائد. وقد أحصى العقاد فى كتابه: "عقائد المفكرين " أساطين العلوم الكونية فإذا تسعة أعشارهم مؤمنون، والعشر الباقى بين متردد وملحد! وكان سير جمس جنز الفلكى الإنجليزى تملكه هزة عصبية وهو يتحدث عن عظمة خالق السماوات، ومرصع فضائها بالنجوم! وقرأت لأنشتين حديثا عن الله كأنه قصيدة عاطفية لمحب مشبوب المشاعر. وليقرأ من يشاء كتاب العلامة "كريس موريسون " الذى ترجم إلى العربية بعنوان: "العلم يدعو إلى الإيمان " والرجل رئيس أكاديمية العلوم فى الولايات المتحدة، وحصيلته من العلوم تجعله قمة شامخة! وتحضرنى قصة طريفة لهذا الكتاب، فإن الصحفى كامل الشناوى نشر مقالا تحت عنوان: هل الرجال قوامون على النساء؟ ونشبت بينى وبينه مجادلة عاصفة، عندما كان محررا بالجمهورية! ثم قرأ الرجل كتاب "كريسى موريسون " ثم نشر مقالا ص _208(3/205)
عنوانه: " وضعت يدى على الله!! ". والعنوان عليه صبغة المجون، ولا أدرى أمات الرجل مؤمنا أم كافرا؟ المهم أن جمهرة أولئك الملاحدة يخطون سوادا فى بياض، وليست بينهم وبين المعرفة رحم موصولة! إنهم كما وصف القرآن الكريم : (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون). وعندما خطبت فى أحد المؤتمرات الكبرى أناشد الحكام العودة إلى قواعد الإسلام وشرائعه رسمنى المصور الهزلى صلاح جاهين وقد سقطت عمامتى على الأرض بفعل قوانين الجاذبية، قلت: هذا مؤلف مواويل تافه الفكر والأدب يتمسح بالعلم وهو يهاجم الدين! ما علاقته بالعلم والعلماء؟ وفى هذا العام نشرت مجلة عربية تصدر فى باريس صورة هزلية تتناولنى بالغمز لأنى عبت رواية أولاد حارتنا، واتهمت بواعث إحيائها! والرسام الماجن يذكر اضطهاد العلماء الذين أثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس! ما علاقة حقيقة جغرافية مقررة بمزاعم صحفى ينكر الألوهية والوحى؟! وما علاقة الإفك بالعلم؟! إن تطاول الصغار شىء لا يطاق، وقد رمقت ملاحدة العرب فى الأيام العجاف، فلم أعجب لأظافرهم التى يخمشوننا بها قدر ما عجبت من كلامهم عن العلم، العلم الأوروبى طبعا! إن القرعاء تباهى بشعر بنت أختها، فهل علمت القرعاء أن بنت أختها مؤدبة؟ لم يفقدها شعرها الأدب. ص _209(3/206)
اليد العاطلة لا تخدم رسالة.. فى موازنة بمن أحوال أمتنا وأحوال الأمم الأخرى شعرت بأسى يكسو قلبى، وبهزيمة أطأطىء لها رأسى، وبتفريط فى جنب الإسلام ما أحسبنا ننجو من عقباه! رأيت الحاكم فى أمم قد تكون وثنية يتولى السلطة حينا من الدهر ثم يتركها فإذا ثروته هى هى ما زادت فلسا، وربما نقصت! على حين ترى العكس فى العالم الإسلامى، ما يترك السلطة أحد إلا وله مال ممدود وجاه معدود.. ورأيت العالم فى شئون الكون والحياة، وفى شئون الوحى ورسالات الله يحيا- فى أوروبا وأمريكا وآسيا- مقبلا على علمه ينميه ويخدمه ويفرش له بصره وبصيرته وينفع الجماهير ماديا وأدبيا به، على حين نرى نظراءه فى عالمنا الإسلامى يعيشون لأنفسهم ولا يسافرون خارج حدودها! ولم تبرح ذاكرتى صورة راهب بوذى وراهبة بوذية أشعل كلاهما النار فى نفسه وثبت مكانه لا يجرى حتى أتت النار عليه كى يلفت النظر إلى قضية دينه الذى تحيف عليه الشيوعية! ورأيت العامل فى أقطار شتى يفرغ وسعه فى إجادة ما فى يده، أما عندنا فقلما يخرج العمل إلا ناقصا أو شائها! أما السباق فى مضمار الكمال فقد استبعد من حياتنا، وحل محله تزويق الظاهر وإحسان الطلاء.. ورأيت الممرضة ترمق المرضى كما يرمق الحانوتى الجثث على أنها "الشغل " الذى تخصص له أو فرض عليه! أما العاطفة الجياشة بالرقة والعناية فأمر آخر. ورأيت الخادم تتعامل مع البيت الذى ترتزق منه بكراهية خفية وملل ملحوظ أما الخادم القادمة من شرق آسيا فهى راعية فى مال سيدها وهى مسئولة عن رعيتها..! ص _210(3/207)
ورأيت البائع والمشترى، كل منهما يريد أن يأخذ أكثر ويعطى أقل ما يستطيع أداءه، أما ضوابط العدالة والصدق فقصة خيالية!! وعدت من هذه الموازنة الخاطفة إلى آيات الله أتلو منها (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) ثم قلت: لماذا نطمع من هذا القانون الصارم؟. إن الأمم تتقدم وتتأخر بعناصر من ذاتها.. والأمم التى تدفعها إلى الأوج تيارات هوائية مفاجئة، لقد ارتقت وخوافيها، ورغبتها فى التحليق ونفورها من الإسفاف.. لابد من علم يستنفذ الطاقات، وتتشابك فيه المواهب الإنسانية أولاها إلى أخراها، أما المنى الحالمة فهى بضائع الحمقى! ص _211(3/208)
مدارس إسلامية كبيرة.. الثقافة الإسلامية بحر متلاطم الأمواج مترامى الأبعاد يقف بساحله من شاء لينال منه ما يشبع نهمته ويروى غلته! هناك ميدان الفقه والتشريع، وهناك ميدان الأصول وقواعد الاستدلال، وهناك ميدان المرويات القولية والعملية وهناك ميدان التربية والتصوف والسلوك، وهناك ميدان الاعتقاد ومذاهب المتكلمين، وهناك ميدان الفلسفة والحكمة ومناشط العقل الإنسانى، ثم هناك ميدان اللغة والأدب ومواريث الشعراء والأدباء.. وقد لاحظت أن المستغرق فى أحد هذه الميادين غير مكترث بما فى الميادين الأخرى من حق وخير، يكون فاشلا أو قاصرا فى الميدان الذى تفرغ له وحده. إن آفاق العلم المختلفة ينير بعضها البعض الآخر، ويعين على ضبط الأحكام والمواقف! فالمحدث القصير الباع فى الفقه لا يحسن فهم السنة. والمفسر الضعيف الاطلاع على الأدب لا يستطيع تذوق البلاغة القرآنية وشرح أسرارها للطالبين.. والمتفقه الذى وهت صلته بعلم الأصول ومدارسه المختلفة يظلم المذاهب الفقهية ويسيىء إلى الشريعة. وقد رأيت أئمة العلم الدينى مهرة فى أغلب الميادين التى ذكرتها، فأبو حامد الغزالى فقيه أصولى متكلم صوفى فيلسوف أديب، وإن كانت بضاعته كاسدة فى المرويات! وابن تيمية محدث فقيه أصولى أديب وإن كان نائيا عن الفلسفة والتصوف، وعند التأمل فى علم الرجل نجده أحذق من أرسطو فى المنطق ومن أرسخ الناس قدما فى علم القلوب الذى هو أساس التصوف المقبول.. ص _212(3/209)
وقد قرأت للشيخ محمد عبده أنه قرأ خمسة وعشرين تفسيرا وهو يعالج إحدى آيات الأحكام! ثم تأملت فى تراثه وتراث تلميذه الشيخ الإمام محمد رشيد رضا، فوجدتنى أمام قمة شامخة من قمم الفقه والأصول وعلوم العقيدة والملل والنحل. ولا ريب أن الاشتغال بالدعوة الإسلامية يتطلب ثروة عريضة من مدارس الثقافة الإسلامية الرحبة، وبصرا حادا بأفاق الفكر الإنسانى على الإجمال.. أقول ذلك لأنى رأيت دعاة حصيلة أحدهم من العلم تعينه على فتح دكان فى إحدى الحارات، ولكن غروره يزين له أن يدخل فى صراع مع شركات النفط، أو فى نزاع مع المصارف الكبرى!. ورأيت من هؤلاء من يتناول أقدار الأئمة كما يتناول الطفل حصيات يعبث بها.. لقد ذكرت الحديث الشريف "رحم الله امرءا عرف قدر نفسه "..!! ص _213(3/210)
الإيدز: والشذوذ والبغاء تتسع الدائرة التى ينتشر فيها مرض "الإيدز" وتزيد الأموال المرصدة لمحاربته وتنوء الدول الفقيرة- فى أوروبا وأمريكا- بمغارم هذه الحرب التى لا تبدو لها نهاية. ويقول الدكتور "ليونارد ماتا" ممثل "كوستاريكا" فى إحد المؤتمرات الطبية: إن وزارات الصحة فى دول أمريكا الوسطى لا تستطيع تطويق هذا المرض ومنع انتشاره! وشكا من أن المرض اللعين أصبح متوطنا لا مستوردا! وذلك لعجز الشعوب عن مطاردة الشذوذ الجنسى، والبغاء، اللذين يمثلان بؤرتين أساسيتين لهذا الداء الخبيث!!. ونحن نعلم أن الولايات المتحدة مهددة بهذا الوباء، ومهتمة باستكشاف دواء له، وقد بلغ من اكتراثها بمكافحته أنها سخرت إحدى مركباتها الفضائية لحمل جرثومة المرض فى خلية مصابة لتعرف ما يعروها فى طبقات الجو العليا! فقد تجد وسيلة للتغلب عليها!! وقد يسرنا أن يفلح العلماء فى اختراع ما يشفى من هذه العلة، فنحن نرحم كل مصاب ونحاول أن نحمل الجرحى فى ميدان الاستقامة حتى نجد لهم المأمن والعافية، داعين لمرضى الأرواح والأجسام أن يمن الله عليهم بالعافية حتى يعودوا إليه تائبين. إن مرض الإيدز من أمراض الحضارة التى تضخم كيانها المادى، وضمر كيانها الروحى ضمورا شديدا. والبلاد الإسلامية أقل البلاد تعرضا لهذه المصيبة المثيرة للسخط والاشمئزاز، وذلك لبقايا الإسلام فى جنباتها، والنفور الشديد من جريمتى اللواط والزنى، وهاتان ص _214(3/211)
الجريمتان تجدان مرتعا خصبا فى أقطار الغرب حيث عجز أهل الكتاب بإمكاناتهم القليلة ومواريثهم الضعيفة أن يقاوموا نزوات الغرائز، وانحرافاتها الشائنة.. ونحن- معشر الدعاة- نشعر بقلق عندما نشعر بمطارق الغزو الثقافى المسعور تنهال على بلادنا، تريد الإجهاز على بقايا الدين فى أرضنا واجتياح ما بقى من طهر لدينا !! ولقد وقفت ضائق الصدر أمام عنوان فى صحيفة كبيرة جدا تتحدث عن مرض الإيدز فتقول: إنه مشكلة عالمية لها أبعادها المتعلقة بالحرية الفردية وسلامة المواطن واستقراره.. الخ. أهذه أخطار المرض الخسيس؟ أية حرية فردية يتحدث عنها الكاتب الماجن؟ حرية العهر والتخنث وتحول الرجال إلى نساء؟!! إن الأقلام التى تنسى الله، والدار الآخرة، ومدارج الكمال الإنسانى آن لها أن تحتجب أو تنكسر، فإن بقاءها ذريعة فناء ماحق لكل ما فى العالم من خير. ص _215(3/212)
الساسة العاميون! لماذا يخطبون ويرتجلون؟ مع صلتى الحميمة بالأدب العربى فقد بت أخشى على لسانى ولغتى من شيوع الأخطاء واضطراب الأساليب، إنني أحترم لغة الوحى وأغار عليها، وأشعر بالخجل الشديد عندما أخطىء فى إعراب أو أسيىء اختيار لفظ.. وليس هذا خلقا أنفرد به، إنه خلق أولى الألباب الذين يحترمون أنفسهم وتراثهم ودينهم، وقد روى أن رجلا قال لعبد الملك بن مروان: شبت يا أمير المؤمنين! فقال: شيبنى صعود المنابر وتوقع اللحن!!. إن الخليفة الكبير يحذر عثرات اللسان وسوء الأداء، ويرى ذلك خللا فى مروءته وخدشا لمكانته!. ويظهر أن ذلك يوم كانت المناصب الكبرى إمامة مرموقة وقيادة هادية! أما بعد أن أمست مغانم يستولى عليها الشطار، ويحرزها المغموصون فى علمهم وكفايتهم فقد أصبح الخطأ قانونا والصواب شذوذا.. ومن بضع سنين أرسل طلاب إحدى الجامعات الأمريكية كتابا شديدة اللهجة إلى قائد حلف شمال الأطلسى يستنكرون أداءه المعتل للغة الإنجليزية، ويطلبون منه إما السكوت أو صحة النطق- وكان القائد من كبار العسكريين الأمريكيين- وقد أعجبنى تصرف الطلاب، ولم أعتذر عن الرجل بأنه ليس متخصصا فى اللغة. إننا لا نكلفه بأن يكون أديبا ماهرا، ولكننا نكلفه ونكلف غيره من أصحاب المناصب الكبرى أن يحسنوا التعبير عما يريدون، وأن يتجاوزوا مرحلة الطفولة البيانية، وإلا فليلتزموا بهذا الحديث الشريف " الصمت خير وقليل فاعله ".. وكان الساسة القدامى يحضرون خطبهم تحضيرا متقنا حتى جاء الرئيس عبد الناصر، فاعتقل سيبويه وحزبه، وأعلن على الفصحى حربا شعواء، وهو أول من كسر ص _216(3/213)
الباء فى كلمة "بدء" وهى مفتوحة من نشأة اللغة إلى قيام الساعة وكسر الواو فى كلمة " وحدة " وهى مفتوحة أبدا وهبط باللغة العربية هبوطا شنيعا. ولم نجد من حراس اللغة من يصنع معه صنع الطلاب الأمريكيين مع قائد الأطلسى، بل وجدنا برنامجا فى التلفاز المصرى يتحدث عن خصائص البلاغة فى خطب عبد الناصر!!. وقد سمعت متحدثين عربا فى إذاعات عالمية ومحلية يقلبون القاف همزة، أو كافا، والجيم دالا، ويكسرون أوائل الألفاظ، ويدوسون قواعد النحو والصرف وكأنهم فلاحون فى معرض فنان عالى الذوق!.. والغريب أنهم إذا تكلموا بالإنجليزية أو الفرنسية استقامت فى ألسنتهم وحسدهم الإنجليز والفرنسيس على فصاحتهم! ما هذا البلاء؟!! يجب ألا نسكت على هذا العوج. أكاد أشعر بأن الأمة التى تفقد لغتها كالفتاة التى تفقد عرضها! هذا هو طريق الضياع المادى والأدبى والعلمى.. وهذا ما ينشده الاستعمار الثقافى حتى تموت لغة الوحى، ويضيع الدين كله، وتذهب الدنيا معها. ص _217(3/214)
غناء مرفوض..! للغناء أثره فى تحريك المشاعر وإذكاء العواطف، وإذا كان يثير الجمال فى الصحراء فكيف لا يثير الناس فى دروب الحياة؟ لذلك ينبغى أن تكون الكلمات التى تغنى منتقاة شريفة، وأن ترفض كل المعانى الهابطة والتوجيهات المنحرفة.. وفى سماعى لما يذاع من أغنيات وجدت كلمات جديرة بالمحو، ما كان يليق أن تقال، وأن تلحن، وأن تحيط بها الأنغام الجذابة! ومع ذلك فقد تمهد لها الطريق، وبقيت سنين عددا تؤدى وظيفتها الخسيسة! ولا تزال! خذ مثلا قصيدة "كليوباترة" التى تصدح فيها الموسيقى بصوت محمد عبد الوهاب، وهو يقول "ليلنا خمر.. " والتى تصف وجه الحبيب بأنه " أسمر الجبهة كالخمرة فى النور المذاب ". إن ليالى السكارى تتبعها حتما أصباح الهزيمة والعار! وعندما يكون ليل العرب خمرا فماذا ينتظرون من حكم الله فيهم، والعدو يحيط بهم؟ (أفبعذابنا يستعجلون) (فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ). ونحن نطلب إما وقف إذاعة هذه القصيدة، وإما تغيير للكلمات النابية التى تضمنتها، والتغيير سهل وأنا على استعداد للقيام به إذا طلب ذلك منى، وسيبقى بعد ذلك اللحن والأداء على حالهما.. لقد فنعت إذاعة أغنية "الفن" وهى من روائع عبد الوهاب لأنها تحدثت عن فاروق باحترام! تقول: الفن من شرفه غير الفاروق ورعاه؟ وكذلك ألغيت أغنية "إلام الخلف "؟ لأنها قالت للملك فاروق: فيا فاروق أدركها جراحا أبت إلا على يدك التئاما!! ص _218(3/215)
فهل احترام الدين والشرف والتزام التربية الزاكية والسيرة الناضرة أخفت كفة من ذكر فاروق بخير؟!! وندع هذا المثل لنوع آخر من الإسفاف المحقور! أى أثر يتركه عبد الحليم حافظ فى النفوس عندما يغنى " قدر أحمق الخطى.. "؟!! هل القدر الأعلى أحمق الخطى؟ أعرف الشاعر الذى ألف هذا اللغو! إنه فى ميزان المروءات والرجولات صفر! وأعرف كذلك أصحاب الحناجر الرقيقة، إنهم لا يخشعون لله إذا ألقوا قصائد دينية، وربما لا يكفرون إذا قالوا كلمات ساقطة إنهم كالقصب الذى ينفخ الهواء فيه فيخرج رخيما أو سقيما، ولا قلب هناك ولا فكر! ولكننا نخاف على الأجيال الناشئة عندما تسمع هذا الإسفاف، ولذلك نطالب بإراحة الناس من سماعه!. ص _219(3/216)
آثار ضعف اليقين.! لكل مجتمع محترم دعائمه التى يقوم عليها ويعرف بها ويتحرك منها، والويل لمجتمع تمشى فيه العقائد على استحياء، وتهيم فى جؤ من القلق والتوجس، وتظهر فيه الفضائل والعبادات كئيبة غريبة كأنها تلتمس المأوى فلا تجده. إن الاستعمار الثقافى خلق فى العالم العربى حالة من اللا إيمان واللا فكر أشاعت الميوعة والبلبلة فى أرجاء واسعة. تشخيصها الطبى إن الإيمان موجود، ولكن أحاطت به مضادات وأحجبة تشبه المواد العازلة التى تحيط بقوى الكهرباء فتبطل عملها.. ونشأت عن ذلك فوضى أخلاقية واجتماعية جعلت المسلمين يتحركون فى مواضعهم لا يخطون إلى الأمام خطوة، وربما تحركوا ثم عادوا من حيث بدءوا!. وقد استغل أعداؤهم هذا الوضع استغلالا سيئا، فهناك مدارس عربية الطلاب أجنبية الإدارة جمعت منها تبرعات سخية سارت فى سراديب خفية حتى وصلت إلى "جون جارانج " قائد الثورة فى جنوب السودان! وهناك مدارس أخرى كرهت الاستشهاد بآيات الكتاب وأحاديث الرسول فى قواعد اللغة والبلاغة فعدلت البرامج من أجل سواد عيونها. وهناك مسارح وسينمات عرضت فيها روايات تعرض التاريخ الإسلامى على إنه إرهاب وعنف، وتهديد بالسيف! ويخرج المشاهدون وهم تائهون زائغون.. وهناك رؤساء يقول أحدهم بصلف: أنا لا أتحدث فى الدين، ولا أحب سماع حديث فيه! وهناك محاكمات تصون حق الحياة لباعة الموت من تجار المسكرات والمخدرات، وهى فى الوقت نفسه تقتل المتهمين بالتطرف الدينى فى عرض الطريق وفى وهج الشمس !! ص _220(3/217)
وبعد ذلك كله، هناك إسرائيل التى تصرخ بأعلى صوتها معلنة انتمائها إلى العهد القديم والتلمود، وتقدس السبت وتستعد لبناء الهيكل بعد هدم المسجد الأقصى.. ثم العرب الذين يستحيون من الانتماء الإسلامى، ويخفون ملامحهم وراء قناع العروبة العلمانية!. وهناك إنجلترا أو دول غرب أوروبا التى تعلن جهرة تأييدها لإهانة الإسلام، وسب نبيه العظيم، والعرب الذين يتظاهرون بالصمم ولا تتمعر وجوههم لما حدث.. أما كان فى الإمكان عمل شيىء جاد لوقف هذا السفه؟!. إن المنافقين الذين ظهرت لهم عصابات فى صدر الإسلام ثم اختفت بعد ما باءت باللعنة عادوا كرة أخرى ينشرون الدخان فى آفاقنا، ويظاهرون الأعداء على تعويق مسيرتنا وإطفاء نهضتنا.. إن دولة إسرائيل تهاجمنا دون عوائق، أما نحن المدافعين عن دار الإسلام فإننا نجد مختبئين فى حجرات الدار ودواوينها يدلون علينا ويوهنون قوانا، ويتربصون بنا الدوائر! فحتى متى يبقى هذا "الطابور" الخامس من سماسرة الغزو الثقافى الخائن؟. ص _221(3/218)
تحدى النبوة الخاتمة سفاهة قديمة! كان صوت المؤذن يترامى إلى من بعد، ولكن حفظى للكلمات وإلفى للأنغام جعلانى أتابعه وأردد فى خفوت ما يقول! بعد تكبير الله وتوحيده شهدت لمحمد بالرسالة! بعد إعظام الله وإسقاط أى شريك له أقررت بالنبوة للإنسان الجليل الذى قرر هذه الحقيقة وحماها وبذل دونها نفسه وماله، ولم يسترح ساعة حتى بلغ بها الآفاق وملأ بها أرجاء الدنيا.. إن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أشد حارس للحقيقة الأولى فى الوجود، وقد عمر بها ولا يزال مساحات من الأمكنة والأزمنة لم يستطعها أحد من قبل. ولا يزال الدين العام الخالد يكافح جاهليات هائلة تكره التوحيد ولازلت أرى بنفسى أناسا تنقلب سحنتهم عندما يسمعون الأذان، وتعرف فى وجوههم المنكر. إننى أردد كلمات المؤذن فى كل وقت وكأنى أقول له: أؤيدك برغم أنوف الكذبة والمكذبين!. وفى أعصار متطاولة تنتهى إلى زماننا هذا يوجد حاقدون على محمد، فى مواريثهم بقايا من الشرك وفى مسالكهم بقايا من الرجس يؤثرون العمى على أن يروا امتدادا لدين محمد. وهم يستطيلون فى عرض النبى الخاتم ويتلمسون له العيوب، والغريب أنهم لم يدرسوا سيرته، ولم يستبينوا رسالته، إنهم ورثة أحقاد وحسب!. وقد عجبت لدول أوروبا وأمريكا وهى تحتفى بشتائم يوجهها شخص مسعور إلى أمير الأنبياء ومجدد هداياتهم، ومذكر العالم كله بمعالم الفطرة وأمجاد العقل، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور. ص _222(3/219)
إن الضغائن الصليبية الأولى توهجت شعلتها، ورأت لغير سبب أن تشجع سب محمد وأسرته وأتباعه بأساطير شيطانية! لماذا؟ لا لشيىء إلا لأننا ضعاف، هنّا على الله وعلى أنفسنا فكان هذا الهوان وراء النزق ضدنا والسكوت على ما يؤذينا.. ولاشك أن تصرفات بعض المسلمين من وراء هذا العدوان الممتد. أعرف أن من علمائنا الأقدمين من قال: إن توبة الزنادقة لا تقبل! وهم إنما أصدروا هذه الفتوى لأنهم يتهمون الزنادقة بالكذب والغش، وأن توبتهم غير صحيحة، ولذلك لا يصدقون فى إعلانها !!. بيد أن أحوال العالم تغيرت، ومن الممكن العودة إلى الأصل المجمع عليه وهو أن التوبة تمحو كل شىء!! ولا مساغ للتشبث بفتوى لا تجر علينا إلا العنت، وفى أيام يطمع فى النيل منا الذباب والكلاب. إننى أنظر بأسف إلى قصة مغموص شتم نبينا فرحبت بصوته أوروبا وأمريكا، كان من الممكن أن يموت هذا الكويفر التافه مكانه لو كنا نحسن إدارة المعارك، ولكنا جعلنا له شأنا عالميا بطريقة مدهشة. ونفس الصليبيون عن أحقادهم فى هدوء! وتحركت الجماهير فى الهند وباكستان هائجة. وسكت العرب، ولست أدرى سر سكوتهم، أعن حكمة أم عن بلادة؟؟. وقيل عنا: إننا لا نعرف الحرية ولا نقدر حقوق الإنسان!! يا عجبا إن آباءنا هم الذين ابتدعوا الحرية الدينية على وجه الأرض فكيف نتهم بالنقيض؟. وددت لو اجتمع المؤتمر الإسلامى ليقول لمن يستبيحون محمدا: بعض الأدب وبعض الحياء. أسكتوا سفهاءكم ليستطيع عقلاؤنا الكلام. ص _2 ص(3/220)
الخلاف الفقهى.! استغرب البعض رفضى الشديد لأحكام قررها ابن حزم، واستهجانى لأدلتها!. وقالوا: إنك روجت لآرائه فى قضايا شتى تتصل بقول شهادة المرأة فى كل شيىء، وفى استحباب حضورها الجماعات، وفى توليها أغلب المناصب، وفى سماع غنائها مادام شريف الغرض.. الخ فكيف نوفق بين حاليك؟. قلت: موقف أولى الألباب مع ابن حزم وغيره هو وزن الأدلة، واستبانة ما فيها من ضعف أو قوة!.. إننا ينبغى أن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، وليس أحذ أولى بالحق من أحد..! وأحب أن أؤكد حقيقة نفسية لدي: أننى أحترم أئمة الفقه الكبار احتراما عميقا، وأحترم المدارس التى نشأت حولهم أو نشأت مستقلة عنهم مادامت تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله! وأرى أن فنون الجمال العلمى أكثر من فنون الجمال البدنى. هناك جمال العقل اللماح عن بعد وهناك جمال الفكر المتروى العميق وهناك جمال الذاكرة المحيطة المستوعبة، وهناك جمال الذكاء المكتشف المحلق، وهناك جمال الأداء المترسل البليغ، وأنا أعشق فى أئمتنا ومجتهدينا أنواع هذا الجمال، وأتتبعها فى مذاهبهم.. وأعلم بعد ذلك أن الاجتهاد تحكمه ملابسات مثيرة ووجهات نظر كثيرة، وأن الشخصية الممتدة غير المنكمشة، عقلية النص غير عقلية الفحوى والصارم غير السمح.. الخ. وثم أمر آخر أحب أن أذكره وأكرره! أن علامة الخطأ- فى شئون الحياة- ما يعقبه ص _224(3/221)
من مشقة أو ضرر، وأن علامة ما يصحبه أو يلحقه من نفغ خاص أو عام مصداق قوله تعالى : (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). لذلك روجت للمذهب القائل بأن طلاق البدعة لا يقع مثلا فهو أصون للأسرة وأجدى على المجتمع، ولا مجال هنا للاستطراد.. وعندما أقرأ لابن حزم فى المحلى أشعر بعبقرية الأثر والاستيعاب والإحاطة الرائعة بأحوال الرواة والمرويات، وأقدر للرجل الكبير هذه المكانة!. وقد أقرأ له لأعرف أقوال غيره فهو يوردها بأمانة، ثم يناقشها بأسلوبه الذى لا يخلو من العنف والتهكم. فإذا بلغ الأمر مرتبة الاستنتاج والترجيح لم أر حرج فى تركه يمضى وحده، وأمضى أنا حيث أرى الدليل أقوى والمصلحة أرجى!. ومع أنى أخذت إجازتى العلمية من الأزهر على أني حنفى المذهب، ومع إجلالى لأبى حنيفة فقد رفضت مذهبه أن القرشية لا يتزوجها إلا قرشى وأن المصرى أو اليمنى ليس لها بكفء، هذا عندى باطل، وإن أيده الحنابلة!! ومالك أولى بالحق منهما... على أن مخالفتى لا تجعلنى أكثر من طالب علم ينظر إلى أئمته الكبار باحترام وحب وتقدير. ص _225(3/222)
ما أظن أولئك عربا ولا مسلمين ! كلما سمعت بأنباء الانتفاضة الفلسطينية، ومصارع الفتيان والفتيات فيها ضاق صدرى وأظلمت الدنيا فى عينى! إن اليهود يعربدون دون وجل، ويلقون بقذائف الموت من لا يملكون إلا رمى الأحجار! وأمسى للثعالب زئير الأسود، وتناقلت أرجاء العالم وعيد بنى إسرائيل وهم يرغون ويزبدون، وينذرون بعظائم الأمور..! ولم لا والعالم كله ينظر ببرود إلى ما يقع؟ والعرب أنفسهم يكتفون بالكلام الأجوف والتعليق البارد؟! إنه لا توجد خطط جماعية بين العرب لمواجهة هذا العدوان المستمر! لابد من معونات مالية لدعم المحرومين فى هذه الجبهة الحافلة بالمآسى، لابد من غضب عام يجتاح العالم العربي والإسلامى كلما هدم بيت وبات أهله فى العراء، وكلما قتلت طفلة أو هلك يافع برصاص المعتدين! إن ترك الثائرين فى فلسطين يلقون مصيرهم وحدهم جريمة لها عواقبها فى الدنيا والآخرة، والذين يقفون اليوم متفرجين سيكونون صرعى الغد القريب أو البعيد! فالرحى الدائرة لن تتركهم أبدا. المتطرفون فى الأرض المحتلة يقولون: سنقيم دولة يهودا إلى جانب دولة إسرائيل، وظاهر أن الأرض المقدسة عند اليهود المعتدلين والمتطرفين جميعا محور لدائرة سوف تنداح على مر الزمان لتبلغ الخطوط التى رسمها العهد القديم، أى من الفرات إلى النيل! فكيف يفكر العرب أمام هذا الطوفان الديني القادم عليهم من وراء الحدود؟! إن عددا كبيرا منهم لا يزداد عن الإسلام إلا بعدا، ولا يزيده الخطر الداهم إلا غفلة، مع أن التنادى بالإيمان ضرورة حياة أمام هذا العدوان!. فماذا فعلوا بعد أن اتخذوا هذا القرآن مهجورا؟ هل أصبحوا عربا لهم خلائق العرب ص _226(3/223)
فى الجاهلية الأولى؟ يحمون الذمار ويطلبون الثأر، ويحظرون على أنفسهم المتع حتى يقهروا عدوهم وينتصفوا لأنفسهم؟ كلا لقد أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم فلا إلى الإسلام انتسبوا، ولا إلى العروبة كان انتماؤهم وعملهم!. قرأت لأحد صعاليك العرب فى الجاهلية أبياتا يتوعد فيها قتلة قريب له يقول فيها: إن بالشعب الذى دون سلع لقتيلا، دمه ما يطل خلف العبء، على، ووفى أنا بالعبء له مستقل ووراء الثأر منى ابن أخت قصيع، عقدته ما تحل فلما أدرك ثأره أباح لنفسه الاستمتاع واللذة وشرب الخمر! قال " تأبط شرا " يصف حالته تلك: حلت الخمر وكانت حراما وبلأى ما ألمت تحل !! إننى أهدى خلق هذا الصعلوك إلى العلمانيين من قادة العرب لعلهم يرتفعون إلى مستواه. ص _227(3/224)
أديب مظلوم...! هذه قطعة من أدب النفس أذكرها لما فيها من صفاء وسمو! قال كاتبها: " كان لى أخ هو أعظم الناس فى عينى، وكان رأس ما عظمه فى عينى صغر الدنيا فى عينه! كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهى ما لا يجد! ولا يكثر إذا وجد.. وكان خارجا من سلطان لسانه فلا يتكلم بما لا يعلم، ولا يمارى فيما علم..! وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يتقدم أبدا إلا على ثقة بمنفعة! وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بز القائلين! وكان يرى ضعيفا مستضعفا! فإذا جد الجد فهو الليث عاديا! وكان لا يد له فى دعوى ولا يشارك فى مراء، ولا يدلى بحجة حتى يرى قاضيا فهما وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا فيما يكون العذر فى مثله حتى يعلم ما عذره؟ وكان لا يشكو وجعه إلا عند من يرجو عنده البرء! ولا يستشير ضاحيا إلا أن يرجو منه النصيحة! وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا ينتقم من العدو، ولا يغفل عن الولى، ولا يخص نفسه بشراء دون إخوانه من اهتمامه وحيلته وقوته ". أقرأت هذه الصفات ورأيت معالم الاكتمال البشري فيها؟ إن كاتبها هو عبد الله بن المقفع، وإنما نقلتها كى أميط اللثام عن بعض المآسى فى تاريخنا الأدبى.. فإن ذلك الأديب المربى الواعى المصور بقلمه آفاق الكمال البشرى قتل متهما بأنه مجوسى ملحد !! وما أشك أنه ضحية مؤامرات سياسية أو حزازات شخصية. ص _228(3/225)
فأنّى لوثنى مخرف أن يرسم سمات العظمة الخلقية على النحو الذى رأيت؟ ومصارع العظماء فى التاريخ الإنسانى كثيرة، وهى إن دلت على شىء فعلى هوان الدنيا عند الله، وعلى أن سراءها وضراءها لا يعنيان شيئا ذا بال.. وقد قتل اليهود أنبياء الله، وقدم رأس يحيى بن زكريا هدية لامرأة لعوب طلبته! وعندما قرأت الخبر قلت: إن الله سبحانه وصف يحيى بأنه سيد! فهل يعامل السادة بهذه الخساسة؟ ما أحقر الدنيا، وفى الوقت نفسه ما أعظم الآخرة. إن عوضا ضخما هناك ينتظر المصابين والمظلومين! عوضا ينسى كل ما وقع من أسى وهضم (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ص _229(3/226)
أمريكا المتخلفة.. لم يقع أدني تغيير فى الخط الذى تلتزمه القوى المعادية للإسلام، بل لعل الأيام لا تزيدها إلا تعصيبا وقسوة. فها قد مرت أربعة عشر عاما على الثورة المندلعة فى لبنان، ويوشك الدمار أن يشمل بيروت شرقا وغربا، ومع ذلك فأوروبا- خصوصا فرنسا- مصرة على أن يكون الموارنة سادة لبنان! إنهم أقل من خمس السكان ومع ذلك فهم أهل القيادة والسيادة لأنهم منحرفون عن العروبة والإسلام يرنون بأبصارهم وبصائرهم إلى أوروبا وحدها. كان من الممكن أن يتزعم لبنان عربى علمانى بعيد عن الدين كله، وقد يعجب ذلك روسيا بيد أنه لن يعجب الغرب الذى تبنى المنطقة كلها على النحو الذى يروقه.. وما يقع فى السودان قريب مما يقع فى لبنان فالخطة المرسومة من خمسين سنة إبعاد أو إضعاف التيار الإسلامى فى أفريقية السوداء، ومنع العروبة من التسلل جنوبا حتى تنفرد البعثات التبشيرية بوسط القارة وتقضى فيه على كل وجود للإسلام..! ومركز السودان خطير فهو همزة الوصل بين شمال القارة وجنوبها. ولن يشفع للحكم العربي فى شمال السودان وجود الصادق المهدى! الواسع العقل المتخرج من أعرق جامعات إنجلترا. من يدرى؟ ربما نزعه عرق إلى جده الكبير، ربما ارتبط بالواقع الإسلامى فى الشمال! أولى منه بالتأييد زنجى يسارى يمقت العرب والمسلمين، ويسلخ السودان كله من تراثه وعقائده، ولا يهم أن يكون النصارى عشر السكان! ص _ ص 0(3/227)
وفى فلسطين رضى القتيل ولم يرض القاتل! وقبل العرب جزءا من حقهم يلعقون داخله جراحهم وينجون من التيه الذى بعثرهم فى كل بلد.. لكن بنى إسرائيل رفضوا، ومن ورائهم القوى المعادية للإسلام. إن الرؤى الدينية المسيطرة على القوم أن إسرائيل من الفرات إلى النيل. فليرض العرب أو ليسخطوا فلا اكتراث برضاهم ولا بسخطهم، وسوف يمضى الصلف اليهودى فى طريقه لا يلوى على شيىء. لكن هذه الحروب الظاهرة الفاجرة توازيها حرب أخرى أظهر وأفجر يقوم بها كتاب عرب داخل الأمة العربية نفسها، هذا دكتور، وهذا مستشار، وهذا فنان، وهذا أديب، وهذا مفكر، وهذا وهذا. الجميع يكتبون للقراء الذاهلين أن الإسلام دين لا دولة وأنه ما يجوز أن يقوم باسمه حكم، وما يجوز أن تنشأ له سلطة وما يجوز أن يتألف حوله حزب. فى ألمانيا وإيطاليا أحزاب دينية لأنها دول متخلفة! وفى الولايات المتحدة حضر حلف اليمين الدستورية للرئيس بوش أكبر رجل دين فى أمريكا! ومنذ أيام كان الرئيس السابق كارتر يطمئن على سير الأمور فى جنوب السودان.. هؤلاء جميعا من دول متخلفة! إن الدول العربية الراقية هى التى تدير ظهرها للإسلام وحده، وترسل سماسرة الغزو الثقافى ينبحون قافلة الإسلام وترى أحدهم بين الحين والحين يوجه إليهم طعنة غادرة أو سافرة. ص _ ص 1(3/228)
صدق النية يطفىء آثار الخلاف الخلاف طبيعة البشر، وبين آراء الناس وأهوائهم مسافات تتقارب وتتباعد! وقلما يقع الوفاق التام بين الأفراد والأحزاب، ولست أتشاءم عندما أرى اجتهادا يغاير اجتهادا، أو حكما يغاير حكما، وإنما أتشاءم عندما أستبين بواعث الخلاف، ويرى فيها ما يسوء.. وذلك لأن الخلاف العلمى النزيه لا حرج فيه ولا خوف منه، إنما يقع الحرج والخوف عندما يكون سبب الخلاف شهوة خفية أو رغبة مجنونة فى مأرب من مأرب الدنيا!. إن تقوى الله تميت كثيرا من أسباب الشقاق، وتجعل المرء إن كان مخطئا يتراجع عن خطئه، وإن كان مصيبا لا يتحدى بما عنده أو يطلب به إذلال معارضيه. وقد نظرت إلى أئمتنا الأوائل فرأيت نماذج للخصومة العلمية الشريفة، فلا إعجاب بالرأى ولا إدلال على المعارض ولا تتبع للسقطات.. وإنما تقرير لوجهة النظر يخدم الحق بالدليل مع نشدان لوجه الله ونفع الأمة.. المصيبة تكمن فى الاختلاف على المغانم.. والتهارش على إحراز ما يستطاع من هذه العاجلة، والتوسل إلى الدنيا بالدين، وسوق النصوص الكريمة ستارا على الرغائب الدفينة، كما قال أبو العلا: وكم من فقيه خابط فى ضلالة! وحجته فيها الكتاب المنزل! وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحذر من هذا الخلاف، ويكشف عواقبه على حاضر الأمة ومستقبلها، فعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب.. ص _ ص 2(3/229)
فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فقال: " لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فلا يزفي عنها بعدى إلا هالك! ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ " إن قواعد الدين وشعائره العظمى وأسباب انتصار الإسلام وتمكينه ليست موضع خلاف ونصوصها قطعية الثبوت والدلالة حتى لا تبقى لأحد معذرة. أما ما كان ظنى الثبوت أو الدلالة، فإن تشعب الآراء فيه لا يقلق مادامت النيات صادقة ومادامت الوجهة هى الله. وأمامنا فى هذا العصر أمم عظمى تملك البر والبحر ننظر إلى أبنائها فنجدهم متفقين على أصول! ونجدهم أحزابا فى شئون فرعية هينة. فهل ضارهم اختلاف الفروع مع التقاء كلمتهم على مبادىء واحدة؟ ألا نحسن الإفادة من الماضى والحاضر؟ ص _ ص 3(3/230)
من خصائص الحضارة الحديثة.. لو أن الحضارة الحديثة بقيت على الأصول التى عرفت بها من خمسة قرون لأفادت العالم كثيرا واستحقت التقدير والثناء! لأنها من الناحية العقلية احترمت منطق الاستقراء والتجربة والملاحظة. وأنشأت ضمانات قوية للوصول إلى الصواب والابتعاد عن الخطأ، ثم نقلت مقرراتها العلمية إلى عالم الصناعة فطفرت بالدنيا كلها طفرة بعيدة المدى.. أما من الناحية الاجتماعية فقد رفضت الوثنيات السياسية والكهانات الدينية واعتبرت الحكام أجراء لدى الشعوب وأن المناصب العامة أمانات مسئولة، ومشت فى هذا الدرب حتى أقرت أخيرا مواثيق حقوق الإنسان وهيئة الأمم ومجلس الأمن.. الخ. وانتهت الحرب الضارية بين العلم والدين لمصلحة الإنسانية، والواقع أن الوحى الإلهى النازل على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام لا يمكن أن يجور على الفطرة أو يرجح جنسا على جنس أو يسمح لطائفة من الناس أن تقول: نحن أبناء الله وأحباؤه.. ولم يكن " راسبوتين " متحدثا باسم السماء عندما أبيح دمه واستحق الازدراء..! ولكن الذين انهزموا فى الحرب التى نشبت بين الدين والعلم فى أوروبا عادوا للعمل مرة أخرى بعد ما غيروا إشاراتهم وأصلحوا هيئاتهم! فهل غيروا أنفسهم وأصلحوا أفئدتهم؟! إننى أقرأ بغضب وألم أن الشيوعيين اليهود والعرب يطلبون معايشة سلمية! ولكن الكثرة الكبرى من بنى إسرائيل تريد- وفق نصوص التوراة- أن تملك فلسطين كلها. وألا يقوم للعرب كيان، فليذهبوا إلى حيث ألقت أو يبقوا خدما فى أرض ليست لهم! ص _ ص 4(3/231)
والتدين الفاسد له خصائص مأثورة: القسوة والعناد وحرب الإبادة والضن على الآخرين بأى شيىء (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم ..). الخيانة والغدر وغرائز أخرى هابطة سيطرت على عصابات من المتدينين، وجعلت للاستعمار الأوروبى والأمريكى وجها شديد الدمامة! وأضعفت الخصائص الإنسانية فى الحضارة الحديثة، وزينت لها إبادة الهنود الحمر فى أمريكا واستراليا، كما زينت لها استئناف الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي، واستحيت ضغائن قديمة كان يمكن أن تتلاشى! وليس ينتظر من التدين الفاسد إلا هذا الحصاد.. والعرب اليوم يقفون أمام أحقاد القرون، ويقال لهم: لا بقاء لكم معنا. فإن لم تقبلوا فراغ الأرض منكم رحلناكم إلى المقابر!!. وينظر العرب إلى الهيئات العالمية، وإلى ساسة الدول الكبرى فماذا يجدون؟ يجدون من يقول لهم: اليهود أصحاب الحق فى الأرض المقدسة وفق نصوص العهد القديم. وسنبحث لكم عن مكان إلى جوارهم إذا شاءوا! ولا يزال عدد كبير من قادة العرب يزعمون لقومهم أنه لا صلة للدين بهذا النوع!! لماذا؟ حتى لا يفكروا فى الإسلام. ص _ ص 5(3/232)
العلاقة القائمة بين الملتين وأتباعهما فى أثناء الحربين العالميتين الأخيرتين وفى أعقابهما قامت دولة إسرائيل. كانت فى أحشاء السياسة الدولية جنينا نشأ من سفاح ثم نمته الخلافات والخيانات الفاشية بين العرب والمسلمين. وما كاد يولد حتى أصبح ماردا يتحكم، أو أصبح شرطى المنطقة لدى الاستعمار العالمى، يضرب به من شاء متى شاء! وساسة الغرب قبل هذه الحروب وبعدها لم تخف لهم ضغينة على الإسلام. لقد قرروا الإجهاز على الخلافة المعتلة وأجهزوا عليها، وقرروا تقليب الأمور على عقائد الإسلام وشرائعه، فلم يتركوا محفلا رسميا ولا شعبيا، عالميا أو محليا، إلا ودفعوه إلى تلك الغاية. وساسة الغرب- كما طالعت تاريخ حياتهم- مؤمنون بأديانهم، أوفياء لها يستوحون ماضيها ومستقبلها وهم يتعاملون مع الساسة العرب.. اليهود منهم يجهرون بأن التوراة حق وأن وعودها لابد من إنجازها! والصليبيون يرون أن قيام إسرائيل تمهيد لقيام مملكة المسيح وإشراق مده الإلهى بعد عودته الظافرة.. أما القادة العرب فما كانوا يدرون شيئا..! كثير من الساسة العرب لا ينتمى للإسلام إلا كارها، وقلما يعظم له شعائر أو يحيى له مآثر! وقد كنت ألحظ أن مفاوضات الهدنة بين العرب واليهود تدور وقت صلاة الجمعة! ما صلاة الجمعة؟ لا ضرورة للحرص عليها! على حين يعظم اليهود سبتهم، ويقاتلون من يعدو عليه!. ص _ ص 6(3/233)
قليل من الساسة العرب من يحافظ على صلواته اليومية، ويباشر أعماله بيد متوضئة وقلب منيب!. أما علاقات الحكام بالشعوب فإننى أذكر الحديث الشريف عن عمر رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بخيار أمرائكم وشرارهم؟ خيارهم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم! وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ". إننى أقرأ هذا الحديث ثم يخيل إلى أن تبادل الحب بين الشعوب والحكام هناك فى أوروبا وغيرها، وأن تبادل اللعنات يقع فى بلاد تزور فيها الانتخابات وتداس الجماهير، وتقتحم المساجد. إن الأمر جد! والعرب مقبلون على حرب إنقاذ أو حرب إبادة. فإن إسرائيل قررت جعل كلمة العربي التائه بدل كلمة اليهودى التائه وهى تصارح بأنه لا دولة للعرب... ولا ظهير لنا فى محنتنا الكبيرة إلا التشبث بالإسلام والمقاتلة دون مسجده الأقصى..! يقول "كيسنجر" فى مذكراته: لقد ساندنا إسرائيل طيلة حرب العبور بدوافع تاريخية عديدة وأدبية واستراتيجية وكدنا نعرض بلادنا لخطر الحرب مع الاتحاد السوفييتى ونحن نعانى من فضيحة "ووترجيت ". إن العلاقة بين الصهيونية والصليبية كشفت عنها المؤلفة اليهودية "توخمان " فى كتابها " التوراة والسيف " وقد شرع بعض كتابنا الأيقاظ يميط اللثام عن أطراف المؤامرة ويحذر قومه عواقب الرقود..!! ص _ ص 7(3/234)
ما انتشر الباطل إلا فى غياب الحق.. عرفت نفرا من الملاحدة معرفة عارضة عابرة! حاورتهم حوارا سريعا كنت فيه على حذر وكانوا فيه على غرور! لم ألمح فى عقولهم بريق ذكاء و إنما لمحت فى نفوسهم ظلال كبرياء.. وبعد أخذ ورد لسريعين تركتهم لأشم هواء نقيا، فإنى أنفر من النتن العقلى كما ينفر المرء السوي من روائح الجيف. وآخر ما قلته لأحدهم: أتظن عملية التمثيل " الكلورفيلى " تتم بين الشعاع والنبات بعد عقد وقعه كلا العنصرين بمحض إرادته. إن النبات يأخذ الكربون، والهواء يأخذ الأوكسجين، وكلاهما مسخر لا إرادة له. أتظن أن القمر والأرض اتفقا على أن تبعد الأرض ظلها ليلة النصف حتى يستطيع القمر استقبال ضوء الشمس بوجهه كله فيكون بدرا؟! إن كلا الكوكبين مسخر فى مساره لا يدرى ما يفعل به. أتظن أن الحيوان المنوى الذى يحمل خصائص الجنس ومعالم الوراثة من الأقربين والأبعدين يستقر فى بويضة المرأة وهو يعلم أنه يبدأ مشروعا لتكوين إنسان عادي أو عبقري؟! إنه أقل من ذلك وأتفه! إنه جزء من خطة رائعة وضعها غيره! تدرى من واضعها؟ (هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم). ص _ ص 8(3/235)
أعجبنى قول العارف: " يا عجبا كل العجب للشاك فى قدرة الله وهو يرى خلقه! ! ويا عجبا كل العجب للمكذب بنشور الموتى وهو يموت كل ليلة ويحيا! ويا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور! ويا عجبا كل العجب للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو بين ذلك لا يدرى ما يفعل به "! ليس لشيىء فى الكون وجود من ذاته، وإنما وجوده منحة من قيوم السموات والأرض، تستوى فى ذلك العناصر الجامدة، والحشرات الزاحفة والدواب الغادية الرائحة والبشر والجن والملائكة. إن الإيجاد عمل رفيع المستوى، أترى أجهزة القمر الصناعى؟ إنها قد تملأ عشرين قفة، وإطلاق القمر فى الفضاء يحتاج إلى عشرات العلماء والعمال! فما ظنك بإطلاق الأكوان فى مدارها؟ الهيمنة على شروقها وغروبها؟ كيف يتم ذلك تلقائيا؟! إن الإلحاد جنون! ولأمر ما دارت آيات القرآن الكريم على تحريك العقل كى يعرف ربه، ويسبح بحمده. والفتنة الكبرى أن أهل القرآن أناموا عقولهم وعاشوا بلا وعى، فكانت غيبوبتهم الفكرية من وراء انتشار الإلحاد وسطوة الملحدين. ص _ ص 9(3/236)
الأمراض النفسية العبودية الحقة لله أن تنقب فى نفسك فلا تجد عوجا إلا قومته، ولا سيئة إلا محوتها ولا علة مزمنة إلا طلبت لها الشفاء على اختلاف الليل والنهار فلا تموت إلا وأنت برىء منها أو مجاهد لها.. إن الرضا عن النفس شيمة الصغار، والغفلة عنها مع اليقظة لأخطاء الآخرين طريق الخسار!. وقد وجدت بعض الجماعات الدينية لا تفتأ تحصى مثالب الآخرين وهى فى الوقت نفسه ذاهلة عن عيوبها حتى لتكاد تزعم العصمة!.. والاعتزاز بالحق شىء والرضا عن النفس شىء آخر! الاعتزاز بالحق شعور بفضل الله، وعظمة ما منح من توفيق، ورغبة فى نشر هذا الحق حتى لا يحرم منه أحد، وأسى للزائفين عنه والمحرومين منه... أما الرضا عن النفس فهو استكبار بالحق على من جهلوه ورغبة مجنونة فى الإجهاز عليهم والشماتة فيهم مع ذهول عن العيوب الكامنة والشهوات المصاحبة للأعمال.. تأمل معي هذا الحوار: " قال رجل لآخر: إنى أحبك فى الله! فقال له الآخر: لو علمت منى ما أعلمه من نفسى لأبغضتنى فى الله!! فقال له صاحبه: لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لكان لى فيما أعلمه أنا من نفسى شغل.. ". إن المؤمن العاقل يشغله عيبه عن عيوب الناس ويعلم أنه امرؤ فقير إلى المغفرة العليا، وإذا كان لديه فضل عليهم فهذا يحسب عليه لا له. فإن العلم الزائد يتطلب جهدا أكبر لا تطاولا على الخلق وتربصا بهم وفى الحديث " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله: من ذا الذى يتألى على أن لا أغفر لفلان؟ فإنى قد غفرت له وأحبطت عملك!. ص _240(3/237)
أذكر أن شابا لقينى غاضبا أو معاتبا يقول: إنك تجلس بين طلاب حليقى اللحى وطالبات متبرجات ويراك الناس مبتسما لا غضبان وما يسمع منك أمر ولا نهى. أفلا يعذر من كرهك وذمك وأنت على هذه الحال؟! قلت: ما أظن العبوس من لوازم الدعاة، وأنا أشرح أولا أبجديات الإسلام فى العقائد والأخلاق وإذا صح البذر أتى الثمر فى أوانه! ويوم يعرف الناس ربهم ويرتبطون به على مبدأ السمع والطاعة فإن ما تطلب وفوق ما تطلب سوف يتحقق..! أما قضية ذمى فلا أدرى ما أقول فيها؟ غير أنى أحمد الله الذى أسبغ الأستار فلم يمكنكم منى! ! إنكم تشتهون أن يفتضح الخلق لترضوا أنفسكم وهذا الاشتهاء داء أخبث من المعاصى التى تعيبونها على الناس. يا بني أخشى أن تكونوا شرا من غيركم بهذه الطوايا الكالحة! إن عاصيا كسير القلب أشرف من واعظ يتطاول على العباد. ص _241(3/238)
هجوم ذكى متتابع ودفاع أخرق!! بعد مرور عشر سنين من القرن الخامس عشر للهجرة رأيت أن ألقى نظرة على الصحوة الإسلامية لأستبين حالها، فلاحظت أن العالم الإسلامى يلاقى تحديات تكاد تغلب قواه المحدودة ومن هنا فإن صحوته توقفت فى بعض الميادين، وتتأرجح بين الثبات والتقهقر فى البعض الآخر.. وهناك فوضى علمية وخلقية واجتماعية تثير الكآبة فى نفوس المراقبين.. أما فى المعسكر الآخر فالوضع يخالف ما لدينا كل المخالفة، اليهود ماضون فى طريق غايته هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان، وهم يتقدمون خطوة خطوة، ولم أرهم تراجعوا يوما. والنظام الشيوعى فى أفغانستان يرسخ أقدامه، ويريد سلخ البلد المحروس من دار الإسلام. وكل قلة إسلامية على ظهر الأرض تقاوم المغيرين ببأس شديد، وتكاد تفقد الأمل! وبعضها مات ونسى قبره كمسلمى كمبوديا وتايلاند وعشرات الملايين فى الاتحاد السوفييتى وعشرات الملايين فى الدول الناطقة بالإنجليزية أو الناطقة بالفرنسية. وزعماء "العالم الحر" لا ينسون أبدا انتماءهم الدينى، وذاك شيىء لا يلامون عليه! وإنما يتجه إليهم الملام عندما يتحول ذلك إلى إهانة للإسلام وازدراء لأمته! إنه بعد استضافة جامعة اكسفورد للمرتد الهندى سلمان رشدى، استضافه "مستر كنك " زعيم حزب العمال وأقامت هيئة الإذاعة البريطانية ما وصف بأنه حفل تكريم للمرتد المحقور.. وفى الوقت نفسه أذن وزير الثقافة الفرنسى لشركة نشر كبرى أن تطبع رواية آيات شيطانية لتنشر فى فرنسا وغيرها من الدويلات التابعة. ص _242(3/239)
ويوالى "مستر كارتر" زياراته لأفريقية الوسطى، والحبشة وجنوب السودان متعهدا البعثات التبشيرية وحالا مشاكلها وممهدا أمامها الطريق. أما ساسة العالم الإسلامى فإن القوميات التى يخدمونها- وأولاها القومية العربية- تؤثر العنوان العلمانى على غيره، وتسمع الصيحات الإسلامية باستنكار، والغريب أن اللغة العربية فى ظل هذه القومية تضمحل وتترنح، فلا ترى فى الشارع العربى، ولا فى مجال المصطلحات الحديثة، ولا فى ميادين العلوم والآداب.. ولا عجب فاللغة تزدهر مع الحس الدينى، وهذا الحس يطارد بدهاء، وإلحاح. على حين تنجح فرنسا فى مد إذاعتها الذكية إلى غرب العالم العربى وشرقه وهى مشكورة! ثم يسمع رأيها فى موارنة لبنان باحترام شديد..!! والجماهير الإسلامية تحيا فى واد آخر، تزعم أنها تريد خدمة الإسلام، وهى لا تحسن صنع الرغيف الذى تأكله، أو السلاح الذى تحمي به شرفها!! ولها فى تناول تعاليم الإسلام مسلك مدهش.. فالإيمان بضع وسبعون شعبة، فيها الأعلى وفيها الأدنى، فيها الأصل وفيها الفرع، والأولويات تختلف عند التطبيق يقينا. وإذا أنت أمام صياح متهدج الصوت يريد رفع السقف قبل إقامة الجدران، أو إقامة الشريعة قبل إرساء العقيدة!! ولا يكاد يطاع لفقيه أمر!! إن الصحوة الإسلامية فى موقف حرج، ومن الكذب القول بأنه مقنط، ولكن على أولى الألباب تدارك الموقف، وتصحيح المسار. ص _243(3/240)
أرباح وخسائر حراس الإسلام نائمون، وداره مهددة من النوافذ والأبواب، والهجوم يتجه إلى الأطراف والقلب معا، والهاجمون تراودهم الأماني أنهم هذه المرة منتصرون، وأن حظهم سيكون أفضل من حظوظ آبائهم الأقدمين. بل إن الصليبية الحديثة وقتت للقضاء على الإسلام أجلا فى أفريقية وأجلا آخر فى جنوب آسيا، والخطة المعلنة ألا ينقضى هذا القرن العشرون حتى ترفرف راياتها على أقطار فيحاء، ينسحب الإسلام منها أبدا.. أما فى صميم الدار، والعواصم القديمة فالغزو الثقافى يعمل دائبا على توهين الإيمان وإضعاف الأخلاق، وإشاعة الإلحاد وبث الفساد وتعليق الشباب بالدنايا والجراءة على شرب المسكرات والمخدرات. والويل لأمة تضيع الصلوات وتتبع الشهوات، إنها تحيا يومها شبحا وتلقى غدها وهى رفات!. وأما الأطراف الممتدة فى وسط أفريقية وغربها وشواطىء الهادى والهندى فقد استغلت البعثات التبشيرية أزمات الجفاف المتلاحقة، ومصائب الجوع والمرض والضياع، وشرعت تعمل عملها فى سرقة العقائد. وقد أعلنت أن المسيحيين زادوا 13% هذه السنة وتوشك أن تتحقق الأحلام فى السنين القادمة. وأنا أعلم أن ملاجىء الأطفال استقبلت الألوف من يتامى الحروب والفتن التى نشبت هنا وهناك، ومع أنهم أولاد مسلمون بالنسب والوراثة، فقد مهدت لهم حياة جديدة لا صلة لها بما كان!. والمسئولية تقع على رأس الأمة الإسلامية التى لا تدرى ما يصنع بها ولا ما يبيت لها.. ص _244(3/241)
إننى أرفع عقيرتى محذرا من الغارات السرية والعلنية التى نتعرض لها فى كل ميدان والتى تسربت تحت أكثر من عنوان.. يجب أن يحيا الانتماء الإسلامى ويقوى ويعود سيرته الأولى، وأن نوقظ الجامعة الإسلامية من سباتها لتتحرك بمشاعر الأخوة المتماسكة المتراضة.. وقد ذكرت فى حديث سبق أننى عندما زرت أوغندا قال لى رجل أشيب- وهو يعتب- لماذا جاء آباؤكم إلينا بالإسلام إذا كنتم أنتم تتركوننا، ولا تهتمون بأمورنا.؟ وقد تعاون معهد الفكر الإسلامى بأمريكا مع الجامعة الإسلامية بالجزائر على إرسال بعثة صغيرة إلى وسط القارة المهجورة- أفريقية- فاستقبلت استقبال الفاتحين، وهرعت الجموع إليها مستبشرة، وكأنهم يقولون: أين أنتم؟ إننا إليكم بالأشواق!. علينا أن نتحرك لنواجه زحوفا مادية وأدبية تريد القضاء علينا ولا تستحى من المصارحة بأن الإسلام ينبغي أن يلقى ضربة قاتلة مع نهاية هذا القرن. علينا أن نشكل من أجهزة الدعوة كلها خطوط دفاع جديدة ترد البلاء المقبل. ص _245(3/242)
دراسة واجبة لغارات محمومة! إذا لم يدرس الإسلاميون الميدان الذى يعملون فيه، والقوى التى تخاصمهم فإن مستقبل الصحوة الإسلامية تكتنفه المخاوف! هناك أبجديات لنجاح الدعوات تكاد تكون مختفية بيننا على حين تتوفر فى صفوف الآخرين على حد معجب.. فحكماء صهيون يقودون الشعب اليهودى فى السر والعلن قيادة حكيمة تجمع بين العلم والإخلاص، وتجعل مؤتمراتهم المحلية والعالمية خطوات رتيبة فى الحفاظ على مستقبل القوم.. ومجلس الكنائس العالمى إلى جانب أجهزة الفاتيكان خلايا مائجة بالنشاط البشري الدءوب لنصرة الصليبية وتوسيع دائرتها وتوهين ما يعترضها من عقبات.. القيادة تأمر، والجماهير تنفذ، ولا مكان لغبى يشير أو لشاذ يشغب.. أما الجبهة الإسلامية على امتداد المحيطات الثلاث، فليس هناك ما يجمعها أو يفكر فى حمايتها أو يهتم برسالتها.. ولأترك المجال العالمى إلى المجالات المحلية اليتيمة! إن أمتنا غنية بأولي الألباب ولكنى لا أعرف أمة تضع السدود أمام عقلائها كالأمة الإسلامية، الرأى فيها لمن يملك الكلام لا لمن يبصر الحق!! والغلبة لمن يملك العصا لا لمن يسوق الدليل، والسفهاء يطاردون العباقرة حتى يخلو منهم الطريق!! وأنا مع أبى الطيب المتنبى فى بغضه للجاهل المتعاقل، والقاصر المتطاول وقوله فى حكام المسلمين على عصره: فى كل أرض وطئتها أمم ترعى بعبد كأنها غنم وفى ميدان التدين خاصة استغرب أن يتصدر للفتوى من لا فقه له، وأن يتقدم ص _246(3/243)
للرياسة من لا ثقافة له، وأن يتطوع بالرأى فى شئون العامة من لا يؤمن على إدارة دكان!! وفى تاريخنا القريب والبعيد وجدت من هؤلاء من يطعن الأئمة ويناوش القمم، فقد روى ابن مردوية أن رجلا من الخوارج نظر إلى سعد بن أبى وقاص وقال: "هذا من أئمة الكفر! فقال له سعد كذبت أنا قاتلت أئمة الكفر! فإذا وغد آخر يظاهر زميله يقول عن سعد: هذا من الأخسرين أعمالا!! فقال سعد: كذبت، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ". وسعد بن أبى وقاص هو القائد الذى قوض دولة الفرس، وكانت نصف الدنيا، وانتصر فى معركة القادسية التى محت تاريخا وأثبتت تاريخا، وقد نهض البطل بأعباء القيادة وهو مريض يرسل بأوامره من على فراشه للفرق المشتبكة مع عمالقة الأرض، فما غلبه الألم على فكر أدال الله للمسلمين، واكتسحوا الميدان. ومع ذلك كله، فإن فتى غره أن قرأ شيئا من القرآن، أو نظر فى بعض كتب السنة، أو صلى ركعتين فى جوف الليل أو فى أوله يحسب أن ذلك يمنحه الجراءة على تصغير الكبار وتكبير الصغار!!. إننى أنصح العاملين فى ميدان الصحوة الإسلامية، أن يزدادوا علما، وأن يزدادوا تواضعا لله وللناس، وأن يعطوا كل ذى فضل فضله، وأن يريدوا الله بأعمالهم، وأن يدركوا حقيقة قد تغيب عن كثيرين، إن من يسرق مكانة ليست له شر من سراق البضائع والأموال. ص _247(3/244)
حلفاء إسرائيل أيقاظ.! يقترف اليهود فى فلسطين جرائم لا مثيل لها فى كل دول الأرض! إنهم ينسفون بيوت العرب المجاهدين- أو المتهمين بالجهاد- فتتحول هذه البيوت إلى أرض فضاء، كأن لم تغن بالأمس، ويتوارثها أحفاد عن أجداد.. والعالم يعرف ذلك معرفة اليقين، والأمريكيون خاصة يرون بأعينهم ما يفعل حلفاؤهم، ومع ذلك فالعرب إرهابيون واليهود ناس طيبون! وقد قتل اليهود من أمد قريب "كونت برنادوت " ممثل الأمم المتحدة، وذهب دمه هدرا! وقتلوا "لورد موين " الوزير البريطانى فلم يغضب له مواطنوه! وقاد "إسحاق شامير" عصابة من أشد العصابات سفكا وفتكا، ومع ذلك فإن الأمريكيين يعمون عن ذلك كله ولا هم لهم إلا اتهام " ياسر عرفات " بالإرهاب، لأنه يمثل المقاومة الفلسطينية! ومنذ بدأت الانتفاضة الفلسطينية ضد الاستعمار الصهيونى ومئات القتلى وآلاف الجرحى يتساقطون صرعى خصوصا الشباب فى مقتبل العمر، بعد الأطفال والصبية، والأمريكيون الذين يقولون عن أنفسهم: إنهم شعب مؤمن! لا يلقون بالا لهذه التضحيات ولا تهتز لها ضمائرهم! أى إيمان هذا الذى يزعمون؟ ثم كان ما فضح تعصبهم وضغائنهم على العرب، كان القرار الطائش بمنع عرفات من التحدث إلى هيئة الأمم فى مقرها بأمريكا. والقرار وليد قلب غفلته القسوة وحيف أطغاه الهوى! فهل يحق بعد ذلك للشعب الأمريكى أن يقول: نحن شعب يؤمن بالله؟ هل الله عندكم يأمر بالفحشاء والمنكر؟ هل الله عندكم يأمر بتجنيد كل القوى ضد شعب صغير يريد أن يحيا آمنا مسالما حتى يبيد أو يستذل؟ (بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) لكنى لا ألوم ص _248(3/245)
الذئب الطامع فى القطيع! إنما ألوم العرب المسترسلين الغافلين، وأقول لهم: ما حولكم قطعانا فى عالم يصح فيه المثل القديم " من لم يتذأب أكلته الذئاب ". إن الأمريكيين افترسوا الهنود الحمر ثم ورثوا أرضهم قسرا، وهم يريدون تكرار المأساة نفسها حتى يرث اليهود أرض العرب فى حرب إبادة من أوضع الحروب التى وعاها تاريخ العالم.. إن الذين ينتظرون عدالة بشرية أو نزاهة أخلاقية عند أولئك المتعصبين الحاقدين إنما يؤملون فى سراب خادع..! على العرب أن يصلحوا ذات بينهم وأن يسووا صفهم وأن يكافحوا بكل ما فى أيديهم! ولأن يموتوا شرفاء وهم يقاومون الاستعمار الهاجم أفضل من قبول سلام يفرضه الجزارون فيه شبه حياة اليوم والموت المجهز غدا.. ص _249(3/246)
نكبات المتشبثين بالحق لعلى أخص أهل الإيمان عذابا مع أنى اعتقلت وأهنت على عهد فاروق وعهد عبد الناصر! إن الله رحم ضعفى وحمل عنى، فى الوقت الذى كان فيه المئات والألوف يتعرضون لعذاب تشيب منه النواصى! زهقت فيه أرواح كثيرة، وخرجت منه جماهير بعاهات وذكريات رهيبة..! إن دعاة الإسلام وأنصاره لقوا فى نصف القرن الأخير معاناة تقشعر منها الجلود، وقد ترك ذلك فى نفسى جنوحا إلى كراهية الظلم، ومحبة الحرية وتجاوبا مع كل صيحة تقدر حقوق الإنسان وتصون كرامته.. وأعرف أن طوائف كبيرة من الناس تعرضت للاضطهاد والفتنة بسبب مذاهبهم وعقائدهم، وقد كشفت الأيام الأخيرة عن حمامات الدم التى طاحت فيها ملايين على عهد " ستالين " فى روسيا، وعن المذابح الجماعية التى تمت فى أثناء الثورة الثقافية بالصين على عهد الزعيم "المحبوب " ماو! الحق أن الاستبداد السياسي طاعون يأكل الأخضر واليابس، ويهلك الحرث والنسل، وأن أحرار العالم يجب أن يتعاونوا ويتساندوا ليقضوا على هذا الوباء إذا ظهرت له جرثومة فى قطر من الأقطار. إننى أحب حرية الرأى- وهى غير حرية الهوى- فحرية الرأى من خصائص العقل الإنسانى، أما حرية الهوى فارتكاس حيوانى يهوى بقيمة الإنسان ويذهب بعقله.. ومع أن العقيدة الدينية أغلى شىء فى الوجود، فإنه لم يقع قط أن أحدا من أنبياء الله أكره أحد على دين.. إن هؤلاء المرسلين الكبار كانوا يقاومون من ضن على غيره بحرية الإيمان كما صور ذلك القرآن الكريم : (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم …) ص _250(3/247)
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه فى أقطار شتى، فالسكارى بخمرة القوة يقولون للمؤمنين الضعفاء: لا مكان لكم بيننا مادمتم متمسكين بالله ووحيه!!. وعقبى هذا العراك معروفة وإن فدحت المغارم وتتابع الشهداء..! لكن كلمة استوقفتنى طويلا وأنا أرقب عراك المبادىء فى دنيا الناس! فإن كاتبا ماركسيا قال لأحد الإسلاميين: تريدون العودة إلى محاكم التفتيش؟ فضحكت ساخرا وأنا أقول: قد تكون العودة إلى عهد " ماوتسى تونج " أو " ستالين " رسل الحرية فى الأرض، وغارسى الجنة الخضراء فى ثراها العريض!!. إن محاكم التفتيش أيها الأحمق دون ما صنعتم بالناس عندما انتصرتم وتسلمتم زمام السلطة! فكيف يجرؤ أحدكم على مخاطبة المعذبين فى الأرض بهذا اللغو؟. إن حملة الإسلام يكافحون وسط أنواء هائلة، ولا ينشدون إلا حرية الكلمة فكيف يتهمهم أتباع " ماو "، و " شامير "، وغيرهما بأنهم أعداء الحرية؟ إن الحرية الواعية أثمن هدايا السماء إلى الأرض. ص _251(3/248)
المخدوعون برنين الكلمات! يرى بعض المعلقين السياسيين أن أمريكا تحتضن "إسرائيل " وتحميها لأنها خطها الأمامى فى مواجهة الروس، وقاعدتها فى الدفاع والهجوم إذا ما وقعت حرب عالمية ثالثة! وهذا الكلام لا يصور الحقيقة أو لعله يصور جانبا تافها منها! أما الحقيقة الدميمة التى يراد إسدال حجاب عليها فهى أن الإمبراطورية الأمريكية تكره العرب بدوافع صليبية وصهيونية ومن ثم فهى تحيف عليهم، وتشوه مواقفهم، وتظاهر عليهم كل عدوان! وهى تتلقى هذه المواريث الشريرة من إمبراطوريتى إنجلترا وفرنسا السابقين اللتين خاصمتا الإسلام بضراوة! وأنزلتا بالعالم الإسلامى كله ضروب الهوان.. وإذا كان المسلمون الآن موزعين على عشرات الدول، وإذا كانت ريحهم ذاهبة، وعصاهم مكسورة فمن أثر هذه السياسات المتعصبة الكنود! هل لسيرة عيسى عليه الصلاة والسلام مدخل فى هذه المواريث؟ كلا. فعيسى إنسان مهذب جليل يؤثر الرحمة على العقوبة ويقدم العفو على القصاص، ويقيم العلاقات بين البشر على أساس السماحة والفضل! فما الذى يقع الآن ويؤيده الأمريكيون المؤمنون؟!!. إن الفلسطينى البائس يسمع التهمة الكاذبة توجه إليه، ثم يسمع الحكم القاسى يصدر عليه، فإذا بيته يهدم وأهله فى العراء! وإذا هو حبيس السجن أو طريد وراء الحدود!! فى أى قطر من أقطار العالم تهدم مئات البيوت على هذا النحو المتوحش؟ ولماذا يسكت الأمريكيون المؤمنون على هذه المسالك؟ ويعينون أصحابها؟ ويقول اليهود: هذه الأرض وهبها الله لأبينا إبراهيم من أربعين قرنا! فلنسلم جدلا ص _252(3/249)
بهذه الفرية! إن إبراهيم أنجب إسماعيل وإسحاق، وإسحاق أنجب إسرائيل "يعقوب " فلماذا يحرم الابن من الصلب حقه فى الميراث؟! ويؤول الميراث كله إلى الحفيد؟ وكيف يجيىء أفاقون من بولندا!وروسيا وكندا وغيرها ليقولوا نحن بنوا إسرائيل نريد حقنا فى التركة؟ بل يقولون: هذه التركة كلها لنا! أما العرب أولاد إسماعيل فليس لهم شىء. إن المحتال الأمريكى "كاهانا"- وهو فى الوقت نفسه- إسرائيلى- ينادى بطرد العرب وتشريدهم بعيدا عن أرضهم!. والواقع أن هذه خبيئة المستعمرين اليهود للأرض العربية، يطرح بها البعض، ويداريها آخرون يتربصون الأيام لإظهارها.. والأمريكيون المؤمنون يعلمون هذا ويبتسمون! إن لأمريكا أصدقاء من العرب يترفعون بها عن هذا الإسفاف، ويصدقون ما يشاع عن استمساكها بحقوق الإنسان وكرامات الشعوب، ويطالبوننا بإحسان الظن وارتقاب الخير..! ونحن نقول لأولئك الطيبين (اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون). ص _253(3/250)
هذا ديننا رأيته واجما تكسو وجهه مسحة حزن بعد أن قرأ نتائج الانتخابات التى جرت أخيرا بين اليهود! قال: إن بنى إسرائيل رفضوا السلام، وقرروا المضى فى حرب العرب، والمستقبل مليىء بالنذر، فنظرت إليه ضائقا راثيا وقلت: أنت كغيرك من الناس تعيشون فى وهم كبير، وما أدرى كيف يتم إخراجكم منه لتعرفوا الواقع هنا وهناك. ثم قلت غاضبا: إننى أخاف على مستقبل فلسطين من العرب أكثر مما أخاف اليهود! أكنتم تحسبون أن حزب العمل الإسرائيلى يقدم لكم القدس عاصمة لدولة فلسطين؟! بعد مؤتمر دولى تتبادل فيه الابتسامات؟ هذا هو الغباء بعينه! قال: ماذا تعنى؟ قلت: ألفت نظرك إلى ثلاثة أمور تعرف منها الجواب الأمر الأول: لقد تمت الانتخابات فى إسرائيل وعلم الناس فى المشارق والمغارب بنتائجها، ما شك أحد قط فى صدق هذه النتائج، ما اتجهت إصبع الاتهام إلى حاكم أو محكوم، كانت نزيهة أمينة 100% تصور رغبات الناس فيمن يريدون توليته أو تنحيته! أفكذلك تكون الانتخابات فى أغلب الدول العربية؟ إن التزوير عملة متداولة. وحيث ينتشر تستخفى فضائل الصدق والشرف والثناء. والنصر لا يحالف هذه البيئات.. وهناك أمر ثان جدير بالتأمل، لقد كسبت الأحزاب الدينية نحو عشرين مقعدا، والأحزاب اليهودية كلها تقوم على مقررات التوراة فى تخطيط أرض الميعاد فهى موصولة بالدين دون ريب، أما ما يسمى بالأحزاب الدينية فهى جماعات المتطرفين والمغالين والمتشددين. إن الأحزاب الكبيرة شرعت تسترضى هؤلاء وتتألف قلوبهم وتتلمس الحيل لجرهم إليها.. ص _254(3/251)
أما فى العالم العربى حيث يوصم المتدينون بالتطرف، فإن السياط تهوى على الأجسام واللطمات والركلات تتناولهم ظهرا لبطن، بل لقد اخترعت لهم أساليب من التعذيب لا تخطر ببال. إن المعتدل هناك يقود المتطرف أما العرب فبأسهم بينهم شديد!. والأمر الثالث الذى أختم به هو التفاوت الواسع بين الأسلحة، إن اليهود اختاروا سنة الانتفاضة ليطلقوا قمرهم الصناعى " وكأنهم يقولون للعرب: فتيانكم داخل فلسطين لا يزالون يحاربوننا بالحجارة، ما يملكون غيرها، وأنتم معشر العرب حيث كنتم تشترون أسلحتكم من أصدقائنا، وتستوردون العلم من الخارج فلا ينشأ بين ظهرانيكم. شتان بيننا وبينكم..! من أجل ذلك قلت إننى أخاف العرب على فلسطين أكثر مما أخاف اليهود! بل إننى أخاف العرب على دينهم ودنياهم جميعا، إن هناك تفاوتا اجتماعيا وسياسيا وحضاريا يجب أن يختفى على عجل، ولن يتحقق ما نصبو إليه حتى يستمسك العرب بالدين الذين شرفوا به أولا، ولن يشرفوا بغيره أبدا. ص _255(3/252)
الغنى من العافية.... أكره الضيق والقلة، وأحب السعة والوفرة، إلا أن يكون ذلك من مصدر مريب أو من ناحية مشبوهة، فعندئذ أقرر الصوم، وألوذ بالفرار، وعلى لسانى قول القاضى الجرجانى رحمه الله: يقولون: هذا مورد قلت: قد أرى ولكن نفس الحر تحمل الظما..! أما المورد السائغ العذب فلا معنى للبعد عنه أو الزهد فيه، وهو عندى شعاع من حسنة الدنيا التى ندعو الله بها، أو من زينة الحياة التى هى حق عباد الله المؤمنين به.. وأذكر أن أحد الصحابة كان يدعو بهذا الدعاء: اللهم أعطنى كثيرا فإن القليل لا يكفينى.. ومن المهم أن يأتى هذا الكثير مما أباح الله، وألا يكون عائقا عن أداء الحقوق وفهم طبيعة الحياة المؤقتة التى نحياها... أعنى إيثار الدار الآخرة فى مواقف الموازنة والاختيار التى تعرض للناس فى اختيارهم الطويل هنا.. وأعرف أن طبائع الناس تختلف، فقد سئل غاندى: لماذا تركب الدرجة الثالثة فى القطار؟ قال: لأنه لا توجد درجة رابعة!! وظن أن ذلك الموقف الخشن تفرضه زعامة غاندى لشعب بائس أذله الاستعمار الإنجليزى، ودحرجه إلى درك بعيد! والناس يحسبون الدين رضا بالدنية، أو ركونا إلى البأساء والضراء، وانصرافا متعمدا عن مباهج الحياة.. وهذا خطأ إلا أن يفرض الجهاد على الأمة التحمل والشظف، فهنا توجب الرجولة أن نتحمل ونصابر ونقبل الواقع دون ضجر! ص _256(3/253)
أعجبنى قول ابن الجوزى: " مازال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا فى مباحات، والذى يحملهم على هذا هو الجهل فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم، وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو، إن لنا ضابطا هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة، فلا ينبغى أن يلام من حصر نفسه فى هذا الضابط، ورب رخصة كانت أفضل من عزائم، لتأثير نفعها، وحسن عاقبتها " أ. هـ. وكلام ابن الجوزى فى تربية النفس، وإحسان رقابتها يشبه قول البوصيرى فى الموضوع نفسه: وأخس الدسائس من جوع ومن فرب مخمصة شر من التخم إن الإسلام لا يعلن حربا على الجسم، وإنما يستعين بقواه على إقامة الفرائض، وترك المحرمات، ولا يعلن حربا على الدنيا، وإنما يجعلها معبرا لما بعدها! وأى حرج فى أن يكون الجسر متينا أمينا؟ إن المعتلين بدنا وروحا لا يجوز أن يعرقلوا النشاط الإنسانى باسم الدين فالدين صحة عقلية ونفسية قبل كل شىء. ص _257(3/254)
القيمة الذاتية للإنسان الخامل.. من خمسين سنة وأنا أرقب العلاقة بين العمل والعمال، وبين العمال والملاك، وبين أولئك جميعا ورجال الحكم وتنقلت بين أقطار مستقلة ومحتلة، فوجدت هذه العلاقة تتردد بين الفعل ورد الفعل، وقلما يضبطها فقه إسلامى راشد أو خلق إنسانى نبيل. شاهدت الفلاح عندنا- من نصف قرن- يمضى عقد الإيجار فيوقع على بياض تاركا للمالك أن يضع من الشروط ما يشاء، وغالبا ما كان يزرع القمح ويأكل الطين، أو يزرع القطن ويحيا شبه عريان!. والغريب أنه كان غزير الإنتاج يملأ الوادى سمنا وعسلا.. ثم حدثت ثورة قلبت هذه الأوضاع، فإذا الفلاح يملك الأرض فلا يجيد استغلالها، وإذا هو يشارك فى المجالس التشريعية العليا، وله ولسائر العمال أكثر من نصف الأصوات! وما حدث فى مصر يشبه ما حدث فى الجزائر حذوك النعل بالنعل! فإن الفلاح هناك كان تحت هيمنة المستعمر الفرنسى يجعل البلاد تصدر القمح إلى أوروبا، فلما استقلت الجزائر أصبحت تستورد القمح من الخارج! لا ريب أن هذه نتائج تستدعى التفكير العميق، وعندى أن القفز من الفعل إلى رد الفعل يرجع إلى جهالة الثوار وجراءتهم على الإصلاح بنقل نماذج شيوعية أو شبه شيوعية إلى أرض ترفضها كما يرفض البدن الأعضاء البديلة. إن المزارع الجماعية فشلت فى روسيا فكيف تنجح فى الجزائر؟ والعمال الذين يصلحهم الإنصاف المعقول كيف يتحولون إلى مشرعين يزاحمون أهل الذكر وأصحاب الاختصاص ولهم نسبة ترجح كفتهم فى كل نزاع؟ إن ردود الأفعال الجامحة قد تكون أبعد عن الصواب من الأخطاء القديمة! ص _258(3/255)
ومن ثم أمر مهم، إن الله يمنع بركته ممن يعرفون الحق ويجحدونه، وإذا كان الشيوعيون الحمر فى روسيا والصين لا بصر لهم بالإسلام فهم يخبطون فى مسالكهم الاجتماعية خبط عشواء فما عذر الثائرين المسلمين إذا كنا قد أريناهم من الإسلام ما يكفى ويشفى فهجروه عامدين؟ من أجل ذلك لم أعجب عندما افتقرت جماهير العرب إلى القمح واللبن وصنوف الضرورات الأخرى فمدوا أيديهم إلى أمريكا وأوروبا مقترضين أو مستجدين..! وكثير ما ساءلت نفسى: هل نحن شهداء على الناس؟ كان أسلافنا كذلك يوم قال الله فيهم : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) أما الآن فبم نشهد على الناس؟ هل بلغنا الغافلين وعلمنا الجاهلين؟ إننا يوم نزعم للأوروبيين والأمريكيين أننا شهداء عليهم فسيقولون لنا: اخسؤوا فأيديكم السفلى وأيدينا العليا، إننا نطعمكم من جوع، وإنكم تتعلمون منا ما يرفع مستواكم البشرى! وهذا الجواب هو أحق ما يؤوب به من نام عن مواريثه الرفيعة وعاش على ظهر الأرض يحسب فى ميزان العمل عشر إنسان أو تسع إنسان ولا يملك إلا الإدعاء والمكابرة.. ص _259(3/256)
الردة الحديثة.. الارتداد دميم الوجه مقبوح السريرة، ونحن قد نصم بالارتداد مسلك فرد انقلب علي وجهه، وهذا حق! ولكن الخسران الأعظم هو ارتداد أنظمة تيمن على السياسة والثقافة، وتحرك المجتمع والدولة..! وقد لاحظنا أن هذا الارتداد العام يتسم بقسوة القلب وظلام الفكر وقلة الإنتاج، وأن الأمم فى ظله تتقهقر حضاريا، وتنتشر فى كيانها الجراثيم الفتاكة، وتضعف فى الداخل والخارج. ثم تلقى بعد فشلها فى الحياة الدنيا ما ينتظرها من عقاب فى الآخرى مصداق قوله تعالى : (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة). ولنذكر أن المسلمين فى حياة رسولهم العظيم فقدوا بضع مئات من الشهداء وهم يقاومون الوثنية وينشرون التوحيد، أما فى مقاومة الارتداد الذى حدث فى أعقاب انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى فإن الخسائر زادت أضعافا، ولم يقمع الصديق رضى الله عنه فتنة المرتدين إلا بعد مسيرة طويلة من مواكب الشهداء... ذهبوا إلى الله راضين مرضيين بعد أن ثبتوا أعلام الحق وصانوا بيضة التوحيد! والأنظمة المرتدة فى العالم الإسلامى تتبع خطى مسيلمة فى إراقة الدماء، وغباء الرأى، وشؤم المسلك، إن قتل الألف كقتل الواحد، وقتل الواحد كقتل ذبابة! وقد رأيت مقاتل الإسلاميين فى أقطار شتى، فوجدتها أضعاف ما قتل الاستعمار العالمى فى طغيانه الممتد، وأضعاف ما قتل الصهاينة من عرب فلسطين!. إن الأنظمة العلمانية المنسلخة عن الإسلام لا تتقى الله فى معاملة الغير أو فى معاملة من ينكر عليها ارتدادها ويريد أن يستبقى الأمة على دينها. ص _260(3/257)
وقد نشأت عن ذلك أوضاع نفسية هامدة وأوضاع اقتصادية فاشلة. طالعت تقريرا للبنك الدولى عن الإنتاج الأفريقى فرأيت العجب من قلة تسرف على نفسها وكثرة متماوتة فى مكانها، وإنتاج لنصف مليار من السكان لا يساوى إنتاج أصغر الدول فى أوروبا.. قلت: ما أشبه هذه البلاد بأغلب البلاد فى عالمنا العربى الذى يأكل كثيرا ويعمل قليلا ويغتال قويه ضعيفه وينسى الجميع ربهم.. إن التزاحم على اقتسام نهر الفرات شديد بين تركيا وسوريا والعراق، وما أحسب أحدا خطر بباله قوله تعالى : (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) وما النيل يغيض أحيانا ويفيض حينا لعل وزاده يذكرون من أجراه ويتقون الله! فهل من مذكر؟. إن للأنظمة المرتدة حسابا آخر غير حساب الأنظمة الكافرة! إنه حساب أقسى وأنكى فليس من يعلم كمن يجهل. لعل من معالم هذا الحساب هو الفشل فى الدنيا قبل الخزى فى الآخرة.. ترى ماذا قدم جبابرة العرب الذين زعموا أنهم فينا عباقرة؟! ماذا قدموا لأمتهم الضائعة؟ وتدلل إسرائيل، وتذللنا نحن فى المحافل الدولية، والكساد والبطالة والحيرة!!. ماذا لو عادوا إلى الإسلام؟ وتابوا عن فتنة الجماهير المكروبة؟. ص _261(3/258)
نصيحة خالصة.. رأيته مشمرا عن ساعد الجد، متجها إلى المسجد ليلقى درسا ضد مذهب الأشاعرة! فقلت له: على رسلك، هناك ما هو أهم وأجدى تستطيع أن تقوم به وتنال من الله أجرا كبيرا عليه! قال: ماذا تعنى؟ لا شىء أهم مما عزمت عليه! قلت: يا أخى هناك الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، إنها بحاجة إلى الفهم الحسن، والخدمة الجيدة والحماية الواسعة والقوى المتساندة لأن إهمالها ظاهر والهجوم عليها متتابع! قال: محاربة البدع أهم! قلت له: إن بدعا كثيرة سوف تختفى من الحياة عندما نتعاون على إقامة السنة وتوسيع دائرتها وتبصير الناس بها! والنصوص المحكمة التى هى أساس الدين وقوام حياته مهددة تحتاج إلى الناصر الصادق، فدعك الآن مما تتفاوت فيه الأنظار ويشتجر فيه الخلاف، ولنتعاون على بناء ما تصدع من الأركان! وأطمئنك إلى أننى لا أتعصب لأشعرى أو ماتريدى، إننى زاهد فى إحياء أفكار ماتت، وراغب فى التجميع على الكتاب والسنة وحسب! لكن الرجل لم يفهمنى، ولم يرد أن يفهمنى، وذهب إلى المسجد فأشعل معركة لم تنطفىء نارها بعد، وما أظن أنها تنطفىء عن قريب! إذا كانت المساحة العقلية مائة ذراع عند امرىء ما فما معنى أن تستغرق الخلافيات تسعين ذراعا منها؟ ماذا يبقى لأركان الدين وعزائم الإيمان وميادين الإصلاح بعد ذلك؟ لكن بعض الناس مساعر فتنة لأن رغبتهم فى الهدم أسبق من رغبتهم فى البناء وولعهم بالجدل أهم من العمل الصامت، وما أحسبهم يرون وجه الله وسط هذه الغيوم!!. ص _262(3/259)
إن أولى الألباب فى عصرنا هذا يشعرون بأن الأمة الإسلامية متخلفة عن غيرها فى أمرين خطيرين: أولهما فى شئون الدنيا التى خطت فيها الحضارة الحديثة أشواطا فسيحة، وما نزال نحن نحبو على أوائل الطريق. والثانى فى معانى الخير والمعروف والعدالة التى تأسست لها جماعات قوية تعمل تحت عناوين إنسانية عامة وتشد إليها الأنظار بما تقدم من عون مزعوم للمحتاجين وأنصاف للمظلومين على حين خلت هذه الساحات منا، ولم يرتفع لنا علم بها!!. لماذا لم يتجه أهل الحماس الدينى إلى هذه المجالات كى يدعموا رسالتهم وينصروا ربهم؟! إن المسلمين جمهرة العالم الثالث، وعلى أم رؤوسهم يقع غبن كبير، وقلما يرى لهم أثر فى الاقتصاد العالمى، أو مستقبل البشرية على هذا الكوكب المنحوس! فإلى متى يبقى العقل الدينى مشغولا بخلافاته التاريخية، مشلولا عن عمل شىء ليومه الحاضر؟!.(3/260)
مقدمة فى المرصد الذى نقف فيه نرقب كل ما يقع على المسلمين من عدوان، وما يقع بينهم من أخطاء وما يُثقل ميزانهم أو يخففه من أعمال ثم نصوغ ذلك كله فى سطور معدودات نواجههم به ونسائلهم عنه... إننا نجتاز مرحلة صعبة من تاريخنا، وقد لحقت بأمتنا خسائر مادية وأدبية فادحة ونحن محكومون بالقانون الإلهى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". ولذلك لم نجبن عن تسجيل الجليل والتافه من شؤوننا والتعليق عليه بما يجب،.. والإيجاز مقصود فى هذه الكلمات المرسلة، ولكن المعانى الخبوءة ضافية الذيول، وقد قلدنا "ابن الجوزى" فى كتابه صيد الخاطر، وتمشينا مع طبيعة القراء فى هذا العصر، فالملاحظة السريعة أحب إليهم من المقالة المسهبة سيما والأحداث متتابعة والأعباء ثقيلة... وفى حياتنا قد تلقى الكلمة كما تلقى فى الأفق سحابة سحابة، فينشأ من تلاقيها مطر يهمى وبرق يضئ، فلنطالع هذه الفصول من " الحق المر" ففيها إن شاء الله ما يكفى ويشفى، إنها حلقة من سلسلة تمتد ما بقى الأجل لعل فيها بلاغا للناس. محمد الغزالى 27 من صفر 1416 هـ 25 من يوليو 1995 م
ص _004(4/1)
النية الصالحة القلب الموقن بالله الراكن إليه جدير بالتوفيق والاهتداء إلى الصواب قال تعالى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) أما القلب الفارغ من ربه المليء بالأهواء فهو يخبط في الحياة خبط عشواء مصداق قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله …) . وعامة الناس يعرفرن أن النية الصالحة تنقذ صاحبها من ورطات شتى، وأن النية المدخولة يصحبها العثار والشرود، وقد وعد الله المؤمنين الأتقياء بأنه جاعل لهم نورا يمشون به، فمن أدركه شعاع من هذا النور لزم الصراط السوىّ، وتجنب المزالق المخوفة (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). وقد أوضح النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن المؤمن الصالح يضاء من داخله فقال: " التقوى ها هنا " مشيرا إلى صدره، أى أن التقوى ليست شقشقة لسان، ولا براعة تمثيل، ولا طول ادعاء، إنما هى قلب مخبت، مفوض إلى الله، متشبث به.. وعدد من الناس يجيد تقليد الصالحات وإتقان أدائها، ولكنه محجوب عن معناها، محروم من آثارها الطيبة، والسبب قسوة قلبه، وانشغاله بأعمال دون ذلك... وقد كنت أجفل من أناس فى أفئدتهم غلظ، وفى أخلاقهم قسوة، وإن أتقنوا بعض الفرائض، لأن حسن الظاهر لا يغنى عن طهارة الباطن ووضاءته... وعند التأمل أشعر بأن بعض الساسة أو الرؤساء يعبد نفسه، وهو يتظاهر بعبادة ربه، وقد يدور حول مأربه وهو يباشر أعمالا عامة، وهذا القصد المغشوش من وراء أخطاء هائلة تدفع ثمنها الشعوب.! كان أبو جهل يستطيع العودة بقومه دون أن يمرغهم فى هزيمة بدر، وما كان لهذه المعركة معنى بعد أن نجت القافلة التى هرعوا لاستنقاذها، ولكن ميل أبى جهل للزعامة والظهور جعله يقول لن نبرح حتى نشرب الخمور، وننحر الجزور، وتغنى القيان. فكان هذا الغرور هو الذى قاده وقومه إلى الهلاك... ص _005(4/2)
إن كثيرا من العقد النفسية يكمن وراء المسالك المشئومة والمقررات الدمية! ولو اجتهد كل إنسان فى إصلاح باطنه وتطهيره من العلل الخفية ـ أو من الشرك الخفى كما وردت التسمية فى بعض الآثار ـ لنجت البلاد والعباد من مأسى كبرى... ومعروف فى ميدان التدين أن الله ينظر إلى البواطن لا إلى الصور، وأن مكانة العابد تتقرر له من استقامة سريرته، وصفاء قلبه، وصدق معاملته لربه (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين). وقد تدبرت الآية التالية لهذه الآية فوجدتها تنوه بالعاطفة الوجلة، والمشاعر الرقيقة، والإنسان المتحرك بخشية الله، البعيد عن الأثرة وحب العاجلة (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله)... ذكر لى شخصان نزلا بإحدى المدن، أحدهما له دقة فقيه، وفكر فيلسوف، ولكنه أنانى شحيح، والآخر محدود المواهب ولكنه بشوش سمح اليد! فقلت: سوف ينهزم الفقه، ويضيع الفكر مع الضيق والكزازة، وسوف يغلب القصور مع بشاشة الوجه وبسط الكف!! وفى معركة الإيمان مع الكفران ألحظ أن بعض الكهان فدائى، وأن بعض العلماء أنانى، فأتشاءم من سوء العاقبة، وأعلم أن الدائرة سوف تدور على الحق. ! إن الدين أبعد شىء عن القسوة والفظاظة والكبرياء والحرص، هذه خصال ما وضعت فى كفة إلا هوت بها، وعندما أتأمل فى سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرى تجسيدا للتواضع والإحسان، والمرحمة والإنصاف، وحب كل شىء، إنه "عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" فهل نأخذ الأسوة الحسنة من الإنسان الكامل الذى قيل له : (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ص _006(4/3)
قلة النظر.. والإغماء راقبت المركبة الفضائية التى ترصد كوكب الزهرة، وتأملت فى الصورة التى رسمتها لسطح الكوكب وقد شقه أخدود طويل عميق، قال العلماء: إنه حديث، وإنه يدل على أن الكوكب يتعرض لهزات الزلازل والبراكين!! وشعرت بخشوع تجاه عمل القدرة العليا، وقلت أين الأرض من الزهرة؟ وأين أنا من الأرض؟ وأين هذا الأخدود من الكوكب الذى وقع فيه؟ إن الأسرة الشمسية شىء عظيم، وإن أجرامها بالغة الضخامة، وإن نظامها بالغ الدقة، وسبحان الله العظيم... ثم نظرت فى الجهة المقابلة، تركت ناحية الكبر إلى ناحية الصغر، فإذا أنا أمام مقال علمى للدكتور مصطفى محمود، يسجل ما تقرر بإجماع من أن الإنسان مخلوق من حيوان منوى شديد الصغر، أقل ألف مرة من الهباءة التى قد ترى مرتعشة فى ضوء الشمس! وأن هذا الحيوان المتضائل الذى لا يكاد يبين، يحمل كل الخصائص التى تمتاز بها البشرية، وتبت فى مصيرها المادى، والأدبى، وتقرر أن الذكورة والأنوثة هندسة وراثية و "جينات " وتعليمات وأوامر مكتوبة بحروف شفرية سابحة فى دماغ الحيوان المنوى ! ثم قال: لا أحد يفكر من هو الذى كتب تلك "الشفرة"؟ وكيف أودعها فى تلك الصحيفة المتناهية فى الصغر، إن مجموع "الجينات " لكل البشر من أيام آدم إلى الآن لا تملأ نصف فنجان!!! وعدد الجينات فى كل فرد منا يتجاوز التسعمائة ألف، تحمل فى طياتها أكثر من تسعمائة ألف معلومة، عن بنائنا الإنسانى، بناء كل واحد منا وصفاته! فهى مجلد، أو عدة مجلدات، أو مكتبة فى حجم أصغر ألف مرة من الهباءة...!! مَن الكاتب الذى سطر أقدارنا وأوصافنا وسيرتنا وحياتنا داخل هذا اللوح الأسطورى؟ بأى يد تقدست وتباركت وتعالت فى قدراتها ومهاراتها وعلمها وعدلها تم هذا التسجيل المتناهى فى الصغر؟ ص _007(4/4)
وبعد أن عاب الدكتور مصطفى محمود على الغرب أنه عرف الكتابة ولم يعرف الكاتب! وطالع المجد ولم ينحن لصاحبه، قال: لماذا لم يلهم الله المسلمين شيئا من هذه المعرفة الثمينة؟ لماذا خرجت هذه المنجزات العالية من نصف الكرة الآخر ولم تنبت فى بيئاتنا نحن؟ ثم أجاب على هذا التساؤل رادا العيب إلى المسلمين أنفسهم وإلى حالة الإغماء والغيبوبة التى تسود عالمهم الكسول... وهذه إجابة صادقة، أحب أن أضم إليها شيئا مهما. إن القرآن الكريم أمر بالبحث فى المخلوقات (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) ولكن جمهرة من علماء العقيدة لن تتعرف على الخالق من النظر فى ملكوته؟ بل من البحث فى ذاته!! فزاغوا وأزاغوا.. يقول الله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق …) ولكننا ما سرنا ولا نظرنا، بل استوردنا مقولات إغريقية انشغلنا بها سنين عددا: هل صفات الله زائدة عن ذاته أم هى عين ذاته أم لا عين ولا غير؟؟ وهذا الأسلوب لو اتجه إلى دراسة الإنسان نفسه ما أفاد شيئا! فكيف إذا اتجه إلى دراسة البارئ الأعلى؟ وقد اعترض هذا المنهج علماء آخرون من المسلمين المحافظين فكان منهجهم جدليا سلبيا لا يقل عن صاحبه سوءا. ولم نجد من وجه الهمم إلى دراسة الكون ذاته كما أمر الله فى كتابه، مع أن بناء الإيمان فى ديننا ـ كما تهدر آيات القرآن ـ يقوم على النظر العميق المتفحص المعتبر (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون). إن الأسلوب الذى سار عليه علم الكلام فى تراثنا أساء إلى ثقافتنا الإسلامية وأصابها بالعقم، ويجب أن نعود إلى منطق القرآن الكريم نفسه، فهو يستنقذ المسلمين من غيبوبتهم الحاضرة والغابرة، إن منطق التجربة والملاحظة والاستقراء هو المهاد الحقيقى للعلم، وهو الطريق الوحيد للسيادة والقيادة وهو وحده منطق القرآن الكريم. أما الاشتغال بالجدل والتقعر فيما وراء المادة، والقول على الله بغير علم(4/5)
فذلك طريق الضياع.. ص _008
خلايا الهدم والفرقة من عدة قرون فقد المسلمون شعورهم بأنهم أمة ذات رسالة يحملونها للعالمين ويسألون عن حسن أدائها أمام الله والناس! وشغلوا عن هذا الواجب بخلافات فرعية ونزاعات كلية وأهواء شخصية أو قومية أو هنت قواهم وأذلت جانبهم... وخلال هذا الأسبوع قرأت فتوى للإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر عن حكم الصلاة مع قبض اليدين أو سدلهما إن هذه القضية اختلفت فيها مذاهب أهل السنة كما اختلف فيها الشيعة مع السنيين! وقد أفتى الشيخ الأكبر بصحة الصلاة على الحالين وحمدت الله أن القضية لم تحول إلى محكمة العدل الدولية، وأن الشجار حولها وقف عند حد... إن المسلمين لديهم استعداد غريب للجدل والمنافرة، وهم يسوون بين الزكام والسرطان والشحم والورم، كما أن لديهم قدرة غريبة على تجاهل الأركان والتخفف منها ولا أدرى حتى متى تبقى هذه الحال؟ ولكنى أدرى أن أعداءهم يتربصون بهم ويحكمون المؤامرات حولهم، ويهددون حاضرهم ومستقبلهم. إن الخلاف فى الفروع الفقهية قد يشبه فى بعض وجوهه الخلاف ببين العمال والمحافظين، أو بين الديمقراطيين والجمهوريين، والخلاف بين هذه الأحزاب الغربية يتلاشى وحده أمام قضايا " الوطن " الكبرى فيتقارب المتباعدون، وتصبح الأمة كلها جبهة واحدة. أما نحن المسلمين فالأمر عندنا يحتاج إلى مصارحات ومكاشفات. وأرى أن الخلاف الفقهى قديم قدم الإسلام، ولكنه كما قيل خلاف تنوع لا خلاف تضاد، وأن لجميع المختلفين أجورهم عند الله. وعندما كنا طلابا فى الأزهر كان الحنفى والشافعى يصليان فى جماعة وأحدهما يرى القراءة وراء الإمام محرمة، والآخر يراها واجبة! أو هذا يرى لمس المرأة ناقضا للوضوء والآخر لا يرى فيه شيئا والوضوء كما هو!! ص _009(4/6)
وقد كان الشيخ "محمود شلتوت " والشيخ "محمد المدنى" رحمهما الله طليعة هذا التسامح الجميل.. فكل مجتهد مأجور أخطأ أم أصاب، وإطفاء نار الفتنة فى جميع الخلافات المذهبية لابد منه ودائرة الإسلام الرحبة ينبغى أن تشمل الجميع، بيد أن هناك أمرا آخر يتجاوز الفروع إلى الأصول والتنبيه إليه مطلوب لحماية أمتنا ورسالتنا، لقد ظهرت تجمعات كما تكونت سلطات تقوم على العلمانية والقومية وتتجهم للدين وتراثه وقيمه وقد رأيت الشيوعيين القدماء يختبئون فى هذه القيادات الجديدة، ويصارحون بأن رفع مستوى الشعوب أهم من إحياء الشريعة وأن السير فى موكب الحضارة الغربية أجدى من إحياء التراث الإسلامى. وعند التأمل وجدت أن حكومة "السودان " تحارب لأنها تنادى بإحياء الشريعة الإسلامية، وأن حكومة "إيران " تُحارب لأنها ترفض الارتداد الدينى وتتمسك بالكتاب والسنة... وظاهر أن الغرب لا يوارب فى عدائه للإسلام، ولا فى مساندته للتيارات الإلحادية التى خلقها فى بلادنا... والأوضاع الجديدة التى تواجه المسلمين توجب علينا أن نحدد الأصول والفروع فى ديننا، أى نحدد ما يمكن التسامح فيه وما لا نقبل خلافا عليه إن هذا الموقف يغلق الطريق أمام الختل والخداع والمناورات الخبيثة.. فى هذا العصر يوجد من يريد الحديث عن الإسلام وهو لم يدخل مسجدا ولم يقدم لله شيئا ويوجد من يصارح بطرح الفقه الإسلامى كله ومع ذلك يقول إنه مسلم ويتهمك بالخروج على الإسلام. وأرى أن الأوان قد آن لعقد هدنة عامة فى ميدان الفقه الفرعى، وعقد تحالف مشترك للدفاع عن أصولنا الفقهية فى ميادين التربية والأخلاق والفقه الجنائى والدولى والدستورى.. إن حضارة الغرب تكره الله وتنفر من الحديث عنه وعن لقائه فى يوم جزاء. كما تكره ربط القانون بمواريث الدين إجمالا.. وهى تتظاهر بأنها تجافى الأديان جملة وهذا كذب فهى ناشطة فى محاربة الإسلام وحده، وقد أقامت هيئة الأمم دولة لليهود على أنقاض العرب(4/7)
المسلمين، كما أن النشاط الاستعمارى العالمى يقوم على نشر المسيحية! إن التهديد يتجه للإسلام وأمته ونهضته، وإذا لم نستيقظ على عجل هلكنا. ص _010
أزمة شهامة شعرت كأن هناك "أزمة شهامة" بين أبناء البلد؟ لم تكن تعرف فيهم قديما! كان اللص إذا اختطف شيئا من أحد تبعه المارون بالشارع، حتى يمسكوا بخناقه ويوسعوه لكما ويسلموه لرجال الشرطة!. وكانت صيحة "حرامى" لا تكاد تسمع حتى تهرع الجماهير إلى مصدر الصوت لنجدته... أما الآن فقد تغيرت الحال، يهجم لصان على سيارة ملأى بالرجال والنساء، فيباشر أحدهما السرقة، ويشهر الآخر سلاحه حاميا له! والناس سكوت، والأنظار تائهة، إلى أن تتم الجريمة ويختفى اللصان فى أقرب محطة!. ماذا لو علت صيحات الاستنكار؟ ونهض أهل الجراءة بمقاومة المغيرين ولو تعرضوا لبعض الأذى؟ إنهم منتصرون عليهم يقينا، فلن يغلب اثنان عشرين أو ثلاثين من الركاب، ولكن "أزمة الشهامة " استحكمت، فقوى اللصوص، وضرى شرهم! ولو قذفوا باللص المغير من السيارة المنطلقة لطل دمه، وذهب غير مأسوف عليه، ولكن الناس من خوف الذل فى ذل..!!. إن "أزمة الشهامة" هذه هى التى تسول للص أن يمتطى دراجة ويخطف قلادة من عنق فتاة أو أسورة من يدها، ويمضى فى طريقه غير آبه لشىء!!. ولو أن جمهور الشارع كان يقظا لتابعه بصراخ الإنذار، حتى ينزله من فوق دراجته، ويسترد المسروق ويسلم المجرم لرجال الشرطة.. لا أدرى هل سيطرت على الناس غيبوبة؟ ففقدوا الإحساس بما حولهم، أم هم يحسون به ولكن الأمر لا يعنيهم و لا يوقظ انتباههم؟؟ من تعاليم الإسلام الأولى "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره" وروى أبو داود في جابر وأبى طلحة رضى الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما من مسلم يخذل امرءا مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من ص _011(4/8)
عرضه، إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته. وما من مسلم ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله فى موطن يحب فيه نصرته ". وروى أيضا : " وعزتى وجلالى لأنتقمن من الظالم فى عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل ". لماذا لم يفعل؟ قلة اكتراث بالجريمة! قلة عطف! على المهان! قلة شعور بالأخوة المشتركة! إن المواقف قصاص، والأعمار ممتدة، وستشعر يوما بالوحشة وأنت تبحث عن نصير فلا تجد، لأنك فعلت ذلك يوما مع غيرك..! كان الناس قديما لا يتكلفون الاشمئزاز من منكر يقع، وأذكر وأنا طالب أننى كنت فى الترام ذاهبا إلى الدراسة، فرأيت شابا يلكز غلاما قريبا منى، فنظرت إلى الضارب مستنكرا فقال على عجل: إنه يغازل الآنسة التى أمامه فى الكرسى، فسكت وسكت الركاب مقرينه على ما فعل.!! وكانت السيدة إذا دخلت عربة مزدحمة قام لها فورا من يجلسها مكانه من الرجال، احتراما للأنوثة وتكريما للأعراض.. أما الآن فنسمع قصص الاغتصاب الخسيس، والاحتيال على فتاة ضعيفة، واستغلال محنتها بنذالة هائلة للإيقاع بها. إن أزمة الشهامة دليل على فتور روح التدين والرجولة، وانطلاق السعار الحيوانى دون قلق، والأمر يحتاج إلى معالجة سريعة، فإن استقرار المنكر على هذا النحو إيذان بالانحدار، والضياع، وتتابع الهزائم المذلة. * * * ص _012(4/9)
هل نفر من القدر؟ لم أشهد الزلزال الذى وقع فى مصر أخيرا، ولكنى رأيت آثاره وسمعت أخباره، فلم تعجبنى الروايات التى بلغتنى وأحسست أن نقصا كبيرا قد أصاب عقائدنا وأخلاقنا، قالوا هذا مدرس فى فصله ما إن شعر بالزلزال حتى كان أول اللائذين بالفرار! وهذا إمام فى مسجده رئى أول الخارجين منه حين اهتزت الأرض تحته! قلت: ما هذه مسالك أهل الإيمان، إن الفزع لا يفقد الناس عقولهم ولا يقينهم! كان يجب أن يبقى المدرس بين تلامذته يشرف على خروجهم فى صفوف عجلة ولكنها منتظمة، ويعلو صوته حينا بعد حين يحذر من فوضى الزحام وغلبة الهلع! أليس ذلك أجدى وأشرف من موت العشرات تحت الأقدام اللاهثة، ومرور الجبناء بنعالهم على جباه إخوانهم الواقعين؟ والإمام الذى هرب من المسجد أليس الأشراف له أن يبقى رابط الجأش نابض اليقين يوصى الصفوف بذكر الله ووحدة الأجل وغلبة القدر؟ إن غريزة النجاة معروفة لكن المؤمن يتحرك بعقل الواثق فى الله الراضى بقضائه فلا يهلع ولا يطيش. وقد مضت سنة الرجولة أن يكون الربان آخر من يغادر سفينته، إنه لن يتركها حتى يطمئن إلى نجاة الركاب أجمعين، وقديما قال "على بن أبى طالب ". أى يومى من الموت أفر يوم لا يقدر؟ أو يوم قدر؟ يوم لا يقدر لا أحذره! ومن المقدور لا ينجو الحذر! إن الأمة قد تدخل فى عراك مع أعدائها فتصاب فى البر والبحر والجو، فيجب أن نتماسك لا أن ننهار، وأن نتعلم الصبر على الآلام لا الضراعة أمامها والوجل منها. وعند وقوع النائبات تتحامل الأمة كلها على جراحاتها لا يبقى لغنى غناه ولا لفقير فقره. وعلى المسئولين أن يواجهوا المأساة، فلا يترك أحد ينام فى العراء أو يبيت على ص _013(4/10)
الطوى، إن روح الجماعة تظهر فى هذه اللحظات، وتجعل القوى يحمل الضعيف والغنى يحنو على الفقير، وتملى على الحاكم أن يترك ديوانه ليتجول فى المدن والقرى باحثا عن خلل يسده، أو شارد يؤويه. وقد تابعت آثار الحروب فى أوروبا فوجدت القوم أسرع الناس إفاقة من مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة كما جاء فى الحديث! إنهم يبنون ما تهدم بجلد وينتصرون على أوجاعهم برجولة، فإذا كنا لم نتعلم من ديننا فلنتعلم من غيرنا.. إننى خبير بالزلزال وفزعه لأنى عشت فى الجزائر بضع سنين، ومرت بى ليلة كئيبة تقلبت فى فراشى وأنا أحس كأن السقف يريد أن ينقضن وسمعت له صوتا حملنى على الوقوف، وما كدت أقف حتى دارت بى الأرض فعلمت أن هناك زلزالا،! وتحركت نحو باب الدار التى كانت خالية إلا منى وفتحته لأتعرف ما هنالك فسمعت ضجيجا عاليا ينبعث من كل ناحية.. ووقعت خسائر وزهقت أرواح، وتركت زمامى للأقدار حتى انجلت الغمة، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. *** ص _014(4/11)
نفس مقهورة..!! كنت كسير النفس وأنا منطلق مع معجبى من "زغرب " إلى مخيمات اللاجئين من أهل البوسنة والهرسك، إننى أحمل مقدارا من الآلام لا أحتاج معه إلى مزيد ! ولكن ما بد من هذه الزيارة حتى نشعر المسلمين هنا بأن وراءهم إخوة يدعمون جانبهم ويأسون لقضيتهم، ومررنا فى أول الطريق بميدان رحب يتوسطه مبنى فخم فقال السائق: هذا ميدان الجامع! قلت: فأين الجامع؟ قال: كان هنا فهدم "تيتو" مآذنه الأربع وحول صحن المسجد إلى متحف هو ما نراه الآن..! وشعرت بضيق خانق! وقلت وأنا أهمس: إن "تيتو" الذى منح نفسه لقب ماريشال هو أحد زعماء عدم الانحياز بين القوى العظمى، ويظهر أن ضرب الإسلام من مظاهر عدم الانحياز، فإنى ما استعرضت تاريخ أحد من قادة هذه الحركة إلا رأيت موقفه من الإسلام بالغ السوء!. وشقت سيارتنا طريقها حتى بلغنا مساكن اللاجئين، كان حشد من الرجال والأطفال ينتظرنا، ماذا أقول لهؤلاء الناس؟ كانت معنا بعض الحلوى سرعان ما تلقفها الجياع، وتذكرت ما جاء فى السنة أن عائشة أم المؤمنين أعطت امرأة تمرة، وكان معها ابنتاها فقسمت المرأة التمرة نصفين، وأعطت كل بنت نصفا.. رأيت بعض الأمهات يفعل هذا، ورأيت بعضا غلبه الجوع فالتهم ما نال!! كانت عليهم ثياب خفيفة هى ما أمكن أن يفروا به من بيوتهم، وهم يوجسون خيفة من الشتاء القادم فإن درجة الحرارة هنا تبلغ أحيانا 35 تحت الصفر!! ووعدناهم بإرسال بطاطين يقاومون بها البرد.. وأحسست غضبا يملك على جواسى وأنا أتذكر أن هيئة الأمم المتحدة من وراء هذه النكبة، فقد كانت قادرة على تأديب وحوش الصرب، ولكنها لم تفعل عمدا.. ص _015(4/12)
هل هذه أول فعلة لها؟ من خمس وأربعين سنة أرسلنى الأزهر لأعيش بين اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة، ما أشبه الليلة بالبارحة! الجموع الهائمة تتضور وليس أمامها إلا مستقبل مبهم، وكنت أعللهم بعودة قريبة، لكن الذى حدث أن ألوفا مؤلفة من يهود روسيا وسائر العالم جاءوا ليحلوا محلهم فى ديارهم، تمهيدا لإقامة اسرائيل الكبرى! لماذا لا نقول صراحة: إن مواثيق حقوق الإنسان مصونة فى كل مكان إلا حيث يكون المسلمون؟؟ إن المسلمين وحدهم طريدو هذه المؤسسات العالمية.. والمضحك فى هذه المصيبة أن مجلس الأمن قرر عدم تزويد أحد الفريقين بالسلاح، وهو يعلم أن الصربيين ورثوا جيشا من أقوى جيوش أوروبا، وأن المسلمين كانوا عمالا وفلاحين لا يملكون شيئا يدافعون به عن أنفسهم، فلما وقعت المعركة كانت أشلاؤنا تملأ البقاع وكان أعداؤنا يملون شروطهم!! إذا لم يعد إلينا وعينا الدينى فستتكرر المأساة فى أقطار أخرى فلنصغ قبل فوات الأوان. * * * ص _016(4/13)
رفقا بالخلق الإسلام يرحم الضعف البشرى ويتيح فرصا شتى للمخطئ حتى يتوب وللعاثر حتى يستقيم، إن تقنيط الناس من رحمة الله جريمة، والمرئى الصالح يفتح نوافذ الأمل للمنحرفين حتى يعودوا إلى ربهم... وبعض الدعاة كأنما هو موكل بأهل الخطأ يعذلهم ويكشفهم ويضيق عليهم الخناق! وخير له أن يرفق بهم حتى يهديهم طريق النجاة فى الله وفى طاعته، فإن الله أهل لكل حب روى النسائى أن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله ـ عامله ـ خذ ما تيسر ودع ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا!! فلما هلك قال الله تعالى له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لى غلام وكنت أداين، فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر ودع ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا !! قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك... وفى رؤيا صدق للنبي عليه الصلاة والسلام " أن ملكين أتياه وهو نائم فذهبا به إلى مدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال، شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، فقال الملكان لهم اذهبوا فقعوا فى ذلك النهر، وإذا نهر معترض كأن ماءه الحض من البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا وقد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا فى أحسن صورة...!! " وفسر الملكان للنبى ما رأى فقالا إن هؤلاء القوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم والحديث من رواية البخارى ومسلم وقد رأيت مصداقه في مواضع شتى من كتاب الله (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) والرجاء فى جنب الله متحقق..! وقال تعالى : (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) وظاهر من مقارنة آيات الوعد والوعيد أن أبواب الأمل ص _017(4/14)
مفتوحة لأصحاب الإرادة الطيبة التى تعتريها الهزائم ـ وإن كثرت ـ أما أصحاب الإرادة المنعقدة على الإثم فلهم شأن آخر.. ثم إن الذى ينكر الله أو يرفض تشريعه مستبعد ابتداء من مجال المغفرة، إن جحد الواجبات واستباحة المحرمات والجراءة على الذات الأقدس لن تثمر لأصحابها إلا مستقبلا كالحا.. هناك دعاة يأسون الجراح ويرجون للعليل الشفاء ويفرشون طريق الخير بالأزهار ويبتسمون لكل سالك فيه، فإن زلت قدمه أعانوه على النهوض وأصلحوا شأنه حتى يستأنف السير مكرما مصونا.. وهناك دعاة لا تسمع منهم إلا الويل والثبور وعظائم الأمور! تُرى هل هم أغير على الدين من رب الدين. أو أحنى على الناس من رب الناس؟؟ رفقا بالخلق ولنذكر الأثر الرقيق " إنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية". ص _018(4/15)
فى خبايا النفوس.. هل تكفى تجربة واحدة للكشف عن طبيعة إنسان والبت فى مصيره؟ يبدو أن النفس البشرية أعقد من ذلك، أو أن بعضى النفوس ترسب فى الاختبار مرة أو مرتين ثم يدركها النجاح بعد ذلك! وقد تدبرت سيرة خالد بن الوليد فوجدت أن الرجل كان من أسباب هزيمة المسلمين فى معركة أحد، ومن وراء استشهاد سبعين بطلا من خيرة المؤمنين!. ومع ذلك فقد انشرح صدره للإسلام بعدئذ، وقاد جيوش المسلمين فى معارك أودت بالإمبراطورية الرومانية التى قاومت الفناء قرونا طويلة!!. وكذلك عمرو بن العاص الذى تأخر إسلامه إلى قبيل فتح مكة ومع ذلك فتح مصر، وأسعد بالإسلام رجالا وأجيالا!! إن خبايا النفوس لا يعلمها إلا الله، وقد تضيق بامرئ لأمر ما ثم تكشف الأيام أن بقلبه كنزا من الخير. وتظهر هذه الحقيقة فى تعليق القرآن الكريم على مصاب المسلمين فى أحد، وعلى ألم النبي الكريم لمصاب أصحابه، وغضبه الشديد من المشركين، لقد قال الله له ، (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون * ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) والتلويح بالتوبة لأناس في أعداء الإسلام قاتلوه بعنف تكرر في غزوة الأحزاب عند قوله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) ثم قال بعد ذلك (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) وقد دخل فى الإسلام بعدئذ أناس طالما ضاقوا به... ص _019(4/16)
ربما تأخر ناس عن اعتناق الحق لملابسات رديئة أحاطت بهم، فلا يجوز أن يحملنا هذا على الشطط معهم، فلعل الله يجعل منهم أنصارا لدينه. وقد رأيت أن الله سبحانه أطال الحبل مع صنوف من أهل الكفر لعلهم يرعوون. وتدبر قوله جل شأنه فى المنافقين (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) إن الله لا يفضح عبده لأول مرة، بل يصبر عليه ويطاوله لعله يستحى ويتوب، فإذا أصر على عوجه فأخر الدواء الكى، إنه يفضحه لأنه لم ينتفع من ستر الله عليه وحلمه معه!. وقد تقبل الله أقواما انتفعوا من ستره وحلمه فحسن إيمانهم وطابت أحوالهم، وغضب على آخرين حسبوا أن الإرجاء إغضاء، وأن الإمهال إهمال، فمضوا فى طريق الشر إلى منتهاه، وفيهم يساق قوله تعالى (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين). إن على الدعاة طول الصبر وحسن العرض وألا يسمحوا لمشاعر الغضب أن تحملهم على إغلاظ القول وإساءة الظن، ولنتأس برسولنا الكريم فى الحرص على الناس والأسى لعوجهم والأمل فى استقامتهم. *** ص _020(4/17)
أسرة " حورس "!! "حورس " و "رع " و "أتون " و " آمون " أسماء ليس لها مسميات اخترعها العقل الوثنى وهو يخبط فى بيداء الخرافة بعيدا عن معرفة الله الحق، وإذا كان الفراعنة الأقدمون قد فعلوا ذلك فإن العرب الأولين افتروا كذلك أسماء "اللات" و"العزى" و"مناة لما وجعلوها الهة تعبد من دون الله. وقد اشترك اليونان والعرب فى عبادة "هبل " وإن كان الإغريق سموه "أوبلو" وهو أكذوبة كبيرة ما أنزل الله بها من سلطان. وقد أعلن الأنبياء كلهم حربا عبى هذه الأوثان، ووجهوا البشر إلى عبادة الله الواحد (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وقديما زعم فرعون موسى أنه إله ابن إله، وقال لوزيره (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) ولو فرضنا أن هامان بنى لفرعون ناطحة سحاب فماذا كان يرى؟ لن يرى أكثر مما تراه الطير وهى مسخرة فى جو السماء ولكن فرعون كان غبيا، ولا نرى أغبى منه إلا من يحاولون إحياء سنته فى هذا الزمان!!. كيف يؤلف بعض الطلبة جماعة منهم تحت عنوان "حورس " أو " اللات "؟ أهو حنين إلى الوثنية القديمة؟ أم زهد فيما جاءت به الأديان السماوية من هدى؟ أنا لا أحب أن ينتسب إلى هذه الجماعة مسلم أو مسيحى، فإن موسى وعيسى ومحمدا عليهم السلام حاربوا الوثنية، ودعوا جميعا إلى عبادة الله الواحد. وعندما كان يوسف الصديق عليه السلام محبوسا في أحد سجون مصر قال لمن معه (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان …) ص _021(4/18)
قال لى الرواة إن فتية من طلبة جامعة القاهرة اختاروا أو اختير لهم اسم "حورس " ليتوجوا به نشاطهم ويؤدوا تحته رسالة طلابية بعيدة عن التطرف الدينى الكريه!!. قلت: هل نكفر بمواريثنا الدينية حتى نبتعد عن التطرف؟! إننا نستطيع أن نكون معتدلين مقبولين، والشارة التى نرفعها لا صلة لها بعبادة الأصنام!. قال لى أحد الطلاب الفارغين إن "حورس " رمز مصرى قديم ونحن نعتز بمصريتنا!! قلت له: هل من الاعتزاز بالمصرية أن ننضم بمشاعرنا إلى فرعون ضد موسى عليه السلام؟. إن لنا حضارة ضربت بسهم وافر فى ميدان الهندسة والطب وشتى العلوم العريقة.. ونحن نثنى خيرا على صانعى هذه الحضارة، ولكننا لن نعود إلى ركوب الخيل والحمير زهدا فى الحضارة الحديثة وما استحدثته من آلات وأجهزة. إننا لن نترك موسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام لأن بعض الفراعنة عاداهم.. لقد عرفنا الله رب الأرض والسماء، ويستحيل أن نقدس الأصنام مرة أخرى، إننى أهيب بطلابنا جميعا ألا يقعوا فى هذه الخدعة وأن يتشبثوا بالوحى الأعلى وشاراته وأن يدفنوا اسم "حورس " فى تراب التاريخ ويحيوا وفق شعائر الدين. مع البعد طبعا عن التطرف. ** * ص _022(4/19)
رجعة إلى الحق الرجل الكبير إذا زلت قدمه أو زل قلمه ساءه ما وقع فيه وكره أن يعود إليه! وأحب أن ينساه وأن يتناساه الناس وفى الآية (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) وقد كنت فى الخمسينات أخطب فى الجامع الأزهر، وفوجئت بأن الشيخ على عبد الرازق رحمه الله كان يصلى الجمعة معنا، وأذكر أنه عاتبنى يوما على طول الخطبة وهو مريض بالمسالك البولية يشق عليه الانتظار الطويل فأنصفته من نفسى وقلت له : تطويل الخطبة خطأ. ودعوت له بالعافية. كان الرجل يعرف موقفى منه ومن كتابه الذى ألفه ضد الدولة فى الإسلام، لقد اكتفيت منه بأنه جمد هذا الكتاب فلم يعد طبعه قط، وكره الحديث عنه ولقى ربه مؤمنا مصليا مؤيدا لرجال الدعوة الإسلامية. وحسبى هذا منه. لم تكن له شجاعة خالد محمد خالد الذى ألف كتابا يتحدث فيه عن الدولة فى الإسلام وعن خطئه حين أنكرها وعن عودته إلى الحق بعد ما استبان له، والناس معادن ورحم الله على عبد الرازق ولعن الله من ينشر كتابه من بعده من مبشرين ومستشرقين وملاحدة يعيشون على حرب الله ورسوله. وقد ألف الأديب الكبير نجيب محفوظ روايته "أولاد حارتنا" وكان ذلك من خمس وثلاثين سنة، والرواية إزراء على الألوهية والنبوات ومواريث الوحى كلها، وقد طلب الأزهر مصادرتها، واستجاب جمال عبد الناصر للطلب، ولكنى لاحظت كما لاحظ غيرى أن نجيب محفوظ فعل ما فعله على عبد الرازق، فلم يعد طبع روايته، بل إن الكلمات التى تنشر له بين الحين والحين تمتلئ بالروية والإيمان ونصرة الحق، وآخر ما قرأته له أنه يحب بناء الحضارة على الإسلام ويحب للمسلمين أن ينتفعوا بكل تقدم علمى بلغه العالم، وقد استنكرت محاولة قتله. والمجرم فى نظرى إما مخبول! وإما مدفوع من جهة تريد الإساءة إلى الإسلام!! ص _023(4/20)
ومعروف أن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل، وما أكثر الجرائم المادية والأدبية التى ترتكب باسم الإسلام. إننا نبرأ إلى الله منها ونسأله أن يقى المسلمين شرها. غيرأننا نتساءل عن قوم يكرهون الله أشد الكره ويمقتون الإسلام كل المقت ويخاصمون الوحى فى كل موطن ويقولون لعلى عبد الرزاق ونجيب محفوظ ستطبع كتبكما برغم أنوفكما. أعرف جملة أقلام ما شرفوا يوما بالسجود لله، إذا سمعوا بفتح خمارة كست البشاشة وجوههم، وإذا سمعوا بفتح مسجد ضاقت بهم الأرض، وإذا سمعوا بكلمة إلحاد حفوا بها كما يحف الذباب بالقذى، وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا هم معرضون أو معترضون. إن الدولة تسىء إلى نفسها بترك هؤلاء ينبحون قافلة الإسلام والله غالب على أمره. *** ص _0 ص(4/21)
وظيفة الأمة قلت محددا وظيفة الأمة العربية وجامعتها: إن الله ربى محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس كافة. فلأمتنا رسالة واضحة يجب أن تعمل بها وتدعو إليها، وترفع رايتها وتشعر الأقربين والأبعدين بحقيقتها، وهذا معنى عالمية الإسلام، فليس هو نهضة عربية كما يزعم زاعمون، أو ثورة قومية كما يهرف خراصون. إنه رحمة الله بالعالمين وهدايته للناس أجمعين. وإذا كان العرب قد انكمشوا فى هذا العصر، وتقطعوا فى الأرض أمما، وصارت كل أمة تسعى وراء القوت وتهتم بحياتها الخاصة فإن ذلك لون من النسيان الخزى إن لم يكن من الارتداد القبيح!!. وتوجد ـ ولله المنة ـ طوائف ترفض هذا الوضع وتعرف أن الإسلام رسالة عامة خالدة وتقدم آصرة الإسلام على كل آصرة وغايته على كل غاية، والآيات فى القرآن كثيرة على عالمية الرسالة، وعلى أن أمتنا شاهدة الأمم!. كما أن الرسول شاهد علينا أى أننا مبلغون مواريث الوحي كما بلغنا. وشاهدون على الأمم كما أن الرسول شهيد علينا. قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). وجاء فى مكان آخر (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة و ءاتوا الزكاة واعتصموا بالله). ويحزننى أنى فوجئت بشخص ينكر هذه الحقائق ويحط عن الكواهل أعباء الدعوة العامة ويشغل المسلمين بقضاياهم الخاصة، ويزعم أن الشهادة على الناس فى الآخرة وليست فى الدنيا ويسوق فى ذلك حديثا لم يفهمه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ص _025(4/22)
" يجىء النبى يوم القيامة ومعه الرجل والنبى معه الرجلان. وأكثر من ذلك، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون لا! فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول " نعم! فيقال له من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته! فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم! فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا.! فذلك قوله تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..).. قلت لمن ساق هذا الحديث إنه جاء بإضافة جديدة إلى جانب ما أفادته الآية من أن المسلمين أمة دعوة عامة تتناول الشعوب فى القارات الخمس، هذه الإضافة أننا شهداء على الناس فى الدنيا وفى الآخرة معا، فلا تضارب بين الآيات والحديث إلا فى أذهان المشوشين وذوى البلاهة!. إن المسلمين ـ ومعهم كتاب الله وسنة رسوله ـ لهم إشراف وأستاذية على الناس الذين يملأون أرجاء العالم، ولا وظيفة لهم إلا الأكل والسفاد، وكما أخرجهم الرسول من الظلمات إلى النور يجب أن يفعلوا ذلك مع الناس وسيحق عليهم العقاب إذا تركوا هذه الوظيفة العليا. *** ص _026(4/23)
تهذيب الغرائز الحياء والعفاف من سنن الأنبياء الأولين ومن معالم الفطرة السليمة ومعروف أن للإنسان رغبات طبيعية مقررة لا يجوز كبتها أبدا ولا يجوز إطلاقها فوضى، بل الأمر كما قال الله (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا). والحضارة الأوروبية المعاصرة تعيب على المسلمين أمورا ـ فى مجال العلاقات الجنسية ـ نريد فى هذه السطور مناقشتها. فهى تتهمنا بالتزمت والتشدد وإعلان الحرب على الغرائز البشرية فماذا فعلت هى؟ إننى أكره المتاجرة بالفضائح ولكننى أسائل المفتونين بالغرب: هل سرهم ما وقع أخيرا للأسرة المالكة فى إنجلترا؟ لقد ظهر أنه صورة لما يقع فى آلاف الأسر الأخرى. الأسر التى أباحت الخلوات الحرة، والرقص المزدوج بين الجنسين، والتى استهانت بالبكارة واستغربت بقاءها بعد سن العشرين! والتى عدت غض البصر وحفظ الفروج وصون المروءات تقاليد بالية لا تليق بامرئ متحضر! وتنتشر الآن كتب تقذف بالزنى أزواجا وزوجات دون خوف من جلد أو أى حد!! ويعترف رجل ذو منصب خطير بأنه يتصل بامرأة آخر، فلماذا سكت الآخر؟ لأنه يتصل بأخرى ذات زوج!!!. ما معنى سكوت هؤلاء جميعا؟ لقد ذكرت الأعشى وهو يصف الجاهلية الأولى وانفلات الشهوات بها فيقول: عُلَّقتها عَرَضا ، وعلَّقت رجلا غيرى وعُلِّق أخرى ذلك الرجل!! إنها شهوات سائبة يجرى بها الهوى حيث شاء! فى الجو المؤمن التقى لا تقع فاحشة، وإذا زلت قدم سرعان ما تستقيم (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). ص _027(4/24)
أما فى أوروبا فإن إحدى الأميرات تبقى مع سائس خمس سنين، لا ندم ولا ألم! إننى أتساءل هل بقى شىء من تراث عيسى أو موسى عليهما السلام فى أقطار الغرب الصليبى؟ لا يوجد هناك إلا كره الإسلام ولمزه بكل نقيصة. ومن النقائص الأولى فى تعاليمه أنه يأمر المرأة بالحجاب ويأمر الرجل بغض البصر عن مفاتن النساء! إن العين الجريئة المحملقة فى العورات هى التى تحترم..! وفتياتنا المهاجرات مع أسرهن فى أوروبا يمنعن من الدراسة لأنهن يغطين رءوسهن حين يطلبن العلم! المراد أن يظهرن بآخر بدعة فى تسريح الشعر حتى يستدعين الإعجاب!! قلت لماذا تبقى الأقدار هذه المدنية الزائفة وكان الجواب حتى ينجح المسلمون فى إقامة مدنية جديرة بالاحترام فإنهم الآن أمة تائهة لا يربطها بالوحى الأعلى إلا خيط واه. *** ص _028(4/25)
إنهيار الانهيار الواقع فى النفس العربية بعيد المدى، وأخشى إن بقى طويلا أن يضيع معه اليوم والغد! وقبل أن أصف علاجات له أريد أن أسرد بعض مظاهره.. كنت أرقب المباريات الرياضية بين بعض الفرق العربية وأشمئز من خروج البعض عن قواعد اللعب وحقوق الزمالة ثم رأيت أخيرا كيف خرج العرب كلهم مهزومين أمام زنوج إفريقية على نحو مضحك!. إنهم لم يُهرموا بسلاح سرى، أو لقلة فى العدد! لقد كان الزنوج مردة فى الساحة لا ينتقصهم فن أو صبر على حين كان الشباب العربى سريع الإعياء قليل الحيلة فاستحق الهزيمة بجدارة. وما وقع فى الميدان الرياضى نموذج لما يقع فى ميادين شتى، الشباب لا يحسن الإجادة ولا يعشق الإتقان مشغول بذاته قبل كل شىء، تستهويه القشور ويحترق فى أنوار الشهرة. فى ميدان التجارة الكلمة رباط، وهو يستهين بالكلمة، وكأن التجارة أن يأخذ المشترى أكبر ما يستطيع من البائع وأن يدفع أقل ما يُدفع، ولا مكان للوضوح والصدق والعدل. وفى ميدان الوظائف الرياسة شرف يُشترى بأى ثمن، والعمل عبء يحتال للخلاص منه، ومصالح الجمهور مشغلة ينبغى الفرار منها!!. ورأيت المناور فى أغلب العمارات مجامع للقمامة، وليس بين السكان تعاون ما على تنظيف الشوارع والحارات. وشكا لى قريب أنه اشترى علبا لأدوية كتبت له فرأى بعض العلب ناقصا.. وهموم الرزق جعلت المدرسين يشتغلون بالحصص الإضافية أكثر مما يشتغلون بالحصص الأساسية، والناس ينطلقون فى المدن والقرى كما تخرج الوحوش للصيد.. أما الارتباط القديم بالله وحدود الحلال والحرام، والتواصى بالحق والصبر، فإن حباله رثت أو انقطعت. ص _029(4/26)
كان المؤمن قديما يخرج من بيته وعلى لسانه الدعاء المأثور "بسم الله توكلت على الله اللهم إنى أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يُجهل علىّ .." أما اليوم فللناس شغل آخر أو هدف آخر!!. والسبب الأول فى هذه المأساة التى هدمت الإنسان العربى، انتشار الفكر العلمانى وانحلال الرباط الدينى، ونسيان اليوم الآخر.. فى أقطار أخرى يمكن أن يكون للأخلاق مهاد غير الدين، ولو كان مهاداً رديئا، أما فى البلاد العربية فإن ضياع الدين يعنى ضياع الأخلاق، فلن أنتظر أخلاقا من امرئ كافر بربه واهى الصلة به!. إن الثورات القومية الكبرى فى بلادنا أدركت حظا من نجاح، لأنها اعتمدت على رجال رباهم الدين وضبط أحوالهم! فلما خفت داعى الدين، وقام داعى المنفعة ركدت ريح الأمة، وهانت على عدوها. إن العلمانية تحارب الانتماء الدينى، ويوجد الآن من يهتمون بالسلوك ولا يهتمون بالعقيدة. وهيهات فلن يكون مع القلب الفارغ إلا المسلك التافه. إن النفس العربية انفرط عقدها لما ذهب يقينها، ولن تتماسك هذه النفس وتتكون فيها ملكة الإجادة والصلاح والإصلاح إلا بعودة الإيمان الغائب، وانعقاد الإرادة على فعل الجميل وترك القبيح. * * * ص _030(4/27)
سيد واحد جاء فى السنة أن النبى عليه الصلاة والسلام قال بعدما رفع رأسه من الركوع: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وجاء عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه بعد ختم الصلاة استحب هذه الكلمة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد. وهو على كل شئ قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". قلت: لم هذا التوكيد على أن أمر المنع والعطاء لله وحده؟ وأنه لا دخل لبشر فيه مهما كان سلطانه؟ ولماذا ارتبط بالصلوات الخمس التى تجب على المسلم كل يوم؟ وكان الجواب أن المرء كثيرا ما تمر به ساعات عسرة ولحظات ضعف، يشعر فيها بالوحشة والعجز فيميل قلبه إلى ذوى السلطة والنفوذ يحسب أن لديهم ما ينقذه من ورطته، ويفك عنه ما نزل به من ضيق!!. وهو مخطئ كل الخطأ فى هذا الشعور المنهزم، فإن الأمور لا تفلت من يد الله أبدا. ويستحيل أن يملك عليه أحد عبيده شيئا، والرشد كله فى انقطاع المرء إلى الله وتعلقه به وحده. (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) والعلاقات بين عبيد الدنيا قد تقوم على هذه المنافع المرجوة بين الضعفاء والقادرين ، وربما قامت تقاليد اجتماعية راسخة بين الأتباع الأذناب والسادة أهل الجاه، وربما كابر هؤلاء وأولئك دعوات الحق، وناصبوا المرسلين العداء، ولكن النتائج الأخيرة تخزى الجميع يوم الحساب، (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) ص _031(4/28)
وقد عجبت للمتنبى كيف فنى فى سيف الدولة وكيف قال له: يامن ألوذ به فيما أؤمله! ومن أعوذ به مما أحاذره..! لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره. إن جحود المتنبى لسيده لم يتأخر ليوم الحساب! إنه بعد سنين كفر به وساق رواحله إلى مصر يقصد سيدا آخر وهو يقول: قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا. ما أجمل أن يكون للمرء سيد واحد لا يعرف غيره ولا يرتبط إلا به. *** ص _032
عصابات المرتدين نجح الغزو الثقافى فى تأليف عصابات من المرتدين تستبقى ما حقق من أهداف إبان استعماره للعالم الإسلامى الواسع. إنه ألغى الشريعة الإسلامية وعطل نصوصها فى ميادين شتى، وأوهن جانب العقيدة بعد ما قطع صلتها بالتربية والسلوك وأنشأ تقاليد جديدة لا ترتبط بالحلال والحرام ولا تكترث للقاء الله!. وهذه العصابات الكفور تخلط عامدة بين حرية الفكر وحرية الكفر!. وتتبنى ألوانا من الثقافات الخائنة والفنون المنحلة لا تزيد أمتنا إلا خبالا وقد انتسب إليها كل كاره للتراث الدينى، وكل تارك للصلاة والصيام. ولا ريب أن وراء هؤلاء موجهين من قادة الصليبية والصهيونية يحثون خطاهم ويشذون أزرهم، والهدف القريب والبعيد منع المسلمين من العودة إلى دينهم وتزهيدهم فى أحكامه وشعائره. إن هذا الجيش من المرتدين الجدد يحرس مخلفات الاستعمار العسكرى، ويشتبك فى صراع مكشوف مع كل مسلم وفىٍّ لدينه وتاريخه وحضارته، والراية التى رفعها الحرية والتجديد والتنوير!. وقد نظرت إلى السائرين تحت هذه الراية فما وجدت فيهم غيورا على كتاب الله، بل قل: ما وجدت فيهم مصدقا له!! وما وجدت فيهم من يحترم رسالة الإسلام أو يحفظ حدودها. فإذا أعلن أحد الناس ريبته فى مقدساتنا طاروا إليه يشجعونه ويقوون ظهره، ويُحرضونه على الله ورسوله!. لمن يعمل هؤلاء المرتدون؟ لأعداء العرب والمسلمين وحدهم!. والمضحك أنهم يتحدثون عن العلم، كأنهم بعض غزاة الفضاء أو مُفجرو(4/29)
الذرة! ومالهم قى ميادين البحث العلمى ناقة ولا جمل، وما ينظر إليهم علماء الكون إلا على أنهم عاطلون سخفاء.. إن جمهرة العلماء أصحاب عقائد، ولم يقل أحد: إن "كارل ماركس " من العلماء، أو أن أشباهه من أصحاب الأهواء لهم علاقة بالدراسات الفيزيائية أو الكيميائية أو الفلكية!. يجب أن نلقى عصابات المرتدين بما يجب من ازدراء وخصام، وأن نمزق الأستار عن الجهات التى يعملون لها حتى يأخذ الناس حذرهم، إننا لن نترك ديننا، وسنكسر القيود عن شرائعه المعطلة وآدابه المهجورة. ص _033(4/30)
فى.. "الطور" رضيت كل الرضا عندما رأيت الطائرات المصرية تبيد أشجار الأفيون والحشيش التى زرعها بعض البدو فى سيناء وعجبت لقوم يزرعون الخبيث ويتركون الطيب!. لماذا لم يغرسوا قمحا أو شعيرا؟ لماذا لم يغرسوا فواكه أو نخيلا؟ إن سيناء من أقطار البحر المتوسط التى تجود فيه زراعة الزيتون فلماذا ماتت هذه الزراعة مع أن القرآن ذكرها منسوبة إلى منابتها (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين) إن الأجيال تتغير وإن الأراضى كذلك تتغير والذى يرى سيناء الآن يعجب للصفرة والوحشة اللتين تكسوان سطحها وآكامها. وذكرياتى فى سيناء بئيسة فقد اعتقلت فى "الطور" نحو عام ورأيت بدوها لا يكادون يفقهون قولا، وشعرت بأن الحكام فى القاهرة قد جعلوا ترابها المبارك منفى لمن ينقمون منه! قلت لنفسى وأنا فى "الطور": هنا هبطت نعمة النبوة على موسى عليه السلام، سمع النداء المقدس (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى) لقد أمسى راعى الغنم قائد شعب كبير، ولقد حمل الوحى وذهب إلى فرعون يقول له بأدب رقيق (فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى) لكن فرعون زهد فى هذه الهداية، إنه يريد أن يعبده الناس لا أن يعبد هو الله!. وحرر موسى عليه السلام قومه من عبودية قاسية ولكن محرر العبيد لم يكن يدرى أن قومه يحملون للعالم أشد الضغائن، وأن قلوبهم قدت من الحجارة. ص _034(4/31)
إنهم الآن يمنعون "الصليب الأحمر" من تقديم الطعام إلى ثلاثة آلاف عربى جائع فى الخليل، فرضوا عليهم منع التجوال فهم محبوسون فى بيوتهم ليهلكوا من المسغبة!!. والمعركة اليوم محتدمة بين المستكبرين الذين يرون أنفسهم أتباع موسى عليه السلام وبين المستضعفين الذين يُحسبون أتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم لا يربطهم برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبب قائم.. وشرعت أفكر فى أمتنا وفى أوضاعنا... وعدت إلى زراع المخدرات فى سيناء، إنهم لو حصدوا ما غرسوا، لأرسلوا الموت إلى الوادى وقتلوا بسمومهم ألوف الأسر، ولكن الله سلم.. بيد أن هناك فى ميدان الأدب والفكر أشخاصا آخرين يكرهون الوحى ويخاصمون تراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كله ، ويبذرون فى الحياة بذور الكفران بالله والدار الآخرة. إن هؤلاء أضرى على الحياة العامة من ناشرى المخدرات، ليس من الإبداع أن تحارب الصلاة والتقوى! وأن تحتفى بالشهوات والأهواء وأن تمنع عودة المؤمنين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إن هذا تمهيد لجاهلية حديثة ينشدها الاستعمار. * * * ص _035(4/32)
هل هذا التزامن مقصود؟ الحروب الصليبية ـ فى العقل العربى المعاصر ـ ذكريات أتت عليها الأيام فاندملت جراحها وبردت آلامها. فإذا جدت أحداث تُذكر بها لم يذكرها أبناؤنا إلا غائبى الوعى قليلى الاكتراث. أما فى العقل الغربى الحاضر فالحروب الصليبية محفورة فى ذاكرته تتجدد ولا تتبدد، لا تبرح فكر الساسة والقادة وعلماء الدين والسياسة. وقد رأيت مظاهر للحقد على الإسلام تثير الدهشة فما كنت أتصور أن امرأة كتاتشر تذكر الإسلام بعدما انهارت الشيوعية على أنه الخصم الباقى للحضارة الأوروبية، وما كنت أتصور أن كثرة من المدنيين والعسكريين تعتنق هذه الفكرة، وتنشرها هنا وهناك. حتى الإذاعات العالمية التى تدعى الحياد والصحف الغربية التى تزعم الموضوعية فى علاجها لشتى القضايا لا تفتأ تنتهز الفرص بخبث كى تنال من الإسلام وأمته!. إن الغرب يطوى فؤاده على كره عميق للإسلام من الصعب علاجه، وأنا يائس من إصلاح هذا العوج وكل ما أدعو إليه هو التحذير منه والاستعداد لمواجهته. وهناك صنف آخر من الحاقدين على الإسلام، هم عرب من جنسنا، يتكلمون بألسنتنا، فإذا راقبت مسالكهم وجدتهم كخواجات الغرب لا يقلون عنهم ضغنا ولا أذى، بل قد يزيدون. ألف أحد الصعاليك كتابا نال فيه من الوحى والنبوات وسخر ما شاء أن يسخر من الدين وحقائقه، فعاقبه القضاء بالسجن بضع سنين على وقاحته وهبوطه. فإذا كاتب شيوعى يعترض على الحكم، ويقول: إن هذا مصادرة لحق الإبداع!!. الإبداع فى عرف هذا التافه هو إلاقذاع فى شتم الأنبياء!! وكأنما كانت هذه الحركة إشارة على بدء الهجوم. فإذا عصبة من الملاحدة تتصايح من هنا ومن هناك على ضرورة إلغاء الحكم أو تخفيفه ليكون صوريا!! ص _036(4/33)
والتهمة المختارة التى يرددها هؤلاء أن حرية الفكر فى خطر، وأن المتدينين ـ وفى طليعتهم الأزهر ـ صنعوا مقصلة لقتل المفكرين الأحرار، أو بعثرة الأشواك فى طريقهم !. وقال واحد منهم يحمل لقب "مستشار" إنه حُرم من حق الاجتهاد وصودرت له عدة كتب!. وقرأت ما كتبه " المستشار" المجتهد، فإذا هو يحلل الخمر مستدلا بالآية (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به …) هذه هى عبقرية الاجتهاد عند مستشار لا أدرى أكتب كلامه وهو صاح أو سكران. إنه يتهم الأزهر بالجمود، والعدوان على الحريات وإغلاق باب الاجتهاد!. إن الحاقدين على الإسلام كثروا وعلا صياحهم وطالت لجاجتهم، ويقع هذا فى بلادنا فى أيام نحسات تتعرض فيها الحركات الإسلامية لضروب الفتن وأنواع القمع مما يجعلنى أحس بأن هذا التزامن مقصود، وأن الهجوم على قرية فى فلسطين قد يصحبه هجوم على حكم شرعى مقرر يجعل الأمة المحروبة تحار فى أى الجبهتين تقف للدفاع؟ فهى توزع قواها المحدودة على جبهات شتى!!. ماذا نصنع؟ لابد من الثبات فى مواقف الحراسة، ولن نتخفى عن ديننا مهما كثر الهاجمون، وخبثت حيلهم، وساندتهم قوى جلية أو خفية. ص _037(4/34)
عجز مهين تعظيم أمر الله من أمارات التقوى ودلائل اليقين أما قلة الاكتراث بحكم الله فما يقع إلا مع خراب القلوب، وبعدها عن الإيمان! ومن خصائص الحضارة الحديثة أنها لا تربط السلوك برضا الله أو بسخطه، العمل فيها له باعث شخصى، فإذا ارتقى قليلا كان له باعث خلقى، وقد يكون لأسباب تجارية أو اجتماعية أما أن يكون العمل ابتغاء وجه الله، وانتظار ثواب الآخرة، فذاك بعيد بعيد!. وقد لاحظت فى بعض الإحصاءات أن الأولاد اللقطاء يقاربون فى العدد الأولاد الشرعيين كما أن بعض اللقطاء وصل إلى منصب رئيس حكومة ولا حرج! وقع ذلك فى أوروبا وأمريكا.. وأعرف من دينى أن ابن الزنا غير ملوم، وأنه خير من أبويه، ما جريرته؟. لكنى ما تصورت أن يكون أولاد الحرام نصف المجتمع! وأن يبلغ الاجتراء على الله هذا الحد، لكن الحضارة الحديثة لها منطق آخر لا ندريه، وقد كنت أتساءل عن صلابة موقف الفاتيكان فى تحريم الإجهاض، إنها صلابة مشكورة، وهو يتفق مع الإسلام فى احترام الأجنة، لكننى إلى الآن أتساءل: لماذا سكت عن إباحة اللواط والسحاق والبغاء والزنا وسائر الأدران الجنسية الشائعة ؟ لماذا لم يشن عليها حربا شعواء؟ إن الله دمر المدينة التى يسرت الفسوق وتواضعت على اقترافه، فلماذا يترك الفاتيكان عواصم الغرب تتعرض للمصير نفسه؟ ثم أريد أن أعرف هل الله الذى نؤمن به هو الله الذى يؤمن به الغربيون؟ أم هو كائن مشغول بالتأمل فى ذاته ـ كإله أرسطو ـ الذى يذهل عما يقع فى العالم؟ يدفعنى إلى هذا القول ما أسمعه من أن كوكب الأرض سوف يضيق بالأحياء ويعجز عن طعامهم وشرابهم، إن كثرتهم أثقلت كاهله فلن يستطيع بعد انتهاء القرن العشرين لميلاد عيسى عليه السلام أن يتحمل مزيدا منهم! سبحان الله أين الرزاق ذو القوة المتين؟ الحق أن عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام بريئان من هذا اللغو، وأن الحضارة المقطوعة عن السماء من وراء شيوعه، إنها حضارة موغلة فهى الجشع(4/35)
والكنود، وهى تحسب أن زيادة العالم الثالث ستحرمها الينابيع الدافقة هنا وهناك، وتمنعها من الاستئثار بها ولذلك ترسم سياسة صارمة لتقليل الأقطار المتخلفة فإن كثرة الخدم قد تكون سببا فى متاعب السادة! إننى لا أعاتب أحدا وإنما ألوم قومى على عجزهم المهين. ص _038
لا خلط بين الآيات لا يجوز الخلط بين الآيات التى تعرض الدعوة، والآيات التى تبنى الدولة. فالآيات الأولى تخاطب ذهنا خاليا كى يعرف ربا هو به جاهل وله منكر، فإذا شرح بالإيمان صدرا قيل له: استقبل حياة لها معالم أخرى وتكاليف جديدة!. عندما يدعى الخالى إلى الإسلام تجئ الآية (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر) لا قسر ولا جبر ولا إكراه فى الدين، فإذا آثر الحق ودخل في الإيمان قيل له : هناك واجبات شتى تنتظر المؤمنين وعليهم القيام بها مثل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) فالقول السديد بعد القلب التقى أساس الخلق المسلم. كما يقال للمؤمنين عامة (يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون) فالمجتمع المسلم خلية نحل حول المسجد يستجيب لندائه بين الحين والحين مؤديا حقوق الله، كما يطلب من المؤمنين الاستعداد لمواجهة عدوهم وصد عدوانه الذى لا ينقطع (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة). هناك شبكة من الأوامر والنواهى تحرس المجتمع الجديد وتشد بنيانه، ولا يقبل من أحد الاستهانة بها أو التفريط فيها.. وقد رأيت ناسا يفسرون ( فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر) من شاء صلى ومن شاء ترك من شاء سكر ومن شاء صحا! من شاء عف ومن شاء فسق.. أى يريدون مجتمعا فوضويا خاليا من الحقوق والالتزامات. ونبتت جرثومة هذا الفهم فى الأوساط المرتدة التى رباها الاستعمار فى كنفه، وغذاها الغزو الثقافى بتعاليمه الكفور.. ص _039(4/36)
إن هذا الاستعمار بعد ما ألغى الحدود والقصاص، وأبعد الشريعة عن عالم القانون اتجه إلى ضرب العقائد والعبادات، وأخلاق الإسلام وقيمه! وبث دسائسه فى ميادين التعليم والإعلام لإنشاء أجيال خاوية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا. وقد سمعنا صيحة غريبة تقول لا نريد الإسلام السياسى!. فماذا تريدون؟ نريد الإسلام الروحى وحسب! والحقيقة أنهم يرفضون الإسلام كله بدءا من كلمة التوحيد إلى إماطة الأذى عن الطريق!. إنهم يريدون إسلاما يبيح الزنا والسكر ولا يعرف لله حقا فى شىء. إن هناك عقدا بين الله وعباده، يقول الله: شرعت. ويقول المؤمنون سمعنا وأطعنا. فمن رفض السمع والطاعة لله لا يسمى مسلما، ولا نقبله فى صفوف المؤمنين. * * * ص _040(4/37)
الإيمان والمعادن النفيسة سمعت فى إذاعة لندن أن هناك نظاما مقترحا لتشغيل المسجونين حتى يسهموا بعملهم فى نفقات معيشتهم، فإن المسجون الواحد يتكلف فوق الأربعمائة جنيه شهريا، والنظام المقترح يساعد بتقديم ربع هذا المبلغ !. ومعروف أن عقوبة الإعدام ممنوعة فى إنجلترا وأنه لا القتلة ولا المفسدون فى الأرض يفقدون حياتهم، إنهم ينزلون ضيوفا على سجون تشبه أن تكون فنادق ! وعلى الدولة تكاليف هذه الضيافة. ولست أقحم نفسى على فكر هؤلاء الناس ومسالكهم، وإنما استغربت أن يطلب منا التشبه بهم والعيش على غرارهم، فإن منتسبين لجماعة حقوق الإنسان ـ وهم يستنكرون عقوبة المرتد فى الإسلام ـ طلبوا إلغاء عقوبة الإعدام جملة. وقالوا: إنهم لا يرجعون فى هذا إلى نصوص الدين، وإنما يستندون إلى الميثاق الدولى. ودحرجة الإسلام حتى لا يكون مرجعا للسلوك هدف تسعى إليه فئات كثيرة. إن الدين ينسج شبكة من الأوامر والنواهى على وجهات الناس فى هذه الحياة، تضع أمام أعينهم علامات حمراء أو خضراء: مر أو لا تمر!، افعل أو لا تفعل!. فإذا أطفئت هذه العلامات وأبطلت وظيفة الدين فما الذى يوجه سلوك الناس؟ ويرسم لهم الغاية من مسعاهم.؟ إن هناك جهودا مكثفة لتضييق دائرة الدين، وتغطية أشعته هنا وهناك واختلاق بدائل مستوردة من الشرق أو الغرب لتحل محله!. فماذا كسبت الجماهير من هذه الجهود الخائنة؟ وماذا أفادت قضايانا العالمية والمحلية؟ ضعفت العقائد، وهانت الأخلاق، وتاه الشباب وتحركت الشهوات دون قلق، ودافع الناس عن وجهات نظمهم وكأنها الوحى الصادق. عندما استقدمت النزعة الوطنية من أوروبا، طلب منها أن تحل محل الضمير الإنسانى وأن تحل محل الشعور الدينى، ومن الذى يكره وطنه؟ أو يرخص مكانته؟ ولكن صوت الدين لا يجوز أن يخفت!. وقال الله وقال رسوله لابد من إعلائهما! والحق أن الوطنيين من خمسين سنة كانوا قريبى عهد من منطق العقيدة وهداها فكانوا أقوى رجولة، وأصلب(4/38)
عودا. ولقد أضرب الموظفون أجمعون يوما ما عن العمل فى مواجهة الاحتلال البريطانى، وكان نداء الرجولة سريعا فى ملء المواقف الصعبة ، بل كان حامل الشهادة المتوسطة أكفأ من حملة الإجازات العليا فى هذه الأيام العجاف!. لقد كان الإيمان ـ ولا يزال ـ صانع المعادن النفيسة والأخلاق الصلبة. ص _041
سعى القلوب شعرت بضيق فى نفسى، وانحراف فى مزاجى! وأدركت أن حكمى على الأمور سوف يبعد عن الصواب إذا بقيت سجين هذه الحال الرديئة، فقلت أستغفر الله وأتوب إليه لعل صدرى ينشرح وميزانى يعتدل!!. ولكن هاجسا تحرك فى نفسى يقول: علام تستغفر؟ إنك ما أخطأت فى شىء ولا ظلمت أحدا، فاطمئن... فقلت لنفسى: وهل انتظر حتى أسىء أو أعتدى ثم استغفر الله؟ إن الحال التى تعانيها هى الوعاء التى تولد فيه السيئات ثم تنمو، حتى إذا جاءت المناسبة للظهور تحركت. والقلب القاسى هو الذى يدفع إلى الكبر حينا وإلى الكنود حينا وإلى استباحة الآخرين حينا، فإذا شعرت أن قلبك أخذ يقسو فاستشعر الخطر وتذكر قوله تعالى (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) إن الله قد يمتن بالنعمة على واحد من خلقه، فيقول المسكين: هذه ثمار عبقريتي ونتيجة جهدى وكفايتى ويمتلئ اعتدادا وفخرا (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) فليرقب المرء أحواله الباطنة فإن فساد الظاهر يغلب أن يكون من رداءة الباطن.. جاء فى السنة أن أحد الراسخين فى العلم جاءه مجرم اعتاد القتل، وسأله هل لى من توبة، فأجابه العالم من يمنعك من التوبة؟ دع أرضك التى تعيش فيها، والحق بأرض صالحة تعينك على الاستقامة! فانطلق الرجل صوب القرية التى تعينه على تقوى الله. ص _042(4/39)
ولكن منيته أدركته فى الطريق! قيل إنه لما أحس دنو أجله أخذ ينوء بصدره إلى الإمام، ولكن الأجل عاجله. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. قالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائبا، مقبلا بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط!! فأتاهم ملك فى صورة آدمى فجعلوه بينهم ـ حكما ـ فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التى أراد بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة شبر واحد بت فى مصيره! لم يكن نشاط قدم تسعى، بل كان جهاد قلب تائب مستميت فى العودة إلى الله، جعل صاحبه ـ وهو يغالب الموت ـ يتحرك إلى الأمام. إن المؤمن يتطلع دائما إلى الكمال ويتبرم دائما بالنقص ولا يستكين إلى وضع إذا ركن إليه يوشك أن يهبط إلى القاع ولأمر ما قال رسول الله: " أيها الناس توبوا إلى الله فإنى أتوب إلى الله فى اليوم والليلة مائة مرة " هذه دعوة حثيثة إلى التسامى مادامت الحياة. *** ص _043(4/40)
مسلمون فى ألمانيا قضيت فى " ألمانيا" عشرة أيام للتعرف على أحوال المسلمين هناك، وفى أثناء انشغالى بلقاء إخوانى ودراسة قضاياهم رأيت مظاهر الارتقاء الإدارى والحضارى الذى بلغه الألمان وشيوع النظافة والنظام فى كل شىء، ولفت نظرى أن الجد والرضا يصبغان وجوه العاملين فى كل مكان فلا أثر للاسترخاء والعبوس! وطويت نفسى على ما بها وأخذت أفكر فى حال قومى!. المسلمون هنا يبلغون مليونين ونصفاً أغلبهم من الأتراك، وبقيتهم من العرب، ومع أن الوجود الإسلامى مضى عليه قرنان إلا أنه تنامى فى الثلاثين سنة الأخيرة وتضاعف عدده. ويتوزع الأتراك على ثلاث طوائف كبيرة تتنافس فى الخير، ومع تمايزها فلا شقاق بينها، بل لاحظت حرص الجميع على الهوية الإسلامية وحماسهم فى دراسة الكتاب والسنة وإن كانت الكتب التى يستفيدون منها كالغذاء الصعب الهضم!. أما العرب الوافدون من أماكن شتى فتقودهم الطلائع الإسلامية المنظمة، وقد صلينا الجمعة مرتين فى مسجد " آضن " مع جماهير من الرجال والنساء، وقبل عودتنا بيوم سجلنا إسلام إحدى الألمانيات، وكانت بادية السرور رائعة الاحتشام! وحرية التدين مكفولة، وليس هناك عائق أمام إقامة الشعائر. والشعب الألمانى نصفه من الكاثوليك ونصفه الآخر من البروتستانت، وهو شديد التمسك بنصرانيته ولعل أقوى دليل على ذلك أنه لما انهزم فى الحرب العالمية الأولى، ثم بلغه أن " أعداءه " الإنجليز دخلوا بيت المقدس دقت الكنائس أجراس النصر لانتهاء الحروب الصليبية كما أعلن ذلك "مارشال ألنبى"!! لقد نسوا جراحاتهم، وما اقتطع من أراضيهم وأموالهم وذكروا شيئا واحدا، أن الإسلام انهزم!. ونحن لا نعجب لهذه الأحقاد التاريخية، ولا نغفل عن آثارها فى السياسة المعاصرة، وودت لو أحسنا مواجهتها!. ص _044(4/41)
إن المسلمين مع ما يتمتعون به من حرية إقامة الصلوات ينقصهم شىء مهم، هو حرية إقامة المدارس الذى تتربى فيها ناشئتهم، إن هذه الحرية مفقودة. والخطر على مستقبل الأجيال الجديدة قائم. والسبب فى ذلك عدم اعتراف الدولة هناك بأن الإسلام دين! كما اعترفت بذلك بلجيكا والنمسا، ويسعى المسلمون فى ألمانيا للحصول على هذا الاعتراف، وجمهرتهم تسعى وراء ذلك سعيا حثيثا، وتبذل جهدها لبلوغ هذا الهدف. ومنذ أيام أقام المسلمون حفلا كبيرا لبناء أول مسجد فى ألمانيا منذ 270 سنة، وكان لزاما عليهم أن يذكروا بالتقدير والشكر الملك "فردريك " الذى أصدر إعلانا بضمان الحريات الدينية، ومكنهم من إقامة المسجد! وقد كتبوا هذا التقرير فى إعلان يحمل صورته... وبعد أيام وجد الإعلان مشقوقا والصورة ممزقة!!. إن أحد الغلاة فعل ذلك لأنه يكره التصوير!! وقامت إدارة المسجد بلصق إعلان آخر... قلت: أبهذا المسلك نحصل على الاعتراف بالإسلام؟ وتحصين الأجيال الجديدة؟ أما نحسن التصرف؟. *** ص _045(4/42)
فى المانيا إنهم يعملون! فى أثناء التجوال ببعض المدن فى ألمانيا لاحظت أن الزحام خفيف، وأن نصف الكراسى فى المركبات العامة خالى، وأن الشوارع لا تسمع فيها إلا همسا..! قلت لصاحبى: أين الناس؟ فأجاب: الناس فى مقار أعمالهم، فمن الصباح الباكر إلى منتصف السابعة مساء يكون العمال فى أعمالهم والموظفون فى مكاتبهم، والطلاب فى مدارسهم وجامعاتهم إذ أن الدراسة يوم كامل..! فإذا انقضى يوم العمل بدأت الراحة داخل البيوت ، وهى بيوت مزودة بما يعين على الاستجمام. وسرحت بى الذكرى إلى القاهرة وغيرها من العواصم العربية. الزحام شديد والعمل صورى والناتج قليل!. إننى فى الفندق الذى أنزل به أسمع وقع الأقدام على الأرض وكأنها خطوات عسكرية. وأرى الموظفين يؤدون أعمالهم وعلى أفواههم بسمات وفى وجوههم بشاشة. الناس هنا لا يرون الحياة إلا عملا..! على أن هناك شيئا رابنى، وأعلنت كراهيتى له، فتى وفتاة يسيران معا. الفتى يلبس سراويل طويلة، والفتاة تلبس سراويل لا تكاد تغطى نصف أفخاذها!. قلت فى نفسى لماذا هذا التناقض؟ والواقع أن أغلب النساء ما يمنعهن من العرى إلا الجو البارد! فإذا ساد الدفء تكشفت أعضاء ما يسوغ أن تكشف... إن الناس فى الغرب يشرحون النساء شرحا منكرا، وقد تحدثت مع أحد المستشرقين، فقال هذه فروق بين حضارتين، بين مجتمعنا ومجتمعكم!. فقلت له: كان آباؤكم عندما يسافرون يلبسون المرأة حزام العفة وكانت الثياب طويلة سابغة! فماذا عراكم أنتم؟ أكان آباؤكم ضالين مثلما تنظرون إلينا؟ فسكت ضاحكا.. ص _046(4/43)
على أن الغربيين يقيمون فواصل غليظة بين الجد واللهو فلا يسمح أبدا بعبث فى أوقات العمل، بل الأعصاب والأفكار مشدودة إلى الإنتاج الكثير والثمر الوفير. فإذا انتهى يوم العمل ترخص القوم فى المجون والعبث! والمأساة عندنا تظهر فى الخلط القبيح بين الأمرين، بل نحن نكاد نضيع وقت العمل سدى!!. وبعض الناس عندنا يجعل العمل الإدارى متنفسا للعقد النفسية، وينظر للجمهور الذى يتردد عليه كأنه من طبقة أدنى! أو كأن الناس عبيد أبيه أو أمه. وأذكر أن صديقا لى دخل على أحد الرؤساء فى حاجة له تتصل بمبنى يملكه فإذا الموظف الكبير ينظر إليه شزرا ويتناول الورق بتأفف، فقال له صاحبى مقتحما أسواره: إذا كنت نصرانيا فالله عندكم محبة! وإذا كنت مسلما فنبيكم يقول تبسمك فى وجه أخيك صدقه!! فما هذا الكبر البادى على وجهك؟ إذا لم تخدم المصلحة العامة فما عملك هنا؟. والواقع أن صورة هذا الموظف السمج لا ترى هناك، الرئيس والمرءوس يؤديان عملهما بلطف ودقة وعندما قدمت جواز سفرى للموظف المختص أخذه ورده فى لمح البصر، وتحول إلى غيرى على عجل، العمل هو الهدف! لا مكان لشيء آخر. ** * ص _047(4/44)
الإخلاص الإسلام يقين فى الأفئدة وزكاة فى النفوس وشرف فى الأخلاق وسمو فى المسالك على نحو ما قال الرسول الكريم "إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفسافها" وفى كل شبر من الأرض ولحظة من الزمن تستطيع أن تقدم هذا الإسلام مُستقى من الكتاب والسنة وتطبيقات الخلافة الراشدة واجتهادات كبار الأئمة وأفهام أولى الألباب. عيب بعض المتحدثين فى الإسلام أنهم ينقلون علومه عن عصر ملوك الطوائف، أو عصور المستعجمين من المماليك، أو سياسة الدويلات التى خرجت من جذع الدولة العباسية كما تخرج من جذر الشجرة فروع طفيلية تنقصها ولا تزيدها. إن القدوة فى العلم والحكم تؤخذ من السلف الأول، ولا تؤخذ من خلوف تائهين، وقد رأيت البعض يجادل بحدة عن أن مشورة أهل الحل والعقد مُعلمة لا ملزمة!! فقلت هازئا: لماذا سُمُّوا إذن أهل الحل والعقد؟ وهناك من يقف مكتوف الأيدى أمام قضية حقوق الإنسان لأن هذا العنوان الجديد لم يُعرف فيما قرأ من كتب، كأن الإسلام هو المصطلحات التى شاعت وحدها قديما، أما المعانى التى استبحرت فى القرآن الكريم وتألقت فى السنة الشريفة فهو بمعزل عنها... وثم أمر آخر، إنه لا دين إذا لم يتكون القلب التقى والعقل المؤمن فمن فقد الضمير الصاحى والفكر الذكى فلا خير فيه. إن الأنبياء جميعا اتجهوا إلى الإنسان يصقلونه ويتعهدونه، وبعيدا عن عصا الشرطى كونوا الرجال والأطفال أى صنعوا مجتمعا وضيئا مكينا فى أيام كان الحكم فيها للوثنيات الحجرية أو البشرية، والذين يعجزون عن بناء هذا المجتمع يستحيل أن يقيموا حكما إسلاميا، والذين يقاومون بناء هذا المجتمع لابد أن تحصدهم سنن الله فى العمران البشرى (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). ص _048(4/45)
وإذا كان لابد عن قبول هزيمة ما فأنا أوثر شعبا مؤمنا أنجح فى بنائه على حكم سيئ أفشل فى اقتلاعه! أو بتعبير الدكتور مصطفى محمود " أفضل للإسلام أن يتربع على ضمائر الناس ويسوس حياتهم من أن يتربع رجاله على كراسى السلطة". وأعتقد أن نجاح الدعاة فى نشر الإخلاص والمرحمة والتعاون والنظام والنظافة والنشاط والإيثار شئ لا يقدر بثمن، وهذه الأخلاق هى المهاد الحقيقى لكى يقوم من تلقاء نفسه حكم صالح... لطالما قررنا أن الحكم صورة صادقة للشعب نفسه وأن الأمر كما قال القرآن الكريم (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). أذكر أنى رأيت رجلا متحمسا فى نشر الدعوة ـ كما يقول ـ فارتبت فى نيته ورأيت أن اختبره! فقلت له: تحب الشهرة؟ قال: ولم لا؟ قلت: هل أدلك على أخصر طريق للشهرة؟ قال : نعم! قلت: تشتم النسوان وتتجرأ على ذوى السلطان ! وأنا أضمن لك بعدئذ مكانة بين الناس، ومكانا فى جهنم!! قال: ولماذا المكان فى جهنم وأنا أذكر الحقائق؟ قلت الحقيقة إذا لم يقصد بتقريرها وجه الله كانت وبالا على صاحبها، وقد قرأت الحديث الصحيح " الرياء شرك ". قال: أيعجبك ما ترى من تهتك وخلاعة وفوضى؟ قلت: كلا ما يعجبنى، وليست حربه بالأسلوب الذى تفعل! إن التربية المتأنية والشرح المتتابع والموعظة الحسنة والجدال المبتسم أجدى على الإسلام من الشتم، والتهجم، وليكن الله من وراء القصد، ولتعلم أن المستقبل بيده. ص _049(4/46)
المثيرات هناك مثيرات ترد الإنسان إلى الله وتشعره بقربه وهيمنته عليه وإطلاعه على سره ونجواه.! ما هذه المثيرات؟. قد تكون لحظات عابرة تومض ثم تخفت، ويعود المرء بعدها إلى غفلته العادية وقد يطول أمدها ويعمق ويعقبها تغير فى السلوك العام!. إننى أنتهز هذه المثيرات وأرتب عليها أمورا ذات بال حتى لا تضيع سدى.. أذكر وأنا طالب أقضى إجازتى فى القرية أنى صليت الفجر فى المسجد ثم قررت أن أخترق الحقول متجها إلى النيل لأسير على شاطئه ساعة كانت الظلمة لا تزال تسود الأرجاء، وأصوات الضفادع والجنادب لا تزال تسمع فى الترعة القريبة! قلت حسنا فلأتل أنا بعض ما أحفظ من قرآن، ولأدخل فى مسابقة مع هذه الكائنات التى تسبح بحمد ربها وكنت متوقفا عند سورة الإسراء فاستأنفت التلاوة وأنا اخترق عيدان الذرة وشجيرات القطن وأنواع الزروع، وهجس فى نفسى هاجس غريب. قلت إن الطين انشق عن هذا النبات الناضر وهذا الثمر النضيد أفلا يمكن ـ ونفسى من هذا الأصل ـ أن تزدان بصنوف من الثمر الجيد والخير الكثير؟ فدعوت بصوت عال: يا من يخلق من الطين حبوبا ورياحين اجعل منى إنسانا مورقا بالخير، حافلا بالثمر!! إنك على ما تشاء قدير..!! وبلغت شاطئ النيل وأنا أناجى وابتهل، ثم سرت قليلا وقد سرح فكرى مع رحلة أخرى وإنسان آخر، مع أبى الفرج بن الجوزى الداعية الكبير قالوا: كان يستحب الدعاء بين القبور!. لقد استحببته أنا مع منابت الحياة ومطالع الأزهار والثمار، فبيننا فارق كبير!! ثم قلت: النتيجة واحدة، إن الرجل يقتل غرور الدنيا فى نفسه عندما يسير بين مصارع الآمال، وخواتيم هذه الدنيا، ويتعلم أن الله هو الحق المبين. أما أنا فقد أتيت الحقيقة من طرفها الآخر.. أو من نشأتها الأولى.! ص _050(4/47)
إن كثيرا من الناس يودع أحبابه الثرى ثم يذهب لشأنه دون ذكرى واعية أو عظة بالغة فهل تلك قصة الحياة..؟ وتذكرت شاعرا من محلة اسمها " الدير " قريبة من مقابر المدينة يقول: وبالدير أشجانى، وكم من شج له دوين المصلى بالبقيع شجون! رُبى حولها أمثالها إن أتيتها قرينك أشجانا.. وهن سكون!! إن المثيرات التى تخترق مجرى الحياة العادية كثيرة، والمهم حسن استغلالها فلعلها تكون نقلة من طريق إلى طريق ومن اتجاه إلى اتجاه. ولنعلم أن الحضارة المعاصرة ترفض كل ما يعود بالناس إلى ربهم، وتطرب لكل ما يربط الناس بالدنيا وفتونها وزخرفها. ولست محاربا للحياة ولا كارها للبقاء فيها ولكنى مستيقن أن الخلود فيها مستحيل، وأن لربها حقوقا. من العقوق أن ننساها، ومن العقل أن نحافظ عليه. ص _051(4/48)
حماقة الفطانة من أخلاق الأنبياء، وهى بصيرة تدرك الأعماق الخفية والأبعاد القصية، وترى الأشياء على ما هى عليه دون نقص أو زيادة، وتتلطف فى معاملتها واستخلاص النتائج منها.. ذلك أن هناك بصرا أحول، أو بصيرة حولاء ترى المائل مستقيما وترى الواحد جمعا، وتبنى النتائج على ما تهوى فبينها وبين الواقع مسافة بعيدة، وقلما يصح لها حكم.! وأحق الناس بالفطنة رجال الدعوة الذين يتبعون الأنبياء ويقومون على رسالاتهم ويُقدمون من أنفسهم وسيرتهم نماذج للصلاح والتقى ! ولا أمل فى دين أو دنيا مع البصر الأحول. تأملت فيما وقع ببنى سويف، وفى أعداد الجرحى والقتلى الذين تمخضت عنهم معركة عمياء للاحتفال بعيد الفطر قبل ثبوته فى مصر، أو بعد ثبوته فى قطر آخر، وتذكرت ما وقع للأستاذ الشهيد حسن البنا عندما دخل قرية فوجد أهلها منقسمين حزبين، هذا يريد أن يصلى التراويح ثمانى ركعات، وذاك يريد أن يصليها عشرين ركعة، وأشرعت العصى واستلت السكاكين وبدت نذر الحماقة المزعجة! فأمر الأستاذ بإغلاق المسجد عقيب صلاة العشاء، وإلغاء التراويح به، وقال ليصل من شاء فى بيته العدد الذى يريد من الركعات. إن صلاة التراويح نافلة، وإن صلاح ذات البين فريضة، وإذا كانت الفريضة ستضيع لإقامة نافلة فلا أقامها الله. وقد تساءلت بعد قتل بضعة أشخاص، وجرح كثيرين: فى سبيل ماذا كل هذا؟. إن صلاة العيد سنة، لو صح وقتها، ووقتها عند الجمهور لم يأت، فلماذا تسفك فى سبيلها دماء وتزهق أرواح !.؟! وقلت: إن هذا من تلبيس إبليس على بعض العابدين كما يقول ابن الجوزى. وفوجئت بشخص يقول: ابن الجوزى لا يحتج به! ص _052(4/49)
قلت: إمام مؤرخ مفسئر داعية أديب لا يحتج به فبمن يُحتج إذن؟ قال: قرأنا أن ابن الجوزى كان يشرك فى دعائه لله، كان يذهب إلى القبور فيدعو! فقلت يدعو الله ولا يدعو الأموات! وماذا فى أن يتذكر المرء مصارع البشر فى هذه الحُفر، وهمود حركاتهم وضجيجهم تحت هذه الصفايح فيرق قلبه ويلجأ إلى ربه ويجأر بدعائه أهذا شرك أيها الأحمق؟ إن تفكيركم مُلتاث، ولكم جراءة على أئمة الفقه ورجالاته لا تزيدكم إلا خبالا!. ألا فلتعلموا أن تلمسكم العيوب للأبرياء جريمة تبطل أعمالكم وقد قال رسولنا الكريم "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ". وإذا كان أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى مشركا فمن تصح عقيدته بعده؟ ثم ينبغى أن تعلموا أن الأمة التى لا تاريخ لها لن يكون لها حاضر ولا مستقبل، وإذا كان شغلكم الشاغل تجريح الرجال، وهدم الجبال، فستقع الأنقاض على رءوسكم وتخمد تحتها أنفاسكم. قليلا من الفطنة، قليلا من الأدب، قليلا من الإنصاف حتى ننقذ أمتنا من ورطات أحاطت بها. * * * ص _053(4/50)
عقوبة الإعدام منظمة العفو الدولية تقوم بعملين متناقضين، فهى تسعى إلى كشف الجرائم الموجهة ضد البشر حيث كانوا، وتشهر بأصحابها وتحاول تطهير المجتمعات منها، وهذا عمل حسن نؤيدها فيه، ولكنها تبذل جهدا آخر فى إلغاء عقوبة الإعدام من قوانين العالم كلها، وتمهد للقتلة مستقبلا فى السجون يتناولون فيه الغذاء وقد يستمعون إلى الغناء! وهذا تفكير مستغرب نرفضه جملة وتفصيلا. إننا عن طريق العقل والوحى نرى أن القاتل يقتل، وإن إفقاده الحياة جزاء عدل على ما جنت يداه. ومعروف أن العقوبة لها جانبان جانب يرمى إلى حماية المجتمع، وتخويف الآخرين من القصاص إن هم اقترفوا هذا الإثم، وذاك معنى قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة). إن الإجهاز على مجرم أزهق روحا بريئة يصون أرواحا أخرى كثيرة و يستبقى لها السلامة والأمان، وذاك ما أدركه العرب الأقدمون فى جاهليتهم عندما قالوا: "القتل أنفى للقتل. ". والحق أن الإعدام رادع جيد لذوى الضمائر المظلمة. أما الجانب الآخر فهو يتصل بالقاتل نفسه. لماذا نكلف بصيانة حياته وهو لم يصن حياة الآخرين؟ لماذا لا يذوق طعم الموت الذى أذاقه غيره؟ لماذا نرحمه وهو لم يرحم أحدا؟ إن العشب السائم يقلع. والعضو الضار يبتر. والرحمة به عدوان على الغير. ص _054(4/51)
ومنظمة العفو تسير فى الطريق التى سارت فيها القوانين الوضعية فضرت وأساءت، فالقضاء فى أغلب البلاد العربية أظهر الرأفة بالقتلة ولم يحكم بالقصاص العدل إلا فى عُشر جرائم القتل فكيف كانت العاقبة؟ اتسعت دائرة الإجرام ولم تجف الأرض من الدماء المسفوكة طلبا للثأر أو إشاعة للجريمة. ولو أن كل قاتل قتل لتضاءل عدد الجرائم إلى حد بعيد. ذلك وليس القتل واجبا لمن يقتل وحسب! بل إن الفساد فى الأرض يستحق العقوبة نفسها، لأن مثيرى الفوضى ومستبيحى الأعراض وناشرى الذعر بين الناس لا يجوز التهوين من خطرهم على الحياة العامة. وقد قال الله تعالى : ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). إن هذا قانون طبيعى. فنحن نبيد الجراثيم ونهلك الحشرات المؤذية حفظا للصحة العامة، إن الإنسانية تكسب كثيرا عندما تخلو الحياة من قطاع الطرق ومغتصبى الأعراض، ولن تخسر شيئا من اختفائهم تحت أطباق الثرى. المطلوب فقط أن يتم ذلك أمام قضاء بصير عادل نزيه، وأرى أن تتم العقوبة علانية حتى تحسم ميول الإجرام عند بعض المرضى، فالاستقامة تتم بين عوامل الرغبة والرهبة معا! وأخيرا ننبه الساعين إلى إقامة فرع لمنظمة العفو الدولية عندنا أننا نرفض التفريط فى آية من كتاب ربنا، ونساهم مع أهل الشرف فى حماية حقوق الإنسان ومقاومة من يعتدى عليها، ونبسط أيدينا مصافحين ومؤيدين! أما القوانين الوضعية فقد آن الأوان لدفنها وإراحة البشر منها!. ** * ص _055(4/52)
الوحدة الوطنية للوحدة الوطنية فى مصر صورة مستغربة، أساسها أن يترك المسلمون دينهم، وأن يترك الأقباط دينهم، وبعد التعرى من العقائد والعبادات ينصهر الكل فى بوتقة الحب الخالص لمصر، وبذلك تنشأ أمة عصرية تحيا بعيدة عن التعصب والرجعية!! هذا ما يتحدث به العلمانيون ويدعون إليه الأجيال الجديدة.. ونحن نقاوم كل دعوة لترك الدين، ونؤكد أن الوحدة الوطنية الصحيحة قوامها شعب مؤمن بمواريثه، بعيد عن الإلحاد والانحلال.. وأصارح بأنه لا يسرنى أن يتحول النصارى إلى ملاحدة تحت عنوان شيوعى أو وجودى إن المؤمن بالوصايا العشر أقرب إلى نفسى من الكافر بها، والمرتبط بعبادته أولى بالثقة ممن لا يعبد إلها، ولا يضبطه وحى ! والعلمانيون فى مصر أو فى غيرها يحدون الجماهير إلى مواطن الخزى والندامة، وينبغى أنا نحشو أفواههم بالتراب! ماذا لو بقيت الوحدة الوطنية تستمد قوتها من علاقة سماوية شريفة؟ تفرض على كل مؤمن الوفاء بتعاليم دينه؟ إن هذه الوحدة المتدينة غائرة الجذور فى تاريخنا، وقد توارثنا احترامها من آبائنا وأجدادنا فهى ليست وهما ولا خيالا.. وأنا بصفتى مسلما لم أشعر بأن الحياة حق لى وحدى ـ كلا ـ من خالف عقيدتى فأرض الله واسعة أمامه لن أعرقل فيها خطاه، وقد تعلمت من دينى مؤاكلة من يخالفنى فى أصل الإيمان والتزوج منه! إن أرضنا لم تعرف الحروب الدينية بين المواطنين، وإنما عرفت هذه الحروب عندما استعمر الرومان مصر، أيام وثنيتهم أو بعد دخولهم المسيحية وفهمهم لعقائدهم على نحو يخالف مذهب المصريين.. ص _056(4/53)
إن أوروبا هى التى ألفت الفتن والمذابح الدينية، وما عرفنا ذلك فى تاريخنا ولن نعرفه.. ويخيل إلى أن العلمانيين فى مصر عندما يخلطون الحق بالباطل ويلبسون تاريخنا بتاريخهم. إنما يقصدون الإساءة للإسلام أصلا، ثم تجيء الإساءة إلى غيره تبعا، ومن ثم تتابعت حملاتهم على الشريعة دون العقيدة، وعلى المعاملات دون العبادات. فهل يعنى ذلك أنهم يرضون عن الإسلام فى المسجد، ويكرهونه فى المحكمة؟ الواقع أنهم ما صلوا لله ركعة، ولا ربطتهم به علاقة، وكراهيتهم لآيات المصحف كلها، ما يتصل بالفرد وما يتصل بالدولة، ولكنهم يتدرجون فى حربهم للإسلام، فإذا قضوا على جزء انتقلوا إلى ما بعده..!! وهم ليسوا مخلصين للوحدة الوطنية، وإلحادهم يجعلهم جسرا تعبر عليه أوروبا، لكى لا تبقى إسلاما ولا كنيسة وطنية!! إننى أدعو المسلمين والأقباط إلى الحذر من هذه الصيحة الجديدة واستكشاف أصحابها وتبين دخائلهم.. ولن نتوانى نحن المسلمين فى ذود هذا الجراد عن زروعنا وحماية عقيدتنا وشريعتنا معا من هجومهم الغادر! إن المصحف أمانة فى أعناقنا ولن نترك آية واحدة منه، وإذا كانت الليالى قد جاءت علينا فإن الفلك لن يتسمر (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). **** ص _057(4/54)
أخلاق " الإيدز " "الإيدز" طاعون هذا العصر، ومصدر الهلاك الذريع لآلاف مؤلفة من البشر، وإنه لمن المفزع أن يفقد امرؤ مناعته الطبيعية ويصبح جسمه ممرا مفتوحا أمام الجراثيم الغازية فيأتيه الموت من كل مكان!! وقد انتشر "الإيدز" فى أمريكا وأوروبا ولكن القارة التى سقطت فى براثنه وانهارت أمامه هى أفريقيا، فإن الشعوب السوداء رحبت بالحضارة الحديثة ترحيبا أعمى جعلها تأخذ أسوأ ما فيها وتقع فى عقابيله!! ومعروف أن البيئات الإسلامية لا تزال فى مأمن من هذا البلاء ـ وإن كانت مهددة به ـ فالمسلمون يمسون ويصبحون يسمعون من كتابهم كيف أهلك الله قوم لوط، وهدم عليهم مدينتهم، والفقه الإسلامى يجعل فاحشتهم من الكبائر التى تُعالج بالجلد أو القتل. والتقاليد المرعية ترى الشذوذ منكرا يمس الشرف والمكانة لا سيما وقد رويت أحاديث توصى بقتل الشواذ وتطهير المجتمع منهم.. وقد اشتد استغرابى لما علمت أن رجال الكنيسة فى إنجلترا وافقوا على تشريع يبيح اللواطة لمن يريد!! ووافق على ذلك مجلس اللوردات والعموم، وكان رئيس كنيسة "كانتربرى" بين الموافقين، وقد شاعت هذه الموافقة بين المسئولين فى أوروبا وأمريكا... ولم يسمع باسم الله نكير عال على هذا السقوط. قلت: ماذا جرى لرجال الدين هناك؟ هل جرفهم السيل النجس فى مده فلم يستطيعوا المقاومة؟ وما هذا التواطؤ الغريب على الصمت؟ ص _058(4/55)
إن من بقايا الوحى عندهم ما جاء فى سفر اللاويين " إذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعلا كلاهما رجسا، إنهما يقتلان، دمهما عليهما "! ومن بقايا الخير عند القوم قول عيسى عليه السلام " كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه "! نعم فالعين تزنى كما جاء فى تراثنا... لكن هذه التعاليم تطايرت أمام الزحف المادى المتمرد على الوحى الأعلى، وأخذ التشريع يستمد أحكامه من الشهوات (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين). والمصيبة المخوفة عندنا أن بعض الرجال فتنوا بالحضارة الحديثة، وأمسى لهم دوى شديد فى دور الإعلام ينظرون إلى وحى الله بتجهم وإلى الخروج عليه باستهانة ويريدون نقلنا إلى أوروبا أو نقل أوروبا إلينا. من هؤلاء المقلدين العميان نحذر وندق ناقوس الخطر، إذا كان غيرنا قد تمرد على ما لديه من وحى فهو وشأنه. وما يستغرب على من نسى الأصول أن ينسى الفروع، والجاهل بالله جدير بأن ينسى تعاليمه! لكننا نحن المسلمين ينبغى أن نتشبث بالأصول والفروع معا، وأن نخشع عندما نسمع قول الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). * * * * ص _059(4/56)
من الأقزام أرفض أن يتحول ذم المتطرفين إلى ذم للإسلام نفسه! ما ذنب الإسلام إذا تحدث عنه متطرف أبله، أو أساء تصويره متدين جهول؟؟ لكن حفنة من الكتاب الملاحدة تتربص بالدين وحقائقه وتنتهز الفرص للنيل منه. وقد حدث فى إحدى الندوات النسائية أن وقف امرؤ سليط اللسان يتحدى الإسلاميين قائلا: ماذا تقدمون للناس فى عالم الطب؟ تقولون الشفاء فى أبوال الإبل وألبانها؟ ثم رفع عقيرته بغناء لاذع يحاكى به بائعى العرقسوس فى الأحياء الشعبية! تقولون شفا وخمير يا بول البعير.!! لم أشهد هذا الحفل، ولكن نبأه جاءنى من عشرات الناس وشعرت بسخونة فى رأسى من شدة الغضب، قلت: إن الحضارة الإسلامية قدمت الشىء الكثير فى عالم الطب وقد ظلت أوروبا قرنين من الزمان تعتمد على كتاب القانون الذى ألفه ابن سيناء. كما أن ابن النفيس كان أول من كشف أثر العدسات فى خدمة النظر القصير! أهكذا يجحد فضلنا شيوعى عربى؟ وينتقل من محاربة المتطرفين ـ كما يزعم ـ إلى محاربة الإسلام نفسه؟ إن عالما منصفا مثل " تيرى فاير " تحدث فى جلسة الافتتاح لجماعة الصداقة الألمانية العربية فقال: إن جميع العلوم التى تدرس الآن فى الغرب، لابد أن تكون من صنع العرب! إن العرب استفادوا من الحضارات التى سبقتهم وأسدوا جديدا لمن جاء بعدهم... لكن شيوعيا عربيا قزما يهجو قومه ويجرح دينه ويقول قدمتم للناس أن الشفاء فى أبوال الإبل وألبانها ! قال لى صديق: لا يذهبن بك الغضب، إنه شخص معروف بالدعابة والتبذل!! ص _060(4/57)
قلت: بل هو كما قال رب العالمين فى أمثاله (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) إننى أحذر العابثين بالإسلام من اللعب بالنار فإنها حارقتهم حتما.. لقد لاحظت أن الزنادقة من حملة الأقلام يتسترون وراء محاربة التطرف فينالون من الإسلام ذاته، لقد حاربنا التطرف قبلهم وكنا على أصحابه أشد وطأة، وخطة هؤلاء الآن الذهاب إلى كتب التراث ونقل نتف منها مبتورة عما قبلها وما بعدها لتضليل السذج على نحو ما قال الشاعر الماجن: ما قال ربك : ويل للأولى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). ص _061(4/58)
الأيدى العابثة استمعت إلى ندوة عن التعصب الدينى من إذاعة لندن، وساءنى أن يكون ذلك لمناسبة ما ينشر من حوادث دامية بين مسلمى مصر وأقباطها.. إننى خبير بالأوضاع فى بلادى وموقن بأنه لا توجد حروب دينية ولا فتن طائفية، وأن كتلة الشعب سليمة، وأن أحداثا فردية أريد تضخيمها دون سبب معقول وأن الذين يصطادون فى الماء العكر يروجون هذه الأحداث لنيات مغشوشة!! بل إن عقد هذه الندوة يثير التساؤل والعجب؟ فإن أحدا من المشاركين فيها لم يتحدث عن التعصب الدينى اليهودى، وكيف أنه باسم الدين يجاء بأقوام من روسيا وبولندا وألمانيا واستراليا ليحتلوا أرض فلسطين ويطردوا أصحابها من دورهم! هذا العدوان الوقح باسم التوراة يُسكت عنه، ويهاب ساسته ويمر رجاله بسلام!! والمجزرة التى وقعت فى البوسنة والهرسك، والتى لم يعرف العالم مثيلا لها فى نصف القرن الأخير، والتى أكل الحقد الدينى فيها الأطفال والنساء والكبار والصغار لأنهم مسلمون مهدرو الحقوق... هذه المجزرة لا يطول الحديث فيها عن وحشية التعصب وقساوته المفرطة!! إن الحديث يطول عن التعصب الدينى فى مصر ليختلق خرافة ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يلفت الأنظار إلى الدخان المفتعل! والمعروف أن المصريين من أهدأ الناس أخلاقا، وأن مسلميهم حلماء عقلاء وأن أقباطهم سعداء موفورون.. ولكن الذين يثيرون القضية كلها يطيلون حبل الكذب ثم يكشف عن خبيئتهم ص _062(4/59)
سائل يقول: إن الأجهزة الحكومية تخلق هذا التعصب عندما تصر على إثبات العقيدة الدينية فى صحيفة الهوية الشخصية! لماذا لا تخلو هذه الصحيفة من النسب الدينى؟ يقال هذا الكلام واليهود يبحثون عن بقاياهم فى الحبشة واليمن ليدعموا حكمهم فى فلسطين، ويقال هذا الكلام وأول حارق للمسجد الأقصى قادم من استراليا! ويقال هذا الكلام والفاتيكان يعتذر لليهود، ويبرئهم من التهم! يؤسفنى أن تكثر المؤامرات ضد الإسلام وحده، وأن تتعدد المحاولات لإخماد الصحوة الإسلامية، وإثارة أقاويل السوء حولها!! إننا نعرف الكثير من الوقائع، ونبصر الأيدى العابثة فى الظلام، ومع ذلك فنحن نؤثر الصمت كى لا يتسع الخرق على الراقع ولا يعز العلاج على محبى الإصلاح.. لا توجد حروب دينية فى مصر، وإنما يوجد علمانيون يريدون أن يطيح الدين كله، وأن تنقطع صلة الأرض بالسماء، وأن يعيش البشر وفق أهوائهم لا تبعا لما جاء به المسلمون. *** ص _063(4/60)
تهجما صبيانيا القول بأن الفقه الإسلامى فى عصوره الأولى انحصر فى دائرة العبادات يحتاج إلى إعادة نظر، فإن هذا الفقه ملأ ميادين كثيرة واستبحرت بحوثه حتى لكأنها تستمد من الآية الكريمة (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ! وفى القرن الهجرى الثانى كان لأبى حنيفة رحمه الله تلميذان مشهوران، الأول أبو يوسف الذى ألف كتابه الخراج فى الفقه المالى والإدارى. والثانى محمد بن الحسن الذى ألف فى فقه العلاقات الدولية، وله مدرسة مشهورة بين علماء القانون الدولى فى أوروبا وقد قرأنا لابن حزم فصلا فى فقه العدالة الاجتماعية لو كتبه غيره من مفكرى الغرب لبلغ به قومه الأوج.! لكن المسلمين فى فترة انحسارهم الحضارى حصروا نشاطهم فى نطاق العبادات، وعجزوا عن مواكبة الزمن، فأساءوا إلى أنفسهم ودينهم.. ثم جاء عصر التقليد المحض فزاد الطين بلة، وأمست الدراسات الفقهية بحوثا ميتة فى الصلاة والحج واقتسمها أتباع المذاهب الأربعة فكادت الصلات بالكتاب والسنة تنقطع وصار الفقه ترديدا لأقوال الفقهاء فى عصر الاضمحلال. ومنذ قرن انفجرت نهضة صالحة تهيب بالناس أن يعودوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم بدل الاحتباس فى أقوال رجال المذاهب المختلفة، وهذا حسن بيد أنه مسلك يحتاج إلى إيضاح. فإن الأئمة الأربعة الأوائل، ومن دار فى فلكهم من الفقهاء كانوا يستنبطون من الكتاب والسنة، ولهم اجتهادات مشكورة ومحاولة محوهم من تاريخنا العلمى خطأ واستهجان مناهجهم أو التهوين من شأنها لا يسوغ، إن باب الاجتهاد قد فتح ليواجه ص _064(4/61)
المسلمون قضايا دولية ومحلية وشئونا تربوية واجتماعية لابد من مواجهتها.. وتراثنا القديم صالح لأن نبنى عليه ونعلى البناء، ولو ورثنا عقول سلفنا الصالح وأساليبهم فى الفهم وتجردهم للحق ورغبتهم إلى الله لكان لنا مستقبل أنضر.. إننى أسمع تهجما صبيانيا على رجال الفقه القدامى، وزعما بالعودة المباشرة إلى الكتاب والسنة ، وقد تفرست فى مسالك هؤلاء المتهجمين فرأيت كما قيل: أبا حنيفة من غير فقه، والشافعى من غير أصول، مالكا من غير سنة وابن حنبل من غير رواية ! إننى لا أتعصب للأولين، ولكنى أقدرهم قدرهم وأطلب أن يكون المجتهدون الجدد على مستواهم الفنى والخلقى، وأن يدركوا ما وفدت به الحياة من مشكلات ويحسنوا التماس الحلول المجدية، إننا الآن نسمع لغطا حول حقوق الإنسان، وحديثا عن مستقبل الإنسانية فى هيئة الأمم. وهناك صراع بين أديان ومذاهب، ولنا ولغيرنا تاريخ طويل على ظهر الأرض، فيه الخطأ والصواب والجد والهزل، وعندما نتلاقى فى الساحات العالمية يجب أن نكون على مستوى الإسلام العظيم.. إن الفقه الإسلامى أحد تيارات الفكر المنبجسة من ديننا وقد يكون أخطرها لأن أحكامه تتناول الإنسان من المهد إلى اللحد، كما أنها تشرع للفرد والمجتمع والدولة.. إن عظمة آبائنا ليست فقط فى أنهم أزالوا دولتى الروم والفرس، وخلصوا الدنيا من عبئهما الثقيل، بل عظمتهم أنهم ملأوا الفراغ المتخلف عنهما بفجر علمى منير الآفاق باهر الإشراق، ولن نصلح لخلافتهم إلا إذا أوتينا قدرتهم على الإبداع والنفع. ص _065(4/62)
إسلامية المعرفة يرى البعض أن إسلامية المعرفة تعنى انقلابا فى مناهج البحث وموضوعات العلوم ومسيرة الحضارة! وهذا رأى يحتاج إلى مراجعة واستبانة. فإن العقل الإنسانى قاسم مشترك بين الشرق والغرب! والفطرة الإنسانية السليمة هى الأساس الذى يجب أن نبنى عليه ونعلى البناء.. لقد قدنا الحضارة ألف عام ثم فقدنا خصائص القيادة فقام غيرنا بوظيفتنا فأحسن وأساء، وخلط عملا صالحا وآخر سيئا، وعلينا حين نستأنف رسالتنا أن نحق الحق ونبطل الباطل، فما كان حسنا أبقيناه وزدنا فيه وما كان سيئا استبعدناه وجئنا بأفضل منه. ومن هذا المنطلق أقول: إن إسلامية المعرفة ليست حكما بالموت على العلوم الحديثة التى قامت على مناهج التجربة والاستقراء واستفتاء العقل المجرد، فهذا مستحيل! إنها قد تكون حكما بالموت على أوهام حُسبت حقائق، أو على أهواء ألحقت بالعلم وليست منه، ولا يعترض ذلك عاقل. ستظل الجغرافية تصف البر والبحر والجو، ومعها فى هذا الوصف علم طبقات الأرض وعلم الفلك. وسيظل علم النفس يصف الغرائز والانفعالات والمشاعر العقلية من ذاكرة وانتباه وخيال.. الخ. فإذا تدخلت الأسلمة فلكى تمنع الشرود فى الوصف واستخلاص أحكام خاطئة. أى أنها تعترض ما وصل إليه "فرويد" من تصور للعقل الباطن ومن إطلاق العنان للرغبات المكبوتة دون اهتمام بضوابط الدين والخلق. وستظل علوم الأحياء تعمل فى مجالها تصف آيات الله فى كونه وتبرز صفاته وأسماءه الحسنى.. حتى إذا بلغت تهويمات " دارون " فى أصل الأنواع، وتنازع البقاء ص _066(4/63)
والنشوء والارتقاء تدخلت ـ بسلطة العلم لا بأثر الغيبيات وحدها ـ كى ترد إليه وعيه، وتحفظ الناس من خلطه.. وهكذا. وستبقى علوم الحساب والجبر والهندسة كما هى. أما التاريخ فلابد من تدخل الأسلمة لمنع الافتيات الذى أوقعه الغرب بتاريخنا، فقد تجاهل بحقد غريب عشرة قرون أخطر وأنضر حلقات التاريخ العالمى، فإذا تحدث عن حقيقة ما رد أصلها إلى اليونان والرومان ونفى بخبث أن يكون للعرب أى فضل على الإنسانية، وهذه نزعة صليبية منكورة تشد أزرها الصهيونية التى تزعم الآن أن الإسرائيليين هم بناة الأهرام..!! إن الإسلام دين الفطرة، وقد تألقت تعاليمه فى حياتنا عندما كانت فطرتنا سليمة، واشتغل العقل الإسلامى بالبحث المجدى فى العلوم الإنسانية والكونية على نحو معجب، كما أن علوم الدين استبحرت وفى مقدمتها الفقه بشعبه المختلفة ويستحيل أن يكون للفقه الرومانى قدر إذا قيس بالفقه الإسلامى وازدهرت الآداب فى عصورنا الأولى... ثم نمنا نومة أكلت الأخضر واليابس من تراثنا وحياتنا ونحن الآن نريد الذود عن وجودنا المادى والأدبى، والعود إلى رسالتنا الإسلامية التى نهضت بنا أولا وسوف تنهض بنا ثانية. والمحور الذى ندور عليه هو تصحيح الفكر والتزام الوحى فيما قال الوحى فيه كلمته، والتجديد والاجتهاد فى شئون الدنيا التى نحن أعلم بشئونها، ولا حرج علينا أن نستفيد من تجارب غيرنا على أن نكون أيقاظا لا نُخدع أو نُغش أو نُصرف عن رسالتنا. ص _067(4/64)
هكذا تضيع الأمم لاحظت مع كثير تفاحش الملاهى والمساخر فى أحفال السنة الميلادية الجديدة وأن السهرانين بقوا إلى الفجر يسمرون ويعبثون، وأن التهنئة بالعام الجديد تزجى لمناسبة ولغير مناسبة وأن المحاولات كانت ملحة لإشعار الناس بأن الاحتفال شعبى عام، وليس تقليدا للغرب! وبدا لى أن أتجاوز هذا الأمر، فأنا من الناحية الإسلامية أشعر بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإذا كنت أصوم أو أحج تبعا لجريان القمر فأنا أصلى الفرائض الخمس كل يوم تبعا لجريان الشمس ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون). ثم رأيت أن الأمر يستحق الاكتراث، فإن الحضارة الغربية ـ وهى صاحبة الشأن الأول فى احتفالات رأس السنة ـ يجب أن تعرف ما تفعل بنا وبغيرنا! إن أثرتها طفحت وقسوتها ربت وهى تسكر وترقص على أشلاء ألوف مؤلفة من اللاعبين والهلكى.. ولن أتحدث عن مآتم البوسنة ولا عن ضحايا التحرر الإسلامى فى كل قطر.. إننى أتأمل فى معاهدة "الجات " التى عقدها الأوروبيون والأمريكيون، والتى ضمنت لهم "مليارات " من الأرباح الحرام على حين حققت للأقطار العربية وبعض الدول الإسلامية خسائر جسيمة! وأعترف بأنى لمت نفسى وقلت لقومى تستحقون ما حل بكم: لماذا لا تزرعون ما تأكلون؟ إذا باعوكم قمحهم بأغلى الأسعار فلا لوم عليهم والقانون لا يحمى مغفلا ولا كسولا! أليس مخزيا أن نكون مستهلكين لا منتجين؟ لماذا أنتظر من الدول الكبرى أن تعدل معنا؟ وهى التى بدأت رحلتها الحضارية بالافتيات على الغير؟ ص _068(4/65)
وكان من المصادفات أن أقرأ مع أحفال رأس السنة ثورة الهنود الحمر فى المكسيك! إن هؤلاء الهنود سُلبوا أرضهم وديارهم وعاملهم المهاجرون البيض أحط معاملة. وقال لى صديق زار استراليا إن بقايا هؤلاء السكان الأصليين يبادون بالخمور المغشوشة ويعرضون للحتوف حتى يُستأصلوا جميعا. إن الجنس الأبيض يكذب فى إخلاصه للمسيحية، وهو يدارى غرائزه الشرسة وراء مزاعم مردودة، إن دينه الاستعمار الجشع، ولا بأس أن يتعاون مع الصهيونية ليصل إلى أغراضه القريبة والبعيدة على أنقاض العرب والمسلمين! ربما جاز للمنتصر أن يرقص ويسكر، وأن يسهر حتى الفجر على مهاد من الإثم! لكن السؤال الذى لا جواب له: بم يحتفل المهزومون؟ وعلام يضحكون؟؟ ظاهر أن الغزو الثقافى فى القسم شعبتين، إحداهما تزهد فى العقائد، والعبادات، والأخرى تغرى بالمباذل والمضحكات. وهكذا تضيع الأمم، وتطوى صفحتها... ص _069(4/66)
بهتان عظيم سمعت تصريحا لأحد وزراء أوروبا الغربية يهاجم التطرف الإسلامى ويطالب العالم بالتصدى له حفاظا على سلام العالم ومستقبله! وكنت أود من الرجل المسئول أن يهاجم التطرف الدينى وأن يحذر آثاره، لا سيما وتعصب الصرب الأرثوذكس سود صحائف كثيرة واقترف فضائح شائنة وألحق بأوروبا عارا لا يمحى! لكن الرجل المسئول صب جام غضبه على المسلمين، وسكت سكوت القبر عن غيرهم فعلمت أن الرجل لا يضيق بالتطرف لأنه غلو وعدوان، بل يكره الإسلام وحده ويضن على أهله بحق الحياة ويتستر تحت راية رفض التطرف لينال منا..! هل تطلع المسلمين لبقاء شريعتهم وصون عقيدتهم تطرف؟ هل احترامهم لرسالتهم ورغبتهم فى الانتماء إليها تطرف؟ إن صحيفة "الإيكونومست " تقول: لماذا يظل الإسلام وحده مؤثرا فى الحياة السياسية والاجتماعية على حين لا تملك الأديان الأخرى هذا التأثير؟ وتكرر "الجارديان " المعنى نفسه حين تقول: إن لب المشاعر الإسلامية هو إدراك المعنى الحقيقى للدين وجعله نظاما مشتقا من الكتاب والسنة! والقرآن يضع الأسس اللازمة لوجوه الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية.. ونحن نؤكد شمول الإسلام لشئون الحياة كلها كما قال تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). ونأبى كل الإباء أن يقال لنا: اجعلوا الإسلام مقصورا على الصلاة داخل المسجد أو على أفراد الأسرة داخل البيت ! إن الإلحاد عندما ينفرد بالسلطة خارج البيت وخارج المسجد لن يلبث طويلا حتى ص _070(4/67)
يخرب البيت والمسجد معا. ولن نحكم بالشلل على نصف ديننا وبالموت على النصف الآخر، وفى العالم الإسلامى الآن أصوات تقول: اقصروا الدين على السلوك الفردى، ودعوا المجتمعات تتحرك كيف تشاء.! ونحن نعرف من الذى ينفخ فى هذه الأصوات ويحمى أصحابها! ونعرف القصد المستخفى وراءها، إنه القضاء المبرم على الإسلام فى الفرد والمجتمع، وعلى العقيدة والشريعة معا.. إننى وغيرى من المسلمين نحارب التطرف، لأننا أمة وسط، ولأننا لا نعرف خصومة بين الدين والعقل أو بين المصلحة والشريعة، أما أن نوصف بالتطرف لأننا نحامى عن الكتاب والسنة، وعن شرائع الحدود والقصاص أو لأننا نغرس الإيمان فى ضمير الفرد وفى نظام الدولة على سواء، فهذا بهتان عظيم. ص _071(4/68)
رائحة علمانية من حق الأمسية الثقافية التى يقدمها الأستاذ فاروق شوشة أن تجتذب المشاهدين فهو أديب مستقيم الوجهة نقى العبارة، ولكن حواره مع الأستاذ سيد ياسين خرج عن هذا النهج وكان عرضا ماكرا لأفكار علمانية مريبة! فما معنى القول بأن التراث يعنى أصحابه الأقدمين، ولا يجوز أن يرتبط المعاصرون به! كيف يقال هذا الكلام والعرب مشتبكون مع دولة هى ثمرة تراث دينى يعتز به أصحابه؟ هل إسرائيل إلا حصيلة إصحاحات العهد القديم؟ فإذا كان هؤلاء قد أقاموا بالتراث دولة شامخة فهل الرد عليهم يكون بتحقير تراثنا والزعم بأنه تركة لا معنى للتعلق بها! إن التراث فى الكيان العربى رسالة سماوية كاملة وتاريخ إنسانى عريق فكيف نعرض ونزهد فيه؟ وبم نتمسك؟ ببعض الفنون والقشور التى يصدرها لنا الغرب والتى يستحيل أن تحقق هويتنا وتستبقى ملامحنا. هل التراث كريه إذا كان الإسلام؟ ومستحب إذا كان أى دين آخر؟ ويقول الأستاذ سيد ياسين. إن المصريين كان لهم إبداع قانونى فى ميدان التشريع الحديث! ومعروف أن التشريع الحديث مستورد من أوروبا، وأنه جاء بعد إقصاء الشريعة الإسلامية. إن الاحتلال الأجنبى قصم ظهر الإسلام، وألغى الشريعة لفوره وألحق بالعقيدة عطبا يقرب أجلها فما هو الإبداع المصرى فى عالم القانون؟ إن هذا الكلام خديعة عما أصاب الشريعة، وترضية للأمة بأخبث أنواع الغزو الثقافى ظاهر أن مهمة العلمانية فى العالم الإسلامى جر ذيول النسيان على ماضينا كله وإلحاق العربة العربية بالقطار الأوروبى ينطلق بها حيث يشاء! ص _072(4/69)
لقد شاهدت هذه الأمسية الثقافية وسمعت الكلام المسهب الذى قاله سيد ياسين ثم تساءلت: أليس للعالم رب يشرف عليه؟ أليس لهذا الرب وحى نرتبط به. أليست أمتنا هى الوارثة للنبوات كلها عندما تلقت هذا القرآن؟ ماذا يريد العلمانيون أن يفعلوا بنا؟ عندما ننسى التراث ونتمرد على الله ونتحول إلى تلامذة للإلحاد الغربى. إن الفاتيكان اعترف بإسرائيل وعقد معها صلحا باسم الكاثوليك، وإن رئيس أساقفة انجلترا ينتقل إلى جنوب السودان ليوثق العلائق بين الانجيليين فى أفريقيا وأوروبا! دين واحد هو الذى يحاصر ويضيق عليه الخناق، ويوظف العلمانيون للنيل منه، هو الإسلام!. ص _073(4/70)
تربية الأطفال الوالدية غريزة أصيلة فى جملة الأحياء التى تسكن الأرض! وإذا كنا ـ نحن البشر ـ نقول : وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عينى عن الغمض فإن الطيور فى أوكارها، والدواب فى غابها تتحرك فيها غرائز الأبوة والأمومة، فهى تغذو أولادها وتحميهم من كل سوء قدر استطاعتها... ويبقى هناك فارق أصيل بين حنو وحنو، وتربية وتربية، فالإنسان لا يربى الجسد وحده، وإنما يربى معه العقل والعاطفة، ومسئولية الأبوين تتجاوز توفير الغذاء إلى توفير الآداب الرفيعة والشمائل الحسنة... والواقع أن الطفولة صفحة بيضاء يخط فيها الآباء والأساتذة ما شاءوا، قال عبد الله بن عامر: دعتنى أمى ـ ورسول الله قاعد فى بيتنا ـ فقالت : تعال أعطيك ، فقال لها رسول الله: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا!، قال أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة!! وعن أبى هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من قال لصبى: تعال، هاك، ثم لم يُعطه فهى كذبة ) فتأمل كيف يحترم الإسلام الكلمة؟ وكيف يعود الصغار على تقديرها، وتصديقها؟ إن ذلك ما عناه الشاعر عندما قال : وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه.. وقول ابن الرومى فى مصرع أحد الطالبيين: كدأب على- فى المواطن قبله أبى حسن؛ والغصن من حيث يخرج. ليس المهم أن توفر لأولادك ثروة طائلة، إنما المهم أن توفر لهم عقلا ذكيا؟ وخلقا قويا، ومسلكا زكيا، وهذا معنى الحديث الشريف (ما نحل والد ولدا من نُحل ـ أى ما أعطاه عطاء ـ أفضل من أدب حسن ) وفى رواية أخرى (لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع ) ص _074(4/71)
إن الأولاد من ريحان الله، ومن أجل هباته، والواجب أن نتعهدهم بما يصنع منهم رجالانا بهين، أو نساء فضليات. والأخلاق ليست نباتا طفيليا ينمو وحده، وإنما هى غرس تختار له التربة، ويُتعهد بالسقيا والتهذيب، ويُحمى من الأوبئة والحشرات، إلى أن ينضج ويؤتى ثمره.. وفى الطفل ملكات كامنة تغذى بما يصلح لها حتى تدرك، وقد رأيت أن الإذاعة المرئية تقدم للأطفال "أفلاما" تقوم على الخيال المحض، وتشبع فيهم التصورات التى لا تضبطها حدود... وعندى أننا بالغنا فى هذه الأقاصيص الخرافية، وعرضنا الأطفال لأحكام ينقصها الضبط.. وقد كان آباؤنا أرشد سلوكا عندما نموا الذاكرة، وشحنوها بأنواع من المحفوظات التى تنفع فى المستقبل القريب أو البعيد، ونحن لم نحفظ القرآن الكريم إلا بهذا الأسلوب.. ولست أدعو إلى تحفيظ القرآن للأطفال جميعا، فهذا لم يحدث حتى فى عصر الصحابة والتابعين! وإنما أفضل تنشيط الذاكرة على تنشيط الخيال، وأرجو أن تقل أفلام الكرتون التى تعجب الصغار ولا تفيدهم شيئا يذكر... والتربية فى الصغر تحتاج إلى الرحمة والأناة وسعة الصدر، فإن الاعتماد على العصا عبث ضار، وقد يحتاج الأولاد إلى شىء من الصرامة، لكن هذه الصرامة لا تعنى الجفوة والإرهاب، والأب المكتمل يربى أولاده على هذا الحنو الرقيق. كان الناس فى الجاهلية يعاملون ذراريهم بجفوة، وربما رأوا من الرجولة أن يكونوا خشنين معهم، وقد رأى أحدهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل الحسن أو الحسين : فقال مندهشا : أتقبلون الأولاد؟ إن لى عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟؟ ولليتيم مكانة خاصة فى تعاليم الإسلام، ففى الحديث "من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كانت له فى كل شعرة مرت عليها يده حسنات ـ ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده؟ كنت أنا وهو فى الجنة كهاتين، وفرق بين إصبعيه السبابة والوسطى" ص(4/72)
_075
وجمهور من الناس يرى الأولاد ثروته العظمى فى الحاضر والمستقبل ولا عجب فالقرآن الكريم يصرح بهذا الإحساس ( المال و البنون زينة الحياة الدنيا ..). والواقع أن أولاد الشخص امتداد له، وزرعه الذى يرعاه اليوم ليعيش فى جناه غدا.. أعجبنى أن رجلا له ولد اسمه "رباط " أحسن تربيته فى صغره، واستراح إلى سيرته فى كبره، فقال فى ذلك: رأيت "رباطا" حين تم شبابه وولى شبابى ليس فى بره عتب إذا كان أولاد الرجال حزازة فأنت الحلال الحلو والبارد العذب لنا جانب منه دميث، وجانب إذا رامه الأعداء ممتنع صعب وتأخذه عند المكارم هزة كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب وفى الإسلام الحنيف أحاديث طويلة عن العلاقة بين الوالدين والأولاد، يجب فيها تبادل البر والرحمة، وهى أساس لأسرة متماسكة ومجتمع مكين حصين. * * * ص _076(4/73)
الغدر الغدر نقيصة خسيسة تسقط صاحبها ـ وتسلبه كل احترام، وقد تعاطف الناس مع "ميخائيل جورباتشوف" عندما غدر به نائبه، وتأمر مع آخرين ضده! وفهموا سر غضبه وهو يقول عن النائب الغادر : لقد اخترته ووقفت ضد الكثرة التى رفضته، وأصررت على أن تغير رأيها فيه، وها هو ذا يخذلنى ويطعننى فى ظهرى بعد ما أفأت عليه هذه النعمة. ! والحق أن الخيانة والكنود رذائل لا يسيغها أحد، ولا يساق فى تهوينها عذر، وسوف يلقى نائب جورباتشوف ورفاقه العقاب الذى يستحقون، ولن يرثى لهم أحد... لكنى تساءلت: هل الغدر بالله دون الغدر بالبشر؟ هل كفران النعم الإلهية دون كفران أنعم الناس؟ وددت لو سألت جورباتشوف : إنك ناقم على امرئ أسديت إليه يداً فجحدها، فما رأيك فى الأيادى التى أسداها الله إليك؟ لقد خلقك فى أحسن تقويم، وأقامك بين قومك زعيما أى زعيم، فما سمع منك طول عمرك اعترافا بجميل، وما قلت له يوما : سبحان ربى العظيم ! إن مقت الله لك أشد من مقتك لنائبك الخائن، لأن صنيعه إليك لا يقاس به صنيع!! وما قيمة أن ترفع نائبك إلى وظيفة ما بجانب أن يخلقك الله من الصفر، ويهب لك السمع والبصر والفؤاد؟ المأساة الكبرى فى مسالك الناس أنهم يستهينون بالإساءة إلى البارئ الأعلى، ويضخمون الإساءة إلى ذواتهم المحدودة، حتى لكأنه ليست لله حقوق ولا له على عباده واجب.! إن للشيوعية جانبا إلحاديا؟ وجانبا اقتصاديا! والغريب أن دول الغرب لا تكترث بالجانب الإلحادى، ولا تغضب منه، إن نقمتها الكبرى وحربها الدائمة على الجانب الاقتصادى، تقول: الحرية لرأس المال وحق التملك وحرية التداول.. الخ. ص _077(4/74)
أما إنكار الإيمان فالأمر هين، وحرية الكفر مكفولة لكل أحد، لمن شاء أن يقول: لا إله ! ولمن شاء أن يقول: إن كان فلا علاقة له بنا ولا علاقة لنا به..! ولمن شاء أن يقول سمعنا وعصينا، ولمن شاء أن يقول: نحيا هنا كما نريد، فإذا انتقلنا إليه كان لنا معه شأن!! أما أن لله عظمة تعنو لها الوجوه، وأن له إحسانا تستعبد به النفوس وعهودا مع الخلق لا ينبغى الغدر بها؟ فذلك كله كلام المتدينين البله؟ وما أكثرهم! (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) وعندى أن أزمة التدين تعود إلى المتدينين أنفسهم، فقل منهم من يصدق الله فى معرفته وعمله، وقل منهم من يكون صديقا لله؟ يعامله بالود والوفاء والشرف.. عندى أن الوالد الأول للشيوعية هو "راسبوتين " لا "ماركس " فلولا وضاعة الأول ما نجح الأخير. عندى أن الطبع الفظ؟ والقلب القاسمى، والتبلد أمام آلام البشر من وراء الهزائم الكبيرة التى لحقت بالإيمان فى هذا العصر، ولو أن دعاة الإيمان اكترثوا لأحزان الناس، وغضبوا لمظالمهم، ومشوا فى مواكب المستضعفين بدل المسير فى مواكب الكبراء لكسب الإيمان معارك كبيرة.. إن الغرب يدق الطبول لهزائم الشيوعية فى روسيا، فلنعلم أن الطنين القادم من بعيد ليس فرحا بهزيمة الكفر! البعد عن الله سواء فى الجبهتين! وكراهية الإسلامية قاسم مشترك...! والسؤال المثار فى الدنيا والآخرة لجماهير المسلمين: هل فعلتم شيئا من أجل الإسلام؟ إلى متى تبقى روائح العفن والتخفف مقصورة على بلادكم؟ أبهذا ينتصر دين؟ ص _078(4/75)
إلى متى تغيب الشريعة.؟ مواد القانون الوضعى تنضم إلى المسلسلات المنحلة فى تصديع المجتمع؟ وتجفيف بقايا الخير فيه، الروايات الماجنة عندما تعرض على الناشئة تلفتهم إلى شرور ما كانوا يعرفونها، وعندما تعرض على الكبار تجرئهم على ما كانوا يتهيبونه! ثم يجئ القانون فيعامل المجرم معاملة الأب الحانى! وأقصى ما يؤاخذه به سنون تطول أو تقصر يقضيها فى ضيافة السجون، ثم يخرج بعدها قلما يعرف طريقا للتوبة... أولو الألباب يلحظون أن المجتمع يتهاوى، وأن الجرائم تنمو كما وكيفا، وأن ترك الأمة على هذا النحو حكم عليها بالضياع! لابد من العودة إلى الشريعة الإسلامية وقوانينها الصارمة؟ حتى نستأصل شأفة الجريمة؟ ونسكن من روع الناس... إننى أتصور غافلا يؤثر لذة عاجلة على النعيم المقيم، أو يقدم متعة سريعة على مواعيد الدار الآخرة! لكنى لا أتصور من يؤثر الضرر العاجل على الخير الباقى! ماذا فى القانون الوضعى من فائدة تجعلنا نشاق الله ورسوله من أجله؟ لقد تكشفت عورات هذا القانون، وبدأت آثاره السيئة تزحف من كل ناحية، والمآسى التى تطالعنا بها الصحف كل يوم تهيب بنا أن نتحرك لتغييره وإنقاذ الناس من عجزه!. من أيام سمعت قصة ثلاثة ملثمين دخلوا "بوتيك " تديره امرأة كادحة، وأبرزوا السكاكين، وطلبوا ما جمعت من مال حصيلة سعيها طول النهار، واستسلمت المرأة وهى ترى عيون قتلة، وتركت لهم المال المطلوب ففروا به..! قلت: لو علم هؤلاء أن قانونا يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؟ وأنه من الممكن أن تصلب أجسادهم فى بعض الميادين نكالا لهم وردعا للآخرين؟ أكانوا يتآمرون على نهب الآمنين وقطع طرقهم؟ ما معنى الشفقة على هؤلاء الغلاظ؟ ما معنى الاستهانة بآلام المظلومين والمسروقين؟ ص _079(4/76)
أعرف أن هناك متعصبين للقوانين الوضعية، وما أحسب عامتهم على دين! والمرء قد يتعصب لشىء يحسبه خيرا؟ فهو يتشبث به ويدافع عن خيره الموهوم، لكن ما معنى التعصب إذا كان هناك أفضل وأنفع مما يتعصب له؟ جربوا شرائع الحدود والقصاص عاما أو بعض عام ثم انظروا ما تجنون من ثمرها الطيب، وعيشوا فى ظلال الأمان عاما أو بعض عام!! إن هناك من يتعصب لما عنده وحسب.. (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) عندما أغار التتار على العالم الإسلامى فى القرن السابع الهجرى ألغوا أحكام الشريعة! وهل تنتظر منهم إيمانا بكتاب أو سنة؟ وجاءوا بتشريعات أخرى فى كتيب لهم أسموه "الياسق " وفرضوا على الناس الاحتكام إليه، وقد قلدت أوروبا التتار فيما فعلوا، وخضع المسلمون للغارة الأخيرة، بل إن قبائل البدو وضعت لها قوانين أخرى غير ما شرع الله، وارتضت الاحتكام إليها!! ومع غروب شمس الشريعة أخذ الناس يخبطون فى الظلام ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون فى الأرض... وهذا هو المقصود! فلن يثبت أركان الاستعمار الجاثم إلا ما تتركه هذه الجاهلية فى البيوت والشوارع، والأخلاق والتقاليد من ضياع.. إن فى دهاليز أو خزائن مجلس الشعب مشروعا تم إعداده للعودة إلى الشريعة الإسلامية، أظن أنه قد آن الأوان لنفض الغبار عنه؟ والنظر بجد فى تطبيقه؟ لعل المحن تنزاح عنا والاطمئنان يعود إلى قلوبنا، والاعتبار يرد إلى شريعتنا... *** ص _080(4/77)
إثار الكسل والصعلكة هل الأرض مهددة بالجوع لكثرة من يسكنونها؟ إن عدد البشر الآن تجاوز خمسة مليارات وتشير الإحصاءات إلى أنهم زادوا فى السنوات الأخيرة زيادة فاحشة وإذا اطردت نسب الزيادة على النحو القائم فإن الأفواه المفتحة لن تجد ما يملؤها! ولست أشارك المتشائمين هذا القلق فقد قالت الإحصاءات نفسها: إن الإنتاج الغذائى تضاعف فى هذه المدة، وانقطعت أسباب الخوف! إننى أتهم الحضارة المعاصرة بضعف الإيمان وسوء الظن بالله، لقد فرطت في جنبه وجحدت نعمته ثم زعمت أنه لن يرزق من يخلق وهو القائل : (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له). إن البشر قد يتظالمون، وقد يحبس أحدهم رزق الآخر تجويعا وتعذيبا، والله لا يرضى عن ذلك وما زلت أذكر أياما كانت تحرق فيها المحاصيل حتى لا يرخص سعرها، وتخزن فيها جبال الزبد حتى لا يتشبع الفقراء منها. والأخطر من ذلك كله أن مساحات شاسعة من الأرض لما تزرع لأن أصحاب هذه الأرض كسالى، أو لأن القوانين الموضوعة تجعل إحياء الموات مشكلة معقدة! وقد تأملت فى موقف العالم الأول من الشعوب المتخلفة فوجدته يقرضها بالربا الفاحش ويعجزها عن السداد ويحبسها فى ذل الدين كى تظل طوع أمره! وفى المعاملات التجارية وجدت أن معاهدة "الجات " ضمنت مصالح الدول الكبرى، وداست الدول الصغرى ثم طالبتها آخر الأمر بتحديد النسل! لقد قلت: إن النسل يكون مصيبة إذا كان الأولاد القادمون يستهلكون ولا ينتجون، ويقعدون ولا يعملون، إن عدم قدومهم أفضل، فهم عبء على الحياة لا عون لها.. لكن لماذا تكون البيئة قاتلة على هذا النحو؟ هذا ما يجب أن نمنعه! ص _081(4/78)
إن الله مهد الأرض وزودها بخيرات لا تفنى وأتاح لجماهير لا تحصى من الخلائق أن تحيا فوقها وقال (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين). فكيف يقال: إن الأرض عجزت عن إطعام أهلها؟ الممكن أن يقال: إن ناسا كثيرين آثروا الصعلكة على الغنى، أو آثروا القعود على العمل، أو آثروا صناعات الموت على إحياء الموات. ص _082
الأرض لم تفلس!! التنامى الذى لوحظ على الأمة الإسلامية حمل أعداءها على النظر فى مستقبلها بحذر، إنها الآن تزيد على خمس العالم. وخلل الرماد وميض صحوة إسلامية تحن إلى أمجاد الماضى وتكره ما نزل بها من ضيم وتحقر ما فى صفوف أعدائها من إثم! صحيح أن ميزان القوة لا ينصفها لكن الفلك الدوار لا يثبت على وضع فقد يحط غدا من رفعهم اليوم (وتلك الأيام نداولها بين الناس). وقد جد فى المحافل الدولية حديث ذو شجون عن سكان الأرض يزعم أصحابه أنهم كثروا كثرة تعجز الموارد الطبيعية عن إطعامهم، وأنه لابد من تحديد النسل وتقليل البشر!. وينظر هؤلاء إلى الأمة الإسلامية المتنامية نظرة ذات مغزى ثم يقولون ينبغى أن يباح الإجهاض وأن يكون تعداد الأولاد ـ إن وجدوا ـ واحدا أو اثنين.. وأنا أعتقد أن هذا التفكير علته الأولى والأخيرة تنامى المسلمين، ولو اختفت الأمة الإسلامية من على ظهر الأرض لاختفى هذا اللغط وترك الناس يتناسلون كيف شاءوا ! إن الجوائز الآن توزع على العروسين كى يتعهدوا بتحديد النسل والسخرية من الأرانب لا تقف عند حد.. وأنا أنظر إلى هذه القضية من أساسها الموضوعى، إننا فى مصر نبنى قرى سياحية على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر لخدمة طلاب المتع، ولو أننا زرعنا شاطئ المتوسط، ومهدنا أرضه لسكنى الفلاحين وكدحهم لكان ذلك أجدى علينا وأصون لمستقبلنا. لماذا يشتغل مستوردو القمح ببناء مساكن الترف؟. ص _083(4/79)
إن بيننا من يستطيع إخصاب الصحراء فلم تُغل أيديهم دون تحويلها إلى زروع ونخيل؟ ولا بأس أن نهتم بشئون السياحة فهل هذا الاهتمام يمنعنا من تثمير أرضنا أم ننتظر حتى يجئ "الخواجات " لاحتكارها؟!! أعلم أن هناك أجهزة عالمية ذكية تشتغل الآن بقضايا السكان، وستعقد مؤتمراتها فى عواصمنا وسوف توصى بتحديد النسل، وربما أوصت بحرمان الولد الثالث من الخدمات الثقافية والاجتماعية!! والحكم الإنسانى الراشد المعقول يقوم على تنمية المواهب ومنحها فرص الابتكار والازدهار وحرية الحركة والثراء! يوجد الآن حملة أقلام يقولون للناس: إن الأرض أعلنت إفلاسها وأنذرت البشر بالجوع والعطش وحملة هذه الأقلام أجراء لأناس يكرهون ديننا ودنيانا ولا صلة لهم بأمانة الكلمة، إن الأرض لم تفلس، وإنما أفلست الأنظمة الكافرة. *** ص _084(4/80)
هل خيرات الأرض محدودة ؟! الإيمان بالغيب ليس معناه القصور أو الغباوة فى عالم الشهادة! فأنا أحترم المنطق المادى ولكنى فى الوقت نفسه أعلم أن الله على كل شىء قدير، وأن خالق الأسباب لا تحكمه هذه الأسباب وأن زمام الأمور يستحيل أن يفلت من يد الله، بل إن ما يقع فى عالم المادة لو حكيناه لجنس آخر من المخلوقات لاستغربه وأنكره كيف تكون الحبة الواحدة سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة؟ كيف يتحول السبخ إلى قطن للكسوة وأرز للمعدة وتفاح للمتعة وزهر للشم؟! كيف يتحول ما نطعمه إلى لحم وعظم وجلد وشعر ودم وأظافر وطاقة ونماء؟! كيف بارك الله فى هذه الأرض فآوتنا أحياء ووارتنا أمواتا ثم منها النشور؟ إن الكافرين بالله أقرب إلى الدواب حين ينكرون منطق الإيمان ويتندرون بالمؤمنين ! وقد سمعتهم يتساءلون: كيف يطعم الله الزيادة المطردة فى السكان فقلت: كما يطعم الأصل يطعم الفرع! قالوا خيرات الأرض محدودة! قلت: بل أفكاركم أنتم محدودة، ولو فكرتم ونشطتم لوسعت الأرض أضعافكم عددا.! الذى ظهر لى بعد طول تأمل أن الإيمان مريض مرضا عضالا.. عندما أوصى " تشرشل " أن يحرق بعد موته قلت فى نفسى هل هذا سلوك رجل يؤمن بالمسيح؟ لقد عاش ومات ما يخطر الله بفكره! وقرأت كلاما للأمير " فيليب " زوج ملكة إنجلترا يقول فيه : " إنك لا تستطيع إدامة قطيع من الغنم بأكثر مما تستطيع إطعامه، إن المحافظة على البيئة تستدعى المحافظة ص _085(4/81)
على توازن الأجناس. وكل فدان من الأرض يستصلح للزراعة يعنى نقصان فدان تحرم منه الحيوانات البرية . ماذا يريد الأمير أن يقول؟ يريد أن يقول إن إبادة الأجناس الأدنى شرط لبقاء الأجناس الأعلى وهذا معنى قوله " لو كتب لى أن أولد مرة أخرى فإنى أتمنى أن أعود على شكل "فيروس" قاتل كى أسهم فى حل مشكلة زيادة السكان "!!! والمعروف أن الأمير " فيليب " يؤمن بنحلة هندية تعظم الطبيعة وتقدس الحيوانات وتطلق على الأرض الإلهة "جايا "!!. إن علاقته بالنصرانية كعلاقة " تشرشل " بها، والواقع أن نفرا من علماء الاقتصاد والفلسفة يحملون أسماء مسيحية، ولا يرون أن للعالم خالقا اسمه "الله "!!. والمقلق أن عددا من المقلدين العميان يسيرون وراءهم فى بلادنا، ويحرجهم أشد الإحراج أن نحدثهم عن المعاملات الإسلامية وأصول الاجتماع والاقتصاد والتربية والتشريع التى يحفل بها الإسلام ويموج بها تراثه الضخم.! إنك تناديهم من مكان بعيد، إنهم يعيشون بيننا ولكن قلوبهم فى الغرب الاستعماري. * * * ص _086(4/82)
فقرعلى أرض من ذهب النشاط موصول لتنظيم الأسرة ـ وهو التعبير الملطف لتحديد النسل ـ وقد راقبت النتائج القريبة فوجدت القادرين على الإنجاب والتربية هم الذين يحددون نسلهم، أما الذين لا يعرفون معنى الأسرة ووظيفة البيت فهم الذين يتكاثرون بغير حساب! وأعرف أن المسئولين عن المجتمع قلقون من زيادة عدد السكان فى مصر، فقد قاربوا الستين مليونا، ويرون أن موارد الرزق لا تتسع لهم!! وللتفكير القومى منطق يلتزمه، وللتفكير الإسلامى منطق آخر يتجاوز حدود الوطن الخاص. قد يشمل أرجاء العالم الإسلامى كله، بل قد يتسع لدنيا الناس مستجيبا لقوله تعالى (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة). وقد أبديت رأيى فى هذه القضية وقلت: إنه حيث يوجد المسلمون توجد ينابيع ثرة للأقوات، ولكن الهمم الكسول والأيدى القصيرة من وراء الفقر الشائع، ولو نقص المسلمون إلى نصف عددهم الحالى ما ارتفع مستواهم المادى، فإن الفقر فقر أخلاق لا فقر أرزاق. إن الأزمات السائدة من ورائها خصائص إنسانية مشلولة وعجز معيب عن أداء ما يستطيعه الآخرون! إن الذى خلق الأرض وقدر فيها أقواتها لم يجعل هذه الأقوات نصيب القاعدين ولا غنيمة المنهزمين، إن النهر لا يسعى للشاربين، فمن كان ظمآن فليسع إلى الماء..!! ولنوازن أنفسنا بغيرنا وسنرى بمن يرجح الميزان! نظرت فى سيرة الملك " بدوان " ملك بلجيكا الذى مات أخيرا فرأيت أنه رأى النزول عن العرش حتى لا يمضى قرارا بإباحة الإجهاض!! ص _087(4/83)
فلما أمضاه غيره عاد وقد استراح ضميره الدينى، وتحفل الوزر غيره! ورأيت الرجل فى سبيل تكثير النسل جعل نفسه أبا لكل مولود سابع فى بلجيكا يحمل نفقته منذ يولد حتى يقضى، ويتحمل أعباء تعليمه فى جميع المراحل... قد تقول هذا ملك واسع المال والجاه، أجيب ما تقول فى لاعب الكرة الشهير "بيليه " الذى أصبح أبا لولد رابع كما نشرت الصحف؟ ولو حدث ذلك عندنا لقيل لللاعب المنجب: حسبك، إلى أين؟! وأعباء مشروعات تنظيم الأسرة بين المسلمين ـ وقد تكون فى العالم الثالث كله ـ تتكفل بها المساعدات الأجنبية، فهل هذه القوى الخارجية تبذل جهداُ ما فى سبيل دعمنا اقتصاديا؟! أم هى مسرورة للهمم القاعدة، والفقر الذى يمشى على أرض من الذهب... ص _088(4/84)
مجلس الذكر جلست إلى مكتبى سارح الفكر ثم استقرت عيناى على شىء فوق الأوراق ضئيل الحجم كأنه سمسمة، فقلت : إن الخادمة لم تنظف المكتب جيدا.. ومددت أصابعى لأنحى هذا القذى، فإذا السمسمة تفلت من يدى وتطير فى الهواء، فعلمت أنها فراشة صغيرة، لعلها كانت نائمة أو مستريحة فلما أحست أناملى تقترب منها طارت ! لكنى ما رأيت لها أجنحة، إن أجنحتها لا تكاد تبين! بل إنى ما أعرف لها رأسا من ذنب إن أجهزة الحياة فيها لا يمكن أن يراها بشر! قلت لكن يراها خالقها الذى يطعمها ويسقيها ويمدها بالحياة! وتداعت المعانى فى رأسى، إن الذى أحيا هذه الفراشات وأطلق أسرابها فى الجو لم يشغله تدبيرها عن أمر السماء، إنه فى الوقت الذى يلهم الفراشات طيرانها يلهم الكواكب دورانها فى مسار لا تزيغ عنه ولا تطيش!!، إنه لا يشغله شأن عن شأن؟ إنه (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور). وعدت إلى نفسى أتساءل: لماذا عنانى أمر فراشة صغيرة؟! إن جرثومة "الإيدز" أصغر منها سبعين ألف مرة ومع ذلك تدخل هى وزميلاتها أجساد الفجار فتصرعها وتحدث بها تلفا يقهر العلم ويعيي الأطباء!! ما أحوجنا نحن البشر إلى التأمل فى خلق الله واستنباط صفات الخالق من إبداعاته فى الكون، فيما بين أيدينا وما خلفنا وما فوقنا وما تحتنا!. ماذا لو جلس بعضنا إلى بعض يتحدث عن آثار الله فى ملكوته على عباده، هذه هى مجالس الذكر التى تبحث عنها الملائكة، وتشارك فيها وهى معجبة فرحة! جاء فى الحديث القدسى إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم . ص _089(4/85)
قال رسول الله: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا! قال فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ـ ما يقول عبادى؟ قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك! فيقول: هل رأونى؟ فيقولون: لا والله ما رأوك! قال فيقول: كيف لو رأونى؟ قال يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة! وأشد لك تمجيدا وتحميدا وأكثر تسبيحا إن جهود الأفكار فى معرفة الله هى الصورة الأولى للعبادة الصحيحة (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). إن الذكر وظيفة عقلية جادة واعية ترقى بأهلها من الأرض إلى السماء، والبشر الآن قسمان ملاحدة لا يعرفون الله، ولا يحسبون أنه سيجمعهم به لقاء! ومسلمون لا يحسنون الذكر والتذكير! ومعرفتهم بالله قشرة لا تزكى فؤادا ولا تحسن تربية. ص _090(4/86)
الإدارة تمتاز حضارة الغرب بامتلاك أجهزة إدارية حسنة الأداء غزيرة الإنتاج، ويرجع ذلك إلى جملة من الأخلاق الرفيعة والنزاهة المعجبة فى اختيار العاملين فى الميادين العسكرية والمدنية على سواء، وقد تابعت اختيار وزير الحرب الجديد فى أمريكا وبهرتنى الطبيعة التى أملت هذا الاختيار، ووددت لو أننا فى العالم الإسلامى نحسن الاستفادة والاعتبار! يقول وزير الدفاع الجديد: إنه لم يسع إلى هذا المنصب، بل لم يكن يريده! وإنما قبله عندما أسند له قياما بالواجب المفروض لخدمة بلاده، وقال الوزير الذى اختاره رئيس أمريكا الجديد إنه فى انتخابات الرياسة أعطى صوته لمنافس الرئيس الذى لم ينجح!! أى أنه ليس تابعا للرجل الذى اختاره، وهى كلمة واسعة الدلالة، فهى تشير إلى أن رئيس الولايات المتحدة يبحث عن الأكفاء ولو كانوا من خصومه، مقدما للمنصب أحق الناس به، وهى فى الوقت نفسه تشير إلى أن ولاء الوزير المختار لوطنه أولا وآخرا..! لقد طالعت هذه الصورة الوضيئة لملء المناصب وتذكرت سلفنا الأول وقواعد الأخلاق التى كانوا يتبعونها. إن ولاية الأمور لا تساق إلى من يسعى إليها أو يحرص عليها، فإن طالب الولاية يغلب أنه يطلبها حبا للعلو فى الأرض والصدارة بين الناس، وتلك فى الإسلام رذائل، إنما يختار للرياسة من يجعل وظيفته عبادة لله وأداء للحقوق، فعن عوف بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن شئتم أنبأتكم عن الإدارة وما هى. فناديت بأعلى صوتى وما هى يا رسول الله؟ قال: أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل وكيف يعدل مع قريبه؟ قال عمر بن الخطاب لأحد الناس : والله لا أحبك ـ وكان قد أصاب أخا له فى الجاهلية . ص _091(4/87)
فقال له الرجل: أما يفى ذلك حقى يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: لا.. فقال الرجل: لا بأس إنما يأسى على الحب النساء!! إن الأعرابى يهتم بالعدل ولا يعنيه من عمر أن يكون محبا أو كارها له! * ** * فى الجو الإدارى النظيف يُبحث الموضوع بتجرد، ويقول كل مشارك ما يمليه ضميره، لا مكان لملق، ولا موضع لاسترضاء كبير أو صغير! البحث عن المصلحة العامة وحدها والغاية إرضاء الله وحده.. وفى الحديث "من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس. ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ". إن العالم الإسلامى فقير إلى جو إدارى نقى لا تغيم آفاقه بالشهوات والمأرب ولا تعكره عواصف الغرض والمرض! هل ذلك صعب؟ إنه توفر فى بلاد أخرى تشبه سيرتهم سيرة آبائنا الكبار! نستطيع إن أردنا الانتفاع بتراثنا أو الاقتباس من المعاصرين خصوما كانوا أو أصدقاء. * * * ص _092(4/88)
القدرة ما أوسع الغنى الإلهى، وما أعصاه على الإحصاء، وحسبك قوله تعالى فى حديثه القدسى " يا عبادى لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا..! والعوالم التى خلقها الله ـ غير عالمنا ـ تعجز التصور ما دق منها وما جل ، وترد الطرف خاسئا وهو حسير.. وقبل أن أذهب بعيدا أتأمل فيما حولى إن الله قيم على خمسة مليارات من البشر يرزقهم ليلا ونهار، وقد جاء فى الحديث "يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار". وليست القصة تقديم طعام إلى جائع، إنه سبحانه وتعالى، يعرف مسالك الرى والشبع فى البدن، وكيف يتحول الطعام إلى طاقة يحيا المرء بها. وكيف يتحول الطعام إلى خلايا تبنى العظم واللحم وتسيل الدم فى العروق وكيف يقذف الفضلات فى الأرض لتحولها الأرض إلى أزهار وثمار فى دورة من الكون والفساد ليس لها آخر... إن الله على كل شئ قدير وبكل شئ بصير، لقد برقت هذى المعانى فى نفسى وأنا أقرأ " مواقف " للأستاذ أنيس منصور يلخص فيها أشرف علم فى الوجود، ويتناول الإلحاد بالإنكار العلمى الساحق فيقول : " ليس كلاما علميا أن تقول إن الكون يتمدد ويتقلص من تلقاء نفسه، الجواب الذى لا جواب غيره هو : الله يريد ذلك!! لماذا؟ نحن لا نعرف ولكن لا بد أن تكون البداية هى الله ". ربما لا نرى وسائل القدرة فى العمل. ربما لا نعرف كيف يباشر القادر الأعلى تدبير ملكوته العظيم لكننا نتساءل مع القرآن الكريم (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) ص _093(4/89)
إن الملحد يلوك بلسانه كلمات لا معنى لها عندما يجعل الخلق والإمطار والإنبات لغير الله!! إنه يكذب على نفسه وعلى الحقيقة. ويتساءل الأستاذ "أنيس منصور" : لماذا لا تكون فى الكون أحياء عاقلة مثلنا، وهو سؤال وارد، وأيا ما كان الأمر فالملكوت الإلهى عندنا نحن المسلمين مشحون بمن يعرف الله ويقدره حق قدره، وهناك مكلفون يقينا غير البشر، ولهم حسابهم يوم الحساب، ثم تدبر قوله تعالى (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) وقوله (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون). لقد قلت من سنين فى أحد كتبى : إن الذى يبنى قصرا من ألف غرفة لا يسكن واحدة منها ثم يدع الباقى تصفر فيه الريح...!! وأعجبتنى كلمة الأستاذ أنيس التى ختم بها حديثه الجميل: "إن موسى لم يستطع أن يرى الله.. إنما عرف كيف تجلى الله على الجبل فدكه دكا.. فلنحاول نحن أن نعرف كيف يتجلى الله فى الخلية الحيوانية والنباتية، أو كيف يتجلى فى فضاء مشحون بالكواكب ". إن الملحدين حشرات مغرورة وآن لنا أن ندرك أن العلم يقود إلى الإيمان... ص _094(4/90)
قانون غريب.. نشرت صحيفة "أخبار الخليج " البحرينية، هذا الخبر تحت عنوان: "السجن 25 عاما لقتل 87 شخصا ". قالت: أصدرت محكمة فى "نيويورك " أمس حكما بالسجن 25 عاما، على كوبى يبلغ من العمر 37 عاما، أشعل النار فى ملهى ليلى؟ مما أسفر عن مصرع سبعة وثمانين شخصا.. قالت: لقد حصل "خوليو جونزاليز" على الحد الأقصى للعقوبة (!) الذى تضمنه القانون بعد إدانته فى التاسع عشر من أغسطس وفق 174 مادة اتهام فى تهمتين منفصلتين عقوبتهما الإعدام..! وذكرت القضية أن "جونزاليز" أشعل النار فى كمية من البنزين سكبها على الباب الوحيد للملهى، فى شهر مارس الماضى، لأنه كان على خلاف مع صديقته التى تعمل فى هذا الملهى.. وظاهر أن عقوبة الإعدام ملغاة، وأن القضاء لم يكن أمامه إلا الحكم بالأشغال الشاقة.. تذكرت وأنا أقرأ الخبر الكلمة الشائعة " القانون حمار" وإن كنت لا أدرى أى الطرفين سيغضب القانون أم الحمار؟ وعز على أن تزهق عشرات الأرواح؟ لخلاف وقع بين وغد وخليلته، وأن ينزل القاتل ضيفا على سجن يستمتع فيه بسماع الإذاعة، ويستأنف حياة من لون آخر لا بأس به على الإجمال.. وتساءلت: هل هذا القضاء يعرف أن لله حكما فى هذا الإفساد؟ أم أنه لا يعرف الله أصلا؟ ص _095(4/91)
إن النفس بالنفس شريعة سماوية قديمة، وهذا مجرم أهلك عشرات النفوس ! ومع ذلك فقد صانوا دمه، واعتبر سفكه تخلفا؟ أو جريمة!! واعتبروا القانون الوضعى أرقى وأعدل من الشريعة الإلهية!! الحق أن علاقة الغرب بالله وهمية أو شكلية، وأن الدين هناك هو عطلة عيد الميلاد أو أيام الآحاد، أو هو الحقد التاريخى على الإسلام وأمته، يحمله الاستعمار الغاشم فى أطوائه، سواء كان هذا الاستعمار عسكريا أم ثقافيا.. واحتكام البشر إلى غير ما أنزل هو قمة الهوى، لأن الشهوات الضالة تتحول إلى قاعدة مرعية، أو عرف ملزم، أو حد لا يجوز تخطيه!! وقد قال الله لداود عليه السلام (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) وقال لمحمد عليه الصلاة والسلام : (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) وقال :( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) وقال : (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين). والحق أن أهل الكتاب ـ الذين قلدناهم ـ نسوا كتابهم، واتبعوا أهواءهم، وضلوا وأضلوا ، ولن يحصدوا من مسالكهم العوجاء إلا الخسران المبين! فما حرضنا على متابعتهم فى الحكم بغير ما أنزل الله؟ لا سيما فى شئون الحلال والحرام؟ والحقيقة التى ألفت الأنظار إليها بقوة، أن الدين واسع الدائرة، وأن شعب الإيمان تبلغ السبعين شعبة، وأنها متفاوتة القيمة والوظيفة، فالأصل له مكانه فوق مكانة الفرع، والركن له مكانة فوق مكانة النافلة، وأن هناك روحا عامة تسرى فيها؟ كما تسرى الروح فى أعضاء البدن؟ تهب للمخ الحياة كما تهب للإصبع الحياة، ولكل مكانته وعمله !! ص _096(4/92)
وقد رأيت فى الحقل الإسلامي من ينسى الأصل ويتعلق بالفرع، ومن يغفل عن الركن ويتشبث بالنافلة، ومن يفقد روح اليقين والإخلاص التى تشد تعاليم الإسلام بعضها إلى البعض الآخر. ولذلك تفشل الجهود القاصرة فى خدمة الإسلام، وربما جرت التهم على الدين كله! إن للنفاق ميدانا يرتع فيه ويعرف به ميدان الكذب والخيانة، والخلف والغدر؟ وخسة الخصومة، ويعنى ذلك أن مكانة الأخلاق راسخة عندنا، وأن تجاوزها مستحيل على تقى. وإذا كان القلب مستقر التقوى، فإن القلب الغاش الفارغ لا وزن له.. وإذا كان الجهاد سنام الإيمان؟ فإن ترك الدين أعزل فى ميدان الصناعة والحضارة جريمة كبرى.. وقد لاحظت أن حرب الخليج كشفت عورة العرب، وحددت قدر الإسلاميين وأظهرت أن الصياح الأجوف لا ثمرة له!! لذلك كله، لن يقيم الحكم الإسلامى إلا جيل متين، واسع المعرفة، حاد الذكاء، راشد الرأى.. لا تقل خبرته بالدنيا عن خبرته بالدين حتى يستطيع تطويعها له، وإلزامها حدوده!! ترى؟ هل نراجع أنفسنا وننقدها ونحاسبها، ونحملها على الحق أم نبقى على ما نحن عليه فلا تتغير النتائج؟؟ ص _097(4/93)
استقصاء العدل قرأت من أمد قريب أن نفرا من النقاد ذهب إلى مستر "تشرشل " يعلن تشاؤمه من الاضطراب الخلقى والاجتماعى فى إنجلترا، وأعربوا عن خشيتهم على مستقبل البلاد! فقال لهم "تشرشل ": هل تناول هذا الاضطراب القضاء والقانون؟ قالوا: لا! فقال: لا خوف إذن... وقرأت أمس أن أم الرئيس بوش ـ وهى فى التسعين من عمرها ـ كتبت مظلمة لمصلحة الضرائب التى طالبتها بمبلغ قدره 86 ألف دولار، عن بيت تملكه فى جزيرتها، وقد ذهب أخوها ومحاميها يتظلمان طالبين تخفيض المبلغ ! ولما قيل لها: لماذا لا تخاطبين ابنك؟ قالت: فى أمريكا دستور وقانون قبل ابنى وبعده! ولو ذهبت أستقصى الطرائف على ضمانات العدل بين الناس لضاق المقام! إن الأمم التى ازدهرت وتصدرت لم تصل إلى الأوج مصادفة أو بعد استرخاء واضطراب، لقد تم ذلك لها وفق مقدمات منتظمة أتت نتائجها المحتومة... إن إسلاما مزعوما مع قطيعة وعسف وفوضى ؛ لابد أن يصحبه التقهقر والخراب! أما الإنصاف والتراحم فهما أساس العمران وحصونه التى لا تسقط... وربما استحق البعض غضب الله بعصيانه ومروقه! ومع ذلك فإن القدر الأعلى يأذن له بإثارة الأرض وتعميرها؟ والتكاثر والازدهار فوقها، بسبب خلال حميدة حرص عليها.. ويشهد لذلك ما رواه ابن عباس، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله ليعمر بالقوم الديار؟ ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بُغضا لهم!! قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم!!! وعن عائشة رضى الله عنها؛ أن النبى عليه الصلاة والسلام قال لها: " إن من أُعطى الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة وصلة الرحم وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان فى الأعمار" . ص _098(4/94)
والواقع الذى نراه فى عالمنا شاهد صدق على صحة هذه الآثار، ونحن نعانى من اضطراب خطير فى المفاهيم، ومن اضطراب أخطر فى الحكم على الأشياء من اضطراب المفاهيم ما شكا منه الشاعر القديم: إذا قلت يوما لمن قد ترى أرونى الشريف أروك الغنى ! والغنى ليس دلالة الشرف إلا فى مجتمعات الأكل.. والقلب الملىء بالنبل أشرف من نعل محشوة ذهبا!! وقد أعجبنى ما كتبه الأستاذ " محمد الحيوان " يكشف فيه فنونا من التناقض فى أحوالنا الإدارية؟ تحت عنوان لماذا نأخذ بتقارير الشرطة فى المسائل السياسية، ولا نأخذ بها فى المسائل الأخلاقية؟ إذا كتب تقرير عن أحد بأنه إسلامى يمنع تعيينه أو تؤخر ترقيته ويضيع حقه، وقد يكتب تقرير عن أحد الناس بأنه مصاب بانحراف، ومع ذلك تسند إليه وظيفة كبيرة، وقد يكتب عنه أنه مقامر، ومع ذلك يتولى عملا له مسئوليات جسام، وقد يقال: هذه السيدة فى حالة تسيب ؛ ومع ذلك توضع فى مكان السيطرة، أو أن هذا الرجل يعمل فى السوق السوداء، ومع ذلك نوليه الإشراف على السلع التموينية، أى أننا نحاسب السياسيين ولا نحاسب الخائنين والمرتشين... ومهزلة نواب المخدرات لها أكثر من دلالة، وأحسب أن فصلهم كان سيتم لو أن الشواهد أثبتت أنهم من الأصوليين!! بل ما كانوا ليدخلوا المجلس أصلا!! أعتقد أن قضية الأخلاق الخاصة أو العامة يجب أن تشغلنا. إن تقدم الغرب لا يرجع إلى تفوقه الصناعى أو العسكرى قدر ما يرجع إلى النظم الأخلاقية، والتقاليد المحكمة التى تسود أرجاءه.. وكثيرا ما أرى مشكلات كثيرة التعقيد، أعجزت من تصدى لحلها، وما هذا العجز إلا لأنهم عموا عن الداء الدفين، داء القلب الميت والخلق السائب، أو ما عناه القرآن الكريم عندما قال : (و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا). القلب الغافل والشهوة الغالبة، والأحوال الفرط، تلك هى عللنا التى أودت بنا وأخرت جماعتنا وهزمتنا في كل صراع. ص _099(4/95)
من تصحيح المفاهيم كلمة التوحيد أعلى شعب الإيمان، وهى عنوان الإسلام وموضوعه ومدخله وحقيقته ذلك أن الخوف من الله والرجاء فيه والتوكل عليه والاعتصام به لا يتم إلا بصدق التوحيد! وقد وردت فى قيمة الكلمة العظيمة أحاديث تحتاج إلى بيان، منها ما يسمى بحديث البطاقة وهو ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله سيخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتى الحافظون؟. فيقول : لا يا رب! فيقول : أفلك عذر؟ فيقول : لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم! فتُخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقول الله له : احضر وزنك! فيقول: ياربى ما هذه البطاقة من هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم.. فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله أحد وظاهر هذا الحديث أن التوحيد لا يضر معه شىء، وهو فهم يحتاج إلى نظر! وعندما قرأت هذا الحديث ذكرت قصة روتها كتب السنة أن رجلا جاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يستعد للقاء العدو. فقال له: أقاتل معك ثم أسلم، أم أسلم أولا ثم أقاتل معك؟ فقال له الرسول: بل تسلم أولا، فأسلم واشتبك مع الأعداء فقُتل وفاز بالشهادة ! ص _100(4/96)
فقال الرسول: عمل قليلا ونال كثيرا! قلت فى نفسى لعل ذلك الرجل صاحب هذه السجلات الملأى بالذنوب، وهو جدير بالمغفرة بعد ما جاد بروحه فى سبيل الله... إن فرقة من المسلمين اسمها المرجئة اعتمدت على حديث البطاقة الذى ذكرناه وأسقطت الأعمال عن الناس، وهونت الواجبات الضخمة وجرأت على الذنوب العظام! وهى فرقة ضالة مضلة، ولعلها سبب سقوط الحضارة الإسلامية واستهانة الناس بالتكاليف الشاقة؟ بل هى في وراء ذهول العامة عن القانون الإسلامى الجليل (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره). وقوله تعالى : (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا). إن الإسلام اليوم يحيط به أعداء مكرة مهرة ويحتاج إلى أهل النجدة والفداء ليدفعوا عنه، أما كلمة الإسلام التى تمرق بين الشفتين دون رصيد من إيمان أو خلق فلا جدوى منها " ولا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ". *** ص _101(4/97)
خيبة الأمل... استطاعت الحضارة الحديثة أن تطوى القارات الخمس تحت جناحها وأن تجعل البشر عامة ينتفعون بثمارها المادية التى رفهت معايشهم ويسرت مرافقهم، اختفت مصابيح الزيت وحلت محلها ثريات الكهرباء، واختفت الأفران القديمة وما تتطلب من أحطاب وأخشاب لتحل محلها أفران أنيقة خفيفة الوقود وصار التنقل بالسيارات والطائرات بعد ما كان بالخيل والبغال والحمير! والمهم أن هذه الحضارة قدمت فلسفتها فى فهم الوجود وخطتها فى قضاء العمر وعبور الحياة بين يدى خدمات مادية حسنة ورؤى واقعية سهلة. وكان المسلمون قد فقدوا قوة الدفع وتذوق الوحى ولباقة التصرف فألقوا بأنفسهم بين أحضان الجديد المقبل وذاب أكثرهم فيه، ونحن ما نرفض دنيا حسنة وإنما نرفض أن تكون هذه الدنيا "طعما " لنسيان الله واطراح وحيه، ونرفض أن يكون الفقر المادى ذريعة للانحراف والمروق. وإن جماهير من الناس غرتهم هذه الحضارة وأعجبتهم فماذا يفعلون؟ ظنوا أنهم يلتحقون بأصحابها إذا ارتدوا ملابسهم وقلدوا مسالكهم فهل أفلحوا؟ كلا، كان ينبغى أن يدرسوا سر تفوق القوم، ومصادر المعرفة التى نقلتهم إلى ما بلغوا ولو اختاروا هذا الطريق لأدركوا أن دراسة الكون وقواه من وراء هذا النجاح الباهر! فهل دراسة الكون والتأمل الواعى فى خلق السماوات والأرض اختراع أوروبى؟ أم هو توجيه قرآنى فى مئات الآيات؟. إن المسلمين ظلموا أنفسهم وكتابهم وتاريخهم وحضارتهم عندما أداروا ظهورهم لآيات الله فى العالمين وانشغلوا بالمتشابه من آيات الوحى وحسبوا أنهم يبنون العلالى وما دروا أنهم يحفرون لأنفسهم القبور! ماذا جنينا؟ لقد تسلح الإلحاد،" بتفوق علمى فى البر والبحر والجو وبقينا فى أماكننا محسورين! ص _102(4/98)
قرأت هذه السطور فى بحث عن مستقبل الشرق الأوسط أنقلها للعبرة. يقول البحث نحن نحتاج اليوم إلى جهد أقل وتربة أقل وماء أقل نستخرج منتجات أكثر وأكثر! فالولايات المتحدة التى تستخدم 1.5% من قواها العاملة فى الزراعة تنتج 25% من مقادير الغذاء فى العالم فى حين لم يستطع الاتحاد السوفيتى أن يصل إلى الاكتفاء الذاتى مع أنه يستخدم 33% من قواه العاملة فى الزراعة! وقد اشترى السوفيت البقر من إسرائيل لماذا؟ لأن البقرة فى إسرائيل تعطى من الحليب ثلاثة أضعاف المقدار الذى تعطيه البقرة فى روسيا رغم أن البقر هو البقر! وله ذات الصفات، الفرق هو الطريقة التى تصل بالانتاج إلى ثلاثة أضعاف، الفرق هو فى الارتقاء العلمى !! وقد رأيت فى التلفاز صورة لنجاح اليهود فى زراعة قطن ملون. والقطن كما نعرفه أبيض ناصع وكان الفلاحون عند جنى القطن فى بلادنا يغنون " نورت يا قطن الليل "! لشدة بياضه!! إن الارتقاء العلمى سيغنيهم عن تكاليف الصناعة، أظن أنه لو حاول ذلك عندنا أحد العلماء لجاءه من يقول له لا تفعل فإنه تغيير لخلق الله!! والجنون فنون. ص _103(4/99)
النساء والقبور سألنى أحد الناس غاضبا: لماذا لم تحدث النساء ألا يزرن القبور وأنت تتحدث فى أمور كثيرة؟ فقلت له: تقصد أن أحدثهن عن آداب الزيارة؟ قال: بل تمنعهن منعا قاطعا كما أمر الإسلام! قلت له: عيبكم أنكم تعرفون وجها واحدا من وجوه القضية الفقهية ـ ثم تتعصبون له وتحاولون الوصول به إلى مجلس الأمن!. تعال بنا إلى أقرب وأدق مرجع فى هذه الشئون، إلى فقه السنة للشيخ سيد سابق وسنرى فيه هذا الكلام "رخص مالك وبعض الأحناف ورواية عن أحمد وأكثر العلماء فى زيارة النساء للقبور. وفى الحديث أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت من قبر أخى عبد الرحمن، فقلت لها؟ أليس كان نهى رسول الله عن زيارة القبور؟ قالت نعم. كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها وروى البخارى ومسلم أن رسول الله مر بامرأة عند قبر تبكى على صبى لها، فقال لها اتقى الله واصبرى فقالت وما تبالى؟ بمصيبتى.. فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله ـ ولم تكن تعرفه ـ فأخذها مثل الموت فآتت بيته، فلم تجد بوابا، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك! فقال لها: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" ولم ينكر عليها أن كانت فى المقابر وقد ورد حديث ضعيف عن أحمد بن حنبل " لعن الله زوارات القبور" وهذا الحديث إن صح فهو يرفض العكوف على الزيارة وتكرارها ونقل وحشة القبور إلى البيوت وإثارة جزع لا ينتهى، وذاك ما يأباه الطبع السليم . ص _104(4/100)
وقد أطلت شرح هذه القضية لأنى رأيت بعض الناس لا يعرف إلا رأيا واحدا فى مسألة فقهية، ولعله يعرف الرأى الأضعف ثم يغالى به ويريد حمل الكافة عليه ويجأر بالشكوى من فساد الدنيا والدين لأن الناس لم يتبعوه على رأيه! وقد كثر الشغب بين العوام على قضايا الخلاف ورأينا غلمانا لا يملكون إلا بعض القشور يريدون تمزيق الأمة بترجيح مذهب على مذهب أو إيثار رأى على رأى، وهؤلاء فتنة نحذر الناس من غوائلها. إن الفقه الإسلامى حافل بآلاف الآراء فى شتى الأحكام ومعنى خلاف الأئمة أن فى الأمر سعة، فإن للمخطئ وللمجتهد أجرهما وليس فى الإسلام أن الفقيه المخطئ عصى الله ورسوله وعليه وزر خطئه!! إن الذين ينشرون التعصب ويشعلون المعارك لنصرة رأى إمام على إمام مثله خطر على وحدة أمتنا ومستقبلها فى أيام تألب على الإسلام أعداؤه يريدون النيل منه. *** ص _105(4/101)
شباك منصوبة لو كان سلمان رشدى أخطأ فى اجتهاد فقهى أو تحقيق تاريخى لقلت: باحث ضل طريقه إلى الصواب وما أكثر الذين يخطئون وتلتمس لهم الأعذار! لكن هذا المخلوق صاحب طبيعة نابحة وخيال خسيس، وقد اتجه إلى القمم يريد النيل منها فألف روايته فى تجريح بيت النبوة، ولو عرف للشهرة طريقا آخر ما نجت منه الصديقة مريم ابنة عمران، ولا ابنها المسيح المبارك، ولوجد فى روايات اليهود ما يشبع طبيعته فى السباب. ولكن هذا الكاتب آثر طريقا قليل الأخطار كثير الأنصار من سماسرة الاستعمار فشتم محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآل بيته الأطهار، وقد وجد ما يبغى! قابله رؤساء الدول، وهشوا لحديثه، وانحازوا إلى جانبه وقال كبيرهم بعد أن قضى معه ساعتين: إننى أريد توكيد حرية النشر!! نشر ماذا يا رجل؟ أفلو كتب أن مريم عليها السلام بغى وابنها لقيط ـ كما يزعم اليهود ـ كنت تستقبله؟. هل شتم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو تذكرة الدخول على رؤساء الدول الغربية؟. إن حقدكم على الإسلام مرض عضال يبدو أنه ليس منه شفاء، وقد لاحظت أن الإسلام يحارب تحت عناوين، لعل أهونها حرية النشر هذه! فالعالم الإسلامى الذى يبلغ خمس سكان العالم يجب أن يغطى كيانه ويضيع عنوانه ولذلك اخترعت كلمات الشرق الأوسط، وشعوب البحر الأبيض، ووحدة الدول الإفريقية! والشعوب الأفروآسيوية! وقد تخترع كلمات جديدة المهم فيها ألا يظهر العالم الإسلامى ظهورا يخدم قضاياه، أو يذكر بعقائده ورسالاته...! وعندما يقال الشرق الأوسط فستكون إسرائيل أهم دولة وأقواها وأعرقها حضارة وستكون مالكة الزمام الاقتصادى لأنها المنتجة بين جماهير من المستهلكين.! أما العرب وتاريخهم ودينهم ومستقبلهم فذكريات الماضى يجب أن يهال عليها التراب! ص _106(4/102)
واذا قيل: شعوب البحر المتوسط فجنوب أوروبا سيد الموقف، وقد اعتبرت مصر من الدول " الفرنكفونية " وأسست بها جامعة " ليوبلد سنجور" السنغالى المتفرنس وتفرض الآن العلمانية على أغلب دوله حتى تنقطع العلاقة بين الإسلام وأتباعه وطوى تعاليمه التربوية والاجتماعية، كما أنزلت رايته فى عالم القانون والتشريع والغزو الثقافى ناشط فى هذا المجال وسماسرته تفتح لهم الأبواب ويحظون بالحفاوة والترحاب! إننى أحذر المسلمين من الشباك المنصوبة لاغتيال دينهم والقضاء عليهم، ولقد تقدم أعداؤنا فى جبهات شتى، والمسلمون بين غافل ومسترسل ومخدوع ومخدر فلنصح قبل فوات الأوان وإلا حق علينا العقاب. ص _107(4/103)
الغش الثقافى أكره الغش الثقافى المنتشر بين العامة وأحسبه مسئولا عن بعض الهزائم التى تصيبنا ونحن ندعو إلى الإسلام، ووددت لو أن لجانا علمية تكونت لكشف هذا الغش وذود الناس عن تصديقه. قرأت لمفسر يشرح قوله تعالى : (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) أن هذه الليلة ليلة النصف من شعبان!! فاستغربت هذا الخطأ وقلت ألم يقرأ الرجل قوله تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن…)؟ فكيف يكون النزول فى شعبان؟. ومع ذلك يثبت هذا الهراء على أنه رأى! وبعض المفسرين لا يرى مانعا من ذكر الرأى السخيف المخالف لليقينيات ثم يرده بعد ذلك، ففى قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) يقول حتى تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ويقول تستأنسوا خطأ من الكاتب (!) ثم يقول المفسر اللبيب : وفى هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر. وكان يجب أن يدفن هذا القول المروى، فإذا ذكر لأمر ما وجب تكذيبه فورا والإزراء عليه.. وبعض الجهلة بلغة العرب أو العجزة فى علم النحو لم يفهموا النصب على الاختصاص فى قوله تعالى "... والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " وظنوا أن النصب خطأ ونسبوا جهلهم إلى بعض الصحابة ووجد هذا الزور للأسف من يرويه ولا يستحى من حكايته! وأرى أن ننظر بإنصاف وتدقيق إلى بعض كتبنا القديمة لنجردها من هذا اللغو الباطل، المجمع على بطلانه.. لماذا نستبقى هذا الغش القبيح ؟ ص _108(4/104)
وهذا الدخل فى الثقافة الإسلامية تسلل إلى ميدان الأمر والنهى والحلال والحرام فقد سمعت شكاة لأسرة تقول إن رب البيت أمر بتجريد بيته من السرير والمائدة، لأن النوم على الأسرة بدعه وكذلك الأكل على المائدة، يجب النوم على الأرض والأكل على الأرض ! إن الجبهة التى نقاتل فيها عن الإسلام تتسع لأن الغلاة والمتطرفين أوجبوا على من يدخل فى الإسلام أن يعيش على نهج لم يؤلف فى كتاب أو سنة، فإذا دخلت فى الإسلام فكن كهذا الصوفى الذى إذا أراد النوم قال: أجعل الساعد اليمين وسادا ثم أثنى إذا انقلبت الشمالا ! لا وسادة ولا مخدة ولا فراش ولا حشية! إن دعوة التوحيد والعقل يعرضها بعض الناس عرضا ينافى الوحى والرأى فهل نتدارك هذه الأخطاء؟. *** ص _109(4/105)
من نسخ الآية؟ إذا انتشر القصور فى الفكر والفوضى فى الحكم فلن يصح فى الأذهان شراء.. جلس رجل يفسر القرآن للناس ، فقال : إن الآية الموجودة فى سورة البقرة (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) منسوخة، وقد أكد الصحابة رضوان الله عليهم هذا النسخ بمقاتلتهم للروم والفرس، مستصحبين قوله تعالى :(قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) واستثارنى هذا الجهل، فقلت للمفسر المخطئ : من أنبأك أن الروم والفرس لم يكونوا معتدين على العرب والمسلمين؟ هل إذا اجتاح الروس أفغانستان، وأقاموا بها حكما فشرع المجاهدون فى المقاومة وشن الغارات عليهم؟ اعتبروا مهاجمين ملومين؟ هل إذا احتل اليهود فلسطين فشرع العرب فى رد العدوان، وإخراج الطغاة اعتبروا مهاجمين ملومين؟ لقد جاء الرومان من أوروبا فاحتلوا سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وهبطوا معتدين على تبوك ومؤتة من أرض الجزيرة! فهل إذا بدأ المسلمون فى إخراجهم من الشام ومصر وسائر الأقطار التى نكبت بهم؟ يعتبر المسلمون معتدين، ويقال إن آية تحريم العدوان منسوخة؟ هذا هو الغباء المحض، وما يجوز لغبى يعجز عن رؤية الواقع أن يفسر القرآن، ويحاول إفساد معانيه... إنكم بهذا التفسير الذى ينسخ ما تعجزون عن فهمه تبيحون سياسة قطع الطريق وترويع الأبرياء... لقد كانت الحرب مع الروم من أعدل الحروب التى وقعت على ظهر الأرض، ص _110(4/106)
ويشبهها فى هذا العصر قتال الصهاينة والمستعمرين حتى تعود الأرض لأصحابها، وتنتهى هذه المظالم.. كيف يزعم زاعم أن قوله تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا).. آية منسوخة؟ هل أصبح الله يحب المعتدين وكان من قبل يكرههم؟ أم كيف يجئ أحد بساطور يضرب به الآية فيقسمها قسمين، يبطل أحدهما ويستبقى الآخر؟ يجب أن تذاد هذه العقول العليلة عن فقه الكتاب والسنة، فلا تفسد علي الناس دينهم.. وما قلناه فى هذه الآية نقوله فى الآية الأخرى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) فإن بعض الشواذ قال بنسخها، وهو بهذا الفهم شارد عن الصواب، ولم يقع قط فى تاريخ الرسول وصحابته أن أكره أحد على الإسلام، بل إن الإكراه على الدين منتف من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد قال نوح عليه السلام لقومه ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) ثم قيل لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك بعشرات القرون (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أنبياء الله كلهم يرفضون الإكراه؟ ويعرفون الإقناع الحر؟ فكيف يتاح لذى عقل مدخول أن يفسر القرآن بهواه، فيصف آية محكمة بأنها منسوخة؟؟ إننى أعانى الأمرين فى هذه الأيام من أناس لا يحسنون فهم تأليف أرضى لبشر عادى... ئم يجيئون بعجزهم هذا إلى كتاب الله؟ كى يلبسوا الحق بالباطل..! إن دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى. ص _111(4/107)
أصوات الطيور أنا من القلائل الذين يعرفون العقاد شاعرا كما يعرفونه ناثرا، وعندما كنت طالبا ناشئا كنت أستجيد شعره وتتماسك فى ذاكرتى أبيات شتى له. ثم أقمت ببيتى فى القاهرة ولفت انتباهى كروان يمر بالسماء والسحر يرسل هتافه المتتابع العجول فكنت أردد بيت العقاد يناجى صاحب الصوت. أنا لا أراك، وطالما طرق النهى وحى ولم تظفر به عينان! وكنت أذكر عهد الريف، وشعبنا المؤمن الذى يفسر أصوات الطيور بما استكن فى قلبه من إيمان. لقد فسر هديل اليمام المتقطع الجاد فقال: إنه يصيح بالبشر : وحدوا ربكم وحدوا ربكم!! وفسر هتفات الكروان السريعة المتلاحقة بأنه يقول لله : الملك لك لك. يا صاحب الملك.! وظاهر أن هذه التفاسير نضح إيمان الناس بربهم، ووعيهم أن كل شىء يسبح بحمده، ويتغنى بمجده.. وقد كان شعراء الغزل ينطقون الحمام بمشاعرهم على نحو ما قال أحدهم: رب ورقاء هتوف بالضحى ذات سجع رجعت فى فنن إلى أن يقول: غير أنى بالجوى أعرفها وهى أيضا بالجوى تعرفنى! لكن الأستاذ الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى رأى أن ينطق الكروان بغير ما تعارف عليه الناس، فزعم أن الكروان يقول : الملك لك لك أيها الإنسان.. وهو بذلك يؤكد أن الإنسان ملك الكون، وأن الملك ليس لله الواحد! لقد كان مؤمنا قبل أن يسافر إلى فرنسا وأحسب ـ إذا لم تخنى الذاكرة ـ أنه غنيت له قصيدة دينية فلما اعتنق الشيوعية وعاد إلى مصر رأى أن يكفر وزعم أن الكروان يكفر بالله معه، ويؤمن بالإنسان وحده! ص _112(4/108)
والغريب أن تنشر الأهرام للدكتور غالى شكرى تحية لهذا الاتجاه، واتهاما للشعب المصرى بأن أولى عاهاته الفكرية أنه مؤمن بالغيب! ولما كان الرجل مسيحيا فقد تساءلت : هل الإسلام وحده هو المؤمن بالغيب أم أن القصة كلها خلع الإسلام من القلوب وإيجاد شعب تائه؟ إن جماعة " التنوير" كما تسمى نفسها تكره الله كراهية شديدة وتتنكر لوحيه وهداياته كلها.. وتريد بكل الوسائل سرقة العقائد من القلوب، ولها فى ذلك حيل وألاعيب لا تخفى على أولى الألباب وعلى الناس أن يحرسوا إيمانهم ويكتشفوا ما يراد بهم... ص _113(4/109)
ماذا ننتظر بعضهم يحسب المتدينين أصحاب فكر غيبى غبى لا يثبت على تجربة أو اختبار، وأنهم جامدون على تراثهم لا ينفكون عنه على كثرة المحاولات معهم..! أنا أكره التدين من هذا النوع وأرفض أصحابه، ولكنى أشد كراهية لقبيل من الناس صلتهم بأوروبا كصلة الجاهليين القدامى باللات والعزى، يمشون وراءها فى كل طريق مهما كان وعرا، ويؤيدونها فى كل شأن مهما كان سخيفا... وأنا منذ شهور أحس بالقلق العام الذى يسود المجتمع لكثرة الجرائم، وتعدد صورها، وعجز القانون المستورد عن مقاومتها، ومع ذلك لا نفكر فى تغييره بما هو أفضل وأشرف؟ لأنه أوروبى! هذا شاب فى السابعة عشرة من عمره، قتل صبيا وفسق بأخر؟ حكم عليه بالسجن لأنه حدث، والحدث فى شريعة القانون الأوروبى من كان دون الثامنة عشرة من عمره؟ فهذا لا ينفذ فيه العقاب الطبيعى. ولست أدرى ما يكسبه المجتمع من الحرص على حياة شاب فاسق قاتل؟ ولماذا لا تنفذ أحكام الشريعة فى ربط التكاليف بسن البلوغ، وللبلوغ شاراته المعروفة، إن محمد بن القاسم فاتح الهند كان فى الثامنة عشرة من عمره ـ والتأريخ بالهجرى ـ أى أنه كان أكبر بشهور من هذا المجرم المعفو عنه. وسوف يذهب المجرم إلى السجن ليخرج أكثر شذوذا وأضرى أخلاقا! فماذا كسبنا؟ وقد يكون القاتل ارتكب جريمته دون سبق إصرار، فيعاقب بالسجن سنين عددا ثم يخرج... ومنذ أيام خرج قاتل بعد قضاء المدة المحكوم بها، وكان ابن القتيل يتربص به، فاقتص منه، وقبض رجال الشرطة عليه، وسوف تتكرر المأساة مع أحكام القانون القائم فى عشرات المدن والقرى. ص _114(4/110)
وقرأت قصة ابن البواب الذى تسلل إلى الشقة ليسرقها، فوجد ساكنها التاجر أمامه، فأطبق على عنقه يعتصره حتى قتله وهرب! قلت: سيجد من يدفع عنه بأنه لم يكن مترصدا، ويبعده عن حبل المشنقة!! الشريعة تقول: من قتل عمدا يقتل، فمن أين اخترعت هذه الشروط؟ وماذا كسبنا من احترامها إلا وقوع جرائم القتل بالآلاف؟ وعدم تنفيذ القصاص إلا آحادا..؟ لقد كثرت جرائم السطو المسلح، وقطع الطريق واغتصاب الفتيات، فهلا جربنا حكم الشارع الحكيم، فقتلنا وصلبنا؟؟ جربوا ذلك دون احترام لرأى الأوروبيين، الذين ألغوا القصاص جملة وتفصيلا، وأباحوا اللواطة والزنا كذلك جملة وتفصيلا! إن القيمة العقلية والخلقية لآراء هؤلاء الناس صفر، ومتابعتهم بلاهة ودمار.. إن التساهل مع المجرمين زادهم ضراوة، وجعل حبل الأمن مضطربا، فما يأمن أحد على نفسه فى ظلام الليل، أو وحشة النهار.. والأوروبيون يعصون كتابهم المقدس بهذا التفريط، ولديهم شريعة السن بالسن والعين بالعين، فإذا رأوا بعد اضطراب إيمانهم أن يلغوا أحكام ربهم ويسيروا وفق شهواتهم فمالنا ولهم؟ ولماذا نتابعهم وقد قال الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) هل ننتظر حتى ينقطع الطريق بين المقطم ووسط العاصمة؟ هل ننتظر حتى ينقطع الطريق بين مصر الجديدة والقاهرة؟ ماذا نخاف إذا نفذنا شريعة الله؟ أن يجئ خواجة ملتاث سكران فيقول لنا: أنتم متخلفون!! أو يجئ آخر مستباح العرض فى الليالى الحمراء أو فى وضح النهار؟ ليقول لنا أنتم متوحشون!! إن للأوروبيين بعض المزايا العمرانية، أما وراء ذلك فلا... ولا كرامة. ص _115(4/111)
دعوة لروح جديدة القوى المعادية للإسلام دائبة على إلحاق الأذى به ما استطاعت، يمدها حقد مشبوب؟ وبصر يبحث عن العيوب؟ وقدرة على استغلال الأخطاء لتحويلها إلى مقاتل وعطوب.. إن العالم يعرف أن إسرائيل تملك من أسلحة الدمار الشامل مالا تملك العراق ولا باكستان، ومع ذلك لم ينبس بحرف واحد ضد اليهود، ولا جرؤ أن يوجه إليهم تهمة.. لكنه مع جبنه أو رضاه يضرب العلماء المسلمين بقوة، ويهجم على شعوبهم بجبروت، ويعالن برفضه أن تكون لدى المسلمين أسلحة نووية!! هذا الجور فى الحكم، وهذا الكيل بكيلين ينم عما وراءه من نيات السوء وما يبيته على مر الأيام من شر لأمتنا وديننا.. وفى الوقت الذى يتم فيه هذا دوليا يعلن " شارون " بطل مذبحة صبرة وشاتيلا، أنه سيقود الجبهة الحاكمة فى إسرائيل، ويوعز إلى بعض "المتطرفين " من أتباعه أن يسكنوا البيوت العربية فى القدس، تحت شعار أن الإسرائيلى يسكن أين يشاء فى الأرض المقدسة فهى ميراثه العتيد..!! لقد أسكرتهم الانتصارات الرخيصة التى أحرزوها، وحسب قواد العصابات القدماء أنهم قادرون كل يوم على إحراز نصر جديد، ومن ثم يتكلمون بتبجح مثير! ويتحدثون عن الحرب دون اكتراث! ويريدون أن يملوا على العرب شروط المنتصر، وأن يذيقوهم ذل المغلوب..!! وما كان العرب ليواجهوا هذا الموقف لولا الأخطاء الكبرى لساستهم وزعمائهم! لو أن الجيش المصرى لم يبدد قواه فى اليمن ما لحقت به هزيمة يونيو سنة 1967، إنه فى ست ساعات خسرنا القدس والضفة والقطاع والجولان وسيناء، ولو أن الجيش العراقى لم يبدد قواه فى غزو الكويت لأدار الحرب على كبد إسرائيل، واسترد منها كل ما غصبت ورمى بها فى البحر.. ص _116(4/112)
وهكذا وهبنا لليهود نصرا ما كانوا ليحرزوه أبدا، وأطلقنا أفواههم بالدعاوى، وصدق من قال: إن الزرازير لما قام قائمها توهمت أنها صارت شواهينا! إن اليهود أذل وأقل من أن ينتصروا فى معركة، إن أخطاءنا وحدنا هى التى صنعت لهم النصر، وأغرتهم بالنباح العالى. والعرب الآن يُنادون إلى مؤتمر سلام، حسنا، نحن طلاب سلام، ولكن اليهود من اللحظة الأولى يريدونه مؤتمر استسلام، وتسمعهم يقولون: إن لنا حق اختيار الوفد الفلسطينى الذى نتحدث معه! لا نقبل أن يذهب من القدس المحتلة أحد ليفاوضنا، فالقدس صارت ملكنا.. لا تنازل عن الأرض التى كسبناها.. اللاءات على أفواههم كثيرة. ونحن المسئولون أولا وآخرا.. إننا نستطيع أن نحل مشكلتنا بأيدينا لو أردنا، لماذا يقصى الإسلام عن المعركة وتبقى اليهودية؟ لماذا يكون انتماؤهم الدينى مباحا وانتماؤنا الإسلامى حراما؟ إننا بالقوى القليلة التى لدينا نستطيع بتأييد الله لنا أن نسترد ما فقدنا ونعود ظافرين.. وقد تقول: سلاحنا أقل..! وأقول: كان أكثر فهزمته الفرعونية الحاكمة ونسيان الله؟ قبل أن يهزمنا أحد، إن اليهود لم يهزمونا فى المعارك السابقة إننا نحن الذين انتحرنا!!! إن العرب بحاجة إلى روح جديدة، اسمها الإيمان بالله، والاعتزاز بالتراث والثقة بضمان الله لمن يأوي إليه.. وهم إذا تغيروا غير الله ما بهم (إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون). أوصى الرجال الذاهبين إلى مؤتمر السلام أن يعتمدوا على الله، وألا تضطرب ثقتهم فيه، وأن يحادثوا اليهود من منطلق قوة لا من منطلق ضعف، فإن الغد لنا إن لم يكن اليوم لنا. ولتزأر العصابات الغالبة المغترة، فلن يطول بها غرور، ولن يمتد لها فجور وإن غدا لناظره قريب.. ص _117(4/113)
الزواج ليست الغريزة الجنسية رجسا من عمل الشيطان، إن الإسلام ـ وهو دين الفطرة ينظر إليها على أنها واقع لا يجوز تجاهله، وكل ما يفعله أن يضعها فى إطار طاهر بشوش ينمى خيرها ويمنع انحرافها.. فإذا استقامت على أمر الله كان إيحاؤها عبادة، ومذاقها سعادة، تأمل فى قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اللقمة تضعها فى فم امرأتك لك بها أجر " وقوله : " فى بضع أحدكم صدقة لما فتساءل أحد الصحابة : أيقضى أحدنا شهوته وله أجر؟ فقال له: أرأيت إن وضعها فى حرام أليس عليه وزر؟! إن مسلك هذه الغريزة إذا استقام على السنن الجاد كان طاعة لله تعالى، وكان إرضاء لله أن تحب زوجتك وتلاعبها وتداعبها.. إن الرائحة الحسنة ترفع الإحساس وتريح الطبع، وقد ضم إليها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة التى أنعم الله بها، فقال: حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وقرة عينى فى الصلاة"... وأغلب الفقهاء يجعل الزواج من العبادات! ويجعل نفقة الرجل فى بيته صدقة تكتب له... ـ وطبيعى أن يهتم الإسلام بالمناسبة التاريخية التى يبدأ بها الزواج، فهو يستحب الاحتفال بها، وقد قال الرسول لأحد أصحابه: " أولم ولو بشاة" وصح فى السنة المطهرة أن النبى عليه الصلاة والسلام حضر حفل زفاف، فكانت العروس هى التى تتحف الأصحاب بالشراب الطهور، والطعام الهنىء.. وإن كان القصد هو السمة الغالبة على المجتمع الأول، والإسلام يكره الإسراف الذى تراق فيه الأموال دون وعى، وقد وصف حافظ إبراهيم إحدى ليلات زفاف من هذا النوع فقال : قد شهدنا أمس فى مصر عرسا جعلت أضواؤه الظلام نهارا...! سال فيه النضار حتى حسبنا أن ذاك الفناء يجرى نضارا...! ص _118(4/114)
والمعروف فى سنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه استحب اللهو أيام الزفاف، وسمح بالغناء الرقيق اللطيف. أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ولولا الحبة السمراء ما سمنت عذاريكم ويقصد بالحبة السمراء القمح...! والغناء والموسيقى لا بأس بهما فى الأعراس، والمهم اختيار ألفاظ شريفة وأنغام حسنة! وقد سمعت من يطلب إحياء الأعراس بالقرآن زاعما أن هذه هى السنة! والقرآن كتاب جاد، نزل لتسيير الحياة، ولم ينزل لأحفال الموتى والأحياء، فذاك كله من أعمال الناس؟ أو مخترعاتهم.. المسلك الصحيح أن نحتفل بما يسر، وأن نذكر نعمة الله بالزواج، وتجمع الأحبة، وقد كان الزوج يأخذ بناصية زوجته، ويدعو الله لها، ويدعو لنفسه بالبركة، وفى القرآن الكريم من دعاء عباد الرحمن (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، والدعاء المأثور عند المباشرة "اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا". نظرة الإسلام إلى الزواج أنه نعمة مضاعفة تُستقبل بالترحاب والبشر، وقد عده القرآن الكريم من آلاء الله التى تذكر وتشكر (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ..) وهكذا تمتد الحياة من الأجداد إلى الأولاد وإلى الأحفاد.. واتصال حلقات الحياة على هذا النحو جعل الزواج من آيات الله الكبرى، نعم، فعندما يقول : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ثم يختم هذه الآيات بقوله: "ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره.. " فإذا كانت للزواج هذه المكانة؟ فلعل الليلة الأولى فيه تستحق الحفاوة والإعزاز.. وجميل كل بدء ينتهى خير انتهاء... ص _119(4/115)
الفن كان الأستاذ العقاد ـ فى عصره ـ ينتقد الفنون العربية ويقول: إن الفن فى الغرب تمثيل للحقيقة أما لدينا فهو تمثيل للتمثيل! أى أننا نحاكى ما يصنع الغير دون أن نعرف بواعثه أو أهدافه.. وقد تذكرت هذه الكلمة وأنا أقرأ ما وقع فى مهرجان "كان " بفرنسا. إن المتعصبين الصليبيين ساءهم أن يصور الفن بأمانة ما وقع من مخاز وفضائح فى البوسنة فضربوا الفنان الذى سجل المجازر هناك، والذى أبرز وحشية الصربيين وهم يخمدون أنفاس المسلمين ويذيقونهم ألوان الحتوف. وقد اضطر وزير الثقافة الفرنسى أن يدافع عن هذا الفنان وأن ينقذه من أيديهم! مع أن هذا الوزير هو الذى منح سلمان رشدى جائزة باسم الاتحاد الأوروبى، على إيذائه للإسلام بداهة ! لقد تساءلت: ماذا يفعل الفنانون العرب؟ وهل فكروا فى خدمة القضايا الإسلامية؟ وهل ذهبوا إلى الساحات التى يهان فيها الإسلام لينقلوا للعاملين ما يقع فيها وليجسموه فى صور حية حتى يحسر الناس بما هنالك! إن الإعلام فى أرجاء الأرض ثقافة وتسلية، ولكن يظهر أنه عندنا وحدنا تسلية وحسب، تسلية لا ترتبط دائما بالأدب العالى أو التقاليد المضبوطة.. إن المسلمين من الناحية العسكرية ضعاف وعند التقسيم السياسى للسكان فى العالم وضع مسلمون كثيرون تحت حكم نحل أخرى وتعرضوا للفتن فى أنفسهم وأموالهم فهل تطوع فنانون عرب بعرض روايات فى شتى القارات لما يصيب المسلمين؟ إن اليهود لما عذبوا فى ألمانيا الهتلرية عرض ما نزل بهم مضاعفا آلاف الموات حتى صدق العالم أن ملايين منهم أبيدوا ولا تزال الجوائز حتى هذه السنة تمنح لمن يحسن المبالغة فى تصوير فتك النازى باليهود.. ص _120(4/116)
ما أرخص آلامنا وأحراها بالكتمان والنسيان أما آلام غيرنا فهى التى تذاع وتمثل وترتفع لها الموسيقات الحزينة ثم يطالب لها أخيرا بالقصاص! لماذا لا يكون الغناء إلا غزلا؟ هل انحصر الأدب فى الغريزة الجنسية؟ لماذا يمكن تمثيل كل شىء إلا هزائمنا وانتصاراتنا؟ وإلا قضايا العقيدة ومحاولات الآخرين لمحو الإيمان والعمل الصالح؟ لماذا تكون الفنون حركات جسدية ولا تكون أمجادا تاريخية وأشواقا روحية؟ ** * ص _121
كلمة فى " فن الأدب " عندما أدليت بحديث صحافى عن موقف الإسلام من الفنون لم اقترب خطوة من أحد، ولم أبتعد خطوة عن أحد!! كنت فى مكانى الذى لا أتزحزح عنه وهو تعليم الإسلام للجاهلين به والجاحدين له، والاعتماد فيما أقول على دراسات أئمة الإسلام وشيوخه الكبار... مع إحساس فى الوقت نفسه بالمحن التى يتعرض لها المسلمون والهزائم التى أذلت جانبهم! ومن حقى أن أعجب لأناس يبحثون عن اللذة وأقوامهم يمرغون فى التراب أو يتغزلون فى النساء وأعراضهم تُغزى بنطف الكلاب كما يفعل الصربيون بفتياتنا ! قد تضحك أوروبا وأمريكا طويلا، لأنهما منذ قرون ينهبون ثروات العالم الثالث كما أسموا بلادنا! وبنوا مدنهم العظام على أنقاضنا، وهم فى حال من خفض العيش وجماح الانتصار يغريهم بالمزيد من المجون! أما نحن ففى أوضاع تملى علينا مسلكا آخر! مسلكا لا يفكر أبدا فى إحياء أدب أبى نواس أو قلة أدبه! لعل أدب الرثاء هو أولى الفنون بالإحياء فى أيامنا العجاف! قد تقول ما معنى أن تطلب منا البكاء؟ وما جدوى ذلك.. وأقول: إن بنى إسرائيل آثروا البكاء عند حائط المبكى حتى أقاموا لهم دولة وهم الآن ماضون فى خطتهم حتى يهدموا المسجد الأقصى ويقيموا هيكل سليمان.. وما أريد البكاء السلبى العاجز، فليس ذلك من خلق آبائنا فى جاهليتهم قبل الإسلام، فكيف بهم بعد ما شرفوا برسالته؟ يقول دريد بن الصمة عندما قتل أخوه. تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا فقلت أعبد الله ذلك(4/117)
الردى..؟ فجئت إليه والرماح تنوشه... كوقع الصياصى فى النسيج الممدد فإن يك عبد الله خلى مكانه فما كان وقافا ولا طائش اليد.. ص _122
كميش الإزار، خارج نصف ساقه بعيد عن الآفات طلاع أنجد... قليل التشكى للمصيبات، حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث فى غد! انظر معالم هذه الرجولة فى فارس بملابس كشاف يعلوا الربى بنشاط رياضى جلد، لا يشكو ولا يتراجع، ولا يحب أن يذكر فى المجالس بما يشين!! أى فن هذا؟! إنه فن بناء الأبطال! ولماذا لا يُتغنى به، وقد كانت الفتيات تغنى بما قيل من شعر فى معركة بعاث؟ إن فنون الأدب فى تراثنا كثيرة فما الذى يجعل أديبا كبيرا "كعبد المعطى حجازى" يأسى على أدب أبى نواس، ويتألم لأن البعض يريد إهالة التراب على شذوذه؟ ما الحرص فى هذه الأيام السود على أدب اللذة، والبحث عن الشهوات ووصف القدر بأنه أحمق الخطا. ص _123(4/118)
رسالة الفن!! يظهرأننا فشلنا فى مقاومة الغزو الثقافى على حين نجح آباؤنا فى مقاومة الغزو العسكرى. إن ثورات التحرير التى يمدها الإيمان والاحتساب قدرت على إجلاء جيوش الاحتلال وردها على أعقابها. لكن الاستعمار العالمى رأى أن ثمرات الغزو الثقافى أكثر وأخطر وأنها تحقق له غنائم باردة وتصيب الإسلام فى مقاتله فرأى أن يحرس هذا الغزو ويبسط يده لحماية أصحابه! وحسبه أنه عطل الشريعة وأفسد الأخلاق والتقاليد وترك الإيمان فى حالة احتضار..! نظرت إلى ميدان الفن فى ظل هذا الغزو فرأيته يرحب باحتساء الخمر والطرب فى مجالسها فيغنى موسيقار الأجيال لعلى محمود طه مع عشيقة إيطالية قصيدة الجندول، إن الحبيب نهم إلى شرب الخمر "كلما قلت له خذ قال هات " أما هو فيقول إن عشيقه "ذوب فى كأس عطره " وعندما ينتشى يقول "قلت والنشوة تسرى فى لسانى هاجت الذكرى فأين الهرمان "؟ الهرمان بشر حال أيها السكران…! وفى قصيدة " كيلو باترا " يقول " ليلنا خمر.. " ويبحث عن حبيبه سائلا "هل رأيتن فتى غض الإهاب أسمر البشرة كالخمر فى النور المذاب "؟ والذين احتفوا بهذا الغناء، وهتفوا له هم الذين قال فيهم شوقى: هتفوا لمن شرب الطلا فى تاجهم وأصار عرشهمو فراش غرام ومشى على تاريخهم مستهزئا ولو استطاع مشى على الأهرام وماذا بعد السكر؟ بقى الغناء للكفر والشك فى وجود الله واعتبار الحياة شرودا ليس له هدف "جئت ولكنى لا أدرى من أين أتيت، ولقد وجدت قدامى طريقا فمضيت ". ص _1 ص(4/119)
مضى إلى أين؟ ليس يدرى! إنه ملحد تائه، ومغنى هذا السخف تمنحه الدولة لقب لواء، ولقب دكتور، ليجىء بعد ذلك كامل الشناوى فيغنى له فنان آخر " قدر أحمق الخطى... " وتمضى رسالة الفن فى الطريق التى رسمها الغزو الثقافى لتجىء جماعة من الممثلين والممثلات تتهجم على العقائد والآداب! إن للفن العالى رسالة أخلاقية عالية يقول فيها أبو تمام. ولولا خلال سنها الشعر ما درى بُغاة العلا من أين تؤتى المكارم؟ أما السكر والكفر وشتم القدر فأمل إسرائيل لسحق أمة، وإماتة دين. ص _125(4/120)
جهل أقبح من جهل أزعجتنى جراءة الجهال على الإسلام ثم نجاتهم من عقبى التطاول! كنا ونحن طلاب صغار نعرف أن أبا حنيفة مات سنة 150 هـ، وأن الشافعى ولد فى هذه السنة فكنا نردد فى هذه السنة ولد إمام ومات إمام.. ثم قرأنا لأستاذ جامعى أن الشافعى كان من عمال الدول الأموية التى سقطت سنة 132 هـ! كان من عمالها وهو فى ضمير الغيب!! وتتسع دائرة الجهل عند الأستاذ المسكين فيقول : إن عثمان بن عفان تعصب للقرآن القرشى، وأخفى القرآنات المكتوبة بلهجات القبائل الأخرى! وهذا التفكير فضيحة علمية يستحق عليها صاحبها التعزير، فلم يعرف التأريخ إلا قرآنا واحدا كان العرب القادمون من اليمن يفهمونه وإن كانوا من جنوب الجزيرة وكان أهل المدينة ومن فوقهم ومن حولهم يفهمونه وإن جاءوا من شمال الجزيرة، فما هذه اللهجات التى نزلت بها قرآنات أخرى؟ لابد أن الكاتب كان مخمورا حين ساق هذا اللغو..! وجهله الثانى أقبح من جهله الأول لأنه يتصل بأساس الإسلام ومعجزته الباقية! والمأساة أن يتصدى الشيوعيون للإسلام يبغون الارتقاء بمهاجمته، فإذا كشف القدر سوأة أحدهم تنادوا من كل مكان ليناصروا صاحبهم المخذول!، ويمنعوه أن يسقط.! إن القرآن هو الكتاب الفذ الذى تأذن الله بحفظه، إنه الوحى المصون الذى حرسته التلاوة والكتابة المتواتران، وأسلمته للأجيال، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فكيف يتجرأ عليه كويفر مغرور يتعثر فى بديهيات التاريخ ثم يناطح الجبال الشم؟ كناطح صخرة يوما ليوهيها... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل! كنت أعرف أن هناك حملة أقلام لا إيمان لهم، لكنى لم أكن أعرف أنهم يكرهون الله ورسوله على هذا النحو! ثم كشفت الأيام أنهم متآمرون بليل، فإذا ضبط أحدهم متلبسا بكفره تصايح الباقون يطلبون النجدة لإنقاذ حرية الرأى، وحرية الرأى هنا هى حرية الخطأ والضلال، والإسهام مع الصهيونية والصليبية فى ضرب الإسلام! ولما كان الإسلام الآن يتعرض لهزائم(4/121)
عسكرية وسياسية مخوفة فإن هجوم أولئك الملاحدة يتزامن مع ساعات العسرة أو أوقات الحرج التى تكتنف تاريخنا المهاجم فى جبهات شتى ؛ فلنتخذ الحيطة ولنضاعف الحذر ص _126
هراء نحن نحارب فى جبهتين، جبهة الجاحدين للإسلام وجبهة الجاهلين به، وكلتاهما شر من الأخرى، إننا نريد عرض الإسلام الصحيح دون زيادة فيه أو نقص منه إن الزيادة تعنى إضافات بشرية من البدع والخرافات، والنقص يعنى حذف عناصر من حقيقة الوحى قد تعطل الأثر المنشود منه، وتسلط الهوى على الهدى! أيا ما كان الأمر فلن نتزحزح قيد أنملة عن هذا الموقف! والتدين الفاسد لن يصلحه إلا التدين الصحيح وعلاج الإفراط والتفريط أن تعود إلى حد الاعتدال وللجاحدين أحيانا مسالك مزرية، فقد يتطاولون على الهداة ويسلقونهم بألسنة حداد. كان أبو نواس شريب خمر فلما نصحه أحد العلماء بتركها كان من إجابته. فقل لمن يدعى فى العلم معرفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء! وأبو نواس فى جهالته لم يذكر أن الله أباح الخمر، أو أن القرآن لم يرد به تحريم لها كما زعم أحد القانونيين المحدثين الذين يصغ فيهم قول القائل: وكنت امرءا من جند إبليس ما ارتقت بى الحال حتى صار إبليس من جندى ولعل الأعجب من هذا كفه أن يُستدعى هؤلاء لعلاج الإرهاب والانحراف! رأيت فى التلفاز صورا للرقص المفرد والمزدوج، وهى صور يلعنها أهل العفة والاستقامة، ولكن الممثلين والممثلات المشاركين فى تلك المهرجات الحيوانية جُندوا فى حملة على الحجاب والحشمة! على أساس أن المتبرجات صواحب أخلاق، أما غيرهن من أرباب الجلابيب الطويلة فأهل سوء..! هل الإرهاب يحارب بالممثلين والممثلات؟ متى كانت زعامة الإصلاح الاجتماعى تنبت فى هذه البيئة؟ أين المفكرون والمربون والعلماء؟ ص _127(4/122)
إن الفتنة لا تطفأ بهذا المسلك، إنها تزداد اشتعالا كما تعلو النار إذا صُب عليها النفط. إن الجماهير غضبت لدينها عندما تحدث هؤلاء الفنانون فى الدين وهم بأحكامه جهال، ولا عجب ففاقد الشىء لا يعطيه. ومن المضحك أن يستدعى فخامة " الولد سيد الشغال " ليحارب الإرهاب ويناصر رجال الشرطة فى مهمتهم الصعبة... إذا كانت ثقافة بعض المتدينين مغشوشة، فالذى يصححها العلماء الراسخون لا الفنانون الهزليون. ربما استطاع " شارلى شابلن " فى إنجلترا أن يدفع الناس إلى الضحك بذكائه وحركاته. فهل يلغى هذا الممثل دور الأدب والفلسفة والدين والمؤسسات الكبرى فى حراسة الحق والخير؟ ودعم رسالة الأمة؟ ص _128(4/123)
سخرية واستعباد متى نفيق ؟!! عندما وضع الاستعمار الأوروبى يده على البلاد العربية لم يتريث فى توهين العقيدة وتعطيل الشريعة ووضع خطة وئيدة لضرب التراث كله وإحلال النزعة القومية محل الانتماء الدينى على نحو ما قال شاعر بعثى. لا تسل عن ملتى أو مذهبى أنا بعثى اشتراكى عربى! ذاك هو نصيب الإسلام من الولاء! فهل وقف بنو إسرائيل من دينهم وتوراتهم وتلمودهم هذا الموقف؟ كلا كلا لقد غالوا بأنفسهم وأمانيهم وكلما ازداد العرب استهانة بالإسلام سال لعابهم إلى تحقيق إسرائيل الكبرى وليذهب السكان الأصليون إلى الجحيم. وقد رسمت التوراة خطة الخلاص من هؤلاء السكان نثبتها هنا منقولة عن بحث علمى نزيه للزعيم السورى فارس الخورى ـ وهو مسيحى منصف يعتمد على العهد القديم فيما يقول ـ " إن تعاليم التوراة فى هذا المجال مبنية على القتل العام ومحو سكان البلاد المفتوحة سواء كانوا أسرى حرب أو مستسلمين صلحا ـ لا فرق بين رجل محارب مسلح أو شيخ أعزل أو امرأة أو طفل. فالكل يذهبون طعام السيوف قال الرب "تمحو اسمهم من تحت السماء، لا يقف إنسان فى وجهك حتى تفنيهم تدريجا لئلا تكثر عليك وحوش البرية "! ذاك فى المدن القريبة من إسرائيل أما المدن البعيدة فهناك نص آخر " حين تقرب من مدينة لكى تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك وفتحت أبوابها لك فكل الشعب المولود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. ص _129(4/124)
وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة، فهو غنيمتك تغتنمها لنفسك وأما مدن هؤلاء الشعوب التى يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما" ومعنى التحريم القتل العام، أو حرب الإبادة.. ويصرح اليهود بأن مصر ملك اليهود كما قرر التلمود، وأن الأرض التى عاش فيها آباؤهم الأقدمون يجب أن تُسترد كلها.. ومن حقى أن أسأل أين خطط السلام التى يعرضها اليهود على العرب؟ وهم إن عصوا كتبهم ومنحوا غيرهم حق الحياة فلكى يكون عبدا مسخرا! إن مجزرة مسجد الخليل إبراهيم نموذج للفتك المشروع، وقد سبقت مجازر فى مدن أخرى وسيظل العرب طعام السيف حتى يعلموا أن لهم دينا فرطوا فيه فضاعوا. *** ص _130(4/125)
.. لا تنقصهم الوقاحة تابعت وقائع الحفل الذى أقيم فى البيت الأبيض لعقد صلح بين العرب وبنى إسرائيل وسمعت الخطب التى ألقيت.. كان "رابين " كبير اليهود شامخا مع باطله قريبا مع جبروته. ومع أنه واضع سياسة تكسير عظام المجاهدين حتى يموتوا داخل جلودهم، فقد اعتذر عن ذلك بأن أيام الحرب غير أيام السلام! وقد تلا نصوصا من التوراة عبر بها عن مراده وعن يهوديته معا ثم رأى أن يصلى لله، وأن يقول للحاضرين جميعا إنى داع فأمنوا، ودعا وأمن الحضور وهم قيام يصفقون معجبين للسياسى المؤمن الذى سحرهم!! قلت فى نفسى هذا يوم مشهود من أيام اليهودية! أما كان لنا كتاب نتلو من آياته كما فعل اليهود مع توراتهم؟ أما كانت لنا ضراعة نتقدم بها إلى الله طالبين نحن الآخرين أن يؤمن الحضور عليها؟ إن النازى فى ألمانيا عذب اليهود فلماذا يدفع العرب ثمن هذا التعذيب، إن هناك أربعة ملايين طريد عربى فلماذا يبقون هائمين على وجوههم ويُستجلب اليهود من المشارق والمغارب ليحتلوا دورهم، من لأولئك المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ أما يدعو أحد لهم؟ أما يستثار الضمير الغربى ليخجل من أحوالهم؟ يبدو أنه لا يليق بمسئول سياسى أن يتلو شيئا من القرآن! ويبدو أن دعاء الله هو عمل أئمة المساجد وليس عمل رجال السياسة العرب! ورجعت بى الذاكرة إلى عام 1973 م فى أوائل معركة العبور وكان نصرنا فيها مؤزرا وخذلان اليهود فاضحا عجيبا، وأخذ المؤمنون يتحدثون عن آيات الله، وخوارق العادات، وإذا كبير العلمانيين في مصر يقول مستنكرا : لا تردوا إلى الغيوب ما فعلت الشعوب. ص _131(4/126)
إن السماء لم تفعل شيئا! ولم يبطئ العقاب الإلهى فكان ما كان.. ولكن المنطق العلمانى الكفور سكن فى أدمغة بعض الساسة فهم لا يذكرون الله فى القضايا التى يعالجونها، ولا يستشيرون كتابه ولا سنة نبيه فى المواقف التى تفرض عليهم ولذلك تجىء مبتورة مشئومة. إن قضية فلسطين خاصة قضية دينية واليهود يعالنون بهذا معالنة مكشوفة، فما معنى إبعاد الإسلام عنها؟ ولو كان للشيوعية أو العلمانية منطق فى شىء ما لما كان لها منطق فى القدس أو غزة!! لكن العلمانيين العرب لا تنقصهم الوقاحة، هم لا يعرفون صلاة ولا دعاء، فهل يعرفون إدارة أو سياسة أو تثميرا أو تعميرا؟ إنهم لا يعرفون إلا ما لقنهم الاستعمار من لغو. (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا). ص _132(4/127)
اشمئزاز يرفض الإسلام الفواحش ما ظهر منها وما بطن، يكره وقوعها ويكره السكوت عليها إذا وقعت. وأول مظاهر الخلل فى المجتمع أن يرى الناس الآثام فلا يكترثوا بها ولا ينهوا عنها! ذلك أن بذرة العصيان حيث تقع فى البيئة السيئة تكتنفها نفايات وفضلات تنميها وتضاعف شرورها ولذلك يقول الله تعالى (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون). جرت هذه الخواطر فى نفسى وأنا أتابع الحوار الدائر بين الأمريكيين : هل يجوز قبول الشواذ فى الجيش أو لا يجوز؟ إن القوم منقسمون انقساما كبيرا لأن الرئيس الجديد وعد الشواذ ـ فى حملته الانتخابية ـ أن يقبلهم فى الجيش!! أما الجمهوريون والحافظون فهم ضائقون بهم كارهون لانتظامهم فى السلك العسكرى.. فالحق أنى شعرت بغضب حيث تصورت ضابطا شابا شاذا تؤذى له التحية العسكرية، ويعامل بالتجلة والاحترام ويبدو أن الأمور فى طريقها إلى هذا المصير! إن مجتمعات الغرب تجنى ما غرست، والخط المنحرف يزداد طولا على مر الزمان! لقد بدأت الكنيسة الإنجيلية فى لندن فأباحت الشذوذ ويسرت لأعضاء مجلس العموم واللوردات أن يصدروا التشريعات بإباحته، أكانوا بهذا المسلك سائرين على منهج العهد القديم؟ أو الجديد؟ كلا، إنهم خالفوا دينهم، وبدلا من محاربة الرذيلة تساهلوا معها وأقروها، ولم يبالوا بالنتائج التى ستترتب على هذا الانحطاط.. ص _133(4/128)
فما وقع فى لندن انتقل وانتشر فى أمريكا.. ونحن نرقب الأمور بقلق، فإن الاستعمار الثقافى اشتدت وطأته وتبجح أتباعه، ويوجد بيننا الآن من يقلد الغربيين فى مباذلهم أكثر مما يقلدهم فى مزاياهم ويضاف إلى ذلك أن القوانين التى تحكم أقطارا شتى فى العالم العربى تستمد موادها وفلسفتها من انجلترا وفرنسا وغيرهما، ومع أن الدستور المصرى يقرر فى مطلعه أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى لكل القوانين، فإن هناك بقايا تعالج ببطء، ويحاول العلمانيون اعتراض العودة إلى الإسلام ووضع العوائق أمام تنفيذ الشريعة! إننى أتمنى ألا يدخل الشواذ فى الجيش الأمريكى حتى لا يقول رجل مخدوش الشرف عندنا لنا أسوة! إن المعصية استترت أو تبجحت قاذورة يجب البعد عنها وتحصين المجتمع منها ويهيب المشاعر ضدها. ** * ص _134(4/129)
الشرعية الدولية هل كلمة الشرعية الدولية صادقة الدلالة نزيهة الغرض يهش لها المظلوم ويقلق منها الجائر؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك! لقد شعرت بذلك مرارا، ولكن ربا شعورى أو زاد ضيقى عندما سمعت أمين الأم المتحدة يقول للإسرائيليين: أعيدوا هؤلاء العرب الذين طردتموهم إلى فلسطين، ولو إلى سجن أو معتقل. ! قلت: لماذا لم يقل الرجل المسئول أعيدوهم إلى أرضهم وأهليهم؟ هل الحرية محرمة عليهم. وهم لم يقترفوا ذنبا؟ هل تُخلى منهم دورهم لنستقدم بدلهم مستوطنين من بولندا أو من روسيا؟ هل هذه هى الشرعية الدولية؟ أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟ لكن دولة إسرائيل ـ كما يعرف أهل الأرض ـ مولود غير شرعى وضعته هيئة الأمم من عشرات السنين، وفرت له ضمانات البقاء، ووفرت لغيره ضمانات الفناء وذلك كله فى إطار الشرعية الدولية!! ويظهر أن كرش هذه الشرعية يقبل الكثير فقد رأت السكوت على هلاك مئات وألوف من مسلمى البلقان، وعلى فعل المناكر بنسائهم وعلى التطويح بمستقبل الأطفال والشيوخ هناك، لأنه لا يجوز أن تقوم فى أوروبا دولة إسلامية! أما فى القرن الإفريقى فقد رأت، الشرعية الدولية أن تدرك أطفاله الجياع وأن ترسل الجيوش من دول شتى، وأن تساعد الهيئات الإنسانية على أداء رسالتها النبيلة.. وودت لو صدقت هذه الأغراض! إننى أخاف أن يكون الاستحواذ على شرق القارة تأمينا لمستقبل الحملات التبشيرية الناشطة فى إفريقية السوداء عامة.. إننى أستبعد الإخلاص والشرف على من قضى عمره صاحب هوى وغرض.! والفرصة لم تفت هيئة الأم لتتوب من مسلكها الجائر ضد العروبة والإسلام، تستطيع تحت لواء الشرعية الدولية أن تغيث المستضعفين فى قطاع غزة وفى الضفة الغربية للأردن، فقد رضوا بالدون من العيش وقبلوا أن يعيشوا فى نصف أرضهم، ولكن اليهود يأبون، ويبدو أن ضمير الشرعية الدولية لا يزال يحابى الدولة اللقيطة ويسارع فى هواها على حساب العرب أجمعين! ص _135(4/130)
نظرة للرياضة انتهت دورة "برشلونة " الرياضية، وشرع مندوبو 173 دولة يعودون إلى بلادهم فكيف عاد العرب من هذه الدورة المشهودة؟ كانوا أقل الناس نجاحا وأبخسهم حظا إلا أفراد قلائل نالوا الأوسمة فلم يخفف ذلك من عبء المصاب! قلت فى نفسى: حتى فى ميدان الرياضة البدنية نتخلف ويتقدم غيرنا؟ يبدو أن للنَّفس الواهن طبيعة تسرى فى كل مجال، وتجر الهزائم هنا وهناك! وتذكرت أن عشاق الرياضة عندنا يذهبون لحضور المباريات قبل الموعد بساعات طوال لا تؤدى خلالها صلاة العصر وربما كانت المباريات فى رمضان فلا يصوم إلا النزر اليسير، كأن الرياضة ضد التدين! إن الألعاب الرياضية مران جميل على تقوية الأجسام وتحمل المتاعب وإصابة الأهداف ومنافسة الآخرين وتقوية العزائم، وقد اختلفت أنواعها فى هذا العصر، وكانت قديما لا تعدو الجرى والرمى والملاكمة والسباحة... وكان الاشتراك فيها حفاظا على الجسد حتى يبقى قديرا على الكفاح حمالا لتكاليف الجهاد. ويذكر الرواة أن النبى عليه الصلاة والسلام مر بفريقين يتباريان فسره منظرهم ـ وكانوا ينتضلون بالسهام ـ فقال: ارموا بنى اسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى الأدرع! فأمسك القوم وقالوا: من كنت معه فأنى يُغلب؟ فقال ارموا وأنا معكم كلكم! فرموا عامة يومهم فلم يسبق أحدهم الآخر أى انتهت المباراة بالتعادل.. ولا شك أن عددا كبيرا من الألعاب الشائعة مقبول وجميل الأثر وهو يدل على مبلغ ما أودع الله فى الأبدان من قدرة وسحر ومرونة واكتمال، وقد كنت أرجو أن نلفت أنظار العالم ببطولات فذة فى آفاق شتى، لكن خيبتنا كانت ثقيلة، مع كثرة ما ننفق فى هذه المجالات.. ويبدو أننا فى حاجة ماسة إلى مراجعة سياستنا التربوية وسياستنا الرياضية على سواء. ص _136(4/131)
ولفت نظرى فى مباريات "برشلونة" منظر تفردت به حضارتنا الحديثة وكان من أسوأ مباذلها، منظر السباحة الراقصة على نغمات الموسيقى وتقلب الأجساد العارية على سطح الماء، والعيون المحملقة تجتاحها ظهرا لبطن!! لماذا هذا السخف؟ وما جدواه؟ إننا نستطيع أن ننقل آداب ديننا إلى الساحات المائجة بالشباب، ولكن متى يسمع الناس منا ويصغون إلينا؟ يوم نكون طلائع ظافرة فى الملاكمة والمصارعة وحمل الأثقال وقطع المسافات الطويلة والقصيرة! والوثب على الخيل وتخالى العوائق ورمى الأقراص... إلخ. إن الناس تستمع إلى المهرة وترى إشارتهم تقليدا يتبع أما أن نذهب إلى المحافل الدولية فيرانا الناس قاصرين أو مقصرين فإن نظرتهم تقتحمنا بغير مبالاة، إن خدمة الإسلام تحتاج إلى أساليب ذكية مادية وروحية فهل نرتفع إلى هذا المستوى؟ إنه لا يحتاج إلى تفجير الذرة! يحتاج لأن نكون بشرا عاديين. ** * ص _137(4/132)
إسراف طائش فى إحصاء محزن قرأت أن الجماهير العربية أنفقت 64 ألف مليون دولار على الخمور والمخدرات فى العام الماضى، وأنا أعلم أن ثمن المعاصى فادح لكنى ما تصورت أن يبلغ هذا الحد! إن هذا المبلغ الضخم يحرر دولا استرقتها الديون وأذلت جانبها، وينفق على يتامى العالم الإسلامى أجمع وينقذهم من غوائل التنصير، بل إنه يسد ثغورا مادية وأدبية فى كياننا نحار كيف نحمى المسلمين من بلائها..! والخمور والمخدرات محظورة شرعا ومع ذلك يتهافت عليها الآثمون والضائعون، ويعرضون حاضرهم ومستقبلهم للبوار. ويمكن أن تضم التدخين إلى الخمور والمخدرات فتتضاعف مغارمنا فى ميادين العبث، ونحقق أرباحا هائلة لشركات التبغ العملاقة على حساب ما يصيب عافيتنا من انحطاط... وقد كثر المال فى أيدى المسلمين أخيرا بيد أن أساليبهم فى الإنفاق ـ حتى فى وجوه الحلال ـ تحتاج إلى مراجعة! نظرت إلى جمهور العمال الذاهب إلى الخليج يلتمس الغنى، فوجدت فى تصرفه ما يرضى وما يسخط، لا بأس على من استفاد مالا أن يبنى لنفسه بيتا إن لم يكن له بيت أو كان له بيت من اللبن الهش، ولا بأس أن يقتنى من الأثاث ما تحتاج إليه أسرته! أما الإسراف الطائش فهو لون من السفه والعصيان، إننا نحن العرب دعمنا المصانع التى تنتج الكماليات، وأعطيناها قوة مضاعفة. لأن شهوة الاقتناء عندنا لا يرد تطلعها شىء.. ودخل لون من التكاثر المزعج إلى مطالب البيوت فأمسى العامل لا يستريح إلا إذا كان عنده آخر ما أنتجت مصانع الغرب من أدوات الترف!! ص _138(4/133)
كان التنافس قديما فى الكرم والتقوى وصار الآن يجرى فى ميادين أخرى. ولست هنا أتتبع ما يجوز وما لا يجوز، وتكفى القاعدة الدينية التى وضعها القرآن لعباد الرحمان (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما). والقاعدة التى وضعتها السنة المطهرة "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. إنه من المحزن أن يتحول السرف إلى عادة لازمة عند الفقراء، فكيف بالأغنياء؟ وأن تكون الخيلاء أو طلب إعجاب الآخرين خلقا عاما فى السلوك العام، ولا ريب أن تكاليف هذه المعيشة ثقيلة، وقد رأيت أنها قبضت الأيدى عن الإنفاق فى وجوه الخير، وقعدت بالسواد الأعظم عن تلبية مطالب الإسلام!. إن الإسلام رسالة تضبط كل شراء، والمسلمون فى هذا العصر يواجهون أعداء لا يرضيهم إلا اغتيال الدين وطمس آثاره، والمال سلاح خطير، والذين يبعثرونه فيما يجدى ومالا يجدى يهددون مستقبلنا.. ويؤسفنى القول بأن اليهود والنصارى أحرص على المال وأدق فى إنفاقه منا، إن الشهوات الجامحة لا تقود إلى خير أبدا. * * * ص _139(4/134)
أموال الأغنياء أغلب علمائنا يرون أن الغنى الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر لأحاديث صحاح أفادت ذلك! ولكن المحققين يرون أن تعميم الحكم فى ذلك خطأ، وأنه عند التأمل لا يوجد غنى خال من المتاعب التى تستوجب الصبر كما لا يوجد فقير مجرد من النعماء التى توجب الشكر، وللنيات التى يعرفها الله وحده دخل فى مصاير الفريقين ودرجاتهما. وقد روى أثر أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا لكثرة أمواله، وهو أثر شاذ لا يجرح واحدا من العشرة المبشرين بالجنة..! فى كل دين نُساك يعيشون عيشة خشنة وفى كل دين موسرون يبذلون أموالهم بذل السماح، ويجاهدون بها فى سبيل الله، وكلا الفريقين يؤدى واجبه فى نطاق الآية الكريمة (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) أن تقوم دولة على الفقر العام، ولا أن يحيا مجتمع بأسره على الاستدانة، وكما يستعين الفرد بالمال على صون مروءته وتربية أولاده تستعين الدول بالمال على أداء رسالتها، وإعلاء رايتها، وبناء الجيوش والمصانع، ورد الطامعين والمعتدين... أكان السابقون الأولون يستطيعون ردع الرومان فى تبوك إلا بأموال الأغنياء؟ لقد جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وكان سواد الجيش بعد ذلك من أهل الفداء وإن قل مالهم..! والأمة الإسلامية اليوم تنتشر على مساحات فيحاء فى آسيا وإفريقية، ويوجد فيها الموسر والمعسر! وليس فى دين الله ولا دنيا الناس أن تكون بين الفريقين جفوة فأين إذن أخوة الإسلام؟ وأين إذن مشاعر الجسد الواحد؟ الذى إن تألم بعضه تألم كله.؟ فى القرن الإفريقى عامة وفى الحبشة خاصة تتابع الأزمات على السكان، وينتشر الجفاف والضنك. ص _140(4/135)
وتوجد الآن ثمان وأربعون هيئة للإغاثة تعمل فى الحقيقة للتبشير وتقيم الملاجىء للفقراء واليتامى والأرامل، وما يجرؤ أحد على إنكار وجودهم ولا اعتراض صنيعهم! فهو جهد إنسانى مقدور مهما كانت بواعثه والسؤال الذى يرد بحق: أين أغنياء المسلمين؟ وأين ما قدموا لاستنقاذ إخوانهم من هذه الأزمات السود؟ إن المال سلاح خطير، وقد ملكه الشيوعيون فى بعض الميادين فحولوا به المؤمنين إلى ملاحدة ! ثم رسموا سياسة ماكرة لجعل المحتاجين إليهم يساندون مبادئهم! ومسلمو روسيا ـ وهم ثلث السكان ـ لا يقدرون على الفكاك من مخالب الدب الكبير لأن حركة المال والإنتاج ليست بأيديهم! بين يدى تقرير عن أحوال مسلمى الحبشة، وهم 65% من السكان ـ مع استبعاد إرتريا ـ رأيت فيه كيف أكل الفقر جمهورنا البائس وخفض رأسه أيام الإمبراطور المتعصب "هيلا سلاسى" الذى أصر على نظام إقطاعى كالح كان المسلمون فيه يزرعون القمح ويأكلون الطين.. ثم هلك الإمبراطور الحقود، وحل بعده نظام شيوعى كان أحنى على الكثرة المسحوقة من حكم الكهنة، ولكنه نظام يستبعد الأديان كلها! ومسلمو شرق أفريقية على الإجمال يفترسهم الفقر، وتسترقهم الإعانات الأجنبية، والمطلوب من أغنياء المسلمين فى كل مكان أن يسارعوا إلى نجدة إخوانهم واستبقاء إيمانهم... إن أصحاب الثروات الكبيرة الذين يبحثون عن اللذة ويطيرون إليها حيث كانت يقترفون جرائم هائلة، وسوف يعاقبون مرتين: أولاهما على سفه الإنفاق، والأخرى على إضاعة إخوانهم الفقراء، وتركهم يواجهون فتنا كقطع الليل المظلم لا يستطيعون منها النجاة، ولنتدبر هذه الدعوة التى يرسلها مسلم بائس: اللهم لا تجعل لفاجر نعمة على فيميل إليه قلبى..!! إن المال الإسلامى يجب أن يكون أسبق إلى فقراء المسلمين..!! * * * ص _141(4/136)
القيمة الإنسانية يعرف المشتغلون بالثقافة الإسلامية أن شرائع الحدود والقصاص فروع من أصل قائم وركن جامع وأنها إذا انقطعت عن أصلها الذى انبعثت عنه أو ركنها الذى نهضت عليه أشبهت أطراف الجسم إذا انفصلت منه لسبب أو لآخر، إنها لا تساوى شيئا، ولو أن دولة فى شرق أوروبا أو غربها تبنت العقوبات الإسلامية ـ لأمر ما ـ ما اعتنقت بذلك الإسلام ما دامت باقية على عقيدتها أو فلسفتها !. إن ارتباط الشريعة بالعقيدة لا يمكن فكه ولا التهوين منه، ولذلك فإن إدارة أى حوار حول التشريعات الفرعية يكون ضربا من اللغو إذا لم نجب بحسم على الأسئلة الآتية: هل الألوهية حق؟ هل لله وحى ملزم؟ هل الإنسان حر فى تجاوز مراد الله؟ إن الذى يجهل أين جاء؟ ولماذا خلق؟ لا معنى للحديث معه فى صلاة أو صيام... ومع ذلك فسأترك الحديث عن الإيمان وما يرتبط به من أنظمة خلقية خطرة وتقاليد اجتماعية بعيدة الأثر وسأشارك فى أى حوار يقترح حول القيمة الإنسانية لأى تشريع فرعى أو أى حكم فقهى، يكون معلوما من الإسلام بالضرورة، بيد أن من حق الباحث المسلم أن يتساءل : هل هذا الحوار حر حقا؟ هل سيكون ختاما لسياسة العصا الغليظة التى استخدمت عشرات السنين، وأصابت الفكر الإسلامى بعاهات مستديمة؟ إننى مستعد للنسيان وبدء صفحة جديدة أساسها الإقناع الحر، إننى أومن بالحرية إلى أبعد مدى، وعندما أعجز فى ظلها عن بلوغ هدفى أعلن انسحابى من الحياة العامة. ص _142(4/137)
إن الإيمان ليس فقيرا فى أدلته وحقائقه حتى يخاف الحوار! لكنى أوجه سؤالا له ما بعده. هل الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه إلا أن يكون مسلما فإنه يجب أن يحكمه غيره بقوانينه وتعاليمه المستوردة؟! وسؤال آخر يخرج من المنبع نفسه: هل القلة تنزل عن رأيها وتتبع الكثرة فى جميع البلاد الحرة إلا أن يحدث ذلك فى الأقطار العربية والإسلامية فإن للقلة أن تفرض نفسها بالقهر الإعلامى، والسلطات المفروضة، ثم تبلغ الجراءة حدها الأقصى فيقال : إن ذلك تم باسم الشعب؟! مرحبا بالحوار فى ظل الصدق، والنزاهة، وكرامة الأفراد والجماعات. *** ص _143(4/138)
الأخلاق والعبادات تساءل الأستاذ الكبير الدكتور "محمود محمد سفر": هل حقا تسبق الأخلاق العبادات فى الإسلام كما يفهم من كلامى؟ وطالبنى بمزيد من الشرح والتوضيح لهذه المقولة.. وأجيب بأن اللبس قد يزول إذا ظهر أنى قسمت الأخلاق قسمين، أخلاقا ربانية جوهرها علاقة المرء بربه كما تحددت فى كتاب الله وسنة رسوله وأخلاقا إنسانية عامة يعرفها طلاب الكمال من جميع الأجناس والملل. فأما الأولى فهى خشية الله والرجاء فيه ومحبته والتوكل عليه، والاستمداد منه والتوبة إليه، وقد شرحت ذلك كله فى كتابى "الجانب العاطفى من الإسلام ". وأما الثانية فهى الفضائل الضابطة للسلوك البشرى من صدق وأمانة ورفق وحياء وشرف ووفاء.. الخ. والإسلام يقيم صروح هذه الأخلاق جميعا، وينظر إلى المتجرد من هذه وتلك على أنه امرؤ لا خير فيه، فإذا فقد الإخلاص مثلا وكان عمله للرياء والسمعة فإن عباداته تطيش ويمسى حطبا لجهنم ويكون أول من تُسعر بهم النار، ما نفعه علم ولا عطاء ولا جهاد..! وإذا فقد الصدق مثلا ـ وهو من الأخلاق العامة ـ تدرج به الكذب من درك إلى درك " ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا ".. أحسبنى مصيبا إذا قلت: إن العبادات إذا فقدت الأخلاق رفضت، فالمصلى الذى يقرأ بلا وعى، ويقوم بلا خشوع والمجاهد الذى قاتل الروس بشجاعة، فلما هزمهم قاتل إخوانه الذين يحولون بينه وبين الرياسة، هؤلاء جميعا يفقدون الأخلاق الربانية، فلا خير فيهم.. والمتعاملون فى الأسواق الذين لا تربطهم كلمة، ولا وفاء لهم بوعد ولا عهد ولا عقد، هم كما عبرت السنة منافقون! ص _144(4/139)
إن الله سبحانه بشر بجنته الخاشعين فى صلاتهم (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) ووعد الصادقين ـ ووعده الحق ـ بالنعيم الخالد (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) أى أنه نظر إلى الأخلاق المقارنة للعبادات ثم تقبلها، على أن النتيجة قد تتحول هى الأخرى إلى سبب، فالذى واظب على صلواته استجابة لأمر الله ستجعله صلاته بعيدا عن الفحشاء والمنكر، أى ستجعله صلاته يكتسب أخلاقا أرقى وهكذا.. والمسلمون اليوم مصابون فى أخلاقهم على الإجمال، مما جعلهم متخلفين فى كل سباق إنسانى يقوم على ظهر الأرض!! والخطب سهل فى هذه التقسيمات الفنية، فنحن متفقون على أن الدين يشمل الأخلاق والعبادات معا، ولن يضرنا تقديم أحد المتعاطفين على الآخر، تستطيع أن تقول الماء يتكون من " أوكسجين " و "أيدروجين "، أو من " أيدروجين " و "أوكسجين "!! ويمكن التساهل فى العبارات لكن لا يمكن أن نقبل فى ديننا إنسانا تنظر فى قلبه فلا تراه يخاف الله أبدا، أو تنظر فى عمله فترى مسالك الكفار أفضل منه، وعلى من يغار على دينه أن يعلن حربا على هذه الأوضاع حتى يغير الله ما بنا. وأخيرا فللدكتور سفر أطيب تحية وأعمق المحبة. *** ص _145(4/140)
فى القناعة.. غنى فكرت مليا فى مصائب الأسرة المالكة فى انجلترا، والمعاناة التى جعلت الملكة تقول: إن العام الأخير كان من أسوأ ما مر بها طول حياتها، إن احتراق قصرها العتيق وما حوى من آثار أهون فى نظرى من تقطع العلاقات بين أولادها وأزواجهم وانتشار الوحشة فى بيوتهم جميعا، هل أغنى المال الكثير؟ هل أجدى الجاه العريض؟ لم يحقق السعادة شىء من هذا كله!! أعرف رجلا فقيرا يعيش مع زوجته فى غرفة واحدة كان يخرج من بيته إلى عمله بادى الراحة مستريح البال! قلت له: كيف أمسيت البارحة وكيف أصبحت اليوم؟ قال: أويت إلى الفراش مجهودا من كدح النهار فقرأت الدعاء المأثور "باسمك ربى وضعت جنبى، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسى فارحمها. وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " فضمنت بهذا الدعاء الدنيا إن بقيت والآخرة إن توفيت، ثم أغمضت عينى إلى الفجر، فلما استيقظت قلت : " الحمد لله الذى رد إلى روحى، وعافانى فى جسدى وأذن لى بذكره " وهاأنذا استفتح يومى بالذهاب إلى عملى على بركة الله.. إن الإيمان نجح فى تحقيق السعادة، كما لم ينجح الثراء والملك! لست من دعاة الفقر، فإن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام استعاذ منه، وإنما أنوه بالغنى الروحى، وقيمة الصلة الحسنة بالله..! وأذكر أن علماءنا بحثوا قضية طريفة: هل الأفضل عند الله الفقير الصابر أم الغنى الشاكر، ومع أن الكثرة اتجهت إلى تفضيل الأخير إلا أن للمحققين رأيا آخر، فقد قالوا: ليس يخلو بشر من نعمة تستحق الشكر، ومحنة تتطلب الصبر، ولو فتش كل امرئ فى حياته لو جد فيها ما يثير الرضا، وما يثير الألم، وعليه أن يجمع بين ص _146(4/141)
الفضيلتين ليكون ممن قال الله فيهم (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) يشكر على العطاء ويصبر على الحرمان ولا أنكر أن هناك من تتصل متاعبهم فى هذه الحياة، وأن هناك من تترادف نعماؤهم!! بيد أن الآخرة تجىء لتصحيح هذا كله. وفى الحديث أنه يجاء بذى نعمة جحود، فيغمس فى النار لحظة ثم يقال له: هل رأيت خيرا قط؟ فيقول : لا.. لقد أنساه هول لحظة ما ذاق فى دنياه من لذات وطبيعة عصرنا الإعراض عن هذه الآثار أو الضحك منها لأنه عصر الإيمان باليوم الحاضر لا باليوم الآخر.. إن الجرى المسعور وراء اللذة طبيعة الناس فى دنيانا هذه، فهل فرضنا إرادتنا على القدر؟ أم أنزلنا القدر على حكمه؟ هذه الأسرة المالكة فى إنجلترا تبحث عن السعادة والستر بعدما نشرت الصحف صورة عارية لفتاة منها ! ما أحرانا بشكر الله على أن جنبنا هذه الآلام، هل صدقت أن الفقر حشمة؟ إنه حشمة لهؤلاء الماجنات.... ص _147(4/142)
حوار مع كاره للإسلام قال: أنا أكره الإسلام السياسى وأضيق بأتباعه وأرى أن وراء صياحهم مأرب أخرى! قلت: إن اصطلاح "الإسلام السياسى" جديد على أسماعنا! فهل تعنى أنك تتبع الإسلام فى ميادين الأخلاق والعبادات والتقاليد وجملة الشرائع "الداخلية" التى يقوم عليها؟ وتكره توجيهات الإسلام فى المجالات العالمية والتوجيهات السياسية الأخرى؟ قال مراوغا : ربما... قلت: فما أعلمه من حياتك أنك ما رئيت قط مصليا ولا دخلت يوما مسجدا.! قال: لقد صلى هؤلاء السياسيون ثم قتلوا السائحين، فلتسقط هذه الصلاة!! قلت: صل معنا وحافظ على حياة أولئك السائحين ولا تترك الصلوات! أنت مؤمن بالله حقا؟ قال: إنهم آمنوا به وكفروا بالشعوب وأكلوا حقوقها أما نحن فآزرنا الشعوب ووقفنا إلى جانبها فليسقط هذا الإيمان! قلت: دعك من الكذب إننا أول من حارب المظالم الاجتماعية، ونادى بحق الشعوب فى الحياة الكريمة العزيزة، وقد صدرت لنا عدة كتب من نصف قرن تجعل الدين ظهرا للمغبونين وتتلوا الآية الكريمة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) فأين كنتم؟ كنتم تشيعون الإلحاد وتحسبون العدالة الاجتماعية تجىء من موسكو وحدها وتظنون أن أى فلسفة أرضية تغنى عن وحى الله، كنتم تضيعون الصلاة وتبغون الشهوات، وما زلتم على سيرتكم! إن كراهية الإسلام السياسى غطاء جديد لكراهية الإسلام كله، والعمل الماكر لمحوه من التعليم والتربية والمجتمع والدولة، ونحن فى مصر بذلنا جهودا متتابعة لجعل ص _148(4/143)
الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للقانون كله، وقد جعلنا ذلك فى صلب الدستور، وعلمنا أن ما فسد فى سنين لا يصلح فى أيام معدودات فتربصنا مع الزمن لتسود الشريعة كل شىء فلا يبقى قانون مضاد لهدايات الله وتعاليم المرسلين.. ولكنكم جثمتم فى مخابئكم كارهين لله ورسله، تزعمون أن لا إله والحياة مادة وتحاربون كل حركة إسلامية بخبث وضغينة! تحت عنوان محاربة الإسلام السياسى! نحن نعرف أن هناك إسلاميين ينقصهم الفقه، وتشينهم مسالك حمقاء، ونحن نحارب فهم هؤلاء المعوج، ونضيق بهم أكثر مما تضيقون، فلماذا تخلطون بين الإسلام وبين من أساءوا إليه..؟ وتستغلون الفرصة لضرب الإسلام فى صميمه تحت عنوان كراهية الإسلام السياسى؟ إن كنتم مسلمين حقا فاحملوا الراية ونحن نصلى وراءكم، ولعنة الله على أصحاب النيات المغشوشة! إننى أكره الكفر بالله، وأكره من يُبغضون الله إلى عباده، وأكره من يصدون عن سبيله وأعلن أن الشيوعية الجديدة لن يكون لها بيننا مكان. *** ص _149(4/144)
الفنانات التائبات يقول الله لنبيه (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) فمكانة النبوة الاستجابة لأمر الله، أما ما عدا الرسول فهو يقلع عن ذنبه ويعود إلى ربه ويستقيم على دربه، نحن البشر جميعا خطاءون وخير الخطائين التوابون! ومن أشهر التوبات توبة "أبى نواس " الذى غام شبابه بسوء كثير، ثم استيقظ فجأة واصطلح مع ربه وقال: وما المرء إلا هالك وابن هالك وذو نسب فى الهالكين عريق... إذا عرف الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو فى ثياب صديق... ومن أشهر التوبات كذلك توبة "رابعة العدوية" التى صحت من غفلتها وناجت ربها بقول الشاعر فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك تصفو والأنام غضاب وليت الذى بينى وبينك عامر وبينى وبين العالمين خراب ! وقد استقبل الناس هذا المتاب بتقدير واحترام، ولم يحاول أحد خدشه أو الريبة فيه ولذلك استغربت الحملة على الفنانات التائبات ومحاولة التهوين من شأنها والتشكيك فى أسبابها، والعدوان على أصحابها!! لم ذلك؟ وبلغ السخف حد اتهامهم بأنهم تابوا لأسباب مادية، ثم زعموا أن فلانة عرضت عليها مبالغ طائلة لتتوب فأبت...!! وأن فلانة عرض عليها مائة وخمسون ألف جنيه شهريا لترتدى الحجاب فرفضت بشمم..! والقصد من وراء هذا كله اتهام الفنانات المحجبات بأنهن ما تحجبن وتركن حياتهن الأولى إلا جريا وراء المال! وهذا كله لون من الإسفاف ما كان ينبغى أن يقع.. ص _151(4/145)
دائرة الغش! لا يجوز أن تمر بنا المصائب دون استفادة واعتبار، والزلزال الذى ضرب مصر أخيرا تكشف عن أخطاء اقترفها أصحابها وضمائرهم غافية لا صاحية أو قل ميتة لا حية...!! فإن عددا من المدارس الحديثة انهار على عجل ودفن تحت أنقاضه أبناء لنا أعزة كانوا يتلقون العلم فى سكينة وأمل.. لماذا تهدمت هذه المدارس بينما صمدت أخرى قديمة وتحملت الهزات الأرضية؟ ظاهر أن الغش فى طريقة البناء ومواده من وراء هذا البلاء، وأن أطماعا خسيسة طغت على أصحابها ففعلوا ما فعلوا دون حذر أو بصر!! وفى الحديث الشريف " ليس منا من غش " وفى رواية أخرى "من غشنا فليس منا، والمكر والخديعة والخيانة فى النار" نعم فهذه الرذائل من وراء نكبات نفسية واجتماعية هائلة، ونحن نفهم الغش فى أدنى صوره، نحسبه وضع الثمار الأحلى فوق الثمار الأدنى، أو بيع المعطوب تحت السليم! وهذا لا ريب غش ولكنه دون الغش فى الامتحانات مثلا فإن العبث فى الاختبارات ينشئ أخطارا كبيرة على مستقبل البلاد وحاضرها، لأنه إجازة بالطب لمن لا يحسن العلاج وبالدراسة لمن قلت معارفه، وبالهندسة لمن يعجز عن وضع الأمور فى مواضعها، وهيهات أن تقوم أمة بهذا العوج! ومن الغش المقبوح إعطاء تصريح ببناء عمارة شامخة مع أن المرافق الموجودة بالحى لا تتحملها، فلا أنابيب المياه تكفى ولا أنابيب الصرف الصحى تتسع ومعنى ذلك أن تنفجر هذه الأنابيب وتشيع الفوضى والأقذاء هنا وهناك... إن التعامل الشريف الصريح أساس المجتمع المؤمن، ويروى عن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وادون ـ أى متوادون ـ وإن بعدت منازلهم وأبدانهم، والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون ـ أى غاشون خونة ـ وان اقتربت منازلهم وأبدانهم " . ص _152(4/146)
ولننظر إلى هذه الحكاية المروية عن أحد الصحابة وقد بيعت من بيته ناقة. قال المشترى: فلما خرجت بها أدركنى الصحابى فى الطريق وهو مسرع، قائلا اشتريت؟ قلت نعم! قال أبين لك ما فيها! قلت وما فيها، إنها لسمينة ظاهرة الصحة؟ قال الصحابى: أردت بها سفرا، أو أردت بها لحما؟ قال أردت أن أحج عليها قال الصحابى: فارتجعها، يعنى أنها لا تصلح لما تريد بها من سفر. قال المشترى أنا راض بها فقال الصحابى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لا يحل لأحد بيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه ". إن الأمم تقوم على الصدق والمصارحة وإحسان العمل وإخلاص النية، أما ما يتم فى الظلام فهو بغيض إلى الله مشئوم المستقبل الستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر! وما يرتكب فى الخفاء من غش لا يلبث طويلا حتى يفتضح وإن ربك لبالمرصاد. * * * ص _153(4/147)
إكبار نظرت إلى الشجرة الباسقة عن بعد، والريح تعصف من حولها؟ وكنت أفكر فى عظمة الله البادية فى الأنفس والآفاق، فرأيت غصنا مورقا فى ذوائبها، تعلو به الريح فينتصب قائما، ثم تتركه فيهوى ساجدا، خُيل إلىَّ أنه يصلى! ليكن من أمره ما يكون، إن الشجرة كلها؟ وظلالها من تحتها تندرج فى قوله تعالى: (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) إن الذى عنانى ليس هذه الشجرة، إن الذى استوقفنى هو الريح المتحركة حولى وحولها، ما هى؟ تيار من الهواء يندفع بقوة أو لين هنا وهناك! فما هذا الهواء؟ وما علاقتى به؟ يقولون: إن الغلاف الهوائى يحيط بأرضنا عشرات الأميال ثم ينتهى ويتلاشى، إنه خلق لنتنفس فيه، وحياتنا تتصل من الشهيق والزفير المتواصلين يمدان أجسامنا بما يجدد الدماء وينشط الأعضاء. على أننا لسنا وحدنا الذين نعيش به، هناك أمم من الدواب والطيور والحشرات تشاركنا العيش على ظهر الأرض، والتنفس فى هذا الهواء وسمعت أمس درسا فى عالم الحيوان يقول: إن الطيور تصطاف فى أوروبا، وتشتو فى إفريقية، وإنها فى رحلتها ذاهبة آيبة قد تعتمد على الطيران الانسيابى وتيار الهواء من تحتها، فتضم أجنحتها وتنطلق. كما يقع أحيانا للسباحين الذين يتخذون بين الأمواج وضعا معينا، ثم يتركون التيارات البحرية تتقاذفهم! قلت لنفسى: أين يذهب الهواء الخارج من صدرى؟ كم صدرا يدخله بعدى؟ وبعد تردده فى عشرات أو مئات الصدور أين يستقر؟ إن الرياح تسافر به مسافات شاسعة! رُبَّ نفس أرسله غير مكترث به يتجه غربا مع تيارات الريح فيتجاوز الصحراء الكبرى إلى المحيط الأطلسى؟ وأنا فى وادى النيل، أو يتجه شرقا إلى جزيرة العرب ص _154(4/148)
ثم أعماق الهندى والهادى، إننا نسمع فى النشرات الجوية حديثا موصولا عن تحركات الرياح فى كل اتجاه... وسكت نفسى مرة أخرى: هل أنا أهيم فى أودية الخيال؟ مع جمهور الشعراء؟ وكان الجواب: أننى مرتبط بحقائق الأشياء لا أعدوها، وتذكرت أن القرآن الكريم أقسم بالرياح ووظائفها فى غير موضع (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا *فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع) والجمل الأخيرة تشير إلى أن الهواء هو الوسيط الذى يحمل الأصوات، وأنه عندما ينقل الوحى إلى الناس فهو عذير أو نذير!! ما أعجب هذا الهواء الذى يهب عنيفا فيدمر أو خفيفا فيلطف. وقد نبه القرآن مرة أخرى إلى وظائف هذا الهواء (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا* إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع) إن الذرات التى تبعثرها الريح لا حصر لها، وهناك السحب التى تحفلها فنراها مختلفة الشكل حافلة بالخير، أو ملوحة به لتبعث الأمل.. (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) كم فى الهواء من آيات تدعو إلى التأمل. وعدت إلى نفسى أتأمل فى الأنفاس الداخلة والخارجة: من يحصيها؟ ومن يتابعها؟ والأحياء على الأرض جماهير لا تحصى! وكان الجواب وما شأنك أنت وهذا؟ يحصيها ويتابعها من قال عن نفسه (كل يوم هو في شأن) يشرف عليها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم - إن ذلك كله يتم وفق نظام مقدور وكتاب مسطور، ولذلك قال العلماء:... شئون يُبديها ولا يبتديها، إن لُبابها عنده، وظواهرها لدينا، وعلينا التدبر والاعتبار؛ والتمجيد والإكبار. ص _155(4/149)
استنزاف القوى كان اليهود ومن وراءهم يرون أن تكون قوة إسرائيل معادلة لقوى العرب أجمعين، أى قوى عشرين دولة أخرى!! وذلك لضمان بقائها على تغير الأحداث.. ولكن هذا التفوق الساحق أخذ طابعا أقسى عندما تقرر أن تكون إسرائيل وحدها هى المالكة للقنبلة الذرية فى المنطقة كلها!! إن ذلك لا يعنى التقدم اليهودى فقط، بل فرض صغار أبدى على العرب؟ يجعل أرضهم ورسالتهم ومستقبلهم تحت أقدام الصهيونية العالمية، ويجعل إسرائيل الكبرى قضاء مبرما لا فرار منه... يقول "موشى دايان " أمام الغرفة التجارية الإسرائيلية الأمريكية : على إسرائيل أن تؤمن نفسها بامتلاك السلاح النووى، وأن تنتج وحدها صواريخ أرض ـ أرض بعيدة المدى، إننا نملك الآن القدرة على تفجير الذرة، وذاك لابد منه لدولة صغيرة (!) ولنعلم أن الولايات المتحدة ليست شرطى العالم الذى يُستنجد به، فلنعتمد على أنفسنا وحدها. وقال ـ أيضا ـ: على إسرائيل امتلاك الخيار الذرى حتى يعرف العرب أننا نستطيع تدميرهم إذا نشأ وضع أحسسنا معه أن دولتنا معرضة للخطر، وفى لقاء لشارون مع الشيخ الأمريكى "جون جلين " والسفير الأمريكى "صموئيل لويس " سنة 1982 قال "شارون ": إذا أقيم مفاعل نووى جديد فى العراق فسوف نهاجمه وندمره، ولن نسمح بوجود سلاح ذرى لدى جيراننا العرب، ولن ننتظر هذه المرة حتى يصبح المفاعل النووى العربى فى وضعه الساخن. ثم قال: لقد رسمت إسرائيل خطا أحمر للأسلحة التى تسمح للعرب بحيازتها! هذا أمننا، ولن نسمح لأى بلد عربى أن يعكره بامتلاك القنبلة الذرية..!! إن اليهود ـ انبعاثا من عقيدة توارثية راسخة ـ ماضون فى إقامة إسرائيل الكبرى بالسلاح الذى يفنى العرب كلهم إذا اقتضى الأمر، ولست متجافيا عن الحق إذا قلت : إننى وسائر المسلمين نؤثر الموت المجهز على ترك إسرائيل تفعل ذلك، ونحن نرفض هذا المصير، وليكن ما يكون.. ص _156(4/150)
لقد نجح العراق فى بناء مفاعل نووى من عشر سنين، ثم استطاعت إسرائيل تحطيمه فى غارة جوية ضحك العالم بعد وقوعها، ولم يصنع شيئا! وكان بين العراق وبين صنع قنبلة جديدة عام ونصف كما يقول المحققون، ولكن حرب الخليج أجهزت على هذا السلاح قبل اكتماله!! ولست آسى على شىء كما آسى لما يصنع العرب بأنفسهم، إنهم ينتحرون قبل أن يشتبك العدو معهم! من قال من أهل الأرض: إن اليمن هى الطريق إلى القدس حتى يُرسل الجيش المصرى إليها ليفقد خيرة قواته؟ فإذا وقعت حرب سنة 1967 انهزمنا فى ست ساعات، وضاعفنا مساحة إسرائيل ثلاث مرات!! إن مؤتمر السلام الحالى هو معالجة يائسة لآثار هذه الهزيمة المخزية! ومن قال: إن الكويت هى الطريق إلى القدس حتى يُستدرج الجيش العراقى إلى غزوها والفناء فيها، ثم ترك تقدمه الذرى نهبا فى أيدى الحلفاء!! إننى أتحدث وقلبى ينفطر وعلى لسانى قول الشاعر القديم: كفى حزنا الا أزال أرى القنا تمج نجيعا من ذراعى ومن عضدى وإنى وإن عاديتهم.. وجفوتهم لتألم مما عض أكبادهم كبدى!! إن العرب يستطيعون أن يفعلوا الكثير، وأن يمحوا الغرور اليهودى، وأن يؤمنوا المسجد الأقصى، وأن يغيثوا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ الذين أكلهم الذل داخل سجون إسرائيل، إنهم يستطيعون ذلك يوم يغيرون خططهم القديمة، ويفتحون صدورهم لمبادئ الإعلام وتوجيهاته، ويستهدون بالله فى حربهم وسلامهم.. ماذا يصنع العرب الآن؟ يقولون لليهود نترك لكم ما أخذتم سنة 1948، وتردون لنا ما أخذتم سنة 1967، ويجيب اليهود لا، لن نترك من " أرضنا" شيئا!! إن تفاوضنا يدور مع اليهود على هذا المحور إن دل على شىء فعلى أن العرب منهزمون نفسيا، وأنهم يجهلون طبيعة المعركة القائمة، وأنهم لا ينبعثون عن صلة بالله الذى اصطفاهم لرسالته، وأختار لهم الإسلام دينا. ص _157(4/151)
مؤتمر السكان ينعقد فى القاهرة مؤتمر عالمانى ضخم يزيد المشتركون فيه على عشرين ألف شخص جاء أغلبهم من أوروبا وأمريكا كى يبحثوا فى قضايا السكان والتنمية. والمؤتمر من أنشطة الأمم المتحدة. وقد قرأت مذكرة تزيد على 200 صفحة أعدتها الأمانة العامة للمؤتمر عن برنامج عمله. ومع أن الكلام فى المذكرة عن الناس كلهم ـ أنا وأنت وهو ـ فإنه لم يعرج على الدين من قريب أو بعيد، ما ذكر اسم الله أو الوحى أو الحلال والحرام أو الضمير وحساب الآخرة، كأن الله بعد أن خلق البشر نفض يديه من شئونهم فلا أمر ولا نهى ولا وعد ولا وعيد، وهذا التجاهل للتوجيه الإلهى لا يتناول الإسلام وحده، بل الأديان السماوية والأرضية كلها! وعلينا نحن المسلمين عندما نشارك فى هذا المؤتمر أن ننسى تراثنا الثقافى كله وأن نتبع الخط العقلى لبعض الناس الذين يستوحون غرائزهم ويحتكمون إلى أهوائهم ولا يحترمون قال الله. وقال الرسول. لقد كان الفقيه المسلم قادرا على إصلاح عوج كثير فى الحياة العامة لكن ماذا أصنع إذا جاء دعى فى العلاقات الإنسانية ثم شرع يصوغ مقترحاته الإصلاحية فى هذه العبارات ص 27 : " إن من الأساسى تحسين الاتصال بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بقضايا الجنس والحياة الجنسية والصحة التناسلية وتحسين فهم كل منهما للمسئوليات المشتركة بينهما" وقبل ذلك يقول: " يلزم بذل جهود خاصة فى مجال التعليم والإعلام للتشجيع على معاملة البنات والأولاد على قدم المساواة فيما يتعلق بالتغذية والرعاية الصحية وحقوق الميراث.. "!! ما هذا الخلط؟ ولمن يقال هذا الكلام؟ إن الإسلام شرع حقوق الزوجين والأولاد فى عبارات أشرف وأذكى وأعدل. ولكن عشرين ألف شخص يجيئون إلى القاهرة لنستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير! وليرشدوا الذكور والإناث إلى أيسر وسائل منع الحمل! ص _158(4/152)
ما معنى هذا القول الوارد فى ص 43 "ينبغى أن تكون برامج الرعاية الصحية والتناسلية والجنسية مصممة لتلبية احتياجات المرأة والفتاة المراهقة "! هل هذا هو الإصلاح الاجتماعى؟ فما يكون الإفساد؟ وتمضى الدراسة الواعية فتقول: إن الأساليب الطوعية والمناسبة لمنع الحمل لدى الذكور، فضلا عن الوقاية من الأمراض المنقولة بالاتصال الجنسى والإيدز ينبغى ترويجها وتيسير منالها ". ظاهر أن من أهم أغراض المؤتمر تيسير الخنا، وتخفيف عواقبه ونشر الأغشية الواقية من الأمراض القتالة المرتبطة بالصلات الجنسية المنحرفة! وفى ص 53 يقول : "ينبغى توفير برامج للوقاية والعلاج من الاعتداء الجنسى وسفاح المحارم " ثم يقول : "والمراهقون الناشطون جنسيا يحتاجون إلى نوع خاص من المعلومات والمشورة والخدمات "!!! أبدل تعليم الدين والعفة والصلاة تجمع مؤتمرات لمدارسة هذا العهر؟ أخشى أن يكون هذا المؤتمر العلمانى زلزالا يهدم ما بقى لنا من بيوت وأخلاق. * * * ص _159(4/153)
مبادئنا هناك صياح عالى النبرات حول السلوك الجنسى لسكان العالم، وأنا باسم الإسلام وقد أكون باسم الأديان السماوية جميعا أقدم هذه المبادئ قواعد لمؤتمر أرشد يعالج مسار هذا السلوك المضطرب: الإنسان مالك جسده ومن حقه أن يفعل به ما يشاء كما يقول أكثر العلمانيين، ولكننا نذكر بأن الله صاحب الحق الأول فى هذا الجسد، فهو خالقه وولى أمره، ومصدر التشريع الذى ينفعه ويرفعه ويطهره، ولا نقبل مماراة بتة فى هذا الحق. فراش الزوجية وحده هو الملتقى المقبول بين الرجل والمرأة، وما عداه إثم، والعلاقة الجنسية دعامة بيت شريف وتربية فاضلة لما يمنحه الله من أولاد، والزواج ببواعث العفة ورعاية النشء عبادة من أزكى العبادات فيجب تيسيره وإزاحة كل عائق أمامه.. البغاء واللواط والسحاق وسائر المباذل الشهوانية مناكر مرفوضة، وتشريعها محاربة لله، وظلم للفطرة وتهديم للمجتمع.. يجوز لظروف خاصة المباعدة بين أوقات الحمل، وتترك لتقدير الزوجين. الأصل فى الإجهاض أنه جريمة، ولا يلجأ إليه الطبيب إلا صونا لحياة الأم. خالق هذه الأرض أودع بها ما يقوت ساكنيها على أساس أن تتعاون القوى على استثارة الأرض واستخراج خيراتها، وهذه الأرض تستطيع إطعام أضعاف سكانها المعاصرين على شرط أن يتوقف الإثم والعدوان ويتعاون البشر على البر والتقوى. عندما نجح الشيطان فى إيقاد الحروب تهدمت المدن والقوى وجمدت مئات المليارات فى أسلحة الدمار الشامل، وكان يمكن اختفاء الجوع لو كرست هذه الجهود لإطعام الجياع. ص _160(4/154)
مؤتمر السكان الذى انعقد فى القاهرة لم يجئ فى دراساته حرف واحد لاستنكار الشذوذ، ومحاربة القوانين التى تنظمه، بل بدا من دراساته الطويلة المملة أنه يقر الحرية الجنسية فى حدود منع الضرر! فإذا أمن طاعون الإيدز وأشباهه فلا حدود لهذه الحرية الدنسة!! كما أن رغبته ظاهرة فى تقليل سكان العالم الثالث وضمان مستوى عال من المعيشة للعالم الأول، الذى يحكم الأرض الآن... إن المؤتمر المذكور لم يرفع عينه إلى السماء يوما، أتراه لا يعرف رب السماء؟ لكننا المسلمين نؤمن برب الأرض والسماء، ونحترم وحيه الذى توارثه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، فإذا خان غيرنا دينه فسنظل نحن نقول لربنا (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ص _161(4/155)
أفكار متخابث قال "فهامة" فى علم الأحياء لصاحبه : لقد تبين لى أن نسبة الزيادة فى سكان الأرض تزيد على نسبة الموارد الطبيعية اللازمة لتغذية البشر، وأن كارثة رهيبة توشك أن تقع بالناس فلا يجدون ما يأكلون!! قال له صاحبه: عاود البحث لعل نظرتك موضعية لا تنتج مبدأ عاما أو مؤقتة لا تنتج قانونا خالدا.. قال: أنا متأكد خصوصا فى العالم الثالث الذى يتكاثر بجنون وبين المسلمين الذين تتفاحش زيادتهم! يجب وقف هذا كله لمصلحة العالم أجمع! قال له صاحبه: كيف؟ قال : كما توقفت الزيادة فى دول أوروبا ولولا الجوائز والمكافآت لنقصت أعدادها إنه عن طريق الشهوات المطاعة يسهل الصعب، يكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وتتاح الخلوات الحرة، والرقص المزدوج، والتخلص من الحمل الكريه، وإشاعة البغاء فيكتفى عدة رجال بامرأة، وقد فتحت أوروبا وأمريكا الطريق وقرر اللواط والسحاق بقانون. وسارت مواكب الشواذ فى أمريكا تطلب الالتحاق بالجيش حتى نالت وعدا من رئيس الولايات المتحدة، إن النقص فى المواليد سيكون حتما بعد استقرار هذه التقاليد.! وعندما ننجح فى نشرها بالعالم الإسلامى سيتراجع المد السكانى فيه، بل قد ينقص عدده! قال السامع: لكن هؤلاء الناس متمسكون بدينهم ولن يقبلوا هذا الانحلال المعروض عليهم! قال: عندما تعرض عليهم انحلالا لا تلومن إلا نفسك، عليك بالعبارات اللطيفة ص _162(4/156)
والجمل الخادعة، خذ مثلا هذه الكلمات: الكبت الجنسى يصنع العقد النفسية، المساواة مطلقة بين الذكورة والأنوثة. الحب حق طبيعى للجنسين. ليس للآباء التدخل فى أسرار الفتى أو الفتاة. الضوابط الطبيعية للعلاقات التناسلية. التجمل حق للرجل والمرأة. المباعدة بين الولادات مطلوبة.. الخ إن العبارات الرجراجة المطاطة تحفظك من الحرج.. وعندما ينعقد مؤتمر السكان فى القاهرة فستكون المصطلحات المطاطة خير طريق لدحرجة العقائد والضحك على الذقون!.. إننا نحن المؤمنين بالوحى الإلهى نكره الختل والمراوغة فى أمهات الفضائل وفى تقاليد الأسرة وأول ما نطلبه من المؤتمر أن يقرر تحريم الزنى، واللواط والسحاق، والخلوة، والرقص مفردا أو مزدوجا، والعرى المختلط فى البر والبحر وجعل الملابس ستارا لوصف الأعضاء وتحديدها.... الخ. إن الملابس النسائية فى تقاليدنا الإسلامية والشرقية كالملابس النسائية عند الراهبات المسيحيات، والخنا مرفوض فى أديان السماء كلها وسنقاوم باسم الله كل حركة ضد هذه المقررات. ص _163(4/157)
منطق مغالط إذا رأيت جثة مجرم تتدلى من حبل المشنقة؟ فلا يتطرق إلى قلبك عطف عليه أو ألم له، وتذكر كيف فتك بضحاياه دون رحمة، وتخيل أولئك المساكين وهم يتلقون ضرباته ويخرون صرعى تحت قدميه! إن القصاص حق، وما يضيق به ذو عقل، ولولا القصاص لاسودت الآفاق من فعال المجرمين واستهتارهم بسفك الدم وظلم الضعيف. ولقد قرأت قصة فى صحيفة كبيرة تصف مصرع قاتل وصفا يفيض بالأسى، ويملأ النفوس شفقة على المسكين!! وعمل الخيال الجامح فيها عمله، فإذا أنت أمام مأساة ينبغى أن يتحرك لمنعها مجلس الأمن..!! إنه من الممكن بهذا الفن المؤنث المولول تحسين القبيح وتقبيح الحسن. لقد قرأت أن زوجة خائنة تآمرت مع عشيقها على قتل الزوج المسترسل بدس السم له، فهل جزاء أولئك إلا القتل؟ ما معنى أن يجىء صاحب قلم تائه فيذرف الدمع على الزوجة التى اشترى جسدها أحد القادرين، فكانت تسلم نفسها له، وقلبها بعيد! حتى تاحت الفرصة فالتقت بقرة العين، وكان من جيشان العاطفة وألم الحرمان ما أدى إلى موت الزوج بطريقة أو بأخرى..!! أليس هذا الكلام تزيينا للجريمة واعتذارا عن بواعثها؟ وفتوى بإباحة القتل؟ وتسويغا لكل ما يهجس فى الأنفس من شرور؟ إن الفنان الذى كتب فى الصحيفة الكبيرة وصفا لساحة القصاص فى مكة المكرمة، وأطلق العنان لخياله كى يثير الأحزان على الشاب النحيل الذى قُتل عدلا، وحشد من الصور الكئيبة ما يثير العطف على الضحية؟ هذا الفنان كان يكذب فى كل حرف خطه، وكان يفتعل حكايات مبتورة لا صلة لها بالواقع أبدا! ص _164(4/158)
وأول أكاذيبه أنه رأى يد لص معلقة منذ مدة طويلة، وأفواج الذباب تغطيها وتطن حولها، وهذا الكلام لا أصل له، ولا مصدر له إلا نفس الكاتب الكذوب، وهو فى حقيقته تنديد بشرائع الحدود، ودفع إلى تعطيلها.. وأشهد ما رأيت أمتنا أحوج إلى شرائع الحدود والقصاص منها فى هذا العصر الكالح، فقد تبجح المجرمون، وفدحت المغارم، وشاع القلق؟ فلا أمان فى بيت ولا فى طريق، وليس أنجح من العلاج السماوى فى حسم هذه البلايا.. إن كاتب هذه القصة زعم تمشيا مع خياله المريض أن السياف الذى ينفذ القصاص رجل لديه عشة دجاج يتأنق فى صفها وذبحها وتعليقها؟ لأنه متعطش إلى سفك الدماء ! أى دماء أيها الأحمق؟ وهل عشماوى عندنا فى مصر لديه هواية خنق القطط والكلاب حتى ينفس عن رغبته بشنق المجرمين..؟ ومن قال: إن المحكوم بقتله يحضر والده ليرى مصرع ابنه؟ الذى نعرفه أن ولى الدم يحضر القصاص، وله الحق أن يعفو، فيقف التنفيذ للفور.... ويوجد من السراة والمحسنين من يعرض عليه الدية أو أكثر حتى ينزل عن حقه، فإذا أبى إلا قتل من قتل أباه أو ابنه نفذ الحكم، وهذا حقه..! ومن قال: إن بركة الدم تبقى حتى تتجلط، وتلوث الرخام الأبيض.. إلى آخر السخف الذى أثبته هذا الكاتب المخبول؟ ألا فليهنأ المجرمون من قتلة ولصوص بدفاع هذا المحامى المبطل عنهم، وليخالط الروع والفزع أفئدة الكبار والصغار، لأن بعض الناس يكره التأديب والعقاب..! ص _165(4/159)
النفاق للمرء المنافق والمجتمع المنافق أركان يعرف بها، هى ـ كما جاء فى السنة ـ الكذب والخيانة والغدر وخسة العداوة.. ونسبة النفاق تزيد أو تنقص حسب مقادير هذه الخلائق الرديئة فى سلوك الناس!! بعض من نعامل لا يعرف للكلمة وزنا ولا حرمة، إنه يدير فمه فى لسانه وحسب، لا يصدق فى وصف ولا خبر، وربما كان كلامه تغطيه للحقيقة لا كشفا لها.. والرباط بين أولى الألباب هو الكلمة التى تعطى ضمانا للوعود والعهود والعقود، بيد أن كثيرين يعدون فيخلفون؟ ويعقدون فينقضون، ويعاهدون فيغدرون، وشيوع هذه المناكر يشيع الفوضى فى أرجاء الحياة، ولذلك يقول الله تعالى : (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون). والمصيبة الطامة أن تكره إنسانا فتحاول النيل منه بكل أسلوب وتجتهد وسعك فى إلحاق الأذى به، وهو ما سماه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الفجور فى الخصومة... وقد رأيت الناس الآن تهوى فى خصومتها إلى مكان سحيق، وتستبيح الدم والمال والعرض، وتجعل آفاق الحياة سوداء أينما اتجهت.. والأمة لا تنجو من هذا السواد بعظة عابرة، ولا بد من نظرة جادة إلى أصول التربية ومكونات الأخلاق فى البيت والشارع، وأركان البيئة كلها، وهذا عمل أصيل للجماعات الإسلامية الصادقة، وتخلفها عنه إيذان بالويل والثبور..! وقد لمحت فى جوانب أمتنا أمور أخرى لها دلالتها! قال لى صديق: كنت فى "هونج كونج " فلمحت بدلة سرتنى لكنها دون قوامى، فذكرت للبائع ما عندى ، فقال: هاك القماش، خذ منه القدر المناسب، يفصله لك الخائط؟ وبعد ستين دقيقة تتسلم البدلة!! ص _166(4/160)
قال: وفعلت مغامرا، فإذا أنا بعد ساعة مضبوطة ألبس البدلة الجديدة! قلت: يتم هذا عندنا فى أسبوع أو يزيد! إن رداءة الأداء خاصة مستغربة بيننا، وتنشأ عنها خسائر كبيرة، فكم من حريق مستعر يسببه إهمال عامل فى مد أسلاك الكهرباء! وكم من مبنى هدده سباك لم يحسن توصيل المياه، فتخللت الجدران، ورشحت ظاهرا وباطنا. إن تغيير النفوس ـ لتبرأ من هذه العلل ـ أساس لا بد منه لبناء أمة ذات رسالة كبيرة، بل أساس لابد منه لبناء مجتمع يستطيع الحياة، وهذا جهد أول لعمل الجماعات الإسلامية مصداق قوله تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) إننا بالموازنة المنصفة نشعر بأن حقيقة الإنسان عندنا مشوبة، ومضطربة؟ وسائبة إلى حد بعيد، وإذا كان الفكر مختلا والقلب معتلا فأنى تجئ النجاة؟ وكيف يقترب النصر؟؟ قلت لأحد المتحمسين: إننى أشد منك شوقا إلى إقامة حكم إسلامى، ولكن هل أجنح إلى البطالة والصياح حتى يتحقق النصر؟ أبواب العمل كثيرة، فالإسلام دين النفس والمجتمع والدولة وعلينا ـ إذا فاتنا الحكم ـ أن نعرق فى تزكية النفوس بالأخلاق العالية، وفى دعم المجتمع بالتقاليد الصالحة... إنه لا إسلام إذا لم يكن الفكر واعيا والضمير صاحيا..، فلتنشط الجهود فى هذا الميدان، وفى نجاحها تحقيق الآمال. ص _167(4/161)
سبحان الله وبحمده قلت فى نفسى لو أنى على بعد مائة ميل من كوكب الأرض فماذا أرى وماذا أسمع؟؟ هل أرى سحب الأدخنة والأتربة التى لوثت الجو وعكرت صفاءه؟ هل أسمع عاصفة الضوضاء التى تنبعث من المركبات والمصانع والتى غطى ضجيجها كل شىء؟ أعرف أن لهذا الكوكب أجلا مسمى فهل هو يستعجله ويبحث عن حتفه بظلفه؟ ثم ماذا نحن فى هذا الكون الكبير؟ قرأت أن علماء الفلك اكتشفوا ما يعتقدون أنه ثقب أسود فى مجرة نائية أكبر مائة مرة من أى ثقب أسود تم اكتشافه من قبل! وذكر راديو "صوت أمريكا" أن العلماء يعتقدون أن هذا الثقب الهائل يضم ألف مليون نجم! وأن تجمع النجوم والمواد الأخرى فيه يشكل مركزا كثيفا للجاذبية يبلغ من القوة أنه لا يفلت منه شىء حتى الضوء...! قلت: إذا كان هذا ثقبا فى جانب من الكون فما يكون الكون نفسه؟ يبدو أن ما بين السماوات والأرض أعجب منهما..! وانفتح أمامى أفق عريض عامر بالدلائل على عظمة الله وعلو شأنه (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) قد أرى حولى جماهير من الناس، وقد أرى محيط الأرض وأنا داخل قمر صناعى، لكن القصة ليست رؤية إنسان من بين مليارات الأناسى. إن هذا الإنسان وحده كون صغير! على جلده مائة ألف شجرة أعنى مائة ألف شعرة تنمو وتنقصف ليعود مكانها مثلها! لعل الشعر أهون ما فى الإنسان فلننظر إلى ص _168(4/162)
ألوف مؤلفة من كرات الدم تسبح فى عروقه، إنها كرات متجددة، لها مصانع تنشئها وترسلها حسب الحاجة، ولننظر إلى شبكة الأعصاب المنتشرة فى الجسم إنها تتلقى الأوامر ليلا ونهارا من المخ الذى عجز البشر عن معرفة تلافيفه المعقدة ووظائفها الخطيرة، من فجر الإنسانية إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يدبر ربنا شئون هذه الأجساد، وما يعرض لها من بؤس ونعمى (وأن إلى ربك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا) إن الكون كبير كما كشف العلم، ولكن الله أكبر كما يجب أن يشعر العلماء. فى مجتمعاتنا نحن البشر نرى الساسة الكبار مثلا مشغولين بالأمور الكبيرة غافلين عن الصغائر، ولكن رب العالمين لا يشغله شأن عن شأن فهو يسمع مواء هرة معذبة ويدخل من عذبها النار كما يسمع دعاء جماهير بائسة، ويجزى الظالمين بما كانوا يعملون إنه يسمع سقوط ورقة من شجرة ويرى تجلط الدم فى عرق كما يرى ويسمع قصف الرعد فى السماء، وأفول نجم فى الفضاء! سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. ص _169(4/163)
ماذا.. بعد قتل الأم؟! بليت مصر كما بليت أقطار إسلامية أخرى بالأحكام الوضعية التى حلت محل الشريعة الإسلامية، فقد رأى الاستعمار العالمى أن هذه الشريعة يجب أن تختفى وأن يكون اختفاؤها بداية للإجهاز على الإسلام كله فى شتى الميادين، ومن أمد طويل والاستعمار ماض فى التنفيذ ونحن ماضون فى المقاومة ولا ندرى ما يتمخض عنه المستقبل ! وقد قرأت فى " الأخبار" أن ولدا عاقا قتل أمه بالفأس لأنها لم تعطه ما ينفقه فى بعض ملذاته، وشكت إليه ضيق الحال، فرفض هذا الاعتذار وما زال يضربها بالفأس حتى أزهق روحها ! ولم تبد عليه بعد ارتكاب جريمته علامة ندم، واقتيد إلى القضاء فحكم عليه بالسجن المؤبد! لماذا لم يقتص منه؟ ويقتل كما قتل أمه؟ لأن القانون الاستعمارى ـ المنقول عن فرنسا ـ يشترط للقصاص الترصد وسبق الإصرار، والولد قتل أمه فى لحظة غضب!! وقد تمنت المحكمة لو استطاعت الحكم بالموت، ولكن القانون لا يعينها والقوانين الأوروبية عموما تستند إلى آراء بشرية ووثنيات رومانية أو يونانية وعلاقتها بالسماء مقطوعة أو واهية وقد ضاق أولو الألباب بها ذرعا كما أن آثارها العامة زادت من شيوع الجرائم وإرخاص الدماء وإهانة الإسلام وإضعاف الأخلاق، وقد تحرك أولو الغيرة لعمل شىء والوضع الآن يتلخص فى مسلمين يريدون إحياء ما مات من تعاليم الإسلام وكافرين يريدون إماتة ما بقى حيا من هذه التعاليم! إن النزاع لا تحسمه جولة واحدة، إنه نزاع ممتد طويل، أمل أعداء الإسلام أن يتحول موت الشريعة إلى موت للعقيدة والتربية والتقاليد، وأملنا نحن أن يعمل الدين فى مجاله العتيد فيتناول شئون الحياة كلها، كما قال الله فى كتابه (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). ص _170(4/164)
وأريد لفت النظر إلى أن الهزائم المادية والأدبية التى نزلت بالمسلمين فى الأعصار الأخيرة تجمعت أسبابها من الداخل قبل أن تجىء من الخارج، وأن الفرعونية الحاكمة والقارونية الكانزة وفقه الفروع التافهة والتقليد الغبى، كل ذلك ألحق بنا هزائم نكراء وأزرى برسالتنا وحضارتنا، وأن الإسلام إذا أراد أن يعود سيرته الأولى فلابد من شعوب تتأسى بالصحابة والتابعين فى حدة الذكاء وسلامة الفطرة ونظافة القصد ونشدان الآخرة.. إن أعداء الإسلام مصممون على إماتته ونحن مصممون على الدفاع عنه والله غالب على أمره. ص _171(4/165)
ظلومة للنساء من مآثر الجاهلية الأولى أنها كانت تزدرى المرأة وتصادر حقوقها وتهمل شئونها وتفرض عليها أن تعيش فى زاوية من الإهمال والخمول. ويظهر ذلك بوضوح عند تقسيم المواريث! فإن الرجال يذهبون بالمال كله ولا يبقى للزوجات والبنات إلا الثكل والأحزان.! والغريب أن تقاليد الجاهلية القديمة لا تزال حية فى ضمائر البعض، فهم يضنون على البنت بأخذ نصيبها لا سيما إذا كانت متزوجة، ويقولون لها: تذهبين بمال الأسرة إلى الغرباء! فإذا كانت لم تتزوج خلطوا مالها بأموالهم تمهيدا لأكله بالباطل! وهذا كله فسوق عن أمر الله، ورغبة فى رد النساء إلى الجاهلية التى حررهن الإسلام منها.. ويحكى المفسرون سببا لنزول الآية الكريمة (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا). قالوا: نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى، توفى وترك امرأة تسمى "أم كحة" وثلاث بنات وترك ثروة حسنة، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه، يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا المال كله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا... وذلك حسب تقاليد الجاهلية التى لا تورث النساء ولا الأطفال، وإنما يذهب بالتركة الرجال الكبار متعللين بأن الإرث لا يستحقه إلا من قاتل وحاز الغنائم وحمى الحوزة...! فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشكت له ما وقع وقالت : إن زوجها ترك مالا كثيرا وتركنى وثلاث بنات وليس عندى ما أنفقه عليهن، وقد اجتاح "سويد" و "عرفجة" كل شئ ولم يعطيانى ولا بناتى منه شيئا، وهن فى حجرى لا يُطعمن ولا يُسقين!! ص _172(4/166)
فدعاهما الرسول ليسألهما عما فعلا.. فقالا: يا رسول الله إن أولادها لا يركبن فرسا، ولا يحملن كلا، ولا يكدن عدوا.. فأنزل الله هذه الآية مبينا أن الإرث ليس مختصا بالرجال، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء.. فلما نزلت الآية مجملة لم تحدد فيها الأنصبة أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجميد التركة حتى ينزل بيان بالتقسيم، فنزل بعدئذ قوله تعالى : (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)... إلى آخر آيات المواريث! فقسم ميراث أوس بن ثابت على هذا النحو وفق تعاليم الشريعة ص /3 للزوجة ص /16 للبنات ص /5 لأولاد العم، وهذا هو التقسيم المعتمد عند جمهور المسلمين! ذلك، وقد لوحظ أن اليتيمة تكون عند الوصى، فيحب أن يتزوجها لأنها أقل مؤونة ومهرا، وبذلك يأخذها ويأخذ معها ميراثها فنزل قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) أى ذنبا عظيما. إن المجتمع الذى يهين النساء، ويقلل من شأنهن، ويستبيح حقوقهن المادية والأدبية مجتمع أنانى ظلوم بعيد عن تعاليم الإسلام ووصاياه وكذلك المجتمع الذى يجور على المستضعفين الذين لا شوكة لهم، ولا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم! إن الله سبحانه أمر بالعدل والرحمة، ووصى بالإحسان والفضل، وأقام الأمم على التكافل الكريم، وعلى أن يتنفس الصغار والكبار فى جو إنسانى رفيع، وقال للناس بعد ذلك ( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) . ص _173(4/167)
مفارقات هناك معاص مركبة تلتقى فيها عدة رذائل، أو تتشابك فيها بضعة آثام! ماذا تقول فى رجل يأتيك بالعمل ناقصا، ثم يطلب عليه أجرا زائدا، فإذا اعترضته اتهمك بالجور وهضم الضعفاء؟؟ عمال كثيرون يبنون حياتهم على هذه السيرة الرديئة، تخرج الأعمال من أيديهم مشوهة، ويطلبون لقاءها الثمن الغالى، فإذا أخذ أحدهم ما يريد شرع ينفقه فى التدخين، أو يبعثره فى وجوه الشر! قلت: رحم الله أياما كان آباء هؤلاء العمال يزرعون القمح ويأكلون الطين، ويجيدون ما يكلفون به ويطلبون العوض باستحياء! لقد دافعنا عنهم بحرارة، وطالبنا حقوقهم بقوة، فلما تقررت هذه الحقوق بعد لأى كانوا قد ماتوا وحل محلهم كسالى أدعياء لا يحسنون شيئا ويطمعون فى الكثير. لقد نزلت فى القرآن الكريم سورة عن المطففين (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) وهذا الصنف من الناس موجود فى ميادين شتى، شيمته أن يدور حول نفسه يصبح فيتصور أن ما فى أيدى الناس ملكه فهو يعمل على استرداده، وهو كثير الحديث عما يرى أنه له، قليل الحديث عما يجب عليه، بل سريع الجحود والنكران! (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين). إن الحديث كثر عن الإسلام السياسى وعن ضرورة تطبيق الشريعة فى دروب الحياة كلها، وهذا مطلب جليل، ولكن دونه أهوال فهلا أكثرنا الحديث عن الإسلام الأخلاقى، وعلى غرس الفضائل الجليلة بين الكبار والصغار!! ص _174(4/168)
إن الحضارة الحديثة قامت على صناعات دقيقة قد ترى آلاتها بالمجهر وقد تكون آلاتها الضخمة قائمة على علاقات بالغة الدقة، والنجاح فى تصريف هذه الآلات يتطلب اللطافة واللباقة والأناة والحذر، ويستحيل أن يُهدى إليه الهجامون على الحياة بغباء، أو المتقلبون فى شئونها باستهانة، أو عبيد أطماعهم بعمى ونزق. ! لماذا يكون العامل عندنا دون نظيره فى أوروبا؟ إن اليابانيين يرون الأمريكان كسالى! والأمريكيون يرون الأوروبيين دونهم! فما منزلتنا نحن فى دنيا الناس؟ وكيف ينتصر دين يكون أتباعه من المطففين الذين لهم الويل؟ أو من الهمل الذين فقدوا بريق العقل؟؟ الميزان القرآنى يتحرك بالذره ليميل يمنة أو يسرة (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين) فهل ينصف هذا الميزان أناسا فوضويين فى النواحى الفنية والخلقية؟ على المسلمين أن يعرفوا دينهم ويرتفعوا إلى مستواه، وإلا هلكوا. ص _175(4/169)
العقل الغائب للإسلام أركان يعتمد عليها، وعزائم يقوم بها تشبه الآيات المحكمات التى هى أساس الدين ولبابه! هذه الأركان والعزائم ليست موضع خلاف، وإذا كان هناك من تفاوت فى المواقف فهو تفاوت سطحى خفيف الوزن . ولنضرب مثالا يوضح القصد، قد يقول الله تعالى (...أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) هل الملامسة تعنى اللمس المطلق فكل لمس ينقض الوضوء أم التعبير مجازى، والمراد لمس معين؟ إن الفقهاء يختلفون، وميدان الفقه مجال رحب لوجهات النظر المتعددة، وأجمع العلماء على أن هذا الخلاف لا حرج فيه ولا ضرر منه ولا يسىء إلى الإسلام ولا يفسد للود قضية. لكن إذا قال رسول الله ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) فالمعنى واضح حاسم فإن يكن فى الفقه خلاف فلا خلاف فى الأخلاق.. وقد لاحظت أن فئات من الناس ظهرت فى هذه الأيام رباطها بالعقيدة غامض، والأخلاق ضعيف، وبمصلحة الأمة منقطع، يتركون عزائم الدين وفضائله ويتبنون وجهات نظر فقهية معينة يتعصبون لها أشد التعصب، ويفاصلون الآخرين عليها فمن لم يشاركهم الرأى فليس بمسلم. هناك قضية السروال والجلباب وقضية النقاب والحجاب وقضية التصوير والغناء وقضية المنبر العالى والمنبر القليل الدرجات.. الخ. وقد غام جو الصحوة الإسلامية لطول اللغط فى هذه القضايا، إن الجدال فيها غلب النظر فى مستقبل شعوب إسلامية مهددة، وأهداف دينية رئيسة! بل إن أعداء ص _176(4/170)
الإسلام فى الداخل والخارج أصابوا الإسلام فى مقاتل بسبب هذا الوضع المزرى والشقاق المفتعل. فى هذه البيئات وجد المتطرفون الذين يسيئون أكثر مما يحسنون، ويضعون بمسالكهم العراقيل أمام أولى الألباب... إن أعداء الإسلام فى هذه الأيام يملكون قوى أفتك وتظاهرهم ظروف مسعفة! ونحن نعانى من متاعب موروثة ومعاصرة إذا شغلنا بها اجتاحنا عدونا! فلنكن صرحاء فى تعريف الفتيان المتعصبين لبعض الأفكار الفقهية بأن حالة المسلمين العالمية لا تحتمل هذا التحجر! وأن من الخير تحكيم هذه القاعدة "نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ". إننى أخط هذه السطور وقد شرع أعداء الإسلام فى محوه من أوروبا فخرست منائر ومنابر كانت أمس غانية بذكر الله !! على حين شغل بعض رجالنا وفتيتنا بالجدال المر هل تخرج زكاة الفطر نقودا أو حبوبا، إنه جدال قطع الأرحام فى وقت تزلزل فيه دار الإسلام! فهل يعود العقل الغائب؟ ص _177(4/171)
قبل أن يقتلهم القهر هناك حكومات عربية تكره الجماعات الإسلامية كرها شديدا، تنكل بالمتهم وترتاب فى البريء، وهذا مسلك يحتاج إلى تعليق من الناحيتين الإسلامية والحضارية لأنه بعيد عن الإنصاف..! أنا أعلم أن فى الإسلاميين من لا يفرق بين ركن ونفل، وعادة وعبادة، وشكل وموضوع! وأعرف أن منهم من يمقت اسمى وفكرى... ولكنى أعلم أيضا أن فيهم من آتاه الله رشده وأراه قصده فهو يخدم الإسلام جهده ولا يطلب أجرا إلا عند الله وحده! وهؤلاء كثيرون، بل جماهير غفيرة!! وأرى أن على الحكومات الغاضبة أن تقلد الحكومات الأوروبية فى موقفها من المتطرفين، فهى توفر لهم حقوق الإنسان، وتعتمد فى مخاصمتهم على البرهان وتنأى عن التعذيب والهوان.. وقد قامت فى أوروبا أحزاب عنصرية متمردة تصارح بطرد العرب والمسلمين، ودائرة التأييد لها تتسع، وأثرها يمتد إلى الأحزاب المستولية على السلطة! ومع ذلك لا تلقى مطاردة ولا اضطهادا... فلماذا تستمتع هذه الأحزاب بحق الحياة هناك، ويُستكثر هذا الحق أو يُستنكر على الأحزاب الإسلامية هنا؟؟ كتب الدكتور "أحمد القديرى" فى صحيفة "الشرق " يقول: صدرت فى فرنسا مجلة "جولياس " المسيحية المعتدلة تحمل فى عدديها 27، 28 تحقيقا ضافيا عما سمته المجلة: "عودة الصليبيين" أثبتت بالبراهين أن المنظمة المتطرفة المدعوة بالإخاء المسيحى، والمنظمة الأخرى المدعوة بإخاء القديس بطرس عقدتا حلفا سياسيا مع حزب الجبهة الوطنية اليمينية الذى يترأسه "جون لوبان " المعروف بعدائه الشديد للإسلام ومقاومته للمهاجرين المسلمين ـ القادمين من الغرب ـ وأطلق هؤلاء وأولئك على حلفهم "الوطنيون الكاثوليك " وهو نوع من التحزب العرقى المتطرف. ص _178(4/172)
وقد نشر القس "لاجيرى" مقالا فى جريدة "لوموند" فى 17/8/90 قال فيه "إن المسلمين كلهم كالنساء يضعفون إذا قويت معهم، ويطغون إذا ضعفت بإزائهم ". هكذا يتحدث كاتب الإخاء المسيحى! أما المنظمة الثانية فقد أصدرت مجلة بعنوان "إعادة الغزو" !! وفى آخر عدد من هذه المجلة كتب برنارد أنتونى مقالا جمع فيه- فى سلك واحد- بين الكفر والنازية والشيوعية والإسلام... والأغرب والأنكى، أن هذه المنظمة المتطرفة تلقت من الرئيس الزائيرى جنرال "موبوتو" مبلغا ماليا كبيرا مشاركة منه فى بناء المعبد البندكيتى الجديد الذى بلغت تكاليفه عشرين مليون دولار! وهكذا فإن الصليبيين عائدون!! وقد أسأل: هل يجد مسلم فى سلطان "موبوتو" بصيصا من نور. أو أملا فى حياة؟ إن الدعم الذى يلقاه المتطرفون الدينيون سواء فى إسرائيل أم فى أوروبا وأمريكا يدعو إلى التأمل العميق، فكيف الحال فى العالم العربى؟ إن الحملة عامة على كل موصوم بالتطرف. واتسع نطاق الحملة حتى شمل الدعاة الأبرياء والمعلمين المعتدلين وأمسى من يدعو إلى تحليل الحلال وتحريم الحرام وإقام الصلاة وإحياء شرائع الإسلام أهلا للتهمة...! إن خلط الأوراق على هذا النحو مزلقة إلى محاربة الإسلام نفسه، وإهمال كتاب الله وسنة رسوله، والقول بأن الجماعات الإسلامية سواء كلها قول تنقصه الدقة أو قل ينقصه الصدق، وهو تنفيذ لمخططات استعمارية تريد تدويخ اليقظة الإسلامية والإجهاز عليها.. ويوم تخلو الساحة من الشباب المسلم الصاحى الغيور فسوف يتحول الغزو الثقافى إلى غزو عسكرى، وعندئذ نبحث عن أولى النجدة فلا نجدهم فقد قتلهم القهر قبل أن يقتلهم أعداء الإسلام الصرحاء، من صهاينة وصليبيين..!! ص _179(4/173)
قلوب لا تعى لكى تكون دعايتنا للإسلام ناجحة يجب أن تتوفر فى الداعية خصلتان: الذكاء والنقاء، أعنى ذكاء العقل ونقاء القلب. ولا أريد بالذكاء عبقرية فائقة، يكفى أن يرى الأشياء كما هى دون زيادة أو نقص. فقد رأيت بعض الناس مصابا بحول فكرى لا تنضبط معه الحقائق قد يرى العادة عبادة، والنافلة فريضة والشكل موضوعا، ومن ثم يضطرب علاجه للأمور، وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة! كما أنى لا أريد بنقاء القلب صفاء الملائكة، وإنما أنشد قلبا محبا للناس عطوفا عليهم لا يفرح فى زلتهم ولا يشمت فى عقوبتهم، بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب. جاءنى طالب جامعى يخبرنى بأن بعض المنحرفين يريد إقامة حفل غنائى، وأنه هو وأصحابه سوف يمنعون هذا الحفل بالقوة ! قلت له أوافقكم على عدم إقامة الحفل، وانقل لهم رأيى مصحوبا بهذا النصح! لا مكان للفرح فى أيام كثرت فيها الأحزان المحلية والعالمية! كيف نغنى وعشرات الألوف من المسلمين بين قتيل وجريح وشريد؟ إن مصابنا فى فلسطين وأفغانستان ينزف، ومستقبل الإسلام فيها غامض.. وإن الحرب الأهلية فى الصومال تزيد ضحاياها مائة مرة أو مئات المرات على الحرب الأهلية فى يوغوسلافيا، ولا نزال فى مصر حديثى عهد بنكبة الباخرة فى البحر الأحمر وغرقى السيول فى الإسكندرية فعلام الغناء؟ هل قدت قلوبهم من صخر؟ قال لى الطالب: لن يقنعهم هذا الكلام! قلت: سلهم بم يغنون؟ بغزل رقيع، ولحن هابط، إن الأوساط الفنية مريضة الذوق والحس فلن يصدر عنها إلا ما يسوء! والواجب فى الأيام العصيبة التى تحيط بنا أن تنزه الأسماع عن اللغو... قال لى الطالب: لن أقول شيئا من هذا الذى توصينى به! ص _180(4/174)
سأقول لهم: الإسلام يحرم الغناء، وسنهدم الحفل المقام على رءوس أصحابه! قلت له إنك ناشئ فى ميدان الدعوة فلماذا لا تنتفع بتجارب من سبقوك؟ وإن للإسلام خصوما متربصين فلا يجوز إعطاؤهم حجة على سوء فهمنا وسوء سلوكنا! فأبى إلا ما استقر فى ذهنه، وأخيرا تدخلت الشرطة ودخل البعض السجون! إننى لا أزال أنصح الإسلاميين بأن يرعوا الحكمة فى مجال الدعوة، وألا يمكنوا خصوم الإسلام من النيل منه بسبب حماس طائش! وليكن الهدف الأول بناء العقائد والأخلاق والعبادات أما الخلافات الفقهية فلا صلة لها بميدان الدعوة، ولا بقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر! إن داود وسليمان عليهما السلام لم يختصما من أجل قضية الحرث الذى عاثت فيه الغنم، ومن الفقهاء من رأى حكم الوضاع فى الكبر كحم الرضاع فى الصغر..! فليقع الخلاف وليدرس فى ميدانه أما نقله إلى ميدان الدعوة فخطأ فادح.. إن الداعية الذى لا يجمع بين الذكاء والنقاء يثير مشكلات معقدة أمام انتشار الإسلام، وقد رأيت فى كندا والولايات المتحدة ـ وكانت رابطة العالم الإسلامى قد أوفدتنى إليهما ـ رأيت دعاة وضعوا فى طريق الإسلام أحجارا نقلوها من البيئات التى عاشوا فيها قديما كى يقف سير الدعوة فى العالم الجديد! إنهم يغضبون لمذاهبهم وأهوائهم باسم الغضب للإسلام، ويعلم الله حاجتهم إلى من ينير عقولهم ويطهو أفئدتهم. ص _181(4/175)
الحريق الشهوانى عقب مؤتمر إسلامى انعقد فى انجلترا أخيرا قالت إذاعة لندن إنه لم يقع شىء ذو بال إلا أن تظاهرة للشواذ جنسيا تجمعت فى المكان معلنة احتجاجها على ما يلقاه إخوانهم فى أرجاء العالم الإسلامى من اضطهاد ! وتفرقت المظاهرة دون أن تُضرب بالسياط أو بالنعال! وانتهى الأمر.. كان أولئك الشواذ يطالبون بحقوق الإنسان بعد ما اختلط مفهومها بحقوق الحيوان، وذابت الحدود بين الفضائل والرذائل فى مجتمعات تائهة! قلت فى نفسى: هل سمع أولئك المنحرفون الضياع كلمة نصح من "حاخام " أو "كاردينال "؟ يبدو أن حيوانيتهم قوبلت بالصمت المطلق حتى أمسى المعروف منكرا والمنكر معروفا وحتى تجرأ هؤلاء السفلة على حدود الله وبلغت الجراءة بهم أن خاصموا المسلمين الحافظين لحدود الله، وتجمعوا للإنكار عليهم. لقد وقع هذا من قديم وسط أهل الكتاب (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون). وخيانة رجال الدين لأمانات الوحى الإلهى جريمة نكراء، إن صمتهم الجبان أبطل رسالات الخير وترك الشياطين تعربد دون قلق. قرأت وصفا للنساء فى عواصم أوروبا للأستاذ " أنيس منصور" جاء فيه : "هناك اتفاق سرى بين المرأة والشمس. الشمس تطلع والمرأة تطلع من ثيابها، فلم يبق لها إلا بعض أوراق التوت موزعة توزيعا شحيحا هنا وهناك. وخصوصا هنا!! النساء كأنهن خيول عربية. والرجال كأنهم حمير أحسائية ليس لديهم ما يكشفونه فى هذه الجهنم فهم دائخون ياسيا واقتصاديا وجنسيا "!! ص _182(4/176)
لماذا هذا الحريق الشهوانى؟ وماذا فعلت المعابد لإطفائه؟ أين رجال الدين؟ لقد فر الجبناء مكتفين من إقامة الشعائر بمهاجمة الإسلام! وعقد المؤتمرات العلمانية فى بلاده للقضاء على تقاليده ووصاياه! إن البلاد الإسلامية ـ على ما تعانى من هزائم ـ هى أبعد البلاد عن طاعون الإيدز، فبقايا الإيمان لديها تعصمها من هذا الداء الفاتك. لكن هل يُعترف للإسلام بفضل؟ أتحدى المؤتمر الذى تعقده هيئة الأمم بالقاهرة أن يثبت الإحصاءات المعروفة هنا وهناك، وأن يقول إن التقاليد الإسلامية من وراء الطهارة والبراءة التى تسود أمتنا..! إنه لم ينعقد للثناء على الإسلام، أو للتنويه بالوحى الإلهى على الإجمال، إنه يرفع راية المساواة بين الجنسين لا فى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بل فى تحقيق الرغبات وتدليل الغرائز! ألا فليعلم المسلمون أن دينهم إيمان وتقوى، وأنه عدو لدود للفوضى الحيوانية الى يرفع الغرب رايتها ويرغب فى أن تعلو مسيرتنا.. ص _183(4/177)
بئس ما يقولون كنت معتقلا بطور سيناء سنة 949 ا م مع ألوف من الإخوان، ورأت الحكومة يومئذ أن تعتقل معنا عدة مئات من الشيوعيين، فقلت لإخوانى: ما رأيكم ونحن فى هذا القفر الموحش أن نذهب للجناح الذى يضم الشيوعيين كى نتعرف عليهم ونتحدث إليهم؟ فرد أحد السامعين نعم إن المصائب يجمعن المصابينا! قلت: لا، وأريد أن يعرفوا الإسلام معرفة حسنة لعل الله يهديهم! وذهبنا إلى مهاجعهم فى ضحوة هادئة ودخلنا أول غرفة ففوجئنا بنحو عشرين شابا يلبسون سراويل توارى سوءاتهم أما بقايا الأجسام فعارية! قلت وأنا أتكلف الابتسام ما هذا؟ كأنكم على شاطئ البحر! فرد أحدهم نحن نؤثر العيش هكذا! فقلت الملابس أستر للبدن وأصون للمروءة! وكدت أقول: وأرضى لله!! ولكننى طويت الكلمة الأخيرة، ما لهم ولله؟ واستأنف الشاب الشيوعى الكلام: إننا لانشغل أنفسنا بمحاربة الغرائز ما الغريزة؟ غدة تمتلئ ثم تفيض، ليس لكبتها معنى! فقلت لأصحابى! نعود أدراجنا! ونسيت ما وقع حتى قرأت برنامج مؤتمر السكان الذى ينعقد فى القاهرة فإذا الفكر واحد والنظرة إلى الحياة لا تختلف، لا مكان للدين وإيحائه، أتباع موسى وعيسى عليهما السلام نسوهما كل النسيان وربما وجدت فلسفات روحية أو خلقية يعجب البعض بها، لكن هذه الفلسفات اختفت فى برنامج المؤتمر فالفكر المعروض مقطوع عن ص _184(4/178)
السماء، وقد قلت : إن كلمة الله لا وجود لها فى طول البرنامج وعرضه، وليس لواحد من أنبيائه ذكر. الكلمة التى ترددت كثيرا فى أثناء البحث هى تعاون البشر على "الصحة الجنسية والحياة التناسلية " وقد وضعت بين أقواس!!! والمعنى النظرى للكلمة شرحه "فرويد" عندما حذر من الكبت وبين أنه صانع العقد النفسية والأمراض العصبية، أما التطبيق العملى للكلمة فشرحته التقاليد والقوانين الغربية عندما أباحت اللواط والسحاق والبغاء وأقامت المراقص المزدوجة ويسرت الخلوات البعيدة وأزاحت كل عائق أمام النزوات الجنسية، إن كلمة مؤتمر السكان تفهم عنوانا على موضوعها إذا كان البحث فى العمران البشرى وما يعتريه من متاعب! أما أن تكون أغلب فصول البرنامج عرضا لفلسفة الانحلال الغربى، وتوكيدا لبعده عن الوحى الإلهى فهنا العجب! إذا كان اليهود والنصارى فى أوروبا وأمريكا قد رفضوا الولاء للوحى الأعلى فبأى حق يطلبون منا أن نقلدهم؟ ولماذا نفتح أبوابنا لهم؟ أنفتحها لنسمعهم وهو يقولون: إن الله سيعجز عن إطعام البشر وهم يتزايدون بهذه الكثرة؟ أنفتحها وهم يقولون: نفسوا عن الغرائز بعيدا عن جو الأسرة، فجوها مظنة تكاثر الأولاد! !! شاهت الوجوه وبئس ما يقولون. ص _185(4/179)
أطفال للبيع كل من يعكر صفو الأمن أو يشعل نار الفتنة فهو آثم لا يوجد من يدفع عنه أو يعتذر له ولكن ما يقع فى أغلب البلاد الإسلامية شىء آخر، خذ مثلا كشمير، إن أهلها يطلبون حق تقرير المصير، وقد أظهروا فى انتخاب حر أنهم يأبون الانضمام إلى الهند فلماذا تصادر مشيئتهم؟ ولماذا يستكثر عليهم حق يتقرر لغيرهم فى هدوء؟ ثم لماذا يوصفون بالإرهاب أو الأصولية أو الخروج على القانون وتبقى مشكلاتهم معلقة عشرات السنين؟ وخذ مثلا "نيجيريا" أو "الجزائر" إن انتخابات حرة جرت فيهما ودلت على اتجاه الجماهير إلى لون معين من الحكم وصنف معين من الناس فلماذا يصدر أمر عسكرى بإلغاء هذه الانتخابات؟ وكيف يزعم أن الاتجاه إلى الإسلام ضد الديمقراطية؟ ولماذا تسارع الدول إلى محاصرة "هايتى" التى رفضت حكومتها مثل هذه النتائج على حين تبارك الأوامر العسكرية إذا كانت ضد الإسلام؟ وما معنى استخدام القوى العسكرية فى "الصومال " ورفض أى تدخل عسكرى فى "البوسنة "؟ بعدما استيقن أهل الأرض أن مسلميها يواجهون حرب إبادة لا شرف لها ولا ضمير! لماذا يُستكثر على المسلمين أن يعيشوا بدينهم وأن تتوفر لهم الحقوق والحريات التى توفرت لغيرهم؟ وقرأت هذا الخبر منقولا عن "إسلاميك ريفيو" السويسرية تحت عنوان "بيع أطفال المسلمين " قالت هل وصلت حاجة ألبانيا إلى العملة الصعبة إلى حد بيع أطفالها؟ ذكرت هيئة التلفزيون السويسرى أن حكومة ألبانيا باعت ألفى طفل مسلم إلى إحدى المؤسسات التنصيرية الأمريكية! وستتولى هذه المؤسسة تنشئة الأطفال على المسيحية بالتعاون مع أسر أمريكية مستعدة لتبنيهم. وكان منظرا رهيبا بعد أن أذاع التلفزيون صور الأطفال وهم يتعلمون الصلوات المسيحية وغيرها من التقاليد الكهنوتية تحت رعاية المنصرين. ص _186(4/180)
وذكرت هيئة التنصير الأمريكية أنها أتمت الإجراءات القانونية المتعلقة بتبنى وشراء هؤلاء الأطفال.. " أإذا شعرت بالقهر، وسالت العبرات لهذا الخبر أُعتبر أصوليا متعصبا وأحسب خارجا على القانون؟ إن الاستعمار العالمى حين احتل البلاد الإسلامية ألغى الشريعة وهون العقيدة، وحفر لها القبور فى انتظار أن تخمد أنفاسها، فإذا جئنا نحن نريد إحياء شريعتنا وصيانة عقيدتنا قيل لنا إن الإسلام السياسى مرفوض! وقام نفر من المرتدين وسماسرة الغزو الثقافى يصيح فى وجوهنا نرفض التخلف! إن التخفف والضياع ما تجهرون به ضد القرآن والسنة خدمة لأعداء الإسلام فى كل مكان. فليعرف المسلمون حملة هذه الأقلام فهم خونة ساقطون. *** ص _187(4/181)
مواكب الماكرين قرأت أن بابا الفاتيكان ينوى فى مطلع العام الجديد أن يزور جبل "موسى" تحية للمكان الذى نزلت فيه الوصايا العشر وهو يود أن يصحبه نفر من أصحاب الأديان الأخرى لإقام الصلوات وترديد الدعوات.. ونحن المسلمين نؤمن "بموسى" عليه السلام وتوراته ونقرأ فى كتابنا قول الله له: ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين). فهل الذين تبعوا "موسى" عليه السلام آمنوا بما أوتى ونفذوا وصاياه؟ أو بعبارة أخرى: هل الذين احتفوا بالعهد القديم احترموا شريعته وبنوا عليها مجتمعهم؟ وما جدوى أن نزور مكان النزول إذا تواطأنا على إهمال ما نزل؟ إن قادة الحضارة الحديثة فى أوروبا وأمريكا لا يبالون بتحريم الحلال وتحليل الحرام، ولا يكترثون بذكر الله إلا عند الموت، عندما يفرض الفراق نفسه ثم تمضى بعدئذ مواكب الحياة مجنونة لا تلوى على شىء! إن التشريع السماوى فى الحضارة الحديثة قد أهيل عليه التراب ويعتبر ذكره تخلفا عقليا!! وقد تم فى القانون العالمى احترام الزنى إذا تم بالتراضى، وأكرهت الدول الإسلامية على التزام ذلك فى تشريعها! كما ألغيت عقوبة الإعدام، ورفض مبدأ النفس بالنفس والعين بالعين المقرر فى التوراة، ولا نزال نذكر كيف أباح مجلس العموم البريطانى اللواط حتى سن الثامنة عشرة وكيف حاول رئيس الولايات المتحدة إدخال الشواذ فى الجيش!! إن إهانة الوحى الإلهى وإطلاق العنان للغرائز الحيوانية أمسى سمة غالبة للنشاط الإنسانى فى العالم أجمع فهل يغنى عن ذلك أن يذهب آحاد أو ألوف إلى جبل الطور لإحياء ذكرى الوصايا العشر؟ ص _188(4/182)
لقد ذهب نيافة بابا الفاتيكان إلى أقطار فى إفريقية وقبل ترابها وأقام بها أحفالا دينية مائجة، فماذا تم فيها؟ انتشر الإيدز وبلغت ضحاياه الملايين، وفى بعض الفتن العرقية قتل مائتا ألف فى رواندا وحدها.. فهل هذه ثمرات التبشير الحق؟ إن للدعوة إلى الله أسلوبا آخر تنكره أوروبا وترفض أصحابه أساسه إيمان لا شرك معه وصلاح لا ريب فيه! ونحن نعرف أن بابا الفاتيكان دبلوماسى محنك ودارس كبير وأعتقد أنه محيط بعقيدتنا فى المسيح وأمه عليهما السلام، إننا نحبهما ونثنى عليهما وننفى عنهما كل دنس، ومع ذلك فدول العالم المسيحية تؤثر علينا اليهود وتناصر قضاياهم ضدنا! أى سلوك هذا؟ وما موقفنا فوق جبل الطور إذا كان ألوف المسلمين بعيدين عن بيوتهم يعيشون فى العراء؟ هل الله العلى الكبير ترضيه هذه "الدبلوماسية" الجائرة الماكرة؟ أليس إحياء التشريع الإلهى أهم من هذه المظاهرات؟. ص _189(4/183)
ابتغاء الفتنة لا نبالى بمن يخاصموننا فى الله فنحن موقنون بربنا الواحد وثابتون على احترام وحيه واتباع أنبيائه.وإذا كانت هزائم الآباء قد عطلت شريعته وأهانت عقيدته فذاك عرض زائل وسنعود سيرتنا الأولى ما بقى فينا نفس يتردد. ولن توجد فى المصحف آية ميتة أو حكم مجمد.. وسيفشل عبدة الطاغوت فى لى زماننا بإذن الله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. من غرائب الزمان أن الكارهين لله وهداه يسمون أنفسهم "تنويريين "! وأنهم لن يسترح لهم بال حتى يحققوا رغبات الاستعمار العالمى فى محو الإسلام من الأرض.! الهدف محو الإسلام وحده! ولتبق الأديان كلها بعد ذلك فما يعاب عليها شئ وما يخاف منها شئ.! جرى ذلك الفكر فى نفسي وأنا أقرأ بعض ما كتبه الدكتور "مراد وهبة" تحت عنوان " تيار الأصولية يتحكم فى الإعلام ويهيمن على التعليم " قلت: ماذا يريد الرجل؟ لقد أوهمنا أن "الغزالى" درويش كبير وأن جموده العقلى نال من الفكر الإسلامى كله، وأن " ابن رشد " هو إمام التنويريين (!) وأن العالم الإسلامى لن يبصر الطريق إلا إذا مشى خلفه وبهذا التوجيه أصبحت عصابة الشيوعيين التى تعمل تحت عنوان التنوير تعتمد على أبوة عقلية محترمة! و "الغزالى" و "ابن رشد" من علماء الإسلام الكبار، وكلاهما يحترم الكتاب والسنة، والخلاف العقلى بينهما كالخلاف الفقهى بين "الشافعى" و "أبو حنيفة " لا ص _190(4/184)
يعنى شيئا ذا بال، ولو وجدا فى هذا العصر لكانا صديقين حميمين ولتعاونا معا ضد الإلحاد الأحمر أو الأصفر. إن منهج الشك عند "ديكارت " مستقى من منهج الشك عند "الغزالى" وعندما نقد "أبو حامد" فلسفة الإغريق كشف عن عقل من أكبر العقول فى دنيا الناس، كان يسبح فى أفق أسمى من آفاق "أرسطو" و " أفلاطون " و "سقراط " جميعا، وبالعقل الذرى الذى منحه الله إياه ترك هذه الفلسفة خرائب فى أغلب قواعدها.. أما "ابن رشد" فهو مع يقينه الجازم بالكتاب والسنة فله وجهة نظر تقترب أو تبتعد عن "الغزالى" وليس فى ذلك حرج ولا لوم، وكان العالمين الجليلين من قمم الفكر الدينى. ولا أدرى ما علاقة "مراد وهبة ـ وهو مسيحى يخدم مسيحيته بإخلاص ـ بهذه القضايا القديمة وما معنى اتهامه الإعلام والتعليم بالأصولية؟ أظنه لن يرضى إلا إذا أقيم تمثال " لماركس " أو "لينين " فى أحد ميادين القاهرة، وخلع الإسلام من جذوره. ص _191(4/185)
عبيد الحياة الظن الغالب أن العلمانيين العرب امتداد للعلمانيين فى الغرب يجمعهم كره الدين والإخلاص للحياة وحدها! وهذا خطأ فالعلمانيون فى أوروبا وأمريكا اصطلحوا مع المسيحية ـ وهى الدين الغالب ـ وتعايشوا معها. فالملكة فى إنجلترا رئيسة الكنيسة الإنجيلية وحاميتها، والحكومات فى حلف الأطلسى من الأحزاب الديمقراطية المسيحية، والصبغة السياسية العامة تميل مع "إسرائيل " وتنحرف عن "البوسنة والهرسك "، وتضيق بقضايا الإسلام كلها.. أما العلمانيون العرب فصفتهم الأولى كراهية الإسلام والبعد عن عباداته وإعلان الحرب على شريعته ومخاصمة كل من ينادى بإحيائها! هذا كل ما يعرفونه عن العلمانية، وهذا نفسه هو ما يجعل أوروبا وأمريكا تحتفيان بهم وتدفعان عنهم.! لكن ما العمل إذا كان سير الحياة محرجا، وإذا تدحرجت الأوضاع وتقرر نهائيا التسليم بقيام إسرائيل ومحو العروبة والإسلام عن جزء غالى من دار الإسلام؟ إن عبيد الحياة لا يكترثون بذلك، إنهم لا يعرفون مقدسات فى جنوب أو شمال، إنهم يعرفون مآربهم ومصالحهم وحسب.. وقديما ـ فى أثناء الحروب الصليبية ـ اشتبك الوزيران "شاور وضرغام "، هذا مع الصليبيين، وذاك مع المسلمين، ودارت بينهما الحروب، بل إن الملك "الكامل " حفيد السلطان المظفر "صلاح الدين " ـ ساوم الصليبيين على أخذ بيت المقدس وتركه آمنا فى مصر!!، وطالت الأيام المظلمة، فماذا حدث بعد؟ بقيت أرض الإسلام له وهلك المتآمرون عليه (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين). ص _192(4/186)
ونحن المؤمنين نرقب الأحداث بقلق وغضب ونعلم أنه من الممكن استرداد الحقوق بالتجزئة إن عز الحصول عليها دفعة واحدة! ولكن كيف يتم ذلك مع النفور من الإسلام وترك شرائعه وشعائره..؟ كنت فى ندوة ـ من بضع سنين ـ لدعم الكفاح فى فلسطين، وأعلن الأذان لصلاة المغرب فهب الجميع للصلاة إلا واحدا هو مندوب منظمة التحرير، فقلت: لعله مسيحى وعذرته ثم عرفت بعد أنه مسلم علمانى فقلت: ما أبعد النصر. ! إن اليهود متشبثون بكل كلمة فى توراتهم وهم محاربون أشداء عن مواريثهم التى يزعمون فهل يغالبهم إلا أصحاب إيمان أقوى، وتعصب أشد؟! (و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). ص _193(4/187)
ليسوا دعاة رمقت بعض الناس فى ميدان الدعوة ثم تمنيت لو اشتغلوا بحرفة أخرى! وما أظن أن الحرفة التى يختارونها لأنفسهم ستكون سعيدة بهم! إذا كان الدين تيسيرا فهم معسرون، وإذا كان تبشيرا فهم منفرون. والمعروف فى خلق رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان هاشا باشا لكن هؤلاء فى ملامحهم تجهم، وفى أعطافهم شراسة... ومحور نشاطهم بعض الأحكام الفرعية يؤثرون فيها رأيا ويقاتلون الرأى الآخر، ولو أخلصوا لله نياتهم لوجدوا ألف طريق لخدمة الإسلام بعيدا عن هذا الجدال المحموم. أذكر أنى سئلت يوما عن رجل أدرك الإمام راكعا فى الأولى، وأتم الركوع معه ثم أتم بقية الصلاة هل عليه شىء؟ فقلت غير مكترث : لا! فقال رجل بصوت حاد : بل يقضى الركعة الأولى! فنظرت إليه فإذا هو يستعد لخوض معركة بدنية فقلت متجاوزا القضية كلها : ما قلت هو الرأى الراجح، وإذا أردت غير ذلك فأنت حر!! فرأيته راغبا في الاشتباك والأخذ والرد فغادرت المكان... ليس هؤلاء فقهاء ولا دعاة وديننا أحوج ما يكون إلى حسن الخلق وسعة الأفق والتأتى إلى الأمور من باب اليسر والأدب. إن أعداء الإسلام فجروا الذرة، ولديهم أسلحة أخرى لا ندريها وليس أمامنا إلا إحكام الرأى وإيثار الحسنى وعرض الحق بأشرف الأساليب، وهذا هو ما تعلمناه من ديننا... وهناك شئ آخر، ليس كل ما مضى من تاريخنا يصلح لأن نعود إليه، ونتأسى به ففى تاريخنا الطويل كبوات مفزعة تشبه الأيام التى نحياها الآن! إن الفترة التى سقطت فيها بغداد تحت سنابك التتار، أو سقطت فيها القدس تحت ص _194(4/188)
سنابك الصليبيين ليست موضع الأسوة الحسنة، إنها فترة يُحكم عليها ولا يُحتكم إليها، والأسوة إنما تؤخذ من خير القرون وأعظم الناس اتباعا لصاحب الرسالة العظمى، وقد رأيت من الدعاة من يخلط بين الأيام الحلوة والأيام المرة فى تاريخنا وينشد العودة إلى الماضى وحسب! إن أمامنا الكتاب والسنة، وصورة الإسلام فيهما واضحة، فمن أحسن العمل بهما تآخينا معه وإلا نبذناه والهزائم التى مرت بالمسلمين فى التاريخ القريب والبعيد يجب أن تدرس أسبابها، وأن نضعها تحت المجهر لنكتشف أدق جراثيمها ونأخذ الحيطة منه، وبذلك نبنى مستقبلا أكرم. لقد رأيت بعض الناس يحسب السلف الصالح هم أجداده الأقربون، ويحسب أن سيرتهم فى الدين والدنيا هى المثل الأعلى، لا، إن سلفنا الصالح هم مؤسسو دولة الإسلام وحضارته وثقافته الرفيعة، هم هازمو الباطل وتاركوه يلتمس المهارب فى المشارق والمغارب. *** ص _195(4/189)
المتفيقهون العوام وأشباههم من المتعالمين يعرفون القليل ويجهلون الكثير ولا يتقون الله فيما يعرفون بل قد يرتكبون به الإثم ويثيرون الفتنة!! ولعل ذلك ما دعا الغزالى إلى تأليف كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام ". لماذا لا يتقن هؤلاء الحرف والصناعات الميسورة لهم ويحسنون علاج الأعطاب الشائعة بدل أن يشتغلوا بالفتاوى ويثرثروا بالإصلاح؟ إن ما يحتاج إليه الناس من أحكام شرعية ليس معضلا إنه نزر يسير ثم ينضم إليه الإخلاص والنشاط وحب الإصلاح فتستقيم الأمور إن أنصاف المتعلمين ـ أو أعشارهم ـ يحبون المباهاة بما لديهم على ضحالته كما يسارعون إلى انتقاص الآخرين وإظهارهم قليلى المعرفة.. كنت أحدث بعض الناس فقلت له: يا سيدى الأمر كذا وكذا... فأسرع يقول لى: يا سيدى هذه شرك! السيد الله!! فأجبته للفور : السيادة المطلقة على العالمين هى لله لا ريب كما أن العلم الشامل له تبارك اسمه، ولا يمنع هذا من أن يكون بين الناس علماء وقد استعمل القرآن كلمة سيد فى وصف "يحيى" عليه السلام " (وسيدا و حصورا و نبيا من الصالحين) وفى وصف زوج صاحبة يوسف عليه السلام (وألفيا سيدها لدى الباب). ووصف الرسول عليه الصلاة والسلام الحسن بن على رضى الله عنهما فقال: إن ابنى هذا سيد.! . وقال للأوس عندما قدم سعد بن معاذ : " قوموا إلى سيدكم " . ص _196(4/190)
إنك يا سيد حفظت شيئا وغابت عنك أشياء، إنك تشتهى شتم الناس، ولو كنت مصيبا ما قبل الله منك حتى تخلص لربك وتتعلم الأدب! وفى ميدان الفقه الإسلامى ـ والخلاف فيه بحر ليس له ساحل ـ وجدت هذا الصنف يحفظ بعض الأحكام ويريد المماراة بها وتغليبها على غيرها ويبسط لسانه بالأذى فى بعض الأئمة الكبار فلا كرامة لأحد خالف ما يعرف!! أنا أصلى الفجر وراء أئمة يقنتون ووراء أئمة لا يقنتون عالما أن الأئمة الأربعة الكبار اختلفوا فى هذه السنة فمالك والشافعى يقنتان وأحمد وأبو حنيفة لا... والخطب سهل وإغلاق المسجد عندى أهون من حل هذه المشكلة بالعصى. إن الأمة الإسلامية تواجه أياما كالحة وأعداء مكرة مهرة فهل نلقاهم برجالنا الواعين، أم نضع زمامنا فى أيدى الرعاع وأعشار المتعلمين ليقودونا إلى الهاوية. إن بعض المنتمين إلى الإسلام يظلمونه بقصورهم ورفضهم سؤال أهل الذكر فهل نتعجل الهزيمة الماحقة بهذا التعصب. *** ص _197(4/191)
تسليمة نسرين دأب الغرب على إهداء الثناء المستطاب للكتاب الملاحدة، وتشجيعهم ماديا وأدبيا على ضرب الإسلام وإهانة شريعته. وفى الشهر الماضى تسلمت الكاتبة البنغالية " تسليمة نسرين " جائزة نادى القلم وهى أكبر الجوائز فى السويد بعد جائزة نوبل، وتعيش الآن فى السويد عيشة راضية، بعدما تركت "دكا" التى حوكمت فيها بتهمة مهاجمة الإسلام! وتذكر مجلة "تايم " الأمريكية إجماع النقاد على أنها كاتبة نسوية كافرة، وأن أسلوبها مفكك وقصصها ضعيفة لا ترتفع إلى مستوى الكتابات الجادة، ولكنها اكتسبت شهرتها من صرختها ضد المعاملة الرديئة التى تلقاها المرأة فى المجتمع الإسلامى!! وعندما سئلت هل تعمدت استثارة المتطرفين؟ قالت : من بدء حياتى وأنا أهاجم الشريعة الإسلامية! وأمام المحكمة فى "بنجلادش " قالت: إنها لا تقصد القرآن وحده بالنقد، ففى رأيها أن الأديان كلها تحتاج إلى مراجعة!! لكن كيف سارع نادى القلم إلى إهدائها الجائزة الثمينة؟ رغم أنها كاتبة مغمورة تافهة القيمة؟ تكفى الإشارة إلى أن مؤسس الجائزة التى يمنحها نادى القلم هو الصهيونى الكبير "كورت تشولسكى" الذى حارب الإسلام والمسلمين أمدا طويلا، واستمات فى ترويج قصة أن فلسطين أرض الميعاد وأن إسرائيل ملتقى يهود العالم. وإذا كانت نسرين قد نالت هذه الجائزة عام 1994 فقد سبقها سلمان رشدى فى نيلى هذه الجائزة سنة 1992 . وتقول جريدة الراية المغربية: إن هناك أكثر من كاتب مصرى وعربى يرشح لنيل هذه الجائزة! . ص _198(4/192)
إن تشجيع الأقلام المرتدة خطة سياسية أوروبية وأمريكية. وفى تونس منح أرفع الأوسمة لكتاب يناصرون الانحراف ومخاصمة الإسلام! فى الوقت الذى يطارد فيه أهل اليقين والوفاء لدينهم وتراثهم! الغريب أن فرنسا التى تحارب الحجاب الإسلامى فى مدارسها توزع بالمجان موانع الحمل على الطالبات، ويكاد الأولاد غير الشرعيين يزيدون على الأولاد الشرعيين! ونتساءل ماذا فعل المسلمون للسويد حتى أثاروا ضغائنها على الإسلام وتعاليمه؟ لا شئ! إن جماهير المسلمين لا تعرف هذا الاسم، وما أساءت قط إلى السويد سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، إنها الصليبية المتوارثة من قرون طوال تحيرنا كيف نرضيها ونكتفى شرها. ص _199(4/193)
حقارة فكرية اهتممت بسماع "الرأى الأخر" فى قضية المرتدة " تسليمة نسرين " الطبيبة البنغالية التى أهانت القرآن ونسبت إليه ظلم المرأة وطلبت إلغاء شريعته! قالت إذاعة لندن إن دول أوروبا الغربية أعلنت حمايتها لها ويسرت لها أن تهاجر إليها، بل إن ألمانيا عرضت عليها أن تقيم فيها وتنشر آراءها على أرضها..! ودول أوروبا الغربية ـ من بضعة شهور ـ منحت سلمان رشدى جائزة سنية وأكدت رضاها عن ارتداده واستعدادها للدفاع عنه. إن أوروبا كلها بالنسبة إلى الإسلام عدو ينتظر نائبة! ويسرها أن يرتد المسلمون جميعا لا رجل أو امرأة. قالت الطبيبة البنغالية: لماذا يبيح القرآن للرجل أن يتزوج أربع نسوة، ولا يبيح للمرأة أن تتزوج أربعة رجال؟ ونسيت المرأة أن تعدد النطف فى وعاء واحد هو سبب الزهرى والسيلان، ولعله إذا ساد يضاعف طاعون الإيدز! إن شذوذ العلاقات الجنسية باب إلى الدمار والفوضى وقضاء مبرم على الأسرة! ومن الغلط الشائع تصور أن الإسلام انفرد بإباحة التعدد، فالأديان كلها سماوية أو أرضية أباحته، ولم يوجبه واحد منها وقد زعمت التوراة أن سليمان عليه السلام كانت لديه ألف امرأة!! لماذا؟ وقرأت الباب الغريب الذى سجلته التوراة عن شبق سليمان عليه السلام تحت عنوان "نشيد الإنشاد الذى لسليمان " كان الرجل المشتاق يبحث فى دروب القدس عن الحبيب المجهول أو المعلوم ويشتاق إلى الوصال بنهم مفرط!! ص _200(4/194)
قلت فى نفسى هذه الصورة المذهلة لأدب الفراش يصمت أمامها الأوروبيون، ثم يجرون وراء النبى الذى تجاوز الخمسين من عمره مع زوجة تكبره كثيرا يلتمسون له التهم ويفترون عليه الأكاذيب ويكافئون من يشتمه! إن حضارة الغرب تمنع الزواج بثانية وتبيح الزنا بمئات، وتعاقب على تعدد الزوجات وتشرع اللواط وتحميه.. وتنظر إلى دار الإسلام فإذا وجدت رجلا أو امرأة يطعن فى سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هشت له وفتحت ذراعيها مرحبة!! وقد عُرف الآن بين المثقفين أن الإلحاد أقصر طريق إلى الشهرة والترقية! وأن الانحراف ضمان للأمان والرضا...! أطلب من الشباب المسلم أن يحتقر هذه الأوضاع، وأن يتشبث بدينه وشرفه رغم المثبطات والعوائق! إن الإلحاد حقارة فكرية وسوءة خلقية، وإذا كان حاضره مريحا فإن مستقبله محفوف بالمكاره مقرون باللعنة والغضب. *** ص _201(4/195)
حقد وحماقة عدوى التحامل على الإسلام سرت إلى الصين، فانتشر فى المناطق الإسلامية كتاب يهين تعاليمه ويشوه حقائقه ويصور المسلمين يصلون على خنزير! حدث ذلك فى مدينة "شنغاهاى" فوقعت مظاهرات غاضبة، وقالت وكالة الأنباء الصينية إن المتظاهرين اعتدوا على مكاتب الحزب الشيوعى والدواوين الحكومية وهاجموا سيارات الشرطة وحاصروا قوات الأمن، واتهم المسلمون بأنهم لا يحافظون على الوحدة الوطنية !! على أن العقلاء من رجال الحكومة سارعوا إلى علاج الموقف بالحسنى، وفصلوا مدير دار النشر ونائبه وحظروا توزيع الكتاب، وبذلك سكت المسلمون واستأنفوا حياتهم العادية. ومسلك الحكومة الصينية أرشد من مسلك الأتراك الذين أذنوا بطبع نسخة من كتاب الوغد الهندى "سلمان رشدى" " آيات شيطانية" فلما غضب الجمهور لإهانة دينه أطلق الرصاص على عدد من المتظاهرين، فقتل بضعة أفراد، ذهبوا شهداء غيرتهم الإسلامية، ورفضهم تحقير الإسلام! إن شتم ديننا والنيل منه يتمان وفق مؤامرة عالمية بدأت من أوروبا، وانتشرت شرق آسيا وغربها وشمال إفريقية وجنوبها، وقد لاحظت أن "كينيا" حظرت تكوين حزب إسلامى مع أن عدد المسلمين بها قريب من نصف السكان! أى نحو ثمانية ملايين! وفى مباراة "المغرب " مع "زمبابوى" استحمق أحد الرؤساء المشتغلين بالتبشير، وأراد شحن العواطف ضد لاعبى المغرب، فقال لقومه إن المباراة حرب صليبية! ولابد من الانتصار فيها.. وانفجر غضبه عندما جاءت النتيجة بما لا يشتهى! ما دخل كرة القدم فى اختلاف الأديان؟! إنها الكراهية عندما تتحول إلى حماقة! ص _202(4/196)
ويؤسفنى أن قوى خفية ـ وقد تكون جلية ـ تكيد للإسلام بكل وسيلة تتيسر لها، وقد انتهزت فرصة الهزائم العسكرية والسياسية التى حلت بأهله فشنت حرب منشورات وإذاعات على الدين المثخن بالجراح كأنما تريد الإجهاز عليه، ولكن حراس الإسلام ـ بالوسائل القليلة المتاحة لهم ـ يقاومون، ويثبتون فى أماكنهم برغم ضراوة الهجوم وضعف الأدوات... إن دولا عظمى تمنع السلاح عن مجاهدى البوسنة، وتمد به خصومهم حتى ينهار الدفاع الإسلامى وتسقط حصونه، ولكننا لن نستسلم (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ص _203(4/197)
غرور قرأت وصفا لسرب من الجراد يطير بين غرب آسيا وشرق إفريقية، قالوا طوله ألف كيلو متر، ويضم أربعين مليار جرادة! شعرت بفزع فإن هذا السرب يقارب طول القطر المصرى من الشمال إلى الجنوب، وإذا بلغ أرضنا ترك الديار بلاقع، وحصد الحدائق والحقول، وتركها عيدانا ذاوية لا خير ولا ثمر! سألت نفسى: ما يكون الجراد بين مخلوقات الله؟ حشرة طائرة لا تلفت النظر لتفاهتها! لكنها إذا اجتمعت مع غيرها كانت خطرا داهما.. وتذكرت دودة "البلهارسيا" التى تجعل البشر يبولون دما وتورثهم عللا مشقية أو مردية، إن المليارات منها تغمر مساحة محدودة الطول والعرض، فإذا أصاب بعضها أبناء آدم نال منهم وأودى بهم. وانتقل الخاطر بى إلى الطبيب الألمانى "بلهارس "الذى اكتشف هذه الدودة ومسارها فى الجسم الإنسانى والأوصاب المتخلفة عنها.! وقلت: لماذا بقينا ذاهلين حتى جاء الخواجة فأسدى لنا هذا الجميل؟ لأترك هذا السؤال المعترض ولأعد إلى ما يهدد البشر من أخطار! لقد لاحظت أن ما نستضعفه من العناصر هو الذى يتحول ماردا عاتيا يهددنا بالهلاك، خذ الماء مثلا، إننا نرتفقه شرابا وطهورا طيعا بين أيدينا، ولكن ما الحال إذا أمطرت السماء وظلت تمطر أياما وليالى؟ لقد رأيت صور بلاد نكبها الفيضان فهدم بيوتا وقطع أوصال أخرى وغمرت الأمواج الشوارع فلم يلق أحد أحدا وقد رأيت موج البحار وهو يعلو ويهاجم ويفور ويمور؟ إنه لا يبقى ولا يذر! ص _204(4/198)
بل انظر إلى الجسم العليل، إنك تحركه بيدك كى يرطب وجهك، وتستقبله بالرضا فكيف الحال إذا تحرك ريحا عاصفة، وبلغ من قوته أن يحمل سيارة فيقذفها بعيدا.. إن أضعف شئ قد يتحول بالمشيئة العليا إلى أقوى شئ وما يحقره الإنسان قد يتحول ـ بهذه المشيئة ـ إلى عدو ذى بأس شديد، وتدبره جمع هذه الحقائق قوله تعالى (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب) إن الإنسان قد تهزمه جرثومة أقل من الذبابة ألف مرة، ومع ذلك يغره بالله الغرور!. *** ص _205(4/199)
هل هذا تناقض ؟!! تمر بالمتهم أحوال شتى بعدما يقبض عليه ويقدم للمحاكمة، سيزعم أول الأمر أنه برىء وقد يقسم على ذلك. حتى إذا أحاطت به الأدلة وتظاهرت ضده القرائن اضطر إلى الاعتراف وهو صاغر. وقد ذكر القرآن الكريم مواقف المجرمين، وما يمر بها من تناقض فقال فى الأولى (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين). وقد يفجؤهم الفراغ الذى يصفر حولهم، وعدم وجود نصير يدفع عنهم فيعترفون بضلالهم (… حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). وقد ينكرون ما وقع منهم حتى تنطق أركانهم بكذبهم (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء). وبديهى أن المجرمين يستسلمون بعد مقاومة أو تقصير، ثم يساقون إلى مصارعهم على نحو ما قيل (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان). وقد شرح العلماء هذه المواقف جامعين بين شتى الآيات وقد قرأت أخيرا أن أحد الحمقى وصف القرآن بالتناقض لماذا؟ لأنه وصف يوم القيامة طورا بأنه ألف سنة وفى مكان آخر بأنه خمسون ألف سنة!! قلت للفور: الآية الأولى غير الثانية: فالخمسون ألفا هى يوم العروج لقطع المسافة ص _206(4/200)
بين الأرض الدنيا وعرش الرحمن (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) لكن الملأ الأعلى يقطع هذه المسافة أسرع من الضوء الذى يقطع المسافة بين الشمس والأرض فى بضع دقائق! أما الألف سنة فهو ظرف تدبير الأمر فى شئوننا الأرضية (و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)، وتدبير الأمور كلمة واسعة، قد تتم فى لمح البصر، وقد تستغرق دهرا طويلا. وحساب الزمان فى عالمنا الأرضى غيره فى كواكب أخرى، قد يكون العام فيها ألف عام عندنا.. إن آجالنا محدودة وأعمارنا موقوتة ورب العالمين لا يرسل أقداره وفق وعينا القاصر إنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وفق حسابات أخرى تتلاشى فيها القاصرة، وما عمر الإنسان العادى إلا قطرة يسيرة فى بحر الحياة الطويل، وما إحساسنا بما حولنا إلا جزء تافه من الوجود السرمدى الذى يسود الكون من أزله لأبده. ص _207(4/201)
عوائق فى طريق الإسلام عدد من المثقفين العرب المعاصرين يشغب على التراث ويتمرد على العبادات ويكاد ينسلخ من دينه لولا ما فى ذلك من تبعات ولكنه على الإجمال معتل القلب مضطرب الوجهة ! تساءلت عن عمل أولئك المثقفين أيشتغلون بدراسة الكيمياء والفيزياء والكهرباء وعلوم الفضاء وسائر ما تخففت فيه أمتنا، كى يسدوا الخلل ويستدركوا ما فات؟ فوجدت أغلبهم يشتغل بالأدبيات العامة ولا علاقة له بدراسات الكون والحياة! ووجدت أساس ثقافتهم المعلومات السوقية المأثورة عن فلاسفة معلولين أمثال "ماركس " و "سارتر" و "فرويد" وغيرهم. وأنهم مقطوعون عن السبق العلمى الذى تفوق فيه الغرب وما يدرون عنه شيئا... وربما كانت لبعضهم دراسات فى العلوم الحديثة أنالتهم إجازات علمية أفنت معايشهم فقط، ووقفتهم عند حدودهم لا يستطيعون حراكا ولكنهم ناشطون نشاطا محموما فى تعكير الصفو وبعثرة العوائق فى طريق الإسلام واللغط الطويل حول قدرتهم على التنوير 000، أى تنوير هذا؟ لقد قلت إنهم لا صلة لهم بالعلوم الحديثة، فهل التنوير المزعوم إثارة الغبار حول ثقافتنا التقليدية وترديد مزاعم المستشرقين حولها؟ والصياح بالحق فى الارتداد!! والتعاون مع بعض الجامعات الأجنبية على تشويه الإسلام؟ أعرف أن أحدا من هؤلاء لم يُر فى مسجد ولم يتورع عن خمر، ولم يتجاوب مع شعب إسلامى مظلوم، ولم يعترض شهوة استعمارية جامحة، فما بقاؤه بيننا؟ ولماذا لم يلحق بمن هواه معهم؟ لقد أدركت أن لهؤلاء الناس رسالة خسيسة يحملونها ويقدمون لسادتهم حسابا عنها، إنهم كثروا بيننا، وربما كانوا قلة فى بعض الأقطار التى عافاها الله، لكنهم كثروا حيث تنتظر للإسلام نهضة، ويرتقب لأنصاره نجاح.. ص _208(4/202)
والأمة الإسلامية الآن فى مفترق طرق، والمكر بها سىء، ولا معنى لفسح الطريق أمام الكائدين لها والضائقين بدينها ولعل عجبك يزداد للصلف الذى تشعر به هذه الطوائف المرتدة، والأسلوب الذى يتحدئون به عن غيرهم، إننى ذكرت الآية الكريمة فى المنافقين الأقدمين (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). إن ملاحدة العرب المعاصرين لا حظوظ لهم من الارتقاء العلمى المزعوم ولكنهم يحسنون التطاول على دعاة الإسلام وحملة ألويته وهيهات فالعاقبة للمتقين.. ص _209(4/203)
سب القمم.. وحقوق الإنسان ليس يصح فى الأذهان شىء إذا كان السب العلنى جزءا من البحث العلمى، أو كان تجريح الكبار جزءا من حقوق الإنسان.. إن الذين يدافعون عن "سلمان رشدى" إما أنهم لم يطلعوا على ما كتب، وإما أنهم حاقدون على "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه حمل رسالة الإسلام للعالم، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور.. إن عددا من ساسة الغرب ـ وفى طليعتهم الإنجليز ـ يضيقون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتاريخه، ويشجعون كل طاعن فيه، ويروجون لكتبه فى الأسواق، ويعطون الرشاوى المادية والأدبية لمن يتناول "محمدا" ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسوء! ونحن نعرف القوم، ولكنا نستغرب أن يُلبسوا مخازيهم رداء حرية الرأى وشارات حقوق الإنسان! للإنسان أن يقول ما يشاء دون حرج! هكذا يزعمون! ولما كان القانون الانجليزى يأبى التهجم على الدين، فقد لجأ بعض المسلمين إلى القضاء ليمنع نشر "رواية آيات شيطانية" إنفاذا للقانون، ولكن قيل لهم: إن المراد بالدين هنا هو المسيحية لا الإسلام، وانتهز أعداء الإسلام الفرصة ليصدروا طبعات شعبية من الرواية القذرة، ويضاعفوا الحراسة المسلحة على كاتبها ويوسعوا دائرة النشر فى العالم كله. وقد قام أحد الملاحدة الأتراك بترجمة الرواية ليوزعها بين أفراد الشعب التركى المسلم، ووقعت معركة بين الجمهور الغاضب وبين الكاتب الملحد وشيعته قتل فيها خمسة وثلاثون رجلا ! ولما كانت الضغينة على "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه لا تنتهى فإنى أتوقع أن تترجم الرواية إلى لغات أخرى ليزداد الهجوم على الإسلام ضراوة وتكثر الضحايا بين المدافعين! ص _210(4/204)
والسؤال الذى ألح فى توجيهه وأطلب الإجابة عليه: ما العلاقة بين حماية سلمان رشدى وبين الدفاع عن حقوق الإنسان..؟ إن فرنسيا نذلا ألف رواية عن عيسى بن مريم عليه السلام اتهمه فيها بالشذوذ!!، وقد أحرق الجمهور السينما التى مثلت فيها الرواية، وهذا حقه فلم يقل عاقل: إن حرية الرأى تعنى سفالة التهمة وتلمس العيب للقمم! ما علاقة حقوق الإنسان برغبة وغد فى الهجوم على نبى كريم؟ قلبى مع الأتراك الذين طاردوا مترجم آيات شيطانية وأرغموه على الفرار، إن ذلك الغضب لله بقية إيمان حر، والإيمان كما جاء فى السنة الشريفة حب وبغض.. *** ص _211(4/205)
عصابات من المجانين لست قاسيا وأكره قساة القلوب، ولست أتتبع العثرات ولا أنا من متلمسى العيوب للأبرياء لكنى أرفض مبارزة الله بالمعصية والتبجح بالرذيلة فى جنبات المجتمع.. وأذكر النصيحة النبوية الحكيمة "اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألم بشىء فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صحيفته أقمنا عليه حد الله ". قلت لشخص علمانى سكير: إذا عجزت عن ترك الخمر فلن تعجز عن الاختفاء بها فلا يراك الناس غائب الوعى! فقال فى بلادة: أنا أشربها علانية على مذهب القائل: ألا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر ولا تسقنى سرا إذا أمكن الجهر..!! قلت له: إن هذا الماجن تاب إلى ربه وعرف سوء ما كان يفعل وقال: إذا عرف الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو فى ثياب صديق... فقال لى: تذم الدنيا؟ لم يبق إلا أن تحدثنى عن عذاب القبر! فقلت له: إنك بهذا المسلك تنحدر من الفسق إلى الكفر! فقال: أنا أعرف منك بالشريعة ألم تقرأ التحقيق العلمى أن الخمر حلال!! قلت له: أى تحقيق؟ قال: ما كتبه المستشار سعيد العشماوى المفكر الإسلامى الكبير وهو يفسر قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس …) فقلت على عجل: هذا السعيد ليس مفكرا إسلاميا ولا نصرانيا ولا مفكرا أصلا.. هذا كلام من يهرف بما لا يعرف. إن الخمر رجس بنص القرآن فهل أباح ص _212(4/206)
القرآن شرب الرجس وحرم أكله؟ كل من الخمر والخنزير رجس فكيف يباح أحدهما ويحرم الآخر؟ إن تحريم الخمر من المعروف بالدين بالضرورة ومن جحد تحريمها مرق من الإسلام، وكفر بالكتاب والسنة معا... إن عصابات من الماجنين انتشرت فى أرجاء العالم الإسلامى لا تعرف صلاة ولا زكاة، ولا تعترف بحلال أو حرام أخذت تنخر فى كيان الأمة منتهزة الهزائم العسكرية التى نزلت بنا، وهى فيما أرى " طابور" خامس يتهدد قلب الإسلام، وما أحسب هذا التوافق بين الهجومين تم من تلقاء نفسه! وهناك دور ثالث لجامعات أوروبية وأمريكية تسعى نحو هذا الهدف وتستعمل أسماء إسلامية للنيل من صميم الإسلام، وآن الأوان لنكشف أعداءنا. ص _213(4/207)
عصيان خبيث العمل محرم على اليهود يوم السبت، ولكن بعضهم رأى أن يخترق هذا التحريم بحيلة قد تنطلى على الله فذكر جل شأنه نبأهم فى هذه الآية. (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). لقد لاحظ الصيادون الذين يعيشون حول الميناء أن السمك يملأ البحر يوم السبت، فإذا جاءت الأيام الأخرى قلت الأسماك أو اختفت فماذا يفعلون ليغتنموا سمك السبت؟ صنعوا وراءه سدا يمنعه من العودة، واستولوا عليه يوم الأحد! وبذلك أرضوا أنفسهم وحفظوا سبتهم!! وحسبوا أنهم خدعوا ربهم بترك الصيد محبوسا فى الماء يوم السبت. وبعض المتدينين يحسن صناعة الحيل فيأتون بالعمل يشبعون به هواهم فى صورة تتفق مع تعاليم الدين أو تلتقى به فى ناحية ما.. ولكن هذا العصيان الخبيث لا يقبله الله. ولا يخرج أصحابه عن دائرة الفسق!! إن التكليف الإلهى امتحان جاد يكشف طبيعة النفس ومدى صبرها على طاعة الله، ولو أن هؤلاء المحتالين احترموا السبت ونجحوا فى الاختبار لأرسل الله إليهم الخير غدقا فى سائر الأيام. ومن الصلاح المغشوش ما روى أن أحد الناس قال للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أريد أن أقاتل معك فى سبيل الله، وأن يرى الناس مكانى. أى يرون شجاعتى وكرى وفرى!! إنه عرض مريب، إن سبيل الله لا يتحمل هذه الشركة، ولذلك سكت الرسول ص _214(4/208)
ليتكلم الوحى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَ لا يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). إن انتظار رأى الناس والتماس إعجابهم يفسد العبادة، والعمل الصالح هو الذى يتم ابتغاء وجه الله وحده.. لقد أرى الرجل فى منصبه يحب أن يأخذ سمته وتتوفر له حرمة، وهذا حقه وحق المنصب الذى يشغله ولكن لا يجوز أن تتحول هذه الكرامة إلى جبروت واستعلاء يشبعان الجوع إلى السلطة والظهور، فحفظ الكرامة شىء والتطاول على الناس شىء آخر.. ولذلك قال العلماء: إن العمل لا يقبل إلا إذا توفر فيه شرطان: الأول صلاح النية وشرف القصد. والثانى جريانه وفق تعاليم الشرع فمن أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ـ أى مردود عليه ـ . إن النية الحسنة لا تشفع للمسلك المعوج.. ليس الدين فوضى، ولا مكان للتسيب فى نهجه وعلى المؤمنين أن يُعلوا قدر الدين بالقلب الطيب والمسلك الدقيق فإن الدين يعانى فى عصرنا هذا من سوء القصد حينا، ومن اضطراب العمل حينا آخر. ص _215(4/209)
فوضى منكورة مطلوب من علماء الدين فتوى تبيح الارتداد، وتنسى عقوبته، وتقرر ما يسمونه حرية الكفر والإيمان على أنها جزء من حقوق الإنسان! وهم يجيئون إلى آيات الدعوة وينقلونها إلى نظام الدولة وبنائها الداخلى! فإذا قال الله (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر) كان معنى الآية أن يتصرف كل امرئ وفق ما يحب. فمن شاء شكر ومن شاء لا! ومن شاء نهب ومن شاء لا... والمعنى الحقيقى الوحيد للآية أنها فى عرض الإسلام على الناس عامة لا قسر ولا جبر، ولا إكراه فى الدين.. فإذا آمن أهل الإيمان وكونوا جماعتهم أو دولتهم التزموا بأوامر الله ونواهيه فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتركوا الفحشاء والمنكر والبغى. ولا مكان لمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لأنهم آمنوا بالفعل، وأقاموا بالإيمان دولة تحرس حدود الله وتصون حقوقه.. إن نقل آيات الدعوة إلى معنى الدولة عبث. فالدولة تطارد اللصوص ولا تقول من شاء سرق ومن شاء لم يسرق! وإذا قيل لمبلغ الدعوة (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر) فإن أجهزة الدولة تقوم على السيطرة فتضرب على أيدى المفسدين، وتقتص من القتلة والمعتدين. والخطأ الفادح الذى وقع فيه منكرو الدولة فى الإسلام أنهم جاءوا إلى آيات البلاغ وأرادوا تطبيقها فى دائرة التأديب والتهذيب، وتلك جهالة قبيحة وفوضى منكورة! وإذا كان بعض الناس يضيق بالأساس الذى قامت عليه الدولة لأن الدولة مؤمنة وهو كافر بالله فليطو نفسه على ما بها، أو ليرحل إلى مكان آخر! أما أن يصيح بين الحين والحين: لا إله والحياة مادة! أو لا تشغلونا بهذه الصلوات المعنتة! أو افتحوا أبواب الحانات! أو دعونا نلتقى بالنساء كما نشاء! فهذه الصيحات الكفور تقرب أجله. إن المسلمين يلتصقون بدينهم عن حب وإعزاز، وهم يبذلون دونه النفس والنفيس والجماهير المحرجة تقاوم أعداءه باستماتة، أما العصابات التى ارتدت إثر الغزو الثقافى فهى قلة مغموصة، وهى تستعين(4/210)
بالاستبداد السياسى لتفرض ضلالها وهيهات (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون). ص _216
فى تعاليم المسيحية "صوت المرأة " كان وضع المرأة سيئا جدا فى التاريخ القديم لأوروبا، وامتد هذا السوء حتى نهاية العصور الوسطى وبدايات عصر الإحياء، والسبب فى ذلك ما استقر فى تعاليم الدين من أن حواء كانت المغوية لأدم بالأكل من الشجرة المحرمة، فاستحقت بذلك ـ هى وزوجها ـ لعنة الطرد من الجنة والهبوط إلى الأرض والتعرض للمعاناة والآلام. والأوروبيون يرون كل أنثى هى حواء، وأن الحذر منها واجب.. وظل الأمر كذلك حتى ظهر الإسلام مقررا أن آدم هو المخطئ لنسيانه وخور عزيمته، وقد تتبعه امرأته ثم أحسا جميعا بالندم ورجعا إلى الله يدعوانه (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) فغفر الله لهما، وبدأ معا عهدا جديدا على ظهر الأرض.! ما العلاقة بين الجنسين بعد هذا الهبوط؟ إنها علاقة ماسة حميمة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) ، (من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) وليست هذه العلاقة وليدة إكراه أو ضرورة! كلا إنها وليدة ود ورغبة (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) ولم تعرف أوروبا طبيعة العلاقات الزوجية السليمة إلا بعد ظهور الإسلام وحفاوته بالأسرة والأولاد وجعله الزواج عبادة. وفى تعاليم "بولس ": " أريد أن يكون جميع الناس كما أنا ـ بلا زواج ـ " ولو تمت هذه الإرادة لهلك العالم وأقفرت القارات!! ص _217(4/211)
إن هذه الوصايا الناضحة بكره المرأة كثيرة، ولعلها من وراء جواز بيع الزوجة كما تباع السلعة! وقد ذكرنا أن القانون الانجليزى إلى القرن الماضى كان يجيز هذا البيع معتمدا على تعاليم وردت فى سفر الخروج، وراعوث.. ويقول بولس : " لتصمت نساؤكم فى الكنائس، لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن بل يخضعن. ولكن إن كن يردن أن يتعلمن شيئا فليسألن رجالهن فى البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم فى كنيسة... "! هذا الجفاء فى معاملة المرأة كان جوهر التقاليد فى أوروبا قبل عصر النهضة حتى بزغت شمس الإسلام، وسمع القرآن يصرح بأن المرأة من الرجل والرجل من المرأة. (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). ويقول الرسول الكريم " النساء شقائق الرجال " وفى مواجهة الحملات المجنونة على مكانة المرأة يقول، حُبب إلى من دنياكم النساء والطيب... وقرة عينى فى الصلاة " لقد ضم المرأة إلى الأزهار والورود عندما كان غيره يجعلها نجسة منبوذة.. لا أدرى كيف تسرب ازدراء المرأة إلى أذهان بعضى المسلمين، وكيف قيل: إن الإسلام ظلم المرأة حتى جاءت حضارة الغرب فأنصفتها، لقد ألف اللواء المهندس "أحمد عبد الوهاب " كتابه الإسلام والأديان الأخرى، أحصى فيه نقاط الاتفاق والاختلاف، أرجو أن يرجع إليه من يطلب المزيد من النصوص والأدلة فى هذا الموضوع ، وفى غيره من القضايا. *** ص _218(4/212)
القرآن بين الحفظ والوعى رأيت صورة لطفل فى العاشرة من عمره نال جائزة سنية لأنه حفظ القرآن الكريم وأحسن تلاوته! تفرست فى وجهه فرأيت أمارات السذاجة تكسوه! على أنى لم أكتم إعجابى بذاكرته الواعية على حداثة النشأة!! لقد مررت بمثل هذه الحالة فحفظت القرآن فى عشر سنين والتحقت بالأزهر بعد بضعة شهور، ثم أنسيته ثم استعدته ولله الحمد. إن يكن لهذا الحفظ المبكر من أثر فهو كنز نحسن الانتفاع به عند النضج وحصانة تصون السيرة الخاصة، أما أن هذا الحافظ الناشئ قد استدرج النبوة بين جنبيه وصار بذاكرته الجيدة من العلماء، فلا... إننى لا أزال أمر ببعض الآيات والسور فأذكر أن المعلم ضربنى هنا وتركنى هنا وكافأنى هنا! أما أنى أفقه المراد منها فهذا ما لم يخطر بالبال! كنا أشرطة مسجلة للأحرف فقط. والآن أتساءل: هل القرآن الكريم كتاب مطالعة ونصوص، حسبنا منه القراءة العابرة؟ لقد تأملت فى موقف المسلمين من كتابهم ثم قلت؟ ما أشبهه بموقف هذا الطفل ابن العشر سنين! كأن هذا العالم الإسلامى طفل كبير! إنه فى مجالس القرآن يلقى السمع وهو بعيد لا شهيد، وتتحرك به أمواج الإذاعة ولا تتحرك به الضمائر أو تحتكم إليه المجتمعات، وما لهذا نزل القرآن..( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب) ص _219(4/213)
إن علامة المرور تحمر فتقف المواكب ويهدأ المتعجل ويسكن الحراك فإذا اخضرت أبيح الممنوع وجاز المسير! هكذا يفعل أمر القرآن ونهيه بالناس أما أن يكون القرآن تلاوات معزولة عن المجتمع هو يهدر فى واد والناس ينطلقون فى واد آخر فهذه مأساة أو جريمة كما يشير القرآن نفسه (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون). والقرآن فى عصرنا معزول عن الحياة العامة، وقد تكون له صلة بالعلوم الشرعية أو العلوم اللغوية أما أن تكون له صلة بعلوم الكون فلا..! هذا كتاب يتحدث عن السماوات والأرض وما بينهما أفلا تكون له صلة بعلوم الطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات وطبقات الأرض ومعالم العمران؟ أفلا تكون له صلة بعلوم الفلك والفضاء؟. لقد كان آباؤنا أساتذة فى هذه الآفاق فما الذى أبعدنا عنها؟ وعندما يكون التبريز فى هذه المعارف سنادا للإلحاد والبعد عن الله، فهل ننصف أنفسنا وقرآننا بالعجز فى فنون الحياة ودراسة الكون؟ إن الإيمان فى منطق القرآن مبنى على النظر والتفكير والاستنباط فما تكون قيمة إيمان معزول عن هذه المعانى؟ إنى أطرق كاتما ضحكى وأسفى عندما يفتتح حفل بالقرآن ثم يهيم الناس على وجوههم فى كل واد لم يربطهم بالكتاب العزيز رباط، ولم يتسلل إلى أفئدتهم شعاع. *** ص _220(4/214)
هبوط عقلى أسفت لمصرع الدكتور فرج فودة، ووددت لو بقى لأستأنف معه حوارنا حول : هل الإسلام عقيدة وشريعة، عبادات ومعاملات؟ أم هو علاقة خاصة بين إنسان وربه!! ولست واهما أو ساذجا لأتصور أن الدكتور فرج سيقتنع بشىء مما أقول أو يقوله رفاقى إننا ـ والحق يقال ـ كنا نخاطب من وراءه، ونكشف شبهات كثيرة فى الجو الآسى الذى يعيش فيه الناس. أما رأيى فى الدكتور فرج فودة فهو صورة عربية للعقيد "جون جارانج " الزنجى الذى يحارب الإسلام فى السودان، ويريد وضع دستور علمانى لشماله وجنوبه معا... ولكن الدكتور يحارب بأساليب كثيرة منها القلم، وهذا ما جعلنا نتعرض له ولأمثاله، فنحن نتبع دينا يقوم على الحوار ويقول لخصومه (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). ويقول فرج فودة إنه يحارب التطرف! فهل هو من المعتدلين؟ إن الإسلاميين المتطرفين ابتعدوا عن الحقيقة 50 شبرا ناحية اليمين، أما هو فقد ابتعد 50 شبرا ناحية الشمال، والمتطرف لا يقنع متطرفا مثله!. ثم هو رجل يلجأ كثيرا إلى المجون وإرسال نكتة بارعة أهم عنده من اكتشاف حقيقة علمية وهو ما جادل متطرفا إلا بالحقائق الدينية التى قررناها، وبسطها علماء الدين الثقات فماذا بقى عنده من الفكر المستنير أو المنطق الذكى؟ بقى ما قاله فى آخر مقال نشرته له مجلة أكتوبر حيث زعم أن التدين المفرق يقوم على هوس جنسى، وأن المتدينين حاولوا تحريم حشو الباذنجان والفلفل لأن هذا الحشو يثير الغريزة، ويذكر بمسالك جنسية!!! أرأيت هذا الهبوط العقلى؟ أسمع أمرؤ ما طول حياته بهذا الإسفاف؟ تلك هى الطبيعة العلمية لفرج فودة!! ص _221(4/215)
وقد ملأ مقاله بأفكار عن الدين والمتدينين لا تصدر إلا عن ملتاث الفطرة مريض القلب مثل أن الناس كانوا يشاهدون مباريات الكرة فيقول قائلهم : هذا لاعب فذ! ويقول المتدين هذا لاعب فخذ!! لأن الفخذ عند المتطرفين عورة!! وهم لا يرون كشفها ! أين وقع هذا الكلام؟ فى ذهن فرج فودة وحده وهو فى هذا يقلد "فرويد" الذى يزعم أن الطفل عندما يرضع من ثدى أمه يترجم عن حركة جنسية!! المأساة التى نواجهها نحن الدعاة هذا الخلط الهائل فى ميدان الإعلام، كيف أقنع رجلا بأن الإسلام دولة وهو لا يؤمن بأنه دين؟ إن المقتنع بالوحى يكفى أن أقول له : قال تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ليقتنع بأن القرآن نزل ليحكم.. المشكلة أن يقول لك امرؤ أنا مسلم: ولكنى أبيح الخمر، وأنا أعرف منك بالإسلام..!! لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها، وحتى سامها كل مفلس ثم يجئ بعدئذ من يصف مستبيح الخمر بأنه المفكر الإسلامى الكبير...!! ما هذا الهذر؟
ص _150
ولفت نظرى أن سيدة تجاوزت الستين من عمرها وهى تزحف نحو السبعين قالت إنها رفضت الحجاب. والمال المعروض معه! من هذا العارض؟ لا أحسب هذا الكلام إلا من خرف الشيخوخة، ولا أحسب الغرض منه إلا تجريح الأشراف التائبات.. وأحب أن تعلم هذه السيدة أن الشارع لم يلزمها بالحجاب الذى يلزم به الشواب قال تعالى (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ..) فقد تترك المرأة العجوز كاشفة شعرها، أو متخففة من بعض ثيابها، أما الشابة فأولى بها التصون والاحتشام أطلب من أصحاب الأقلام الجريئة وقف الحملة على الفنانات المحجبات التائبات فذاك أشرف لهم، أما اللاتى مسهن رشاش هذا النزق فمعذرة ولهن الله.(4/216)
مقدمة أعلم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وذلك قانون إلهى كائن لا محالة. ويخالطنى الألم والأمة الإسلامية تجتاز مرحلة صعبة من تاريخنا إزاء ما لحق بها من خسائر مادية وأدبية. لذلك أحرص ـ دائما ـ فى مرصدنا الذى نقف فيه لمشاهدة مراقب المسلمين أن أسجل ما يقع بالمسلمين من مصائب وما يحاك لهم من مكائد وما يقع بينهم من أخطاء ونصوغ ذلك فى سطور قليلة نذكرهم.. ونسائلهم... متى يفيقوا؟ إننا لم نجبن عن تسجيل الأحداث غثها من سمينها ونسجل أمام الله ما علينا ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، لعل فى ذلك ما يثقل الميزان. والإيجاز مقصود فى كلمات مرسلة وسريعة، والمعانى المخبوءة كثيرة ضافية الذيول، ونهجنا فى ذلك "ابن الجوزى" فى كتابه " صيد الخاطر". فقد قل كلامه ودل على الصواب. والأمر يستلزم ذلك فى هذا العصر.. تمشيا مع طبيعة القراء.. فالملاحظة السريعة أحب إليهم من مقالة مسهبة وكلام ينسى بعضه بعضا. وفى حياتنا قد تلقى الكلمة الكلمة، كما تلقى فى الأفق سحابة سحابة، فينشأ من تلاقيها مطر يهمى وبرق يضيء.. وسأكتب كل خاطرة ما تراخت منيتى.. فلنطالع هذه الفصول من "الحق المر" ففيها إن شاء الله ما يكفى ويفى، إنها حلقة من سلسلة تمتد ما بقى الأجل لعل فيها بلاغا للناس. محمد الغزالي 12 من شوال 1416 هجرية 2 من مارس 1996 ميلادية
ص _004(5/1)
حسن البنا أنا واحد من الذين صحبوا " حسن البنا" وتربوا على يديه وأفادوا من علمه، قد لاحظت فى دراستي الطويلة للرجال أن الله جمع فى "حسن البنا" مواهب عدد من الزعماء الإسلاميين الكبار أمثال "جمال الدين الأفغانى"، و "محمد عبده "، و "رشيد رضا"، فكان إذا تحدث بين الناس التقى فى حديثه ما تميز به أولئك الرجال كما تلتقى الأشعة فى عدسة صافية تجمع ما تفرق وتضاعف أثره!! كان "جمال الدين " أول من أبصر الحقد التاريخى فى ضمير الاستعمار الغربى، ونبه المسلمين إلى أن أوروبا لا تزال تحمل ضغائن "بطرس الناسك " فى تعاملها مع المسلمين. وكان "محمد عبده " أول من أحس حاجة الأمة إلى تربية واعية، تتعهد سلوكها بالعقل المؤمن , وتحرس نظامها بالشوري العامه00 وكان "محمد رشيد رضا" ترجمان القرآن وشارة السلفية الصحيحة والمفتى العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره.. شاء الله أن يكون "حسن البنا" وريث هؤلاء فكانت محاضراته فى المدن والقرى علما وأدبا وثقافة وكياسة، وقلما يفلت سامع له من التأثر به والانقياد إليه، وعلى هذه الدعائم نهضت جماعة الإخوان المسلمين، وانتشرت فى أرجاء العالم الإسلامى، فكانت بمرشدها العام تجديدا لأمر الدين، وتحصينا لكيانه من الغزو الثقافى والسياسي الذى نال منه وأساء إليه. من الظلم اعتبار جماعة الإخوان حزبا جل نشاطه العمل السياسي فى وطن من أوطان الإسلام، إن الدائرة التى عمل فيها "حسن البنا" أرحب كثيرا، إنها ترديد لغايات القرآن الكريم التى ذكرها فى هذه الآية : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). لقد كان الإمام الشهيد يبعثر العلم فى خطبه كما يبعثر الزارع الحب فى أرضه، ص _005(5/2)
وأعانته على ذلك موهبة لم تعرف فى تاريخنا الثقافى إلا لأبى حامد الغزالى، فقد كان "أبو حامد" قادرا على أن يشرح للعامة أفكار الفلاسفة ويجعل ما تعقد منها كلاما سهلا سائغا، كذلك كان "حسن البنا" رضى الله عنه يلخص لسامعيه حقائق الدين والدنيا، ويوجههم برفق وحب إلى ما يريد من خدمة الإسلام وتجاوز المرحلة التاريخية الصعبة التى يمر بها أو التى كبا فيها.. وجهد الإمام الشهيد كان لابد أن يلفت إليه أعداء الإسلام فاغتالوه لتستريح الشياطين منه.. وما كان "حسن البنا" ولا الأقربون منه يخدمون الإسلام بالعنف أو ما يسمى الآن بالإرهاب. وقد قابلته يوم مقتل الخازندار ـ مستغربا ما حدث ـ وكان القتلة من الإخوان ـ فأقسم بالله أن القاتل لو كان فى السماء لبحث عن طريق يصعد إليه ليمنعه مما فعل!! وقد شعرت بأن بعض الإسلاميين يفقدون وعيهم أمام بعض الأحداث، ولكن ما ذنب "حسن البنا" وجماعة الإخوان كلها؟ إن الرسالة التى حمل لواءها "حسن البنا" يجب أن تبقى، وهى رسالة يستحيل أن يكرهها مسلم مخلص لله ورسله ولا تزال جماعة الإخوان بعد عشرات السنين من اغتيال "حسن البنا" أعدل الجماعات الإسلامية. ولا يزال التاريخ الإسلامى المعاصر بحاجة إليها، وأحسب أن الذين يهاجمونها إما أبواق لأعداء الإسلام، وإما جهلة لا يدرون شيئا، والمرحلة التى نمر بها خطيرة، وقد قررنا ألا نموت بما نحمل من رسالات الله ص _006(5/3)
لم يكن شيئا مذكورا.. فكرت قليلا ماذا كنت من مائة عام، وماذا كان غيرى من أترابى؟ أظن عامتهم إلا قليلا جدا كانوا فى أطواء العدم! كانت الأرض صفرا منهم! ماذا كانوا؟ وأين؟ ربما كانوا حبات تراب تذروه الرياح، ربما كانوا قطرات مياه تجرى فى الأنهار! ثم تحولوا بعد ذلك إلى حبوب وبقول وفواكه، أكلها الآباء، ثم جعلتها أجهزتهم العتيدة دماء فى العروق، ثم ماء دافقا تفرزه الغدد المختصة، ثم تمضى السلالات وفق الأطوار المعروفة حتى تنشأ خلقا آخر.. إننا لم نكن شيئا ثم كنا، وقد لفتنا القرآن إلى هذا التاريخ الغامض عندما قال: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)، إن هذا الاستفهام تقرير لواقع ما يستطيع أحدنا إنكاره. إلا أن هذا التقرير جاء تمهيدا لما بعده؛ لا من حياة أرضية فحسب؛ بل من حياة أخرى زودنا بمواهب خاصة حتى نبلغها، ونتوزع على أنواعها ودرجاتها : (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). لكننا لا نفكر فى خلو الحياة منا قبل الميلاد، ولا فى خلو الحياة منا بعد الممات، وإن كان الفارق بين الحالين بعيدا !! الخلو الثانى فناء لأجسامنا وحسب، أما الأرواح التى احتلتها فهى تذهب إلى مصايرها وفق ما صنعت لمستقبلها! لكن هذه الأجساد التى خدمناها طويلا، أين تذهب؟ الجواب: تذهب من حيث جاءت (منها خلقناكم وفيها نعيدكم)، ترى هل ستتحول إلى تراب ثم إلى حبوب وبقول وأشجار وأثمار؟ ص _007(5/4)
إن هذا التساؤل مر بذهن أبي العلاء فقال: صاح هذى قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد وقبيح بنا وإن قذم العهد هوان الآباء والأجداد لكننى أعترض هذا التفكير، وأرى الانسياق معه عقيما؛ لأنى إنسان بروحى وإدراكى وأخلاقى، لا بشعرى وأظافرى ولحمى وعظامى، والمهم هو الارتقاء بالروح إلى معرفة الله وتقواه، وعندئذ تظفر بالخلد، وتفتح لها أبواب السماء. الشىء الذى يصر الناس على تجاهله، ويرفضون التفكير فيه هو العدم الذى سبقهم، والعدم الذى سيلحق بعدئذ أجسامهم وحدها، ثم تبقى أرواحهم لتواجه أثر التجربة الصعبة فى هذه الدنيا... إن الجماهير تحس أنها تحيا، وهى رهينة هذا الإحساس تأبى ما عداه ثم يفجؤها الموت فتعرف بعد فوات الأوان أنها أضاعت فرصة الاستفادة من العمر المحدود على ظهر هذه الأرض، أى من فترة الاختبار هنا!! والحضارة الغربية التى تسود الدنيا الآن تحتقر التفكير فى الآخرة ؛ وتركز اهتمامها كله فى هذه الدار. وقد فشل أهل الكتاب فى أوروبا وأمريكا أن يلفتوا الأنظار إلى ما وراء هذه الدار، أما اليهود فلأن توراتهم التى بين أيديهم لم تذكر الجزاء الأخروى قط، وهذا من إضاعتهم للوحى الأعلى، وأما النصارى، فإن لهم حديثا عن الآخرة بالغ الضعف وظاهر أن الشهوات كانت أعتى منه فغطت عليه!! على أن الدين لا يذكر الموت ليعطل الحياة، وإنما ليكفكف من غلوائها، ويمنع الافتتان بها، والغرق فى حماتها ص _008(5/5)
العرب من غير مصر؟ شعرت بغضاضة وغضب عندما طلبت طوائف من الأكراد بقاء الجيش الأمريكى على أرض العراق. ومع علمى بما نزل بهم من هوان، على أيدى رجال البعث العربى، فإنى ضقت بما وقع، وتمنيت أن يكون البديل المطلوب من المظالم السابقة إقامة حكم إسلامى راشد تتآخى فى ظله شتى الأجناس وتختفى معه نعرات الجاهلية الأولى.. إن استثناف الماضى الطيب ليس شيئا صعبا، وقد ذابت الفروق الجنسية فى ظل الأ خوة الإسلامية قرونا طوالا... وبدا لى أن صيحات استبقاء الأمريكيين مفتعلة، ولعلها بإيعاز من بعض دهاتهم!! زيادة فى النكال بالعروبة الخائنة لدينها وتاريخها!! وقد رأيت فى المغرب الكبير أن الأوروبيين يبدون عطفا مستغربا على البربر والزنوج، ويوجسون خيفة من العروبة ويقظتها، وقد أثاروا فتنا شتى حول هذه القضية، وخطتهم التى ينبعثون منها تمزيق الأمة الإسلامية، وتوسيع الفجوات بين شعوبها! وجهد المستشرقين والمبشرين وراء هذه الغاية لا ينقطع، وإعلامهم لا يخفت عن بث الوقيعة وإيغار الصدور !! ليت شعرى، ما أصاب العرب حتى طوتهم هذه اللجة الطامسة لحاضرهم ومستقبلهم؟ لقد استيقنت من أن دسائس أجنبية وراء هذه المحنة تريد جعل هذه الأمة جذاذا. وهناك صحافيون مختبئون فى جحورهم ينتظرون الفرص لينفثوا السموم، هناك من يكتب طعنا مريرا فى المصريين جميعا! ماذا يبغى؟ يبغى خدمة سادته فى عزل مصر عن العرب!! وما درى هذا الأعمى أن العرب من غير مصر لا يكسبون خيرا ولا يدركون نصرا، فهم كما قال حافظ: ص _009(5/6)
أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يدرك الرشد بعدى وقد سمعت أن صيحات حمقاء ـ عند الخلاف فى بعض القضايا ـ انبعثت تطلب هدم السد العالى أو هدم الأهرام!! فهل يستريح الحاقدون عندما يتم ذلك.. وهل يكسبون إلا العزلة والحسرة والهزيمة؟ إننى ما أشك فى أن أصحاب هذه الصيحات مستأجرون لجهات استعمارية، تريد القضاء على وادى النيل كله... عندما ذهب أنور السادات إلى بعض بلاد الخليج يريد أن تتعاون معه على سداد ديون مصر، قوبل بألفاظ مقذعة، وشنت حملات مجنونة على المصريين أجمعين، فماذا كسب العرب من اتفاق مخيم داود؟ والصلح مع إسرائيل؟ لقد اعتقدت أن الذين شنوا هذه الحملات أجراء للصهيونية العالمية يعملون لحسابها، وينفذون مخططاتها، وصدقت الأيام ما رأيت.. ويوجد الآن من يشتم شعبا عربيا كاملا، يبتغى النيل من مكانته وكرامته، وما يعنينى أن يكون هذا الشعب فى إفريقية أو فى آسيا، إنما الذى أحس الجزع منه نتائج هذه السفاهة، فى زيادة الطين بلة، وزيادة الصف ضعفا. فى كل بلد من يحسن ومن يسئ، ومن يخطئ ومن يصيب، فمن كان ناصحا لله ورسوله، فليتخير ألفاظه، وليتحسس خطاه.. وإن عجز عن ذلك فالسكوت فريضة عليه... أناشد جماهيرنا أن تعرف خطورة أوضاعنا، وتكالب أعدائنا، وأطالبها بأن تصم آذانها عن شتائم السفهاء لشعوب بأسرها، فهذا أولا ظلم، وثانيا لا يفيد منه إلا الخصوم.. نحن ننادى بجمع الشمل وتلاقى الأهل. ص _010(5/7)
لماذا يرهبون المعتدلين؟! لا أستنكر عقوبة على من يساند رأيه بالإرهاب، ويريد إكراه الناس على مذهبه فى الحياة!. فليس هذا أسلوب القرآن الكريم الذى يقول لنبيه: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون). أما الذين يعرضون ما عندهم بالرفق والحجة فلا مساغ للقسوة عليهم أو معاملتهم بالعنف. وعندما كنت فى الجزائر جاءتنى شكاة من نحو ستين طالبة وموظفة بأنهن مهددات بالفصل من وظائفهن ومعاهدهن إذا ارتدين الحجاب. ـ وهو شىء آخر غير النقاب ـ فقلت لماذا تحاول المتبرجات ـ بالإرهاب والتهديد ـ أن يفرض مسالكهن على الأخريات ويضطروهن إلى العرى؟ إن الإرهابيين من أتباع الأديان الأخرى مدللون كما يقع فى إسرائيل أو يعاملون بالقانون العادى كما يقع فى أقطار أخرى. أما فى البلاد الإسلامية فإن التهمة بالإرهاب لا تكاد تناقش وتخترع لها محاكمات غريبة! وأسباب ملفقة... وقد نشأ عن هذا أن بعض طلاب النجاة أخذ يفر من الانتماء الإسلامى ويخشى على نفسه وأسرته من هذا البلاء.. إنه لا وجاهة لمن يشتكى من العدالة! أما أن يكون التدين تهمة يقذف بها الناس حتى تثبت براءتهم فذلك مرفوض! ص _011
أريد أن أقول للعرب كلهم شعوبا وحكومات: إن إسرائيل الصغرى تتهيأ لتكون إسرائيل الكبرى، ويوشك أن يهدم الأقصى ليرتفع مكانه هيكل سليمان. ويوشك طبقا لتعاليم التوراة أن تكون حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل!! وما يقع فى العالم العربى اليوم من إرهاصات هذا البلاء. والواجب أن نحمى ديننا من العدوان عليه، كما نحميه من العدوان به، إنه لا مكان لإضاعة الصلاة واتباع الشهوات وإشاعة العبث فى بلاد يستعد اليهود لإرغامها على الرضا بالدنية، والتسليم بالهزيمة، والانخراط تحت لواء الصهيونية العالمية، ومساندتها فى ضرب الإسلاميين.. اعدلوا هو أقرب للتقوى. ص _012(5/8)
الصياح بطلب الحكم!! سقطت دولة الإسلام الكبرى من سبعين سنة خلال عواصف داخلية وخارجية أظلم معها كل أفق، وخبا كل فكر. وليس مستغربا أن يسعى المسلمون المخلصون خلال هذه المدة كى يرفعوا الراية التى سقطت، ويعيدوا البناء الذى انهدم... وقد تالفت جماعات إسلامية لبلوغ هذه الغاية، كانت جماعة الإخوان بلا ريب طليعتها، وهناك جماعات أخرى، فى أقطار شتى تسعى للغرض نفسه، وما يرتاب أحد فى نبل الغرض، ولكن حديثنا هنا عن طبيعة الوسائل، فإن البعض ظن طلب الحكم هو الخطة الفريدة لخدمة الإسلام وبناء حكومته..! إن إقامة الدولة المنهدمة لا تصح ولا تتم إلا بإقامة الأمة نفسها، وشفائها من عللها، وهو عمل ينبغى أن يكون الشغل الشاغل للإسلاميين إلى جانب نشاطهم النظرى فى بناء النظام السياسى للإسلام... وعندى أن طلب الحكم لا يستغرق إلا ا% من العمل الإسلامى الصحيح، أما التسعة والتسعون جزءا الأخرى ففى ترميم الكيان الشعبى المنهار فى كل مكان. وأنا أنظر بريبة شديدة فيمن لا صياح لهم إلا طلب الحكم، وأخاف أن يقع مستقبل الإسلام بين أيديهم؟ فيكتنف الظلام مستقبل الإسلام.. هناك أعمال ثقيلة خطيرة يجب أن يباشرها الإسلاميون فورا لإصلاح أمتهم وتهيئتها لغد أشرف... أشعر بالجزع عندما أرى أخلاق الكذب والخيانة والغدر وخسة الخصومة تشيع هنا وهناك، أليست هذه أركان النفاق؟ فكيف يبقى معها إسلام؟.. هناك تقاليد فى الزواج والطلاق، والافتراق والاجتماع، والأفراح والأحزان، ومعاملة الأصدقاء والجيران تشيع بين المسلمين وتملأ بلادهم بالعقد والخلل، والرياء والتكلف، لو نقلناها إلى الناس لأئرنا الفوضى فى البر والبحر! فكيف نتركها دون إصلاح؟ ص _013(5/9)
خلائق العجز والكسل والجمود، والرغبة عن الابتداع والاكتشاف فى شئون الدنيا تدفع بنا إلى الوراء، وقد بريء منها غيرنا فاندفع إلى الأمام. فبم نفسر تقاعسنا فى محو هذه الخلائق الرديئة؟ وكيف يستقيم ـ مع وجودها ـ حماسنا للدعوة إلى الإسلام؟ لغة القرآن تنتقص من أطرافها، والغارة عليها متجهة إلى صميمها، وتكاد تختفى فى أروقة الجامعات العلمية، وتتلاشى فى لغة التخاطب، بل فى عناوين الدكاكين والمؤسسات الأخرى، فما سر فتورنا فى مواجهة هذا البلاء؟ إن انتظار الحكم ليس العمل الصالح الذى ينضم إلى الإيمان، وتتم به النجاة، إن هذا الانتظار يمكن فهمه عندما يكون فى حاشية الشعور، على أن يكون فى بؤرة الشعور العمل العاجل المتاح فى أى مجال لخدمة الإسلام فى أى ميدان، وما أكثر الميادين الظمأى إلى عاملين مخلصين ناشطين... أصارح بأننى مرتاب فى أفئدة مقاتلين من أجل الحكم، بل مرتاب فى قدراتهم وخبراتهم، وأخشى إذا وقعت مقاليد الحكم فى أيديهم أن يصاب الإسلام بما لا طاقة له به! هل عجزة اليوم سيكونون المقتدرين غدا؟ اللهم احرس الإسلام من هؤلاء الأصدقاء.. ص _014(5/10)
علاقة حية مع هلال المشهر المبارك ينظر المسلمون إلى الأفق ثم يناجون ربهم بهذا الدعاء "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال يمن وبركة إن شاء الله "، وجاء فى الحديث أن الرسول الكريم كان يشير إلى الهلال ويقول: "ربى وربك الله ".. كأنه يشرح قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها). إن الذى زحم الأرض بالبشر زحم السماء بالكواكب ـ ومن بينهما الشمس والقمر يديرها فى أفلاكها كيف شاء فهى تعنو لمجده وتسبح بحمده وعلى أبناء آدم أن يقدروا الله حق قدره، وأن يصلوا مع حركات الشمس وأن يصوموا مع حركات القمر، ونحن المسلمين نؤدى برضا وسرور الفريضة التى كتبها الله علينا عالمين أننا ننفرد دون الناس كلهم بهذه العبادة، فغيرنا يترك بعض الأطعمة ويتناول أخرى، أما نحن فنغلق الأفواه عن كل طعام ونكبت الشهوة الجنسية ونعلن سيطرة الروح على الجسد ونصوغ سلوكنا فى قالب من السكينة والأدب فلا لغو ولا رفث ولا غيبة ولا عدوان..! عندما كان أبونا "آدم " فى الجنة كان عنده ضمان ضد الجوع والعرى، والكدح والعرق المتصبب (إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى * و أنك لا تظمأ فيها و لا تضحى). لكنه ضعف وخضع لشهوته فكلفنا نحن أن نربى أنفسنا على قوة الإرادة والسيطرة على الأهواء حتى نكون أهلا للخلود فى دار النعيم. والواقع أن الحضارة الحديثة بقدر ما أحرزت من تقدم علمى خضعت لمختلف الشهوات فشرعت تنحدر وتناوشها العلل والأسقام ولن تنقه حتى تخضع لأمر الله وتحسن الصلاة والصيام، وتستعد للقاء الخالق الكبير. ص _015(5/11)
قال سلمان الفارسى رضى الله عنه: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أخر يوم من شعبان فقال: " يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك, شهر فيه ليلة خير من ألف شهر, شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا. من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة. وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتقا لرقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شىء! قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم!. قال رسول الله: يعطى الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن. وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وأخره عتق من النار. من خفف عن مملوكه ـ خادمه ـ فيه غفر الله له..". إن شهر رمضان موسم قربات وموعد سباق كبير إلى الرضوان والخلود ينتظره الأتقياء كما ينتظر الأغنياء الذهاب إلى المصايف لتمتيع أنفسهم، لكن المتعة هنا علاقة حية بالله وظفر بروحانية عالية ونعيم مقيم . ص _016(5/12)
مع الله فى حديث لرسول الله "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أى رب منعته الطعام والشهوة فشفعنى فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعنى فيه. قال: فيشفعان." العبادات لابد منها لنجاة الإنسان وصقل روحه وزكاة نفسه، وهى تذكر بالله ونعمه وحقوقه، ويستحيل التفريق بينها، بل تؤدى كلها مجتمعة؛ فلا صلاة بدون صيام ولا صيام بدون صلاة. وكلتا العبادتين أساس للتسامى وباعث على القبول الإلهى. كنت أتابع يوما درسا فى عالم الأفلاك حيث تسبق الأعداد شطحات الخيال وتقاس المسافات بأرقام هائلة، وتضاءلت فى نفسى ثم عدت إلى مواقع الأقدام من أرضى ونظرت إلى ما تحت الثرى وعلمت أنى لا أدرى ولا أرى! قلت: ترى ما هناك فى أعماق هذه الكرة حتى النقطة المكشوفة من سطحها فى الجانب الآخر المقابل لى؟ أشياء كثيرة نجهلها كل الجهل، قلت: لكن الله وصف نفسه فقال: (الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى * و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى). إن اللمعة المضيئة عند سدرة المنتهى كالحبة المستخفية فى ظلمات التربة سواء فى علمه، تبارك اسمه وهو علم مسطور فى سجل دقيق منذ الأزل. وملأت أقطار نفسى عاطفة إعجاب بهذا الخالق الأعلى، بيد أن الكلمات المعبرة تقاصرت ثم احتبست وشاء ربى أن يلهمنى كلمات تنفس عما بى، فإذا الكلمات المعبرة فى حديث رواه على بن أبى طالب يصف صلاة النبى عليه الصلاة والسلام جاء فيه:".. وإذا ركع يقول فى ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت. خشع لك سمعى وبصرى ومخى وعظمى وعصبى. وإذا رفع رأسه من ص _017(5/13)
الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شئ بعد. وإذا سجد يقول فى سجوده: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت. سجد وجهى للذى خلقه وصوره وشق فيه سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ". فى هذه المناجاة ترى الألوهية الكاملة والعبودية الكاملة، بين يدى بديع السماوات والأرض يجثو عابد ملهم فيهمس فى ركوعه وسجوده بكلمات تصور ما ينبغى أن ينطق به كل فم تحية لذى الأسماء الحسنى.. ذاك فى الصلاة. أما فى الصيام فنحن عند تناول الفطور نعوض ما فاتنا من طعام الغداء، وقد نتوسع فى ذلك إلى حد الإسراف، لكن محمدا انفرد بعبادة لا يقوم بها غيره! إنه لا يفطر مع الناس أحيانا إنه يواصل الصيام يوما آخر أو يومين! يقول للناس: "إنكم لستم كهيئتى، إننى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقين " وهذه عبارة تصور قدراته الروحية الفائقة، فإذا كان بعض الناس عبيد بطونهم فهو فوق هذا المستوى المادى وأرفع قدرا . ص _018(5/14)
وتزودوا.. يستعد المؤمن لرمضان قبل مقدمه: كيف يحسن صيامه وقيامه؟ كيف يخرج منه مغفور الذنب مضاعف الأجر؟ فإن الشهر الكريم تدريب على الطاعة وترشيح للتقوى كما قال تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ومن الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات وتجهيز الولائم للأضياف. إن هذا الشهر شرع للإقبال على الله والاجتهاد فى مرضاته وتدبر القرآن وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق فى الخيرات يظفر فيه من ينشط ويتحمس! عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال : " أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبى قبلى أما الأولى فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم. ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدا - يعنى يختار الله الأكثر إقبالا ونشاطا وحماسا فيخصه بنظرة رضا لا يشقى أبدا بعدها - وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم فى كل يوم وليلة - مصداق قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) وأما الرابعة فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها: استعدى وتزينى لعبادى! أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دارى وكرامتى، وأما الخامسة فإنه إذا كان آخر ليلة غفر الله لهم جميعا، فقال رجل من القوم: أهى ليلة القدر؟ فقال : لا ألم تر إلى العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم؟ " ص _019(5/15)
والمهم فى الصيام والقيام أن يصحبهما اليقين وتحمل التعب لوجه الله تعالى. ولذلك صرحت الأحاديث بأن استحقاق الأجر لا يكون إلا مع شرطين، قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ" من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "، وإذا استحق مؤمن المغفرة بأحد العملين فإن العمل الثانى تضاعف به حسناته وينضاف إلى رصيد الخير عنده، وحفزا للهمم على الاشتراك فى هذا السباق جاء فى الحديث: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار ـ وينادى مناد من قبل الحق ـ يا باغى الخير أقبل ويا باغى الشر أقصر! " أحيانا يدخل المرء سوقا تباع فيها السلع الغالية بثمن زهيد، هكذا رمضان، فرصة للتزود بالخير الكثير، وذاك سر النداء يا باغى الخير: هلم..! ص _020(5/16)
ليست حملة على الطعام قال الرسول الكريم لأمته: (إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) والغرائز الدنيا فى الناس إذا جمحت وأفلت قيادها هوت بالحضارات وملأت المستقبل بالرجوم، ولابد فى ضبطها من الصيام الحكيم والحرمان الواعى المهذب وهذا ما يفعله الصيام الذى عرفه الفقهاء بأنه الإمساك عن شهوتى البطن والفرج من الفجر إلى الغروب، ولاشك أن صيام المسلمين يحتاج إلى تأمل وتعقيب فى هذه الأيام فإن هذا الشهر يمكن أن يسمى شهر الطعام، وسهر الليل فى التلاوة حل محله سمر هزيل المعنى تافه الأثر حتى أن الشاعر القروى قال من قصيدة له: لقد صام هندى فدوخ دولة فهل ضار علجا صوم مليون مسلم؟ يشير الشاعر إلى حرب المقاطعة الاقتصادية التى أعلنها "غاندى" على الاستعمار الإنجليزي، لقد ألزم قومه أن يتركوا كل ما تنتج المصانع الإنجليزية ولو لبسوا الخيش بدل الصوف الفاخر، وبدأ بنفسه فلف جسمه بخرق متواضعة، ولم تمض شهور حتى توقفت المصانع الإنجليزية، فرحل الإنجليز عن الهند واعترفوا باستقلالها!! هل لدى العرب هذه القدرة النفسية؟ هل يملكون هذه الإرادة الحديدية؟ هل يحكمون شهواتهم أم تحكمهم شهواتهم؟ إن الصوم ليس جوعا طويلا تمهيدا لأكل كثير. وليس حرمانا موقوتا يتبعه انطلاق فوضوى!! ثم إنه ليس تحريما لبعض المأكولات المباحة وتركا للفم يلغو ويستهل الغيبة واللغو والإسفاف، هذا النوع من العبادات لا خير فيه. وفى الحديث الشريف (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر). ص _021(5/17)
وعن أبى هريرة قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه ". وقال الرسول أيضا: " الصوم جُنة ـ أى وقاية ـ ما لم يخرقها، قيل وبماذا يخرقها؟ قال : بكذب أو غيبة! ". إن العبادات بذور جيدة فى الحياة الاجتماعية ولعل أقرب ثمارها ظهورا حسن الخلق وأدب النفس وكبح الطباع الرديئة. إنه ليسوءنى أن يكون السائحون المسلمون فى أقطار العالم أول الناس بحثا عن الشهوات واستجابة للإغراء، كما يسوءنى أن ننفق فى بلادنا المال الكثير على الكماليات والمرفهات حتى أننا أحيينا صناعات الترف فى دول تخاصمنا وتنال منا. ص _022(5/18)
أيام الانتصار إذا كان رمضان شهر القرآن فإنه كذلك شهر معارك حامية دفعت الباطل وكسرت شوكته، إن هذا القرآن كتاب حوار وفكر وأخذ ورد وهو يستبعد الإكراه فى عرضه للعقيدة ودعوته إلى الفضيلة: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) وعندما درست أهم معارك السيرة النبوية وجدت أن مسالك الكفار وغرورهم كانت السبب الأول فى خذلانهم وسقوط رايتهم، خذ مثلا "بدر" لقد خرج أهل مكة لحماية قافلتهم المهددة كما يقولون، حسنا! لقد نجت القافلة فلم لم يعودوا من حيث جاءوا ويستأنفوا حربهم للإسلام؟ قال أبو جهل لابد أن نعسكر قريبا من المدينة فننحر الجزور ونشرب الخمور وتغنى لنا القيان ويسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا! أى ولا يزالون يخافون من اعتناق الإسلام مادمنا نخاصمه!! إن هذا الكبر والطغيان كانا سبب هزيمة الشرك وذهاب ريحه.. وانظر ـ بعد بدر ـ إلى فتح مكة، كانت هناك معاهدة تمنح الوثنية السائدة عشر سنين لو آثرت الوفاء والإنصاف، ولكنها خرقت المعاهدة وقتلت أصدقاء المسلمين فى الشهر الحرام فسار المسلمون إلى مكة وفتحوها وأخمدوا أنفاس المعتدين.. وقد وقعت فى أواخر رمضان معركة "عين جالوت " وهى معركة بعيدة الأثر فى تاريخ العالم كله، فإن التتار بعدما أسقطوا الخلافة العباسية ودمروا "بغداد"، استعدوا لفتح "مصر"، وأرسلوا إليها كى تستسلم!! وشاع فى أرجاء الدنيا أن جيش التتار لا يقهر! ومن يستطيع الوقوف أمامه بعد مقتل المستعصم آخر الخلفاء العرب، لكن "قطز" ص _023(5/19)
قتل الوفد التتارى وأعلن التعبئة العامة وقاد الجيش المصرى وسار به إلى فلسطين ليلقى عدوه المغرور بقوته، وكانت الشائعات بأن جيش التتار لم ينهزم قط تنتشر فى كل مكان، وتغزو الأفئدة باليأس، وظهر هذا عند التقاء الجمعين فترجل قطز، وألقى على الأرض خوذته وصاح بصوت رهيب وا إسلاماه، وهجم بمن معه فإذا الأرض تزلزل تحت أقدام المغيرين، وإذا هم يولون الأدبار..! وحاولوا الوقوف فى خط آخر أنشأوه على عجل ولكن المسلمين تعقبوهم فإذا هم بين قتيل وأسير. وانهزم جيش "هولاكو" فاتح بغداد، وقال التاريخ لم يكن ما حدث نجاة لمصر وحدها، بل نجاة للعالم كله من الفوضى والوحشية، وكم لرمضان من بركات عسكرية، ولكن المجال يضيق عن الإحصاء. ص _024(5/20)
المفروض المفروض أن رمضان شهر السمو الروحى والإقبال على الله وتلاوة القرآن ومغالبة شهوات الجسد التى تتنفس طول العام وتنضبط خلال هذا الشهر الكريم. إن العالم فى عصرنا حول حضارته إلى آلة ضخمة يسمع دويها فى المشارق والمغارب لخدمة الجسم الإنسانى وإرواء غرائزه التى لا ينتهى لها جيشان، فهل يقدر شهر الروحانية على إعادة التوازن، وإفهام الإنسان أنه ليس حيوانا يحكمه الطعام والسفاد؟ المنظور فى فريضة الصيام أنها تدعم خصائصنا العليا وتقوى إرادة التسامى وتذكر المرء بأصله السماوى، وبأنه نفخة من روح الله الأسمى، وقبس من نوره الأسنى فلا يجوز أن تهزمه شهوات الحيوان الرابض فى دمه يغرى بالطيش والإسفاف.. إننا بالصيام نستجيب لأمر الله أن ندع الطعام والشراب، وهما حلال طوال العام! فهل نستفيد من ذلك أن نجعل بيننا وبين الحرام مسافات بعيدة، وأن نعشق الإقبال على الله واتباع مرضاته ؟ لقد راقبت الناس فوجدتهم فريقين، قلة تأخذ الأهبة للفريضة الوافدة وتستعد لاحتمال أعبائها، وكثرة تفكر فى الطعام الكثير والمرفهات الشهية وكأنهم يجوعون طويلا ليأكلوا كثيرا!! والمؤمن حقا لن ينسى ما يكتنف رمضان هذا العام من آلام تحسها جمهرة المسلمين هنا وهناك، إن أمتنا وحدها تقع تحت وطأة هزائم ثقيلة، وتمر بها أزمات عضوض، وهناك نساء مسبيات ورجال أسرى، وبيوت استوحشت من أهلها، وكان يقال قديما: اليهودى التائه ولكن الذى يقال الآن: العربى التائه!! أو المسلم المطارد بدينه لا يقر له قرار.. ولعل الأعجب فى معاملة الشهر الاستعداد لإماتة لياليه بفنون التسلية بدل إحيائها بدروس العلم وتدبر القرآن، ودراسة ما حوى من حكمة وتوجيه! إن الصيام ارتقاء معنوى، وإقبال زائد على الله، ورغبة فى التسبيح والتحميد لا فى اللغو والمجون.. ص _0 ص(5/21)
وأطلب من أمتنا أن تعى حكمة التشريع لفريضة الصيام، كما أطلب منها أن تذكر تاريخ هذا الشهر وما وقع فيه من أحداث جسام.. إن هناك من يحسب الشهر الكريم فرصة بطالة وقعود، أو راحة واستجمام ونسى أن أعظم معارك الإسلام دارت فى هذا الشهر، وأن صحائف من أمجادنا كتبت فيه. فيه خرج المسلمون للقتال فى بدر والفتح ورزقهم الله النصر المؤزر والفوز العظيم.. هل نستطيع أن نرى المتربصين بنا أننا مازلنا أوفياء لديننا، وأننا قادرون على الثبات فى مواقف الحراسة، وأن الإسلام حى فى ضمائرنا، وسيبقى مرفوع الراية؟ ص _026(5/22)
مع الصيام الصيام شريعة تشتبك مع أعتى الغرائز البشرية، غريزتى الأكل والجنس وهما الغريزتان اللتان سيطرتا على السلوك فى الحضارة الحديثة، وفرضتا أنفسهما على كل شىء فى عالم الأزياء والغذاء !! والإسلام لا يحارب الجسد، ولكنه يرقبه بدقة ويحاصره بأحكام الحلال والحرام، ويرشده إلى مصالحة العاجلة والآجلة. وقد ختمت آيات الصيام بقوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون). فالصيام وإن كان تكليفا فيه بعض المشقة إلا أنه حميد العقبى جميل الأثر، ويتحول مع الأداء الصحيح إلى نعمة جديرة بالشكر.. أما عبادة الجسد والمسارعة فى هواه فحيوانية تزرى بصاحبها وتجر عليه الهوان فى الدنيا والآخرة.. وقد انفرد الإسلام بهذه الفريضة من الحرمان الموقوت، وجعلها دعما للإرادة ومعراجا للسمو ومرضاة لله سبحانه. وقد لاحظت أن مراسلين للصحف الأجنبية والوكالات العالمية تندس عندنا بين الجماهير ووسط الأحياء المختلفة لتعرف: أبقى المسلمون أوفياء لرمضان يصومون أيامه ويقومون لياليه؟ أم جرفتهم تيارات الحضارة، فقرروا الإفطار والمنام..! والواقع أن الكثرة الكبرى تطيع ربها وتحترم الشهر المبارك، ولكنى وجدت أن التقاليد الضارة تهجم على الشهر وتكاد تطفئ سناه وتمحو أثره، هناك من يجوع كثيرا ليستطيع الأكل أكثر فرمضان عنده شهر الطعام لا شهر الصيام! وقد استعدت وسائل الإعلام فى أقطار كثيرة بفنون التسلية لتنقل المسلمين من الجد إلى الهزل، وتصرفهم عن الشغل بقضاياهم الخطيرة إلى التيه وراء خيالات مريضة. ص _027(5/23)
ومعروف أن رمضان جاء هذا العام والإسلام يستوحش من مآس أحاطت بأهله وهزائم ألحقت بهم جراحات غائرة، فإذا لم يكن الشهر للإنابة والاستغاثة فلماذا يكون؟ وأسوأ ما ألاحظه على قومى أنهم يسمعون القرآن ولا يتدبرون! وتمر بهم المعانى التى تهد الجبال فإذا بعضهم يصيح طربا ويستعيد الآيات إعجابا بالأنغام التى حفت بها..!! ليس هذا سماعا، وإنما هو طمس وذهول، يبرأ منهما عباد الرحمن الذين جاء فى صفتهم: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) إن رمضان فرصة لتوبة نصوح، وأمل فى نصر قريب على شرط أن نصومه ونقومه كما أمر الله سبحانه. فكم فينا من قلق يريد القرار! وهائم عن وطنه يريد العودة ومهزوم يشتاق للنصر.. ص _028(5/24)
جورباتشوف استحوذ "ميخائيل جورباتشوف " على إعجاب العالم، للطريقة التى أجهز بها على الشيوعية، وأخرج مئات الملايين من سجنها الكبير دون خسائر تذكر.. وقد فكرت طويلا فى شخصية الرجل: أهو عقلانى يؤمن بالله على نحو خاص كبعض الفلاسفة الإلهيين؟ لم يبد فى أقواله ما يشهد بذلك! أهو ينتمى فى سريرته إلى أحد الأديان السماوية؟ كلا، ما ادعى ذلك ولا لوحظ عليه!! ظاهر أن الرجل صاحب طبيعة حرة، ولعله أحد المؤمنين بحقوق الإنسان على ظهر الأرض، وحسب! لكن صاحب هذه الطبيعة قد ترسب فى نفسه مشاعر خاصة ضد بعض الناس فلا ينجو من سيئاتها.. فعندما رجعت حرية التدين إلى المجتمع الروسى طالبت الكنيسة الأرثوذكسية بأملاكها المصادرة، ولم ير "جورباتشوف " حرجا فى ردها إلى أصحابها، لكن المسلمين لم يعاملوا بالمثل، وبقيت آلاف المساجد والمعاهد والمؤسسات الإسلامية مخازن واصطبلات ومرافق أخرى لاحق للمسلمين فى استعادتها! ومعروف أن دول البلطيق عندما طالبت باستقلالها عوملت بتلطف ومراوغة ريثما تتاح الفرصة لتنال حرياتها، أما مسلمو أذربيجان فقد تولى الجيش الرد على مطالبهم، وخرست أصوات الحرية تحت هدير الدبابات التى أرسلها جورباتشوف لحل الأزمة !! وهناك أمر يحتاج قبل عرضه إلى شرح: إن السلطة فى بلد ما قد تعاقب موظفا مسيئا بنقله إلى بلد بعيد عقوبة له، حتى جاء "ستالين " فقرر تطبيق هذه العقوبة على شعوب بأسرها، فنقل ثلاثة ملايين مسلم من القرم إلى سيبريا وبقاع أخرى، وطبقت العقوبة نفسها على مسلمين من أقطار شتى، قطع الجبار أوصالهم، ورمى بهم فى فياف لا علاقة لهم بها..! لقد أمسوا أقليات حيث ذهبوا، وصفرت منهم أرضهم التى ورثتها طوائف أخرى أسعد! ص _029(5/25)
وعومل المسلمون الروس على أنهم شعوب من درجة ثانية ساقطة المكانة المادية والأدبية.. والغريب أن جورباتشوف عندما نظر فى شكاواهم لم يقض فيها بشىء، وتركهم تحت المعاناة التى رزئوا بها، وهذه المعاناة يذوقها أيضا مسلمو جورجيا الذين يقعون تحت حكم مسيحى طائفى متعنت يحسون فيه الوحشة والضياع! إن المسلمين فى روسيا يبلغون ثمانين مليونا أو يزيد، أى أنهم أكثر من ثلث السكان! وقد وصفت أحوالهم فى كتابى "الإسلام فى وجه الزحف الأحمر" الصادر من ربع قرن!! والجمهوريات التى استوطنوها من قرون من أغنى أقطار الأرض، ولكن السيادة والقيادة للجنس الروسى الحاكم الذى ابتلى به هؤلاء التعساء، أيام القياصرة البيض والحمر على سواء.. والمخزى أن المسلمين العرب يجهلون كل شىء عن إخوانهم المنكوبين، ولا عجب فقد وجد من العرب أنفسهم من نبذ الولاء الإسلامى، وقطع أواصره بإخوان العقيدة، وجعل البعث العربى أو القومية العربية محور نشاطه وعلاقاته!! إن هناك ارتدادا أنكى من الارتداد الذى قام به مسيلمة، وقع فى شراكه كثيرون فنسوا أمتهم الكبيرة وتاريخهم الجامع، وقبعوا وراء حدود موهومة، يحسبون أنهم سوف يظفرون وراءها بالحرية.. وهيهات فقد جاء بنو إسرائيل بعقيدتهم التى آخت بين يهود اليمن ويهود روسيا؛ ليقولوا للعرب المفتونين: إن زهدتم فى عقيدتكم فلن نزهد فى عقائدنا!! إن يهود روسيا أولى بأرضكم منكم..!! ص _030(5/26)
مؤتمر إيباك فى يونيه سنة 1990 انعقد المؤتمر الحادى والثلاثون للجنة اليهودية الأمريكية المسماه "إيباك " ـ وهى أعتى الفئات المؤازرة لإسرائيل فى الولايات المتحدة ـ وشارك فى هذا المؤتمر نائب الرئيس الأمريكى، ووزير الدفاع، وزعيم الأغلبية الديمقراطية، وزعيم الأقلية الجمهورية، وعشرات من أعضاء الكونجرس الأمريكى.. ودار الحديث حول دعم وديمومة العلاقات الفريدة بين إسرائيل والولايات المتحدة. ولفت نظرى الحديث الصريح عن حدود إسرائيل، وضرورة بقائها مائعة حتى تستقر على خطوط يمكن الدفاع عنها! وترغم الدول العربية على قبولها..! قلت: ما الدول التى ستبقى لتوقع وثيقة الضياع والخزى الأبدى؟ إن إسرائيل الكبرى ستهلك كل ما حولها من الفرات إلى النيل شرقا وغربا، ومن الحجاز إلى تركيا جنوبا وشمالا! ربما بقيت من الفريسة الملتهمة بقايا أقدام وعظام فهى تطالب بالاستسلام للأمر الواقع والتوقيع عليه بالقبول والرضا والشكر!! هذه هى حصيلة الرؤى الدينية التى آمن بها دراويش السياسة المعلنة فى الدوائر الأمريكية العليا والدنيا. ومن الطريف أن رئيس الأقلية الجمهورية رأى استبقاء الحوار بين أمريكا ومنظمة التحرير الفلسطينية؟ لأن العرب لن يأخذوا من هذا الحوار إلا الوعود الخادعة والكلمات المعسولة! وقد سألت نفسى: لقد بدأ هذا الحوار من أمد طويل، فماذا أفاد العرب منه؟ ولماذا يحرصون عليه؟ إنه تعلق الغريق بالقشة لعله ينجو! وأمريكا خلال هذا الحوار ما تركت كلمة تحرج العرب إلا قالتها، ولا عملا يخذلهم فى الميدان الدولى إلا قامت به. ص _031(5/27)
ولنترك مؤتمر "إيباك " الذى انعقد لمواصلة إذلالنا فى الولايات المتحدة، إلى مؤتمر آخر انعقد قبله بشهرين فقط لإهانتنا فى كندا.. دعت إلى هذا المؤتمر جامعة "مانيتوبا" وجعلت عنوانه "العروبة والإرهاب الإسلامى سنه 1990وتهديدهما لأمريكا الشمالية!! ". وقدمت بحوث ودراسات كثيرة من أساتذة متخصصين، واهتمت أجهزة الإعلام الكندية بالمؤتمر الوقح وعاقديه المفترين، ولم يتحرك أحد من المعنيين لكشف أكاذيبه المتعمدة.. قلت: إن عام 1990 الميلادى قد انتهى نصفه ولم يفقد دين من الأديان ضحايا وخسائر عشر ما فقد الإسلام، إن مئات من القتلى فى الهند وفى فلسطين؟ وفى الاتحاد السوفيتى، وفى أفريقيا شرقا وغربا؟ ذهبت فى صمت، لا عزاء ولا رثاء!! إن حاخاما يهوديا قتل شابا فلسطينيا فجوزى بثلاثة شهور، تقضى فى مستشفى، وكان القتل عمدا وقصدا، وكان العقاب هزلا لغرض مكشوف. أما فى أرجاء القارات فشهداؤنا لا يكترث بهم أحد! كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان! ومع ذلك فنحن إرهابيون! نكره السلام ونستمرئ العدوان..! وغيرنا المسالم الطيب! وفى حضارة العصر أن ينسف البيت العربى، ويبيت أهله فى العراء؟ ويسمون إرهابيون، أما أمريكا حامية هذه المآسي فهى حارسة حقوق الإنسان!! (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون) ص _032(5/28)
حراس الشعائر أطللت من شرفتى على مياه البحر المتوسط والنسيم يموج صفحتها، وقلت: أستقبل الآفاق الممتدة، وأفكر فى عظمة الخلق والخالق! إن الشمس تؤذن بالمغيب، وقرصها الأحمر يوشك على الانحدار..! وبينما أنا أقلب الطرف فى الأرض والسماء سمعت من الإذاعة أذان المغرب بالقاهرة، لقد اختفت الشمس هناك، وبعد خمس دقائق ستختفى من الإسكندرية، ويبدأ تحول اليوم الحاضر إلى جزء من أمس الدابر.. وتساءلت: أيسود الأجواء صمت فى الفترة بين أذان القاهرة وأذان الإسكندرية؟ كلا، إن هناك مئات من المؤذنين على امتداد خطى الطول اللذين تقع عليهما العاصمتان، كما أن بين الخطين فى شتى المدائن والقرى من يرقبون الشمس عندما تميل ثم يشقون الصمت بالتكبير والتوحيد. وبدا لى كأنه فى كل دقيقة تمر يقع أذان يذكر الناس بوحدة الله وعظمته، ويناشدهم القيام بحقه.! وامتدت الفكرة فى نفسى فقلت: أتخلو دقيقة ـ أو ثانية ـ من أذان، بدءا من وادى النيل إلى الرباط والدار البيضاء على شواطىء الأطلسى؟ هذه الأقطار تقع على خط "جرينتش " يتنقل الغروب فيها خلال ساعتين! ومع اختفاء الأشعة فوق هذه الأرض الدوارة يتصل صوت المؤذنين ليلف الكرة الطائرة شرقا وغربا.. ثم قلت: ذاك فى دار الإسلام وحدها، فإن سلسلة الأذان الصادحة بأنغام التوحيد تنقطع فى بلاد تعبد الأوثان، أو ترفض الإسلام! وسرح ذهنى إلى مئات الملايين فى الهند، وفى الصين، وأجيال أخرى من الخلائق.. إن آباءنا ـ مقدورين مشكورين ـ حاولوا أن لا يخرس خط من خطوط الطول أو العرض عن نداء التوحيد ودعوة التوحيد، وقد بذلوا جهدهم، ثم ذهبوا إلى الله يقولون له: ذاك ما قدرنا عليه.. ص _033(5/29)
أفقت من هذا الاستغراق على منظر عجب، فإن عشرات من العصافير- أو مئات- كانت تلف قريبا منى بقوة، وتقوم بمظاهر حماسية ساحرة: أهى تودع النهار المدبر وتستقبل المساء القادم؟ فلأهتف معها بهذا الدعاء: " اللهم إن هذا إقبال ليلك و إدبار نهارك وأصوات دعائك فاغفر لى ". وأخذت أجيب المؤذن لصلاة المغرب! إن الأذان فى الإسلام حديث معروض على الآذان والسرائر، ويجب أن نحدد موقفنا منه بتصديقه وترديد ما يقوله المؤذن توكيدا له وشهادة فوق شهادته. وذاك معنى الحديث الذى رواه سعد بن أبى وقاص "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، غفر الله له ذنوبه ". والناس فى معايشهم وأسواقهم ومنازلهم يستغرقون فى شئونهم الخاصة، ويكادون يذهلون عن كل شىء، فإذا كشفوا هذه الغمة، وذكروا حقوق الله، وأصاخوا إلى صوت الداعى، فإنهم يبدؤون رحلة إلى الحقيقة. الفلاح قى حقله، والراعى فى غنمه، والمسافر فى رحلته، والعامل فى مصنعه، كل أولئك قد يشغلون بما هم فيه حتى ليستغرقهم، فإذا انتصر فى نفوسهم هاجس الحق، ونشطوا إلى الأذان، كانت لهم عند الله مكانة حسنة، وقد جاء فى الصحاح أن النبى ـ صلي الله عليه وسلم ـ كان فى سير له فسمع رجلا عن بعد يصيح: الله أكبر الله أكبر! فقال النبى ـ صلي الله عليه وسلم ـ: على الفطرة!! ثم قال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال الرسول: خرج من النار.. !! فاستبق القوم إلى مصدر الصوت، فرأوا راعى غنم حضرته الصلاة، فقام يؤذن.. إن الذين يغالبون النسيان ويحرسون الشعائر، ويقيمون حقوق الله لهم أجرهم ونورهم. ونحن فى هذا العصر الذى يعبد اليوم الحاضر، وينسى اليوم الآخر ينبغى أن نتجاوب مع صيحات الأذان ونتشبث بذكر الله . ص _034(5/30)
الغيبة الجماعية التحريش بين المسلمين، وتعميق الجراح فى الجسم المثخن، عمل تقوم به الآن فئات كثيرة، وتسخر له أقلام شتى بأسلوب ماكر.. هناك من يقول: الفلسطينيون خونة! ومن يقول: أهل العراق أهل النفاق والشقاق! ومن يقول: الكويتيون خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت! ومن يقول: المصريون فراعنة إذا قدروا، وعبيد إذا عجزوا! ومن ومن... الخ. وتلك كلها كلمات ماجنة وضيعة؟ أحسب أن مروجيها مأجورون لجهات أجنبية تكيد لأمتنا وتود لها العنت! وسواء أُلقيت كلمات عابرة أو نكات ساخرة فأثرها القريب والبعيد خطير على وحدتنا؟ وتماسكنا فى هذه الأيام العصيبة. لقد حرم الإسلام البهتان والغيبة، وعد كليهما من الكبائر، والبهتان اختلاق العيوب ورمى الأبرياء بها، أما الغيبة فهى التحدث بعيب موجود مادى أو أدبى، على سبيل التنقص والفضيحة.. وعند التأمل فى نصوص الشريعة نجد التحريم يتناول ما يجرى على ألسنة الأفراد من إثم يراد به إساءة امرىء فى نفسه أو أسرته، لكن الذى يقع الآن يمكن تسميته غيبة جماعية أو افتراء جماعيا، الغاية منه إهانة شعوب كبيرة وتوهين أواصر الوحدة الكبرى التى تلمها، وإعادة العرب إلى الجاهلية التى ردم الإسلام مآثرها ورفض مفاخراتها ومنافراتها! أى أنها غيبة مركبة، أو رذيلة مضاعفة، ونتائجها إيغار الصدور، وتقطيع الصفوف، وإظلام المستقبل.. ولن يستفيد من هذا العمل إلا أعداء الإسلام، والحراص على تمزيق أمته وإضاعة جماعته!! ومبلغ علمى أن أنور السادات عندما قرر الصلح مع إسرائيل كانت من وراء قراره الكلمات المسمومة التى تناوله بها بعض الصحافيين وهو يناشد دول الخليج معونة مصر! ص _035(5/31)
لقد اعتبروه سائلا كريها، وذكروه بصفات مقبوحة!! إن هذا السفه المنكور غير تاريخ الأمة العربية على نحو هائل مزعج!! واليوم يراد أن يتحول الخصام الحكومى إلى عداوات شعبية، تضيع فيها قضية فلسطين، وينهار فيها البيت العربى الكبير، وترث أجيال كراهية أجيال، وتذهب وصايا الله فى جمع الكلمة هباء.. (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) عندما أصف واقعا سيئا لإنسان أو لجماعة على نحو طائش، فليس يغنى عنى أنى أقول الحق!! ففضح البشر ليس كلأ مباحا، نعم عندما أذكر أحدا بما يكره، فلا يقبل عذر لى أن أقول: لقد قررت الحق! ولا بأس أن أذكر هنا قصة ماعز الصحابى الذى قتل لارتكابه جريمة الزنى! فعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال: "جاء ماعز الأسلمى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد على نفسه بالزنى أربع شهادات يقول: أتيت امرأة حراما، وفى كل ذلك يعرض عنه رسول الله ! " فذكر الحديث إلى أن قال الراوى "قال رسول الله لماعز: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرنى. فأمر به رسول الله أن يرجم، فرجم، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذى ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رُجم رَجْم الكلب ". قال الراوى: "فسكت رسول الله ، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا نحن ذا يا رسول الله، فقال لهما : كلا من جيفة هذا الحمار، فقالا يا رسول الله، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، من يأكل من هذا؟ ص _036(5/32)
فقال رسول الله : ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذى نفسى بيده إنه الآن فى انهار الجنة"! يقول الله تعالى فيمن يختلقون المعايب ويرمون بها الناس : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) وأشعر أحيانا أن الغيبة قد تكون أنكى من البهتان، فإن المفترى يمكن كشف كذبه وجره إلى القضاء ليلقى عقابه، أما الذى يعيب شخصا أو قوما بسيئة هى فيهم ليسقط مكانتهم، فهذا هو الذى يخاف شره، ويتقى ضره. والمطلوب من أهل الإيمان أن يستروا الزلل لا أن يشيعوه وأن يعينوا العاثر ليقوم، بدل أن يزيدوا هاويته عمقا لتبتلعه..!! ص _037(5/33)
فرقة.. تفتك بالجماهير أمراض المسلمين على اختلاف أقطارهم متشابهة، قد تفلح المسكنات فى علاجها هنا، على حين تتحول فى أقطار أخرى إلى أوبئة جائحة.. ولم أر فى القارة الهندية علة غير معروفة لدينا، لكن هذه العلل هناك استفحل شرها، وطالت آثارها، وتوطنت جراثيمها، فالمسلمون منقسمون إلى سنة وشيعة، والشيعة ألوان! فهناك الإمامية الإثنا عشرية وهم ينتظرون الإمام الغائب ليملأ الدنيا عدلا بعدما ملئت جورا. وهناك الشيعة البهرة الذين يصلون ويسلمون على المعز لدين الله، والحاكم بأمر الله.. وهناك الاسماعيلية الباطنية الذين يرون أغاخان ممرا لتيار إلهى يجعل جسده يوزن بالنفائس!! أما أهل السنة فالانقسامات بينهم لا تقل خطورة.. السلفيون يكرهون المتصوفة، ويعلنون عليهم حربا شعواء، وهم مع أهل الحديث يكرهون أتباع المذاهب الأخرى، ويرون الاستنباط المباشر من السنن، وهناك حرب أخرى بينهم وبين الأشاعرة. والأحناف مع جمهرة المسلمين الأعاجم يلتفون حول مذهب أبي حنيفة، ويؤثرونه على غيره. ويوجد رجال الدعوة المشتغلون بالتبليغ، ويوجد إصلاحيون يقومون بنشاط عام يشبه نشاط الإخوان المسلمين فى الشرق العربى، ويوجد قوميون؟ ومنحلون وغوغاء يطلبون العيش على أى نحو. وهناك فرق مرقت عن الإسلام، وظاهرها الاستعمار بقوة لتنال منه، كالقاديانية والبهائية. والآفة الجديرة بالتأمل أن كل تلك الفرق تعيش على هامش الحياة، وتحيا صريعة الفقر الشديد، والتخلف الحضارى المحزن.. ص _038(5/34)
وقد رأينا أن العالم المعاصر لم ير حرجا فى إيصال الذرة إلى الهند، ففجرت قنبلتها من بضع سنين، على حين حاصر باكستان ومنعها من اقتفاء أثر الهند!! والواقع أن الهنادك يتلقون دعما كبيرا فى كل ميدان، حتى قيل: ليس فى الهند بقعة لم تزرع، وإنه ـ خلال سنين ـ ستكون الهند أمة صناعية مرموقة!! وأرى أن الأوضاع الإسلامية فى الهند تحتاج إلى علاجات من المنبع، وأن ترك الفرقة المذهبية، والاضطرابات الاجتماعية تفتك بالجماهير، معناه ضياع الحاضر والمستقبل.. ويمكن أن يقوم الأزهر بتوضيح العقائد والأركان والأخلاق التى يجتمع المسلمون عليها، وأن يتناول بحكمة أسباب الفرقة مهونا من شأنها، ومنذرا بعواقبها إن بقيت. وحبذا لو تألفت لجنة للتقريب بين المذاهب السنية أولا، بوصف أهل السنة هم كتلة الإسلام الكبرى، ثم تقوم هذه اللجنة بجهد آخر فى التقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة. من النصائح الحسنة: " لا تجعل شمس اليوم تخفى وراء غيوم من المستقبل ينسجها الوهم " والواقع أن غيوما من الماضى تنبعث بين الحين والحين، فتحجب الرؤية أمام المسلمين المعاصرين.. فى أول نصر للمسلمين قال الله لهم: (فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم) لما تسلل إلى النفوس تطلع تافه إلى متاع الدنيا.. ثم قيل لهم فى توكيد أسباب النصر: (و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم) والواقع أن الخلافات العلمية لن تكون سبب وقيعة بين الشعوب، إذا صلحت السرائر، وزكت الضمائر.. والأمر يحتاج إلى يقظة علمية وخلقية، فإن أعداء الإسلام أحدقوا به، وتحدثهم نفوسهم بأنهم موشكون على القضاء عليه.. وبقاؤنا متفرقين هو ذريعة الفتك بنا وبرسالتنا، فلنسارع إلى جمع الشمل وتوحيد الكلمة، والإفادة من المدنية الحديثة بالقدر الذى يمحو التأخر الشائع فى كل مكان. ص _039(5/35)
فتاوى متعسفة من الآفات التى اعترضتنى فى طريق الدعوة، أناس عندهم رغبة مجنونة فى الحكم بالتحريم على أى شىء! فلو استطاعوا تحريم الهواء لأصدروا بذلك الفتوى، ولو ماتوا مع الناس مختنقين! وهم يتصورون الإسلام رسالة تسكن من العالم الرحب حارة ضيقة لها تقاليدها ولها مراسمها، فما يصلها بالعالم ممنوع مهما كانت طبيعته، والمهم بقاء الحارة منطوية على أصحابها وحسب.. وأصحاب هذا الفكر قد يصلحون بوابين على خرابة، أما أن يكونوا دعاة لدين عالمى، يفتح صدره للأعصار والأمصار، ويتجاوب مع فطرة الله فى الأنفس، ويتفاهم مع الرجال والنساء فى الشرق والغرب، فهذا مستحيل.. رأيت أحدهم ينظر إلى الشارع مكفهر الوجه، فقلت له مازحا: ما أغضبك؟ فقال: رءوس الرجال عارية وكذلك وجوه النساء وأيديهن، والواجب تغطية هذا كله، قفاز فى يد المرأة، ونقاب على وجهها، وقلنسوة أو عمامة على رأس الرجل، وبذلك يصير المجتمع إسلاميا، واسترسل يقول: إنه فى الإحرام بالحج والعمرة، لا غطاء على الرأس، ولا نقاب على الوجه، ولا قفاز فى اليد، فإذا انتهت المناسك تغيرت الأوضاع.. ولم أر أن أجادل هذا المسكين، وحسبته يعبر عن فكر عامى، يلتزمه بعض المتطرفين، يحسبونه دينا وما هو بدين، حتى قرأت لعالم كبير فتوى بأن ستر اليد داخل قفاز من تمام الحجاب! وبذلك زاد قيد آخر على حراك المرأة وعلى دائرة المباح الذى كفله الشارع لها.. وراجعت معلوماتى من كتاب الله وسنة رسوله؟ فوجدت الكلام رأيا خاصا لصاحبه، ولا يجوز أن يسمى دينا ولا شبه دين!! كانت المرأة تلقى النبى، وفى أصابعها خاتمها؟ فما ينكر ذلك عليها، وإنما يتساءل فقط: هل أخرجت ما عليه من زكاة؟ ص _040(5/36)
فما معنى زياد ة القيود المفتعلة على المرأة وإيهام المؤمنات بأن اليد عورة يجب سترها؟ هل المقصود زيادة العقبات أمام انتشار الإسلام؟ أم المقصود جعل المؤمنات يكرهن الإسلام ويضقن به؟ روى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أن امرأة أتت النبى، ومعها ابنتها، وفى يد ابنتها أسورتان غليظتان من الذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا! قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما فألقتهما إلى النبى وقالت: هما لله ورسوله ". وفى رواية ثوبان، فى قصة هند بنت هبيرة أنه كانت فى يدها خواتيم ضخام، فجعل رسول الله يضرب يدها.. وتمام القصة يشير إلى رفض رسول الله هذا المظهر الدال على الخيلاء والاستعلاء، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أن اليد عورة. والعلماء على أن غضب الرسول كان لعدم إخراج الزكوات على هذه الحلى، ولو أخرجنها ما غضب منهن، يدل على ذلك ما رواه جابر بن عبد الله قال: (شهدت العيد مع رسول الله ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم! فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين - وجهها أحمر فيه سمرة - فقالت لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير. قال جابر: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين فى ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن). والحديث كما ترى ظاهر فى أن وجه المرأة ليس بعورة فقد وصفه الراوى دون حرج، وفى رواية البخارى: كنت أرى أيدى النساء تهوى بحليهن فى حجر بلال فاليد ليست عورة.. ص _041(5/37)
إن رسولنا بعث بالحنيفية السمحة، وقد أنذر بالويل من يأتون من عند أنفسهم بالمشكلات والمتاعب فقال : هلك المتنطعون.. ولو كلفنا النساء المسلمات بلبس القفازين لعجز أكثر من نصفهن عن ذلك ووجدن فى لبسهما العنت.. وأصارح بأنى كنت التمس العذر لبعض الغلاة، وأقول: مخلصون ينقصهم الفقه فى دينهم، وعل إخلاصهم يغفر جهلهم، بيد أنى بدأت أشعر بالقلق من أن يكون وراءهم من يتعمد تعسير الإسلام خدمة لمأرب أجنبية!! إن الإسلام يلقى محنا خطيرة فى هذا العصر، وقد استيقنا من أن أصابع غريبة تحيك له الدسائس، وتتعمد نشر فتاوى متعسفة للمتقعرين والمنحرفين، حتى تصرف أتباعه عنه وتصد الداخلين فيه، وهنا الخطر!! ص _042(5/38)
وبقى فى الحج كلمة أتجاوب مع العاطفة الصادقة فإذا تجاوزت منطق العقل أغلقت أمامها قلبى وأبيت الانسياق معها! أذكر وأنا طالب أنى كنت شديد الرغبة فى الحج مع إدراكى لعجزى ويقينى أنى غيرمكلف به.. وفتشت فى نفسي عن السر وراء رغبتى الجامحة، فخيل إلى أنه الأمل فى دعوة تستجاب هناك، تفرج كروبى! وتحرك عقلى يقول: الذى يستجيب هناك يستجيب هنا.! إننى أولى وجهى شطر الكعبة، وليس من الضرورى أن أراها، والكعبة بناء لا يضر ولا ينفع، وإنما أعبد رب البيت الذى يطعم من جوع ويؤمن من خوف.. ومرت الأيام أسرع مما أقدر، وزرت البيت العتيق حاجا ومعتمرا، وجاورته سنين عددا، وكان بر الله بى أربى من أملى القاصر، وعرفت من أسرار الحج ما لو عرفته أمتنا لصلحت أحوالها الروحية والسياسية.. الحج هو الركن الخامس فى ديننا، ووجوبه على المستطيع، فما معنى الاستطاعة؟ إن العاطفة الجياشة تكلف صاحبها فوق ما يحتمل وقد رأيت ناسا فى مكة المكرمة ينامون فى الطرق، ويعيشون على الطوى، ويتعرضون لمحنة بعد أخرى لقلة النفقة وقسوة الغلاء، فهل تتحقق الاستطاعة مع هذا الشظف والحرمان؟ إذا لم يكن للمرء بيت يؤويه، ويتطهر فيه، ويخرج منه إلى المشاعر مصون المروءة والكرامة فلا استطاعة هنا، ولا تكليف بحج..!! إننى أحب أن ترتفع العبادات بنا لا أن نهبط نحن بالعبادات، وأمتنا تتحمس للشكل، وقلما تكترث بالموضوع، وذاك من أسرار تخلفنا، وقد بذلنا أوقاتا وجهودا فى تصحيح المراسم، ولم نبذل عشر ذلك فى تصحيح الفكر، وضبط العلاقات الاجتماعية بين الناس.. ص _043(5/39)
ومن هنا فنحن فى أى زحام تسودنا عقلية القطيع، ولا يسودنا نظام الصف، وإحكام الخطو، وملاحظة الغير.. القطيع عندما يندفع بالأثرة وحب النجاة ومزاحمة الآخرين والمضى مع الرغبة الجامحة ولو على أشلاء الضعاف، أما نظام الصف فهو محكوم بالعقل والأناة والإحساس بالآخرين، والتصرف بروح الفريق، ومسئولية الكل عن الفرد، والفرد عن الكل.. !! ويؤسفنى أن أصارح بأن التربية الشائعة فى أمتنا، لا تكترث بتنظيم الصفوف، ولفت كل امرىء إلى من معه، أو إلى من حوله.. لقد ساءنى كما ساء غيرى موت جمهور كبير من الحجيج فى أحد الأنفاق وتساءل الكثيرون عن السبب؟ وهو منهم قريب لو أرادوا الحق، وأخشى أن يكون تجاهله سببا لتكرار المأساة!! إن الجماهير فى العالم الثالث لم تلق التربية الواجبة فى آداب المرور، وحقوق الطريق، والرفق بالضعفاء، ورعاية النظام، وأخذ الحذر، وتدبر العواقب، ونصح الغافلين.. وكثير من الدعاة والمعلمين يهتمون بأنواع الجدل فى القضايا الفقهية أكثر مما يهتمون بتكوين الرشد فى مواجهة المأزق والمضايق.. وقد كدت أهلك فى أحد مواسم الحج للرعونة السائدة بين الناس، شعرت بأنى لا أتحرك تبع إرادتى، وأن موجات بشرية تجرنى يمنة ويسرة، فأدركت خطورة الموقف، وتسلقت سيارة نقل من الخلف حافلة بالركاب، لم أستطع دخولها ولا النزول منها، وأخذ العرق يسيل من وجهى وظهرى، وكنت أسمع خلال التلبية العالية أصوات الاستغاثة.. ثم بوغت بموكب آخر من الإفريقيين الأشداء يجرى صوبنا من الناحية الأخرى، فشممت ريح الموت، ولولا نجدة مسعفة من أقدار الله تحركت بها السيارة لهلكت! لماذا تكون المسيرة بهذه الفوضى؟ هذه غرائز العالم الثالث للأسف الشديد، لا يصلحها إلا تدين واع مهيمن.. يجعل عقل الإنسان يغلب طبع الحيوان.. ص _044(5/40)
فروق فى أيام الصبا كانت عاطفة التدين تنضح على أعمالنا ومسالكنا، وتهيمن عليها بدءا ونهاية، وهى عاطفة لم تكن من صنع أيدينا، بل كانت تجيئنا من أرجاء المجتمع كله، كأنها الهواء المنساب فى جوه! نصحو مع الفجر لنبدأ مذاكرة الدروس بعد صلاته، ولاحظت أننا كنا نطالع الدرس الذى سوف يلقى علينا، فنقرؤه مستكشفين، قبل أن نصغى إليه متعلمين، أى أننا كنا نشارك فى الدراسة قبل أن نجلس للتلقى! ولم يكن هناك قط ما يسمى بالدروس الخاصة، فالحصص توزع علينا بالتساوى لا يتفاوت فى حضورها مجد ولا كسول. وكنا نشعر بمرة الخطأ، فارتبط الصواب بالكرامة الشخصية، وحرصنا على النجاح حرصنا على الحياة.. والفجر بداية اليوم والنشاط، وعقب العشاء تكون المذاكرة قد انتهت تقريبا لنستجم ونستعد لليوم التالى. من حسن حظنا أن التلفاز لم يكن اكتشف، وأن السهر فى الحلال لم يكن مألوفا فكيف بالسهر فى اللغو؟ لقد نتج عن ذلك إخلاص للعلم، وتوفر عليه استفادت منه أمتنا، كما استفادت من ارتباط العلم بالخلق والدين، فكان الجيل السابق أرجح كفة وأفضل مالا. وما شاع بيننا يشبه المألوف فى أغلب الطوائف، فالفلاحون فى قراهم كانوا يستيقظون مع الفجر، وربما صحوا قبله للاستغفار والابتهال، فإذا قضيت الصلاة انطلقوا إلى الحقول متزودين بأيسر الطعام، ويغلب أن يتناولوا غداءهم فى أثناء العمل الشاق، وأن يصلوا الظهر والعصر وسط الزراعة، فإذا اقترب المغرب عادوا إلى بيوتهم، ليتناولوا العشاء ويستعدوا للنوم.. لم تكن كهرباء السد العالى قد أمدت البيوت بأجهزة الإذاعة! ولم تكن المجالات ممهدة للسهر والثرثرة، كان التبكير بالنوم يتبعه تبكير باليقظة, وحفاظ على حق الله وحق الحياة.. ص _045(5/41)
ولذلك بورك فى الثمار فجاءت فيضا لا غيض معه، وأذكر أن شهر أكتوبر بعد جنى القطن، كان الشهر الذى يوسر فيه المعسر، ويتزوج الأعزب، ويكتسى العريان، ويوفى المدين بما عليه، ويغنى فيه الفلاحون: "نورت يا قطن الليل.. ". أما الآن فالليل لا ينيره قطن ولا قمح، لقد تغيرت الأخلاق، وفترت الهمم، فمن الذى يذرأ البركة فى الحقول؟ إن الشيوعيين كفروا بالله، وأنكروا وجوده، فلم يرسل الله عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود! وإنما أوحى إلى الأرض أن تضرب عن الإنتاج العادى! فإذا الروس يشترون بكل ما لديهم من ذهب قمحا ليأكلوا، وانتهى الذهب وبقيت الأرض مضربة، وسقطت الشيوعية!! وأترك الحديث عن الطلاب والفلاحين لأنظر إلى العمال وأصحاب الحرف، إن مصانع النسيج أيام طلعت حرب كانت تتفوق على مثيلاتها فى البلاد العريقة، وكانت الطبقات الكادحة تثمر الذهب!! ويوجد اليوم من يطلب الحقوق ولا يؤدى الواجبات، ومن يعيش على التسويف ويحرص على شهواته! ومن يذكر نفسه فى كل وقت ولا يذكر الله إلا قليلا.. من ستين عاما ـ عندما كنت طالبا ـ كان الإنجليز يحتلون مصر، ولكن مراجل الغضب على وجودهم كانت تغلى باستمرار، وتنفجر بين الحين والحين مقدمة أفواج الشهداء. كان هناك إحساس عارم بحق الله، وحق الأمة.. أما الآن وبعد أن طهر الله البلاد من الغزاة الذين احتلوها فإن الشعور بارد بما يقترفه الغزاة فى أراض أخرى يعيش عليها أشقاؤنا، ويتطلعون منا إلى عون مسعف.. إن عاطفة التدين أصيبت فى صميمها، وحل محلها جدل بارد فى بعض القضايا، والدين عندما يتحول إلى جدل وتهارش على المظاهر الفارعة فسوف ينتهى حتما، لأن الدين هو القلب العامر وليس الفم الهادر.. ص _046(5/42)
تزوير كان اليابانيون عقلاء عندما اقتبسوا من الحضارة الغربية جانبها الصناعى، تاركين ما عداه لأصحابه، لأن ما لديهم أهدى وأجدى! وكان "محمد على" باشا مؤسس الأسرة المالكة السابقة أعقل وأبصر من حفيده الخديوى "إسماعيل " عندما أرسل بعوثا من الأزهر لتتعلم ما ينقصها من العلوم الحديثة والحرف النافعة، فكانت هذه البعوث دعامة الدولة التى أقامها فشدت أزره ودعمت سلطانه! أما إسماعيل فقد تمنى أن تكون مصر قطعة من أوروبا، ولكى يحقق أمانيه بنى دار "الأوبرا" وظن أن "التمثيل " يغنى عن الحقيقة، وأن الفن الناعم والغناء اللاهى يدلان على تقدم الشعوب، فكانا الطريق إلى زوال ملكة وإذلال أمته.. إن الغزو الثقافى أنكى من الغزو العسكرى لأن الأول يمحق الشخصية، والآخر يهزم الأجسام! الأول يسلب التراث والوعى، ويجعل المهزوم يستحلى قيوده. أما الثانى فهو جرح متجدد الآلام، ينادى بالثأر، ويوم لك ويوم عليك..! والاستعمار العالمى اجتهد بعد غلبه المادى أن يتحول إلى استعمار ثقافى كى يمحو خصمه ويطمس وجوده.! قرأت مقالا فى هذا الموضوع للواء "أحمد عبد الوهاب " كشف فيه كيف أن بعض حملة الأقلام عندنا خدم المستعمرين بأكثر مما يخدمون أنفسهم، وهاجم عقائدنا وتقاليدنا واستمات فى تجريحها وتشويهها!! يقول "سلامة موسى" فى كتابه "اليوم والغد" " 00أريد من التعليم أن يكون أوروبيا لا سلطان للدين عليه، وأن يتولى تعليم اللغة العربية رجال متمدينون يفهمون على الأقل نظرية التطور، ولا يعتقدون أن العربية أوسع اللغات، وأريد أدبا مصريا أبطاله فتيان مصر لا رجال الدولة العباسية ولا رجال الفتوحات العربية. أما الثقافة الشرقية، والتوكل على الآلهة فلا مكان له الآن.. الخ. " ص _047(5/43)
وذهب"سلامة موسى" وجاء بعده "لويس عوض" الذى اجتهد فى إبعاد الشباب عن الدين، والذى يقول عن نفسه على طريقة "إياك أعنى واسمعى ياجارة": "بعد حصولى على الثانوية توقفت عن الصيام، وكنا فى بيتنا لا نتكلم أبدا فى موضوع الصوم والصلاة بل كنا نعدها قلة أدب أو قلة ذوق أن يسأل أحد الآخر: هل أنت تصوم أو هل أنت تصلى؟؟ "، وذهب "لويس عوض " بعد تاريخ حافل فى كلية الآداب، كما ذهب من قبله "سلامة موسى" بعد كفاح طويل فى نشر الإلحاد والفوضى، وخلفت من بعدهما خلوف تسير فى نفس المنهاج وتستقى من الينبوع ذاته، ولكنها كانت أكثر دهاء وأوسع مكرا وتعلمت من الهزائم والانتصارات أن تدور حول أغراضها، وأن تختل القارئ الساذج بما تختلق من موضوعات عامة وقضايا مائعة، والمهم أن تبعد العروبة عن الإسلام، وأن تبتعد بالتربية عن العقيدة، وأن تبتعد بالأدب عن القيم النبيلة، والروابط التقليدية بالعرف، والتراث.. إننا نحن المسلمين فى فترة يقظة لاستعادة ما فقدنا، وحراسة مستقبلنا حتى لا نتعرض لما تعرض له آباؤنا من فتن وهجمات، والغرب اليوم فى مرحلة ترف ورفاهية لم تفقده بعد قواه! وما يستمرئه من لذات نجسة لا يؤثر فيه كثيرا، ولكنه يقتلنا إن قلدناه ويجزنا إلى هاوية تذهب بالقليل الذى ربحناه.. والأقلام التى ترنو بإعجاب يجب كسرها قال اللواء "أحمد عبد الوهاب ": إن الغرب يطالعنا كل يوم بقيم جديدة يصل الفحش فى أغلبها إلى حد يفوق كل تصور! من أمثلة ذلك ما نشرته المجلة الفرنسية "ليفن مانت " فى 18/7/91 فى تحقيق صحفى عن "الخيانة الزوجية" قدمت له بكلمة على الغلاف جاء فيها: لم تعد الخيانة الزوجية اليوم كما كانت من قبل إن الخيانة الزوجية رباط يشد الزوجين!! نقول: ما هذا العقد الذى تشده الخيانة وتقويه..!! أما سلامة موسى فيقول: كانت المرأة الفرنسية أعظم ما حرك وجدانى: أريد حرية المرأة كما يفهمها الأوروبى!! ولا تزال المدرسة التى أنشأها "سلامة موسى"(5/44)
و"لويس عوض " وينتمى إليها صحافيون كثير، لا تزال تقود الغزو الثقافى، وتزين أرجاسه للمخدوعين.. ص _048
حسبنا الله ترددت طويلا قبل أن أكتب هذه الكلمة، ولكن مصادرة كتابى "كيف نتعامل مع القرآن " الذى صدر أخيرا أملت على أن أحسم الموقف.. إننى أحب المملكة العربية السعودية لأن علمها يحمل شعار التوحيد! ولأن ملكها يخدم الحرمين الشريفين! ولأن تراثها شهد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم يخرجون من ديارهم لإخراج العالم من الظلمات إلى النور.. وشىء آخر ينبغى أن أذكره، لقد آوتنى المملكة عندما تنكر لى السادات؛ واضطرنى أن أترك وطنى مهزوما مظلوما، إننى وجدت أذرعا مفتوحة، وصدورا مشروحة، واشتغلت بالتعليم مع نفر من أنبل العلماء وأذكاهم، وأديت واجبى على نحو أرضيت به ربى وأرحت ضميرى!! بيد أننى لاحظت ما رابنى وأعيانى! هناك شيوخ على عقولهم أغلاق، وفى قلوبهم قسوة؟ يتعصبون للقليل الذى يعرفون، ويتنكرون للكثير الذى يجهلون، قلت: لعل الزمن يفتح أغلاقهم ويلين قلوبهم.. ويظهر أنى كنت متفائلا أبعد من الواقع.. إنهم لا يعطون الرأى الأخر أى حرمة!! أذكر أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال بعد انفضاض الأحزاب من حول المدينة: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة" وصدع الصحابة بالأمر، ولكنهم بعد مراحل من الطريق اختلفوا، قال بعضهم: "ما نضيع وقت العصر، وما أراد بكلمته إلا استعجالنا وقهر كل عائق عن المسير، وبجب أن نصلى قبل دخول المغرب، وصلوا فى الطريق، وأنفذ الآخرون الأمر على ظاهره، وصلوا فى بنى قريظة".. قلت: لو كان هؤلاء الحنابلة المتشددون حاضرين لقالوا لمن استعجل الصلاة: يا عدو الله ورسوله تعصى النبى وترفض عزيمته علينا! إن هذا نفاق!! كيف نصلى فى الطريق وقد أمرنا بالصلاة فى بنى قريظة؟ ص _049(5/45)
ولكن المجتمع الأول كان أنقى وأطهر، صاحب الرأى ذكر ما عنده دون محاذرة أو خشية، فالحرية فطرة، وذكر ما عنده على أنه وجهة نظر إسلامية، ما يمكن قطعها عن نسبها الدينى.. وبلغ الأمر الرسول الكريم، فلم يلق إليه بالا، وجمع أصحابه كلهم فى جبهة واحدة ضد اليهود، وأحرزوا النصر.. على هامش العقيدة، وفى فقه الفروع تبدو وجهات نظر شتى، يستطيع كل ذى رأى أن يذكر ما عنده مقرونا بدليله، ومع تلاقى العقول، وتلاقح الحوار، يظهر خير كثير.. أما أن يزعم بعض الحنابلة أن الرأى رأيهم، وأنه وحده هو الدين الحق، وأنهم المتحدثون الرسميون عن الله ورسوله؟ فهذا غرور وطيش!! وقد خرج هؤلاء من أرضهم وانساحوا فى العالم الإسلامى، فكانوا بلاء يوشك أن يقضى على الصحوة الإسلامية الناجحة، وكانوا بفقههم المحدود وراء تكوين فرق التكفير والهجرة، وجماعات الجهاد والإنقاذ، فإذا الصف الواحد ينشق أنصافا وأعشارا، هذا يقاتل من أجل النقاب والجلباب القصير، وهذا يقاتل من أجل أن تكون وظيفة المرأة محصورة فى الولادة!! وهذا يقاتل لمحو المذاهب الفقهية، وهذا يعلن حربا على الأشاعرة، وهذا و هذا.. فماذا كانت العاقبة؟ انهدام البناء وشماتة الأعداء.. إن لى فوق الخمسين كتابا أخدم بها الإسلام، ومصادرة كتابى "كيف نتعامل مع القرآن " عمل طائش يكتب لأصحابه فى صحائف السيئات.. إن مسالك هؤلاء الشيوخ أساءت إلى المملكة فى حرب الخليج، وجعلت التيار الإسلامى يضل الطريق، وما ينتظر من بلائهم أعظم، وحسبنا الله.. ص _050(5/46)
هل نرفض العوج؟! أصحيح أن البشرية ترث لعنة الخطيئة التى ارتكبها آدم، وأن هذه اللعنة تنتقل خلال الأجيال المتلاحقة لا ينجو من جريرتها إنسان؟ قلت: يا صاحبى، هذا باطل، خطأ آدم وقع منه وحوسب عليه ولا صلة لنا به! ونحن مسئولون عما جنته أيدينا وحسب! إن الذين يحسبون الدنيا سجنا نرسف فى أغلاله جزاء ما فعل أبونا الأول قوم ظلمة، وقد سودوا وجه الحياة بهذا التصور الجائر، ولعلهم المسئولون عن صرخة أبى العلاء التى يقول فيها: "هذا جناه أبى على وما جنيت على أحد. .!!". قال: الوراثة حق، فماذا ورثنا عن آدم؟ قلت: ورثنا جسده وروحه وذكره ونسيانه وضعفه وقوته وخطأه وتوبته! ورثنا ميله إلى الأرض وشوقه إلى السماء، لماذا الحديث عن خطأ " آدم " وحده؟ إن هذا الخطأ زال منذ وقف "آدم " وزوجه فى ساحة الله ضارعين : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وقد هبطا معا مغفورا لهما، فمن زعم غير ذلك فهو كاذب قال: إن نفرا من الناس يقولون: ما غفر خطأ آدم إلا دم المسيح، ويشيرون إلى قول شوقى أمير الشعراء: يا حامل الآلام عن هذا الورى كثرت عليه باسمك الآلام..!! قلت: القانون السرمدى عند الله، وفى سائر الرسالات: (ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). وشوقى فى بيته الذى ذكرت إنما يسخر من مسالك قوم عيسى الذين تضاعف حيفهم وكثرت دعاواهم.. ص _051(5/47)
المواريث التى تسرى فى دماء البشر كلهم، هى مواريث الفطرة التى تتجاوب مع الحق، وتعرف أن العالم لم ينشأ من الصفر، وأنه لابد للمخلوق من خالق، وللنظام البديع من منسق بديع، وللإدارة المحكمة من مدبر يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.. إن الفطرة المؤمنة هى الميراث المشترك بين أهل الأرض أجمعين وليست هذه اللعنة التى يهرف بها القاصرون.. على أن الفطرة تحتاج إلى حماية حتى تبلغ تمامها فالأصل أن الأجنة تخرج من بطونها سوية، وأن الثمرات تخرج من أكمامها شهية لكن بعد أن نحتاط من الآفات والحشرات التى تعدو عليها، وتصيبها بشتى العاهات، والناس يولدون بفكر مستقيم يتجه إلى الله الواحد كما يتجه السيل إلى منحدره، ويشعر بأن الفساد قبيح فهو ينأى عنه ويحس معرته. بيد أن التقاليد المعوجة والعرف السيىء تلوى زمام النشء، وتسيره فى طريق آخر، وما أكثر ما تغلب البيئة الرديئة الوراثات الحسنة، وذلك ما أشار إليه الحديث المشهور "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "!! فليست الوراثة ضربة لازب- وإن كانت عناصرها قائمة- فإن مغالبة شديدة تقع بين البيئة والوراثة تنتهى غالبا بانتصار التقاليد المعوجة والأعراف الضارة، وهذا يكشف عن ضرورة التربية الصحيحة، ويبرز العمل الحقيقى للدعاة والمربين، إنهم يكافحون أخطارا شديدة، ولكن لهم فى جهادهم ظهيران سلامة الفطرة وشرف الطبيعة الأولى والحق أن الإسلام وهو يخوض معركة الحياة له فى كل ضمير مهاد يحسن استقباله، والمهم أن نقدم نحن إلى الناس ( فطرة الله التي فطر الناس عليهَا). فقد حدثنا القرآن الكريم عن مواثيق الفطرة المأخوذة على الإنسان منذ نشأته الأولى، وهى مواثيق تغرس عقيدة التوحيد، وتقاوم دواعى الشرك، وتربط الإنسان بربه أبدا.. قال تعالى : (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا(5/48)
أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون). ص _052
وظاهر فى ميزان العدل الإلهى أن هذا الموثق من القوة بحيث ينبغى أن يغلب ما عداه! وأنه لا يقبل معه اعتذار بجهل أو غفلة، كما لا يقبل منه التعلل بوطأة التقاليد الموروثة وشدة آثارها! وعدد كبير من المفسرين يرى الآيات من قبيل الاستعارة التمثيلية كما جاء فى سورة أخرى : (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين). ولا حوار هنالك بل النظم الكريم تمثيل لخضوع العالم أجمع لربه الكبير! كذلك النداء المنبعث من كل فطرة يهيب بالمرء أن يوحد الله ويكفر بما عداه، إنه نداء من الأعماق البشرية وباعث حثيث على الارتباط بالله وحده! وقال بعض المفسرين: إنه ميثاق أخذ فى عالم الذر!! فى طور سابق من أطوار وجودنا!! ولا أدرى ما الذى نقل ذهنى إلى عالم " الجينات " أى المورثات القائمة فى كياننا؟ إننى فى هذا المجال عابر سبيل، كل ما عرفته أن هذه "الجينات" تكتنف الخلايا الحية فى أجسامنا، وأن لكل "جينة" حبلين حلزونين يكتنفانها، وأن هذه الحبال لو اتصل بعضها ببعض لكونت حبلا مسافته طول المسافة بين الأرض والقمر عدة مرات. قلت: أهذه الكائنات الذرية فى أجسامنا الصغيرة؟ ما أصدق الشاعر الذى قال للإنسان: وتزعم أنك خلق صغير وفيك انطوى العالم الأكبر!! إن هذه المورثات هى التى تشكل الإنسان بأمر ربها ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ويوجد الآن علم هندسة "الجينات " للتدخل فى وظائف بعض الأجهزة وتعديل اتجاهها! على أية حال من الخير لى أن أدع هذا البحث الذى لا أحسن القوم فيه لأقول: نحن نولد على فطرة سوية ويجب أن نحافظ على سلامتها، وأن الزعم بأننا نولد ص _053(5/49)
حاملين لعنة الخطيئة الأولى زعم مفترى! ذلك ولا نستطيع تجاهل العوائق التى تعترض مجرى الفطرة، وتصد عن سبيل الله وقد عالجها الإسلام بقبول كل توبة عن كل خطأ، والحفاوة بالنيات الحسنة ومضاعفة أجورها عندما تنمو مئات الأضعاف، وفى الحديث القدسى يقول الله عز وجل: "إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وان تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة، وان أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها اكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة" وحسبنا هذه الآية المفعمة بالرجاء: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) فلنعتصم بدين الفطرة، ولنرفض العوج الذى تقدمه أديان أخرى.. ص _054(5/50)
مذكرة للتاريخ يزيد المسلمون فى شبه القارة الهندية على ثلث السكان، أى أن أعدادهم تناهز 350 مليونا من الأنفس! وكان من السهل أن يستمتعوا بحقوق "أقلية" كبيرة، ويبقون داخل هند موحدة؛ لو أنهم أنسوا إلى معاملة منصفة؛ ومواطنة شريفة.. الذى حدث أن الاستعمار الإنجليزي الصليبى شحن القلوب ضدهم بالبغضاء، وأفهم "الهنادك " أن المسلمين غرباء، وفدوا على البلاد غزاة لنشر دينهم، وأن معاملتهم ينبغى أن تنبع من هذا الإحساس.. وقد كان المسلمون هم الحكام الطبيعيين للهند، ومكثت السلطة فى أيديهم عدة قرون.. حتى قدم الإنجليز تجارا أول الأمر، ثم استطاعوا تكوين إمبراطوريتهم فى الهند بأقل الخسائر وأتفه الجهود.. كانوا يضربون هذا بذاك، ثم يرثون الجميع، ولا أعرف ملكا عريضا تكون بأرخص من هذا الثمن.. وخضع المسلمون والوثنيون جميعا لإنجلترا، ولكن إنجلترا شجعت الوطنية الهندوكية، ونفخت فى نيرانها، فانشغل المسلمون بالدفاع عن كيانهم المبعثر على مساحات شاسعة.. فلما انتشرت روح الاستقلال فى العالم، وبدأت مقاومة الاحتلال الأجنبى، ونبتت روح الاستقلال بين الهنود جميعا، كان عدد كبير من المسلمين يشعر بأن البقاء فى الهند عسير، وأن الأفضل تقسيم البلاد بين المسلمين ـ وهم مئات الملايين ـ وبين الهنادك الذين يزيدون عليهم عددا.. وظاهر أن الفكرة أملى بها اليأس من الحياة المعقولة فى وطن مشترك، وأكاد ألمس أن الإنجليز من وراء هذه الأحوال النفسية التعيسة، فإن عداوتهم للإسلام أغرت الوثنيين بإنكار حق الحياة لأمة التوحيد، والوثنى إذا غضب فعل المآسي، ولم يتحرج من إهلاك الحرث والنسل.. ولو كانت الظروف عادية لبقى المسلمون فى الهند المستقلة الموحدة قلة تربو على الثلث، وتنال أنصبتها وفق هذه النسبة فى كل شىء!! ص _055(5/51)
وعلى أية حالى فإن مسلمى الهند الكبرى أحاطت بهم أحوال عصيبة عالمية ومحلية، دينية وشخصية، انتهت بتقسيم القارة الكبيرة إلى هند وباكستان.. ويلاحظ أن هذا التقسيم لم يتم حسب الخطة المرسومة، وأنه تم وسط برك من الدماء، قتل خلالها نحو نصف مليون مسلم، وأن النتائج المرجوة منه لم تحقق للمسلمين مكاسب ذات بال، بل ربما عادت على كثير منهم بالوبال.. ونشأت الباكستان التى انسلخت عنها فيما بعد البنغال..! وبقى داخل الهند نفسها قلة مسلمة، تبلغ نحو مائة وثلاثين مليونا من السكان، بعضهم فى ولايات منفصلة خاضعة للهند، لم يسمح لها بالانضمام إلى باكستان؟ مع رغبتها فى ذلك كجامو وكشمير، وبعضهم يملأ مدنا وقرى تعتبر جزرا وسط جماهير من الهنادك، وبعضهم أفراد وطوائف! يعيشون معزولين حيث تيسر لهم البقاء المعنت.. وإسلام هؤلاء فردى خاص، فإن التعليم فى الهند إما علمانى بحت، وإما هندوكى متعصب، وربما وجد المسلمون المنكوبون متنفسا لهم فى الجو العلمانى، فإن العلمانية هناك قد تعطى حق الحياة للمؤمن والكافر.. وقد رحب المسلمون.. بحكم حزب المؤتمر، لأنه لا يجور على عقائدنا الدينية، بيد أن هذا الحزب فقد هيمنته على الأمور، وفقد الكثرة الشعبية التى كانت توصله للحكم، وظهرت فى الحياة العامة الوطنية الهندوكية الجانحة إلى اليمين- كما يقولون-. وهذه ترى الإسلام عدوا تقليديا، ولا ترعى لأمته إلا ولا ذمة.. ولا حرج عندها من هدم مسجد بقى مرتفع المآذن خمسة قرون؟ لأن هناك شائعة بأنه بنى على أنقاض معبد هندوكى لأحد الآلهة.. والواقع أن مستقبل المسلمين داخل الهند غامض، وهم قلة مستضعفة، مع أنهم أكبر من عشر دول عربية مجتمعة!! وموقف العالم منهم صفر.. ولا تتمثل المشكلة فى هذا الموقف الجائر.. إذ المشكلة تبدأ من موقف المسلمين من دينهم، والأحوال الحضارية والأخلاقية التى تنتشر بينهم.. وهذا ما نريد إلقاء نظرة واعية عليه.. ص _056(5/52)
الزبالون والاستهداف الأجنبى أسماء الشيوخ الذين تلقينا العلم عنهم، وأسماء أسر كبيرة لها وضع مهيب فى المجتمع كثيرا ما تنتهى بالجرف التى اشتهرت بها وعاشت منها، فيقال الشيخ اللبان، والفحام، والسمان؛ والدباغ؛ والعقاد.. إلخ. وهذه الألقاب لها طابع دينى ومدنى معا! فقد شاع بين المسلمين من سنن النبوة؟ أن أفضل الارتزاق ما كان من عمل اليد، وأن طلب الحلال واجب على كل مسلم، وأن الله يحب المسلم المحترف.. وسئل رسول الله: أى الكسب أفضل؟ قال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور..". إلا أن المسلمين نكبوا بطوائف من البطالين ترفض هذا النهج، وتحتقر عمل اليد، فالفلاحة مثلا مهنة رديئة، مع أنها كانت حرفة الأنصار رضى الله عنهم! ومن أمثال البدو فى الأرياف، عندما تخطب ابنة أحدهم: "يأكلها التمساح ولا يأخذها فلاح" وازدراء الفلاحة سفه وخراب معا.. وقد قسم الفارغون الحرف فحسنوا بعضها واستهجنوا بعضا آخر، وأقاموا تقاليد اجتماعية شديدة على أساس هذا التقسيم، وكان فيما نقرؤه أن كلمة آل من دلالات الشرف، فلا يقال: ال الإسكاف، أو ال الحجام.. ومن طبائع البشر أن يصموا غيرهم بلا جريرة، وأن يرفعوا من شاءوا بغير منقبة !! وهل الافتخار بالأنساب والأوطان والألوان إلا من هذا القبيل المكذوب؟ ونحن نخاصم هذه النزعة الجائرة، وننظر إلى أبناء آدم على أنهم سواء، يهبط من يهبط بكسله وخموله، ويعلو من يعلو بجده واجتهاده، وقد تكون الجنة من نصيب امرىء خامل فى الدنيا متفوق- بخلقه- عند الله، وقد يكون العذاب حظ عال فى الأرض، كبير المنصب، مظلم النفس، قريب الشر.. والمجتمعات التى تأبى هذا الميزان ستدفع ثمن خطئها، وقد نظرت مليا فى قضايا الزبالين والكناسين عندنا، إن عملهم ضرورى فى كل مجتمع، فما معنى احتقارهم حتى يجىء المبشرون للحنو عليهم؟ إنهم جاءوا فجعلوا من الحبة قبة، وتدخلت مؤسسات دولية لترجيح كفتهم؟ وإبداء العطف عليهم.. ص _057(5/53)
قرأت كما قرأ غيرى فى جريدة الجمهورية 8/15/ 91 أن المساعدات الأجنبية التى تمنح للزبالين فى مصر تستوقف الانتباه: جمعية لحماية البيئة من التلوث تم تأسيسها وسط زرائب الزبالين بتمويل 300 ألف دولار من السوق الأوروبية المشتركة!! قرية نموذجية للزبالين بالمعادى على مساحة 30 فدانا بتمويل من السوق الأوروبية وصندوق التعاون الفرنسى !! قرية نموذجية للزبالين بالمقطم تكلفتها40 مليون دولار تمولها اليابان!! راهبات وأجانب يقيمون مع الزبالين بصورة دائمة لتقديم الرعاية الاجتماعية والصحية لهم!! لماذا الزبالون بالذات؟ هل هو نوع من التغلغل الأجنبى المنظم قصد أن يكون مصوبا نحو النخاع؟ هل هناك خطر ما ينتشر بشكل سرطانى فى هذا الجزء من جسم المجتمع دون أن ندرى؟ ذهبنا لجمعية الزبالين: مبنى خرسانى من طابق واحد.. طرقنا الباب ودخلنا. لم نجد سوى الساعى، فمجلس إدارة الجمعية بأكمله فى إحدى الكنائس !! انتظرنا طويلا حتى جاءنا "وجيه أنور" محامى وسكرتير عام الجمعية!! سألته: لماذا الزبالون بالذات هم محور المساعدات الأجنبية؟ قال: لأنهم مساكين وأوضاعهم فى الحضيض.. وينبه الدكتور المجذوب إلى نقطة هامة، فأجهزة الخابرات فى العالم تعتمد فى عملها اليوم بشكل أساسى على الزبالة والزبالين، إذ تعتمد على مخلفات المكاتب والأوراق المهملة. وعندنا- والحمد لله- تلقى الوزارات بالتقارير الهامة وهى سليمة! وهناك سبب آخر للتركيز على الزبالين بالذات وتقديم تلك الخدمات إليهم- كما يقول الدكتور المجذوب- فالزبال يذهب إلى العمارات والبيوت، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنها من خلال نوعية الزبالة، والزبال فى عمارتى مثلا يعرف بالضبط أين أعمل، والجامعات والأكاديمية التى أعمل أستاذا غير متفرغ بها.. والمساعدات الأجنبية على هذا النحو يفسرها الدكتور المجذوب بأنها مخطط.. فما الذى يهم السوق الأوروبية من الزبالين المصريين، ولديهم فى أوروبا المناطق المتخلفة(5/54)
التى تحتاج إلى مساعداتهم.. فهناك الآلاف فى لندن ينامون على الرصيف ويعانون البطالة.. وفى بروكلين بالولايات المتحدة أيضا؟؟ هل عرفنا ما يراد بنا؟ وهل نصحو؟ ص _058
نصر أبو زيد أحترم الحقيقة المجردة، وأرفض ما يعرض لها من زيادة أونقصان، ومن فضل الله علينا أن الإسلام دين مضبوط الكم والكيف لا يتحمل إضافة من بشر بعدما أكمله الله، كما أنه يتأبى على النقصان والتشويه فهو محفوظ المقادير والسمات، وكتابه آية خالدة فى الضبط والصدق (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ) ونحن مكلفون بالاتباع الدقيق، لا إفراط ولا تفريط: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل). ومن ثم حاربنا الغلو والتطرف معتقدين أن الوحى يفقد من الأثر والوجاهة بقدر ما ينضاف إليه من البدع والأهواء! أى أننا لحساب الإسلام نحارب التطرف، واحتراما لحقائق الوحى نكره الأباطيل..!! وقد شعرنا بأن عصابة من صرعى الغزو الثقافى انتهزت فرصة الفوضى الفكرية السائدة وتقدمت بشىء من إنتاجها الإلحادى تحسب أنه يمر فى أثناء الحملة على التطرف!! ونحن نؤكد أن بغضنا للمرتدين هو هو بغضنا للمنحرفين، وقد يكون أشد.. وأننا فى دفاعنا عن الإسلام نقاوم الجاحدين له والجاهلين به على سواء، وقد أدى صديقنا الدكتور عبد الصبور شاهين واجبه على خير وجه حين اعترض طريق الدكتور نصر حامد وجماعته التى تريد تحت ستار العلم الترويج لأقبح صور الإلحاد. ص _059(5/55)
يقول صديقنا الدكتور مصطفى محمود: "الخلاصة المفيدة لإنتاج الدكتور حامد أنه ينعى على الخطاب الدينى، أو يعيب عليه أنه يرد كل شىء فى العالم إلى الله ومشيئته! وهذا الرد ينفى الإنسان وينفى القوانين الطبيعية والاجتماعية.. " ثم يقول بعد دفاع حار عن الماركسية "إن الله تجلى فى القرآن كما تجلى من قبل فى المسيح.. ولكن منذ نزل القرآن فى كلمات عربية، أصبح بشريا يجوز الطعن فيه، وتجوز مناقشته، ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشرى من خطأ وصواب"!! ا. هـ. أقول: لا جديد فى كلام الملاحدة الذين زاد لغطهم فى هذه الأيام العجاف، إنه الهراء القديم وضع فى ورقة مفضضة، وأعطى عنوانا براقا ثم دفع به فى زحام المعركة بيننا وبين الغلاة كى يمر!! ومن السهل على أى ملحد كذوب أن يقول: إنه يحارب التطرف فافسحوا الطريق!! ونحن نعلم أن سلمان رشدى مثلا يحارب التطرف، ولكنه يحاربه بأفكار أقذر من الأفكار التى يروجها المتطرفون أنفسهم، وأن المنهج الراشد الذى سلكه أولو الألباب شىء بعيد عن هؤلاء وأولئك. إن الاستعمار العالمى نجح فى تكوين فئات من الناس خربة الباطن مظلمة الروح حاقدة على الله ورسوله، أو على الكتاب والسنة، أو على العقيدة والشريعة جميعا، ومهما كثر الأعداء، وهاجمونا من جهات عدة فلا يجوز أن ننسى هؤلاء أو نتهاون معهم فإنهم خونة مخاتلون لا إيمان لهم ولا أمان. ص _060(5/56)
عجبا لم يضع الاستعمار أوقاته سدى عندما وطئت أقدامه دار الإسلام، لقد شرع لفوره يغير التشريع والتعليم والتربية والتقاليد ليصنع جوا يلائمه ومستقبلا يطمئن إليه. وهاقد نضجت الأشواك التى بذرها، ورأينا ناسا يفكرون بعقله ويضربون بيده ويحاولون تغيير الأخلاق والعقائد وفق مشيئته.. والناظر عن قرب أو بعد يرى المثقفين قسمين، قسما لم يتغير للإسلام ولاؤه ولا انتماؤه وقسما آخر يعالن بكراهيته لشراء الدين وشعائره، ورغبته فى إسقاط ما بقى من رايات الإسلام فى بلاده!!، كانوا قديما شيوعيين، ثم صاروا علمانيين.. وتتغير الشارات التى يبدون فيها وتبقى ضغائنهم على الإسلام وأمته ثابتة لا تزيدها الأيام إلا ضراوة وغلوا. وهم مع ضيقهم بالإسلام ومعالمه حراص على البقاء فى دائرته! لماذا؟ حتى يؤدوا وظائفهم فى تخريبه من الداخل، إن دودة "البلهارسيا" تريد أن تبقى داخل الجسم لتعوق نموه، وتنمى علله وتجره إلى الموت جرا، ولذلك رأينا هؤلاء المرتدين عن الإسلام يرفضون المعالنة بتركه ويحرصون على البقاء فيه!! لكنهم فى الوقت نفسه لا يقيمون صلاة ولا يؤتون زكاة، ولا يقرون لله بسمع أو طاعة! إنهم يعرفون إسلاما بلا نصوص ولا أركان، ويحاربون كل دعوة إلى الاحتكام إليه أو إحياء ما أمات الاستعمار من أمره..!! واليوم وقد سقطت الشيوعية فى كل أماكنها نجدهم يملكون أزمة التوجيه ويفرضون إلحادهم صراحة أو التواء ويحاربون رموز الإسلام بكل ما لديهم من طاقة! لقد بلغت الأمور مرحلة لا تتحمل هذا النفاق، ونحن نأبى كل الإباء أن يضرب الإسلام بأيد إسلامية، ولا مكان بعد اليوم للبس أو نفاق، إما أن تكونوا أيها الناس مع الإسلام باطنا وظاهرا، وإما أن تتركوه علانية وتكشفوا كفركم بة! ويعجبنى قول المثقب من شعراء الأقدمين: فإما أن تكون أخى بصدق فأعرف منك غثى من سمينى وإما فاطرحنى، واتخذنى عدوا أتقيك وتتقينى! لا مكان بيننا اليوم لمرتد يكره الكتاب والسنة، ويصدم(5/57)
جماهير المؤمنين ثم يزعم نفاقا أنه مسلم! مسلم يحارب الله ورسوله! ياللعجب.. ص _061
يضاهئون قول من قبلهم!! وصف الله قرآنه الخاتم بقول : (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) ويقول الدكتور أبو زيد: إن القرآن "منذ لحظة نزوله الأولى، أى مع قراءة النبى- صلى الله عليه و سلم- له لحظة الوحى تحول من كونه نصا إلهيا وصار فهما إنسانيا"!! كيف؟ يقول: "لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل! فإن فهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنص يمثل أولى مراحل حركة النص فى تفاعله بالعقل البشرى، ومن ثم فإن انطلاقنا الفكرى يبدأ من حقيقة أن النصوص الدينية هى نصوص بشرية إنسانية لغة وثقافة.. ". نقول: وهذا كلام فى غاية الغثاثة والسقوط.. كيف تنقطع صلة الكلام بمنزله عندما ينقله الرسول إلى غيره؟ جاء فى سورة الزمر مثلا : (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب * قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين) وتكررت كلمة "قل " فى السياق خمس مرات!. فما معنى ابتعاد النص عن الله وتحويله إلى تراث بشرى؟ منذ قال الله لنبيه فى غار حراء (اقرأ باسم ربك ) ظل القرآن ينزل ثلاثا وعشرين سنة لم ينقطع إلا بالوفاة فلما تضايق الكافرون منه قالوا له: ص _062(5/58)
(ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) فكيف تحول القرآن من الربانية إلى البشرية؟ كان الدكتور محمد أركون- إتباعا لفلاسفة الغرب- يصف القرآن بأنه " النص " ويحاول سحب العصمة الإلهية عنه وقد اشتبكنا معه فى ندوة بالجزائر خرج منها زاريا على نفسه. ودكتورنا المصرى نصر أبو زيد يتأثر خطوات أركون، ويناصر الإستعمار الثقافى ويزعم أن القرآن بعد الوحى صار فهما لمحمد، وتراثا بشريا عاديا!! ونتساءل: هل أركون وأبو زيد ومن سبقهما ومن لحق بهما يمثلون أنفسهم فى هذا التحامل على القرآن؟ كلا إن الذين قادوا الفكر الشيوعى المادى هم.. هم الذين يقودون الفكر العلمانى الالحادى. وسنرى كيف أنهم سماسرة للاستعمار العالمى الكافر بالله والمرسلين. وكيف يغضب بعضهم لبعض ويناصر بعضهم بعضا.. ص _063(5/59)
عتمة فى العقل! أسماء القرآن معروفة ونرفض اختراع اسم آخر له، ولكننا نستغرب من الذين أسموه "النص" لماذا لم يلتزموا به ويتفقهوا أحكامه؟ كما توحى الكلمة. يقول الدكتور أبو زيد: "إذا كان مبدأ تحكيم النصوص يؤدى إلى القضاء على استقلال العقل. إذ يتحول إلى تابع يقتات بالنص ويلوذ به ويحتمى، فإن هذا ما حدث فى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية ". وما العمل والحالة هذه؟ يجب احترام الواقع وقبوله وإقصاء التمرد عليه. يقول الدكتور أبو زيد: " الواقع هو الأصل ولا سبيل لإهداره. ومن الواقع تكون النص يعنى القرآن!! ثم يؤكد الواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا. وإهدار الواقع لحساب نص ثابت جامد المعنى والدلالة يجعل كليهما أسطورة"!! ويشرح الدكتور مراده فيقول: " إن الإسلام بدأ تحرير المرأة وأعطاها نصيبا من الميراث لم تكن تناله فيجب المضى مع هذا الاتجاه، وتسوية المرأة بالرجل فى الميراث احتراما للواقع الجديد ". وعبارته هى " ليس من المقبول أن يقف الاجتهاد إلى المدى الذى وقف عنده الوحى. وإلا انهارت دعوى صلاحيته لكل زمان ومكان ". يبدو أن الشارع وافاه الأجل قبل إنصاف المرأة بالمساواة الكاملة فلنكمل نحن ما قصر فيه ! ويكرر الدكتور نفسه فيقول: "إن التمسك بالدلالات الحرفية للنصوص لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فحسب ولكن يضر الكيان الوطنى ضررا بالغا.. ". ويغمز الدكتور أبو زيد قضية عموم الرسالة المحمدية ويتابع المستشرقين الذين زعموا ص _064(5/60)
أن محمدا بعث للعرب، ولكن النصر الذى أحرزه فى جزيرة العرب أغراه بالانطلاق إلى آفاق العالم والزعم بأنه للناس كافة، وقد أحصينا- فى كتاب لنا- أن عموم الرسالة ورد فى إحدى عشرة آية من القرآن الكريم . وأن هذه الآيات جميعا نزلت فى مكة قبل أن يحرز الرسول أى نصر على المشركين فى معركة صغيرة أو كبيرة، بل إن قوله تعالى : (وما هو إلا ذكر للعالمين) نزل فى سورة القلم وهى من أوائل الوحى النازل بمكة فى السنة الأولى! لكن سماسرة الاستشراق يتبعون سادتهم بعمى عجيب! إن محمدا جمع فى شخصه وهداه سائر الأنبياء، ما يفرق بين أحد منهم، وليس ميراث محمد إلا ميراث الرسل كافة فالكفر به كفر بهم. ووثنية أعتى من سائر الوثنيات.. ص _065(5/61)
سجل آلام المسلمين طالعت هذا السجل الحاوى لآلام المسلمين فى البوسنة والهرسك ئم قلت: هل يبلغ البشر هذا الحد من التوحش؟ هل يفتنون بتعذيب ضحاياهم على هذا النحو الكفور؟ كنت أحيانا أشاهد عالم الحيوان فى التلفاز المصرى، فأرى كيف يفتك سبع بظبى أو نمر بثعلب، إنها ضربة واحدة ثم يشرع الوحش فى التهام فريسته، وما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها.. أما المسلمون بين مخالب الصرب فلهم شأن آخر! إن نفوسهم تزهق جزءا جزءا، وآلامهم تتسلط عليهم ألما بعد ألم فما تفيض أرواحهم إلا بعد أشد العذاب..! ما مبعث هذا الحقد الدفين؟ إن المسلمين رجالا ونساء بوغتوا به، وما جرى فى خيالهم يوما أن يلقوا مثله! ويماثله فى الوحشية والخسة أن أوروبا وأمريكا علمتا به فتحركتا ببطء لاستنكاره، وما تجاوزتا الكلمات الجوفاء ولا تركتا مكانهما لعمل شىء طائل، صحيح أنهما أنقذتا "سلوفونيا وكرواتيا" من بطش الصرب، وأسرع الساسة إلى إعلان استقلالهما والدفاع عنهما.. أما المسلمون فكان الحرص شديدا على عدم إمدادهم بالسلاح، وعلى الإبطاء الشديد فى حجب التأييد الدولى عنهم، إن استنقاذ الكاثوليك فى "سلوفونيا وكرواتيا " وا جب. أما المسلمون فليتركوا ليلقوا حتفهم، بعد العذاب الأليم، يجب أن نعى هذا التعصب ضد الإسلام، فى مؤسسات دولية زعمت احترامها للإنسانية المجردة وبغضها للتعصب الدينى.. ماذا نسمى الحيف الذى نزل بنا والدواهى التى حلت بإخواننا؟ ص _066(5/62)
إن السياسة العالمية ساقطة الضمير، أو هى لا ضمير لها بتة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين. إن أسبانيا فى الدورة الرياضية العالمية ببرشلونة ذكرت العالم بأنها طردت الإسلام من ديارها وقد مرت خمسمائة عام الآن على هذه الذكرى الجديرة بالاحتفال. أما المسلمون الذين سمعوا هذا الكلام فكانوا مخدرين، وربما فوجئوا بما قيل ولكنه مر دون تعليق فإن الغزو الثقافى أفقدهم رشدهم، ونساهم أيامهم الأولى وهم الآن دويلات يسعى أغلبها لمحاربة الفقر!! يجب أن نعرف تاريخنا جيدا، إننا لسنا المسئولين عن الحروب التى اشتعلت فى أرجاء العالم قديما، إننا نحن المسلمين حاربنا الرومان الغزاة الأجانب عندما أغاروا علينا فهل تلك جريمتنا؟ وطاردنا الصليبيين عندما حاولوا العودة فى القرون الوسطى فهل نلام على ذلك؟ وإذا كانت ذراريهم تحمل الجراثيم نفسها فهل المطلوب أن نستسلم لهم؟ إننا قديما وحديثا ندافع عن حياتنا وعقائدنا ومواريثنا.. ص _067(5/63)
هل تدهمنا الأحداث ! إن كراهية أوروبا للإسلام شديدة، وليست أمريكا أحسن منها حالا، لكن الخطط والأدوات تغيرت مع سيادة النظم العلمانية، وترك رجال الكهنوت القيادة لغيرهم.. إن تبذل القيادات عرض الإسلام لمحن أخبث وأسوا، وقد رأينا روسيا التى اعتنقت الإلحاد الأحمر سبعين سنة، إنها ظلت على ولائها للصرب وللأرثوذكسية، وهى تسعى لجعل دولة البوسنة دولة لاجئين تماما كما حدث لمسلمى فلسطين!! أما الدول الكبرى الأخرى فقد حرصت على تجريد المسلمين من السلاح فى حرب يتفانون فيها، وماذا عليهم لو هلكوا جميعا؟ تكون الخطة قد نجحت..! وفى ظل المؤسسات الدولية يواجه مسلمو البوسنة حربا ليست فيها ذرة من شرف أو حياء، والعزاء الذى يذكر حينا وينسى أحيانا أنه لابد من تأسيس محاكم لمعاقبة مجرمى الحرب.. بعد فناء المسلمين طبعا وذهاب ريحهم! لا ألفينك بعد الموت تندبنى وفى حياتى ما قدمت لى زادا. !! لكنى أعود إلى نفسى ثم أقول: نحن صانعو المأساة المخزية، لقد وجدت سباقا بين الصحف على شرح وتصوير مباهج العيد التى هرعت الجماهير للانغماس فيها! قلت: أهذه أمة تشعر بالنكبة؟؟ وقال لى أحد البوسنيين: نحن ما نحتاج إلى رجال، ولا إلى متطوعين، نحتاج إلى سلاح وحسب، ونعرف أن هيئة الأمم تمنع عنا السلاح، لكن التهريب ممكن، أنفقوا مليارين.. مليارا ثمنا للسلاح وآخر للعصابات التى تهربه، ونحن كفلاء بحل المشكلة. لكننا نحن المسلمين ننفق القناطير المقنطرة فى الترف، أو نختزنها لضمان الغنى ونترك إخواننا يموتون كمدا، ولا تحركنا أخوة الإسلام لعمل شىء.. إن الإسلام يواجه فى هذا العصر حرب فناء، وأطرافه يغار عليها وتتساقط الفئات من المؤمنين واحدة بعد أخرى.. أما القلب فإن الاستعمار الثقافى يتولى أمره، ويوجد فى ربوعه من يشيد بالرواية القذرة التى ألفها "سلمان رشدى "، ومن يحدث ثقوبا فى مستودعات الإيمان حتى إذا جاء اليوم الموعود عز الرجال وقل المدافعون ولحق(5/64)
القلب بالأطراف.. أنصحو أم نبقى رقودا حتى تدهمنا الأحداث؟ ص _068
لمن يعقل لا يزال فقدان الرشد الاجتماعى يسيطر على طوائف من المسلمين ويضرى الحروب بينهم فى الوقت الذى تحتاج فيه أمتنا إلى التجمع والوئام، بأى عقل يستأنف المجاهدون الأفغان القتال بعضهم ضد البعض الآخر؟ وكانوا بالأمس القريب يقاتلون عدوا مشتركا! باى عقل تبقى العداوة الخسيسة بين أحزاب الصومال وقد عصفت المجاعات بالشعب كله وتسابق الغرباء إلى إطعام الجائع وإيواء الشارد؟ ومتى يقع هذا البلاء؟ يقع وحرب صليبية جديدة تنشب فى البلقان للقضاء على الإسلام فى شرق أوروبا تمهيدا للقضاء عليه فى أوروبا كلها..! إن وكالات الأنباء أذاعت أمس عن "فليبور اسكوبتش " وزير الإعلام فى حكومة الصرب أن حكومته تحارب فى البوسنة والهرسك لإنقاذ أوروبا من الإسلام..!! وأنها ترفع لواء حرب صليبية جديدة لمنع الإسلام من السيطرة على العالم! وزعم هذا الوزير أن المسيحية تتقلص من العالم، وأن لدى المسلمين من العقيدة والمال والكثرة البشرية ما يجعلهم يرثون الأرض، وصرح الوزير الظلوم! بأن الصرب تقوم بحرب دينية ضد المسلمين الذين يهدمون كنائسهم!! أين وقع هذا الهدم؟ والمساجد وحدها هى التى تزال! إنها قصة الذئب والحمل تتكرر فى كل مكان. وقياما بشعائر هذه الحرب الدينية تنشر "الوفد" بعنوان يمتد فوق جميع أعمدة الصحيفة أن الحراس الصربيين السكارى يذبحون المسلمين ويلقون بجثثهم إلى الكلاب !! وأوضح الفارون من معسكرات الموت أن الصربيين كانوا يجبرون الأسرى المسلمين على الانبطاح فوق أرصفة المعتقل قريبا من بالوعات المجارى المؤدية إلى نهر"سافا" حتى تتدفق دماؤهم إليها بعد ذبحهم..! كما قرروا أن عددا من الأطباء والممرضات يبترون أعضاء بشرية من القتلى وينقلونها فى أنسجة بلاستيكية ثم ينقلونها فى ثلاجات خارج المعسكر، وما تبقى من الجثث يرمى للكلاب..!! ص _069(5/65)
ولا أمضى فى نقل هذه الأخبار الهائلة، وإنما أسجلها ليعلم من لا يعلم أن مصيرنا لن يكون أفضل من ذلك إذا أحاطت بنا هذه الظروف التى أحاطت بإخواننا فى البلقان! والزمان قلب، والفلك الدوار لا يقف! فهل نبقى مختلفين يقاتل بعضنا بعضا؟ ومن نكاية الدنيا بنا أن الغزو الثقافى شوه أفكارا كثيرة عندنا وسلخها عن دينها وتراثها فقد سمعت رجلا كبير الجثة والمنصب ينكر أن هذا العصر عصر الحروب الدينية.. ويزعم الأحمق أن القتال الدائر هو صراع أعراق! وتنارع السلطة على أمكنة من الأرض؟ إن حكام الصرب صرحوا بطبيعة الحرب التى أعلنوها، ومع ذلك فإن صرعى الغزو الثقافى لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون! وقى الله أمتنا شرهم. ص _070(5/66)
جفت المشاعر فى الجاهلية الأولى كان هناك أفراد حنفاء تشبثوا ببقايا من دين إبراهيم فازدروا الوثنية واستعفوا عن المناكر والمظالم. وفى أمريكا وأوروبا الآن أفراد ظلت ضمائرهم حية وأحكامهم عادلة فهم يشهدون بالحق ويواجهون الظالمين. من ذلك ما علمته عن لجنة لحقوق الإنسان فى الولايات المتحدة اتهمت رؤساء الدول الغربية بتغليب المنافع القومية على المبادىء الأخلاقية وبدأت بأمريكا نفسها التى تجاهلت هزيمة حقوق الإنسان فى الصين، وما يقع من مأسى للمعارضين المستضعفين وذلك حفاظا على مصالحها التجارية وضمانا لمنافعها الاقتصادية! وقالت عن فرنسا إنها سلحت حكومة رواندا وتركتها تفتك بخصومها من قبيلة أخرى ودخلت البلاد بجيشها حتى مكنت الحكومة المعتدية من الفرار بعدما قتلت نصف مليون رواندى فاحت رائحتهم فى أرجاء العالم، وذكرت اللجنة عددا من دول أوروبا فى مقدمتهم انجلترا وحلف الأطلسى الذين مكنوا ذئاب الصرب من افتراس مئات الألوف من المسلمين ومنعوا تزويدهم بالسلاح ليستطيعوا الدفاع عن أنفسهم! ذكرت جريدة "الوطن " عن مراسل أجنبى رأى أن يحقق بنفسه ما يقع من جرائم ضد الإنسانية فى البوسنة قال: التقيت بأحد البوسنيين وكان مفجوعا شاردا إثر جريمة وقعت له ولأسرته تركته أقرب إلى الجنون!! يقول: هربت من القصف فى سراييفو ومعى زوجتى وطفلنا الرضيع، وليتنى ما هربت كان هروبا مهلكا.. إذ وقعت فى ثكنة عسكرية صربية، تضم وحوشا بشرية لا قلب لهم ولا يعرفون الرحمة، قاموا باغتصاب الزوجة ورموا الطفل فى مدفأة تشتعل بالنار، فأخذت أصرخ أنا وزوجتى صراخا متواصلا حتى فقدنا الوعى، وما صحونا إلا على ركل أقدامهم ودفع نعالهم ثم أحضروا لنا لحما مشويا قد تفحَّم وألصقوا بنادقهم بأجسامنا وأمرونا بالأكل.! كان ذلك اللحم هو لحم ابننا الرضيع..! كيف نبقى أحياء بعدما أصابنا هذا البلاء الماحق؟ هؤلاء هم رؤساء حلف الأطلسى الذين تأمروا على دولة إسلامية صغيرة(5/67)
ضعيفة وسط بحر هائج من الدول الصليبية الكبرى إنهم يتشدقون بحقوق الإنسان! أى حقوق بعد موقفكم المخزى من المسلمين القلائل الذين أوقعهم سوء الحظ بين ظهرانيكم؟ ص _071
الويل لمن يتذكر من أمارات النفاق ألا يستفيد المرء عبرة من الماضى ولا درسا للمستقبل بل يرتجل تصرفاته ارتجالا ويتحمل نتائجها دون وعى! وقد جاء فى القرآن الكريم وصف المنافقين بهذه البلادة قال تعالى : (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) إن الإيمان حس شديد، واستفادة من الأحداث، وأخذ من الماضى للحاضر والمستقبل وقد صح عن رسولنا قوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" فما بالنا نلدغ من الجحر الواحد مثنى وثلاث؟ ثم نمضى فى طريقنا كأن لم يقع شىء !! من أيام احتفلت أوروبا بمرور 500 عام على خروج المسلمين من الأندلس، أما نحن فإن الذكرى الكئيبة مرت بغير اكتراث! لعل الكثيرين لا تدرون أننا كنا هناك، إنهم يذكرون، أما نحن فننسى! وفى القتال الوحشى الذى وقع بين الصربيين والمسلمين فى "سراييفو" قال المراقبون: إن البلد تحول إلى "سلخانة" كبيرة، وإن جثث المسلمين ملقاة فى الطرق لا تجد من يدفنها !! إن القذائف تنهمر فتخطف الأرواح وليس هناك إلا مقاتل يتحصن وراء هدم، أو تحت بقايا بيت، والحرائق مشتعلة لا ترى عندها إلا سحب الدخان.. إن براكين الحقد التى انفجرت بغتة ذكرتنا بغارات الصليبيين القدامى على أنطاكية وبيت المقدس مخلفها أكواما من الجثث تبلغ أحيانا عدة طوابق، عجبا إن الحقد القديم لم تفتر حرارته ولا مرارته رغم مرور القرون.. ! إننا وحدنا الذين ننسى أما القوم فإنهم يتذكرون ويتحركون!! ص _072(5/68)
ومن بقايا إنسانية لا تزال تحيا فيها ذكريات عدل ورحمة صدر قرار مجلس الأمن بإدانة العدوان والإذن بمقاومته! وتساءلت: ماذا صنعت المؤسسات السياسية فى العالم الإسلامى الكبير تعليقا على أنباء السلخ والحرق والنسف الذى تعرضت جماهير المسلمين له فى البوسنة والهرسك؟ كنت أرقب أن ينعقد المؤتمر الإسلامى ليواجه المأساة، ولكن يبدو أن الإسلام السياسى فى واد، والإسلام الشعبى فى واد آخر!! سياسى يوغوسلافى يقول عن أهل البوسنة والهرسك: لقد كان هؤلاء الناس صربيين أرثوذكس، ويجب أن يعودوا كما كانوا !! أى لا بقاء للإسلام وأمته هنا.. وقال سياسى عربى: نحن نستنكر الظلم الواقع بغض النظر عن أن الذين يعانون منه مسلمون أو غير مسلمين! أى أن تحركه ليس غيرة دينية، ولا أسى لإخوان العقيدة، ولا أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.. لا. إنها غضبة إنسانية! إن أعداء الإسلام يجددون أحقادهم ويؤكدون انتماءهم، ونحن وحدنا الذين ننسى والويل لمن يتذكر! ص _073(5/69)
عار الصمت "الدبلوماسيون" أطول الناس حلما وأبعدهم أناة وأقدرهم على كتمان الغضب وضبط النفس ولذلك عجبت من موقف الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور "بطرس غالى" عندما حجب العون الدولى عن مسلمى البوسنة والهرسك وقال: هذه حرب الرجل الثرى !! قلت: من الرجل الثرى فى هذه المأساة؟ الصربى الفاتك الذى يريد سحق وطن ومحو دين! أم المسلمون الذين وقعوا فى مصيدة المدافع المنصوبة فوق الجبال تصب عليهم الموت من كل مكان إن أمين الأمم المتحدة سلك مسلكا مزريا عندما قرر ترك المسلمين يستغيثون ولا يغاثون، ويطلبون النجدة من "الشرعية الدولية" فلا يجيبهم إلا عار الصمت! وسكوت المتغاضين، لقد دمرت المساجد كلها تقريبا وقتل مئات الأئمة، وهرب من الأسر المذل ملايين المدنيين العزل، وبدأت مظاهر الاستعمار الاستيطانى تغير معالم الأرض كى يرثها الصربيون كما فعل اليهود بفلسطين وأهل فلسطين! فهل هذه حرب الرجل الثرى المستغنى عن المعونات؟ ومعلوم أن آلاف الأطفال فقدوا أسرهم فتولت محاضن التبشير العناية بهم، قدمت لهم المأوى ومحت عنهم معالم الإسلام ليشبوا بعيدا عن ماضيهم الحزين! يقع ذلك كله والأخبار ترد معلنة أن أرض الإسلام تنتقص من أطرافها، فها هى ذى صحيفة المسلمين تعلن عن ارتداد أربع قرى إسلامية، فرض عليها الهندوس ترك الإسلام واعتناق الوثنية، فإذا نحن بين عشية وضحاها نفقد 75 ألف مسلم، عدا من تسرق عقائدهم من الهائمين على وجوههم هنا وهناك..! فى هذا الوقت يقول الدكتور "بطرص غالى": "إن حرب البوسنة والهرسك حرب الرجل الثرى!" ص _074(5/70)
أعلم أنه وجه إعانات الأمم المتحدة إلى الصومال،وضن بها على مسلمى البلقان التائهين والصومال فى أيام نحسات صنعها لنفسه بنفسه، إنه تفانى فى الصراع على الحكم وطلب السلطة لرؤساء مشئومين! ونحن نريد له الخلاص من محنته وعودته إلى حريته. ولكننا نرفض الاعتذار بحالته عن ترك مسلمى البوسنة يواجهون حرب الإبادة المعلنة عليهم.. إن الوضع شائن مرعب فى وسط البلقان، وقد انكشفت المؤامرات المدبرة لسحق المسلمين فى هذه البقاع، بل فى أوروبا كلها، وعلى أمين الأمم المتحدة أن يواجه الواقع ولا يحاول الفرار منه أو الاعتذار عنه، وإذا بقى يصم آذانه عن آلام المسلمين فإننا معذورون إذا اعتبرنا هيئة الأمم تريد أن تكون صربيا الجديدة إسرائيل أخرى وأن رجلها فى تنفيذ المؤامرة هو الدكتور "بطرس غالى" فهل يرضى لنفسه هذا الدور؟ا ص _075(5/71)
جراءة إلى متى نحب الدنيا ونكره الموت؟ إلى متى نحب التوجس ونكره الجسارة؟ إذا كان صاحب البيت جبانا واللص جريئا فالبيت ضائع لا محالة..! عندما زار "مسيو ماتيران " مدينة "سراييفو" واخترق الحصار المضروب حولها شعرت بانبهار لشجاعة الرجل، تابعته فى الذهاب والإياب، وهو يهبط بطائرته فى أرض الوحشة والموت، ويتخطى العقبات المبعثرة، ويحاول الاتصال بالمسئولين وسائر الأهلين! قالوا: ووصلت القذائف الطائشة قريبا منه، واخترق بعضها طائرته وهو منتصب القامة رابط الجأش كأنه سيف الدولة عندما قال فيه المتنبى: وقفت وما فى الموت شك لواقف كأنك فى جفن الردى وهو نائم!! وأخذت طائرته تحط أحمالها من الأغذية والأدوية، فاتحة الطريق أمام طائرات أخرى تحمل الشفاء للمرضى والطعام للجائعين.. إن ذئاب الصرب قطعت الطريق أمدا طويلا حتى بلغت القلوب الحناجر وكاد اليأس يهزم المقاومة وخطة المعتدين إرغام المدينة على الاستسلام حتى يستطيعوا ضم أراض من البوسنة والهرسك إلى صربيا الجديدة، فإذا صح للمسلمين بقاء بعد ذلك فهو بقاء المحرج المختنق، بعدما فقدوا بيوتهم، وتعرضوا لاستعمار استيطانى يشبه ما يتعرض له عرب فلسطين.. "ومسيو ماتيران " لا علاقة له بمستقبل الإسلام وأمته، وهو لم يفعل ما فعل ذودا عن حوزته أو صونا لوحدته! إنه زعيم إنسان يحترم العقل والضمير، ويناضل من أجل كرامة البشر فى الميدان السياسى والاقتصادى.. ص _076(5/72)
وقد ساءه أن جند الصرب ارتكبوا المناكر وألفوا الغدر واستضعفوا المسلمين واسترخصوا الفتك بهم شيبا وشبانا، فرأى أن يذهب بطائرته ليمحو هذه السبه من وجه الحضارة الحديثة!! وإنى أذكر فعل الرجل لأن المعادن النفيسة تستحق التنويه، ولأسائل قومى: أما كان فيكم من يقدر على مثل هذا الصنيع؟ قد يكون جمهور المسلمين فقيرا إلى الأسلحة الحديثة، بيد أنه- عند التمحيص- أفقر إلى النفوس الكبار التى تضعف فى مرادها الأجسام.. إننا نحمل رسالة الإسلام، وهى رسالة ضخمة تنوء بها الكواهل الطرية ولا يصلح لها عبيد الشهوات وأحلاس اللهو وإنى أنظر إلى المستقبل بقلق لأن أعداءنا يخدمون مبادىء وعقائد.. أما نحن فالعقائر ترتفع بشىء آخر.. هو رفع مستوى المعيشة!! (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا). ص _077(5/73)
كراهية قد تشعر بكراهية الآخرين لك فى فلتات اللسان وسقطات الحديث فتأخذ حذرك وتحتاط لنفسك، ولكن ما الموقف إذا واجهت غلا راسبا وخصومة عاوية وعدوانا لا يقر معه قرار؟ إننى قرأت مع ألوف القراء تصريحات القائد الصربى "فوشتيك " عن الأسلوب الذى يعامل به المسلمين وكيف يستهتر بقتلهم ويستريح لفراغ الأرض منهم فقلت كأنه المعنى يقول شوقى: سكينه، وحزامه، ويمينه والصولجان، جميعها آثام. ! ولم أر أخس منه وأحقر إلا من سمعوه وسكتوا فلم يفعلوا شيئا.. لقد سأله الصحفى الألمانى مندوب مجلة "دير شيجل ": كم من المسلمين قتلتهم أنت شخصيا؟ خلال الحرب الدائرة فى البوسنة والهرسك؟ فأجاب: مئات كثيرة! كذلك قمت بإطلاق الرصاص على الأسرى المسلمين للقضاء عليهم.. فلما نبهه المندوب الألمانى إلى خطورة ما يقول، لأن المعاهدات الدولية تحزم قتل الأسرى. قال ساخرا: إنه لم يجد سيارات لنقلهم، فأسهل الطرق وأرخصها هى التخلص منهم بالقتل !! مثلما أجهز الصربيون على 640 مسلما كانوا مختفين فى مخبأ فتخلصوا منهم جميعا قتلا بالرصاص!! وسأله الصحفى الألمانى: ما هو الهدف من هذه الحرب..؟ فأجاب: هدفنا القضاء على الإسلام! فالمسلمون فى أوربا يجب أن يختفوا وألا تكون لهم أمة! إن على المسلمين هنا أن يتحولوا عن الإسلام، وأن يصبحوا صربيين أو كروات أما الخيار الثالث فهو الموت!! إننى أقتل كل قادر على الحرب من المسلمين. ومن لم أقتله أقوم بخرق عينيه! وعندما نستجوب الأسرى لاستخراج المعلومات منهم نهشم أيديهم ببطء حتى يعترفوا بما نريد.. ص _078(5/74)
هذا ما يقوله القائد الصربى مجاهرة يصف معاملته للمسلمين والكلام المذكور هنا نشر فى أوروبا فماذا كان صداه فى أوروبا ودولها الساعية إلى الوحدة؟ ونقل إلى أمريكا فماذا فعلت هيئة الأمم المتحدة التى زعمت أنها قامت لحفظ كرامة الإنسان ورعاية حقوقه؟ ونشر أخيرا فى البلاد العربية فماذا كان غضبنا لديننا واخواننا..؟ الغريب أن اسم الحروب الصليبية ليس من وضعنا نحن، إنه اصطلاح أوروبى، أما نحن فكنا نسمى الغارة الوحشية علينا بأنها هجوم الفرنجة!! إن العدوان باسم الدين طبيعة فى القوم، أما نحن فأبعد شىء عن أذهاننا الحروب الدينية! وطرد الرومان من مصر والشام وسائر المستعمرات الأخرى كان رد عدوان وتحرير مستضعفين وما كان إكراها على دين، ولا إقرارا لفتنة.. إن تحت الإرهاب الأبيض للأجناس الأوروبية مشاعر سوداء، لم يشق المسلمون وحدهم بها بل شقى بها الهنود الحمر وغيرهم وهلكت فى حريقها أجيال.. ولأمر ما قال الله فيهم : (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). فهل نثبت أم نزيغ؟ وهل ندرك الواقع أم نحيد عنه؟ إن هزيمة الإسلام فى البوسنة لها ما بعدها.. (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). ص _079(5/75)
ذئاب فى أثناء حملات الطرد والإبادة التى تعرض لها مسلمو البوسنة هوجمت إحدى القرى هجوما شديدا وأخذت المدافع والصواريخ تصب حممها من كل ناحية، وشعر الشبان الذين يحملون البنادق بعجزهم عن المقاومة، كما شعر السكان القابعون فى البيوت أن وراء هذه الحملة ما وراءها فقرروا الفرار من وجه الذئاب القادمة، وتركوا بيوتهم إلى العراء يلتمسون النجاة فى أماكن أخرى، وأدركهم الصربيون وهم فى حال منكرة من الفزع، وشرعوا يجهزون عليهم وهم يصيحون بهم: أين ربكم الآن يا مسلمون؟؟ سمعت هذه القصة من إذاعة لندن، وظل هذا الاستفهام يرن فى أذنى طويلا وشعرت بالعجز والخزى! إن الذئاب الفاتكة لا تهاب أحدا ولا يردها شىء!! وواجه الهاربون مصايرهم فهم بين قتيل وأسير وهارب.. والنداء الصربى يلاحقهم: أين ربكم الآن؟ أعرف أن هؤلاء ليسوا أول مظلومين فى التاريخ، فقد وثب الفراعنة على بنى إسرائيل يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويجعلون نهارهم ليلا وحياتهم ويلا! فماذا كانت العقبى؟ أغرق الله الظلمة وأبقى أبناء المحروبين ليرثوا الأرض من بعدهم.. إن نسيج هذه الحياة من اختبارات لا تنتهى، هكذا شاء من : (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). والاختبار يتم فى أزمنة قريبة أو بعيدة، وقد تبدأ المقدمات فى جيل وتظهر النتائج. فى جيل آخر، فما بد من الصبر والانتظار، نعم لابد من تمحيص المؤمنين وإمهال الكافرين ص _080(5/76)
قال تعالى: (إنهم يكيدون كيدا * و أكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) والذين يقولون للمستضعفين من المسلمين: أين ربكم الآن؟ سيجدون ربهم إن قريبا وإن بعيدا فيوفيهم جزاءهم! لابد من زمن يطول أو يقصر يتم فيه القدر الساهر. ولذلك يقول الله لنبيه : (فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين*وتول عنهم حتى حين) إن كلمة حين تكررت مرتين هنا، ليعلم أنة لابد من صبر وانتظار حتى يتم القدر الأعلى.. ونتساءل: ماذا يعمل الناس فى هذا "الحين "؟ يصابر المستضعفون الليالى ويعملون لمستقبل أفضل! هل نقوم نحن المسلمين بهذا الواجب؟ كلا إن هناك بلادة لا ينقضى منها عجبى، لقد بحثت فى الصحف عن أخبار المذبحة التى كان الصربيون يقولون فيها للمسلمين: أين ربكم الآن؟ فلم أجد لها ذكرا.. وسألت رجلا فى منصب كبير هل سمعت إذاعة لندن تقول كذا وكذا؟ قال: نعم سمعت! لماذا تواطأ المراسلون- عندنا- على طى هذه الكلمة الكافرة؟ لأنها تكشف عن خبايا الحقد الصليبى، والفكرة السائدة جعل هذه الحرب غير دينية!! ومادام البلاء ينصب على رءوس المسلمين وحدهم فالخطب سهل !! ولله فى خلقه شئون.. ص _081(5/77)
الوعى.. ولقمة الخبز قلما تسقط الحضارات أو الدول دفعة واحدة، إنها غالبا تترنح وتدوخ ثم تهوى! وعندما نتأمل فى تاريخنا نجد أن الأندلس لم تستسلم وتزول دفعة واحدة، إن هذا المصير تم جزءا جزءا، وكانت غرناطة آخر قطعة فى الأرض الضائعة.. ومن حقنا أن نفزع من تعرض فلسطين لمصير الأندلس، ومن استنامة العرب لفقدان بعض أرضهم والنظر ببلادة إلى مايصير!! لاشك أن الإسلام فى مرحلة سيئة من تاريخه وأن على أولى الألباب مراجعة النفس واتخاذ الحيطة.. لقد أدهشنى هذا الاهتمام الذى اكتسح أوروبا وأمريكا بقضية "غزة وأريحا"، إن الولايات المتحدة برؤسائها السابقين واللاحقين ودول الجماعة الأوروبية مشغولة بالموضوع كلها، حتى النرويج!! إن هذا القطر القصى شمال العالم هو الذى تمت فيه المفاوضات السرية وصنع فيه القرار الأخير! لماذا؟ لأن هذه الدول جميعا مسيحية مسئولة عن قضية القدس، ومكترثة بوضع العرب فيها، وهى ترمق مستقبل الإسلام بحذر، ولا تبالى أن تكيل له التهم، وهى لم تنس ولا تريد أن تنسى الحروب الصليبية الأولى! ذلك كله يقع ونحن فى واد آخر نؤجل من الاشتغال بالقضايا الإسلامية، ونهش لأى عنوان آخر غير عنوان الدين..! لماذا وقد وجهت إلينا أسئلة شتى- لم نسأل إسرائيل: هل ستبقى وطنا قوميا ليهود العالم أجمع؟ يجيئون إليه متى شاءوا جماعات ووحدانا؟ وإذا كان اليهود فى شتى الأقطار نحو خمسة عشر مليونا فكيف تسعهم فلسطين وحدها؟ ص _082(5/78)
أم أن إسرائيل الكبرى لا تزال الحلم الجاثم فى عقل اليهود ومن وراءهم من الحلفاء، وليذهب جيران فلسطين إلى الجحيم! ثم ما هو مصير اللاجئين الضائعين بعد حربى سنة 1948 وسنة 1967، هل نذكرهم أم أنا تركناهم للمجهول؟ لو أن عرب الأندلس فكروا فى أعقاب كل هزيمة ماذا جر عليهم هذا البلاء لنجت بقيتهم من المحق الذى لفهم فى أكفان العدم، وإنى ألح على مسلمى اليوم أن يعوا حقائق الأحداث الضخمة التى تهز اليوم كيانهم، إنهم ماضون فى خطهم المائل وأعينهم مغمضة! الناس ـ حتى عبدة الأوثان ـ يذكرون أديانهم، ونحن وحدنا الذين نترخص ونستهين! تحت القطبين، وفى أعماق المناطق الحارة ترسم الخطط لضرب الإسلام، والمسلمون هنا وهناك مشغولون بلقمة الخبز، وحب الدنيا وكراهية الموت.. ترى هل نعى؟ ص _083(5/79)
مكر بالعرب.. لن يقع سلام أبدا بين اليهود والعرب ما بقيت فلسفة الاستيطان الدينى ماثلة فى أذهان اليهود حسب رؤى التوراة! والذى يطلب من العرب أن يتركوا أرضهم لشراذم قادمة من هنا ومن هناك، مؤمنة، بهذه الرؤى هو امرؤ جائر حائر. إن يهود العالم يبلغون خمسة عشر مليونا، ثلثهم الآن فى "فلسطين" بعد طرد العرب من أغلبها فإذا بقيت خرافة أن الأرض لليهود ميراثا من إبراهيم فمعنى هذا أن العشرة ملايين الباقية ستستولى على أرض الدول المجاورة، وتقوم إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل كما تقرر النبوءات المزعومة.. هل يستقيم هذا مع صلح يمنح العرب "غزة وأريحا"؟ أم أن هذا مكر بالعرب الطيبين؟ لكى يمكن تصديق بعض ما يقال عن هذا الصلح يجب أن تعلن إسرائيل وقف الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، تمهيدا لبحث سلام حقيقى بين السكان الأصلاء وبين القادمين الذين جاءوا من شتى الأقطار باسم الإقامة فى أرض الميعاد!! ثم يجب من الآن البحث فى إعادة اللاجئين العرب إلى ديارهم، سواء من تركها سنة 948 1 أو 1967.. إن أوروبا وأمريكا- لأسباب دينية- مهتمتان بأمن إسرائيل، فهل اكتفتا بما ناله اليهود؟ وبالدولة الشامخة التى أسسوها؟ ربما قبل العرب الأمر الواقع وفكروا فى أسس جديدة لتعايش ممكن! لكن ذلك لا يتصور أبدا إذا بقيت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين مفتوحة، أين سيقيم هؤلاء إلا إذا كان مخططا لهم استعمار فلسطين ودول الطوق وما تيسر من دول عربية أخرى!! إن سياسة التوسع اليهودى تقوم على أعمدة دينية فصلها العهد القديم وأشار إليها العهد الجديد والعالم كله الآن ينظر فيها ويفكر فى عقباها، ولن تحلها أريحا ولا غزة ولا ما بعدهما إنما يحلها العرب إذا صحوا من الإغماءة الطويلة التى أصابتهم! وإذا علموا أن مزيدا من الإغماء سيخمد أنفاسهم ويقضى على حياتهم. ونسأل العلمانيين العرب بعد ذلك: هل سيبقون فى مواقف الخيانة لدينهم وقومهم وتاريخهم؟ إن كرههم للإسلام،(5/80)
وموالاتهم لأعدائه وضيقهم بشرائعه هو دعم للصهيونية وإيهان لعناصر المقاومة الباسلة التى يبديها المؤمنون الأحرار. ص _084
هل.. تحرير فلسطين بالعلمانية!! بعد يوم متعب بارد منيت نفسى بليلة هادئة دافئة فى فراش وثير مريح، لكنى ما كدت أبدأ المنام حتى هاجمنى ضميرى، وهاجت الأفكار فى رأسى!! أنت هنا تجد الفراش المعجب، وإخوانك المطرودون من فلسطين لا يجدون شيئا؟ إنهم يأكلون نزرا ويشربون كدرا ويطاردهم الصقيع سواء خرجوا من خيامهم أو اختبئوا داخلها، وجريمتهم أنهم إسلاميون يحرسون دينهم وبلدهم، إنهم خلاصة الرجال فى الأرض المحتلة، فيهم العلماء والمستشارون والدعاة وأولو الفطنة والقدرة الذين زلزلوا الكيان الصهيونى وعكروا صفوه! أربعمائة أو يزيدون من الأوفياء لدينهم وتراثهم، أليس عجيبا أن يسكت العالم على العمل تحت راية اليهودية ويثور للعمل تحت راية الإسلام؟ هل الانتماء إلى القرآن جريمة العصر.. والانتماء إلى أى دين آخر سائغ مباح؟ إن قضية فلسطين قضية دينية شئنا أم أبينا، والمستوطنون اليهود قدموا إلى هذا القطر المنكوب وهم يصلون لرب إسرائيل، ويتذاكرون وعوده فى التوراة والتلمود أن يردهم إلى أرض إبراهيم، التى ورثوها عنه كما يزعمون.. فما مكان العلمانية فى هذا التفكير؟ وما معنى أن يكون العرب علمانيين كى يسمح لهم بالبقاء فى هذه الأرض كلها أو بعضها؟؟ إن إبعاد الإسلام عن هذه القضية قضاء أبدى على فلسطين، ومخدر خطير، بل سم قاتل لمستقبلها كله! وقد أدركت أن الخطة الاستعمارية التى وضعت من قديم كانت تسعى إلى هذا الغرض، كان الحاج أمين الحسينى بعمامته التقليدية رمزا للإسلام المكافح، وكنت قريبا من الرجل فرأيت فيه استنارة العلماء وعزم المجاهدين، ص _085(5/81)
ورأيته يتحمل الهزائم يجلد، ويرتب صفوفه بأمل، وكنت أزوره فى مسكنه بمصر الجديدة أتدارس معه حاضر الإسلام ومستقبله. ثم فوجئت بإخراجه من القاهرة، واضطراره إلى سكنى بيروت، ونفث الدخان حول سيرته وكفاحه.. كانت الخطة قد رسمت ليكون تحرير فلسطين تحت راية علمانية لا إسلامية.. وبدأت سلسلة الهزائم، فقد خذلتنا الأرض، وحرمتنا السماء، ولم ننل شيئا من أحد!! إننا نطلب اليوم سلاما فى مقابل التنازل عن بعض فلسطين، وهم يطلبون استسلاما على شروطهم هم.. وهذه أولى بركات العلمانية التى جعلت عنوانا لتحرير فلسطين!! لكن أمتنا الكبرى تأبى إلا الإسلام شكلا وموضوعا، ومن حقها أن تحيا بدينها وأن يعود اليهود من حيث جاءوا.. إننا نقنت فى مساجد للنوازل الداهمة، وما يحدث الآن للمجاهدين المطرودين يحتاج أن نجأر إلى الله بالدعاء كى يفرج كربهم، ويحل عقدتهم، ويثأر من ظالميهم. ص _086(5/82)
ماذا بعد غزة وأريحا؟ بعد الحرب العالمية الأولى حققت انجلترا لليهود إنشاء وطن قومى لهم يجمع شتاتهم ويلم شملهم بعد آلاف السنين من التشرد والمسكنة! وتم ذلك على أنقاض العرب الذين رأت انجلترا أن يذهبوا إلى حيث القت، فهم مسلمون لا يستحقون الحياة! وهب المظلومون يدفعون عن أنفسهم وتراثهم وعقائدهم ولكن الهزائم لاحقتهم لضعف الناصر وفتك المعتدى والحرب دينية يقينا وهى تخالف مبادىء القومية الحديثة ولكن إذا كان الغرض القضاء على الإسلام فلا بأس! إن الدين يعتبر تخلفا إذا كان الإسلام أما إذا كان غير ذلك فهو تنوير وتحرير! ورأى بعض الفلسطينيين أن يدع العنوان الإسلامى ويرفع راية العلمانية. وهذا ما فعلته منظمة التحرير على أمل أن تكسب شيئا وقد تدخل بعض الساسة ومنحوا العرب فرصة العيش إلى جوار اليهود أصحاب الدولة والصولة..! وأنا الآن أمام واقع عالمى ومحلى يحتاج إلى الدراسة والتروى. أبناء فلسطين الآن بحاجة إلى نوع جديد من الجهاد قد يكون أقسى مما عانوه فى الأيام الماضية. أخوف ما أخافه أن يقتتل أبناء البلد المغصوب ويقع بأسهم بينهم، بل أعتقد أن قوى خارجية ستفعل ذلك. ورأيى أن موطىء القدم الذى أتيح للعرب يجب أن يحضن ويؤمن، وأن تعمل التربية الإسلامية عملها فى دعم الأخلاق ومضاعفة الإنتاج وإشاعة التراحم والمواساة وإعادة الصواب إلى من فقدوا صوابهم ينبغى فى صمت أن ينكس شعار العلمانية وإضاع الصلاة واتباع الشهوات، وأن نحترم ديننا وكتابنا وسنن نبينا! إن عقلاء العالم أخذوا يحذرون من الانطلاق الأعمى وراء الشهوات وهذا "نيكسون " يخيف الأمريكيين من الضياع وراء إغراق هوليوود فى الجنس والعنف! ص _087(5/83)
وهذا ولى عهد انجلترا يهيب بقومه أن يلتزموا التقاليد الجادة وإذا كان لابد من ضرب الأطفال كى يرعووا فلا حرج! ومن الحفاظ على التراث الأدبى أن نحترم لغتنا، ألا ترى "رابين " يخطب بالعبرية فى واشنطن من عدة شهور، وفى القاهرة من أيام كى يحيى لغة ميتة بينما العرب يحسنون الرطانة ويميتون لغة حية لغة القرآن الكريم. لقد استصدر وزير الثقافة فى فرنسا قانونا بمعاقبة من يستعمل كلمة أجنبية لها بديل يغنى عنها فى اللغة الفرنسية! وفرض ذلك فى ميادين الإعلام والتعليم.. أما نحن فنحطم قواعد النحو والصرف والبلاغة دون حرج لكى نكون عصريين علمانيين!! إن الشعب الفلسطينى من أذكى الشعوب العربية، ويستطيع جعل ما حدث خطوة إلى مستقبل أنضر وأطهر، والمهم نكران الذات وإرضاء الله واستعادة النماذج المشرقة فى تاريخه الجلد المصابر. أيها الفلسطينيون شرفوا الإسلام كما شرفه آباؤكم وأجدادكم والمستقبل بعون الله لكم. ص _088(5/84)
نؤثر الموت قاومت متاعبى التى جعلتنى بمعزل عن الناس وقررت مشاهدة حفل استعادة غزة وأريحا. إننى أمثل الإسلام الذى تضاعفت خسائره فى هذا العصر، فلأنظر ما هنالك لعلى واجد بعض العزاء! وألقيت نظرة سريعة على الساحة- من خلال التلفاز- فرأيت أول ما رأيت جيشا من الفنانين والفنانات يشبه حزمة من الورود الصناعية لا طعم لها ولا ريح!. فقلت: كان الأولى أن يشهد الحفل طلاب الجامعات ليروا كيف يصنع مستقبل أمتهم..!! ودخل الساسة الكبار وسمعت أحاديثهم واحدا واحدا وأصغيت بوعى إلى كبير اليهود الذى بدا وكأنه يتصدق على العرب ببعض ما يملك! وعادت بى الذاكرة إلى ما حدث قبل نصف قرن، فقد اجتمعت هيئة الأم المتحدة وقررت إقامة دولة اسرائيل على الأرض العربية، وقسمت فلسطين قسمين خصت اليهود بالنصيب الأهم ورمت إلى المسلمين ما بقى، وناصرت أمريكا وأوروبا ما وقع وقيل فى التعليق على هذا الجور: إن من لا يملك أعطى من لا يستحق! والواقع أن أحقادا تاريخية هائلة كمنت وراء هذه السياسة الخرقاء بدأت بإسقاط الدولة الإسلامية الكبرى ثم توزيع المسلمين على عشرات القوميات وشغل كل قومية بقضايا محلية وإحراج الإسلام ثقافيا واجتماعيا حتى لا يتضح له هدف ولا يستقيم له درب. لكن جماهير المسلمين أبت إلا التشبث بدينها وأهل فلسطين لم يستسلموا قط للضياع الذى كتب عليهم، ولم تزدهم التضحيات المتلاحقة إلا ثباتا.. وهنا ظهرت حلول جزئية وسمعت صيحة السلام لتهدئة المواقف وطمأنة المصالح ص _089(5/85)
العالمية. ونحن المسلمين أحرص الناس على السلام وما حملنا السلاح للعدوان يوما لكن ماذا أصنع إذا طردت من دارى وعشت فى العراء؟ ألا أدافع عن أرضى وعرضى؟ إن الدم النقى لصربيا الكبرى وجد من يحميه ويفرضه ويرفع علمه فماذا يصنع المسلمون الذين يهيمون على وجوههم بعدما فقدوا 72% من أرضهم، وهلك منهم نحو مائتى ألف. ما معنى صيحة السلام هنا إلا إعداد الأكفان لدين وأتباع؟ إن المسلمين وهم خمس العالم لا يضيقون بأن يعيش يهود العالم أجمعون بين ظهرانيهم لهم مالنا وعليهم ما علينا أما أن يضن العالم على الرسالة الخاتمة بالبقاء وعلى تعاليمها بالنفاذ وعلى أحكامها بالتطبيق وعلى أتباعها بالإنصاف فهذا باب فتنة كبرى لا تجدى فيها ألاعيب الساسة وحيل الدبلوماسية الحديثة، وليعلم القاصى والدانى أننا لا نفكر فى ترك ديننا وإطراح شريعتنا ونؤثر الموت دون ذلك.. ص _090(5/86)
محنة الصومال لا أدرى ما دهى أمتنا فى المشارق والمغارب حتى أمست أرضها نهبا للفوضى والشتات والنكبات؟ ترى ما يقول الناس عنا وعن ديننا عندما يذاع أن التهارش بين الأقوياء حال دون وصول الأقوات للجياع من نساء وأطفال؟؟ هل بلغت شهوة السلطة هذا الحد من التوحش فتستولى على أطعمة أناس يموتون جوعا بالآلاف كى يقدروا هم على استلاب الحكم؟؟ هل أرض الإسلام هى التى تقع فيها هذه المأسى أو هذه المعاصى؟؟ إن مجىء قوات أجنبية لدعم جوانب إنسانية واضحة فى أرض الإسلام أمر يكاد يبعث على الجنون! ولا يقع هذا فى الصومال وحده، بل فى شمال العراق حيث تتدخل قوات أجنبية لإطعام الأكراد وتدفئتهم من زمهرير الشتاء، فإن الأكراد-- فى ضمير البعث العربى- لا يشفع لهم دين ولا تاريخ فى العيش السوى مع سائر العرب الأشاوس!! لقد كانوا جميعا أمة إسلامية واحدة، فكيف صاروا قلة منبوذة؟ هذه بركات القومية العربية والتعصب الجنسى والبعد عن الإسلام!! لقد لاحظت أن الصومال عندما انضم إلى الجامعة العربية كان قد قرر استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية! أهذه هى العروبة؟ ثم لاحظت أن الفكر اليسارى استبد بالبلد المسلم فأصبح ذيلا لروسيا حتى ضاقت به روسيا فقطعته وآثرت عليه الحبشة، فهل عاد إلى دينه بعد هذه اللطمة؟ إننا لم نحسن الانتماء إلى ديننا ولا العمل به، بل لم نحسن فهمه فكانت النتيجة ما نرى.. أريد أن يعرف المسلمون أن العبادات لا وزن لها إذا كانت غطاء للدنايا، أو تنفيسا عن سفساف الأمور.. إن الإنسان العادى يتحول إلى وحش كاسر عندما يعبد نفسه وعندما ينطلق فى الحياة خادما لمأربها موليا وجهه شطر ما ينفعه وحسب، أى شرف فى سلوك عصابات ص _091(5/87)
تقاتل لتستولى على طعام أطفال يموتون جوعا؟ وهى عندما تشبع تتخاصم بالسلاح على الحكم وإحراز منافعه.. إن القرآن الكريم يصف عباد الله الصالحين فيقول: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور). هؤلاء المحسوبون على الإسلام فى هذه الأيام ما أسلموا الوجوه ولا أحسنوا العمل!! لقد تذكرت حديث الرسول الكريم عن أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة إنهم مراءون بالإسلام لم تخصب به قلوبهم، ولم تطب به نفوسهم، فما أغنت عنهم قراءة، ولا أجدى عليهم جهاد أو علم.. أما هذا النفر المنسوب إلى الإسلام اليوم فشأنه أعجب، إنه لم يراء بإسلام لأنه زاهد فيه، إنه يدور حول نفسه، ولا يبالى بحاضر الإسلام ولا مستقبله. ص _092(5/88)
ردة بدأت الشيوعية حركة قلة من الناس تحسن استغلال الجماهير، والاستفادة من الضوائق التى تخنقها، وبقيت هذه القلة من الناس فى موقعها القيادى تكسب وتتوسع حتى سمت نفسها آخر الأمر الشعب! وملكت باسم الشعب المزعوم كل شراء فى أكبر دولى أوروبا، وأقامت حوله سياجا حديديا يحظر عليه التحرك إلا بإذن، وحسبه أن يأكل ولو أتفه الزاد وأن يرضى طول حياته بالفتات.. وفى مقابل ذلك وجد فى أوروبا وأمريكا ما يسمى بالعالم الحر يستمتع ويمرح ويجيئه من المستعمرات سيل غدق من الخيرات.. المهم من هذه اللفتة أن الشيوعية منذ ولدت وهى قرينة الاستبداد السياسى وما عرف أهلوها طعم الحرية الفردية، وظهر الشيوعيون العرب يبشرون بالاشتراكية ويتحدثون عن الفردوس المنشود، ولم ينسوا أن يقولوا إنهم باسم الشعب يعملون ولمصلحته يكافحون، فما الذى عرضوه على الناس؟ الخبز والسلام، هكذا قالوا! هل تم شىء آخر؟ لا الدنيا تغنى عن الآخرة، فلا تلويح بشىء آخر! ولم يفلح الشيوعيون فى اجتذاب الجماهير إلى صفوفهم على حين نجحت أحزاب أخرى كثيرة.. ثم انهزمت الشيوعية عالميا ومحليا، واختفى الاتحاد السوفيتى وانكسر السياج الحديد ى.. ونظرت إلى أمتنا العربية بعد هذا التغير الهائل فرأيت عجبا. إن هناك حملة كبيرة على الإسلام فتفرست فى وجوه الأعداء الجدد، فإذا هم شيوعيو الأمس القريب، الأسماء هى الأسماء وإن تغيرت العناوين، لقد سموا أنفسهم علمانيين، وزعموا أنهم أنصار الحرية الفردية والاجتماعية، وأنهم يريدون حزب الرجعية القديمة وتنوير الأذهان من المخلفات الدينية!! ص _093(5/89)
والعلمانيون العرب يكنون ضغينة سوداء على الإسلام وحده، ربما قبل العلمانيون الألمان والطليان أن تحكمهم أحزاب تنتمى إلى المسيحية، وربما قبل العلمانيون اليهود أن تشدهم خيوط إلى التوراة، أما العلمانيون العرب فهم يمقتون الإسلام سرا وعلنا ويرفضون كل صلة به! هل هذا الإلحاد جديد عليهم؟ كلا، لقد كانوا شيوعيين يقولون: لا إله والحياة مادة، فلا حرج عليهم إذا استمر الكفر وبقيت الردة واتسعت الحملة على القرآن والسنة، واتصل النشاط لتكفير الجماهير تحت عنوان التنوير.. إننى أحذر من الردة الجديدة، إن كفرها صريح بالشريعة وماكر بالعقيدة، وضيقها بالقرآن نفسه ظاهر، وهى تستنجد بالحرية وقد علمت أنهم مذ وجدوا أعداؤها، وأن هدفهم الأول والأخير تمويت الإسلام. ص _094(5/90)
مقال فى مجلة "كشمير المسلمة" قرأت مقالا عن النموذج الأسبانى وكيف نقضى على المسلمين فى الهند؟ ومع أن قراءة المآسي توجع فؤادى إلا أنى أرغمت نفسى على مطالعة المقال إلى آخره لأرى ماذا يقع لإخوان العقيدة فى مختلف القارات، ومن منهم سيموت بالسيف ومن منهم سيموت بغيره؟ وقد رجح الكاتب الباكى أن الهندوك اختاروا النموذج الأسبانى فى القضاء على الإسلام بالهند واستقى معلوماته من الساسة والمفكرين الهنود! لقد سقطت غرناطة سنة 492ام وبعد 120سنة أى فى أوائل القرن السابع عشر غربت شمس الإسلام نهائيا عن الأندلس بعد سلسلة من المذابح والاضطهادات الدينية الوحشية! والغريب أنه فى الدورة الرياضية العالمية التى تمت ببرشلونة من عدة سنين احتفل العالم بانقشاع الظلام عن أسبانيا وعرضت تمثيلية هائلة لليل المدبر والحضارة المنتصرة، وكان الرياضيون العرب والمسلمون يشاهدون وهم واجمون! إن النسيان لفهم، فهم لا يدرون شيئا، أما خصومهم فهم لا ينسون ما مضى ولا ما يجىء..! وأرى أن القوى المعادية للإسلام لا تلتزم خطة واحدة فى ضرب عقيدة التوحيد، وأن تجارب أخرى تتم فى إفريقية لتقليص الرقعة الإسلامية إداريا وثقافيا وسياسيا، ومع المخادعة ومع المصابرة يمكن أن تتحقق الأهداف! هناك مائة مليون مسلم فى "نيجيريا " وفى أى انتخابات حرة سيفوز المسلمون بالحكم، ويرتبط النيجيريون بإخوانهم فى العالم كله فما العمل؟ الحل هو الانقلابات العسكرية التى تساند سياسة علمانية يرضى بها الوثنيون والنصارى الذين احتضنهم التبشير والذين لا يزيدون عن 5% من السكان! والإنجليز ص _095(5/91)
يدعمون هذه الحكومات العسكرية ويزينون لرجالها الاستيلاء على الحكم وحرمان المدنيين الفائزين فى الانتخابات من حقوقهم واتهامهم بالخيانة!! والأمم عادة لا تحارب جيوشها وستضطر إلى الاستسلام وقبول التسويف فى قضايا كثيرة وانتظار الوعود بعودة الكثرة المسلمة المستبعدة وخلال ذلك يقضى على عاطفة التدين وتقاليد العفة والحجاب وتمزيق أواصر الجامعة الإسلامية وإشاعة نوع من التعليم المائع لا يحترم شخصية الأمة ولا تراثها، وبذلك يتم القضاء على الإسلام وإن طال المدى، فنفس الاستعمار طويل!.. ص _096(5/92)
عدت.. كئيب النفس كلما طالعت أخبار المسلمين فى الصحف , أو تتبعتها فى الإذاعات عدت كئيب النفس كسير الخاطر! ما كنت أحسب أن الضعف يجر على أهله هذا الويل كله، ويغرى الذئاب بالنيل منا على هذا النحو! ثم تذكرت قوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) لقد غفلنا ومالوا، "ولأم المخطئ الهبل " كما يقول المثل، وتأملت فى المفاوضات التى تدور بين الضعيف والغالبين فملكنى الدوار! يقول المفاوض اليهودى لنظيره العربى: لا تتحدث عن القدس ولا عن المستعمرات ولا عن دولة مستقلة، ويمكن أن نطيل الكلام فيما وراء ذلك، فى ظل ميثاق حقوق الإنسان.! وتنقل الأنباء خلال ذلك مصارع العشرات من الشباب الذين لا يملكون إلا الحجارة بالرصاص اليهودى.. كما تنقل نصائح أصدقاء العرب لهم أن يحافظوا على السلام..!! وفى البلقان تتفق القوى العالمية على رفض إمداد المسلمين بالسلاح، وتمضى المفاوضات المفروضة ومئات المساجد تهدم، وآلاف البيوت تحترق، وعشرات الألوف من الناس تزهق أرواحهم. والمهم أن ذلك كله يتم تحت عنوان البحث عن السلام، وتحرك وسطاء الأمم المتحدة لإقرار الحقوق المشروعة إ! ويبدو أن السلام لن يجىء حتى تكون الديار بلاقع، ويكون الوجود الإسلامى ذكرى منتهية ببركة هيئة الأمم المتحدة..!! ثم قرأت هذا الخبر عن مسلمى الهند وما يفعل الوثنيون بهم، إن عدد المسلمين فى الهند أقل قليلا من أعداد المسلمين فى جامعة الدول العربية! ولا أستطيع بتة أن ص _097(5/93)
تناسى آلامهم لقد قرأت أن 74 ألف مسلم أجبروا على ترك دينهم. هم مجموع أربع قرى من مقاطعة "ويستك" جنوبى الهند تم تحويلهم إلى الديانة الهندوسية. وكان حزب "بوشوا هندوبار يسند" المتشدد قد سارع إلى تغيير وثائقهم المدنية وأخذ يطبق عليهم كل مظاهر الدين الجديد ابتداء من حرق الموتى، واتباع تقاليد الزواج، ومنعهم من مخالطة باقى المسلمين فى المقاطعات المجاورة، وفرض حظر على ترديد كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وقال الأمين العام للمجلس الهندوسى العالمى فى مدينة "الله آباد" ليس فى قدرة أحد فى العالم أن يمنعنا من إقامة دولة هندوسية فى الهند خلال العام الحاضر!
يقع ذلك كله وهناك نفر من المثقفين العرب يرفضون الإسلام، ويمقتون تعاليمه ويتنادون لإقامة مجتمعات علمانية متقدمة !! حتى لا نعود إلى حضارة الصحراء.
ص _098(5/94)
ما جاء بكم إلى هنا؟! الاستعمار الغربى شديد المقت للإسلام والنقمة على أمته، كما يمقت اللص شرطيا أخذ بتلابيبه، وحمى النامى من سرقاته، ثم ساقه إلى السجن، لكن الشرطى للأسف مات وترك ذرية ضعفاء وجد اللص فيهم متنفسا لحقده القديم.. ا! ما الذى أغرى الرومان بالزحف على الشرق؟ قالوا: سحر الشرق وكنوزه المهملة. !! وغفلات حكامه!! لقد رأيت تمثالا للإمبراطور "قسطنطى" فى الجزائر، فى البلد الذى أطلق عليه اسمه، وظل الرومان فيه دهرا.. ومن قبل ذلك كان احتلال مصر التى عاش فلاحها يكدح لتصدير القمح إلى روما! ما الذى جاء بهؤلاء الناس ليحتلوا الشمال الإفريقى كله، ويحتلوا وادى النيل والشام والأناضول؟ إنه السلب والنهب وضراوة القوى بالمستضعفين.. الغريب أن الإسلام وحده هو الذى أخرج الرومان مدحورين، وطارد جيوشهم حتى ردها إلى أرروبا وقطع عنهم الإتاوات التى فرضوها لأنفسهم! فهل روعيت هذه الحقائق فى كتابة التاريخ؟ قالوا: فتح العرب مصر، هل كانت مصر دولة مستقلة ذات سيادة قاتل العرب أهلها واستولوا عليها؟ لقد قاتل المسلمون الرومان المستعمرين، ما قاتلوا أحدا من مصر، وظلوا يطاردونهم حتى أجلوهم من الإسكندرية إلى إيطاليا. وعندما قرأت غزوة مؤتة خيل الى أن هذا بلد أجنبى يمتلكه الررمان، ثم عرفت بعد أن مؤتة فى الحجاز كدمنهور فى مصر، بلد عربى خالص. ص _099(5/95)
قلت ما جاء بالرومان إلى هنا، وما الذى إغراهم بوقف سير الدعوة الإسلامية شمالى الحجاز؟ لكن الله غالب على أمره، لقد ظل، "الفتح" الإسلامى يقاتلهم شبرا شبرا. فلما أصاب منهم مقتلا فى معركة اليرموك خرج هرقل من الشام وهو يقول: سلام عليك يا سوريا سلاما لا لقاء بعده! اخرج لا ردك الله، ما الذى جاء بك إلى هنا؟ وما الذى قدمتم إلى الناس طول مقامكم بينهم؟ الإذلال والكفر! لقد شاء الله أن يكون الإسلام وحده مؤدب أولئك الطغاة، ففى العصور القديمة والوسطى كان الرومان جاثمين على صدور الناس ينالون منهم ما شاءوا حتى ظهر خاتم الأنبياء "محمد"، وقذف بالرجال الذين رباهم على قلاع الظلم فتساقطت قلعة قلعة بعد ما ظلت ألف عام لا يحركها شىء! أفلا يكره الأوروبيون الإسلام بعد ذلك ويكيدون له ما استطاعوا ص _100(5/96)
كيف نكتب التاريخ؟! سرنى أن جماعة الإغاثة الإسلامية فى البوسنة والهرسك هى التى تجمع الأخبار والحقائق عن الحرب الدائرة هناك! وإذا لم يهتم المسلمون بذلك فمن الذى يهتم؟ إن دراسة التاريخ القريب والبعيد عبادة، وقد كان الصحابة يروون لأولادهم مغازى الرسول كما يحفظونهم السورة من القرآن. وإننى أحس فزعا كبيرا من جهل أمتنا بالوقائع الخطيرة فى حياتها، يبدو أن المشاكل الاقتصادية والسياسية للساعة الحاضرة أحاطت بهم ولفتهم فى ضباب قاتل، وإلا فما هذا الجهل والانحسار؟ ذلك وقد رأيت بعض المتدينين يهتمون بقضية المسح على الجورب أكثر من اهتمامهم بسقوط قطر إسلامى فى يد الأعداء! فأى تدين ذلك؟ إننا بحاجة إلى أن نعرف ما يقع لنا، وما يعترض مسيرتنا ومدى العداوة التى تواجهنا وحرام والله أن نلتقط هذه المعلومات من أفواه المراسلين الأجانب الذين تتحكم فى مروياتهم أهواء شتى.. إننى مع ألوف غيرى كنا نقرأ أن "طارق بن زياد" أحرق سفن المسلمين وألهب مشاعر جنوده كى يفتحوا الأندلس. والحق أن هذه رواية مختلقة لا سناد لها. والغريب أن المصادر الأوروبية مجمعة على أن الأسبان الثائرين على مليكهم الفاسق هم الذين استنجدوا بالمسلمين، وقدموا لهم العون، وأغروهم بفتح "الأندلس " وإنقاذ شعبه المقهور!! لماذا لا نستوعب كل ما يقال فننصف أنفسنا ورسالتنا؟ ولماذا لا نزال ندرس سقوط بغداد على أنه غارة تتارية بدل أن نتدبر الروايات الأوروبية التى تؤكد أنه حملة "مغولية صليبية" شارك فيها الفاتيكان مشاركة فعالة؟ إن جهود المؤرخين المسلمين قاصرة، ونشاطهم مشلول، والغارة على الإسلام فى هذا العصر لا نجد من يسجل أنباءها، مع كثرة هذه الأنباء ومرارتها واتساع جبهاتها وإنه ص _101(5/97)
مما تسود له الوجوه أن يهلك الألوف من المسلمين جوعا ومرضا، بينما تبحث ألوف أخرى عن الاستجمام والراحة لأنها لا تدرى شيئا عما يقع لإخوانهم.. أناشد أيقاظ المسلمين أن يسدوا هذا النقص. إن أنباء كالحة تجىء عن مسلمى الهند الذين قهرهم الهندوس، وكما هدمت مئات المساجد فى مدن البوسنة وقراها هدمت أمثالها فى أرجاء الهند، إن الغارة على الإسلام تشعبت وغارت جراحها والمسلمون الآن يناوشون شرقا وغربا، وضعف المقاومة يعنى الموت.. فليكن هذا الكتاب صيحة لها ما بعدها، ولتتجاوب النداءات من كل مكان حتى تصحو الجماهير الغافية : (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) ص _102(5/98)
فتن لا يزال جهاز المناعة فى كيان الأمة الإسلامية يؤدى وظيفته، ويحمى هذه الأمة من الأزمات والفتن التى يبثها أعداؤها، ومن الخطأ أن تحسب شموع الإسلام قد انطفأت كلها وأن الظلام يهدد مستقبله، وأن أمة أخرى ورسالة أخرى موشكة على الظهور!. كلا، ليس بعد رسالتنا رسالة، ولا بعد أمتنا أمة ولا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك، وكتابنا باق إلى يوم البعث، وسنقول للمجرمين الذين حاربونا : (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) وقد وعد الله "عيسى بن مريم " بأنه نازل لتوكيد عقيدة التوحيد، وأنه لن يجىء لغير هذا الهدف الذى قرره فى حياته الأولى: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) والقول بأنه سوف يبيد الملايين من الناس فى معركة "هرمجدتون" تمهيدا لقيام مملكته قول مستنكر.. إن المسيح إذا نزل الآن فسيدافع عن المسلمين فى "البوسنة" و"الهرسك" وسيدافع عن المضطهدين فى كل مكان، وسيحف به المسلمون فهم أولى الناس به. قال تعالى: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) ومزاعم الإنجيليين " البروتستانت" أن قيام إسرائيل الكبرى شرط لنزوله خيال مريض، بل هو نوع من التضليل الصهيونى الذى وقع المساكين فى حبائله، والنبوءات ص _103(5/99)
التى عندنا ـ وهى أصدق مما اختلقوه ـ أن اليهود يحفرون فى فلسطين مقابرهم ويخطون مصارعهم، ولن تقوم بإذن الله إسرائيل الكبرى ولن تبقى إسرائيل الصغرى، وإن غدا لناظره قريب. أعرف أن الخلافة الإسلامية سقطت من سبعين سنة، وأن الجامعة الإسلامية تعرضت للتذويب والمحو، وأن النزعات القومية تعمل بدأب على استبعاد التشريع الإسلامى والتربية الدينية، وأن محنا شديدة تمر بالمسلمين المعاصرين.. ولكن شيئا من ذلك لن يفت فى عضدنا ولن يقذف باليأس فى قلوبنا، فقد مرت بنا عبر تاريخنا الطويل محن أقسى وظلمات أشد، ثم نجونا واستأنفنا المسير! والذى أريد تذكير إخواننا به. فى المشارق والمغارب أن وعد الله لنا بالتمكين مشروط بشىء واحد (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) وقد أردف ذلك بما يربط على قلوب المؤمنين : (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير) إن الصهاينة من المسيحيين يخونون دينهم عندما ينضمون إلى اليهود فى حربنا، وسواء كانوا رؤساء أو مرءوسين فإن مصيرهم كالح : (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) ص _104(5/100)
دليل الاقناع بعض الناس قد يستريح إلى عقيدة ما أو منهج ما ثم يمضى فى طريقه لا يلوى على شىء.! لعله يؤثر الصمت أو يكره الجدال أو ييأس من إقناع الآخرين بصحة ما عنده وبطلان ما عندهم.. وهذا الصنف قليل فى الدنيا، أو كان يمكن أن تتسع له الحياة قديما فيحيا وحده ويموت وحده! أما فى عصرنا فإن العلاقات العامة فرضت نفسها على الناس، فما يستطيع أحد أن يعيش فريدا.. كان المثل المضروب قديما (السلطان من لا يعرف السلطان) أما الآن فهذا متعذر فإن من لا يعرف السلطان سيسعى السلطان إلى معرفته وفرض نفسه عليه..!! إن الحكم الآن صنع شبكة من العلاقات المادية والأدبية تمنع أى فرد من أن يعيش فى قوقعة ومعنى ذلك أنه لابد من الحوار والأخذ والرد وعرض وجهات النظر والاعتماد على الدليل فى الإقناع والاقتناع وإعطاء الراى المعارض حق الحياة مادام مصحوبا بالإخلاص والتجرد. ويضيف الإسلام إلى ذلك دفع السيئة بالحسنة : (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) وترك اللجاجة تأخذ مجراها حتى يبت فى مصيرها القدر فماذا تفعل لأناس يقولون لله: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) وأنا أحترم حرية الرأى إلى أبعد حد ولكنى أكره الغباء والافتراء ومساندة الدعوى بالعصا واستغلاق العقل بحيث تعجز كل مفاتيح الحقيقة عن فتحه! إن المكابرة رذيلة بغيضة!! ص _105(5/101)
وقد وجه الإسلام من أول تاريخه بمجادلين طوال الأنفاس يرفضون الله الواحد ويستريحون إلى أوثان متعددة، يأنف أحدهم من السجود لقيوم السماوات والأرض ويذل أمام حجر أصم وقد استعرضت سورة غافر أحوال هؤلاء المجادلين الذين كذبوا بالكتاب كان آخرها قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا) إن رد القرآن الكريم ليس تكذيبا له وحده، إنه تكذيب لكل وحى نزل، إنه تكذيب لموسى وعيسى ومحمد.. وقد نظرت إلى المتدينين فى الغرب فإذا هم غثاء فى تيار الحضارة الحديثة، يكرهون الإسلام لأن آباءهم كرهوه، فهل آمنوا بموسى وعيسى؟ وهل استعدوا بشىء للقاء الله؟ كلا إنهم جزء من الحضارة التى تعبد اليوم الحاضر وتكره اليوم الآخر. إن أقطار الغرب استباحت الشهوات والمظالم، واحتفت بالجنس الأبيض وتجهمت لسائر الأجناس. وما أنكر أن المسلمين فرطوا فى تراثهم وخانوا رسالتهم ولكن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى الهاوية التى تجرنا إليها حضارة أضاعت الصلاة واتبعت الشهوات. ص _106(5/102)
عواء الإلحاد أتسمع أنباء القتال فى البوسنة، وأتابع مصارع المسلمين على أرضها ثم أنثنى على كبدى من خشية أن تصدعا كما يقول الشاعر! من ثلاثين شهرا والحرب دائرة هناك والمسلمون تحت الضغط الهائل يتراجعون شبرا شبرا وفوق كل شبر قتيل طل دمه ورخص ثمنه!! والعالم كله يمنع السلاح عن المسلمين، روسيا وحلفاؤها، والأوروبيون جميعا، وأمريكا التى اكتفت بالكلام الحماسى والتلويح باليد عن بعد! ويسمع الناس مذهولين أن حلف الأطلسى عجز عن مواجهة العصابات الصربية، وأن ممثلى هيئة الأمم ينصحونها بالفرار!! أعنى ينصحون الهيئة الموقرة، وأن مواثيق حقوق الإنسان وضعت على الرف.. وأنظر إلى المسلمين حولى فأرى أناسا يذوقون لباس الجوع والخوف، ويتحركون على الأرض كأنهم سكارى ولا يدرون ما يصنعون!! وسمعت إذاعة لندن تقول إن الصربيين يقاتلون بمهارة ويتقدمون بشجاعة، وأنهم سوف يطلقون صراح بعض الأسرى من جنود هيئة الأمم!! قلت: لماذا لا يقاتلون بشجاعة والطائرات تحميهم من فوق والدبابات من تحت والمدافع البعيدة المدى تمهد لهم الطريق، أما المسلمون فهم يقاومون بالبنادق أو بالسلاح الأبيض ويسكتون بطونهم بلقيمات لا تسد جوعا، إننا فى بلادنا- والبرد خفيف- نتقيه بشتى الأغطيه إما هم- ودرجة الحرارة عندهم تحت الصفر- فما يجدون دفئا إلا من فضلات المتصدقين! إننى فى هذه الأيام العجاف أتذكر الهاربين من التتار عندما سقطت بغداد، والهاربين من الصليبيين عندما سقطت غرناطة، الجراح الجديدة تنكأ الجراح القديمة وتبعثنى على التساؤل: ما سر هذه النكبات بين الحين والحين؟ ص _107(5/103)
والجواب: نحن السبب كما قال الله لنا عندما هُزمنا فى أحد : (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) لقد أمرنا الله بالعدل فلماذا نتظالم. وأمرنا بالإحسان فلماذا نسىء. وأمرنا بالوحدة فلماذا نتفرق. وأمرنا أن نتحاكم إلى كتابه فلماذا نتحاكم إلى الطاغوت؟؟ هل جرب المسلمون أن يصطلحوا مع الله ويقيموا شرائعه وشعائره؟ إننى أسمع عواء لدعاة الإلحاد فى عواصم إسلامية كثيرة، عواء يرتفع دون وجل أو خجل، إننى أرى سباقا مجنونا لإرضاء اليهود ومن وراءهم على حساب الأرض والعرض، إننى أرى دولا علمانية وشعوبها مسلمة تقول للحكومات الأوروبية: ساعدونا لنبقى علمانيين ونحول بين الأجيال الجديدة والعودة إلى الإسلام! إن الإسلام يخان فى أقطار كثيرة والقاعدة التى درسناها فى كتابنا: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) ص _108(5/104)
حمية للإلحاد يعرف المسلمون " أذربيجان " منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد وصل الإسلام إليها واستقر فيها قبل أن يطويها المد الشيوعى فى فيضانه النجس فيحرج عقيدة التوحيد، ويرجح كفة الكفر والفسوق والعصيان. وقد ساءنى أن ينهزم الجيش الإسلامى أمام الأرمن، ويبدأ السكان فى الفرار! وتساءلت ما سر هذه الهزيمة المباغتة؟ فعلمت أن أسلحة ثقيلة ومتطوعين كثيرين وفدوا من روسيا يشدون أزر الأرمن ويقوون حملتهم لأنهم- وبقايا الشيوعية فى دمهم- يكرهون أن ينتصر الإسلام ويعز أهله.. ولست أدرى ما المستقبل؟ فإن ما يقع الآن فى أذربيجان سبق أن وقع أنكى منه فى البوسنة والهرسك، فدحر الأهلون وهدمت مساجدهم! ولم تنكمش ظلال الحنة بعد، بل الذى أراه أن الإسلام يضرب فى كل مكان ويحرج فى أكثر من ميدان، فالذين طردوا من "بورما" لم يعودوا، وهم الآن لاجئون مثل إخوانهم فى فلسطين، ومسجد بابرى فى الهند لم يهدم وحده، وإنما هدمت معه مساجد كثيرة، ومسلمو الفليبين يعيشون فى وجل مخافة أن ينفجر بين لحظة وأخرى بركان التعصب الصليبى فيخوضوا حربا لا تعرف نهايتها..! لقد لاحظت أن العلمانيين داخل العالم الإسلامى ووراءه يحرضون أتباع الأديان الأخرى على الإسلام، ويختلقون لهم الأعذار، وربما نسبوا إلى المسلمين عدوانا لم يعرفه اليهود ولا النصارى، وليس ذلك حبا للكنيسة ولكنه كره للمسجد..! وفى تتبعى للمعارك الأدبية والاجتماعية وجدت العلمانيين- وجمهرتهم من الشيوعيين المنافقين أو الصرحاء- يتنادون بين الحين والحين لضرب الإسلام فى هذه ص _109(5/105)
المعركة أو تلك، وينصر بعضهم بعضا إذا وجده محرجا، بل قد ينصره لغير سبب حمية للواء الإلحاد الذين يجتمعون تحته! وقد رأيت أخيرا مظاهرة لهم اشترك فيها عشرات من الأساتذة ردا على ضير توهموا نزوله بواحد منهم ا! إن ذلك يجعلنى ألفت نظر الإسلاميين إلى المستقبل القريب والبعيد لديننا المثخن بالجراح، إن خيرا لهم أن يتقاربوا وأن يلموا شملهم فإن النذر المقبلة تؤذن بشر مستطير، إن أعداء الإسلام طامعون فى القضاء عليه، وحاضرنا ملىء بالخسائر فإذا لم نتلاق على كلمة سواء تلاقى أعداؤنا على رفاتنا. ص _110(5/106)
من ذكريات حرب رمضان انتظرت أن يكتب غيرى فى هذا الموضوع ولكنى وجدت الصمت ممتدا فقلت ما بد من الكلام عن نشاط الدعاة المسلمين بين الضباط والجنود قبل معركة العاشر من رمضان.. كان الشيخ حافظ سلامة يجيئنى صباح الخميس من كل أسبوع ليقول لى نريد نحو عشرين من الأئمة والوعاظ يتوزعون على الجبهة ليلقوا الدروس الدينية فى المساء ويخطبوا الجمعة ويرفعوا الروح المعنوية! ويتعاون الأزهر والأوقاف على اختيار العدد المطلوب، وتنقلنا السيارات إلى السويس ويدلنا الشيخ حافظ على أماكن عملنا فنذهب إليها لننفخ روح القوة والأمل ونروى فصولا من السيرة النبوية وفتوح الخلفاء ومقاتلة الصليبيين على امتداد قرنين، ويتحول السمر الدينى بالليل والدرس الحماسى بالنهار إلى تيار كهربى متصل فما نترك الفرق المعسكرة على ضفاف القناة إلا وهى ترجو الشهادة وتنتظر اليوم الموعود! ولم يكن ذلك جهدا سهلا فإن هزائمنا السابقة تركت فى النفوس رواسب مقلقة. كيف انتصر اليهود سنة 967ا ؟ وكيف استطاعوا خلال ساعات أن يوجهوا إلينا ضربة قاضية؟. إن قيادتنا كانت فى غيبوبة! ما أعدت للحرب عده، وما وضعت لها خطة ففوجئنا بأن الجيش الذى هزم أوروبا فى "حطين" وهزم آسيا فى "عين جالوت" وشتت شمل الصليبيين والتتار فى معركتين هائلتين فوجئنا بأن هذا الجيش يحاط به وينال منه وهو فى الحقيقة مظلوم. ما أشبه جمال عبد الناصر بصدام حسين هذا ذهب بجيشه لاحتلال الكويت وهذا ذهب لاحتلال اليمن ما لكما ولليمن والكويت، ولماذا تركتما فلسطين نهبا لليهود؟ ولما دارت الحرب لم نر للرجلين خططا مدروسة، فلم يكن بد من الهزائم الموجعة. ص _111(5/107)
كنا نرى إخواننا على ضفاف القناة مقطبى الجبين كاسفى البال غضابا لما حل ببلادهم وسمعتهم ولكن الإيمان صانع العجائب والاتصال بالدين فعل بنفوسهم فعل السحر فكانوا يتحركون وفى صدورهم شحنات من اليقين المضغوط حولهم إلى جن عندما بدأت المعركة فهم يدوسون خط بارليف ببأس شديد ويجرون فوق ألجدار الرملى كأنهم مدعوون إلى حفل ويهبطون بالردى على خصومهم فيملؤونهم رعبا وقنوطا. ويعلم الجنود أن الإفطار فى رمضان جائز لهم، ولكن بعضهم أبى أن يفطر وقال: لعلى فطورى يكون فى الجنة! وكانت الجبهة الممتدة على أربعين ميلا تدوى بالتكبير وتقذف بالرهبة فى قلوب العدو فما يرى أمامه إلا الاستسلام أو الموت. كان نداء الله أكبر قد ألغى! ثم فرضته طبيعة الإيمان فى شعبنا المؤمن. إن أعداء الله ورسوله كثيرون. ومنهم من يكره كلمة الله أكبر أشد الكره، وهؤلاء من ورأء الانهيار الملحوظ فى الجبهة العربية اليوم، الجبهة التى لا تبالى بالمسجد الأقصى ولا بمصير ملايين اللاجئين. ص _112(5/108)
ثبات عميق مسجد "بابرى" بشمال الهند ظل أربعة قرون مثابة للمسلمين يقيمون فيه الشعائر ويتقربون إلى الله الواحد لا يشعرون بقلق ولا ريبة، ولكن الاستعمار الانجليزى للهند غير الأوضاع وخط للأمور مجرى آخر إذ جعل "الهندوس" حكاما للبلاد وأبعد المسلمين عن مناصب القيادة وأحيى النزعة القومية وزعم- باسمها- أن المسلمين- وكانوا ثلث السكان- لا يجوز أن يحكموا البلاد كما كانوا أيام الفتح !! وبهذه الخطة الانجليزية حكم الوثنيون الهند، وكانوا كثرة ساحقة ووجدوا الفرصة سانحة لإنزال الإسلام عن مكانته وتحويل المسلمين إلى رعية مسحوقة.. وانتهى الصراع بين الفريقين إلى ما نعلم، فقد قامت باكستان الكبرى ثم انقسمت بعد إلى دولتين !! وحمل المسلمون الباقون فى الهند عبء الأوضاع الجديدة وهم يبلغون 150 مليونا وإن زعمت الإحصاءات المزورة أنهم دون ذلك.. لكنهم مع هذه الكثرة تائهون وسط أكثر من ستمائة مليون وثنى لا يزالون يعبدون الأصنام ولكن أوروبا تدعمهم ماديا وأدبيا حتى لتوشك الهند أن تتحول إلى دولة كبرى.. ومحاربة الإسلام، وقهر أتباعه وتمويت شعائره شىء محبب للغرب والشرق معا، وقد كانت هناك فلسفة علمانية تحكم البلاد، وتكفكف غلواء الوثنية الحالمة، لكن يبدو أن كفة العلمانية خفت، وأن حزبا آخر يعتمد على الهندوكية يوشك أن يأخذ الزمام.. ورئيس هذا الحزب هو الذى أصدر الأمر بهدم المسجد التاريخى كى يبنى المتعصبون على أنقاضه معبدا للإله "رام "!! وقد أخضر الهادمون تمثال الإله "رام " هذا كى يضعوه فى ساحة المسجد الذاهب !! والمضحك أن جند الحكومة المركزية لما جاءوا لإجلاء الهاجمين على المسجد، ورأوا التمثال سجدوا له، وإن كانوا نجحوا فى إجلاء الألوف التى هدمت المسجد! وفداحة المأساة تظهر عندما نعلم أن " أرثوذكس الصرب " هدموا فى البلقان مئات ص _113(5/109)
المساجد، وأن الأمة الإسلامية تواجه فى شرقها وغربها غارة شعواء تحاول الإطاحة بمعالم الإسلام، والقضاء على رسالته.. إننى أناشد المسلمين فى كل شبر من أرض الإسلام أن يصحوا من رقادهم وأن يهبوا للدفاع عن تراثهم ووجودهم.. إن العداوات القديمة استيقظت بغتة وهى تحسب أن الظروف تساعد على محونا والإجهاز على ديننا.. فى كل حارة أو ميدان، فى كل قرية أو مدينة ينبغى أن نتلفت حولنا فقد تكون هناك مكيدة مدبرة لديننا ونحن لا ندرى. وسوف ينصر الله من ينصره (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ص _114
هل نفيق؟ ما أكثر السهام المصوبة للإسلام فى هذه الأيام! كأن القوى المعادية له وجدت الفرصة مواتية للنيل منه،اصابة مقاتله.. ونحن لن نصرخ مع هذا البائس اليائس الذى يقول: فلو كان هم واحد لاتقيته ولكنه هم وثان وثالث.. بل سنبقى فى مواقف الحراسة عن ديننا ورد الهجمات الغادرة التى يتعرض لها (ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) راقبت الضحايا فى القتال الذى يدور فى يوغوسلافيا فإذا هم بين الكروات والصرب عشرات، لأن الكروات كاثوليك يؤيدهم البابا ودول أخرى.. أما القتال بين المسلمين والصرب فالقتلى مئات، وقد يصلون إلى الآلاف لأن المسلمين ليس لهم ظهير يفزع لهم ويدفع عنهم !! ومن قبل فر مئات الألوف من مساكنهم فى بورما وقتل الآلاف دون أن يؤدب المجرمون أو يشعروا بخوف مما اقترفوا.. قال لى صديق: وما العمل الذى كنت تقترحه لقمع الوثنية البوذية فى بورما؟ وشل يدها عن إيذاء إخواننا؟ قلت: التناصر عنصر أصيل فى الأخوة الإسلامية، ولو تحرك البنغاليون والباكستانيون ملوحين بالقوة العسكرية لتراجع المعتدون وجنبوا، ولو وقع ذلك لكان لزاما على الدول الإسلامية كلها أن تساعد بنجلاديش وباكستان وتشد أزرهما حتى يثوب البوذيون إلى رشدهم ويأمن المسلمون فى مواطنهم.. ص _115(5/110)
إن فقدان روح التناصر يرجع إلى ضعف الأخوة العامة، وضعف هذه الأخوة يعود إلى أن الإيمان مريض، والصلة بالله واهية !! وربما لا يحتاج الأمر إلى قتال أو تلويح به ومع ذلك ندع ديننا يخذل فى قضايا قد تكون محدودة ولكن دلالتها صارخة. خذ مثلا ما وقع أخيرا فى "إريتريا" إن المعهد الإسلامى فى العاصمة "أسمرة" تحول الى مدرسة مدنية عادية! وقد كان هذا المعهد تابعا للأزهر، ودرس به نفر من كبار علمائه، وإلى جواره مسجد شامخ.. فما معنى محو الصبغة الإسلامية له؟ ولماذا تفعل ذلك الثورة الساعية إلى استقلال إريتريا؟ هل محو الصبغة الإسلامية عن التراب الوطنى شرط هذا الاستقلال؟ ومسلمو إريتريا تسعة أعشار السكان؟ إن هيلاسلاسى تمثال الحقد الصليبى فى القارة السوداء، لم يفعل ذلك فكيف يتجرأ عليه الثوار الجدد؟ والغريب أن هيئة الأمم المتحدة لا تستضعف إلا المسلمين فى تنفيذ مقرراتها، فإن إسرائيل كما يعرف القاصى والدانى رفضت الخضوع لهذه القرارات، وأقامت مؤسسات ذرية تحت سمع العالم وبصره، ومع ذلك تعامل برقة شديدة، وعطف بالغ ويقال علانية: إن قواها ـ وهى مفردة ـ يجب أن تساوى قوى العرب مجتمعين..!! أو تزيد.. ما أرخص الدم الإسلامى فى هذه الأرض! وظاهر أن القصعة لا تزال حافلة بالطعام وأن الآكلين يعزمون على ضيوف جدد كى يشاركوهم فى الأكل!! ترى هل نفيق !! ص _116(5/111)
المد الإسلامى ابتلى الإسلام فى القرن الأخير بثلاث مصائب كبرى: أولاها نجاح الاستعمار العالمى فى إلغاء الشريعة الإسلامية وإبعادها عن القضاء واستبدال الأحكام الأوروبية بها. وثانيتها إقامة دولة لليهود على أنقاض العرب، وتقليب الأمور فى الأقطار المجاورة حتى يعترف بهذه الدولة وتنشأ مجتمعات تتعاون معها سياسيا واقتصاديا. !! وثالثة المصائب النشاط العالمى والمحلى لضرب التيارات الإسلامية المتشبثة ببقايا الإسلام المقيمة لشعائره الظاهرة الحنين لآدابه ومعالمه! فقد ظهر أن العالم الإسلامى لا يزال يؤثر العفاف على الرذيلة والاحتشام على التكشف والتقوى على الانحلال، ولا يزال يأوى إلى ظل الأسرة ويرفض التسوال الجنسى ويحترم الحجاب ويحتقر الشذوذ، والأجهزة الراصدة للنشاط الدينى عندنا أثبتت أن !ى الصلاة يزيدون ولا ينقصون، وكذلك صوام رمضان وطالبو الحج.. وإذا ترك المسلمون على هذه الحال فقد يستردون ما فقدوا، وتعلو راية الإسلام مرة أخرى!! فما العمل؟ يجب أن تنشط الحرب ضد الإسلام، وأن تكون وسائل القضاء عليه أمكر وأدهى! إن المسلمين زادوا زيادة ملحوظة فى السنين الأخيرة فلتقف هذه الزيادة فورا.. فإن آثارها غير مأمونة وكما قررت هيئة الأمم إقامة إسرائيل من خمسين سنة، فلتقرر الهيئة تحديد النسل الآن ولتمنع ما يسمى بالانفجار السكانى ولتضع من وسائل الترغيب والترهيب ما يقلص أعداد هذه الأمة المتنامية! وقد قرأت وأنا دهش كيف طلبت الهيئة الموقرة (!) منع الزواج المبكر فى حين أن الدول العظمى أقرت الشذوذ المبكر، ومنذ شهور أباح مجلس العموم البريطانى اللواط إلى سن الثامنة عشرة! أما الزواج المبكر فهو مكروه. ص _117(5/112)
وقد استغربت وضع العوائق أمام الطالبات اللائى يرغبن فى الحجاب، فهل وضع عائق أمام راقصة تتلوى أمام الجمهور كالحية الرقطاء تستفز الغرائز الهاجعة، وتثير الرغبات الحرام؟ إننى أتوقع قرارات رسمية وحملات دعائية ومؤامرات استعمارية لضرب الإسلام فى مقاتله وفض الجموع التى تحن إليه وتريد إعادته دينا ودولة وعقيدة وشريعة، وأناشد أمتنا أن تواجه الغارة عليها بالمقاومة الصادقة واليقظة العارمة. ص _118
الشخصية الإسلامية الشخصية الإسلامية مهددة فى هذه الأيام تهديدا محرجا لا فى المعالم التى تمحوها عوامل التعرية بل فيما هو أخطر من ذلك وأدهى! فى كيانها نفسه.. فإن التطبيع الاسرائيلى والامتداد الفرنكفونى يتسابقان جميعا لزحزحتنا عن ديننا والإتيان على تراثنا.. عندما قررت الحكومة الفرنسية منع الحجاب فى مدارسها كان القرار نفسه قد صدر فى بلاد إسلامية أخرى فمنعت الطالبات، بل منعت الموظفات والممرضات من ارتداء الحجاب، والمقصود بداهة إكراه المسلمات على التفريط فى الإسلام، وكان ذلك من بضع سنين، وجاءتنى شكاوى كثيرة- وأنا فى الجزائر- من هذا التصرف الشرير الذى وقع فى بلاد مجاورة. ثم شاء الله أن يحكم القضاء الفرنسى ببطلان القرار الوزارى لأنه ضد حقوق الإنسان! ولكن التعصب عاد هذا العام يرفض التحجب بوصفه من رموز الإسلام، والغريب أن مصر سارعت إلى تنفيذ هذا القرار الفرنسى بوصفها من الدول الفرنكفونية فيما يظهر !! ومعروف أن فرنسا من أشد الدول ضغينة على الإسلام وتعاليمه وتاريخه، وهى تحارب الثقافة الإسلامية كما تحارب الشارات الإسلامية استئنافا لمهمة ابنها البار "بطرس الناسك"، واستهانة بحلفائها المسلمين الذين يظلهم علم الفرنكفونية الجليل !! أما التطبيع اليهودى فله شأن آخر، يجب قبول الأمر الواقع فى احتلال القدس وأغلب فلسطين، والرضا بذلك سرا وعلنا، فبعد الصلح الواجب مع إسرائيل ينسى المسلمون أنهم كانت لهم هنا دولة، وأن(5/113)
أهلها هربوا ولن يعودوا، ولا يجوز التفكير فى إعادتهم، ويجب أن يدرس تاريخ اليهود القديم والحديث دراسة أخرى يتوفر فيها الاحترام لليهود وأخلاقهم وأعمالهم وخبراتهم! ص _119
لكن ما العمل أذأ كان القرأن نفسه قد صور مآسى بنى إسرائيل وتحالفهم مع عبدة الأوثان ضده؟ الخطب سهل ينسى المسلمون هذا القرآن، أو يتجاوزون عند تلاوته الصفحات التى يضيق بها اليهود! لماذا يكررون قوله تعالى : (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) ليقرأوا غير ذلك! ولا داعى لدراسة خيبر وبنى النضير وغيرهما! إن تطبيع العلاقات يوجب تغيير التاريخ.. وعلى دعاة الهزيمة والراضين بها تغيير الشخصية الإسلامية، بل عليهم التنازل عن دينهم كله جملة وتفصيلا، حتى يرضى اليهود.. ص _120(5/114)
سماسرة الكفر الاستعمار الثقافى أحرز انتصارات واسعة فى العالم العربى وتكونت له عصابة من الكتاب ذوى القلوب الخربة تخدم أغراضه وتزين مقابحه وتحارب من حارب وتسالم في سالم، وأعضاء هذه العصابة من الصنف الذى قال الله فيه: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) وقد تأملت فى سيرتهم فرأيتهم يكرهون الله كرها شديدا ويشمئزون من وحيه ويهشون لكل هجوم عليه ويصرون على تمويت شرائعه وتشجيع كل خارج عليها فى الشرق أو فى الغرب، ولو علموا بأن على سطح المريخ ملحدا لأرسلوا إليه يؤيدونه. إننى أعرف أن بالأرض كفارا وأن بها مؤمنين وأن بها دعاة للخير ودعاة للشر ولكنى لم أعرف سمسرة للكفر أضرى من هذه السمسرة. إنهم إذا وجدوا رجلا تاب سارعوا إليه يقولون: كنت عاقلا فما دهاك؟ وإذا وجدوا أحدا شتم محمدا سارعوا إلى كتاباته ينشرونها ويثنون عليها، وقد ضلت أخيرا امرأة من البنغال واحتضنها الغرب الصليبى على عجل وطار إليها أولئك الكتاب العرب يشجعونها وينقلون هذرها إلينا بلا حياء وكأنهم يقولون لأهل مصر: تعلموا من هذه العبقرية. واستغربت من استماتة هذه العصابة الحقود. فى نشر رواية "أولاد حارتنا" برغم أنف صاحبها! لقد قرأت ما كتبة نجيب محفوظ فى السنوات الأخيرة، كانت كتابات واعية لعقل مجرب يبغى الخير لأمته، فإذا نفر من سماسرة الكفر يعلنون بأنهم سينشرون الرواية التى صدرت من خمس وثلاثين سنة، وقال لهم مؤلفها: إن الجو غير ملائم! ص _121(5/115)
وقالوا هم نريد نشرها! يظنون بذلك أنهم يكيدون للإسلام وينالون من سلطانه الروحى على الجماهير! والعيب الأكبرليس فى هؤلاء المارقين، إنه فى من مكن لهم وأكره الناس على قراءتهم وأعطاهم صدور الصحف السيارة يملأونها بالغثاء وينفسون عن ضغائنهم ضد الإسلام وأمته! فى لقاء عام قابلت واحدا من هذه العصابة فرأيت فى جيده قلادة من ذهب، فلم أستغرب أن يستنوق من الجمل، لقد ألفت رؤية هذه النوق، وإنما استغربت أن تلقى الأمة زمامها لهذا الصنف الملتاث الذى لا يرى أبدا فى مسجد وقد يرى فى إحدى الحانات يشرب الإثم ويستعد لكتابة مقال يفسد به الأجيال الجديدة، ويجرئها على ترك الإسلام بعضه اليوم وكله غدا. ص _122(5/116)
مفسدو الأوضاع عاصرت فى شبابى نهضة أدبية عارمة فى ميدانى الشعر والنثر جاءت بعد قرون مجدبة كما يجىء الغيث بعد قحط طويل، كان هناك شوقى وحافظ والجارم ومطران ومحرم وعبد المطلب، وقد تركوا دواوين أغنت العروبة ورفعت قدرها. كما كان هناك العقاد والرافعى وأحمد أمين وزكى مبارك وطه حسين وأحمد حسن الزيات ومواريثهم الأدبية تزحم المكتبات وتغذى العقل والعاطفة، وقد كتبوا فى الدين والتاريخ والسياسة والفن وثمرات أقلامهم باقية على الزمن، وجمهرتهم ساندت شعبنا المكافح، ولم تعرف الملق والارتزاق، وقد خرج العقاد من السجن الذى دخله متهما بمحاربة الاستعمار وكان أول ما فعله بعد تحرره أن ذهب إلى بيت سعد زغلول زعيم الأحرار ليقول هناك: عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما سيعهدنى كل كما كان يعهد!! الغريب أن هؤلاء الرجال القمم لم يصف أحد منهم نفسه بأنه مبدع! ولم يصف زملاءه بأنهم عصابة الإبداع! وذهب عصر الرجال وجاء عصر العيال فإذا الذى يعرق فى تركيب جملة يسمى فارس الكلمة! وإذا الذى يعلن الحرب على علماء اللغة حين يلقى خطبة يسمى رجل المنابر! وأصحاب هذا الهراء يقولون عن أنفسهم: إن المبدع لا يحاسب أو لا يساءل عن قصده حين يكتب سطرا !! والمجال المختار لهذا الإبداع المتطاول هو الإلحاد، وإنكار الشريعة ونشر الإباحة والفوضى الجنسية على نحو ما قال نزار قبانى لفتاة أحلامه: "أحاول سيدتى أن أحبك خارج كل الطقوس، وخارج كل النصوص، وخارج كل الشرئع والأنظمة.. إلخ ". ما لهذه الشيوعية الدنسة وللشرائح والأنظمة؟ ص _123(5/117)
لقد رأيت شيوعيى العصر الماضى يختارون العلمانية عنوانا جديدا لهم. ثم يهاجمون الإسلام بكل ما يقع فى أيديهم من أسلحة، وقد استغربت عندما قرأت لأحد هؤلاء: ".. لقد خذلنا نجيب محفوظ، منع نفسه من التداول وحبس "أولاد حارتنا" عن النشر ووضع ضميره فى سجن الخوف ". ثم يقول: ".. نجيب محفوظ الذى خرج على القانون مبدعا يعود إليه موظفا "!! أرايت ما هو الإبداع عند هؤلاء الشيوعيين القدامى؟ اكفر بالله تكن مبدعا، حارب التعاليم والحدود الشرعية تكن مبدعا، اجمع القمامات الفكرية من مواطن الزبالة فى العالم أجمع وارم بها المجتمع الإسلامى تكن مبدعا، هل عرفت الإبداع فى منطق مفسدى الأوضاع؟! ص _124(5/118)
احتضار اللغة العربية يساورنى قلق شديد على مستقبل اللغة العربية فإنها إذا ماتت وضع القرآن الكريم فى المتاحف، وضاع تراثنا العلمى والأدبى كله. وقد كان الأزهريون قديما يتكلمون باللغة العربية فى البيوت والشوارع فمازال الغزو الاستعمارى يلاحقهم بالنكت والهزء حتى استعجمت ألسنتهم وتركوا الكلام بالنحو! وقد رأيت حالة اللغة العربية فى المغرب العربى واجتياح الفرنسية لها بين العامة والخاصة فأدركت إن الإسلام مقبل على كارثة. وقد نجحت مصر فى مقاومة الاحتلال الإنجليزي عندما حاول تدريس العلوم باللغة الإنجليزية فقضى سعد زغلول ورفاقه على هذه المحاولة وازدهرت اللغة العربية فى مصر، وارتقى تدريسها إلى حد بعيد.. ولكن محاولات القضاء على لغة القرآن تكررت وتصدى لها أولو الإيمان والغيرة حتى ظننا أننا نجونا فإذا قرار وزارى يصدر فى 1994/6/15 ليبدأ تنفيذه هذا العام جاء فيه: 1- تخفض درجة اللغة العربية فى الصف الثانى من الثانوية العام من 65 درجة وبحد أدنى 35 إلى ص درجة وبدون حد أدنى! 2- تخفض درجة اللغة العربية فى الصف الثالث من الثانوية العامة من 60 درجة وبحد أدنى 35 إلى ص درجة وبدون حد أدنى. ومعنى ذلك خفض درجة الصفين من 1 ص درجة وبحد أدنى 65 إلى 55 وبحد أدنى ص لتتساوى مع اللغة الإنجليزية. وقد تساءلت ما الغرض من دحرجة اللغة العربية على هذا النحو؟ إننا نشكو من شيوع اللحن وضعف الإعراب بين الكبار والصغار فهل تتخذ الخطوات لتحسين الأداء وضبط القواعد أم توجه إلى اللغة المهيضة ضربة أخرى للقضاء عليها.. ص _1 ص(5/119)
إن كثيرين بيننا تنطلق ألسنتهم سيالة باللغات الأجنبية، فإذا فرضت عليهم الضرورة أن ينطقوا باللغة العربية وجدت لهم بغاما مضحكا ورطانة هابطة!! لماذا نجهل النشء الجديد فى لغتنا؟ لماذا نشعرهم بأن الرسوخ فيها لا جدوى منه وأن العجز فيها لا ضرر منه؟ إن فرنسا تعاقب من يخطىء فى لغتها وان تل أبيب أحيت لغة ميتة فلحساب من نميت لغة حية؟ ولحساب من يقف أصحاب المناصب المرموقة يتحدثون بالإنجليزية فلا يخطئون فإذا حاولوا الكلام بالعربية تلعثموا وطاش صوابهم، إننا نطلب من المسئولين أن يلغوا هذا القرار قبل فوات الأوان. ص _126(5/120)
كرامتنا عقد الأزهر الشريف مؤتمرا حضره ممثلو اثنتين وثلاثين دولة إسلامية لبحث شئون العالم الإسلامى "الديمغرافية " أى أحوال السكان من ناحية المواليد والوفيات، وأحوال المعايش من ناحية الفقر والغنى، وأحوال الموارد المائية والمالية وغير ذلك. وقد استمعت إلى المتحدثين من الصين إلى السنغال، ولا أعلق الآن على موضوعات البحث ولكن على لغة الأداء! كان عدد من المتحدثين مقطوع الصلة باللغة العربية خصوصا الوافدين من شبه الجزيرة الهندية ووسط إفريقية، فإن الإنجليزية كانت لهم أطوع، وهم فيها أفصح، وشعرت بالأسى لغربة لغتنا بين أبناء الإسلام، ونجاح الأعاجم فى فرض لغاتهم وجعلها لغة التخاطب ولغة العلم.. ثم عدت إلى نفسى وقلت: نحن العرب الذين نحمل مسئولية هذه الهزيمة الثقيلة، فما قمنا بحق القرآن علينا فى نشر لغته وتسويد أدبه وحكمته !! إن العرب هم سدس المسلمين. والأمة الإسلامية فى آخر إحصاء لها تبلغ مليارا ومئتى مليون مسلم، ومع أن العرب قلة عددية فهم دماغ الإسلام وقلبه وأساس رسالته وحماتها وكان واجبا عليهم أن ينشروا لغة القرآن فى كل موقع بلغة الإسلام، ورفع فيه راية التوحيد أى أن عليهم ثلاثة واجبات: الأول: تعليم الأخلاف لغة الأسلاف فتتصل مواكب العربية الفصحى بين الأجيال المتعاقبة للعرب الأقحاح! الثانى: تعليم من دخل فى الإسلام مقدارا حسنا من اللغة يعرف به دينه ودنياه دعما للأخوة الإسلامية وإقامة للوحدة الدينية. أما الواجب الثالث فهو نشر لغة القرآن فى أرجاء الأرض تحقيقا لعالمية الرسالة، ووصلا للناس بينابيع الإسلام ليطلع من شاء على تعاليم الدين من أصولها العربية.. ص _127(5/121)
وقد قصر العرب المعاصرون فى هذه الواجبات الثلاثة، وأرى أن هذا التقصير نذير شؤم وجرثومة بلاء ماحق. إن خدمة العربية فريضة كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإضاعتها إضاعة القرآن والسنة وأمجاد الإسلام كلها.. وقد جرح كرامتى أن أرى المرتزقة من أبناء الأجناس الأخرى يجيئون إلى الخليج العربى ليجدوا لهم معايش. فإذا هم ينقلون لغة الاستعمار الذى اجتاح أرضهم، وبدل أن يتعلموا لغة الناس الذين يعيشون بينهم ومن ثرواتهم يرغمون الآخرين على أن يتحدثوا معهم بالإنجليزية أو الفرنسية !! ما أشقى اللغة العربية بنا، وما أصبرنا على النار.. إننا نضيع شرائعنا وشعائرنا بهذا التهاون، ونرخص أنفسنا وتراثنا.. لقد فهمت قول حافظ ابراهيم على لسان اللغة العربية: رجعت لنفسى فاتهمت حصاتى وناديت قومى فاحتسبت حياتى !! هل نعيد للغتنا مكانتها وكرامتها فنرضى الله ورسوله؟ ص _128(5/122)
صيحات طائشة!! الله قيم السماوات والأرض رازق الإنسان والحيوان والطير والحشرات وما نرى ولا نرى من خلقه الكبير. وهذا الإنفاق الواسع لا يكلفه شيئا فإن يده المغداق لا تغيض أبدا !! وعندما خلق الله هذه الأرض- وهى ذرة فى ملكوته الرحب- (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) وكفل لكل حى ما يكفيه، إلا أنه بعد ما أعد المائدة قال لعباده: هلموا لتطعموا. فمن رفض المجىء وجثم فى مكانه حتى هلك فهو منتحر! نعم لقد قال الله للناس : (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) فما يصنع القدر لمن أبى المشى؟ وما يصنع القدر لمن عجز عن تطويع الأرض لنفسه بعد ما ذللت له؟ إن هناك مصابين بالكسل النفسى والفكرى والبدنى وبأفات أخرى تعجز أصحابها عن الضرورات بل المرفهات.. ثم إن نوازع الشر فى البشر عميقة، لقد اهتدوا إلى تفجير الذرة وكانوا قادرين بطاقتها الرهيبة على تحويل الماء الملح إلى عذب فرات ورئ الصحراء الكبرى وتحويلها إلى حقول وحدائق، ولكنهم صنعوا من الذرة أسلحة الدمار الشامل، واختزنوا من القنابل ما يدمر الأرض عشرات المرات.. ثم قالوا بعد هذا العمى: إن أقوات الأرض لا تكفى البشر!! ص _129(5/123)
واستمعنا إلى صيحات طائشة تدعو إلى منع النسل أو تحديده فى أضيق نطاق لأن أقوات الأرض لا تكفى الناس! أى أن الله الذى استضاف الناس إلى مائدته لم يعد لهم الأكل المطلوب! وتوجد الآن برامج لإباحة الإجهاض، وتوجيه الشهوة الحيوانية إلى الشذوذ فإن الشواذ يعاونون على انقراض الإنسانية أو تقليل عددها كما توجد برامج لإباحة المخادنة وتعسير الزواج فإن النسل الكثير الطيب يولد فى أحضان أسر بارك الدين قيامها واستقبل ذرياتها بحفاوة! إن أناسا كثيرين لم تتنضر وجوههم بمعرفة الله يتصايحون فى أقطار شتى بتقليل البشر وهم الآن يأخذون أهبتهم للزحف على العالم الإسلامى كى يقنعوه بفلسفتهم المدمرة! وستنعقد لهم مؤتمرات فى البلاد العربية تمتلىء بثرثرة لا آخر لها. والفقر العربى يمشى على أرض من الذهب، ولو أحسن أهل وادى النيل زراعة واديهم ومحاسنة ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولاتسعت أرضهم لأضعاف عددهم ولكن أين الرجال؟! ص _130(5/124)
السياحة وسنن الله أحب الفطرة وإمضى مع منطقها وإكره التصنع والتمثيل وأصدف عن مشاهدة المسلسلات التمثيلية التى تنشرها وسائل الإعلام، هذه طبيعتى التى لا الزم بها أحدا ( ولكل وجهة هو موليها) ومع ذلك فقد حملت نفسى حملا على مشاهدة تمثيلية "عايدة" التى أقيم لها مسرح كبير فى "الأقصر" وقلت: ينبغى للداعية المسلم أن يعرف ما هنالك إننا يجب أن نعرف الخير والشر حتى نستطيع أن نضع هدايات الله موضعها المناسب.. وحبست نفسى أمام التلفاز نحو ساعتين ضاعتا سدى لأن الرواية تعرض باللغة الإيطالية، وأنا وتسعة أعشار المصريين لا نفهم هذه اللغة! وتساءلت: لم الإعلان الواسع وحشد الجماهير وإنفاق الملايين؟ فقيل لى: إن نصف المشاهدين أو أكثر قادم من أوروبا، والعمل كله لخدمة السياحة! والسياحة مورد دافق بالخيرات! قلت: قبل أن تكون السياحة مورد رزق فهى مصدر معرفة ومثار عبرة، والعقل الإنسانى يحتاج إلى السياحة فى أرض الله كى يتم نضجه ويتسع أفقه ويعرف ما وقع لمن سبق من الأجيال الأولى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ومصر حافلة بالآثار الجديرة بالدراسة، ولها تاريخ ضارب فى القدم يحتاج إلى القراءة والاعتبار! لكننا لا نحسن إيقاظ البصائر إلى سنن الله فى الأولين والآخرين، وفريق كبير من البشر يحسب السياحة لمزيد من اللهو والمجون! ويجب ألا ننزلق مع هذا الطيش. ص _131(5/125)
ورأيى أن إعادة تمثيلية "عايدة " حفتها أخطاء كثيرة، فقد جاءت فى وقت محنة كبيرة غمرت عشرات البلاد بالأحزان لفقدان الأهل والمال، والمرء قد يلعق جراحه إذا كان وحده أو مع أمثاله، أما أن يجاوره طلاب المتع وعشاق اللهو فإن ذلك يحفظ صدره ويثير غضبه. قد يقال إن المال يجمع من هنا وهناك لمواساته وأجيب بأن آلام الفقراء والمنكوبين لا تعالج بما يجمع من أحفال الغناء ومجامع العبث، هذا تقليد أوروبى سخيف و"أوبرا عايدة" بقية من ميراث الخديوى إسماعيل الذى قال: أريد جعل مصر قطعة من أوروبا. ومصر لا تكون قطعة من أوروبا بنقل الملاهى والمباذل، إنما تكون بنقل المصانع والجامعات، وعندما ننقلها إلى أرضنا فهى بضاعتنا ردت إلينا! ماذا كانت أوروبا قبل حضارة الإسلام؟ ص _132(5/126)
مآرب اللصوص بعض لصوص العرب الأقدمين كان يسرق ليقوت نفسه ومن يلوذ به من الفقراء، من هؤلاء العداء الماهر عروة بن الورد الذى كان يغير على أصحاب الأموال ثم يعود من غاراته بغنائم يشبع منها الجياع ويؤوى الضائعين! وكان يقول لامرأته إذا نفد ما عنده: ذرينى أطوف فى البلاد لعلنى أفيد غنى فيه لذى الحق محمل !! كان ذلك فى الجاهلية الأولى، والشح مطاع والزكاة مجحودة، لا وحى ولا دين فتصرف الناس حسب غرائزهم وميولهم! وسمعت فى طفولتى قصة تجرى على ألسنة الناس فإن امرأة ضعيفة قتل ابنها مظلوما فماذا تصنع؟ ذهبت إلى أحد الفتاك تبثه حزنها وتشكو عجزها وتناشده أن يقف إلى جانبها، فقال لها الشقى الكبير: سأقتل خصمك لله، لا آخذ منك شيئا..!! قلت: إن الجرمين أحيانا يعدلون! وتذكرت ما يجرى الآن فى الساحة العالمية من أحداث، ليس للوحى صوت مسموع ولا للعدل نداء مجاب، وكلمة الإنسانية غطاء جيد للمأرب والأهواء، فقد أغار الرفيق صدام حسين على السعودية والكويت وسارعت دول أوروبا لتقديم الغوث المنشود وحشدت الرجال والأموال لتحقيق هذه الغاية النبيلة. وعلم الله أن " دول الخليج " استضافت الحلفاء القادمين ودفعت لهم عوضا سخيا عن كل جهد بذلوه فما خسر أحد شيئا بل إن فرنسا حققت أرباحا من هذه الحرب، وعندما وضعت الحرب أوزارها خرج الحلفاء منها وخزائنهم عامرة وذكرياتهم سعيدة! وها هو ذا الرفيق "صدام" يعيد الكرة ويهدد الجيران. وتحركت أساطيل الدول الكبرى بحرا وجوا، وشرع العداد يحسب التكاليف ويقدر الثمن المطلوب. ص _133(5/127)
إن قناطير مقنطرة من المال العربى سوف تضيع سدى، وستنتفخ جيوب الدول الكبرى أما العرب فسيذوق بعضهم بأس بعض، وينحدرون جميعا إلى البأساء و الضراء. ما هذا الذى يقع؟ إنه الجزاء الطبيعى لأمة أهداها الله القرآن فرفضت العمل به والانقياد له إنها فتنة تدع الحليم حيران! لقد وصف الله المسلمين إذا مكنوا فى الأرض بأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فهل هم الآن يحققون هذه الغايات؟ لا غرابة إذا تخلى القدر عنهم.. إن الشعوب تدفع ثمنا غاليا لشهوات الاستعلاء عند بعض الرؤساء.. ص _134(5/128)
أكذوبة يهودية لا أدرى إلى متى تظل هذه الأكذوبة منتشرة؟ أكذوبة أن اليهود فقدوا ملايين من جنسهم فى المذابح التى أوقعها بهم "هتلر"! إن هذه الأكذوبة كانت من أهم الأسباب فى سكوت العالم على اغتصاب فلسطين وجعلها وطنا قوميا لليهود. ولذلك عمل اليهود على تثبيتها ومطاردة المؤرخين الذين يثبتون زيفها. وقد ذكرت من بضع سنين كيف أهيل التراب على رسالة جامعية فى فرنسا أثبت الكاتب فيها أن اليهود ضاعفوا أعداد ضحاياهم مائة مرة! لينالوا عطف العالم على إسرائيل ويطيلوا عمر الدولة المفتعلة. واليوم أقرأ خبرا آخر عن حقيقة المأساة اليهودية نشرته إحدى صحف الخليج وأماطت به اللثام عن الأسطورة الشائعة.. تحت عنوان "وثائق سوفيتية تكذب ادعاءات اليهود حول عدد ضحايا النازية". قالت صحيفة الخليج:- من وارسو- ذكر مسئولون بولنديون ويهود أمس أن وثائق أفرج عنها حديثا أظهرت أن 1.5 مليون يهودى وبولندى وغجرى، وروسى وآخرين قتلوا فى معسكر "اشوينز" النازى خلال الحرب العالمية الثانية وليس أربعة ملايين معظمهم يهود كما كان يقال حتى الآن!! وأوضح "فلاديسلاف بارتوفسكى" عضو مجلس الحوار اليهودى البولندى أن الإحصاء الرسمى الأخير خفض عدد الضحايا استنادا إلى أرشيفات أعادتها السلطات السوفيتية قبل أشهر إلى بولندا.! وكان البولنديون فى أعقاب الحرب قد أذاعوا أن القتلى أربعة ملايين!!، بل إن المنظمات اليهودية ذكرت أن ستة ملايين يهودى قتلوا على أيدى النازى ". ومزاعم اليهود تكاد تتلاقى على أن نصف يهود العالم قد أبيدوا على يد هتلر، وهذه كلها أكاذيب لا أصل لها، ولا سناد، تعمد اليهود ترويجها تمهيدا لاحتلال فلسطين. ص _135(5/129)