بل إن المسيحية كانت الفكرة الوحيدة، والدافع الأخلاقي الذي وظفته أوروبا -كما سبق- لغزو العالم، يقول ابن نبي: (في هذا المجتمع ذي الفضائل الجذبية الأثرة -التي سنت التعاون وجهلت سنة الضيافة- أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع الاستعمارية )(18). بل كما يرى (هانتنجتون ) أن الغربيين في القرن السادس عشر لما انطلقوا في غزوهم للعالم، كان ذلك من أجل الله ومن أجل الذهب أيضًا(19). ويستشهد ابن نبي بالتفسير الذي ذهب إليه (كسرلنج ) الذي يرى الحضارة الغربية الأوروبية باعتبارها تركيبًا مكونًا من روح المسيحية وتقاليد الجرمانية. ومن قبله المؤرخ الفرنسي (جيزو ) الذي كان ينظر إلى الأشياء من هذه الزاوية نفسها قبل (كسرلنج ) بقرن كامل(20).
كل هذا التأكيد من ابن نبي على أن المسيحية كانت المفعِّل الأول لشروط الحضارة الأولية في الغرب، يدفعنا إلى التساؤل عن موقع اللادينية، أو بتعبير أصح ما موقع الماركسية ؟ وما موقع المادية من تفسيره لدور الدين ? أين الدين في التجربة الماركسية، بل وفي أوروبا الحداثة وما بعد الحداثة ؟
يرى ابن نبي أن المسيحية التي شكلت الغرب، ليست هي مسيحية عيسى عليه السلام والحواريين، وإنما هي المسيحية التي نمت في أوروبا وسجلت وجودها النفسي في الغرب بعد ثلاثة قرون من تسجيلها في التاريخ، وخضعت خلال ذلك كله إلى تشكيل خاص أدخل في تكوينها البعد الأغريقي واليهودي، مما يمكن أن نسميها الفكرة الإغريقية اليهودية المسيحية، وصارت تشكل الإطار النفسي الذي تتشكل فيه الخميرة الأخلاقية، وينمو فيه الأنا الغربي، فرديًا كان أو جماعيًا.. وبما أن الدين سنة مرتبطة بالوجود الإنساني كما سلف، وهو سنة مفتوحة كما أشار (باقر الصدر ) من قبل، فإن الفكرة الدينية تبقى تعمل، (وتقوم بدورها الاجتماعي ما بقيت متمسكة بقيمتها الغيبية... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية )(21)، وعندما تفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها(22)، وهذا ما حدث في الغرب، عندما كانت المسيحية لا تملك بعدًا غيبيًا متماسكًا، فإنها بقيت إطارًا أو بنية تحتية أنتجت الماركسية، التي هي في حقيقتها دين بمفهومها العام بما تقدمه من تفسير للنظرة الكونية، وبما تقدمه من وعود، وبما قامت به من ربط ودفع نفسي لمعتنقيها. فالمادية إذًا مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين(23).
وخلاصة الحديث عن الفكرة الدينية، أن ابن نبي يستعمل مفهوم الدين باعتباره تلك السنة التي فطر الله عليها الإنسان، وأن الدين وحده هو المركب الحقيقي للقيم الحضارية، وهو يعطي شرارة الانطلاق لتدخل الحضارة في التاريخ، وتتحقق في عالم الإنجاز
=============
أهم خصائص الظاهرة الحضارية الغربية الخاصية الأولى: العالمية المركزية
في هذا الفصل نحاول تفحص أهم المفاتيح التي قدمها ابن نبي (رحمه الله) لدراسة وفهم الظاهرة الحضارية الغربية، إذ بعد تعرفنا على منظوره الفكري بوجه عام، وموقع المسألة الحضارية في فكره، ثم المنظور الحضاري بإطاره التفسيري وأدواته التحليلية، نحاول أن ننظر كيف طبق ابن نبي منظوره وأدواته في تقديم تصور عن الحضارة الغربية المعاصرة.
يرى ابن نبي (رحمه الله) أن أهم ما يميز الحضارة الغربية المعاصرة هي إشعاعها العالمي (عالميتها المركزية )، ومحاولة بسط هيمنتها ونفوذها على العالم، وماديتها التي تشكل رؤيتها إلى الكون والتكوين والتاريخ، وكذا فعاليتها الإنجازية على المستوى الاجتماعي والمادي، ثم نزعتها الجمالية التي ترجع إلى الجذر اليوناني وإلى عصر النهضة وتتحكم في تنظميها الاجتماعي. وخلال ذلك ندرس أهم نتائج هذه المميزات، التي تمنح لنا رؤية للاقتراب من الغرب على بصيرة بما هو ظاهر في هذه الحضارة وما هو مستبطن.
الخاصية الأولى: العالمية المركزية
مفهوم العالمية المركزية:
يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الظاهرة الواضحة للعيان، والتي لا تحتاج إلى كبير تأمل; هي ظاهرة عالمية الحضارة الغربية. وإذا كان في تحليله لدورة الحضارة -كما سبق- يؤكد أن كل حضارة لها مجالها الحيوي، وقيمها المميزة لها، المحددة لمسارها في التاريخ، فإنه يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن ظاهرة القرن العشرين هي عالمية الحضارة الغربية، إذ يقول: (فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية التي تطَّرِد بدافع من قوتها الخاصة، ومن تطور الشعوب التي تعيش على المحور الآخر )(1). فما مقصوده عندما يقول: إن الحضارة الغربية حضارة عالمية ؟ وما مفهوم العالمية الذي يعطيه لها كخاصية ؟ وكيف تكون عالمية مركزية ؟ وما صلة هذا المفهوم ببقية المفاهيم، مثل الاستعمار، والتحيز، والقوة، والمركزية الغربية، والعنصرية، وغيرها ? وما هو مسار تشكل هذه العالمية ؟ وهل مرت بمراحل مختلفة ؟ وما هي مستوياتها؟
للوصول إلى إجابة عن هذه الأسئلة المتعددة، فإن ابن نبي (رحمه الله) يدعونا إلى البحث في جذور الحضارة الغربية، ومآلاتها، وواقعها الحالي، وما أضافته من إنجاز إلى التراث البشري، وما أحدثته من فوضى في العالم، كما أنه يدعونا إلى التفريق بين مستويين من التحليل، المستوى الأول يرتبط بإعطاء حكم قيمي، وأما الثاني فيهمه أن يرصد الظاهرة في حركتها على مسرح التاريخ، وميدان التغيير الاجتماعي، أي كما هي في الواقع. ومن هذا المستوى الأخير يمكن أن نلحظ مظاهر الهيمنة الغربية على العالم، وانتشار منتجاتها الحضارية في كل مكان، وتحكمها في مسيرة الإنسانية خلال القرنين الأخيرين على الأقل.
ومن هذه الوجهة فإن الحضارة الغربية تعتبر عالمية، من خلال توحيدها للمشكلة الإنسانية، إذ (حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى' في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي )(2)، هذه العبقرية المتركزة أساسًا في العامل التكنولوجي، الذي بواسطته استطاعت الحضارة الغربية أن تنتشر في العالم، وتنشر أفكارها ومواقفها، وطرق تفكيرها، فأعطت صبغة مشتركة للحضارة العالمية في هذا العصر(3).
وخلال منتصف القرن الأخير، كانت أهم مظاهر انتشار الغرب متمثلة في انتشار الطرق الحديثة على النمط الغربي، وخطوط السكك الحديدية في بقية العالم كما هي تمامًا في أوروبا وأمريكا، وظهور المصانع والمعامل الميكانيكية، والراديو، والتلفزيون، وطرق الإعلام الغربية، وكذلك التبني المباشر لطريقة الأكل واللباس والتعليم والحكم على الطريقة الغربية، ثم التبني المتحمس للتكنولوجيا الغربية في كل دول العالم(4).
وهذا ما حدا بابن نبي (رحمه الله) أن يسجل في مذكراته، بأن العالم بدأ يتأمرك، وذلك من خلال انتشار الأفلام الأمريكية ورواجها(5)، وإقبال الناس على تقمص الشخصية الأوروبية حتى في المأكل والمشرب، من خلال ظاهرة انتشار ثقافة (البيبسي كولا) و(الكوكا كولا) و(الهمبورغر) ، وغيرها من أنماط نموذج الحياة الاستهلاكية.. وإذا تعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن السائح الغربي يجد النبيذ والخنزير، والإباحية والعري، واليانصيب القومي، والقروض الحكومية ذات الفوائد، ويجد التقويم المسيحي، وإجازة السبت والأحد(6).(9/316)
أما في الميدان الفكري، فإن الحضارة الغربية قد فرضت نفسها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم على العالم كله، وقد تبنت معظم الشعوب نموذج أوروبا إما كليًا أو معدَّلاً، فسادت مفاهيم الغرب ونظرياته المختلفة، في العلم والمعرفة والمناهج العلمية والتفسيرات العلمية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرها، وهيمنت على سائر الرؤى' الأخرى بحيث صارت وكأنها قانون العصر الذي لا محيد عنه(7)..
وهذا الانتشار قد ينظر إليه باعتباره نوعًا من هيمنة الحضارة الغربية، وهذا صحيح. غير أن ابن نبي، بالإضافة إلى تأكيده على الطابع الذي تتميز به الحضارة الغربية من محاولة تصدير نموذجها وجعله مرجعًا ومثالاً، فإنه ينظر إلى الموضوع من زاويته الاجتماعية (السوسيولوجية ) التاريخية، إذ أن الإنسانية مع الحضارة الغربية اقتربت بينها المسافات، وتوحدت مشاكلها وآمالها، بشكل جعل المصير الإنساني مشتركًا وموحدًا، ولا يمكن لبلد أن يبني مشروعًا اجتماعيًا أو التفكير في تغيير حضاري، دون الأخذ بالحسبان العامل الخارجي، أي الإنساني.
كما نجد ابن نبي ينبه إلى مسألة الوعي الاجتماعي، وهي مسألة مهمة ينبغي اعتبارها، إذ صار وعي الفرد والجماعة يشمل دوائر أوسع مما كان عليه من قبل، ويرتبط هذا الوعي أيضًا بهموم الإنسانية كلها، ولذا فهو يرى واقعيًا أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عمومًا، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتدادًا بدرجة لا تضارع، وفي منظر أكثر انفساحًا كذلك. وللأسباب نفسها يحصل امتداد المستوى الشخصي للفرد; امتداد حضوره إلى مدى أبعد من مقره، فوسطه، فبلاده. وهذا التوسع في مستواه الشخصي، يكون مقياسًا مباشرًا لدرجة تحضر هذا الوسط، حيث لا يحيا الفرد مع أهله ومواطنيه فحسب ولكن مع عدد أكبر من الآدميين(8).
إذن، فالمبررات التي جعلت ابن نبي (رحمه الله) يؤمن بعالمية الحضارة الغربية، هي مبررات واقعية من منظور اجتماعي يرصد الظاهرة في حركتها وتأثيرها في التاريخ.. ولعل من المبررات التي جعلته يتبنى هذا التحليل السوسيولوجي عدة مظاهر تدعو إلى النظر إلى الحضارة الغربية من زاوية حضورها العالمي، وذلك من حيث انتشار المفاهيم الغربية في العالم كله، وتبني معظم الناس لها كليًا أو جزئيًا، والذي لم يتبنها جعلته يتخذ منها موقفًا ويستحضرها انتقادًا أو رفضًا عند صياغته لمفاهيمه الخاصة، كما أن تبني معظم شعوب العالم كثيرًا من الأنظمة وأنماط الحياة التي أبدعها الغرب، وانتشار النموذج الاستهلاكي الغربي للحياة في كل المجتمعات المعاصرة، هو أحد صور هذه العالمية، ومن جهة أخرى -والذي يبدو أن لا مفر منه- انتشار التكنولوجيا والإنتاج الصناعي الغربي في العالم كله، والذي أصبح يشكل أحد سمات هذا الحضور الغربي في كل بيت في العالم، وليس كل مجتمع فقط.
هذا، بالإضافة إلى الاستعمار الغربي الذي شمل الإنسانية كلها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هذا الاستعمار الغربي الذي استنزف العالم كله وشمل كل قطر، مما وحّد هموم الإنسانية وجعلها كلها تتعرض لهيمنة النموذج الغربي نفسه، مما جعلها أقرب إلى النظرة المشتركة في كثير من قضاياها المرتبطة بمرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، فكان الغرب عالميًا على مستوى الوعي الإنساني، من خلال فرضه لنفسه على هذا الوعي أن يستحضره بفعل ما خلف من مشكلات تؤرق وتدعو إلى التفكير في حلها وعزلها عن المعامل الغربي.
إن أوروبا لم ترد تمدين العالم، ولكنها وضعته على طريق الحضارة حين جعلت تحت تصرفه الوسائل المادية ليتبع هذا الطريق، وحين أمدته بإرادة للسير فيه.. والموجة الأوروبية لم تأت للعالم بغمرة الرفاه المادي فحسب -مثل المنتجات الإلكترونية والصناعية وغيرها- بل إنها قد أتته أيضًا بثروات روحية لا جدال فيها(9).
وقد يتساءل أحدنا عن هذه الثروات الروحية التي أتت بها أوروبا، ويرى أنه من عدم الدقة الحديث عن ثروة روحية من أوروبا إلى العالم، ويجيبنا ابن نبي (رحمه الله) أن أوروبا أودعت في (لا شعور ) الشعوب التي استعمرتها، وفي ذاتيتها عناصر تتجلى في سلوكها الاجتماعي الجديد، في فنها وفي أسلوبها وفي تنظيمها وفي نشاطها.. وهذا لا يعني أن هذه الثروة الروحية ذات قيمة إيجابية، فالأمر لا يتعلق بحكم قيمي، بقدر ما يتعلق بتسجيل التأثير الغربي على شعوب العالم. ولو تأملنا وقمنا بتحليل أي نشاط على محور (طنجة-جاكرتا ) اليوم، فإننا نجد طرازه في الغرب، فالبرلمانات أيًا كانت، هي صورة طبق الأصل من البرلمان الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي، وأي مشروع لوضع دستور ديموقراطي إنما يرجع إلى الطراز الغربي، وعندما يتحدث المسلم مثلاً عن الديموقراطية(10) فإنه يستعير بداهة مفهومًا غربيًا(11).
إن العالمية التي تتميز بها الحضارة الغربية تكمن في أنها -ولو عن غير قصد- وضعت على طريق التاريخ شعوبًا أقصيت عنه بسيرها في دروب الخرافات والأساطير، وبثت فيها إرادة السير في هذا السبيل، عندما نزعت عنها ما بقي لها من حجب التبطل، وأزالت ما كانت تعيش عليه هذه الشعوب من أوهام ورثتها عن أجداد أسسوا حضارتهم ذات يوم، مثلما كان الأمر مع القدوم الأوروبي إلى العالم الإسلامي، إذ كان للأوروبي دور الديناميت المفجر، الذي أزاح عن مسلم ما بعد الموحدين غشاوة نومه، ومنحه إلهامًا جديدًا لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضيًا بالدون، فوجد نفسه في وضع لم تصنعه يداه، واضطر إلى أن يعمل شيئًا ليحفظ كرامته التي غرسها الإسلام في وجدانه، وليجد له مكانًا في عالم تغير عما كان عليه(12).
وهذا الإطار العالمي الذي ارتفعت إليه البشرية مع العامل الصناعي والفني (التقني )، جعل دائرة الوعي تتسع، فالعامل الصناعي الذي كان له أثره في إحداث التفرقة والتنويع مدة طويلة، مما أتاح للشعوب المتقدمة المتطورة وضعًا ممتازًا بفضل تفوقها الاقتصادي والسياسي، فإن هذا العامل يتدرج بالإنسانية شيئًا فشيئًا نحو الانسجام والوحدة، محتمًا عليها بذلك مصيرًا مشتركًا. وبعد أن كانت عوامل التوحيد في النطاق الميتافيزيقي، أي وراء العوامل التاريخية، أصبح تأثيرها واضحًا في مجال التاريخ(13)، وابن نبي يعطي أهمية خاصة لتاريخ القرن العشرين الذي تميز عن القرون الأخرى كلها، لأنه القرن الذي تحققت فيه تغيرات جذرية، بدت وكأنها ترسم للإنسانية نقطة اللارجوع على محور الزمن، فهو القرن الذي هبت فيه أكبر عواصف التاريخ على مصير الإنسانية، وهو القرن الذي سجل الأحداث الكبرى، سواء في مجال العلم، أو في المجال النفسي، أو في المجال الأخلاقي والديني، ففي كل هذه المجالات هبت عواصف كبرى يبدو أنها غيرت معالم الطريق(14).(9/317)
وهذا التوجه الإنساني نحو العالمية بفعل اضطراد التاريخ وتقدم الإنسانية، والذي كانت العالمية الغربية أهم أسبابه، لا يعني أن هذه العالمية الأوروبية، عالمية موضوعية، إذ يرى ابن نبي أن أوروبا التي كانت تبتغي امتلاك العالم، انقلب عليها سحرها، وقيدتها قوتها، فأوروبا (الغرب ) التي تقدمت بفعل اطراد عملها وضميرها، يبدو أنها تعاني من فصام بين هذين العاملين، فالعلم يدفعها نحو التوحد مع الإنسانية، بينما ضميرها متخلف عن تقدمها العلمي، مما جعلها تحاول أن تجعل من إشعاعها العالمي نوعًا من الهيمنة التي تؤكد التمركز الغربي على حساب الشعوب والأمم الأخرى(15).
ولكن هذا التمركز حول الذات الغربية لا ينسينا أن الحضارة قد أصبحت مع الثقافة الغربية هدفًا مقصودًا -كما سبق القول- وعملاً شعوريًا ووظيفة اجتماعية للإنسان تتطلب ذكاءه وإرادته وكل قدراته، وصارت الحضارة غاية مبتغاة.. فالحضارة الغربية وسعت أولاً من حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي والعنصري، إلى النطاق العالمي والإنساني. ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان بفعل القوة الصناعية، قد أحدث تحولاً في الطبيعة التاريخية للحضارة، فلم تعد فيما يبدو خاضعة لقانون (الدورات ) كما هو في المفهوم الخلدوني، أو في مفهوم (شبنجلر )، وإنما أصبحت عالمية، أي في نطاق عالمي يتجاوز حدود الوحدات التاريخية في مفهوم (توينبي )(16).
وإذا كان الامتداد العالمي للحضارة الغربية سمة مميزة للقرن العشرين، ويبدو فيه امتدادها قانونًا تاريخيًا لعصرنا، حيث لوتأمل أحدنا الأشياء المحيطة به، أو في حجرة المكتب مثلاً، فإن معظم الأشياء غربية إن لم تكن كلها(17)، فإن هذه الخاصية التاريخية المرتبطة بمجريات الواقع، أنتجت -كما يرى ابن نبي- همًا عالميًا، وطبعت أحداث القرن العشرين بطابع العالمية، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه، حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين ومعناه، بل إنها تصريح لعصرنا وغاية محتومة لتطورنا الراهن، وضرورة تفرضها الظروف الصناعية والنفسية التي بلغها العالم مع اطراد التقدم على محور طنجة-جاكرتا، ومحور موسكو-واشنطن، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي(18).
وإذا تساءلنا عن مدى صدق هذه النتائج، فإن ابن نبي يوجهنا إلى تأمل الحركة التاريخية للحضارة الغربية وإفرازاتها، فأوروبا من جهة جعلت من الحضارة عملاً قصديًا، ووحدت من الهم الإنساني، ودفعت بفعل عاملها التكنولوجي إلى الربط بين أطراف المجتمع الإنساني، فإنها من جهة أخرى جعلت العالم يعيش مثقلاً بالعلم وبثقافة الإمبراطورية، مليء يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب، ولكن هناك فراغًا كبيرًا من الضمير ينبغي له أن يمتلئ، فأوروبا تعيش في عالم كوّنه علمها، غير أن ضميرها لا يعلمه تمامًا، لأنها تجهل فيه مسألة رئيسة، تجهل الإنسان الذي اعتادت أن تنظر إليه بروح القرن التاسع عشر حتى الآن على أنه من أبناء المستعمرات(19).
وهذا ما يجعل عالمية الحضارة الغربية ينقصها البعد الإنساني الحقيقي، ذلك أن فيها فصامًا بين علمها وروحها، فهي من جهة العوامل الفنية تدفع بالإنسانية -ولو من غير قصد- إلى التوجه العالمي، أما من جهة روحها وضميرها، فإنه مثقل بثقافة الإمبراطورية، أي ثقافة السيطرة، المتجذرة في اللاشعور الغربي.. وهذه الروح جعلت من الحضارة تهمل إنسانية الإنسان لما بقيت النفسية تتعامل مع الإنسان غير الغربي باعتباره هامشًا، وملحقًا بالمركز الغربي لأنه ابن المستعمرات، أو المستعمرات السابقة. ولهذا فمن مقتضى النظر المنهجي تتبع المسار الذي تشكلت فيه هذه (العالمية المركزية ) للحضارة الغربية، لنكون على وعي بالنتائج التي أوصلت الإنسانية إليها.
مسار التأسيس (للعالمية المركزية):
يعطي ابن نبي (رحمه الله ) أهمية خاصة للقرنين التاسع عشر والعشرين، باعتبار أن القرن الماضي شهد توسعًا غربيًا شمل كل قارات العالم، وخضع العالم بدوره للسيطرة المباشرة للغرب من خلال الاستعمار، ثم مع مجيء القرن الحالي انحسر الاستعمار المباشر، ولكنه شهد انتشارًا للغرب من نوع آخر، كان هذا الانتشار والتوسع عن طريق العامل الصناعي الفني، والقوة التكنولوجية. إذ استطاع العهد التكنولوجي أن يقرب المسافات، ويتجاوز الحدود التقليدية، ويجعل من العالم قرية صغيرة متشابكة المصالح، وأصبح التعايش بين الحضارات ضرورة حتمية مع العهد الذري ونتائج النمو الصناعي، ومع الفتوحات العلمية الرهيبة التي أتاحت للطاقة الإنسانية أن تتحكم في كثير من السنن الطبيعية وتطوِّعها، كما مكنت الإنسان من السيطرة شبه التامة على الكرة الأرضية(20)، وفرضت التكنولوجيا على كل مجتمع أن يضع في حسابه وجود الآخرين(21).
وفي تحليله للنفسية التي كان عليها الغربي وهو يبسط وجوده في العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، يقول ابن نبي: (وفي هذا الجو المفعم بالشعور بالتفوق نشأت النفسية الأوروبية، وظهرت كتابات تنظر إلى تاريخ البشرية وكأنه بدأ مع الإغريق والرومان، ثم حدث فيه تقطع أو جمود، ثم عاد للظهور في باريس ولندن من جديد )(22).
والسبب في ذلك كما يرى، أن أوروبا التي ورثت التقاليد الرومانية من عصر النهضة قد أصبحت رهينة ثقافة إمبراطورية، تلك الثقافة التي تنحو إلى السيطرة، والتي أنتجت الاستعمار والعنصرية، فقد تغذى ضميرها بما أثار القرن التاسع عشر من قضايا، وهو القرن الذي شهد ازدهار فكرة (جوبينو ) العنصرية، ذلك الكاتب الذي طبق أفكار (دارون ) عن أصل الأنواع على مجال الإنسان، فخلّف بهذا القرن العشرين تراثًا روحيًا ضارًا ثقيلاً أنتج أمثال (هتلر ) والدكتور (مالون )(23).
وفي نظر ابن نبي (رحمه الله)، أن الاستعمار سبب ونتيجة في الوقت نفسه، فهو من جهة نتيجة لثقافة الإمبراطورية المتأصلة في النفسية الأوروبية، والتي يعبر عنها كاتب مثل (توسيديد ) عندما يقوم ببتر المفهوم التاريخي حين أبطل ماضي الإنسانية كله بقوله: (إن حدثًا مهمًا لم يقع في العالم قبل عصره )، فمثل هذه الأقوال التي تخلق ثقافة الإمبراطورية، تلك الثقافة التي تقوم على أساطير السيادة العنصرية والاستعمار(24). والاستعمار من جهة أخرى سبب للكبرياء والتعالي والنرجسية، إذ أن الغربي الذي يولد في الجو الاستعماري، يتربى في جو يعلمه النظر إلى الإنسانية بتعالٍ وكبرياء، ويعلمه ازدواجية النظرة إلى الأشياء، فهو يرى بصورة طبيعية مشاكل الغرب، أما حين ينظر إلى مشاكل الشعوب الأخرى، فإنه يضع نظارة على عينيه، ويرى الصور بشكل مختلف(25).(9/318)
وخلاصة الكلام فيما يتعلق بالعالمية المركزية، أن أوروبا التي أخضعت العالم لسيطرتها الأخلاقية والسياسية منذ قرنين من الزمان، أدخلت الإنسانية في مأساة وحدت همومها.. كما أنها بفعل ما أنتجته من تقدم تكنولوجي وصناعي قد رفعت من القدرة المادية للإنسانية، وأحدثت فيها تأثيرًا نفسيًا وتاريخيًا، عندما قربت المسافات، ومنحت البشرية إمكانات لم تكن تحلم بها من قبل، وأدخلت البشرية في حروب ومشاكل نتجت عن هذه السيطرة الأوروبية العليا على الشؤون الإنسانية.. كما أنها بفعل اطراد قوتها، جعلت في حياة الشعوب التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، مشكلات أخرى مشتركة تعبر عن امتداد كيانها وحضورها في عالم الآخرين(26). ولقد تجاوز هذا الحضور أولاً الحقل المحلي في القرية ثم في المدينة، ثم وصل بعد ذلك إلى المستوى القومي، ثم امتد شعاعه مع النمو الصناعي، فأصبح دوليًا، وأخيرًا عبر جميع الحدود فأصبح عالميًا(27).
هذه العالمية من وجهة الاجتماع والتاريخ، لا تجعلنا ننكر أنها عالمية متمركزة أساسًا حول ذاتها، تتعامل مع العالم على أنه هامش أو أطراف، وهي محور الحركة ومركز هذا العالم، ولهذا يمكن أن نسميها عالمية من وجهة التاريخ والاجتماع، ومركزية من وجهة القيم والإطار الحضاري القيمي الذي يحكمها، فهي عالمية مركزية.
==============
الخاصية الثانية: المادية
يعتبر ابن نبي (رحمه الله) (المادية ) من أهم خصائص الحضارة الغربية.. وفي تناوله لهذه الحضارة في كتاباته، فإنه يسجل ملحوظاته، ويركز في تحليله على هذا البعد -المادية- في الحضارة الغربية، وذلك ضمن مستويات مختلفة; سواء في الميدان العلمي، أو في الحياة الاجتماعية التي يظهر فيها سلوك الفرد الغربي، أو في التعبير السياسي، أو حتى في سياق التعامل الحضاري مع بقية الحضارات. كما أن هذه الخاصية تكاد تنظم كل الخصائص الأخرى، حيث تشكل أحد أهم الجوانب في كل خاصية من خصائص الحضارة الغربية.
ففيما يتعلق بالرؤية التصورية، أو ما أسماه ابن نبي: (الإجابة على الفراغ الكوني )، أي السؤال الوجودي، فإنه يأخذ نموذجًا يستخلص منه محور الثقافة والحضارة الغربية.. فمن خلال محاولته لتتبع التفسير الذي يقدمه كل من المسلم والغربي للفراغ الكوني، يضرب مثالاً من قصة (روبنسون كروزو )، التي تصف الشخص الأوروبي في عزلته، وكيفية إجابته عن أسئلته، يقول ابن نبي: (إذ يعتزل الإنسان وحيدًا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طرز ثقافته وحضارته; أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية. وهناك أساسًا طريقتان لملء الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء )(1).
والنظر إلى الأرض يجعل الإنسان يتعلق بالأشياء وبالمادة(2)، وتتشكل عنده ثقافة مرتبطة بعالم الأشياء، (فالطريقة الأولى تملأ وحدته بالأشياء حيث يجمح بصرُهُ المتسلّط لامتلاكها، (وبالتالي) تنشأ عنها ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية )(3).
وقد اختار ابن نبي هذه القضية للتمثيل بها، لأن(الأدب الشعبي كاشف في هذا المجال. بل الأدب في عمومه حتى المتكلف منه، يحمل مع ذلك تلك الخاصية الشعبية في طبيعة موضوعه. وليس كالقصة تُجلِّي عمق تلك الجذور )(4). ثم إنه يقدم تحليلاً لما تحمله هذه القصة من أبعاد بعد أن يعرضها، مركزًا على العناصر التي تبرز البعد المادي الكامن في الشخصية الغربية.
وكما يلخصها ابن نبي، فقصة (روبنسون كروزو ) ينطلق بها (دانيال ديفو ) من محوٍ كامل للوسائل (أي الأشياء ) حينما يبدأ بطل قصته المغامرة. وإذا تأملنا طريقة استخدام الزمن ليوم واحد في حياة بطل القصة على الجزيرة التي نجا بنفسه إليها بعد غرق سفينته، فإننا نجد بطل القصة بدأ ينظم وقت عمله وخروجه، ووقت راحته ونزهاته. فكان يخرج في الصباح، ومعه بندقيته لمدة ساعتين أو ثلاث، ثم يعمل بعد ذلك إلى ما يقارب الساعة الحادية عشرة ثم يأكل ما كان يستطيع الحصول عليه، وكان ينام من الظهر حتى الساعة الثانية، وفي المساء كان يستأنف العمل، وفي اليوم التالي صنع طاولة، وهكذا...
ويعلق ابن نبي بعد ذلك بأن الوقت منذ البداية لدى (روبنسون كروزو ) يجري في وقائع محسوسة: أكل، نوم، عمل. وهي وقائع تكمن في طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصاد شخصيٍّ نفعيٍ بحت. فـ (روبنسون ) يتغلب على كآبة الوحدة بالعمل، فعالم أفكاره كله يتركز حول (شيء ): إنها الطاولة التي يريد صنعها لنفسه، وكأن الزمن في الإطار الغربي لا اعتبار له إلا في عالم الأشياء. والحياة نفسها لا معنى لها إلا حينما تنساب لحظاتها في طاولة (روبنسون ) على سبيل المثال(5).
هذا التمحور حول الأشياء يرى ابن نبي أنه يتشكل منذ (لوكريتس ) إلى (ماكس بلانك) ، وبعده مع تجذر الفكر الكمّي ووضعية (أوجست كونت ) ومادية (ماركس )(6). فترسخ مفهوم الكم في الوعي الأوروبي حتى صار خاصية تطبعه. هذا التمحور على الأشياء والدوران على الوزن والكم له عدة مظاهر، ويتجلى في اتجاهات فلسفية، وأنماط اجتماعية تبدو متباينة، ولكنها في جوهرها ترتكز على التصور المادي. يقول ابن نبي (رحمه الله): (فالفكر الغربي يجنح على' ما يبدو أساسًا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتمًا إلى المادية في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي )(7).
وقد تضافرت على تشكيل هذه الرؤية المادية أقطاب أربعة، كان لها نصيبها مجتمعة في صياغة حضارة الآلة والاستهلاك، هذه الأقطاب هي: المسيحية البروتستانتية (الإصلاح الديني )، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية.. هذه الأفكار نشأت في تربة الغرب ولها أصل واحد، رغم أنها تبدو أنها سارت في مسارات مختلفة. فالمسيحية اللوثرية كيّفت الإنسان الأوروبي وأعطته الصبغة والأخلاق التي تلائم البرجوازية(8).. أما الرأسمالية فتوجهت به إلى تمركز المادة من خلال التشريع لفلسفة الحرية والفردية والكسب المادي، والتوجه الاستهلاكي.. وأما الماركسية فإنها هي الأخرى أعطت التفسير الاقتصادي لحركة الإنسان في التاريخ، وجعلت من النظام الاقتصادي القطب الذي يدور حوله الصراع والتغير، وركزت حركة المجتمع على الصراع الطبقي بين (البروليتاريا ) و(البرجوازيين )، هذا الصراع الطبقي الذي هو في العمق صراع مادي لأنه يتعلق بامتلاك وسائل الإنتاج.. أما العنصرية فإنها أنتجت الهتلرية والفاشية(9)، كما أنتجت الاستعمار والتعالي الغربي على العالم، وذلك بفعل عقدة (ماراتون ) التي تحكمه تجاه الأمم غير الغربية(10).(9/319)
ولقد تشكل قطبا المادية بفعل الصراع الذي احتدم حينًا من الدهر، وبخاصة بين الاقتصاديين الجدليين وعلى رأسهم ماركس وأنجلز، وبين الاقتصاديين العمليين التقليديين وعلى رأسهم آدم سميث وريكاردو، وكان يغذي هذا الاتجاه المادي عاملان أساسيان كان لهما وزن كبير في توجه أوروبا نحو المادية، هما: سرعة النمو العلمي، والتوسع الاستعماري، فالنزعة العلمية والنزعة الاستعمارية انزلقا بأوروبا إلى حمأة المادية، ومع الفكر الديكارتي(11) -الذي انقلب نزعة عقلية خطرة- استسلمت أوروبا للآلة تقودها، وصارت الحياة أرقامًا، وأضحت السعادة مقيسة بما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع فيه الضمير للنزعة الكمية، والعقل الوضعي الذي يشبه عقل الآلة، لم يعد يفهم شيئًا وراء التصورات النسبية للمادة(12).
نتائج المادية على الحضارة:
والمادية كمذهب فلسفي يقدم تفسيرًا للكون والتكوين، هذا المذهب -كما يرى ابن نبي (رحمه الله)- يضع المادة من حيث المبدأ هي العلة الأولى لذاتها، وهي أيضًا نقطة البدء في ظواهر الطبيعة، والخاصية الوحيدة للمادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت (كمًا) معينًا أو كتلة(13). وبذا أتلفت قداسة(14)الوجود في النفوس والضمائر، وفي الثقافة.. ولقد أتلفت القداسة حينما اعتبرتها شيئًا تافهًا، بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم العلمية، والتي أخضعت كل شيء إلى مقاييس الكم، فصارت تتنفس تحت ثقل ركام الأشياء المتراكمة، وذبلت نفحات الروح واضمحلت القاعدة الأخلاقية التي تتحمل عبء الأثقال الاجتماعية والمادية، وبقيت أوروبا ترزح تحت الأشياء التي تنتجها تكنولوجيتها(15).
وبتتبعه لجذور الثقافة الغربية فإن ابن نبي يعتبر أن الحضارة الغربية انجرّت إلى إتلاف قداسة الوجود بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية )، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت حين حدث التمزق الأول في الثقافة(16)باعتبار أن ديكارت بمذهبه العقلاني أنتج فلسفة تعطي دورًا ثانويًا للغيب، وليس للخالق إلا دور ابتدائي، ولا شأن له بعد ذلك بتفاصيل الحياة، فلا شأن له بعالم الطبيعة، وليس له دور إلا إعطاء سند للعقل باعتباره مرتكزًا ينطلق منه، ليصير هو نفسه أصل كل شيء ومحركه وموجهه.
ولقد حاولت أوروبا ونجحت، كما يقول ابن نبي، ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد مسألة فقدان المبررات.. لقد نجحت في إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، وهذا يفسر الأزمة التي تعيشها من خلال إتلافها قداسة الوجود، الذي كان في حياة الحشرات مقدسًا، وفي حياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع كانت هناك تفاصيل توحي بقداستها.. كان المار في الشارع إذا التقى بفتات خبز، ينحني ويلتقط هذا الفتات ثم يقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذه الأشياء، ففي احترامها تقديس لمصدر النعمة; الله تعالى. أما الغربي فلا يهمه هذا الفتات من الخبز أو أي شيء آخر حقير في نظره، لماذا ؟ لأنه لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، أما الأجر الأخروي فهو شيء فوق أرضي، وميتافيزيقي، لا يجلب له نفعًا ولا ربحًا، ولا يزيد رصيده في البنك، ولا يزيد من مكانته الاجتماعية أو سمعته، ولا يحسن من صورته التجارية، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات(17).
ومع مرور الوقت ترك الغرب كل قداسة الأشياء، ومن ثم كل القيم المقدسة، ولم يبق في ذهن الإنسان الغربي مفهوم التكريم الذي وضعه الله عز وجل في الإنسان، فأفقدت الحضارة الغربية الإنسان إنسانيته، فأصبح إما وحشًا مفترسًا ينقض على كل ما يستطيع امتلاكه، أو يصبح حيوانًا تائهًا في المتاهات التي تفتح له باب المخدرات، والفساد، والشذوذ عن الفطرة، والانتحار، وغيرها(18).
بل وصارت الحضارة الغربية من فرط ماديتها تقيس التقدم الاجتماعي وسعادة البشر بمقدار ما يملكون من أشياء. وحسب الدخل الفردي تُصْدِر الهيئات حكمها وتقييمها بتقدم هذا المجتمع وتأخر الآخر. وصار العالم الاقتصادي هو مرتكز التفكير، ولقد نمت هذه الروح في القرن العشرين، فتأكدت فيه مراكز التفكير الاقتصادي، حتى أنه يمكن تعريف هذا القرن بأنه يخضع لقانون التوسع الاقتصادي والتقييم الاقتصادي أيضًا، كما كان القرن السابق يخضع لقانون التوسع الاستعماري، وصار الاقتصاد ميزة ومقياسًا تقاس به الأشياء ويحكم به على تقدم أو تخلف بلد ما(19).
ويضاف إلى تركز المقياس الاقتصادي، أن الإطار الثقافي الغربي خال من الدفعة الروحية التي تصاحب عبقريته الصناعية، فسكنه الوهم الميكانيكي، وصار النجاح الصناعي هو النجاح المادي ولا شيء بعده. ومن الصعوبة بمكان أن يتخلص الغربي من هذا الوهم الميكانيكي الوثيق الصلة بنظامه الثقافي. هذا الأخير جعل الغرب يطبق نتائج العبقرية الصناعية على المجال الأخلاقي، فصار النجاح المادي هو الفضيلة الخلقية الوحيدة(20).
وينتقد ابن نبي (رحمه الله) النظرة السطحية للحضارة الغربية، وينبه إلى ضرورة النظرة المتوازنة، التي ترى الجانب السلبي والإيجابي في هذه الحضارة، ومن الجوانب السلبية، ذلك الجانب الرهيب من تلك الحضارة التي أدمجت الناس في سلسلة إنتاج، تتولاهم خلالها الآلة فتنهكهم، وتستنزف دماءهم، وتحيلهم أجهزة من لحم ودم، فأفقدت الإنسان كرامته، فترى المرأة الأوروبية التي تغادر مسكنها لتكسب بعرقها كسرة الخبز، في جو يهدر كرامتها فيحرمها أنوثتها، كما يحرم الرجل رجولته، إنه الجانب المفزع من الحضارة الغربية التي فقدت معنى الإنسان(21).
فالعبقرية الغربية التي أبدعت الآلات لم تستطيع السيطرة عليها، حيث قادتها بعقل آلي فصارت الحياة أرقامًا، بل إن أوروبا النازعة إلى الكم وإلى النسبية، قد قتلت عددًا كبيرًا من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من معانيها النبيلة، وأحالتها ضروبًا من الكلمات المنبوذة في اللغة، طريدة الاستعمال من الضمير، وقد زاد خطر النزعة المادية بفعل العامل الفني الصناعي، الذي ضاعف من شهية الإنسان إلى المادة، وأصبح الرقم سلطانًا في المجتمع الأوروبي منذ القرن التاسع عشر(22).
وهذا الشغف بالآلة والرقم، والتركز حول الشيء، ونفسية الإخلاد إلى الأرض، جعل التربة الغربية خصبة لتزرع فيها نبتة خبيثة، هي العلمانية; التي هي في حقيقتها ليست فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما هي انفصال الضمير عن العلم. وبلغ الانفصال غايته عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم ميدان الكهرباء في القرن التاسع عشر، أنه وحده يستطيع الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم. هذا إضافة إلى المجرى العلماني الذي قادها إليه (أوجست كونت ) بوضعيته، ثم المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس ). وكانت هذه الفلسفة تقود إلى تجزئة الإنسانية إلى شطرين، من خلال تحطيم وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي(23).
=============
الخاصية الثالثة: الفعالية
ما هي الفعالية؟(9/320)
يرى' ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية تعد إحدى خصائص العقل الغربي، وأن العقل الغربي يخضع لمبدأ الفعالية(1).. هذه الخاصية اكتسبها الغربي على المستويين الفردي والاجتماعي، وصارت تصبغ كل أفعاله وإنجازاته في إطار التاريخ.. وهو -الغربي- اكتسب هذه الفعالية من التحديد الإيجابي لثقافته، الذي قام به (ديكارت ) ومن أتى بعده في بداية حركة النهضة الحضارية الأوروبية. كما يرى أن الفعالية على المستوى الاجتماعي هي القدرة على توليد ديناميكا اجتماعية، من خلال وضع المعادلة الاجتماعية في الحسبان، ومعرفتها بدقة، وبالتالي الدخول في تخطيط منهجي لا يحتوي خليطًا من الأفكار المتناقضة(2).
وبالنسبة للغرب، فإن المعادلة الاجتماعية تمت صياغتها على أسس الثقافة الغربية بدستورها ذي الفصول الأربعة: المبدأ الأخلاقي، والنزعة الجمالية، والمنطق العملي، والفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع (الصناعة بالتعبير الخلدوني )(3). واتجهت اتجاهًا ماديًا، كما سبق القول عند الحديث عن المادية.
ويبدو أنه اعتمادًا على اعتباره للمادية مذهبًا فلسفيًا يتخذه الغرب في تفسير الكون والتاريخ والأحداث، فإن ابن نبي يرى الفعالية في المفهوم الغربي هي الحسم، أي حسم المشاكل الإنسانية على أية حال، كما نجده ينظر إليها باعتبارها ظاهرة اجتماعية تميز الغرب، وأنها تعني في المجتمع الغربي: القدرة على كفالة الضمانات الاجتماعية للفرد(4).
فالغرب في رأيه يعتبر الفعالية من وجهة اجتماعية عملية، أي محققة في الواقع في صورة ضمانات اجتماعية يقدمها المجتمع للفرد في أطوار حياته المختلفة. وخاصة بعدما جاء ديكارت، كما يقول ابن نبي (رحمه الله): (وأتى ديكارت بالتحديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بني على المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر في تقدم الحضارة الغربية الحديثة تقدمها المادي )(5).
ولهذا فإن ما يفصل المجتمعات في هذا القرن هو مدى فعاليتها، حيث يوجد في القرن العشرين تشابه واختلاف بين المجتمعات، والاختلاف اللافت للنظر يكمن في ما يطبع نشاط أي مجتمع من فعالية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر، هذا العنصر الذي أصبح أساسيًا في فلسفة العصر، التي تعنى بتقدير الكم، فتجعله فوق القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياسًا خاصًا لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات(6).
ولهذا نجد أن أوروبا رجحت قيم الفعالية على قيم الأصالة، أي أن المبدأ الأخلاقي (المسيحية ) الذي أخرج أوروبا إلى الوجود وأدخلها التاريخ، ومنحها القوة الدافعة، قد اضمحل لحساب النهج الاستعماري (النفسية الاستعمارية )، وصار لعالمها الثقافي وجهان; وجه يلتفت إلى ذاتها بأخلاقيته الخاصة، ووجه يتلفت نحو العالم، وهمه الوحيد الفعالية(7).
فالفعالية، كما يرى ابن نبي، ليست شيئًا فطريًا مركبًا في فطرة الرجل الغربي، أوالمجتمع الغربي، وإنما هي نتاج لتركيب ثقافي معين متحرك في إطار التاريخ، ومرتبط بالوضعية التي يقفها المجتمع من دورة الحضارة.
العامل النفسي للفعالية:
يرى ابن نبي (رحمه الله) أن العامل النفسي هو الذي يناط به توجيه النشاط والطاقات الاجتماعية.. والطاقات الاجتماعية يُبحث عن مفهومها في حقيقة الواقع الاجتماعي، وإذا حُللت إلى عناصرها الأولية فإنها تنحصر في ثلاثة: اليد، والقلب، والعقل، (لأن كل الطاقات الاجتماعية تنطلق منها، و العملية الاجتماعية نفسها لا تخرج عن هذه العناصر; فكل طاقة اجتماعية تصدر حتمًا من دوافع القلب، ومن مبررات وتوجهات العقل، ومن حركات الأعضاء، فكل نشاط اجتماعي مركب من هذه العناصر، والفعالية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع، وأقوم التوجيهات، وأنشط الحركات )(8).
هذ العامل النفسي، هو ما يسميه (التوتر )، والفعالية نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي... وهو حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكوِّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته(9)، وكانت المسيحية أكبر منتج للفعالية في المجتمع الغربي، الذي منحته الدفعة الروحية، ورفعت من طموحاته. ونظرة إلى واقعنا لنرى الرجل الغربي والرجل المسلم; أيهما ذو نشاط وعزم وحركة دائبة ؟ ليس هو المسلم بكل أسف، وهو الذي يأمره القرآن بالقصد والانضباط: (ولا تمش في الأرض مرحاً ) (لقمان:18)، (وأقصد في مشيك )(لقمان:19)، وليس ذلك ضربًا من الافتراض بل هو شهادة الواقع(10).
ويرى ابن نبي أن الأمر لا يتعلق بصحة الفكرة المسيحية أو زيفها، بقدر ما يتعلق الأمر بقانون اجتماعي وسنة من سنن التاريخ، وهي تسجيل الفكرة في النفوس، وخاصة في هذا العصر، ففي منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي. فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح(11).
ولا يعني هذا أن ابن نبي يقصد عدم فائدة صحة الفكرة وأصالتها، في تقدير فعاليتها، ولكنه لما كان ينظر إلى الفكرة في التاريخ وفي علاقتها بالمعطى الاجتماعي، فإنه يحاول إخراج الضمير المسلم من المناقشات البيزنطية، التي تتحدث عن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، في حين أن الإسلام غائب عن قيادة الحياة. فهو ينظر إلى الحقيقة الموضوعية، وما تسجله الفكرة في الإطار الاجتماعي من تغيير وصياغة للنفوس وما تحدثه من أثر في التاريخ.. ومن هذه الجهة، فإن ابن نبي محق عندما دعا إلى العمل على تأكيد الصلاحية للفكرة وليس أصالتها، من خلال ربطها بالواقع، فهو يرى أن الفكرة الإسلامية لا يمكن مقارنتها بالفكرة المسيحية على مستوى الأصالة الذاتية من أي وجه من الأوجه، في قيمتها أو مصدرها أو في شموليتها. لكن الأمر يتعلق بالمسلم الذي انفصل واقعه الاجتماعي عن تأثير الفكرة الإسلامية وإن لم يفقد إيمانه بالله يومًا من الأيام(12).
ولهذا فإنه يرى أن الفكرة الإسلامية لا تحتاج أن نبرهن على صدقها نظريًا، وإنما من خلال صياغة الحياة بها كما كان يفعل السلف، وإظهار فعاليتها في الواقع.. وكما يرى ببساطة، ينبغي العودة إلى روح الإسلام نفسها(13).
فالتجربة الإسلامية الأولى التي صاغها النبي صلى الله عليه و سلم -كما يرى ابن نبي- غيرت المعادلة الاجتماعية للعرب، وأخرجت إنسانًا جديدًا غيَّر مجرى التاريخ وشاد حضارة خلال نصف قرن، وأنتج أشخاصًا أمثال عمار بن ياسر وبلال وربعي وعمر رضي الله عنهم أجمعين. فعمار بن ياسر كانت روحه المتناغمة مع نداء الفكرة الإسلامية وحرارتها الإيمانية، كانت هذه الروح تدفعه إلى أن ينقل حجرين بدل حجر واحد عند بناء المسجد النبوي، وبلال الذي ينادي: أَحَدٌ أَحَد، إنما كانت روحه أقوى من تلك الصخرة التي على صدره، إذ كانت تتطلع بفعل التوتر الذي أحدثه الإسلام فيها إلى حياة أسمى من ذلك العذاب الذي كان يلاقيه فلا يحس به.(9/321)
وإذا تم البحث عن عامل التوتر في التجربة الماركسية في روسيا بعد 1917م، فإننا نجد الوعود والآمال التي تأسس عليها المجتمع الماركسي تدفع (استاخانوف ) إلى أن ينتج عشرة أطنان من الفحم في الوقت الذي كان زملاؤه ينتجون خمسة فقط.. وكذا ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية فإنها نهضت من العدم وذلك بفعل التوتر الذي كان يشعر به الألماني تجاه بلاده، وما كان يحمله من ثقافة جعلت من الصعب أن تغير النكبة التي تعرضت لها ألمانيا من معادلته الاجتماعية(14). فكان للفكرة وما أحدثته من توتر دور رائد في تحقيق الفعالية، من خلال المبررات التي تأتي بها الفكرة، فتطبع في النفوس توترًا يخرجها من حالة الفتور، إلى حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع الإنتاج بقوة وحرارة، عندما تتوفر المبررات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع(15).
مظاهر الفعالية:
يرى ابن نبي (رحمه الله) أن الفعالية يمكن التأكد منها في الواقع في روابطها بواقع الحياة مباشرة، وهي أكبر ما يميز المجتمعات في القرن العشرين، كما سبق القول، حتى أن التقدم أو التأخر الحضاري يمكن أن يلاحظه الإنسان من خلال ملاحظة عامل الفعالية، إذ يجده يقسم العالم إلى شطرين، أحدهما يتميز بالفعالية ويطبع بها كل جهوده وسلوكه، والآخر يتميز باللافعالية والتسيب في كل مظاهر حياته. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مشاهدة النسيج الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية التي توجد في كلا الإطارين الحضاريين(16).
بعبارة أخرى، يمكن رؤية نموذجين اجتماعيين مختلفين، أحدهما النموذج الغربي يطبعه التنظيم والديناميكا، أي تنتظمه الفعالية في واقع حياته، والآخر النموذج المتخلف، تنتظمه ضروب من التسيب واللافعالية. وهذا كله في إطار التاريخ، إذ لو رجعنا قرنين أو ثلاثة إلى الوراء -كما يرى ابن نبي- لوجدنا الصورة معكوسة تمامًا، إذ أن هذا المستكشف يجد الصورتين معكوستين، فكل ضروب النشاط والفعالية يجدها على محور طنجة-جاكرتا، وكل ضروب التسيب واللافعالية يجدها على المحور الغربي.
فمسألة الفعالية في حقيقتها تتعلق بالمرحلة الحضارية التي تعيشها الحضارة، كما تتعلق بنمط الثقافة التي هي إما دستور لقيام حضارة، وإما شبكة من النفايات والأفكار القاتلة والميتة التي تطبع إنسان ما بعد الحضارة (خارج إطار الحضارة )، مثل إنسان ومجتمع (ما بعد الموحدين ) في العالم الإسلامي(17).
أهمية النموذج في تحقيق الفعالية:
يرى ابن نبي أن اختيار (النموذج ) يحدد المنهج، وهذا بدوره يجعل عملية بناء الحضارة عملية قصدية، تتحقق في إطار زمني منضبط.. فكل حضارة يتكون لها نموذجها ومثلها الذي تجعله نصب عينيها، سواء كان هذا النموذج مستمدًا من الحاضر أو الماضي أو كليهما، أو شيئًا آخر، ولكن لا بد من نموذج ومثال يحتذى. واختيار النموذج يحدد المنهج إلى حد ما، فهناك ارتباط بين النموذج والمنهج، في إطاره تتحقق صور التنظيم والديناميكا; أي الفعالية.
ويضرب ابن نبي مثالاً بالغرب واليابان كامتداد لمحور واشنطن-موسكو-طوكيو، حيث النموذج واضح في كل من الغرب واليابان الذي التحق بمحور القوة، لما توجه به الفكر المحافظ من العهد (الميجي ) والعقل الصناعي إلى تركيب حضاري، يبدو أنه اتجه نحو مشاكل الإمبراطورية أكثر مما اتجه نحو مشاكل الإنسان، أي نحو مشاكل (القوة )، غير أن نجاح التجربة كان واضحًا، إذ حينما قادها العقل المنهجي، وحين قادها منطق التأثير الفعال منذ العهد (الميجي )، فإن اليابان اجتاز في نصف قرن المرحلة التي تفصل محور طنجة-جاكرتا عن محور واشنطن-موسكو(18). فارتقى إلى المستوى الاجتماعي للحضارة(19)، وحققت له الرؤية الواضحة لنموذجه منهجًا أنجز به التركيب التاريخي التكويني للإنسان والتراب والوقت، وهو اختار النموذج الغربي، وانتهج منهج (القوة )، وهو يعلم ما هو جوهري في اختياره، أي أنه كان ينجز حضارته بفعل قصدي مهما كانت اختياراته، بينما كانت المشكلة في العالم الإسلامي تتجه لأن تُحلَّ من تلقاء نفسها، بقوة الأشياء لا بحكم الفكر. أما المجتمع الغربي فإن نموذجه الذي اختاره نما مع القرون التي امتدت منذ عصر النهضة، وشكلت له تقاليد حضارية، زادتها الفنية الديكارتية فعالية في تحقيق نتائجها على مستوى التاريخ(20).
وغياب الفعالية في المجتمع الإسلامي يعزوه ابن نبي (رحمه الله) إلى أن العالم الإسلامي لم يختر حتى الآن نموذجه، الذي يعطيه تحديدًا لمنهجه، وبقيت النهضة تنمو تحت تأثير نموذج غامض لم تختره، بل فُرض عليها تلقائيًا من أذواق القوم.. وما يبدو أنه اختيار للنموذج الغربي في العالم الإسلامي، هو في حقيقته من قبيل (وضع الثور قبل المحراث )، وتكديس لمنتجات الحضارة الغربية، وهذا التكديس قد تم في تنكر كامل تقريبًا للنموذج ولفضائله الواقعية ولقيمه العامة، وكان انجرارًا وتقليدًا للجانب السافل منه(21).
من هنا يمكن أن نؤكد أن الفعالية من وجهة اجتماعية (سوسيولوجية )، تنتج من خلال التركيب التاريخي للعناصر الأولية للحضارة، والتي هي الإنسان والوقت والتراب، على ضوء هداية منهج مكيف طبقًا للنموذج الذي اختاره المجتمع.
فالفعالية في جوهرها منهج فكري، بمعنى أنها (مسألة أفكار ومناهج وليست مسألة وسائل )(22)، كما اعتقد العالم الإسلامي حين اتجه إلى البحث عن الوسائل المادية، بينما الأمر يتعلق بنمط الثقافة وما تحدده من مناهج، وما توفره من أفكار وجو فكري، يفعِّل الأداء الاجتماعي للفرد والمجموع.. ولهذا فابن نبي (رحمه الله) حين يتحدث عن النموذج والمنهج، فهو في الحقيقة يتحدث عن ترجمتهما في صورة مشروع ثقافي، يكتل الجهود، ويشكل دستور الحياة، من خلال ما تحويه الثقافة من عناصر الفكر والأخلاق والعمل والجمال(23)، وحينما ينعدم الإطار الثقافي بعناصره هذه، فإن الأفكار تتجه إلى الدوران حول التقليد، وتفقد اتصالها بنموذجها الثقافي الذي تكونت فيه أصالة، ويضمن لها الدور الفعال في التاريخ، وتتحول إلى معوقات إن لم تكن أمراضًا تقضي على بوادر النمو.
ولذا فإن ابن نبي يجعل انعدام الفعالية يكمن في انفصال الأفكار عن نموذجها في عالمها الثقافي الأصيل، فتصبح هذه الأفكار حينئذ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية، سواء الموروثة عن عهود التخلف، أو الأفكار المميتة القادمة من عالم ثقافي آخر انفصلت عنه(24).
الثقافة والفعالية:
كما سبق القول، فإن الفعالية في مفهوم ابن نبي (رحمه الله) لا يمكن الحديث عنها منفصلة عن نظريته في الثقافة، ذلك أن الثقافة تشكل الإطار الذي ينظم سلوك الفرد في محيطه الاجتماعي، ويمنحه الوجهة التي يسير وفقها. وأساس كل ثقافة هو تركيب تفاعلي بين عناصر الوجود الاجتماعي; الأشخاص والأشياء والأفكار.. وضمن هذا التركيب تتوجه الثقافة إلى أن تكون إطارًا لتحقيق الفعالية أو الركود(25).(9/322)
ونموذج الثقافة، كما يؤكد ابن نبي، يحدد الفعالية.. فالثقافة إذا ما تكونت في مجتمعٍ، نشأت فيه تلقائيًا شبكة الصلات الثقافية، وتحددت فيه فعالية الفرد، إذ الثقافة ليست مجرد علم يتعلمه الإنسان في المدارس ويطالعه في الكتب، إنها ذلك الجو المتكون من عادات وتقاليد وأذواق، أي الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر(26). ومن هنا فنمط الثقافة مهم جدًا في تحديد القيم الفعالة، إذ الثقافة إما أن تكون زادًا ومحيطًا يحرك إرادة الفرد ويحرر طاقاته في المجتمع، أو أنها تكون عائقًا إذا كانت ثقافة تحمل دستورًا للعطالة والتسيب واللامبالاة الفردية والاجتماعية.
فأمر الفعالية، في مفهوم ابن نبي، متعلق بإطار الثقافة الذي يجعل من المبدأ الأخلاقي منتجًا للفعالية، ذلك أن فعالية المجتمعات تزيد أو تنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص، فإن مواقفها إزاء المشكلات محددة بذلك المبدأ الذي يكوّن الشرط الأساسي لأفعالها، حيث ينظم فيها علاقات الأشخاص تنظيمًا يناسب المصلحة العامة(27). فأول شرط لتكون الثقافة إطارًا للفعالية هو وجود المبدأ الأخلاقي، وجودًا اجتماعيًا يؤثر ويوجه حركة التاريخ، وينشئ الصلات الاجتماعية، ويبني النسيج الاجتماعي.
وتبعًا لنظريته في موقع الفكرة الدافعة في حركة التاريخ وبناء الحضارة وتشكيل نمط الثقافة، فإن ابن نبي يرى أن الثقافة لا تستطيع أن تُكوِّن أسلوب الحياة في مجتمع معين، إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطًا بهذا الأسلوب، فلا يحدث فيه نشوزًا بسلوكه الخاص، وهذا لا بد أن يكون خلقيًا، أي المبدأ الأخلاقي، وهو فيما يتصل بالغرب الفكرة المسيحية وما طرأ عليها من تطور وتغير خلال حركتها في التاريخ(28).
ويورد ابن نبي (رحمه الله) مثالاً لارتباط الفعالية بالمجال الثقافي الذي تشكله الفكرة الدافعة بما وقع للمسيحيين على يدي الرومان في بداية تسجيل المسيحية في النفوس بعد قرون ثلاثة من بعثة المسيح عليه السلام، ويؤكّد أن البنية التحتية التي أنشأت الحضارة الغربية كانت المسيحية(29)، وأن المبدأ الأخلاقي المسيحي يشكل لحمة الصلات الاجتماعية التي تربط بين مظاهر التنوع في الغرب.
ويعزو أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية إلى أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة لا تُتَصوّر هذه الصناعات والفنون بدونها، فهي الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه... فلو تناولنا جهاز الراديو مثلاً لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بنائه، بينما هو في الواقع آثار تلك العلاقات الاجتماعية التي وحدت جهودًا مختلفة لـ (هرتز ) الألماني، و(بوبوف ) الروسي، و(برانلي ) الفرنسي، و(ماركوني ) الإيطالي، و(فليمن ) الأمريكي، فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعًا(30).
ويتساءل ابن نبي (رحمه الله): وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان ? ولهذا يرى أننا سوف نصل في النهاية -إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة، وليست خاصة بالحضارة الغربية فقط(31).
لكن ابن نبي لا يغيب عنه ما طرأ على هذا المبدأ الأخلاقي من تطور وتبدل، ولهذا ينبه إلى أن الحضارة الغربية قد قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي، أتاح لها التماسك والوثبة الضرورية لازدهارها، لكن تطورها قد غير هذا الأساس العقدي شيئًا فشيئًا، إلى أن صار هيكلاً مختلطًا يتمثل فيه التفكير الكاثوليكي والبروتستانتي، وما يسمى بالتفكير الحر، والتفكير اليهودي، وعليه فلا مجال لأن نبحث عن التماسك والتوافق في تلفيق ديني مصطنع، وهذا يعطينا تفسيرًا لبداية خفوت الروح الدافعة التي تعاني منها الحضارة الغربية اليوم(32).
وأما الشرط الثاني لتكون الثقافة إطارًا للفعالية فهو الجمال، ويرى ابن نبي أن: (ذوق الجمال هو الذي يطبع الصلات الاجتماعية بطابع خاص. فهو يضفي على الأشياء الصورة التي تتفق مع الحساسية والذوق العام من حيث الألوان والأشكال. فإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته )(33)، ومن هنا ينبه ابن نبي إلى وجه آخر للفرق بين العلم والثقافة، فإن الأول تنتهي عمليته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثانية تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها.
ومن هذه الناحية يعتبر ذوق الجمال من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه يحرك الهمم إلى أبعد من مجرد المصلحة. وهو في الوقت نفسه يحقق شرطًا من أهم شروط الفعالية، حيث يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى من شأنها أحيانًا أن تعدل من بعض الدوافع السلبية التي ربما يخلقها المبدأ الأخلاقي الجاف في سلوك الفرد(34).
فالجمال شرط مهم من شروط الفعالية في الفرد وفي المجتمع. غير أن المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي، لا يشكلان دافعًا قويًا إذا لم تكن هناك الوسائل العملية لتنفيذهما في الواقع، ولذا نجد ابن نبي يضيف شرطًا ثالثًا; وهو المنطق العملي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة(35). وهو الذي يترجم الشرطين السابقين إلى نشاط وحركة في الواقع.. والتاريخ نفسه -كما يرى ابن نبي- ليس إلا قائمة إحصائية لعدد معين من الحركات والأفكار، والمجتمع الذي يسجل يوميًا أكبر عدد ممكن من الحركات والأفكار يكِّون لنفسه محصولاً اجتماعيًا أكبر.. وهذه الاعتبارات هي التي أدت إلى تحديد فكرة (تايلور ) فيما يخص الإنتاج الصناعي، القائم على المنطق العملي. وتطبيق هذا يتضمن فكرة الوقت والوسائل، وبالتالي لا يمكن تصور حياة الإنسان دون جانبها المادي، كما لا نتصور شيئًا لا يصدر عن فكرة معينة تتصل بطبيعتها بعالم المفاهيم، وهذا -كما يرى ابن نبي- يفرض أن نحدد عنصرًا رابعًا في الثقافة، وهو العلم (الصناعة بالتعبير الخلدوني )(36).
فعناصر الثقافة تشكل مجتمعة شروط الفعالية، وكما يؤكد ابن نبي، فإن الثقافة تشتمل على أربعة عناصر: عنصر أخلاق، وعنصر جمال، وعنصر منطق عملي، وعنصر علم. فالمبدأ الأخلاقي وذوق الجمال والمنطق العملي لا تكون وحدها شيئًا من الأشياء إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه. والعلم هو الذي يعطينا تلك الوسائل، فالعلم -أو الصناعة حسب تعبير ابن خلدون- يكون عنصرًا هامًا في الثقافة لا يتم بدونه تركيبها ومعناها، فهو إذن عنصرها الرابع(37).
ومن خلال ما سبق، يمكن ملاحظة أن ابن نبي (رحمه الله) يربط الفعالية بإطارها الثقافي، وأن الفعالية معناها اكتمال شروط الثقافة; من مبدأ أخلاقي، وذوق جمالي، ومنطق عملي، وصناعة (العلم )، فإذا اختل دستور الثقافة في أحد شروطه اختلت شروط الفعالية في إطار التاريخ، كما أن اتجاه الفعالية مرتبط بجهاز المفاهيم الذي تقوم عليه الثقافة.
=============
الخاصية الرابعة: النزعة الجمالية
ما هي النزعة الجمالية؟(9/323)
يولي ابن نبي عناية خاصة للذوق الجمالي، وما يؤديه في صياغة الثقافة، وتحديد ذاتيتها، كما يبين أهمية النزعة الجمالية في تحديد اتجاه الحضارة في التاريخ. ويركز في دراسته للحضارة على أن النزعة الجمالية والذوق الجمالي ينعكسان على سلوك الفرد والمجتمع، ويظهر هذا في الأفكار، والأعمال، وكل المساعي، أي أن عنصر الجمال مهم لتكوين الذوق العام. كما يرى أن الجمال في صورته النفسية هو (الإحسان )(1).
ومن وجهة لغة الاجتماع، يرى ابن نبي: (أن الأفكار -بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها- إنما تتولد من الصور المحسة، الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صورًا معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة )(2).
فابن نبي ينظر إلى الجمال من الوجهة النفسية والاجتماعية، أي إلى ذلك الجانب النفسي المستوحى من منظر أو شكل أو رائحة أو صوت أو لون. هذه الحركات أو الأشكال إما تؤدي إلى إحساس بالقيمة الجمالية، أو إلى سماجة في السلوك إذا كان ما توحي به مستقبحًا. وهذا يؤدي بالإنسان إلى سلوك عملي يتوخى فيه الإحسان والدقة والإتقان، كما يتوخى كل سلوك محبب إلى النفس وكريم في العادات. فالجمال عند ابن نبي بما يوحيه في المجتمع من ثراء في الذوق، وما يمثله من نبع، تصدر منه الأفكار وتصدر عنه بواسطة هذه الأفكار أعمال الفرد في المجتمع(3 ).
بعبارة أخرى، أن الجمال يشكل فصلاً مهمًا من فصول الثقافة، التي تشكل المحيط الاجتماعي، وتكوِّن شبكة العلاقات الاجتماعية(4)، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة.. والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال(5). والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أوليا عناية كبيرة للبعد الجمالي في شخصية الفرد والمجتمع والأمة، ويظهر ذلك جليًا من خلال التأكيد على جانب الطهارة في النفس والجسم والمحيط، حتى اعتبر الإسلام إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وصدقة يؤجر عليها فاعلها(6).
غير أن ابن نبي لا يهتم بإعطاء تعريف دقيق للجمال من وجهة لغوية، بقدر ما يهتم بهذه النزعة من وجهة دخولها في تركيب الثقافة، وتأثيرها على الإطار الاجتماعي. ومن هنا يمكن القول: إن تركيز ابن نبي كان على التحديد الاجتماعي والحضاري للقيمة الجمالية، أكثر من عنايته بالمصطلح ذاته من ناحية النشوء اللغوي، رغم أنه يشير إلى بداياته مع حركة النهضة الأوروبية، ومع بداية الاتجاه الكلاسيكي والرومانسي في الأدب والفن في إيطاليا. ويشير إلى ما لاحظه (تولستوي ) في كتابه (ما هو الفن ) حيث يرى أن فكرة الجمال بدأت تحتل المكان الأول في عصر النهضة. وأنها استولت نهائيًا على الشعور الغربي حوالي منتصف القرن الثامن عشر عند ظهور دراسات (وينجهمان ) التي تشير إلى أن المبدأ الأخلاقي قد اضمحل في الفن وسلم مكانه للجمال(7).
وكما يشير ابن نبي، فإن الجمال ينتشر في المجال الطبيعي في صورة أصوات وألوان وحركات وأضواء وظلال، وفي المجال الاجتماعي تنتظم ألوان الحياة وصورها في قوالب وأشكال وأنماط متعددة، وكل هذه وتلك في المجالين معًا يتمثلهما الإنسان في ذاتيته شعوريًا ولا شعوريًا فتؤثر عليه وعلى سلوكه وتدخل في تشكيل ذوقه ودوافعه سلبًا وإيجابًا. فالانفعال الجمالي بالأشياء يمنح حركة العمل دافعًا وإبداعًا ويحدث التغيرات العديدة في السلوك والحياة(8). أي أن الجانب التربوي هو المهم في الجمال، وهو الذي يوليه ابن نبي عناية كبيرة، وهذا اتساقًا مع نظريته في فصول الثقافة التي يعد الذوق الجمالي أحد أبعادها الأربعة.
والذوق الجمالي كقيمة حضارية، له تأثير عام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا مثلاً في الملابس والعادات وأساليب الضحك، وكطريقة تنظيم بيوتنا، وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا. كما يرى ابن نبي أننا في العالم الإسلامي اليوم لا نملك هذه القيمة، ولو كانت عندنا لوظفناها في حل مشكلاتنا باعتبارها أحد فصول الثقافة مثلها مثل المبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، وجانب الفن الصناعي، فيقول: (ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودًا في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبًا من حياة الإنسان )(9).
الجمال واتجاه الحضارة:
في تحديده لدستور الثقافة، في فصولها الأربعة: المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والفن الصناعي، يرى ابن نبي أن هناك علاقة خاصة بين الفصلين الأولين; المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. كما يلاحظ أن هناك علاقة صلة خاصة بينهما، تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. حيث إن هذه العلاقة تحدد طابع الثقافة كله، كما أنها ترسم اتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه(10).
فالنموذج الاجتماعي إما أن يقوم على الدوافع الأخلاقية وإما أن يقوم على الدوافع الجمالية، ومن هنا نكون أمام نموذجين من المجتمع; تبعًا للدوافع التي تحرك نشاطاته.. وحسب ابن نبي، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافًا شكليًا، أو مظهريًا، بل هو اختلاف عميق يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبرى. إذ كل من المجتمعين يتطور تاريخيًا في اتجاه يختلف تمامًا عن اتجاه الآخر، بل قد يتناقضا في كثير من المواضع، إذ أن ما يمتنع مجتمع عن فعله بدافع خلقي، يعمل الآخر على تحقيقه بدافع جمالي.
إضافة إلى أن السلوك والأذواق والمناظر، واللباس، وكل النسيج الاجتماعي، والعمراني، يخضع في تشكيله إلى العلاقة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي. فالمجتمع الغربي مثلاً اشتهر بفن التصوير، وتصوير المرأة العارية على الخصوص بسبب الدافع الجمالي، بينما المجتمع الإسلامي -كما يرى ابن نبي- لا نجد فيه أن للفن الإسلامي آثارًا في التصوير، مثل ذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية، وفي آثارها المتبقية مع الزمن. وما ذلك إلا لأن المبدأ الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل أنواع الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية(11).
فالمعيار الذي تقيس به الحضارة الغربية هو معيار الجمال، أما معيار الحكم على الأشياء في الحضارة الإسلامية فهو معيار القيمة الأخلاقية. وهذا في نظر ابن نبي (رحمه الله) ليس معناه افتقاد الحضارة الإسلامية عنصر الجمال، وإنما موضعه يأتي متأخرًا عن القيمة الأخلاقية في سلم ترتيب القيم(12).
فالمسألة في وضعية إحدى هاتين القيمتين: الأخلاق، أو الجمال، باعتبار إحدى القيمتين محورًا، والأخرى تابعة.. وهذه المحورية ترجع إلى أصول كل ثقافة وما تركبت منه في بداياتها، وإلى جذورها الأولى، فإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج خط النبوة وتعاليم الوحي، مما جعل (الحقيقة ) محورها، فإن الحضارة الغربية تعود في أصول ثقافتها إلى ذوق الجمال الموروث من التراث اليوناني الروماني; الذي كان شغوفًا بالتماثيل والرسوم، مما جعل الثقافة الأوروبية تركب في مضمونها مزيجًا من الأشياء والأشكال، أي من التقنية والجمالية(13).(9/324)
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية، قد وضعا دستور الجمال المؤسس على المبدأ الأخلاقي، فذلك يبين موقع الجمال في المنظور الإسلامي، الذي يعد قيمة غير قابلة للانفصال عن القيم الأخلاقية.. ولهذا فإن مسألة اللباس فيما يخص المرأة، منضبط بقيم الحياء والستر، وغض البصر، وعدم التبرج، وإخفاء المفاتن. أما الجمال في المنظور الغربي، وباعتبار أن الحضارة الغربية تتمحور حول الذوق الجمالي، فإن هذا أنتج موجات الموضة والأزياء التي لا تراعي قيم الحشمة والستر والحياء، وتعتبرها لا قيمة لها قياسًا إلى المنظر الجمالي. وليس هذا في مجال الأدب والزي فقط، بل إن العلاقة: (مبدأ أخلاقي-ذوق جمالي )، تدل دلالة واضحة على عبقرية أي مجتمع، وتحدد اتجاهه في التاريخ.
نتائج النزعة الجمالية:
وما يمكن ملاحظته أن ابن نبي يعتبر أن هذا الاختيار، الذي انتهت إليه الحضارة الغربية، أي تقديمها للذوق الجمالي على المبدأ الأخلاقي في سلم ترتيب القيم، أحدث في الثقافة الغربية انفصالاً عن الثقافة الإنسانية، كما أحدث خللاً منهجيًا أدى إلى قلب القيم، وإلى نتائج خطيرة على مصير الحضارة الغربية نفسها، وعلى الإنسانية عمومًا. فأدت النزعة الجمالية إلى الاستعمار، والإباحية والعبثية، وتفكيك الروابط التي تحفظ المجتمع من الانحلال، وإلى تمركز الإنسان. ويضرب ابن نبي مثلاً بظاهرة الاستعمار باعتباره (ظاهر ثقافية ) تعبر عن نمط ثقافة معينة قائمة على السيطرة، فالعقل الأوروبي المحكوم بإطار ثقافي قدم الجمال على المبدأ الأخلاقي في ترتيب القيم، فإن هذا الترتيب أثر في علاقة الغربي بالإنسانية(14).
ويضيف ابن نبي (رحمه الله) أننا لو تتبعنا الاعتبارات هذه، إلى أبعد مدى، لرأينا كيف أن الثقافة التي تمنح الأولوية لذوق الجمال، تغذي حضارة تنتهي إلى فضيحة حمراء، وذلك لأنها تسيطر عليها دوافع الأنوثة(15).
============
خصائص المنهج أولاً: السننية
ينطلق ابن نبي (رحمه الله) من قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم )(الرعد:11)، ويجعلها أساس كل إنجازه الفكري، ويتخذ منها قانونًا للتغيير بكل مستوياته، ويبحث في وقائع التاريخ ليؤكد للعقل المسلم أن الله تعالى يعلمنا بهذه الآية وآيات القرآن كلها، أن التغيير يخضع لسننٍ علينا أن نكتشفها ونوظفها في بنائنا الحضاري بكل مستوياته.. ونلاحظ أن ابن نبي لم يتوجه إلى تفسير القرآن والسنة، وإنما اتجه إلى محاولة دراسة السنن التي ينبه إليها الوحي، ويستخرجها من حركة التاريخ، ومن تجارب الإنسانية.
فهو (مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، لم ينصب فكره على النص الإسلامي، وإنما على مناط تطبيقه على المجتمع، من أجل بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل المسلم، بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف... فمالك يرى أن الحضارة ليست نظرية في الفلسفة وفي المعرفة عامة، مهما كانت جميلة ومتناسقة، حتى ولو كان الإسلام ذاته، وإنما الحضارة إنجاز في عالم الزمان والمكان، ثمة تفاعل فكرة مع واقع بحسب شروط موضوعية لا تتخلف )(1). فهو قد اتجه إلى كيفية إعمال هذا الوحي واستخراج سنن البناء والسقوط الحضاري، ويقدمها كأدوات عملية في أيدي المسلم الباحث عن طريق للعودة إلى صناعة التاريخ.
وبتأمل أدواته التحليلية التي ابتكرها; مثل الدورة الحضارية، أو الفكرة الدينية، أو دستور الثقافة، أو المراحل الثلاثة للمجتمع، وغيرها، فإننا نجد روح البحث عن القانون الذي يحكم الظاهرة هي التي تقوده، كما أن تأكيده المتكرر على الارتفاع إلى مستوى الحوادث الإنسانية، والتأمل في السنن التي تبني الحضارات وتهدمها(2)، كان الغرض منه إخراج المسلم من الحتمية التي وقع فيها منذ عصر (ما بعد الموحدين )، واستسلم لعوامل التخلف، ليدخل في دورة إنجازية قائمة على أسس ثابتة. وحتى قانون الدورة الذي كثيرًا ما اعتمد عليه ابن نبي، فإنه لا يراه حتمية، بل هو قانون يمكن التعامل معه بقانون آخر. إذ يؤكد على هذا الأمر بقوله: (إن كل قانون يفرض على العقل نوعًا من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون، فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل برًا أو بحرًا. ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء... إن القانون في الطبيعة لا يَنصِب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهادًا جديدًا للتخلص من سببية ضيقة النطاق )( 3 ).. وهذا القانون الذي في الطبيعة، يمكن الاستفادة منه في ميدان التاريخ، فنخلّص (مفهوم التغيير الاجتماعي من قيود السببية المقيِّدة، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين أمثال (توينبي)، الذين يرون الأشياء في التاريخ تسير طبقًا لسببية مرحلية. والأشياء تسير فعلاً كذلك إن تركت لشأنها )(4).
وزيادة على ما قاله ابن نبي، فإن الأمر لا يتعلق بـ (توينبي ) فقط، بل بكثير من رواد حركات التغيير من بين المسلمين، الذين رأوا في الهيمنة الغربية قانونًا صارمًا لا يقبل التغيير. وهي فعلاً صارت قانون العصر، لكنها تقبل التغيير والتحدي، إذا علمنا أن الظاهرة الأوروبية نسبية وليست الحقيقة المطلقة، ومن هنا يمكن التعامل معها(5).
كما أن ابن نبي يفرق بين نوعين من السنن; فهناك ما يقبل التغيير والتحدي -مثل ما سبق الحديث عنه من نسبية الحقائق الأوروبية- وهناك سنن لا تتغير ولا تتبدل، وهذه الأخيرة ينبغي التأمل فيها، وهي السنن التي تبني الحضارات وتهدمها، وتحكم التغيير الاجتماعي، وتوجه التاريخ، وقد أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الفتح:23)(6). وهذه الأخيرة أيضًا هي التي دفعته إلى دراسة ظاهرة الحضارة الغربية والبحث في خصائصها، وتأثير هذه الخصائص في مسيرة الحضارة الغربية، والنتائج التي قادتها إليها، وهويدرس في الوقت نفسه الحضارة الإسلامية -واقع المسلمين المتخلف في حقيقة الأمر- ليستخرج القانون العام الذي يحكم ظاهرة تنقل الحضارة، وميلادها، وأفولها، وكذا قوانين تحولها من أمة إلى أخرى، كما يستخرج القوانين الخاصة التي تحكم كل حضارة، وهو ما أسماه بنسبية الظواهر عندما تحدث عن الظواهر الأوروبية كما سبق الذكر.
فالسننية في استعمال ابن نبي (رحمه الله) تُفهم في إطار محدد من خلال تقسيمها إلى مستويين; سنن عامة تحكم الظواهر في إطارها الإنساني، وسنن خاصة تحكم ظواهر جزئية ومحددة.. كما أن السننية في مفهومه مرتبطة بمفهوم آخر هو التسخير، وبالتالي فإن السنة باعتبارها قانونًا، لا تقيد الجهد الإنساني، وهي تمارس حتمية في إطار مدى عمل السنة ذاتها، وليست لها طابع الجبرية المقيد لحركة الإنسان، وبخاصة فيما يتعلق بحركة التاريخ، بل هي جزء من التكليف المنوط بحرية التصرف.. وبتعبير آخر، أن (السنن في النفس والآفاق... قدر من قدر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرعها وسنّها وناط تكليف الإنسان بها، وربط جزاءه وقيمة إنجازه بمقدار ما يكشف منها، ويلتزم بها... والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها، هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان والتوكل، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق )(7).(9/325)
وهذه الأقدار بعضها يدفع ببعض، فإذا أردنا توظيف سنة معينة علينا أن نوظفها ونتحكم فيها بسنة أخرى أكبر منها، أو نتجاوزها من حيث الهيمنة والتوجيه، وهذا هو التسخير. فإن الله عز وجل سخر هذا الكون للإنسان عن طريق توظيف هذه السنن، وتتبع حركتها، وملاحظة كيفية عملها وتعاقبها فيما بينها، لتحقيق مستوى استخلافي أرقى في كل مرة يتجاوز الإنسان سنة تاريخية أو كونية إلى سنة أخرى.
فابن نبي يحرص على تأكيد سننية حركة التاريخ، وحركة الحضارة، وضرورة تنبه العقل المسلم لهذا الأمر، حتى لا يقع له الذهول عن المقاصد، أويقع في ذهاني الاستحالة أو السهولة. يرى الأستاذ عمر عبيد حسنه: أن فهم (قضية السنن، بمعنى القوانين المطردة والثابتة، التي تحكم حركة الحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتتحكم بالدورات الحضارية، بما يمكن أن نسميه سنن التداول الحضاري، استيحاء من قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140)، والتي تعتبر معرفتها شرطًا أساسيًا للتبصر بالعواقب، وتؤهل معرفتها إلى تسخيرها والتمكن من الإنجاز والإبداع الحضاري، لا يتأتى إلا من السير في الأرض، الذي فرضه الله على المسلم بقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل )(الروم:42)(8). فالسير في الأرض من خلال الارتفاع بالوعي إلى المدى العالمي، يدفع إلى أكبر قدر من الخبرة العلمية والعملية بالأحداث التي ترسم مسار التاريخ وتشكله، وتترك من ورائها آثارًا للناظر المكتشف لقوانين التاريخ.
ولهذا فابن نبي في دراسته للحضارة الغربية وخصائصها، كان يهدف من وراء ذلك إلى البحث عن حل سنني لمشكلات العالم الإسلامي، يضعه في إطاره الإنساني، ولا يغفل الحقيقة الموضوعية التي يسير بها منطق التاريخ، الذي صار من أهم ميزاته في أواخر القرن العشرين أن الإنسانية موحدة في مصيرها، ومتشابكة في علاقاتها، مما يحتم علينا البحث في عمق الظاهرة الحضارية في حركتها في التاريخ، دون عزل يقصي الأبعاد المتشابكة لها.
ولتأكيد أهمية النظر السنني للوقائع والأحداث، ولأي إنجاز بشري، فإن ابن نبي ينطلق من استقراء الواقع الاجتماعي والتاريخي، وبمختلف دوائره; الدائرة الإسلامية والدائرة الإنسانية، ذلك أن الكشف عن السنن التي تحكم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض، واستقراء التاريخ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركة البشر، للإفادة منها للحاضر والمستقبل(9). وينطلق في ذلك (من عدة ملاحظات تاريخية واجتماعية ومنهجية طبعت تفكيره بالدقة والعمق، وبالقدرة على التأمل والتدبر.. فجاءت أطروحاته متسمة بالنضج في التفكير، وبالعمق في التحليل )(10). وهو وإن كان يهدف من دراساته التي قدمها إلى البحث عن حل لأزمة العالم الإسلامي، وبناء منهج لنهضته، فإنه أراد إعطاء أكبر مصداقية لتحليله، من خلال البحث في مستوى السنن التي تحكم حركة التغيير، وهي لا شك سنن تؤطر أي جهد بشري، دون النظر إليه أكان مسلمًا أو غير ذلك، ولهذا نراه ينزع في دراساته منزعًا إنسانيًا يتجاوز الدائرة الخاصة بمشكلات العالم الإسلامي -رغم تأكيده على محوريتها- إلى آفاق الإنسانية، التي وصلت إلى مصب تاريخي تحتاج فيه البشرية إلى بديل حضاري سنني قائم على هدي سنن الله في الكتاب والآفاق والأنفس.
ومن هنا يمكن فهم ما لاحظه الأستاذ إبراهيم زين، من أن (مالك بن نبي كان يعنى في المقام الأول بمشاكل الإنسانية جمعاء، وكان يحاول وضع مشكلات الأمة الإسلامية في إطار مشكلة الإنسانية قاطبة )(11)، أو ما سماه ابن نبي نفسه بالارتقاء إلى مستوى الأحداث الإنسانية، والغرض من ذلك هو الكشف عن سنة الله فيها.
ويمكن التعبير عن الجانب السنني مما قدمه ابن نبي بالمنهج، أي أنه قدم منهجًا قائمًا على أدوات محددة -كما سبق ذكره- وإطار تصوري قائم على المنظور الحضاري الذي صاغه، أو بتعبير الأستاذ إبراهيم زين (فقد كان يرى الأشياء بتلك البصيرة الحضارية التوحيدية النافذة التي تجلت في محاضرة (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين )(12)، وفي كتبه الأخرى كلها.
وهذا هو المهم من ابن نبي; المنهج وليس الجزئيات، فقد تكون الأحداث التي انعكست في كتابات ابن نبي قد تجاوزها الزمن، وقد تكون المرحلة التي عاشها قد ولت بكل تفاصيلها، ولم يعد لها معنى، غير أن الذي يهم من فكره وفكر غيره هو الجانب المنهجي، وروح البحث عن القانون(13).
كما يمكن القول: إن أهم ما يمكن الانتهاء إليه والإفادة منه في منهج ابن نبي فيما يتعلق بهذه النقطة، أن ابن نبي درس الحضارة الغربية في ضوء القانون العام الذي يحكم حركة الحضارة، وقدمها لنا بصيغة منهجية يمكن من خلالها التأمل في الظاهرة الغربية ومعرفة مآلاتها ونتائجها، كما يمكن الاستفادة منها باعتبارها تجربة منجزة في إطار الزمان والمكان، وتخضع بدورها لسنن دقيقة، وليست ظاهرة مستثناة في التاريخ، أو أنها جاءت فجأة ودون عمل سنني وكفاح مستمر منذ فجر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى المآلات التي نعيشها اليوم، في عالم صارت تصاغ مفرداته ويومياته من قبل منظور هذه الحضارة الغربية، ويخضع لإفرازات خصائصها سواء في منظورها المادي الاستهلاكي، أو في عقلانيتها الديكارتية ذات الجوهر المادي والمآلات العلمانية، أو في جماليتها التي تصبغ بها الأذواق، أو في فعاليتها التي أوصلت الإنسان إلى غايات كبرى على مستوى القدرة التسخيرية للإنسان في الكون. وهو في ذلك كله يعمل على تصحيح النظرة إلى عمل السنن، وكيفية التعامل مع الظاهرة في جوهرها وفي مظهرها، و(قد أبدع مالك رحمه الله في تحليل أسباب أزمتنا الحضارية، من خلال رؤية متميزة للسنن التي تحكمها، فساهم بذلك في تصحيح النظرة للأزمة، حيث قدمها للناس بصيغة قوانين قابلة للفهم، ومن ثمّ قابلة للتسخير في حل هذه الأزمة )(14).
===========
ثانيًا: الأصالة
المقصود بالأصالة هنا، ما يتميز به منهج ابن نبي من حيث المرجعية الفكرية والروحية، وما يمتلكه من منهج ومصطلحات. ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي الحضور الخلدوني القوي في كل إنتاجه الفكري، فهناك شبه واضح بين رؤية ابن نبي (رحمه الله) للتطور الاجتماعي وبين رؤية ابن خلدون، غير أن ابن نبي لا يعتبر تلميذًا نبيهاً لابن خلدون فقط، بل استفاد بطريقة ذكية من التطورات الأخيرة التي وصلت إليها العلوم الاجتماعية. وبالرغم من أن ابن نبي يبدو قارئًا ومتأثرًا بابن خلدون( 1 )من خلال المقدمة، فإن تأملاته الفلسفية ورؤيته للحضارة تذهب إلى أبعد من التراث الخلدوني(2). وما لمسناه في تأمله في سنن التاريخ، وقيام الحضارة وحتى تفسير حركة الحضارة، فإن ابن خلدون يبدو المرجع الفكري الأول لابن نبي دون منازع.(9/326)
وإذا كان كل مفكر أو كاتب أو باحث ذي منهج ورسالة عميقة يريد تبليغها، فإنه يقدمها بإبداع مصطلحات ومفاهيم ومضامين جديدة، فإن ابن نبي غير مستثنى من هذا. فعلى الرغم من أنه وظف التراث الفكري السابق له، خاصة من ابن خلدون، وعلماء الاجتماع، فإن أطروحته جديدة وأصيلة، على مستوى المصطلحات والمفاهيم والمنهج، وما لاحظناه في الفصول السابقة من أدوات تحليلية تبدو متميزة، وفي نسق مترابط، بحيث إنها أدوات مترابطة تشكل المنظور الحضاري، وإن صح التعبير (المنهج البنابي )(3)في التحليل وتفسير ظاهرة الحضارة، ومنهجية بنائها. وليس معنى هذا أن أفكار ابن نبي لم يسبقه إليها أحد، وإنما ما يمكن قوله: إن هذه الأفكار موجودة قبله ولكن في صورة أفكار جزئية، ولا تشكل نسقًا متكاملاً، أو منهجًا قائمًا بذاته.
ولم يسبق في علم الباحث أن وجد عند أي عالم اجتماع أو مؤرخ من مؤرخي الحضارات، توظيفًا مترابطًا يشكل إطارًا متكاملاً لكل من الأعمار الثلاثة للمجتمع، والمراحل الثلاث للحضارة، والدورة الحضارية، والعوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء )، وشبكة العلاقات الاجتماعية، والفكرة الدينية المركِّبة، في نسق تحليلي تفسيري لكيفية عمل القوانين التاريخية والنفسية والاجتماعية وتأثيرها في حركة المجتمع والحضارة.
إضافة إلى أن أصالة ابن نبي تكمن في وعيه بموقع الإسلام من عملية التغيير التي تنشدها الأمة في بنائها الحضاري، وأهمية الاستفادة من الخبرة الإنسانية مهما كانت، ولهذا لم يقع فيما وقع فيه الكثير من المفكرين من جلد للذات، أو تحامل على التراث، كما أنه لم يقع في ما أسماه هو نفسه بحالة إخلاص مفرط تدفعه إلى الدفاع غير الواعي عن واقع المسلمين المريض، مما يحجبه عن رؤية الحقيقة الموضوعية. ولهذا لما رأى من المسلمين من وقع في هذه الحالة، حاول التفريق بين الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان من حيث هو رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين، وبين الحقيقة الموضوعية التي تجعل من المسلمين مثل بقية الأمم الأخرى تسري عليهم سنن الضعف والقوة، ارتباطًا بما يقدمونه من جهد بشري في إطار سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ.
كما أنه فيما يخص التعامل مع الحضارة الغربية عاب على المفكرين المسلمين -كما سبق في الفصل الأول- المواقف الحدية بين من يرى أن الغرب خير كله، وبين من يرى أن الغرب شيطان وشر كله، واعتبر هذه الحالة من مخلفات ثقافة مسلم (ما بعد الموحدين ) المتسمة بالحدية، والتي ترى في الشيء إما أنه طاهر مقدس وإما دنس حقير. ودعا إلى دراسة الحضارة الغربية باعتبارها ظاهرة خاضعة للدراسة، ولكن في إطار أسمى من الدراسات المقارنة أو المقاربة أو الجدالية، وذلك في إطار دراسة القوانين التي تحكم ظاهرة الحضارة نفسها.
ولهذا يمكن القول: إن ابن نبي على الرغم من أصالة وتميز منهجه، فإنه كان منفتحًا على التراث الإنساني في جميع مستوياته.. وعلى الرغم من توظيفه لكثير من مصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الطبيعية، والفلسفة، وفلسفة التاريخ، وهي علوم أغلبها تطور في الغرب، فإنه استطاع تطويعها، وتوظيفها ضمن سياق آخر، جعل منها لبنة أصيلة في بنائه الفكري، ومنظوره الحضاري. فهو بهذا الوعي، لا يمكن أن نتهمه بالوقوع في إطار المصطلحات الغربية(4).
ومن جوانب الأصالة في المنهج، أنه يهتم بالأبعاد الاجتماعية الثقافية للظواهر التي يدرسها، فلا ينحو منحى تجريديًا بقدر ما يهدف إلى علاج مشكلات ملحة تتصل بالواقع الذي يؤرق المسلمين ويحد من انطلاقهم في تجديد الحياة الإسلامية، ففي (كثير من كتبه، يبدو ابن نبي أنه يدرس معظم القضايا ارتباطًا بالوضعية التي تعيشها الأمة، وذلك من وجهتين كعالم اجتماع وكفيلسوف )(5).
ولعل هذا المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين العلوم الإنسانية ومعطيات الوحي، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وتوظيف التكامل بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية، يبدو أنه أعطى له قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية واسعة، من كلا الجانبين التاريخي والمعاصر(6). كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي الهادف بالدرجة الأولى إلى البحث عن حلول لأزمة الحضارة، أكثر من الغوص في الجوانب الفلسفية والأبعاد المعرفية التي رغم أهميتها، ورغم وجودها في فكر ابن نبي، فإنه لم يولها الجانب الأكبر، وهو بسبيل البحث عن القوانين التي تحكم عملية التغيير في الواقع ليقدمها للمسلمين، ليفهموا أن التغيير مهما كان مستواه فإنه يخضع لسنن صارمة، ينبغي التعامل معها، وفقهها، وإلا فإن جهودنا ستبقى تراوح مكانها وتعالج المظاهر دون أن تصل إلى لب المشكلة.
=============
ثالثاً: الموضوعية
في الحقيقة، يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن الموضوعية بمفهوم متفق عليه بين الجميع، غير أن هذا لا يحول دون محاولة إعطاء محددات ولو إجرائية تمكن من النظر إلى مدى موضوعية ابن نبي في دراسته للظاهرة الحضارية الغربية، ولذا فإن الموضوعية في استعمال هذ البحث تمتد إلى النظر إلى ما قدمه ابن نبي (رحمه الله) -فيما يتصل بدراسة الحضارة- في ثلاثة مستويات; من حيث الرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة في دراسة ونقد الحضارة الغربية، ومن حيث النظر إلى الحقيقة التاريخية وتسجيل أثر الفكرة في التاريخ وتوجيهها للواقع التاريخي، ومن حيث نقد الأفكار في نسقها الداخلي، ثم من حيث المنهج المعتمد في تحليل الظاهرة وتركيبها، لمعرفة عناصرها الأساسية وكيفية تكونها وأدائها لدورها كوحدة مركبة.
ولقد تبين من خلال البحث أن ابن نبي قد رجع إلى كثير من المراجع الأساسية المعتمدة عند الباحثين الغربيين أنفسهم، وإن لم يقم بتتبع كلي لكل من كتب عن الحضارة الغربية من الغربيين، إلا أننا نجد أعمدة الدراسات الحضارية، ورواد الحضارة الغربية حاضرة ضمن تحليلاته، وهو كثيرًا ما يحيلنا إليهم، أو يوظف مصطلحاتهم إذا تعلق الأمر بالحاجة إلى حضورهم كحجج علمية من داخل النسق الغربي معرفيًا وحضاريًا. كما أنه مارس دور الشاهد والمراقب من الداخل، من خلال الإقامة الطويلة في أوروبا، وانخراطه في كثير من النشاطات العلمية والاجتماعية، ومتابعته لتطور الأفكار وتأثيرها في توجيه التاريخ الغربي.
وملاحظة ابن نبي (رحمه الله) عن دور المسيحية في قيام الحضارة الغربية في غاية الأهمية، إذ يرى أن المسيحية مرت بتحولات جذرية منها تشكلت الفكرة التي صاغت نظرة الغربي للعالم ومنحته الدفعة الأولى.
لقد كانت المسيحية تمثل الدافع الروحي والمبدأ الأخلاقي الذي كان الغربي يتحرك وفقه وهو يبسط هيمنته على العالم، باسم الذهب حينًا وباسم المسيح أحيانًا أخرى، يقول ابن نبي: (لقد أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استُخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع الاستعمارية)(1). كما أن ابن نبي عندما أتى إلى دراسة تأثير المسيحية في نشأة الحضارة الغربية رجع إلى كل من (كيسرلنج)، و(جيزو)، و(توينبي)، و(توسيديد)، وغيرهم ممن أرّخوا لنشأة الحضارة الغربية .(9/327)
أما المادية فإنه أعطاها موقع النظرة الكلية والإطار التصوري الذي يحكم الحضارة الغربية، كما أن لها أبعادها الاجتماعية والنفسية، من خلال الطابع الاستهلاكي للحياة الغربية، والتوجه نحو تنميط الحياة على أساس الاقتصاد والدخل الفردي، والتمركز حول القوة باعتبارها نفسية ذات جذر مادي. هذه المادية لها صلتها بالعالمية الغربية التي تحاول إصباغ نموذجها على العالم، كما لها صلتها بالعقلانية الغربية التي تعتبر في جوهرها تمحور حول المادة ونفي عملي للغيب.. والمادية متصلة بنموذج الفعالية الغربية التي تنحو في أغلبها إلى الجانب الكمي، وتتجه نحو منطق الحسم بأية وسيلة، مما ينزع عنها الجانب الأخلاقي الملتزم بالقيم إلى حساب تحقيق أكبر كمية من النفع والتنظيم وإشباع الحاجة، التي هي في غالبها اقتصادية.
وفي الحقيقة، كما رأى ابن نبي من قبل، فإن (اغروس وستانسيو ) يؤكدان أن (لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقًا لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها )( 2 ). فإذا كانت الرؤية الكونية للحضارة الإسلامية تقوم على أساس التوحيد، وتجمع بين عالمي الغيب والشهادة، وتتكامل فيها المادة وما وراء المادة، فإن (الحضارة الغربية ما برحت، منذ عصر النهضة، تخضع لسلطان العلم التجريبي.
بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحديًا من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين... النظرة القديمة والنظرة الجديدة )(3). هذا الذي يسميه ابن نبي الصراع الحادث بين علم أوروبا وضميرها، ذلك أن التقدم التكنولوجي والاطراد التاريخي يقود الحضارة الغربية إلى التقدم والتقرب نحو الإنسانية في مصيرها المشترك، وتطلعاتها نحو الوحدة، غير أن ضميرها المتخلف، وريث عصر الفتوحات الجغرافية والاستعمار، يكبح أوروبا والغرب عمومًا من أن تتوحد في نظرتها مع الإنسانية، وذلك بفعل النظرة القديمة هذه، أي النظرة المادية التي أسست الغرب الحديث، وما زالت تهيمن على مناهج العلم، وتوجهات الفلسفة، ويوميات الحياة الغربية.
هذه النظرة المادية، وثيقة الصلة بالخصائص الأخرى التي رأيناها في الحضارة الغربية، فالعقلانية الديكارتية، وإن لم يكن (ديكارت ) ماديًا بالمعنى الإلحادي، فإن فلسفته العقلانية كانت الأساس لكل التوجهات الفلسفية الحديثة في الحضارة الغربية من خلال تركيزه على المنهج، والفلسفة النقدية، وتأكيده على دور العقل على حساب الجسم، كما يقول (برتراند راسل ): (هناك مسألة رئيسية أخرى كانت تشغل مفكري ما بعد عصر النهضة، هي أهمية المنهج، وهي مسألة لاحظناها من قبل في حالة (بيكن) و(هوبز). ولقد امتزج هذان العاملان عند (رينيه ديكارت) ليؤلفا مذهبًا فلسفيًا جديدًا... ومن هنا كان يعد، عن حق، مؤسس الفلسفة الحديثة )(4).
وكما أشار ابن نبي فإن التحديد الإيجابي الذي قام به (ديكارت ) والمدرسة العقلانية في الثقافة الغربية يكمن في أن (ديكارت ) اهتدى إلى أربع قواعد، هي منهجه في التفكير كما يرى (راسل ); (الأولى هي ألا نقبل أي شيء إلا الأفكار الواضحة والمتميزة. والثانية هي أن نقسم كل مشكلة إلى أي عدد من الأجزاء يلزم لحلها. والثالثة هي أن نسير في تفكيرنا من البسيط إلى المركب... أما القاعدة الرابعة فتدعونا إلى أن نقوم دائمًا بمراجعات دقيقة كيما نتأكد من أننا لم نغفل شيئًا.. هذا هو المنهج الذي استخدمه ديكارت )(5).
وعلى الرغم من أن (ديكارت ) قام بهذا التحديد الإيجابي، الذي أخرج العقل الغربي من أوهام الخرافة والتفسير الخرافي، وهيمنة التفسير الكنسي للعالم والتاريخ والوجود، فإنه اعتمد مبدأ كان مآله العلمانية التي تعيشها الحضارة الغربية، إذ أن (ديكارت )، كما يقول (برنال ): (صاغ بدقة أكثر ممن سبقوه تقسيم الكون كما نراه إلى جزء مادي وآخر معنوي... وبالنسبة لديكارت أصبح هذا التقسيم منطقيًا وجزءًا أساسيًا في الفلسفة ونتيجة بدهية للتقليل من الخبرات الحسية والاتجاه أولاً نحو الميكانيكا ثم إلى الهندسة. ويرى أن الانتشار والحركة هما الحقيقتان الماديتان التي يعتبرهما الخواص الأساسية، أما المظاهر الأخرى كاللون والطعم والرائحة فيعتبرها خواص ثانوية.. وبجانب هذا تمتد منطقة ثالثة ربما لا يصل إليها علم الفيزياء، وهي الانفعالات والعواطف كعاطفة الحب والإرادة والإيمان... وليس للعلم صلة بالمجموعة الثالثة حيث إنها تقع في محيط الرؤىة والإلها م)(6).
وهذا الذي أحدث الصراع بين العلم (بمفهومه الغربي ) والضمير الذي يرتكز على الإيمان ويتعلق بالغيب.. وبما أن الإيمان -وفقًا لهذا المفهوم الغربي- لا صلة له بالعلم ولا يمكن إجراء التجربة عليه، فإنه من قبيل الشؤون الذاتية التي لا يقام عليها البرهان، ولا تتدخل في الحياة العامة ولا في توجيه التاريخ، لبعدها عن العلم، فالعلم وحده المؤهل لقيادة العالم. وهكذا كما يقول (راسل ) أيضًا: (فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الأفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرق إليها شك، وقد كان تأثيره على الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي أم في اتجاهها التجريبي )(7).
وكما أنتجت الحضارة الغربية فصام العلم والضمير، فإنها أنتجت الخواء الروحي بفعل تضافر المادية والعقلانية المبعدة للغيب عن التاريخ، يقول (اشفيتس ر): (والحقيقة الرهيبة -وهي أن تنمية الحضارة الحقيقية قد أصبح أشدًا عسرًا من جراء تقدم التاريخ وتطوير الاقتصاد في العالم -هذه الحقيقة لم تجد من يعلنها )(8).. كما يؤكد أمر المآل الرهيب الذي آلت إليه الحضارة الغربية بفعل تمركز المادة، وما أنتجته من آثار فيقول: (والخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدًا من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها... فإننا نغالي في تقدير إنجازاتها المادية، ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره... إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الروح هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها )(10).
وهذا ما لاحظه ابن نبي عند تسجيله لنتائج الإفراط في الكمية والاعتماد على لغة الأرقام في تقدير السعادة الإنسانية، مما أدى إلى إلغاء كثير من القيم لأنها لا تدخل ربحًا ماديًا، وهذا نتج عنه إتلاف الكرامة الإنسانية والمفهوم التسخيري للكون، أو بتعبير ابن نبي: أن الحضارة الغربية أتلفت قداسة الوجود. وهذه العقلانية ذات الجوهر المادي أنتجت صراع الأخلاق والسياسة، كما تبين ذلك في الإنتاج العلمي الذي خلّفه (ميكيافلي ) الذي يشارك العقلانيين رأيهم في الرفض التام لأي خارق للطبيعة، وينكر معهم تدخل الله (سبحانه وتعالى) في شؤون الحياة اليومية للبشر، من خلال فصله التام بين الأخلاق وممارسة السياسة، ورفضه لوجود قيمة عليا أو مصدر أعلى خارج الإرادة البشرية، ويتدخل في السياسة والحكم(11).(9/328)
وحتى خاصية الفعالية، التي تعتبر من أهم الميزات الإيجابية للحضارة الغربية حسب ابن نبي، فإنها وارتباطًا مع نمط الثقافة الغربية القائم على تصور مادي للحياة، لا تنفك في صلتها مع الخصائص الأخرى من أن تصير كابحًا للتوجهات الروحية، ومجمدًا لنوازع تطلعات الروح، بفعل الإفراط في التنظيم، والخضوع للمؤسسات بشكل يقضي على إنسانية الإنسان، ويجعل منه رقمًا يضاف إلى بقية الأرقام الأخرى من الآلات والوسائل، وهذا الذي نبه إليه (اشفيتسر )(12).
أما حديث ابن نبي عن العالمية الغربية باعتبارها قرينة للعامل الصناعي، فإن ذلك يُفهم منه أن الصناعة والتطور التكنولوجي هي أكبر جوانب التقدم الغربي، والعنصر الأكثر عالمية في الحضارة الغربية، التي في حقيقة أمرها، كما يذكر (هانتجتون )(13)، أنها غير عالمية بالمعنى الذي يحمله مفهوم العالمية بشكل مجرد. ولهذا فإن ابن نبي ينظر إلى هذه العالمية كنتيجة للاطراد التاريخي لحركة الحضارة الإنسانية، التي تقودها الحضارة الغربية منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وهي من جهة أخرى مصبوغة بنظرة الغرب للعالم باعتباره دار نفوذ، ومسرح السيطرة الأوروبية التي غذاها الاستعمار والعنصرية، ونشأت نفسيتها في ظل الاكتشافات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، ووجدت تأسيسًا لها في جهود حركة النهضة الأوروبية، وروادها الأوائل (ميكافلي ) و(ديكارت ) وغيرهما، ثم (هيجل ) والفلاسفة الألمان، ثم ماركس(14)، كلهم كانوا من -جهة أو أخرى- يشرِّعون لسيادة أوروبا على العالم(15)، ومن منطلق التفوق الأوروبي.
فهي عالمية، تهدف إلى تأكيد المركز الأوروبي الغربي للعالم، وطرفية الآخرين، وبخاصة أن أوروبا التي ركبت في ثقافتها مزيجًا من المادية والفعالية -كما يقول ابن نبي- تحسب موقع العالم بما يؤثر به في حركة التاريخ. ولهذا لما كتب (فرانسيس فوكوياما ) كتابه (نهاية التاريخ ) اعتبر دول محور طنجة-جاكرتا عالمًا هامشيًا، وليس له موقع مركزي في مستقبل الإنسانية، وعلل ذلك بأن الذي يحكم تصنيفه هو مقدار تأثير كل أمة في توجيه التاريخ المعاصر(16).
وفي الحقيقة، إن عصرنا هذا يشهد فعل عوامل عديدة ذات إمكانات عظيمة لتحقيق وحدة الإنسانية والحضارة، ومن هذه العوامل، عاملان اثنان:
أولهما: تقدم العلم المتسارع، نظرًا وتطبيقًا، واتساع مدى تطبيقاته في العالم أجمع. هذا العلم قرّب المسافات والأبعاد، وأنشأ روابط مادية وفكرية توصل بين الأمم والشعوب. ومن هذه الجهة يمكن الحديث عن عالمية الحضارة الغربية، في وجهها السطحي التقني، وانتشار منتجاتها وسلعها، ووسائلها وآثارها في أساليب العيش وطرق التنظيم، وأذواق الناس في الملبس والمأكل والمشرب، وطريقة العيش، وهذا هو العامل الموحِّد.
وثانيهما: انتشار الوعي بين الشعوب، وتجاوز وعيها للحدود التقليدية، بفعل العامل الصناعي.. ورغم ما يحمله الضمير الأوروبي من مركزية وتخلف يميل إلى القهر والتحكم والاستغلال(17)، فإن الاطراد التاريخي للنمو التكنولوجي وتوسع طرق توظيف التكنولوجيا، وانتشار مراكزها في العالم، كل هذا سرّع من نضج الإنسانية ووعيها لكثير من سبل التقارب وارتباط المصير طوعًا أو كرهاً.
وخلاصة الكلام فيما يتعلق بجانب الموضوعية، أن ابن نبي كان يحلل ويتتبع هذه الخصائص في اتصالها ببعضها، وفي مآلاتها في الواقع، وفي أثرها في اتجاه الحضارة الغربية، كما أنه يتفق مع أكثر مؤرخي الأفكار ودارسي الحضارة الغربية من الغربيين أنفسهم، وهو في دراسته هذه مرتبط بإطاره التحليلي في معالجة الظاهرة ومدى تأثيرها في شبكة العلاقات الاجتماعية الغربية، التي هي ميدان الكشف عن مدى تأثير فكرة ما في سير المجتمع وتطوره.
================
آفاق الاستفادة نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي
المقصود بهذه الوقفة هو النظر في بعض جوانب فكر ابن نبي (رحمه الله) فيما يتعلق بدراسته للحضارة عمومًا، ودراسته للحضارة الغربية خصوصًا فيما يحتاج إلى تطوير ومزيد من الدراسة، إذ تبين أن ابن نبي في عموم أطروحته الحضارية كان يملك منظورًا ومنهجًا وأدوات متميزة، يمكن أن نطلق عليها المنظور الحضاري.. ورأينا أهم خصائص منهجه من حيث الأصالة والموضوعية والسننية.
غير أن ابن نبي وفيما يتعلق بالحضارة الغربية، كانت له مجموعة من الأفكار تحتاج إلى وضوح وتطوير أكثر، وذلك راجع إما إلى جِدَّة هذه الأفكار، وبالتالي عدم تبين الصلة بينها وبين الإطار العام للمنظور الحضاري الذي وظفه ابن نبي وطوّره، وإما إلى المنهج الذي اعتمد عليه في التوظيف التكاملي لمختلف العلوم، وبالتالي من الصعوبة بمكان تقدير عمق المصطلحات التي استمدها من هذه العلوم وأدخلها في نسقه العام ووظفها في دراسته وفق أدواته في التحليل ومنظوره الحضاري، ووفق منهجه الثقافي.
ولعل من أهم ما خرج به ابن نبي من دراسته للظاهرة الحضارية الغربية هي الدعوة إلى علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، باعتبار أن الظواهر الأوروبية (الغربية ) ظواهر نسبية تحتاج منا إلى دراسة وفحص، ومن هذه الظواهر علم الاجتماع الغربي المرتبط بالحالة الغربية والإطار الجغرافي التاريخي والحضاري الغربي، وبالتالي لا يمكن تطبيقه على الظواهر التي تنشأ في مجال حضاري مختلف، مع مراعاة ما تسير إليه الإنسانية من الاقتراب بفعل العامل التكنولوجي الغربي خصوصًا، ومن التوحد في مصيرها من جراء العالمية المركزية الغربية التي تهيمن على العالم، وتحاول تنميطه وفق الرؤية المادية الغربية. كما أنه قدم مصطلحات تحتاج إلى مناقشة بما تثيره من أسئلة من حيث امتداداتها الدلالية، أو من حيث أصالتها.
نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي:
كما سبق القول، فإن ابن نبي (رحمه الله) في نقده لجهود التجديد في العالم الإسلامي، يرى أن المعالجة أو النظرة الحدية التي يتميز بها الفكر الإسلامي إذا تعلق الأمر بأوروبا والغرب، ترجع إلى عدم الإحاطة بالظاهرة الأوروبية ومدى نسبيتها(1)، ومن هنا فهو يدعو إلى دراسة الحالة الأوروبية في جذورها التاريخية وتطورها، ولهذا نجد الوعي التاريخي حاضرًا عنده(2)، ويركز عليه كثيرًا لتتبع تطور الحضارة الغربية ونشأة العلوم فيها وارتباطها بالمستوى الحضارى الذي تعيشه الحضارة الغربية نفسها، كما ترتبط إلى حدٍ ما بالرؤىة الغربية ذات المرتكز المادي، والطامحة للهيمنة على العالم.
ومن بين الأمور النسبية في الغرب نشأة العلوم، فهذه العلوم التي تطورت في الإطار الحضاري الغربي، وارتبطت بالتحديدات العقلانية التي صاغها (ديكارت )، كما ارتبطت بتجريبيته وتجريبية (بيكون ) ووضعية (أوجست كونت )، ونمت في إطار التطور التاريخي للغرب، وتركزت أساسًا في علاج مشكلاته، هذه العلوم لا شك أنها تحمل نوعًا من التحيز سواء في نظرياتها أو في أبعادها الفلسفية، أو في تطبيقاتها العملية واستخلاصاتها التي توصلت إليها وصارت في شكل قوانين علمية يحاول الغرب تعميمها وجعلها نماذج موحدة للدراسة والتحليل.(9/329)
وإذا كانت العلوم الطبيعية أقل تحيزًا، وإن لم تخل من هذا التحيز ( 3 ) ، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية تبدو أكثر تأثرًا بالخلفيات الفلسفية والنظرية لمؤسسيها(4)، وتتجلى فيها الخصوصية بشكل واضح، ذلك أنها تدرس الإنسان كفرد أو في جماعة، ومعلوم أن دراسة الإنسان والعلاقات الإنسانية لا تخلو من تدخل التصورات التي يحملها الإنسان عن الكون وعن الحياة، وعن الإنسان ذاته ورسالته في هذا الوجود، وصلته بخالقه، وارتباطه بمثله الأعلى ومآله الأخروي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العلوم الاجتماعية تجيب في حقيقتها عن أسئلة الإنسان، وتحاول تفسير وتحليل أسباب مشكلاته، وتعمل على تطوير أدائه ارتباطًا مع شبكة العلاقات الاجتماعية التي يتصل بها هذا الإنسان.. كما أن هذه العلوم التي تطورت في الغرب، تدرس علائق الإنسان الغربي ارتباطًا بالمرحلة الحضارية التي يعيشها الإنسان الغربي، وعلى الرغم من أن هذا لا ينفي وجود الجانب المشترك من المعرفة الإنسانية التي اشتركت فيها أجيال الإنسانية وتطورت بمشاركة كل الأمم، فإن الأمر كما يطرحه ابن نبي يأتي من جانبين:
الأول: الجانب العلمي; من حيث إن الرؤية الغربية المرتكزة أساسًا على المادة تستبعد الجانب الغيبي من الاعتبار العلمي، كما أنها برؤيتها العالمية المركزية ترى نفسها وعلومها نموذجًا عالميًا وحيدًا(5)، وعن طريق فعاليتها الحضارية ذات المرتكز المادي فإنها تدرس الظواهر وتقدم الحقائق ارتباطًا بمنطق الفعالية الذي يعني في العرف الغربي الحسم بأية وسيلة، وهي تستبعد الجانب الأخلاقي من خلال تقديمها لذوق الجمال على حساب الجانب القيمي الروحي.
والثاني: الجانب العملي; من جهة اتصاله بجهود النهضة في العالم الإسلامي والتي تحتاج إلى علوم خاصة بدراسة الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامية وفق المرحلة التي تعيش فيها الأمة حضاريًا، وتعمل على تحليل أسباب التخلف الكامنة في الذات الإسلامية طيلة قرون، والعمل على تفكيك خيوط شبكة (الأفكار الميتة والمميتة )(6)المتصلة بالحقيقة الموضوعية الموجودة في العالم الإسلامي.
ولهذا فإنه اقترح تأسيس علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي، يدرس مشكلاته المتصلة بمرحلة الاستقلال السياسي، وهي المرحلة التي أعقبت الاستعمار المباشر، يقول ابن نبي: (ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال )(7). ومع أن ابن نبي لم يكن صاحب اختصاص في علم الاجتماع، من الناحية الأكاديمية العلمية، فإن اتصاله بعلم الاجتماع يبدو في نظر خبراء الاجتماع يتجاوز الاطلاع العام إلى امتلاك رؤية تحليلية اجتماعية(8). وكما سبق أن ذكرنا، فإن هذه الدعوة لا تنطلق من دافع التميز الحضاري فقط، وإنما من الناحية الموضوعية أيضًا، باعتبار أن المجتمع الإسلامي يختلف في نشأته وتطوره عن المجتمع الغربي، وإن هذا العلم الاجتماعي تطور بشكل كبير في أحضان أرضية المجتمع الغربي، ثم إن علم الاجتماع الحديث من حيث نظرياته ومفاهيمه ومناهجه ومقولاته نشأ في واقع اجتماعي يختلف في طبيعته وتكوينه وتطوره اختلافًا جذريًا عن الواقع الإسلامي.
وتطبيقًا لهذه الدعوة، فإن ابن نبي (رحمه الله) قدم نموذجًا للدراسة الاجتماعية من منظور علم اجتماع إسلامي، يعتمد على الوحي في منطلقاته، وتتمثل هذه المحاولة في دراسته التي صدرت في كتاب (ميلاد مجتمع -شبكة العلاقات الاجتماعية )، الذي درس فيه تعريف المجتمع من وجهة سوسيولوجية إسلامية، وقدم فيه نظريته الاجتماعية، مرتكزًا على الأبعاد النفسية والتاريخية، منتقدًا منهج علم الاجتماع الحديث في بعض تحديداته.
وإذا كانت قضية -أسلمة العلوم الاجتماعية- من القضايا التي اهتم بها المعنيون في حقل المعرفة الإسلامية في حقبة الثمانينيات، فلا بد أن نسجل هنا أن ابن نبي كان رائدًا في إثارة هذه القضية، بل في الإسهام في التنظير لها، ومعالجتها)(9). وهي خطوة تعتبر رائدة من حيث تقديم بديل نظري وتطبيقي لعلم الاجتماع الحديث باتجاهاته الماركسية أو الليبيرالية. وهذه الخطوة جاءت بعدها كثير من الدراسات الطموحة إلى تأسيس علم اجتماع إسلامي، متميز في موضوعه بدراسته لمشكلات العالم الإسلامي، ومتميز في منهجه من خلال تحريره من الإحالات الفلسفية المادية المتمركزة على الذات الغربية(10).
كما أن ابن نبي قدم محاولة أولية في تحديد موضوع علم الاجتماع الخاص بالعالم الإسلامي، وهي دراسة المشكلات المتصلة بالمرحلة الحضارية التي يعيشها العالم الإسلامي بعد الاستقلال.. كما أنه قدم محاولة أخرى تتعلق بتحديد منهج هذا العلم، وذلك بقوله: (ينبغي أن يكون هذا المنهج شاملاً، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أوتاريخها من ناحية أخرى )(11). هذا الاقتراح أو المحاولة التي تقدم بها ابن نبي، تعد أولية تحتاج إلى جهود تنضجها، وتحولها إلى خط علمي واضح المعالم، وهو ما تقوم به اتجاهات الأسلمة منذ السبعينيات، حيث حولت هذه الدعوة التي تقدم بها ابن نبي إلى همٍ فكري ومعرفي يقوم على تحقيقه الكثير من الباحثين والعلماء المسلمين، وبعض المنظمات العلمية الإسلامية.
شبكة المفاهيم الجديدة:
يرى الأستاذ محمد المبارك رحمه الله، أن ابن نبي لم يكن باحثًا أكاديميًا نظريًا، منكبًا على أوراق بحثه في مكتب منعزل عن الحقيقة التي فيها أمته، بل إنه شعر في عمق ذاته بالمأزق الذي تعيشه، فراح يبحث لها عن حل عملي يخرجها مما هي فيه(12). ولهذا لا يمكن عده من الناحية الأكاديمية متخصصًا في واحدة من العلوم الاجتماعية بقدر ما هو باحث عن حلول لأمته، جعلته يوظف كل العلوم المتاحة لديه ويأخذ منها بعض مصطلحاتها وأدواتها، ولكنه يطوعها لمنظوره وإطاره التحليلي، ويوظفها داخل نسقه الخاص بعد تخليصها من صلتها بالعلم الذي أخذت منه، وهذا ما يمكن أن نسميه التوظيف التكاملي للعلوم من أجل خدمة هدف محدد.
غير أن السؤال الذي يبقى مطروحًا أمام الباحثين في فكر ابن نبي هو مدى قدرة هذه المصطلحات على أن تصير مصطلحات مفتوحة أمام الباحثين وسهلة التعامل، ومقبولة من قبل العرف العلمي المشترك ؟ كما أن هناك من المصطلحات -كمصطلح القداسة مثلاً- التي قد تثير بعض الجدل في مدى أصالتها واتصالها بحقل المعرفة الإسلامية، وذلك على الرغم من حرص ابن نبي على انتقاء مصطلحاته.. وفي هذا تقول الباحثة (فوزية بريون ): (وبالرغم من بعض المصطلحات اللغوية والفنية التي حجزت كتبه عن الوصول إلى القارئ العادي، فإن أفكار ابن نبي وتأملاته مثيرة للنفوس، كما أن مؤهلاته العلمية واضحة في الميدان الفكري، وهو معروف جيدًا بعنايته الفائقة في تحديد مصطلحاته، وترتيب مقدماته، والوصول إلى نتيجته) (13).(9/330)
لكن يمكن القول: إن ابن نبي من الوعي بحيث في كل مرة يستعمل مصطلحًا ذا دلالات سلبية يحاول إرفاقه بتفسير خاص من عنده، مثلما أورد قصة بلال رضي الله عنه وصبره أمام التعذيب، إذ يتحرر الفرد جزئيًا من قانون الطبيعة المفطور في جسده، ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه، (بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قولته (أحدٌ.. أَحَد..)، إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب )(14).
وإذا كان هذا مقبولاً في حالة ابن نبي، الذي كان في مرحلة تاريخية كانت السيادة فيها للمفاهيم الغربية في العلم والمعرفة، فإن دور الباحثين المسلمين اليوم هو التخلص من هذه الهيمنة في المصطلحات والمفاهيم الغربية ذات المحتوى السلبي، والانتقال إلى مرحلة صياغة المصطلح الإسلامي الذي يحمل دلالات تنسجم وحقل المعرفة الإسلامية وارتباطه بالعقيدة والتصور الإسلاميين.
ولعل من الأمور التي تحتاج إلى تطوير وإنضاج أيضًا فيما ترك لنا ابن نبي من تراث، وخاصة فيما يتعلق بالحضارة الغربية ودراستها، ما ذكره ابن نبي فيما يتعلق بالاستشراق، إذ يرى أن الاستشراق حقل معرفي غربي أنشأه الغرب لفهم الشرق عمومًا والعالم الإسلامي بشكل خاص، ولا يمكن دراسته بمعزل عن التطور التاريخي الغربي في صلته بالعالم الإسلامي، كما أن الاستشراق له ارتباط بكثير من حقول المعرفة التي أنشأها الغرب خصوصًا، لتوجيه الشعوب إلى خدمة أهداف العالم الغربي والحضارة الغربية، وتحقيق بسط الهيمنة والنفوذ على العالم والوصول إلى عالمية الحضارة الغربية وجعلها النموذج المقتدى من قبل الجميع(15).
ولما تحدث ابن نبي عن الموقف الحدِّي للمسلمين من الحضارة الغربية، انتقد كلا الموقفين; الموقف الذي يرى في الغرب النموذج والمثال المقتدى، والموقف الذي يرى في الغرب أنه مصدر كل شر، ورأى -بدل الموقفين السابقين- أن الأمر يتعلق بتنظيم العلاقة مع هذا الغرب، وذلك بجعل العلاقة بيننا وبينه قائمة على العلم، أي بمعرفة أن الظاهرة الغربية في عمومها، والظواهر الغربية الجزئية مسألة نسبية قابلة للدراسة، عند ذلك يمكن فهم الغرب والتعامل معه بإيجابية. ومن هذه الجهة يدعو إلى ما يمكن أن يطلق عليه علم الاستغراب(16)، لفهم الغرب ومعرفة تاريخ تطوره، وكيفية سير أنظمته الفكرية والحضارية. وهي دعوة نادى بها ابن نبي في ظرف كان التعامل مع الاستشراق تعاملاً تجزيئيًا وتناولاً في إطار الجزئيات دون وجود رؤية كلية تجعل الاستشراق في سياقه العلمي والتاريخي والحضاري، كأحد الأدوات المعرفية الغربية التي تربط بالحضارة الغربية في تعاملها مع الآخر الشرقي، أي الإسلامي بالأخص.
وفي الختام نلاحظ أن هناك الكثير من الأفكار الجنينية التي كانت حاضرة في فكر ابن نبي الحضاري عمومًا، وفيما يتصل بدراسة الظاهرة الحضارية الغربية خاصة، تحتاج إلى أن ترتبط بها جهود أخرى لتدفع بها إلى النضج على المستوى العلمي والعملي، لتكون جهود ابن نبي مهمة من حلقات التجديد الفكري والحضاري، تمثل في جانب منها مرحلة نضج في التفكير والطرح على مستوى الرؤية والمنهج، وتمثل في الجانب الأاخر مقدمات أولية تحتاج إلى من يدفع بها إلى أن تتعمق وتتأسس.
=============
خاتمة ونتائج
وبعد; فهذه جولة في فكر مالك ابن نبي (رحمه الله)، تتبعنا خلالها أحد نماذج الوعي بالظاهرة الحضارية الغربية في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث عرفنا المنظور الفكري لابن نبي، وموقع الحضارة الغربية في فكره، ثم كيفية تحليله ودراسته لهذه الظاهرة، وما قام به من تقديم لبعض المفاتيح التي تفتح أمامنا الطريق لدراسة الظاهرة في عمقها، والتجاوز بعلاقتنا معها حدود المشاهدة والتقليد إلى آفاق التدبر والفحص والاستفادة، والنقد والتجاوز أيضًا، فكان من أهم هذه المفاتيح، والتي هي أهم خصائص الروح الحضارية الغربية المعاصرة: العالمية المركزية والمادية وكذلك الفعالية والنزوع الجمالي، مستعملاً في ذلك منهجًا يستند على المنظور الحضاري القائم -في نظري- على السننية والأصالة والموضوعية، فقدم بذلك رؤى وتحليلات لا بد من الإفادة منها، والعبور بها إلى فهم أعمق يناسب المرحلة الحضارية التي نحن فيها، وقد تكون مما لم يدركه ابن نبي ولم يتح له إدراكه، فنفيد من تجربته ونبني على ما كان منها علميًا، ونطرح ما كان متعلقًا بظروفه التاريخية والاجتماعية.. ولعل هذا يكون بالإفادة من المنهج والمفاهيم والرؤية أكثر من الإفادة بالتطبيقات والجزئيات التي سرعان ما تتغير وتتبدل.
ولعل من أهم ما يمكن تسجيله من خلال هذه الدراسة من نتائج ما يلي:
أولاً: يتخذ ابن نبي من الحضارة الوحدة الأساسية لدراسة الحركة التاريخية للمجتمعات، فالحضارة بالنسبة له تعتبر الوحدة الأهم في التحليل، والتي تمكننا من الإحاطة بأكبر قدر ممكن من المتغيرات العمرانية (السوسيولوجية ) والتاريخية التي يجتازها مجتمع معين في إطار حركته التاريخية.. وبالتالي وحتى نتمكن من فهم السنن التاريخية التي تحكم سير الحركة الاجتماعية، علينا أن نرتفع إلى أفق الأحداث الإنسانية، وإلى توسيع دائرة الاهتمام والدراسة، إلى الحد الذي يمكننا من الإحاطة بالقوانين التي تحكم نهوض وسقوط الحضارات، أي القوانين التي تتحكم في انتقال الحضارة، باعتبار أن مشكلة كل أمة في جوهرها هي مشكلة حضارتها، وكيفية قيامها وتطورها، أو سقوطها.
ثانيًا: يمكن النظر إلى الغرب من زاويتين: من الوجهة الجغرافية السياسية، حيث إن الغرب له إطار محدد هو أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو من هذه الزاوية كيان متميز يختلف عن بقية الكيانات الجغرافية والسياسية الأخرى في إفريقيا وآسيا. أما من الوجهة المفهومية، فإن الغرب إطار حضاري، وبعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول يتمثل في النموذج الغربي في الحياة، والثاني هو الرموز الثقافية الغربية التي نشأت في إطار الوعي الغربي والتطور التاريخي للغرب، والبعد الثالث هو مظاهر الوجود الغربي، من انتشار لسلعه وأنماطه الحياتية ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم. فمن هذه الوجهة المفهومية، فإن الغرب مفهوم يتجاوز حدود إطاره التاريخي والجغرافي.
ثالثًا: يرى ابن نبي أن دراسة التجارب الحضارية أمر مهم، في سبيل البحث عن حل للأزمة الحضارية للعالم الإسلامي، وأن أهم الدوافع إلى ذلك هو أننا بدراستنا لهذه التجارب الحضارية نتمكن من اكتشاف السر الذي يحكم الظواهر، والتمكن من معرفة القانون أو السنة الإلهية التي تنتظمها، وبالتالي، نتمكن من تحديد نقطة البداية للتعامل مع الظاهرة باعتبارها قابلة للدراسة والتطويع والتحكم من خلال معرفة قوانينها.. وكذلك فإن دراسة التجارب الحضارية الأخرى تساهم في تحديد موقعنا في التاريخ، ومن تطور الحضارة، ومن سلم التقدم. إذ لا يمكن من الناحية الواقعية العيش في عزلة عن حركة الحضارة في العالم، بعد الأحداث التي شهدها القرن العشرين -والثلث الأخير منه بالذات- حيث دخل العالم مرحلة تغيرات كبرى على صعيد التكنولوجيا والتطور الصناعي، والمعلوماتية، وطرق الاتصال الحديثة، والتي من شأنها تقريب المسافات بين الاهتمامات الحضارية للأمم في العالم.(9/331)
رابعًا: تعتبر الصلة بيننا نحن المسلمين وبين الغرب من أهم المسائل التي واجهت جهود التجديد في العالم الإسلامي منذ وقت مبكر، والتي يقع الفكر الإسلامي بسببها في اضطراب عندما يتعلق الأمر بها، ومن المهم تحديد طبيعة العلاقة مع الكيان الحضاري الغربي، للتمكن من صياغة حلول للمشكلة الإسلامية من منطلق الوعي بالمتغيرات التي تشهدها البشرية، ومن منظور يتجاوز التناول الاجتزائي لمسألة التجديد، من خلال المنظور الحضاري الذي يقترحه ابن نبي لحل المشكلات الحضارية للعالم الإسلامي.
خامسًا: هناك مستويان للعالمية في منظور ابن نبي، أحدهما العالمية من حيث تعلقها بالمستوى القيمي; وتتمثل في القيم المفتوحة والمستوعبة للتطلعات الإنسانية، والمتجاوزة للأطر العرقية والأيديولوجية واللغوية، وكل المحليات أو النماذج الجزئية.. وهذه نجدها تتحقق في القيم التي جاء بها القرآن، وأعلنت عنها الرسالة الخاتمة مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم، وهي ما يمكن تسميتها UNIVERSALITY باللغة الإنجليزية. حيث إن القيم القرآنية قيم موضوعية ومفتوحة وقادرة على استيعاب كل تطلعات الإنسان، والاستجابة لكل آفاقه والإحاطة بها، دون اختصاص بعرق معين أو لغة معينة أو جهة معينة.
أما المستوى الآخر فهو العالمية من حيث تعلقها بهيمنة النموذج الغربي خلال القرنين الأخيرين -والقرن العشرين بالأخص- وذلك من خلال انتشار أنماط الحياة الغربية، والصناعات، وأساليب الاتصال والإنتاج الغربية في العالم، وهي عملية تقوم بها الحضارة الغربية من خلال التشريع للقيم والنماذج والمنتجات الغربية لجعلها محط أنظار العالم، وكذا من خلال التنكر لتاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، والضغط الغربي على هذه الحضارات لتتبنى نتائج الرؤية الغربية المتمركزة حول ذاتها، ذات المرتكز والأصالة المادية، لتجعل منه النمط الأوحد الغالب والسائد في العالم، وهي عملية قصدية كان أهم أدواتها الاستعمار والعنصرية وفلسفة النهضة، والرؤية المتحيزة ضد غير الغربي. وهي ما يمكن تسميتها اليوم العالمية المركزية أو العولمة GLOBALIZATION
سادسًا: من أهم نتائج العالمية الغربية المتمركزة أنها كانت لها -ربما دون قصد من الغرب- نتائج إيجابية لصالح البشرية، إذ أنها ارتفعت بالبشرية مع العامل الصناعي التقني إلى مستوى عالمي، فكان أن اتسعت دائرة الوعي لتشمل العالم ككل، ووحّدت الحضارة الغربية مع مصائر الشعوب من خلال إشعاعها العالمي، وبالتالي إشعاع فوضاها وأمراضها على العالم ككل، من مثل الاستعمار الذي وحّد بين الشعوب الإفريقية الآسيوية بسبب وحدة المشكلة الغربية التي تواجهها هذه الشعوب.. فهذا الإشعاع ولو كان سلبياً في عمقه، فإنه اصطحب معه دون قصد نتائج على البشرية التي عانت من سطوة الغرب وحضارته، فكان أن توحدت البشرية (الشعوب الإفريقية الآسيوية بخاصة ) أمام التحدي المشترك. وبسبب التفوق التقني للحضارة الغربية فإنها أعطت للتاريخ الإنساني دفعًا، جعل البشرية تتجاوز الوحدات التاريخية المنعزلة، إلى التفكير في بناء التاريخ الإنساني المشترك الذي تساهم فيه الشعوب كلها.
سابعًا: تمثل المادية محورًا مهمًا للحضارة الغربية، وخاصية أصيلة ومركزية لا يمكن تجاهلها لدارس الحضارة الغربية، فهي تنظم الميدان العلمي، وتشكل الرؤية التصورية للحياة والعالم والتاريخ، أي أنها مذهب فلسفي يقدم تفسيرًا للكون والتكوين، كما أنها تصبغ الحياة الاجتماعية، والتعبير السياسي، وتتحكم في العلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى.. هذه الخاصية تشكلت بفعل عوامل متعددة أهمها: المسيحية البروتستانتية، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية، والعقلانية.
وكان من أهم نتائج هذه الخاصية على الحضارة أنها فصلت بين الضمير والعلم، وتجاهلت البعد الإنساني للإنسان، فصار التعامل معه مثل التعامل مع سلعة، بعيدًا عن التكريم الذي ينبغي أن يحظى به مُسْتَخْلَفًا في هذا الكون.
وبالتالي حدث استبعاد للقيم الأخلاقية، لأنها لا يمكن قياسها بالكم والرقم، ولا تدخل نفعًا ولا ربحًا، لذا لا مانع من بيع أي شيء حتى الإنسان نفسه أو أعضاءه أو عرضه من أجل تحقيق ربح أكثر. كما أن التقدم الاجتماعي صار -بفعل النظرة المادية- يقاس بالكم، وبمقدار ما يملك الفرد أو المجتمع من أشياء، وتحسب السعادة الاجتماعية بالدخل الفردي والدخل الوطني، ولا تدخل في ذلك معايير أخرى غير خاضعة للكم والرقم. ولهذا فإن الخصائص الأخرى ترجع في أساسها إلى أصالة المادة منطلقًا وتصورًا، كما تدور على محور المادة سواء على المستوى المعرفي أو المنهجي. فكل حديث عن العالمية أو الجمالية أو الفعالية أو غيرها، فإنه ينبغي فيه مراعاة المحور المركزي لهذه الخصائص، أو ما يمكن تسميته بالخاصية الأم، وهي المادية.
ثامنًا: الخصائص الحضارية الغربية خصائص مترابطة ومتشابكة ونمت في إطار زمني وتاريخي غربي، ولها من الخصوصيات ما يجعل منها قاصرة عن أن تكون مفتوحة ومقبولة من غير الغربيين، كما أنها مرتبطة بالرؤية الغربية للكون والتكوين والحياة، وناتجة عن دستور الغرب الثقافي الذي تتكامل فيه كل أبعاد الثقافة الغربية.. هذه الثقافة التي تشكلت عبر التطور الحضاري الغربي، كان من أهم مكوناتها: الجذور الإغريقية اللاتينية، والمسيحية الغربية بتمظهراتها المختلفة، وكذا تقاليد الشعوب الأوروبية خاصة منذ عصر النهضة، ثم تطلعات وروح القرن التاسع عشر (قرن الروح الاستعمارية ) وروح القرن العشرين (قرن الثورة التقنية وانتشار التصنيع والتكنولوجيا ).
فالفعالية الغربية مثلاً، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المرحلة الحضارية التي يعيشها الغرب، ولا يمكن فصلها عن إطارها الديناميكي، فهي خاصية ناتجة عن نمط الثقافة الغربية التي ترتكز على القوة ومنطق الحسم، كما أنها نتاج معادلة اجتماعية تجعل من حركة الإنسان في التاريخ ومدى تحقيقه لأكثر النتائج على المستوى المادي هي المقياس الحقيقي للفعالية. وهي رغم ارتباطها بالمادية الغربية كتصور، فإنها من أهم إضافات الحضارة الغربية إلى العالم، فقد جعلت منها خاصية مهمة، وصبغت بها كل أعمالها وإنجازاتها، ارتباطًا مع جهاز مفاهيمها وإطارها الثقافي.
تاسعًا: النزوع الجمالي قيمة حضارية مهمة تساهم في ضبط الأذواق، والرفع من فعالية الفرد والمجتمع، وهي إلى جانب القيمة الأخلاقية، تمثلان أهم ما يحدد اتجاه الحضارة في التاريخ، فإذا كانت القيمة الأخلاقية في الصدارة فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الأخلاقية، وإذا كانت الصدارة للقيمة الجمالية فإن الحضارة تتحكم فيها القيم الجمالية، ولكل اتجاه من هذين نتائجه الخطيرة إما سلبًا أو إيجابًا.. والتطرف في إحدى القيمتين يؤدي إما إلى الاتكالية والغنوصية والتصوف السلبي، في حالة طغيان القيم الأخلاقية، وإما يؤدي إلى الإباحية والعري والتفسخ الأخلاقي إذا طغت القيمة الجمالية، ويمكن ملاحظة هذين المشهدين في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وذلك عندما يختل التوازن بين القيمتين.
وفي كلتا الحالتين يحتاج الأمر إلى إعادة التوازن لدستور الثقافة، فهو الإطار الذي تتشكل فيه هذه القيم، وهو الذي يحفظ توازنها، ويوجهها لتصنع التاريخ.(9/332)
عاشرًا: من أهم الإضافات التي قدمها ابن نبي فيما يخص دراسة الحضارة، أنه جعل من الحضارة الوحدة التحليلية والتفسيرية الأساس، متجاوزًا بذلك الوحدات التحليلية الجزئية في إطار مجتمعي أو جهوي معين، ذلك أن الحضارة تمثل الكيان الأوسع، الذي يمكن من خلال دراسته أن نتمكن من الإمساك بجوهر المشكلات التي تتمظهر على المستوى المذهبي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وإرجاعها إلى الوحدة التي تجمعها في إطار كلي دون الإخلال بالجوانب الجزئية للمشكلة.
ولهذا فالمنظور الحضاري إطار كلي وتفسيري، يبحث في القانون العام الذي يحكم الظاهرة، دون الإخلال بالقضايا الجزئية، بل يجعلها تحت المنظور الكلي الذي تدرس وتحل في إطاره.. هذا المنظور يقوم عند ابن نبي على خمسة أبعاد هي: مرجعية الوحي، والسننية، والفعالية، والجمال، والعلم.
وبعبارة أخرى، فإن المنظور الحضاري يقوم على أساس الرؤية الإسلامية للكون والتكوين، والحقيقة الموضوعية التي بث الله سننها في الآفاق والأنفس والتاريخ، والفعالية الاجتماعية التي تحقق الأفكار في واقع التاريخ، والعلم باعتباره تراكمًا للخبرة البشرية وتفاعلاً مع الوحي، ثم الذوق الجمالي الذي هو الإطار الذي يحدد وجه الحضارة، وعنوان اتساقها مع سنة الإحسان.
الحادي عشر: ومن أهم ما يمكن الحديث عنه في دراسة ابن نبي للظاهرة الحضارية الغربية، أن ابن نبي في دراسته لهذه الحضارة كان من جهة يدرس المشكلة الحضارية الإسلامية بشكل أساس، ولكن في مستوى أوسع جعل الحضارة وحدته الدراسية، وبالتالي فإنه درس التجربة الحضارية في هذا الإطار. كما أنه من جهة أخرى كان يدرس الدور الذي يقوم به الدين في تحريك الطاقات الاجتماعية والدفع الإنساني إلى القيام بأعمال تاريخية، وكان في كل ذلك -وخاصة فيما يتعلق بالإسلام- يبحث في كيفية استرجاع حيوية الوظيفة الاجتماعية للإسلام، أكثر من البحث في أصالته باعتبار أن الأصالة مسألة مفروغ منها، وأن المسلم، حتى (مسلم ما بعد الموحدين )، لم يفقد إيمانه بالله يومًا ما.
وانطلاقًا من اعتباره أن العلاقة الاجتماعية هي ظل العلاقة بالغيب في الواقع، فإن ابن نبي ركّز في دراسته لدور الدين على التنبيه إلى أن مهمة الدين ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة، مثلما كان الأمر بين المهاجرين والأنصار الذين التحموا بسبب الفكرة الدينية (المؤاخاة ).
الثاني عشر: يتضح أن ابن نبي كان صاحب منهج، وله أدواته التحليلية الخاصة به، كما أن له مصطلحاته الخاصة التي أبدعها. وعلى الرغم من أنه وظف كثيرًا من المصطلحات التي نمت في حقل علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع الديني، فإنه حاول تخليص هذه المصطلحات من خلفياتها الفلسفية، وفك الارتباط بينها وبين مجالها الدلالي الغربي، وإعطاءها مجالاً دلاليًا يرتبط بمنظوره الحضاري ومرجعيته الإسلامية.
ونظرًا لحداثة التجربة التي كان ابن بني يخوضها منذ الثلاثينيات من هذا القرن، فإن التراث العلمي الذي تركه كان فيه بعض القصور الذي يحتاج إلى نقد وتطوير فيما يخص توظيف المصطلحات الغربية ذات الظلال التي قد تتعارض مع المرجعية الإسلامية والتصور التوحيدي، إلا أن أهم ما قدمه ابن نبي في إطار دراسة الحضارة هو المنهج الذي درس من خلاله الحضارة.
وكما مر معنا، فإن ابن نبي كان يركز على الحقيقة الموضوعية للظاهرة الحضارية وبقية الظواهر الاجتماعية، والتأكيد على خضوعها لسنن إلهية قابلة للاكتشاف والفهم، وبالتالي لأن يطوعها الإنسان لصالحه. كما كان في كثير من أطروحاته ذا أصالة; سواء من حيث العمق الخلدوني لأفكاره وإطاره العام، أو من حيث تطويره لبعض الأدوات التحليلية والمفاهيم والمصطلحات الخاصة بدراسة الحضارة، أو من حيث وعيه بموقع الإسلام من العملية التغييرية، وأهمية الاستفادة من التجربة الحضارية الغربية باعتبارها تجربة شهدت أكبر الإنجازات وأكبر الإخفاقات.
وما يمكن أن يختم به الموضوع، أن ابن نبي كان يوظف المنهج التكاملي بين العقل والجسم، بين معطيات الوحي وبين العلوم المعاصرة، بين التراث الخلدوني والخبرة الإنسانية المعاصرة، وبين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.. ويبدو أن هذا أعطاه قدرة فكرية كبيرة على تركيب منظومة فكرية مفتوحة، كما أعطاه قدرة على التحليل والبناء المنهجي.
وفي الأخير نتساءل كما تساءل آخرون -بعد الجهد الذي قدمه ابن نبي في التنبيه على أهمية الأفكار ودورها في تقدم الفعل الحضاري- إلى أي مدى نعترف بدور الأفكار في صناعة التاريخ ؟ وهل غرست فينا رسالة ابن نبي الإحساس بالسننية والأصالة والموضوعية لنرتقي إلى أفق الأحداث الكبرى، وإلى مستوى السنن التي تحكم حركة التاريخ ؟ وإلى أي مدى استفدنا من دراسة ابن نبي للحضارة الغربية ؟
ولله الحمد من قبل ومن بعد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم; وأمرنا لنسلم لرب العالمين.
==============
الفهرس العام
الباب الثامن ... 1
دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية ... 1
المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري ... 1
تحديد المصطلح ... 5
المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر ... 8
المذهبية الإسلامية ونمطها الخاص ... 18
مذهبية شاملة ... 26
المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير ... 30
المذهبية الإسلامية والنظرة الشمولية للإنسان ... 34
المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان ... 37
المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان ... 41
المذهبية الإسلامية والمجال الغيبي ... 44
المذهبية الإسلامية وقضية المستضعفين ... 48
المذهبية والمصطلح الحضاري ... 53
المذهبية الإسلامية والقومية ... 60
المذهبية الإسلامية وأزمة المثقفين ... 68
الحرمان والتخلف في ديار المسلمين ... 74
الصبح .. موعدنا ... 81
الفقر ... 82
الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين ... 106
الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم ... 121
بعض الأمراض الخطيرة في ديار المسلمين ... 130
الأولويات في العمل الصحي ... 140
الخاتمة ... 150
محنة المسلم مع حضارة عصره ... 152
المقدمة ... 164
هندسة الضغط الحضاري المعاصر ... 168
محنة المسلم مع حضارة عصره ... 183
هل إلى خروج من سبيل؟ ... 193
استنبات التقنية وتنميتها ... 208
منهج الخروج من المحنة ... 232
أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق ... 249
المقدمة ... 265
مدخل ( الفكرة . العمل . السُّنة ) ... 269
( سنة الله في الخلق ) دواعي اهتمامنا بسنة الله في الخلق ... 274
سنة الله في الخلق ) تعريف وخصائص ... 285
كشف سنن الله في الخلق ... 308
خوارق سنة الله في الخلق ... 319
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 1- - الحرية ... 325
2 - - العلم ... 330
3- - علم الغيب ... 336
4 - - الخير والشر ... 341
5 - - الدعاء ... 344
6 -- الابتلاء والمحنة ... 346
7- - العبادة ... 349
8- - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ... 351
9- - التغيير الاجتماعي ... 359
واقعنا المعاصر .. معالم في طريق الحل ... 372
معالم في طريق الحل ... 378
الإسلام و صراع الحضارات ... 379
المقدمة ... 405
أين موقعنا من صراع الحضارات؟ ... 411
التاريخ الأكبر والتاريخ الأصغر ... 419
الفتنة ونشأة الفكر السياسي الإسلامي ... 428(9/333)
هل أعدت حضارتنا ما استطاعت من قوة؟ ... 435
الاقتصاد الإسلامي يؤسس على الفضائل ... 444
الاستخلاف والأمانة ... 457
قل اللهم مالك الملك ... 463
من الخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية ... 470
الخلاصة ... 475
المنهج النبوي و التغيير الحضاري ... 479
تمهيد ... 504
الإطار العام لدراسة المنهج النبوي أهمية النظر الكلي في قضايا السنة ... 507
معالم منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين ... 510
أولاً : البعد المقاصدي للمنهج النبوي ... 511
ثانياً : البعد البلاغي للمنهج النبوي ... 515
دروس من الفقه النبوي ... 524
المنهج النبوي والتغيير في العصر العالمي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري: ... 525
من سنن البناء الحضاري ... 528
خصائص الواقع العالمي الراهن ... 529
المنهج النبوي وقدرته على البناء ... 539
من أجل قراءة أخرى للسنة ... 541
المنهج النبوي يحدد المأزق العالمي الراهن ... 543
منطقية السنة النبوية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية ... 548
السنة النبوية مصدر للثقافة الإسلامية ... 552
المنهج النبوي ومفهوم التغيير الحضاري ... 554
التغيير الحضاري في ضوء وعي المنهج النبوي ... 556
المنهج النبوي كمركب حضاري مشكلة توجيه العملية التغييرية: ... 557
المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية ... 561
المنهج النبوي والنظرة الكلية للمشكلة ... 563
المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية ... 568
المحاور الثلاثة للمنهج النبوي ... 569
المنهج النبوي وبناء إنسان الاستخلاف ... 588
خاتمة ... 595
المستقبل للإسلام ... 596
المقدمة ... 616
بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التحديات الحضارية المعاصرة ... 621
دور الذكر والجهاد في صناعة المستقبل ... 636
القنوت.. دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة ... 657
تطبيق الشريعة وأثره في إصلاح المجتمع ... 678
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات ... 696
الخاتمة ... 709
المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب ... 710
المقدمة ... 727
الفصل الأول : الوعي التاريخي عند العرب أ - مرحلة ما قبل الإسلام ... 731
ب- عصر الرسالة ... 732
الفصل الثاني : نشأة التدوين التاريخي والمنظور الحضاري ... 749
المنظور الحضاري في أنماط التدوين التاريخي حتى عصر ابن خلدون ... 760
نحن والحضارة والشهود (الجزء الأول) ... 776
المقدمة ... 793
تمهيد ... 797
الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر ... 807
الأهداف الكبرى لخلق الإنسان ... 831
التغيير في الحضارة ... 838
أهم العوامل المؤثرة في التحضر ... 841
حركة التحضر ومساراتها ... 861
مع أشهر المفسرين لحركة التحضر ... 873
نحن والحضارة والشهود (الجزء الثاني) ... 903
الله تعالى، الكون، الإنسان، الشهادة على الناس أولاً: الله تعالى وصفاته ... 911
ثانيًا: الكون ... 918
ثالثاً: الإنسان ... 922
رابعًا: المسلم والشهادة على الناس ... 943
خامسا: الإنسان بين التقدم والتخلف ... 954
البعد الحضاري لهجرة الكفاءات ... 983
الكفاءات المهاجرة طلائع لحضارة الإسلام ... 1003
البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب ... 1027
الخطاب المستقبلي للهجرة الإسلامية ... 1047
الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري **أنموذج مالك بن نبي ... 1068
المقدمة ... 1089
الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله ... 1090
منظور دراسة (ابن نبي) رحمه الله للظاهرة الحضارية الغربية ... 1094
الفصل الثاني المنظور الحضاري المنظور الحضاري.. إطار كلي تفسيري ... 1101
مفردات المنظور الحضاري ... 1105
الدين في مفهوم ابن نبي رحمه الله ... 1113
أهم خصائص الظاهرة الحضارية الغربية الخاصية الأولى: العالمية المركزية ... 1119
الخاصية الثانية: المادية ... 1128
الخاصية الثالثة: الفعالية ... 1133
الخاصية الرابعة: النزعة الجمالية ... 1143
خصائص المنهج أولاً: السننية ... 1147
ثانيًا: الأصالة ... 1153
ثالثاً: الموضوعية ... 1155
آفاق الاستفادة نحو علم اجتماع خاص بالعالم الإسلامي ... 1161
خاتمة ونتائج ... 1168(9/334)