والمجتمع الإسلامي الأول ، هو مجتمع الأنموذج ، ومعيار الاقتداء العملي ، ليس في مرحلة الكمال والاكتمال فقط ، وإنما في المراحل كلها التي مر بها ، فكل مرحلة تعتبر قدوة وأنموذجاً لما يشابهها ويقابلها من الأحوال التي يعيشها ويتقلب فيها المجتمع المسلم .. فالمجتمع الأول بالنسبة للمسلم ، يشكل المرجعية التطبيقية .. كما أن القيم في الكتاب والسنة ، تشكل المرجعية الشرعية والفكرية ، وقد تحقق له ذلك دون غيره ، بسبب حراسة الوحي ، والرؤية الراشدية ، بعد توقف الوحي ، المشهود لها من الموحى إليه صلي الله عليه و سلم ، الذي اعتمدها في المرجعية والاقتداء فقال : (.. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وتمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ) (رواه أحمد) .
وهنا قضية لابد من الإشارة إليها في الحقيقة : وهي أن المجتمع الأول ، مجتمع القدوة ، والمثال ، والأنموذج ، والمرجعية ، ليس هو نهاية المطاف للحياة الإسلامية ، إنما هو نهاية المطاف للبناء الأنموذجي ، إذ أن المجتمعات الإسلامية ، الممتدة تاريخياً ، كما هو الواقع ، والتاريخ ، والسنن الاجتماعية ، سوف تمر بسقوط ، ونهوض ، وقوة ، وضعف ، ومرض ، وصحة ، بحسب أقدار التدين المتفاوتة ، فهي ليست نسخة مكررة عن المجتمع الأول ، مهما حاولت المقاربة والتأسي ، ولكنها لا تخرج في كل حالاتها ، التي تمر بها ، عن المشابهة ، مع مجتمع القدوة ، في المراحل التي مر بها.
وقد يكون من المفيد التأكيد هنا ، أننا مهما حاولنا الاقتراب من مجتمع القدوة ، تبقى لمجتمع القدوة الذي ربي على عين النبوة ، خصوصية في كونه قدوة دون سائر الحالات المماثلة الممتدة على طول التاريخ الإسلامي ، فهي تجارب تفيد العبرة ، ولا يمكن أن تتحول إلى أنموذج أو مصدر للتشريع والتلقي.
والفقه المطلوب اليوم : كيف يشكل المنهج النبوي ، والرؤية الراشدية - قيماً وبرامج ، فكراً وفعلاً - بمراحلها المتنوعة ، مرجعية ، وقدوة للمجتمعات الإسلامية ، ضمن الحالات التي تمر بها؟ وكيف يمكن أن يتحقق الاقتداء والإفادة ، من المنهج ؟ هذه هي القضية المطلوبة بشدة ، الغائبة غياباً مذهلاً.
نحن عندما ندعو لاستيعاب المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ،واستيعاب الواقع ، ومن ثم وضع الواقع في مرحلته المناسبة من مسيرة النبوة ، أو من المنهج النبوي، حتى نحقق الاقتداء في عملية التغيير ، وكيفية التعامل مع الواقع ، وتغييره ، والارتقاء به ، أو تقويمه بمنهج النبوة ، في ضوء عطاء المنهج نفسه ، أو عطاء المرحلة المشابهة لواقع الحال، لا نعني بذلك عملية التقطيع ، والانتقاء الفقهي ، كما اننا لا نعني إيجاد المسوغات الشرعية ، أو التستر على هذا الواقع بفقه حيل ، أو فقه مخارج ، وإنما الذي نريد أن نوضحه: أن القضية قضية اجتهاد فكري ، أو رؤية منهجية في كيفية إعادة البناء ، في ضوء المنهج النبوي ، ترتكز إلى فقه المقاصد ، الذي كان محور التغيير في كل مرحلة ، ومرتكز ومنطلق آلياته ، ووسائله .. لذلك جاء تأكدينا باستمرار ، ومهما كانت مواصفات وشروط المرحلة ، على ضرورة استصحاب الرؤية الشاملة.
وأعتقد أن الجهود ، التي بذلت لحماية السنة ، والسيرة وحفظها ، ومناهج وضوابط الحفظ ، والنقل الثقافي ، ومعايير الجرح ، والتعديل ، لم تتوفر بعد القرآن الكريم ، لأي نص تاريخي ، أو وثائقي ، أو ديني على الإطلاق ، ولعل هذا من لوازم وخصائص الخلود .. إن هذه الجهود العلمية العظيمة التي توفرت لحماية بيان القرآن ، وكيفيات التعامل معه ، فهماً وتنزيلاً على الواقع ، والتي تحققت من خلال عزمات البشر ، الذين يمثلون أوعية الحفظ وأدواته ، جاءت مصداقاً لقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأنه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة : 17 - 19) .
والحقيقة التي قد يكون ذكرها هنا من الأهمية بمكان ، أنه أثناء العمل مع المنهج النبوي ، لابد من استصحاب الرؤية الشاملة للمنهج ، حتى ولو كان التنزيل ، والتطبيق لبعضه ، بحسب النوازل ، وظروف الحال ، والاستطاعات ، التي تقتضي التركيز على بعض الجوانب في مرحلة معينة ، لمعالجة الخلل ، دون الجوانب الأخرى .
ذلك أن غياب الرؤية الشاملة للمنهج النبوي ، وعدم الفقه مقاصد التعامل مع الحالات المتنوعة ، من الواقع ، وأسباب التركيز عليها ، أدى ببعض المفكرين إلى اختلال في شمولية الرؤية ، وضبط النسب ، وبروز فرق خارجة ، ونتوءات فكرية ، لا تتفق مع توازن وشمولية المنهج النبوي .. أخذت بعض الجزئيات وضخمتها ، وحاولت المرابطة من ورائها ، وتعميمها على المنهج كله ، فاضطربت الأولويات ، واهتزت النسب ، وظهرت الثنائيات المتناقضة ، والتعسف في التفسير والتأويل المذهبي ، لا المنهجي ، وأصبحت القواعد والأصول المذهبية ، كلامية كانت أو فقهية ، هي المعيار لتفسير النص والتحكم بمقاصده ، وهو ما لم يعرفه تنزيل الإسلام الأنموذجي في خير القرون .
ولا شك عندي أن عملية التنزيل للمنهج النبوي على الواقع ، أو الفقه التطبيقي ، وتحويل القيم والمباديء ، إلى برامج ، إذا لم تترافق بالرؤية الشاملة ، والضوابط الصارمة ، واليقظة المستمرة ، قد يؤدي إلى لون من التكيف مع الواقع ، دون القدرة على تكييفه ، وفق القيم ، بسبب الإلف له ، والقبول به ، نتيجة للتوارث الاجتماعي ، ومن ثم الدفاع عنه ، واعتماده كمقياس للمعايرة .. أو بتعبير آخر : نتيجة لإلف الواقع وحالة الركود ، التي يفرضها ، وسهولة التعامل معه ، يصبح تقليداً يصعب تغييره ، ومن ثم يعتمد هذا التقليد ، أو هذه التقاليد ، لتصبح قيماً ، ومعايير ، تحل محل المنهج ، والقيم والتعاليم .. وبدل أن تُقوّم التقاليد بالقيم ، والتعاليم ، وتكون التقاليد هي مادة البحث ، والتحليل ، تصبح هي معايير البحث ، والتحليل ، فيصاب المجتمع بالركود والاستنقاع الحضاري ، ويصل إلى مرحلة ذهاب العلم ، وإن بقيت مصادره التي اخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم .. فعن الإمام أحمد رحمه الله ، قال : ذكر النبي صلي الله عليه و سلم شيئاً ، فقال : (وذاك عند ذهاب العلم ) .. قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة ، أو ليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشيء؟! ) (الحديث رواه أحمد في مسنده ، وابن ماجة في سننه ، باب ما جاء في ذهاب العلم ، وقال : هذا حديث حسن غريب) .
لذلك ، وحتى يحول المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، دون هذا التوطين للتقاليد ، بسبب التوارث الاجتماعي - كما أسلفنا - شرع الدورات التجديدية ، التي اعتمدها كحراسات لسلامة المنهج واستمراره ، والتي تعني بعث الحياة للتعاليم والقيم من جديد ، وإعادة ترتيب تصويب المعادلة الاجتماعية .(9/139)
فالتجديد هو العودة إلى الينابيع الأولى ، وإعادة التقويم بها ، وبذلك يتحقق الحفظ والاستمرار ، وديمومة العطاء ، للمنهج النبوي ، أو لمعرفة الوحي ، بشكل أعم ، ليصبح منهج النبوة ، أو معرفة الوحي بشكل أعم ، هي الإطار المرجعي ، والضابط المنهجي ، والمعيار للمراجعة المستمرة ، وإعاد تقويم الواقع ، قبل أن ينغلق على تقاليده ، التي يكرسها التوارث الاجتماعي ، لذلك قال الرسول صلي الله عليه و سلم : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام ، من يجدد لها دينها )(رواه أبو داود في الملاحم) .
لقد جُعل التجديد تكليفاً ، ولم يقتصر على أن يكون إخباراً .. والتجديد - الذي هو في الحقيقة تقويم للواقع ، وتغيير له ، ومحاولة للعودة به إلى الينابيع الأولى ، بعد إدراك هذا الواقع في ضوء المنهج النبوي للتغيير ، أو بكلمة مختصرة : هو النظر في الواقع ، وتقويمه من خلال المنهج النبوي ، والنظر إلى المنهج النبوي ، وكيفيات التزامه ، والإفادة منه ، من خلال الواقع - هو لازم من لوازم الخاتمية ، حيث توقف التصويب من السماء ، فلابد من ممارسة عمليات التصويب والتقويم للواقع ، في ضوء مرجعية قيم السماء وبيانها النبوي.
ولعلي أرى أن في تسمية منهج الرسول صلي الله عليه و سلم في التغيير والبناء الحضاري ، بمصطلح السنة ، بعض ملامح الخلود ، والتجرد من ملابسات الزمان والمكان ، ذلك أن السنة هي: القانون المطرد الممتد ، الذي لا يقبل التحويل ، ولا التبديل ، فهي في مجال الأنفس كالقانون الطبيعي الكوني ، في إطراده وثباته ، في مجال الآفاق ، وإن كان محل الاستشهاد على ثبات السنن واطرادها ، غالباً ما ينصرف إلى السنن الكونية الآفاقية ، لسهولة إدراكها ، ووقوعها تحت الحواس ، وفي متناولها ، ولأن الزمن المطلوب لاستيعاب اطرادها ، وإدراك نتائجها ، هو في مقدور الإنسان ، وضمن عمره المفترض ، أما السنن النفسية والاجتماعية ، والتعرف على عواقبها ، فأمر بطيء ومديد ، إلى درجة قد يكون عمر جيل كله ، مقدمه لها ، إضافة إلى أنه قد تحول بعض العوائق ، أو تغيب بعض الشروط ، فتختل النتائج أو تتخلف ، فيتوهم الإنسان عدم الاطراد ، لذلك غالباً ما يتحدى القرآن في مجال السنن النفسية والاجتماعية ، بالعواقب ، التي هي آكد من النتائج عملياً.
فإذا سلمنا ، بأن السنة النبوية ، هي قانون مطرد في التغيير الاجتماعي ، والبناء الحضاري ، وأن الاطراد سمة لازمة لها ، كلما توفرت الظروف والشروط ، وانتفت العوائق ، وأن نهوض المجتمع الإسلامي من سقوطه اليوم ، مرهون باستعادة الأنموذج ، القدوة ، والمنهج في التغيير ، وأن توفير الظروف والشروط التي توفرت لميلاد المجتمع الأول ، أساس لمعاودة الإنتاج ، أدركنا مغزى قولة الإمام مالك رحمه الله : لا يصلح آخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها.
ولعل من الأمور الأساسية التي لابد من التنبه لها ، والتذكير بها هنا ، أن منهج الرسول القدوة صلي الله عليه و سلم في البناء والتغيير الحضاري ، هو منهج اللبنة والتدرج ، وتحضير المحل ، والأخذ بيد الناس إلى تحقيق المقاصد الإسلامية ، وتقويم سلوكهم بشرع الله ، شيئاً فشيئاً ، حتى وصل بهم ، إلى درجة الاكتمال والكمال ، في بناء المجتمع الأنموذج .. وهذا المنهج لم يقتصر على مرحلة النبوة الخاتمة ، وإنما هو منهج النبوة في التاريخ الإنساني ، ووسيلة الأنبياء جميعاً ، حتى أن النبوة الخاتمة بكل عطائها ، ومقوماتها ، وأهدافها ومنطلقاتها ، لم تخرج عن أن تكون لبنة ، في البناء النبوي الممتد ، مع رحلة الإنسان على الأرض ، وقد ألمح إلى هذا وأكده الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مَثَلي ومثُل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بنياناً ، فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ) (رواه مسلم).
حتى إننا لنجد في القرآن الكريم ، الذي يمثل اللبنة الأخيرة ، أو المنهج الأخير للنبوة ، الذي انتهت إليه النبوات ، مساحة كبيرة ، لدعوة الأنبياء ، وقصصهم مع أقوامهم ، وكيفيات تعاملهم مع المجتمعات ، وخلاصة التجارب التاريخية ، التي صدقها الوحي ، وتحققت من خلال سنن الحياة الاجتماعية والنفسية ، والتي تشكل رصيداً في بناء مرحلة النبوة الخاتمة.
لذلك بالإمكان القول : إن الصورة الأخيرة التي انتهت إليها النبوة لا تخص فترة النبوة الخاتمة ، ولا تقتصر عليها من الناحية الزمانية ، والمكانية ، والحضارية ، والثقافية ، وإنما هي في الحقيقة ثمرة النبوة التاريخية ، بكل بنائها وعطائها ، وإن النبوة الخاتمة ، هي لبنة في هذا البناء المتكامل الكامل ، لذلك فقول الله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران:19) إنما يعني من الوجوه كلها ، أن الإسلام هو العنوان والسمة والتعريف ، لهذا البناء النبوي التاريخي الكامل المتكامل ، وإن انتهت تسميته إلى النبوة الخاتمة ، وأصبح علماً عليها .
لذلك فالإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه و سلم ، هو ملة إبراهيم ، ودين موسى ، وعيسى ، والأنبياء من قبل ، قال تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. ) (الشورى : 13) .. وأن أي صدق مع منهج النبوة التاريخي ، يقتضي الإيمان به ، وأن الدعوة إلى الإبراهيمية ، ووحدة الأديان ، خارج نطاق الإسلام ، الذي حقق وحدة الأديان - إضافة إلى أنها تشوية للتكامل والكمال ، وحفريات تاريخية لا طائل من ورائها ، إلا المزيد من التضليل - هي نكوص ، وانتكاس ، وتراجع على طريقٍ دارسةٍ.
وكذلك نرى أن اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( المائدة : 3 ) ، إنما كان ذلك الاصطلاح دليلاً على اكتمال البناء ، الذي تعتبر النبوة الخاتمة ، تسديداً وتصويباً لنقصه ، حتى بلغ الكمال .. فالخطاب من كل الوجوه ، خطاب للبشرية جميعاً ، ولأبناء الأديان السابقة ، التي انتهت نبواتهم إلى الصورة الأخيرة ، إلى الإسلام الشامل ، ذي العمق ، والبعد التاريخي ، والبعد المستقبلي معاً .. فالإسلام الذي نزل على محمد صلي الله عليه و سلم ليس مقطوعاً عن الماضي ، ولا مبتوراً من سياقه ، وإنما استوعب الماضي ، في بناء الحاضر ، قال تعالى:(ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) كما أحسن بناء الحاضر ، وكماله ، في ضوء عطاء النبوة التاريخي ، ليصبح الإسلام بناء المستقبل الخالد ، ومنهجه الدائم ، الذي اكتمل ، وكمل على يدي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وأصبح في مأمن من النقص والانهدام ، قال تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة : 3) .
والذي نراه هنا أن منهج اللبنة ليس مقتصراً على بناء الأنموذج ، وإنما هو منهج كل بناء ، أو إعادة بناء .. وكل لبنة من هذه اللبنات ، تشكل مرحلة للاقتداء بما يماثلها ، شريطة استصحاب صورة البناء الكامل ، التي لابد أن تشكل اللبنة مرحلة للانتهاء إليها .(9/140)
وقضية أخرى ، في إطار منهج اللبنة ، يمكن أن نلمحها في سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، وطريقته في التغيير والبناء الحضاري ، وهي أنه بالرغم من الرصيد التاريخي لدعوة الأنبياء مع أقوامهم ، والخلاصات التي انتهت إلى النبوة الخاتمة ، وساهمت في بنائها وعطائها ، فإن دعوة الرسول صلي الله عليه و سلم ومنهجه في التغيير والبناء ، استغرق ثلاثة وعشرين عاماً ، أي استغرق الزمن المطلوب لبناء جيل كامل ، على رأي علماء الاجتماع ، بدءاً من قوله تعالى : (اقرأ ) - ولا نقصد بالقراءة هنا : تعلم الأبجدية فقط ، وهي مقصودة بلا شك ، كمفتاح للعلم ، وطريق للدين الجديد الخاتم ، ووسيلة للتغيير والبناء الحضاري ، وإنما نقصد القراءة بأبجدية إسلامية ، ذات منهجية خاصة بها .. فليس كل قاريء بالأبجدية ، قادراً عليها ، إذا افتقد الإيمان الذي يعتبر المؤشر الصحيح لتوجيه أبجدية الإنسان ، وربطها بغاياتها .. إنها القراءة باسم الله الخالق ، القراءة باسم الرب الأكرم .. إنها قراءة جديدة متميزة ، عن كل القراءات القائمة ، والأبجديات المعروفة - وانتهاءاً ، بالوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، التي أوصلت البناء إلى غايته ، والقراءة إلى هدفها ، بقوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )( المائدة : 3) .
ومن الأمور الأساسية التي قد يكون من المفيد التوقف عندها قليلاً ، ونحن نحاول ، تحديد بعض الملامح ، لمنهج النبوة الخاتمة ، في التغيير والبناء الحضاري ، قضية بشرية الرسول صلي الله عليه و سلم وخضوعه في حمله ، وولادته ، ورضاعته ، وشبابه ، وهرمه ، ومرضه ، ووفاته عليه الصلاة والسلام ، للسنن الفطرية ، والقوانين الطبيعية ، التي يخضع لها سائر البشر .. فلقد كان حمله طبيعياً ، استغرق مدة الحمل نفسها ، كما كانت ولادته طبيعية ، كسائر الولادات ، وعانى من فقد الأم والأب ، ككثير من البشر ، وخضع لكفالة الأقارب ، وبلغ سن الشباب ، وعمل في الأعمال ، التي كان يمارسها قومه ، كالرعي ، والتجارة ، وتزوج ، وأنجب ، وفقد الابن ، والبنت ، والصديق ، والزوجة ، وتعرض للأذى والمرض ، والنصر ، والهزيمة ، وحل به من جراحات الحرب ، ما يمكن أن يحل بكل إنسان ، وأعلن أكثر من مرة : أنه بشر من البشر ، وأن النبوة لم تخرجه عن بشريته ، وإنما امتاز عن البشر بالوحي ، والعصمة ، حتى يتأهل ليكون قدوة للبشر ، ويربى على عين الوحي ، قال تعالى على لسان نبيه مقرراً حقيقة البشرية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ّ...)(الكهف : 110) .
ولعل من الأمور الجديرة بالنظر هنا ، أن سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم التي كانت تنزيلاً لقيم القرآن ، وتجسيداً لها في الواقع البشري ، تمثل منهجاً لكيفية التعامل مع القيم ، وتطبيقها في الواقع ، والأصعدة المختلفة ، بمعنى أن القدوة ، وتقديم النماذج للاقتداء ، لم يتقصر على الحاضر ، وإنما استوعب أبعاد الزمن الثلاثة : الماضي ، بما عرض من قصص الأنبياء كنماذج ، والمستقبل أيضاً في إبصار بعض ملامحه الرئيسة ، والإخبار عن كيفيات التعامل معه ، والواقع الذي يعيشه الناس ، وتقويمه بشرع الله .
لذلك نقول : بأن القدوة هنا ، في الرسالة الخاتمة ، جاءت شاملة شمول الإسلام نفسه ، ولئن كان الأنبياء السابقون ، يمثلون نماذج للاقتداء في مجالات معينة ، فإن النبوة الخاتمة ، قدمت القدوة والأنموذج المحتذى في مجال الدعوة ، ومنهجها ، وكل وسائلها ، ومتطلباتها ، وفي مجال الدولة ، وكل ممارساتها ، ووظيفتها ، وأعبائها ، وعلاقاتها ، وسلمها وحربها .
والحقيقة التي يمكن أن نلمحها هنا ، والتي قد يكون من بعض مدلولاتها أهمية تقديم الأنموذج والقدوة ، أن مساحة تعبيرية كبيرة من سور وآيات القرآن الكريم ، وهي متواترة الورود ، قطعية الثبوت ، قد تضمنت عرضاً تفصيلياً لسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم ، والأنبياء من قبله ، حتى لا تبقى القيم والتعاليم الإلهية المنزلة ، نظريات مجردة عن النماذج العملية ، التي تجسد هذه الأفكار في أفعال ، وإنما جاءت في معظم الأحوال ، مقترنة بالأنموذج التطبيقي .. جاءت متلازمة ، مع القدوة ، التي تشكل منهج التعامل ، وتحويل الفكر إلى فعل ، والقيم إلى برامج ، لذلك بالإمكان القول : بأن المنهج ، والأنموذج ، والقدوة ، حٌفظت بحفظ القرآن ، لأنها لا تقل ، من حيث الدلالة العملية ، عن آياته شأناً في عملية البناء والتغيير ، حتى إن بعض الباحثين المعاصرين - والأستاذ محمد عزة دروزة رحمه الله يأتي في مقدمتهم - كتبوا السيرة من القرآن مباشرة .
وقد يكون من أبرز الخصائص ، التي تجعل المنهج النبوي في التغيير والنهوض والبناء الحضاري ، محلاً للاقتداء والتأسي ، وتجعله أنموذجاً (يحتذى انما هي في واقعيته وتوافقه مع فطرة الإنسان)، وإنه تحقق من خلال تعامله مع السنن الجارية في الكون ، ومن خلال عزمات الإنسان ، بضعفه وقوته ، وتذكره ونسيانه ، وفطرته وغريزته ، ونزوعه إلى الخير ، وانحداره في الشر ، واستيعاب جميع ما يتعرض له من الظروف ، والأحوال ، والقابليات ، من الشدة والرخاء ، والسقوط والنهوض ، والهزيمة والنصر ، ليكون المنهج من ثم دليلاً ومرشداً ، في كيفية التعامل مع الأحوال كلها ، من خلال الاستطاعات المتوفرة ، والظروف المحيطة ، ولم يتحقق من خلال تعامله مع السنن الخارقة ، الخارجة عن طاقة البشر ، التي قد تسهم بالتواكل ، والإلغاء ، وانطفاء الفاعلية ، وتؤدي إلى السلبية ، والإرجاء . واعتمد الزمن ، وسنة الأجل ، كعنصر لازم ، لإنضاج الفعل الحضاري ، وتحكم بالزمن تسخيراً وإنتاجاً ، بعيداً عن النظرة الدهرية والجبرية الزمانية ، التي كانت من مثالب الكفر ، وليس من خصائص الإيمان ، ونستطيع القول: إن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، تحكم بالزمن، وأعاد التعامل مع المسار الحقيقي ، وأكد استدارته كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وأبطل عبث العابثين بمساره ، ليتحقق الانسجام ، بين السنن الكونية ، والسنن النفسية والاجتماعية ، فلقد قال الرسول صلي الله عليه و سلم في مراحل الاكتمال والكمال للمنهج النبوي ، في خطبة الوداع: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله سموات والأرض .. إلخ )، حيث تحقق بالنبوة الخاتمة ، التصويب لوجهة الإنسان ، والقراءة الصحيحة ، لحركة الكون ، وغايات الحياة.
والناظر في منهج الرسول صلي الله عليه و سلم يرى أنه لم يعان من الثنائية ، بين هدايات الوحي ، ومدركات العقل .. بين التعامل مع السنن الجارية ، بل واستفراغ الجهد في التعامل معها ، إلى درجة ، قد يظن معها الجاهلون بالمنهج النبوي أن الأمر كله موكول إليها ، ومعتمد عليها ، وبين الالتجاء إلى الله ، والتوكل عليه ، واستفراغ الوسع في الدعاء ، والابتهال ، وانتظار المدد من السماء ، لدرجة قد يظن معها الغافلون عن أبعاد المنهج النبوي ومقاصده ، أن صاحبها لا علاقة له بالتعامل مع السنن والأسباب .(9/141)
كما أنه لم يعان من الثنائية بين القدر و الحرية والإرادة الإنسانية ، بل كان يعتبر أن الأسباب هي قدر من قدر الله ، وأن الله الذي خلقها ، وجعلها قدراً وسبباً لحصول النتائج ، هو القادر على خرقها ، وليست المعجزات في تعريفها المبسط إلا خرق للأسباب ، وما اعتاده الناس ، وأن من الفهم للمنهج النبوي ، مدافعة سنة بسنة ، ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر ، وأن إرادة الله هي التي أرادت للإنسان أن يريد ويفكر ، لمغالبة قدر بقدر ، وإلا ، كيف يمكن عقلاً وشرعاً ، ترتيب المسؤولية على الفعل ، إن لم يأت ثمرة للإرادة والحرية ؟ وكيف يمكن أن يتحقق العدل المطلق ، الذي لا يليق غيره بالله سبحانه وتعالى؟
كما أن منهج الرسول صلي الله عليه و سلم ، في التغيير والبناء الحضاري ، الذي اكتسب خلوده من خلود القرآن ، تجاوز حدود وقيود الزمان والمكان ، ليكون قادراً على العطاء العالمي في كل عصر ومكان ، ويكون قادرا على الاستجابة ، والاستيعاب ، لمشكلات كل عصر ، وتقديم الحلول المناسبة لها ، ولذلك نراه استغرق في التغيير والبناء ، مسيرة جيل كامل ، واستوعب مراحل التغيير والبناء في كل ما يعرض لها من الأحوال ، ابتداءاً من حالات الاستضعاف ، وحتى التمكين والوصول لحالات الكمال.
لذلك كان منهج المقاصد ، والغايات ، والأهداف ، والاستطاعات .. لم يكن جامداً على حالة واحدة ، من حالات الفرد ، والمجتمع ، والأمة ، والدولة ، والاستطاعة .. ولم يضع قوالب يابسة ، ليصب الناس فيها بكل أحوالهم وحالاتهم ، وإنما كان يتغير بحسب الرؤية المتوفرة ، والمصلحة المتحصلة ، والهدف المطلوب .. يتغير بحسب الظروف والإمكانات ، ليستحق أن يشكل القدوة للإنسان ، في كل ما يعرض له ، حتى على مستوى الدعوة والفكر .. كان للحرب خطابه ووسائله ، وكان للعهد والسلم شروطه ، وضوابطه، وكان للنصر فقهه ، وللهزيمة فقهها ، وكيفيات التعامل معها.
وكان الرسول صلي الله عليه و سلم يحرم بعض الأعمال ، في عام ، ويبيحها في عام آخر ، فعندما أصاب الأمة من المجاعات ، نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ، وعلل ذلك بالدافة ، أي بسبب زيادة الفقر ، وقدوم الفقراء على المدينة ، للشدة والمجاعة التي يعانون منها ، فإذا انتهت المجاعة ، أعاد الأمر للإباحة فقال : (ألا فكلوا وادخروا ) .
كما أنه حرم الادخار ، والفضل من المال ، والظهر ، والزاد ، في حالات الشدة وضرورات التكافل الاجتماعي ، أو ما يسمى اليوم اقتصاد الحرب ، وأباح الادخار في حالات الرخاء .. يروي أبو سعيد الخدري فيقول : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: (من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد ، فليعد به على من لا زاد له ) ، فذكر من أصناف المال ما ذكره ، حتى رأينا ، أنه لا حق لأحد منا في فضل (رواه مسلم).
هكذا ، في بعض الظروف ، يحرم المنهج النبوي ، في الجانب الاقتصادي والاجتماعي الإدخار، ويعتبر الزائد عن الحاجة حراماً في حالات خاصة ، الأمر الذي لم تعرفه أشد المذاهب تطرفاً.
والمتأمل لمنهج الرسول القدوة ، صلي الله عليه و سلم ، في تعامله مع استطاعة المكلف ، وفقهه لحالته ، وتقرير الأحكام الشرعية ، في ضوء إدراك مقاصدها ، يرى كثيراً منا اليوم ، هم حملة للفقه وليسوا فقهاء حقاً .
ولعل في قصة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها ، التي كانت سبب نزول قوله تعالى: (الذين يُظاهرون منكم من نسائهم ) ( المجادلة : 2 ) ، وتطور الحكم في ضوء الاستطاعة ، ما يلقي أضواء كاشفة على ما نريد .. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ( حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري ، قال : كنت امرءاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، خوفاً من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحت ، غدوت على قومي فأخبرتهم خبري ، وقلت : انطلقوا معي إلى النبي صلي الله عليه و سلم فأخبره بأمري ، فقالوا: لا والله لا نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا ، أو يقول فينا رسول الله صلي الله عليه و سلم مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك ، قلت : فخرجت حتى أتيت النبي صلي الله عليه و سلم فأخبرته خبري ، فقال لي: (أنت بذاك ) ؟ فقلت : نعم انا بذاك. فقال (أنت بذاك )؟... ها أنا ذا فأمض في حكم الله عز وجل ، فإني صابر له ، قال : (أعتق رقبة ) ، قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي ، وقلت : لا والذي بعثك بالحق ، ما أصبحت أملك غيرها . قال : (فصم شهرين متتابعين ) . قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : (فتصدق ) ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ، ما لنا عشاء . قال : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها ، وسقا من تمر ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ) ، قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلي الله عليه و سلم السعة ، والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليّ وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجه ، واختصره الترمذي ، وحسنه . ( تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، المجلد الرابع ، صلي الله عليه و سلم 319 ، ط دار المعرفة ، بيروت ، 1969م ) .
ويبقى المطروح باستمرار : كيف ندرك مقاصد المنهج في كل مرحلة ؟ وكيف نتعامل مع هذا المنهج من خلال العصر ؟ وكيف نتعامل مع العصر ونقّوم حركته ومسالكه ، من خلال المنهج؟
وبعد:
فلا شك أن الكتابة في المنهج ، ليس بالأمر السهل ، وأنه اليوم بحاجة إلى جهود جماعية ، وتخصصات متنوعة ، في شعب المعرفة المختلفة ، لتحقيق أمرين لابد منهما في كل مشروع للنهوض ، واستعادة العافية.
أولهما : فقه المنهج النبوي ، بعد التأكد من ثبوته ، من حيث النقل والحفظ ، لأنها المرحلة الأولى والأساس الذي يقوم عليه البناء .
الثاني : هو فقه التعامل مع المنهج ، تطبيقاً على الواقع ، الأمر الذي يقتضي فقه الواقع الإقليمي ، والعالمي، والإنساني ، واستطاعاته .
ولا نزعم للكتاب الذي نقدمه اليوم ، أنه استطاع أن يقدم المأمول ، أو أن يحسم بعض الإشكاليات المنهجية ، التي يعيشها العقل المسلم ، ليحقق النقلة النوعية المطلوبة ، من الحفظ ، والنقل ، والتوصيف ، والتحليل ، إلى التعليل وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية ، والتنزيل على الواقع البشري المأزوم ، بغياب منهج النبوة .
وحسبنا في هذا الكتاب ، أننا طرحنا قضية المنهج النبوي ، من وجهة نظر أخرى ، ما تزال الدراسات فيها ضنينة ، لأن معظم الدراسات ، تمركزت حول منهج الحفظ والنقل ، واستنباط الحكم التشريعي ، أما أن يكون المنهج النبوي مصدراً للمعرفة بشكل عام ، ومنهجاً للتغيير والبناء الحضاري ، فلا تزال الحاجة إليه قائمة وماسة .(9/142)
ونعتبر أن غاية ما قدمه الكتاب ، أنه طرح القضية للمناقشة ، وفتح ملفها ، وقدم محاولة ، قد تكون ، نجحت في بعض سعيها ، وتعثرت في بعضه الآخر ، حيث يعوزها الاستدلال والتوثيق ، لتحقيق البعد المطلوب ، وهي محاولة لا تخرج عن سائر المحاولات ، والاجتهادات البشرية ، التي يجري عليها الخطأ والصواب ، ويؤخذ منها ويرد .. ويبقى المطلوب اليوم بشدة ، تضافر الجهود لإعادة استيعاب المنهج النبوي ، الذي يشكل المعيارية ، لما يؤخذ وما يرد ، والله من وراء القصد.
==============
تمهيد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلي الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد ..
فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ، وكرمه بفضله ، وأمده من علمه ، وجعل له عقلاً ، وسمعاً ، وبصراً، وفؤاداً ، وسخر له الأرض ذلولاً ، والكون خدوماً ، ووهبه قوى التعقل ، والتدبر ، والنظر ، وأعطاه حياة ووقتاً . ثم كلفه برسالة الاستخلاف في الأرض . ولكن الإنسان وهو يتفاعل مع الحياة ومشكلاتها ، والكون وأسراره ، والتاريخ وسننه ، بحاجة إلى مرشد يبصره بطريق الحق ، ونور يدله على معالم الطريق ، إذ العقل البشري لا يقوى وحده على إدراك سنن الخير ، وسنن الشر ، ولا يقدر بوعيه المحدود على فهم خبايا الكون ، والحياة ، والتاريخ ، والوجود ، ولهذا فقد وهبه الله خيراً آخر ، وفضلاً عظيماً من أفضاله ذلك هو (علم النبوة) الذي انبثقت عنه مناهج الهداية التي حملها الوحي الأعلى إلى الأمم والشعوب كافة ، عن طريق الأنبياء ، والرسل صلوات الله عليهم أجمعين . إذن قد أمد الله سبحانه وتعالى الإنسان بمنهاج قويم ، ومسلك أمين ، يدله على سبيل الفوز المبين . ثم شاءت إرادة المولى تبارك وتعالى ، أن يختم علم النبوة بالرسالة المحمدية التي أعطت للاستخلاف مضموناً عالمياً شمولياً ، وبعداً دعوياً إنسانياً هادياً .
وفي الحركة الإسلامية الخاتمة ، تمكن نبي الإسلام صلي الله عليه و سلم من بناء حضارة توحيدية سامقة ، واستطاع أن يقدم للبشرية جمعاء ، نمموذجاً فطرياً لتغيير حضاري إنساني ، كون به إنساناً استخلافياً ، وثقافة إنسانية ، ومجتمعاً منسجما ، وتاريخاً عالمياً ، وحضارة متوازنة . والنبي صلي الله عليه و سلم وهو يواجه ظروف بناء الحضارة الإسلامية ، كان منضبطاً بمنهج تغييري ، يستمد وجوده ، ووعيه ، وأصوله من معيار الوحي الإلهي.
ولما كان أي بناء حضاري إنساني ، مفتقراً في حدوثه إلى منهج تغييري يقوده نحو غاياته ، ومقاصده ، بخطوات منظمة وسليمة ، فقد استدعت العملية التغييرية النبوية وجود ذلك المنهج ، والمنهج النبوي في البناء الاجتماعي ، منهج فطري متوافق مع سنن الله في الخلق ، ومنسجم مع قوانين الدعوات الإنسانية.
من هذه الأهمية العظيمة للمنهج النبوي ، وقدرته على تركيب حضارة عالمية نموذجية ، تستجيب لقانون الفطرة العالمي ، برزت الضرورة الملحة لدراسته من وجهة نظر (حضارية سننية) تنفذ إلى محاولة وعي المنهج النبوي ، بغرض استدعائه ، ليساهم بقدرته الفائقة في حل معضلات الإنسان المعاصر وهو يستقبل عصر العالمية .
ففي هذا الجهد المتواضع جداً ، حاولت أن أنبه إلى أهمية المنهج النبوي في البناء الحضاري الجديد ، وذلك لما للوعي بهذا المنهج ، من فقه بصير ، وإدراك عميق ، وفهم سديد لسنن الدعوات ، وقوانين النهضات ، ومناهج البلاغات ، ومقاصد الديانات ، وأخلاق السياسات ، وحاجات النفسيات ، ومتطلبات العقليات ، واستعدادات الشخصيات ، وثقافات الجماعات ، وسلوكات الأمم الناجيات ، وشرائع الرحمة الميسرات ، ففي المنهج النبوي ، سبل لهداية الناس إلى الأعمال الصالحات ، والأقوال الصائبات ، والعبادات الصحيحات ، والمعاملات النافعات ، والمواقف المرضيات .
لقد قسمت هذا الكتاب إلى تمهيد ، وثلاثة فصول ، وخاتمة . بسطت الحديث في الفصل الأول ، عن الإطار المنهجي العام ، الذي يجب أن يدرس فيه المنهج النبوي ، مركزاً على أهمية النظرة الكلية إلى السنة النبوية ، وإلى طبيعتها الحضارية ، مع إبراز بعض أبعاد المنهج النبوي ، كالبعد المقاصدي ، والبلاغي الدعوي ، والسنني ، وتدعيمها بنماذج ، ودروس من الفقه النبوي العملي.
أما الفصل الثاني ، فقد خصص لمعالجة قدرة المنهج النبوي على فهم ، واستيعاب الظاهرة التغييرية في العصر العالمي ، مع تحديد أسباب هذه القدرة ، ومحاولة اكتشاف منطقية السنة النبوية ، ومنهجها الاستدلالي . وبعد ذلك حاولت تحديد بعض الخصائص التي تطبع الواقع العالمي الراهن ، مع إعطاء نموذج تحليلي لقدرة المنهج النبوي على حل المأزق العالمي الراهن ، ومحاولة تحديد مفهوم إسلامي للتغيير الحضاري ، بجانب الإشارة إلى بعض الفهوم المزيفة للتغيير.
أما في الفصل الثالث ، فقد أثرت قضية من أهم قضايا الفكر الإسلامي ، وهي المنهج النبوي وقدرته على تركيب حضارة في العصر العالمي ، وهنا تطرق التحليل إلى بعض القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي ، ومنها قوانين التوجيه ، وفلسفة الانطلاق ، والثقافة . كما تم التنبيه إلى منهج الترشيد النبوي للحركة التغييرية ، وإلى محاولة استخراج معالم المنهج النبوي ، وطبيعة الإنسان الذي يريد هذا المنهج تشكيله ، وتقديم نموذج لإنسان الاستخلاف الذي بناه رسول الإسلام صلي الله عليه و سلم. ثم ختمت البحث ببعض الملاحظات المهمة.
لقد تم هذا العمل المتواضع في قسمه الأول ( المقدمات) ، بحول الله وتوفيقه ، وإنني لسعيد جداً أن أشير إلى تلك الجهود التي بذلها أخي الأستاذ مصطفى عبد اللطيف حللي ، في سبيل إنجاز هذا الجهد البسيط ، الذي استفاد كثيراً من نصائح ، وتوجيهات أخي العزيز الدكتور إبراهيم محمد زين ، الذي كان فعلاً مثقفاً مسلماً متميزاً باهتمامه بقضايا الأمة ، حريصاً على مستقبلها ، عاملاً من أجل نهضتها . فقد عرضت عليه فكرة الكتاب في البداية ، فرحب بها ، وأبدى رأيه الذي أقدره كثيراً ، ثم بعد أن أنجزته بحول الله وقوته ، أطلعته عليه مخطوطاً ، فطلب مني أن أقوم بنشره بسرعة . كما سعدت كثيراً بترحيب البروفيسور الدكتور عبد المجيد مكين المفكر السيلاني المسلم بفكرة هذا الكتاب ، حيث أفدت كثيراً من أفكاره ، وتوجيهاته القيمة. فجزى الله سبحانه وتعالى كل من ساهم في إنجاز هذا العمل ، من قريب أو بعيد.
كوالالمبور - ماليزيا
15/ديسمبر 1993م
-=============(9/143)
الإطار العام لدراسة المنهج النبوي أهمية النظر الكلي في قضايا السنة
كما هو معلوم في كل نوع من أنواع المعرفة البشرية ، أن دراسة أي مشكلة من المشكلات ، يقتضي بالضرورة أن يمتلك الباحث رؤية ، أو منظوراً منهجياً ، يتصور من خلاله المسائل ، ويحلل في ضوئه الفرضيات ، والإشكاليات المطروحة على بساط البحث . ودراسة السنة النبوية ، كظاهرة دينية ، واجتماعية متصلة بالواقع الإنساني ، في كل مستوياته ، العقلية ، والنفسية ، والسلوكية ، والعمرانية ، الفردية ، والجماعية ، بحاجة إلى مدخل منهجي ، يتيح للباحث فيها فرصة دراستها بشكل مستوعب ، ينكب به إلى فهمها ، واستخراج قوانينها ، وسننها ، وإدراك منطقيتها ، ومنهجها الاستدلالي ، ونظامها الفكري الذي يتفرع إلى ما هو إلهي ، وإلى ما هو بشري . فالدراسة العلمية للسنة النبوية ، باعتبارها مركباً لحضارة من جهة ، وأثراً من آثار الوحي على أرض الواقع من جهة أخرى ، تستدعي فهماً مستوعباً للمفتاح المدخلي ، الذي يمكن الباحث من دراستها بشكل صحيح ، ومثمر .
أهمية النظر الكلي في قضايا السنة
فكثير من البحوث الإسلامية في هذا الميدان ، وعلى اختلاف لمداخل الدراسة أظهرت أن هناك قصوراً منهجياً في إطار الدراسة ، وأرضيته التحليلية ، يؤدي دائماً إلى تقديم السنة من إحدى زواياها المتعددة دون الأخرى . وهذا ما يجعل عملية التفاعل مع السنة تعاني من (النظرة الجزئية) التي تكتشف أحد أبعادها معزولة عن الأبعاد الأخرى .. فالمتكلم ، والأصولي ، والمحدث ، والمفسر ، والفقيه ، وعالم السيرة ، والتاريخ ، وعالم الاجتماع ، والاقتصادي ، والسياسي ، والعسكري ، والفيلسوف ، والتربوي ، والمفكر .. كل واحد من هؤلاء له منهجه في دراسة السنة النبوية .. فمحاولات الاستفادة منها تتم من زاوية التناول التي تخدم مجال الدراسة .. وكل منهجية تكشف لنا بعداً من أبعاد السنة ، فلو تأتّي لأحد تقديم دراسة تكاملية ، تستفيد من كل هذه المنهجيات ، وتنظر إلى السنة في كل أبعادها ، لقدم لنا منهجاً جديداً ، ومدخلاً متكاملاً ، قد يتيح لنا فرصة فهم السنة ، والإفادة منها في حياتنا العقلية ، والنفسية ، والسلوكية ، والعمرانية..
وسوف لا أزعم في هذه الدراسة ، أنني قادر على تقديم هذا المنهج المتكامل في دراسة السنة النبوية ، لأسباب أذكر منها هنا سببين اثنين هما:
- صعوبة المهمة على الصعيدين المنهجي ، والمعرفي معا . فالمنهجية المتكاملة في دراسة السنة النبوية ، تقتضي سبراً عميقاً للمناهج الجزئية في دراستها ، وهي التي أشرنا إليها قبل قليل .. وكذلك بالنسبة للجانب المعرفي الذي يقتضي إلماماً واعياً بما أنتجه تطبيق المناهج الجزئية من معارف ، وأفكار منثورة في كتب الأمة المتنوعة ، وهذا مما هو متعذر في الوقت الراهن على المؤسسات ، ناهيك عن الأشخاص ..
- أما السبب الثاني فهو راجع إلى منهجية هذا البحث المتواضع ، إذ لا يمكن الحديث عن مثل هذا الطرح قبل وضع إطار منهجي له ، تدرس ضمنه الأفكار ، وتحلل الإشكاليات .
طبيعة الجهد النبوي من الوجهة الحضارية
فمن هنا آثرنا في هذه الدراسة الأولية ، في موضوع (المنهج النبوي والتغيير الحضاري الجديد) ، أن نحاول تحديد مدخل منهجي عام للتعامل مع الظاهرة السنية .
إن دراسة سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم وحركته ، في مدة ثلاثة وعشرين عاماً ، هي في جوهرها دراسة في تشكيل حضارة ، وبناء و أن نموذج حياتي جديد ، يدين : بـ (لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله) . فأقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وشمائله ، وفضائله ، وأخلاقه هي القواعد التي عليها بني المجتمع الإسلامي ، وعضد لبناته . فلم يكتف عليه الصلاة والسلام بوضع مخططات التغيير ، وبرامجه ، ومناهجه ، وكيفياته ، وموجباته ، بل ساهم في البناء حتى وصل به إلى المرحلة التي أكمل فيها (مهمة البلاغ المبين) التي أمره بها الخالق عز وجل . حيث لا يمكن لأي مشكك أو متوهم أن يثير أي شبهة عن كمال هذه المهمة ، وشمولها لكل ما يخص بناء الانسان ، والمجتمع ، والثقافة ، والحضارة التي تدين بالإسلام .
قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )( المائدة : 3) .
ومهمة البلاغ المبين على الصعيد العملي ، هي التي أنتجت الحضارة الإسلامية ، وأدخلت القبائل العربية الجاهلية إلى مرحلة التفاعل مع القضايا الحضارية الكبرى التي كانت تدور على محوري فارس ، وروما . فالمبلغون الأوائل تحت قيادة الرسول صلي الله عليه و سلم هم المؤسسون (لعلم الدعوة الحضارية العالمية) على الصعيدين النظري ، والعملي .. وبطبيعة الحال تكون دراسة الحضارة الإسلامية الأولى هي دراسة في صميم الجهد النبوي ، وفي منهجيته في البلاغ ، والدعوة ، والتغيير الحضاري ، والتي كان من آثارها ذلك العملاق الإسلامي الذي أثرى مسيرة الإنسانية ، وقدم لهما نموذجاً حضارياً فطرياً متوازناً ، ومتطابقاً مع الخطاب الإلهي .. فكانت الحضارة الإسلامية هي (حضارة المصلحة) بخلاف الحضارات التي عاصرتها ، والتي نعاصرها نحن اليوم بعد أربعة عشرة قرناً من الزمان ، أعني (حضارات المصلحية).
فالدارسون لجهد الرسول صلي الله عليه و سلم الثاوي في كل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية ، يجب أن يلاحظوا بأن هذا الجهد كان نتاجاً طبيعياً لتفاعل عناصر أساسية لا يمكن أن نفهمهما إلا في صورة متكاملة ، تقدر قيمة كل عنصر من عملية البناء الحضاري النبوي وهي:
- عنصر الوحي الأعلى (قرآناً وسنة) بما فيه الرؤية ، والمنهاج ، والمشروع الإسلامي.
- وعنصر الواقع الجاهلي ، في معناه الشمولي المتضمن لحضارتي فارس ، والروم.
- والجهد النبوي ، في منهجيته ، ومقاصده ، ووسائله ، وأساليبه.
- وجهد الصحابة ، على اعتبار كونهم الجماعة المؤسسة الأولى.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بشر ، كان يتحرك بالوحي في واقع إنساني ، ومطالب بالتبليغ عن ربه ، وذلك بدعوة الناس إلى الإسلام ، وتشكيل الجماعة الموحدة التي تحمل هم المشروع ، وهم توريثه للأجيال الإسلامية المتعاقبة . فمهمة الرسول صلي الله عليه و سلم تقتضي وعياً على الخطاب الإلهي ، ووعياً على الواقع ، ووعياً على معادلات البشر ، والمجتمعات المعاصرة ، ووعياً على منهج البلاغ المبين ، ووعياً على علوم التوجيه ، والتربية ، والسياسة ، والاجتماع ، والتاريخ والحروب .. ونحن عندما ندرس جهده عليه الصلاة والسلام ، نجد فيه كل هذه التخصصات منظمة في وحدة متكاملة ، ومتناسقة . ففي كل عمل أو قول أو تقرير أو خلق .. تبرز لك الحكمة ، وترى الوعي يتدفق ليروي عقول العلماء العظام الذين أفنوا أعمارهم في التحصيل ، فلا يسعهم أمام هذا الجهد إلا الاعتراف الصادق والحقيقي بعظمته ، وصحته ، وفعاليته ..
==============(9/144)
معالم منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين
إن دعوة الرسول صلي الله عليه و سلم كمبلغ عن ربه سبحانه وتعالى ، دعوة عالمية إنسانية ، موجهة إلى كافة الخلق بخطاب أخلاقي ، وعقلي ، غايته بناء الحضارة التي يكون بمقدورها تحقيق مقاصد الشارع في الخلق ، وتوفير موجبات الاستخلاف للعباد . لقد كان عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس حسب أفهامهم ، ودرجات وعيهم ، وقدراتهم ، وفي كل خطابه راعى الرحمة ، والتيسير على الخلائق ، وحملهم محمل المصلحة ، ورفع الحرج ، ونبذ شرائع الإصر والأغلال ، وإدخالهم في السلم كافة ، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء : 107) . وقال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (يسروا ولا تعسروا بشروا ولا تنفروا ).
وعليه ، فدراسة منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم في البلاغ المبين ، يجب أن تتم على أساس هذا الوعي الغائب ، والجاري على المصلحة.
وإذا كانت منهجية الرسول صلي الله عليه و سلم مستندة إلى قاعدة المصلحة ، واليسير ، والعلم بحاجات الخلق ، وقدراتهم ، ومراعاة أحوالهم في السراء والضراء ، والمنشط والمكره ، فإن فهمها كمنهجية لفعل حضاري توحيدي ، يجب أن يتأسس على هذا الفقه المصلحي . ونحن هنا لكي نفهم المنهجية النبوية لابد أن ندرسها من خلال بعض المداخل المهمة ، والتي منها:
- البعد التوحيدي .
- البعد المقاصدي .
- البعد البلاغي ( الدعوة ) .
- البعد السُنني .
- البعد العقلي ( العملي ) .
- البعد الأخلاقي .
- البعد الزماني .
وفي هذه الدراسة سوف نركز على تحليل بعدين ، مرجئين غيرهما إلى حينه بإذن الله تعالى .
============
أولاً : البعد المقاصدي للمنهج النبوي
الجهد النبوي بأكمله مبني على مراعاة مقاصد الشارع في الخلق ، ونحن في هذا العنصر ، نريد فهم المقاصد كإطار منهجي ، كان سمة الجهد النبوي خصوصاً ، وكضابط حاكم على الحركة الاجتهادية الإسلامية عموماً.
ملاحظة عن النظام المقاصدي:
فقصد الشارع قد انصرف ابتداءاً إلى درء المضرات على الناس ، وجلب المسرات الدنيوية ، والأخروية لهم . فالنظام المقاصدي ركب أصلاً من أجل تحصيل مقصد كلي عظيم ، يفتقر إليه الوجود البشري بفطرته التي فطره الله عليها ، وهو (مقصد الاستخلاف) الذي تنبني عليه كل المقاصد الأخرى ، وتصدر عنه منظومة المصالح البشرية . يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في موافقاته:
(لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات ، والتحسينيات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة ، في أبواب الشريعة ، وأدلتها غير مختصة بمحل ، ولا بباب ، ولا بقاعدة دون قاعدة ، كان النظر الشرعي فيها أيضاً عاماً لا يختص بجزئية دون أخرى ، لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها "....." فإذا وجدنا أن الحفاظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل ، في الضروريات معتبر شرعاً ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة ، حصل لنا القطع بحفظ ذلك وأنه المعتبر حيثما وجدناه).
مقصد الاستخلاف
ففي كلية الاستخلاف التي هي أصل الكليات السابقة ، نجد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، كما نجد مصالح الإنسانية .. فحفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، أمور مطلوبة شرعاً .. ولكن كلية الاستخلاف الكبرى التي بعث الخطاب الإلهي من أجل تحقيقها ، لا تقتصر على القضايا الخمسة المذكورة في معظم كتب الأصول ، ولكنها تتعدى لتنبه إلى قضية أخرى في غاية الأهمية ، وسوف لن تتحقق مصالح العباد على الوجه المطلوب إذا لم تراع . وهذا معناه أن النظام المقاصدي القائم ، يحتمل إضافة كليات ، يمكن أن تكون مما دل الشرع على اعتبارها ، وجاء أصلاً للمحافظة عليها ، وفي هذا يقول ابن تيمية - رحمه الله - عن علماء الأصول المشتغلين بفكرة المقاصد: (... رأوا أن المصلحة نوعان : أخروية ودنيوية ، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس ، وتهذيب الأخلاق ، من الحكم ، وجعلوا الدنيوية : ما تضمن حفظ الدماء ، والأموال ، والفروج ، والعقول ، والدين الظاهر ، وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله، وأحوال القلوب ، وأعمالها : كمحبة الله ، وخشيته ، وإخلاص الدين له ، والتوكل ، والرجاء لرحمته، ودعائه ، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة ، وكذلك فيما شرعه من الوفاء من العهود، وصلة الأرحام ، وحقوق المماليك ، والجيران ، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض ، وغير ذلك مما أمر به ونهى عنه : حفظاً للأحوال السنية ، وتهذيب الأخلاق ، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من مصالح).
إن ملاحظة شيخ الإسلام تبحث في صميم (النظام المقاصدي)، وكأنه يريد أن ينبه على ضرورة إعادة قراءة مقاصد الشريعة ، ومحاولة إدراج أهداف أخرى دل الشرع على اعتبارها ، حيث رأى أنه من الضروري إلحاقها بالكليات السابقة .. وسواء أكان ما اقترحه من مقاصد يمكن أن يشكل كلية جديدة ، تدرج في عداد الكليات الموجودة ، أو كان داخلاً أصلاً في الكليات القائمة ، ولكن الاشتعال بها كان قليلاً فوجب التنبيه عليها ، فإن الأمر الذي يهمنا هنا هو طلب الاجتهاد ، والدعوة إليه في قضية تبدو أنها اكتملت حلقتها .. وحتى الإمام الشاطبي الذي أدار البناء الأصولي بأكمله على مقاصد الشريعة ، ركز على نفس الكليات الموجودة من قبل.
كلية الكون
إننا ونحن نستقبل العصر العالمي بكل ظروفه ، وموجباته ، نلاحظ بأن الإنسانية بحاجة إلى فهم أعمق لمقاصد الشارع في الخلق ، تلك المقاصد التي إذا لم تعتبر في حياة الناس ، فإن ذلك سيفتح عليهم مسالك المضرات ، والمشقات ، والأهواء التي لا تحمد عقباها في الدارين.
ومن بين المقاصد الكلية الضرورية التي دل الشرع على حفظما واعتبارها (مقصد المحافظة على الكون) بمفهومه الواسع ، الذي يشمل على كل ما سخره الله لخلقه من بحار ،و أرض وجبال ، ومعادن ، وطبيعة .. وآيات التسخير في القرآن كثيرة جداً . فما يحصل اليوم في حياة الناس من جراء التفاعل غير الصحيح مع الكون ، وما تعانيه البشرية من تلوثات ، ومجاعات ، وتهديد بنفاد المسخرات الإلهية - حسب البناء الفلسفي للنظرية الاقتصادية المادية - إنما يعبر عن جهل الناس لمقاصد الشارع الحكيم ، التي دلت على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل ، كما دلت على حفظ الكون ، فهذه الكلية الأخيرة تؤدي غرضين في موضوع الاستخلاف:
- التسخير المادي وما يشتمل عليه من خيرات هي قوام العمران البشري ، والبناء الحضاري في جانبه المدني والمعاشي..
- التسخير السنني وما يشتمل عليه من آيات ، وسنن ، وقوانين دالة على أنه الحق تبارك وتعالى .. قال عز وجل : (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت : 53) . فللكون دور أساسي وضروري في هداية الناس إلى الحق تبارك وتعالى . والناس عندما لا يحافظون على الكون ولا يسخرونه كما أمر تبارك وتعالى ، فإنهم سيهلكون ، وما تلوث البيئة الحالي ، الذي يهدد بهلاك النسل ، إلا مظهر من المظاهر الدالة على أزمة عدم المحافظة على كلية الكون ، التي دل الشرع على اعتبارها ، إذ بدون ذلك ستضيع كل مصالح الناس الخاصة بحياتهم المادية ، والمعنوية.
وهناك توجيه نبوي عظيم الدلالة في هذا الميدان ، قل ما يدركه الباحثون وهو قوله ص : (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ).(9/145)
إن مقاصد الشارع في الكتاب ، والكون والأنفس ، وضعت لتحقيق مصالح العباد في الدارين ، وبها سيحصل الاستخلاف الذي وجد البشر من أجله أصلاً ، كما أنها تمثل أصلاً ، منهجاً تغييرياً مستقيماً على الطريقة .
المنهج النبوي كإطار عملي للمقاصد
من استقراء السنة النبوية ، يتضح بجلاء البعد المقاصدي ، في السيرة النبوية ، فكل ما صدر عنه صلي الله عليه و سلم يقع في دوائر التيسير ، والرحمة ، والعدل ، ورفع الآصار والأغلال ، ويهدف إلى حفظ مصالح الخلق المتعلقة بحياتهم الفردية ، والجماعية ، والإنسانية .. وحياتهم المعاشية ، والروحية .. فمنهجية الرسول عليه الصلاة والسلام المضمنة في أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وأخلاقه ، وشمائله ، مصبوغة بالمنطق المقاصدي الهادف.
فكل جهده يجب أن يدرس في إطار مقاصد الشارع .. فاعتماده على منهج التربية ، والتكوين ، والتدريب على الاجتهاد ، والتشاور ، والتفكير ، والتبيين ، والسير في الأرض ، والجهاد ، إنما كانت غايته الأساسية توفير الجو والوسط ، الذي تنمو فيه (العقلية المقاصدية) المتدبرة لخطاب الله ، والتي تسبر أعماق البلاغ الرباني المبين ، وتحمل رسالة القول الثقيل .. حيث كان عليه الصلاة والسلام (مرجعية مقاصدية) توجه الناس إلى الأسرار ، والمقاصد التي حملها التكليف الرباني للخلق.
فعندما نقوم بدراسة سنن نبينا عليه الصلاة والسلام ، وأحاديثه التي حوت أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته ، وسائر أعماله ، علينا أن نلاحظ المسحة المقاصدية ، التي لم تكن علماً صناعياً ينكب فيه عليه الصلاة والسلام مع صحابته الكرام على طاولات البحث ، والدرس ، والتحصيل المدرسي ، بل كانت سلوكاً وروحاً ، تسري في عروق الناس ، وتغذي جنين الحضارة برسالة الإنسان في الأرض ، وتريه حقيقة وجود الكتاب ، والكون ، والناس ، وتبين له أن كل شيء وجد ليحقق مصالح الناس في الدارين.
=============
ثانياً : البعد البلاغي للمنهج النبوي
يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الحكيم : (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) (إبراهيم : 52). (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) (المائدة : 67). (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )( المائدة :92).
المنهج النبوي كإطار تطبيقي للبلاغ المبين
هكذا خطت الفكرة القرآنية طريقها نحو مشروعها الاستخلافي ، وهكذا تقرر المنهج ليكون بلاغياً ودعوياً في أصوله الأولى . فالبلاغ المبين هو طريق البناء الحضاري التوحيدي ، والدعوة البلاغية هي سبيل التحرك الإسلامي المبين في التاريخ.
فالمبلغ الذي يحمل همّ الدعوة الحضارية العالمية ، التي تنبثق في أصولها ، ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي ، مطالب بالفقه العميق لمنهاج الهداية الحضارية ، ومنهج الإصلاح الإنساني ، ومنهجية التغيير الثقافي . وهنا تظهر أهمية سنة الرسول ص في تقديم الوعي المستوعب ، على هذه القضايا المتعلقة أصلاً بالمنطق العملي للبلاغ المبين ، وصياغته التطبيقية ، كيما يتحول إلى قوة تنفيذية للنظرية الحضارية الإسلامية ، ومحاولة تحويلها إلى مواقف سلوكية يومية تدخل في توجيه حياة الناس العامة والخاصة ، الأخلاقية والمادية ، العقلية والنفسية ، الفكرية والاجتماعية ، الأدبية والعمرانية.
فالمنهج النبوي لا يقدم فقط الإطار المرجعي للسلوك البلاغي الدعوي ، والمنهاج التوجيهي للفعل الإصلاحي ، والترشيدي ، بل يقدم بالإضافة إلى ذلك البناء العملي لهذه الأفكار النظرية . فالسنة أصلاً موقف عملي منهجي منظم ،دخل في اطراد بناء المجتمع الإسلامي الأول ، وترك للأجيال الإسلامية معيار البناء الحضاري الخاضع لتعاليم الوحي ، والمنضبط بتوجيهاته ، فالباحث في السنة باحث أيضاً في الأصول التطبيقية للحضارة الإسلامية ، وفي المناهج السلوكية ، التي حولت الفكر النظري إلى سياسة عملية.
ومن هذا التأسيس نكون أمام مطلب جوهري في التعامل مع السنة النبوية ، وهو إلزامية كشف ، وفهم البعد البلاغي والدعوى للخطاب الإسلامي ، الذي أودعت فيه جهود النبي عليه الصلاة والسلام ، روح المنهج البلاغي الإسلامي ، وبينت قواعده ، وخصائصه ، ومضامينه ، ومناهجه.
فالرسول صلي الله عليه و سلم كان مبلغاً ، ومعلماً ، ومصلحاً ، وداعياً ، وشاهداً ، ومبشراً ، ومنذراً ، وهادياً ، يعتمد في خطابه على (الحكمة والموعظة الحسنة) ، تماماً كما دلت النصوص القرآنية والحديثية في مثل قوله تعالى :(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل : 125). (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )(يوسف:108) .
لقد كان يخاطب النفوس ، والعقول بما تطيقه ، خبيراً بالواقع ، عالماً بأحوال المخاطبين ، مدركاً لثقافتهم وتاريخهم ، عارفاً بمداخل استجابتهم ، مستوعباً لمناهج مجادلتهم ، واعياً على قدراتهم ، وإمكاناتهم ، واستعداداتهم ، وآمالهم , وآلامهم .
معادلة البلاغ المبين
لكي ندرك بوعي ، نظرية البلاغ المبين ، كما تتصورها المذهبية التوحيدية ، نحتاج إلى التعرف على أمرين اثنين هما:
1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه .
2 - محاور البلاغ المبين .
1 - مفهوم البلاغ المبين وشروطه:
فهم نظرية البلاغ المبين ، كما يطرحها النموذج الحضاري الإسلامي ، يستدعي عرضها على ميزان خطاب الله سبحانه وتعالى ، ففلسفة هذا البلاغ ومناهجه ، ووسائله ، وغاياته ، ومقاصده ، تتحدد بالفلسفة القرآنية المتعلقة بقضايا الحياة ، والكون ، والإنسان ، وصيرورة الوجود الدنيوي عموماً . وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول : بأن وظيفة البلاغ المبين ، هي : تمكين الأمة من إنجاز رسالة الشهادة على الخلق ، وتحقيق مسؤولية الأمة الوسط ، وإقامة الحجة الدامغة على الناس ، وتبيين أنه الحق تبارك وتعالى ، وتحقيق تبعات هذه المسؤولية على صعيد:
- العبادة الحقة لله سبحانه وتعالى .
- الإعمار الكوني .
- التسخير السنني .
- الإنقاذ الحضاري للبشر .
- التعارف الثقافي بين الأمم والشعوب .
وعليه ، فالبلاغ المبين هو جميع الجهود الإسلامية المخلصة لله سبحانه وتعالى ، والمتوافقه مع الهدي النبوي، و الهادف إلى توفير وتحصيل مقاصد الشارع في الخلق ، عن طريق العرض المنهجي للإسلام في شموليته ، وتكامله كنظام حياتي ، مستوعب لسعادتي الدنيا والآخرة ، وتثقيف الناس على مذهبيته ورسالته ومشروعه ، والسعي إلى بنائه ، الواقعي بالوسائل المشروعة والمتماشية مع ظروف الواقع الإنساني المتغير في الزمان والمكان.
ومن هنا ، ولكي نحقق بلاغاً مبينا وهادياً في مستوى التحدي العالمي الذي تستدعيه مسيرة البشرية ، وتطوراتها العقلية والثقافية ، والمنهجية ، والحضارية ، علينا أن نحقق بعض الشروط الأساسية ، والتي منها :
- الفهم العميق لخطاب الله سبحانه وتعالى ، في مذهبيته التوحيدية ، ورسالته الاستخلافية ، ومشروعه الاجتماعي . وتعد هذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسميها:(مرحلة فهم الخطاب الإلهي) .(9/146)
- الفهم العميق لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وفلسفته في البلاغ المبين ، ومنهاجه في الهداية ، ومنهجيته في تطبيق الإسلام ، وبنائه واقعياً ، وتعتبر كذلك هذه الغاية ، مرحلة من مراحل البلاغ المبين نسمها:( مرحلة فهم النموذج التطبيقي للإسلام) .
- الفهم المستوعب للسنن الإلهية التكوينية ، والتاريخية ، التي تتحكم في البلاغ المبين ، وفي بناء الدعوات الحضارية ، وتعتبر كذلك هذه الغاية مرحلة من مراحل البلاغ المبين ونسميها:(مرحلة السير في الأرض ، والوعي السنني).
- الفهم العميق لطبائع المراحل الحضارية التي مرت ، وتمر بها البشرية ، بغرض فهم صيرورتها فوق الكوكب الأرضي ، ونسمي هذه المرحلة من مراحل البلاغ المبين: (مرحلة فقه العمر الحضاري للإنسانية ) .
- الفهم المستوعب للواقع المحلي ، والعالمي ، في تركيبه ، وبنائه ، وتاريخه ، ونسمي هذه المرحلة البلاغية : (بمرحلة فهم الواقع القائم ، والخبرة التاريخية ، والمستقبل المنشود للبشرية ).
- الفهم العميق لمنهاج بناء البلاغ المبين في الواقع الحياتي للناس ، وتعد هذه المرحلة البلاغية مرحلة تطبيقية تنتج عن الوعي المتحصل من فهم المراحل السابقة ، ومحاولة استخدامها في مشروع اجتماعي عملي ، ونسميها (مرحلة البناء الحضاري).
2 - محاور نظرية البلاغ المبين:
فإذا أدركنا بأن مفهوم البلاغ المبين مستوعب لرسالة حضارية جماعية ، واستشعرنا صعوبة تحقيق شروطها ، وضخامة المهمة الملقاة على عواتقنا كأبناء أمة إسلامية رسالية ، وجب علينا أن نفهم المحاور النظرية ، والتطبيقية لنظرية البلاغ المبين.
فلكي نؤدي وظيفية البلاغ المبين ، علينا أن نعي فلسفة هذا البلاغ ، ومناهجه ، وعلاقته بالعلوم النفسية، والاجتماعية ، والثقافية ، والعلوم الشرعية من جهة ، والعلوم السياسية ، والاقتصادية ، والتربوية، والوسائلية، و الإعلامية والجغرافية ، والتكنولوجية ، والصناعية ، والعلوم الطبيعية ، والكونية ( الآفاقية ) من جهة ثانية.
إن الصلة وثيقة جداً بين هذه العلوم ، ونظرية البلاغ الاسلامي المبين ، على اعتبار أنه - البلاغ - الغاية القصوى لكل هذه العلوم ، فكل علم إسلامي نقلي أو عقلي ، مطالب شرعاً بأن يقصد في غايته ، المساهمة في البلاغ المبين ، إذ هذه العلوم تبقى فاعلة وعملية، إذا نزلت إلى ساحات البلاغ التي تقدم فيها الهداية الإسلامية للبشرية في كل المجالات الحياتية ، ونحن في هذه الدراسة الأولية سوف لا نتتبع هذه الصلات الموجودة بين البلاغ المبين ، والعلوم المختلفة ، لأسباب منهجية ، وموضوعية خاصة بوحدة الموضوع ، ولكننا سنقتصر على ذكر ملاحظات عن المحور الفلسفي ، والتاريخي ، والواقعي (المنهجي) للبلاغ المبين كما عرضته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مرجئين المحور السياسي ، والاقتصادي ، والثقافي ، والتربوي ، والمعرفي إلى حينه إن شاء الله .
أ - المحور الفلسفي للبلاغ المبين:
وأعني به فلسفة هذا البلاغ ، ومضامينه التصورية الكبرى ، وعلاقاته المنهجية الأساسية ، فالمبّلغ الإسلامي عن الله سبحانه وتعالى ، مطالب بأن يفهم بأن الإصلاح ، والترشيد ، والهداية ، والدعوة ، والتعليم ، كما تطرحه نظرية الإسلام الحضارية ، تقتضي الوعي على مراتب ، ومستويات ، ومضامين العلاقات الدعوية ، القائمة في نظرية البلاغ المبين . فلكي يكون هناك بلاغ مبين ، كما تطرحه الفلسفة التغييرية القرآنية ، علينا أن ندرك بعمق العلاقات المترتبة عن العناصر التالية:
- علاقة الإنسان المستخلف بالخالق سبحانه وتعالى ، الذي خلق الإنسان ، والكون ، والحياة .. ولهذه العلاقة مراتب يجب وعيها هي : مرتبة التكليف ، ومرتبة التوحيد ، ومرتبة العبودية ، ومرتبة المقاصد ، ومرتبة الاستخلاف ..
- علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في مراتبها التالية : مرتبة الاجتماع ، ومرتبة الأمة ، ومرتبة الرسالة ، ومرتبة الثقافة ، ومرتبة الحضارة ، ومرتبة التاريخ ..
- علاقة الإنسان بالكون في مراتبها التالية : مرتبة التسخير ، ومرتبة الإعمار ، ومرتبة كشف الآيات ، ومرتبة استخدام السنن ، ومرتبة المؤاخاة بين الإنسان والكون ..
- علاقة الإنسان بالحياة في مراتبها التالية : مرتبة فهم الزمن ، ومرتبة فهم المتاع ، والعرض الدنيوي ، ومرتبة فهم لحظات العبور ، أو كما أثر عن الإمام علي كرم الله وجهه: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
فمن هذه العلاقات الأساسية ، تنبني نظرية البلاغ الإسلامي ، وتتوحد العلوم لأداء رسالة تبيين أنه الحق تبارك وتعالى ، فلكي نقدم بلاغاً إسلامياً تبشيرياً ، وتعليمياً هادياً ، علينا أن نفهم بعمق هذه العلاقات المتناغمة بين عناصر نظرية البلاغ الإسلامي المبين : الخالق تبارك وتعالى ، والإنسان ، والكون ، والحياة.
ب - المحور التاريخي للبلاغ المبين:
نعني بالمحور التاريخي للبلاغ المبين : مراعاة تاريخ الأمم ، والشعوب ، ومعرفة ثقافتهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم ، وذلك عندما نبدأ في ممارسة العمل الدعوي ، حتى نخاطب الناس من خلال المداخل الطبيعية لاستجاباتهم . والرسول صلى الله عليه وسلم كان خبيراً بتاريخ المجتمعات التي كان يمارس عليها الدعوة ، والبلاغ المبين ، ومن أمثلة هذا الوعي قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين اضطهدوا ، آمراً لهم بالهجرة إلى الحبشة: (إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض الصدق ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ). فهذا الوعي التاريخي بشخصية هذا الملك ، وعدله ، وبالأرض وخاصيتها ، إنما يعبر عن إدراك صلى الله عليه وسلم لأهمية المحور التاريخي في البلاغ المبين . والوعي التاريخي متحصل من السير في الأرض ، والنظر في سنن الأولين ، وفي آيات الله في الآفاق والأنفس.(9/147)
يقول الأستاذ جودت سعيد: (ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يستخدم آيات الآفاق والأنفس ، ليحل المشكلة خارج النصوص . ولا مانع من التذكير بالحديث الذي أكرره كثيراً لما له من الدلالة ، والأهمية في هذا الموضوع ، موضوع آيات الآفاق ، والأنفس .. ذلك الحديث الذي يترك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بسلطانه النبوي ، وسلطان ما أوحي إليه ، ليتخذ من آيات الآفاق والأنفس دليلاً ، وحجة لبيان موضوع معين ، وقع الجدال فيه مع صاحبه زياد بن لبيد: ( ذكر ابن كثير في تفسير سورة المائدة الآية 63 ، وصححه عن الإمام أحمد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: (وذاك عند ذهاب العلم ) ، قلنا يا رسول الله : كيف يذهب العلم ؟ ونحن نقرأ القرآن ، ونقرئه أبناءنا .. وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة . أليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة ، والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ؟! ) .. هنا يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آيات الآفاق والأنفس ليحسم النزاع ، والجدال في آيات الكتاب ، وإن آيات الكتاب قد تكف عن أدائها دور العلم ، في ظروف معينة ، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا يستشهد بحدث تاريخي واقع أمام العالم جميعاً ، لا يمكن أن ينكره أحد . وهذه القوة لآيات الأفاق والأنفس ، أشرنا إليها قريباً حين قلنا : إن دلالتها عالمية ، وفوق الأيديولوجيات ، ولم يحاول هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : أنا رسول الله ولا أنطق عن الهوى ، وعليك أن تسلم بما أقول ، ولا تجادل فيه . إن هذه الحادثة ، والحوار العجيب الذي دار في مطلع الحياة الإسلامية ، لعميق الدلالة ، وسوف لا يكف عن عطاء ما يحتويه من منهج لا يزال يتألق على مر العصور في أهمية الوقائع في الآفاق والأنفس . وهذا ما أردنا أن نضعه أمام الشباب المسلم ليتأملوا فيه ، ليس كحدث جزئي ، وإنما كمنهج).
إننا حقاً لا نستطيع إدراك جهود الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا نظرنا إليها كمناهج متكاملة ، وتأملناها كوسائل فاعلة في بناء الحياة الإسلامية .
ج - المحور الواقعي للبلاغ المبين:
إن الطبيعة البلاغية ، والدعوية للرسالة الإسلامية هي التي استدعت الوعي على أحوال الخلق ، وطبائعهم ، واستعداداتهم ، وميولهم ، وقدراتهم وذلك بغرض مخاطبتهم بما يطيقون من غير إكراه ، ولا تعسف . ومعنى المحور الواقعي للبلاغ المبين هو إدراك معادلات الناس الفردية ، والاجتماعية ، ومخاطبتهم حسب ظروفهم ، ومشاغلهم ، واكتساب مفاتيح التعامل مع أوضاعهم كما هي في الواقع المعيش. والنبي عليه الصلاة والسلام ، خبير بهذا الجانب من جوانب البلاغ المبين ، عارف لأسراره ، وخباياه ، ومناهجه ، ووسائله ، وليس أدل على هذا ، تتبع منهج النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الأفراد والجماعات .
يقول الإمام الشاطبي مقعّداً لقانون دعوي منهجي ، مستخلص من الفقه النبوي: (النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه ، بحسب وقت دون وقت ، وحال دون حال ، وشخص دون شخص ، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال على وزن واحد .. فصاحب هذا التحقيق الخاص ، رزق نوراً يعرف به النفوس ، ومراميها ، وتفاوت إدراكها ، وقوة تحملها للتكاليف ، وصبرها على حمل أعبائها ، أو ضعفها ، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها . فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ، ما يليق بها ، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف).
فهذه قاعدة من قواعد التعاطي مع المنهج البلاغي النبوي ، الثاوي في سنته صلى الله عليه وسلم وهذه جملة من النماذج الواقعية لهذه المنهجية.
فمن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال ، وخير الأعمال ، وعرف بذلك بعض أوقات من غير سؤال ، فأجاب بأجوبة مختلفة ، كل واحد منها ، لو حمل على إطلاقه ، أو عمومه ، لاقتضى مع غيره التضاد والتفضيل .
ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام(سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله . قال : ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله . قال : ثم ماذا ؟ قال حج مبرور ).. (وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لوقتها . قال : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين . قال : ثم أي ؟ قال : جهاد في سبيل الله ).
وفي النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت النبي ص فقلت مرني بأمر آخذه عنك . قال: (عليك بصوم فإنه لا مثيل له ). وفي الصحيح في قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. إلخ . قال : ولم يأتي أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ) . وفي الترمذي: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء )(5) .
وفي البزار: (أي الدعاء أفضل ؟ قال : دعاء المرء لنفسه ). وفي الترمذي: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ).
وفي البزار: ( يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت ، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما ).
وفي مسلم : (أي المسلمين خير ؟ قال : ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ).. وفيه : ( أي الإسلام خير؟) قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ).. وفي الصحيح : (وما أعطي أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر ) .. وفي البخاري :(خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
ومن الضوابط الدعوية أن يخاطب الناس بما يفهمون ، فقد روي عن علي رضي الله عنه ، قوله: (حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يُكّذب الله ورسوله ).
ويضيف الإمام الشاطبي ضابطاً آخر في عالم البلاغ المبين ، محاولاً تحديد منهجية للتعامل مع العقول، والأذهان ، والوقائع ، والأزمان ، حسب ما تتطلبه منهجية الدعوة في المنهاج الإسلامي قائلاً: (وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة ، فإن صحت في ميزانها ، فانظر في حال مآلها بالنسبة لحال الزمان وأهله ، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة ، فاعرضها في ذهنك على العقول ، فإن قبلت .
============
دروس من الفقه النبوي
والذي يتعمق في دراسة الجانب التطبيقي للإسلام ، من خلال السيرة النبوية الشريفة ، يرى كيف وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مواجهة مشكلات المجتمع الجاهلي ، وكيف كان يتعامل مع النفوس البشرية المتباينة : فكراً ، ومزاجاً ومكانة . وكيف كان يتدرج بها من مرحلة إلى مرحلة ، بصبر وأناة ، وحكمة ، حتى نقلها من الجاهلية إلى الإسلام.
لقد كان من أبرز خصائص ، وسمات المنهج النبوي: (التغيير المتدرج حسب الأولويات) كما أفصحت عن ذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهي تصف منهجية التغيير الإسلامي ، التي كانت وراء نجاح الدعوة الإسلامية : (إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ، ولو كان أول شيء لا تشربوا الخمر ، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا ، لقالوا لا ندع الزنا أبداً ) (رواه البخاري).(9/148)
والمسلم اليوم عندما يتأمل عمل النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والحركة ، يجد أن من بين أهم المفاتيح التي فتح بها مغاليق النفس البشرية ، وغير بها أوضاع الحياة الاجتماعية : (قدرته الفائقة على فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية التي يخضع لها الناس ، والتعامل معها على ضوء ذلك الفهم الشمولي العميق) الذي كان خير معين له على طرح الحلول الجذرية ، للمشكلات الإنسانية ، النفسية ، والاجتماعية ، الفردية ، والجماعية.
ولقد أعانه على امتلاك تلك القدرة في فهم النفوس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية ، وإدراك المؤثرات النفسية ، والبيئية أمران أساسيان هما:
- الوحي الأعلى.
- والاستعداد الذاتي.
فالوحي الأعلى كان يطلعه به الله سبحانه وتعالى سواء عن طريق جبريل عليه الصلاة والسلام مباشرة ، أو عن طريق الإلهام في بعض الأحيان عندما تقصر وسائله الخاصة ، في التحري ، والتدقيق ، ويبدو أن أمراً مهماً سيفوته ، أو خطراً كبيراً سيلحقه ، كما في تآمر بني النضير على قتله .. وكما في قصة حاطب بن أبي بلتعه .. وكما في قصة فضاله الذي جاء يريد قلته ، وغيرها من الوقائع التي يعلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي ، فيأخذ حذره منها ، ويحتاط لها.
والاستعداد الذاتي: حيث كان عليه الصلاة والسلام يهتم بمعرفة كل صغيرة وكبيرة في المجتمع ، الذي يكون فيه ، ويكلف أصحابه بإبلاغه ما يصلهم من معلومات وأخبار عن أحوال الناس ، وأوضاع المجتمع.
قال القاضي عياض فيما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: (.. فيتشاغل بهم - أي الناس - ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة ، ومن مسألته ، عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : (ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته .. يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس) .
(ويرسل رجاله المقتدرين إلى الجهات التي يريد معرفة حالها ، فيأتونه بالأخبار التي يستعين بها على رسم خططه ، وانفاذ أمره). ومواجهة أعباء ومسؤوليات الدعوة ، والحدب عليها ، حتى لا يلحقها الأذى.
فخبرته صلى الله عليه وسلم بالنفوس والأوضاع البشرية ، وحرصه على متابعة مجريات الأحداث ، والإشراف عليها ولو من بعيد ، ساعده كثيراً في ضمان قدر هائل من الفاعلية في حركته ، لأنها كانت (تتم في الوقت المناسب ، وبالكيفية المناسبة) . فلم يكن تستفزه الأحداث ، وتضطره إلى المغامرة - رغم كثرتها وإلحاحها - بل كان يتحرك بخطى مدروسة ، يستلهم فيها واقع الأفراد والمجتمع والدعوة ، وكما تجمعت لديه معطياته عن طريق الوحي الأعلى ، والتحرك الذاتي
============
المنهج النبوي والتغيير في العصر العالمي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري:
إن الجهد الرائع ، الذي بذله العقل المسلم ، في ميدان مواجهة خصوم المنهج النبوي ، قديماً وحديثاً ، قد أتى أكله بحول الله وقوته ، أضعافاً مضاعفة ، لما كان متوقعاً ، وهذا فضل من الواحد القهار سبحانه وتعالى . فقد خرجت السنة النبوية منتصرة من صراع مرير ، خاضته ضد الهوى ، الذي انغرس في نفوس المغرضين ، والمناوئين ، الذين ما تركوا سبيلاً إلا وسلكوه لمحاربتها ، ومحاولة النيل منها . فكان الصراع محتدماً على كل الأصعدة : صعيد المنهج والمعرفة ، وصعيد مضمون السنة وحملتها ، وصعيد فهمها وتطبيقها.
فلم تكن المعركة السُنية - إن صح التعبير - سهلة ، وبسيطة ،بل كانت شرسة ومعقدة ، وليس أدل على هذا ، من ذلك الكم الهائل من الأفكار ، والكتابات ، التي ظهرت في هذا الحقل المعرفي الإسلامي.
لقد خاضت السنة تجربتها الأولى في حضور نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ، لا لتترك لنا فقط أحاديثاً وسنناً روّي بها رسولنا عقول الناس ، بياناً وعلماً وهدياً ، ولكن لتخلف لنا أثراً عظيماً من آثار الإسلام ، وهو تنزيل القرآن إلى أرض الواقع ، وتحويله إلى ثقافة اجتماعية أخلاقية وروحية ، وسلوكية ، وعمرانية . والعجيب حقاً أن تتم عملية التنزيل ، في ظرف زمني وجيز ، امتد إلى حوالي ثلاثة وعشرين عاماً ، وهي حياة الرسول صلي الله عليه و سلم بعد البعثة.
ثم خاضت السنة معركتها الثانية في وجود الصحابة الكرام ، والتابعين الأبرار ، وتابعي التابعين الأخيار ، لتترك لنا تراثاً معرفياً سنياً ، وحديثياً ، ظهرت من خلاله عبقرية العقل المسلم الاجتهادية ، والمنهجية ، والعقلية ، فنشأت بذلك علوم رائعة ، ومناهج كفأة في هذا الحقل المعرفي الإسلامي ( علوم السنة ) .. وبعد هذا الزمن الطيب في حياة السنة النبوية ، توالت العهود ، ودخلت أمتنا العزيزة في مراحل الضعف والتخلف ، ليس عن ركب الحضارة كما يقولون ، ولكن عن مستوى القرآن والسنة ، فحدث لها ما هو معلوم من واقعنا بالضرورة .
دعونا نقول بأن السنة النبوية في تطورها التاريخي مرت بقراءتين:
- القراءة النبوية ، وتمتاز بأنها كانت سلوكاً ، وقيماً ، وأخلاقاً ، وواقعاً مجسداً وقرآنا ، يمشي داخل مؤسسات المجتمع وثقافته . ويمكن تسميتها (بالقراءة عن طريق الوحي) ، فقد كانت أقوالاً ، وأفعالاً ، وتقريرات كما يعبر عن ذلك علماء الأصول ، ولكنها محكومة بمرجعية الوحي ، ومعياريته.
- القراءة البشرية العلمائية : وأعني بها قراءة الصحابة ، والتابعين وتابعي التابعين ، وتابعيهم بإحسان ، وتمتاز بأنها معرفية وعلمية ، أي أنها اشتغلت بالجانب النظري ، والاستدلالي ، والبناء الفكري للسنة ، وصبها في كتابات ، ومؤلفات مثل الموطآت ، والمسانيد ، والصحاح ، والمدونات ، .. الخ أخذاً بعين الاعتبار الجانب المنهجي منها ، وما أنتجته العملية التدوينية من مناهج ، وعلوم مثل علم مصطلح الحديث ، وعلم الجرح والتعديل ، وعلم العلل والرجال ، بالإضافة إلى استخدام مناهج التاريخ ، ومناهج السير في الأرض.
وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري:
ما هي وظيفة السنة النبوية في البناء الحضاري الحديث؟
يبدو والله أعلم أن هذا السؤال من أخطر الأسئلة التي تواجه حركة البناء الحضاري الحديثة لأسباب منها :
- أن عملية البناء الحضاري المقصودة هنا ، هي التي تدور في إطار المرجعية الإسلامية . وهذه الأخيرة تنبني على الوحي الأعلى - قرآناً وسنة - ولهذا فمن اللازم ابتداء أن يتفاعل العقل المسلم ، مع هذا الإطار المرجعي الأم ، الذي بدونه تصبح عملية البناء الحضاري ، لا علاقة لها بالمجتمع الإسلامي ، وبالثقافة التوحيدية.
- إن عملية التعامل مع الوحي ، تتم عن طريق مفتاح السنة النبوية المطهرة ، فبالإضافة إلى كون السنة وحياً مبيناً للقرآن ، وموضحاً له ، وكاشفاً لأسراره ، وسننه ، وخيراته ، وأحكامه ، فهي كذلك مدخل مفتاحي ، لتحقيق الوعي على القرآن ، وبدونها يتعذر التعامل الحقيقي ، والصحيح معه.(9/149)
فالتلازم بين البناء الحضاري ، والسنة النبوية المطهرة ، على جميع المستويات تلازم ابتدائي ، بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن البناء الحضاري ، وإحداث تغيير اجتماعي ، في واقع الناس النفسي ، والاجتماعي ، بمعزل عن السنة النبوية المطهرة ، فهي الأساس الذي لا يمكن أن تقوم بدونه عملية تغييرية ، تنتمي إلى الثقافة التوحيدية . كما أن الحديث عن السنة النبوية سيبقى نظرياً ، وجذبياً فردياً ما لم يتحول إلى قوة داينامية ، تحرك طاقات المجتمع ، وتوجهها لممارسة عمليات البناء الحضاري ، من أجل تحقيق مقاصد حددها المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم ، ووضحتها السنة النبوية المطهرة ، في ثنايا توجيهاتها ، وسننها المضطردة.
=============
من سنن البناء الحضاري
فالاقتضاء الابتدائي في التركيب الإلهي للدعوة العالمية الإسلامية ، وللرسالة النبوية الخاتمة ، استدعى التلازم المطلق ، بين السنة النبوية المطهرة ، والقرآن الكريم، من جهة ، واستوجب التلازم المطلق ، كذلك بين السنة النبوية ، والبناء الحضاري ، الذي غايته القصوى هي تحقيق مقاصد الشارع في الخلق من جهة أخرى ، (الاستخلاف والمحافظة على الكون) . ومن هنا كانت رسالة الرسول صلي الله عليه و سلم (السنة) مؤلفة بين بنائية القرآن الكريم ، وغاية الخلق الكلية (كل البشر) ، على المستوى النظري ، ومُفاعلة بين وظيفة القرآن ورسالته ، وبين البناء الاجتماعي للحياة الإنسانية ، وواقعات الوجود البشري على المستوى العملي .. أعني أن السنة تؤدي دورين:
الأول : على الصعيد المفاهيمي الذي يساهم في توضيح ، وكشف المرجعية الكبرى للناس ، من خلال رؤية الوحي : للكون والحياة والإنسان.
والثاني: عملي توجيهي ، يتمثل في ربط الحياة الإنسانية ، والوقائع البشرية ، بالأصل المرجعي ، الذي هو (النظام التوحيدي) الكامل الشامل ، الذي ختم على يد سيدنا محمد صلي الله عليه و سلم .
فالسنة هي (الموحد) الواقعي بين خطاب الشارع الحكيم ، ومقاصده ، وبين حاجات الخلق ، ورغباتهم في الهدى ، وتحقيق مصالحهم (البناء الحضاري) ، ومظهر هذا التوحيد والمفاعلة بين (الوحي) و(الخلق) في إطار العلاقة الموجودة بينهما (الاستخلاف) هو الحضارة الإسلامية ، التي بناها الرسول صلي الله عليه و سلم ، وواصلتها أمته إلى ما شاء الله من الزمن ، قبل أن تتطلب الظروف حديثاً جديدا عن بناء حضاري جديد . ولهذا فالحديث عن البناء الجديد ، يقتضي بالضرورة المطلقة الحديث عن الموحد الأول ، والمنشيء الأول للتجربة الحضارية الإسلامية ، أعني (السنة النبوية المطهرة) كناظم ، وضابط لحركة البناء الحضاري ، من أجل تحقيق مقاصد الشريعة في الخلق ، وإحداث التوازن الاجتماعي من جديد في الواقع الإنساني المعضل..
المنهج النبوي والعصر العالمي
فإذا كانت هذه هي رسالة السنة النبوية المطهرة ، فكيف تقوم بهذه الوظيفة في ظل العصر العالمي المعيش؟
فعندما نطرح فكرة العصر العالمي ، فإنما نعني بها مجمل التطورات العقلية ، والنمهجية ، والروحية ، والسلوكية ، التي ساهمت في نقل البشر من مرحلة تاريخية حضارية سابقة ، إلى مرحلة حضارية جديدة ، والتي فرضت على البشر الدخول إلى العصر العالمي ، بكل ما فيه من تطور صناعي ، وتكنولوجي ، وثقافي ، وأخلاقي ، ومنهجي ، وبكل ما فيه من مشكلات خطيرة على الصعيد المفاهيمي ، والمناهجي ، والمعرفي ، والتي ستؤثر في صيرورة البشرية فوق الكوكب الأرضي . ولهذا تظهر حتمية ، وإلزامية التفكير في احتمالات الاستحالة على الصعيد الاجتماعي ، والحضاري ، وما سينجم عن ذلك من مواقف إنسانية ، قد تضع البشر جميعاً في لحظة حرجة من تطورهم في (نقطة الاختيار الكلي) الذي لا يحتمل إلا وجهتين : إما سلامة البشرية ، ونموها باتجاه الحق تبارك وتعالى ، أو انهيارها ، وتماديها على طريق الغي ، والظلم ، والصلف الذي سيؤدي إلى انتقام السنن الإلهية حتماً
================
خصائص الواقع العالمي الراهن
من اللازم منهجياً في هذا العمل أن نقوم بمحاولة لتحديد خصائص الواقع العالمي الراهن ، الذي يفترض أن تقوم فيه السنة النبوية بعملية توجيه كبرى ، بهدف تحقيق تغيير حضاري أصيل ، يساهم في إنجاز البناء الحضاري المنشود للبشرية كافة.
فمن الضروري أن نقوم بتحديد خصائص (الواقع العالمي المعاصر) في شقيه الإسلامي ، وغير الإسلامي ، لأن العجز عن القيام بهذا العمل سوف يؤثر في طبيعة الأفكار التي نريد إيصالها من خلال هذا الجهد المتواضع . فالربط المنهجي بين الرؤية التغييرية الإسلامية ، ومنهجيتها في التوجيه ، وبين الوعي على الواقع العالمي الراهن ، أمر أساس وحاسم في نجاح الجهود الراهنة في حقل البناء الحضاري ، بمعنى أنه سوف يكون من العسير علينا فهم (السنة النبوية ، كمركب حضاري) والوصول إلى كشف نظامها الفكري ، والتوجيهي لحركة المجتمع ، دون إدراك موضوعي ، لطبيعة العصر ، وخصائصه . فهذا الوعي على الواقع هو الذي سنؤسس عليه منهجنا الأدائي المتصل بحياة الناس ، التي يراد تنزيل الشرع الإلهي عليها . وأخذها بالخطاب الرباني ، الذي جاء ليحقق مصالح البشر في الدارين.
فوعي الواقع القائم شرط من شروط توجيهه ، والتأثير في حركته ، بما يتوافق وعقيدة المجتمع.
إننا لا نهدف هنا إلى بحث مفهوم الواقع المعاصر من الوجهة اللغوية ، ولا المصطلحية ، التي تشتغل بالمعنى الساكن للمفاهيم ، ولكن سنحاول تحديد مضمون هذا الواقع ، وخصائصه الملازمة له من وجهة نظر من يريد أن ينجز مشروعاً حضارياً في حقل اجتماعي ، وثقافي مترامي الأطراف ( كالأمة الإسلامية مثلاً) .
ملاحظة عن فهم الواقع:
عندما يعاني الإنسان مأزق تنزيل الأفكار إلى أرض الواقع في ظل وسط بشري معضل ، يحس ساعتها بقيمة وعي الواقع ، كشرط من شروط التنزيل الأساسية . فمراعاة واقع الناس لازمة من لوازم التطبيق الأحسن للشريعة الإسلامية ، وقانون من قوانين البناء الحضاري المستقيم ، وسنة من سنن الله في خلقه ، من أخل بها فقد أخل بمصالح العباد ، التي جاءت الشريعة لتثبتها ، وتوضحها ، وتحافظ عليها ، مع مراعاة ظاهرة تغير الواقع في الزمان والمكان ، وهذا ما يتطلب الوعي المستمرعليه.
ففي دراسة أي واقع ، يجب أن نؤكد على أن هناك أموراً إيجابية ، يمكن الاستفادة منها في واقعها الأصلي ، ومنها ما هو سلبي ، يجب التخلص منه ، وتغييره بما يتناسب والعيش في ظل النموذج الحياتي الإسلامي. والأمور السلبية والإيجابية، قد تختلط على الناس ، فيصبح الزبد في مقام ما ينفع الناس ، ويتحول في أذهانهم ما ينفعهم إلى زبد ، يجب استئصاله ، وتكثر اضراب هذه المشكلات عندما يصاب المجتمع بفقر الفهم ، والوعي ، والإبداع . وفي هذه المراحل التاريخية ، تختل موازين العمل ، ومقاييس الجهد النافع ، ويصبح التزييف والعبث ، واللهو من التجارات الرابحة في حياة الخلق . فكم من خير عميم توارى تحت نظارة سياسي جاهل ، أو صاحب عمامة متمشيخ ، أو دكتور صنعته الشهادة ، أو داعية مصاب بالشذوذ الفكري ، أو رجل يسعى إلى بناء مجده على حساب المستضعفين في الأرض.(9/150)
فكل إنسان من الناس له نظارة يتصور بها الأشياء ، ويقوم بها الأمور ، فالعلماء والرعاة ، والرعية من أصحاب النظارات ، ولكن النظارات في أوساط العلماء كثيرة ، ومتنوعة .. ونفس الشيء في أوساط الرعاة ، وكذا في أوساط الجماهير . فقد تجد في المستويات الثلاثة من يمتلكون نظارات صافية نقية خالصة لوجه الله ، ومنهم من يمتلك نظارة مزيفة مشوبة مشوشة ، ولأن كل نظارة من هذه النظارات تتصل في تشكيلها ، وبنائها ، ووظيفتها بما يدور في العقول من وعي وفهم ، وقدرة ، وما يعشش في القلوب من إيمان ، وأشواق ، ومبررات ، وما تشع به الجوارح من خير ، وعمل ، وسلوك .. وكذلك لأن الأمر متصل بما تفرزه حركة المجتمع من ثقافة ، وتاريخ ، ومناهج ، فإننا في هذه الحالة مضطرين من الوجهة المنهجهية الصارمة إلى البحث في الأصول التكوينية للأشياء ، والأفكار .. وعليه في فهم الواقع ، من العودة إلى الجذر التكويني للسلوك البشري ، وبالتالي الدخول إلى (مخابر صناعة الحضارة) حيث كهوف المنهج وشعابه المعقدة.
إن دراسة الواقع الإنساني ، لم تصبح بعد علماً قائماً بذاته في عالمنا الإسلامي الحديث .. وأعني بدراسة الواقع ، اكتساب رؤية منهجية في دراسة الأحداث والمشكلات ، أي دراسة حركة الخلق ، ووجهتها الحضارية ، ومعرفة مواقفهم من القضايا التي تواجههم ، وإمكاناتهم الفكرية ، والعقلية ، والروحية ، والسلوكية ، والجسدية ، ومعرفة أوضاعهم السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والتربوية ، والعسكرية . وإدراك كل ما يتعلق بحياتهم الفردية ، والجماعية ، بشروط قيامها وبعوامل انهيارها ، وكذلك ما يتصل بعلاقاتهم مع الخالق سبحانه وتعالى ، ومع بعضهم بعضاً ، ومع الكون المحيط بهم.
ونحن هنا لا تهمنا الكثير من هذه العناصر ، فغرضنا هو تحديد الخصائص الواقعية العامة ، التي تتصف بها حياة أمتنا الإسلامية ، وأمتنا الإنسانية ، وبعبارة أخرى التعرف على طبيعة المرحلة الحضارية التي تجتازها البشرية ، ومدى تأثير هذه الطبيعة في أي حركة تغييرية ، تقوم اليوم في العالم ، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين.
من خصائص الواقع العالمي القائم:
إن المتأمل المتعمق في واقعنا الإسلامي الراهن ، سوف يلاحظ كل أصناف الفوضى ، والتسيب ، والانهيار . فالتجزئة المشينة للأمة ، والتشتيت المخطط لطاقاتها ، والقهر السياسي ، والفقر ، والحرمان ، والجهل ، والأمية ، والتخلف ، والبطالة ، والتبطل ، والتبعية ، والعلمانية ، والعصبيات القبلية ، والنعرات الثقافية ، وحب الدنيا وكراهية الموت ، والصراعات الداخلية ، والإقليمية ، والصراع الثقافي ، والفكري ، والمديونية ، والهزيمة النفسية ، والضعف الفكري . كل هذه الأمراض التي تطبع حياتنا ، تؤثر بشكل مباشر في أي جهد تغييري ، نريد أن نقوم به لصالح حفظ مصالح العباد ، وحمايتهم من الظلم والخوف ، والاستبداد .
إن ما نصبوا إليه هنا ليس هو تشريح هذه الأمراض ، ودراستها بشكل مخبري علمي ، فهذا مجال آخر ، وإنما نسعى إلى تحديد الخصائص العامة للواقع البشري بمقدار ما يجلي الأفكار التي نعرضها ، ولهذا فسوف نذكر بعض هذه الميزات الأساسية في هذه العناصر :
خاصية العالمية
هذه هي إحدى الخصائص الأساسية والمهمة ، التي تطبع الواقع الإنساني القائم ، ويبدو أن كل تغيير حضاري يتجاوزها سوف يبقى مراوحاً في مكانه مهما بدت لياقته في بعض مراحل السير ، ونحن كأمة بحاجة إلى وعي هذه الفكرة بشكل عميق . لأن أصلها التكويني يمتد إلى طبيعة المذهبية الإسلامية في تشكيلها النهائي ( القرآنية ) . فختم النبوة معناه عالمية الحضارة الإسلامية ، وثقافتها التوحيدية ، ومعناه كذلك ( الظهور الحضاري ) للدين الحق ، ولكن ما يلاحظ اليوم هو أن المسلم غافل عن هذه الحقائق الكونية الكبرى ، وأن غيره من الأمم ، والحضارات تطرح أفكارها في سوق الحضارة ، وتروج لها بشكل فعال جداً ، حتى أصبح ادعاء ( عالمية الحضارة الغربية ) ، من حقائق التاريخ البشري المعاصر التي يروج لها حتى بعض أبناء الأمة . فالطرح الذي تقدمه الحضارة الغربية لفكرة عالمية الحضارة ، لا يخدم بأي حال من الأحوال فكرة عالمية الحضارة ، كما يريد الإسلام تقديمها للبشرية ، بل تعاديها وتحاربها دون هوادة .
فنحن كأمة ، نؤمن بفكرة العالمية للحضارة ، من منظور الظهور الكلي للدين الحق ، الذي سيحقق مصالح العباد في الدارين ، كما أننا نعلم يقيناً بأن طرح فكرة العالمية - إسلامياً - هو البديل الحضاري الذي بمقدوره حل الأزمة الإنسانية الراهنة ، على جميع الأصعدة .
لقد رفعت الحضارة الغربية طاقة الإنسان إلى مستوى غير مألوف ، وعندما وصلت هذه الطاقة إلى درجتها تلك ، قلبت كل حقائق التاريخ ، وأدخلت فيه عنصر قوة ، بطابع الشمول ، وبذا وجدت الشعوب جميعاً نفسها وكأنما تقلها سفينة واحدة إلى مصير واحد . فهي شيئاً فشيئاً بفضل التطورات الصناعية الحديثة ، وبخاصة في الميدان الذري ، بات عليها أن تجتاز مجتمعة بعض المراحل الحاسمة وأن تعالج مشتركة بعض المراحل الجوهرية . وهكذا نرى أن تحلل المادة يتفق مع التجمع الإنساني ، إذ لم تعد هناك جزيرة الفردوس التي يمكن للإنسان أن يعيش فيها منعزلاً عن تيارات الأحداث . لقد صنعت الحضارة الغربية عالماً يترابط فيه الناس ويتعرفون فيه على الخير والشر ، وقد يؤثر عامل القوة في كلا الاتجاهين دون تمييز ، كأنه قوة عمياء لم يتحدد توجيهها ( ... ) وهو بقلبه للأوضاع التي سبق أن خلقها ، لم يكف عن أن ينمي عجينته الهائلة ، حيث أوجد فيه جميع عناصر الأزمة النفسية ، والزمنية الراهنة ، في الوقت الذي يفرض فيه جميع ظروف حلها ( ... ) فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية ، التي تطرد بدافع من قوتها الخاصة ( ... ) والعالمية في مجراها ليست طرفة تاريخية من مفاجآت التاريخ ، وليست اتجاهاً عقلياً أو سياسياً ، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين ).
لنحاول الرجوع بهذا التحديد إلى أصوله ، إلى ما قبل هذا التاريخ ، رغم أن هذه هي المرحلة التي بدأت تظهر فيها فكرة العالمية ، كطرح مؤسسي اجتماعي ، فالعالمية التي نعنيها هي طور آخر من أطوار الوجود البشري ، فوق الكوكب الأرضي .. والواقع الراهن بظروفه ، سوف يتيح لنا إخراج الفكرة إلى حيز الواقع بعد أن دامت قروناً متطاولة في حيز القوة ، تنتظر لحظات التاريخ الكبرى كاللحظة التي تعيشها البشرية اليوم مثلاً.
فكرة العالمية وختم النبوة :
في الحيقية وكما ذكرت فيما سبق بأن فكرة عالمية الحضارة متصلة مباشرة بفكرة ( ختم النبوة ) ودلالتها على الصعيد المنهجي ، والفكري ، والعملي ، لفهم المسلم لرسالته بصورة خاصة ، وفهمه لحركة العالم ، ومآليته بشكل عام . فمن الدلالات الأساسية لختم النبوة ما ذكره العلامة إقبال ، رحمه الله:(9/151)
(إن مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي ، وأن النبوة لتبلغ كمالها الأخير ، في إدراكها العميق لاستحالة بقاء الإنسانية معتمدة إلى الأبد على مقود تقاد منه ، وأن الإنسان لكي يحصل على معرفته بنفسه ، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو) ويقول الاستاذ جودت سعيد - حفظه الله - : ( يمكن النظر إلى ختم النبوة من جانب آخر على أنها فكرة تعلن انتهاء الدروات الحضارية .. وبانتهاء النبوة ، وختمها ، انتهت الدورات ، وأمسك الإنسان بسنن الحضارة ليجعلها مستمرة .. فمعنى ختم النبوة : ختم الدورة الحضارية .. والميزة الأخرى لمحمد صلي الله عليه و سلم أنه للناس كافة ، وهذه هي عالمية الحضارة ، وانتهاء زمن الدورات ، وإن كنا لا نزال نعيش دورة الحضارة ، وتعددها ، إلا أن إرهاصات زوالها بدأت تبرز لمن تأمل ).
إن ختم النبوة إعلان رسمي عن انطلاق عهد الجهاد الحضاري الطويل ، وبداية عصر البحث عن البرهان الواقعي ، والعملي على فكرة عالمية الإسلام ، التي تقررت في عالما العقيدة الإسلامي كأساس من أسس الدعوة التوحيدية .
إننا في واقعنا الراهن نعيش معطيات العصر العالمي ، ولكن يبدو أننا لم نفكر بعد ، كما لم تفكر الحضارة الغربية بجد في موضوع العصر العالمي ، وشروط العيش فيه:
(فالحضارة أصبحت مع الثقافة الغربية ، هدفاً مقصوداً ، وعملاً شعورياً ، وفناً ، ووظيفة تتطلب ذكاءه ، وإرادته وهو يرى فيها غايته الأرضية . هذه الذاتية الجديدة ، قد وسعت أولاً حقل الحضارة نفسها ، حين مدته من النطاق القومي ، والعنصري إلى النطاق العالمي ، والإنساني ، ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان ، بفضل قوته الصناعية ، قد أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية .. إن منعطف التاريخ الحالي .. يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها ، بعد التحول الأول ، الذي دخلت به في التاريخ في نهاية العصر الحجري الجديد .. وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييراً تاماً بحيث لا يدع مجالاً لافتراض (الأفول) إذ في التوقع الجديد لن يكون هناك أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي ، والنهائي الذي لا يمكّن من أن تصاغ (نهضة) .. وتلك هي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية .. هذا التوحيد الذي أوصل مقدرة الإنسان إلي المستوى العالمي ، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية ، وفي ألوان نشاطه العقلي ، والفني ، والاجتماعي . فالمقاييس ، وطرائق السلوك ، والتفكير ، لا تكف عن التقارب على محور طنجة - جاكرتا ، ومحور واشنطن - موسكو).
من هذه التحديات الأولية ، تبدو لنا أهمية فكرة عالمية الحضارة كمشروع حضاري ، يطلب منه أن ينقل البشرية إلى طور حياتي جديد على الصعيد العقلي والسلوكي.
خاصية العلمية
ومن الخصائص المميزة كذلك للواقع البشري الراهن ، خاصية (العلمية) .. وأعني بها أن الحضارة المعاصرة ، علمية ، يقودها العلم ، والعلماء ، ولا تتحرك في مواقفها الكلية ، والجزئية إلا إذا قدم الخبراء ، والمتخصصون الإشارة الخضراء . (فحضارة العلم) تعني الحضارة التي أصبح التوجيه فيها عن طريق العلم ثقافة ، أي ميزة سلوكية تابعة لتشكيلها الثقافي . فالعلم مرسم سلوكياً ، ويتدخل تلقائياً في كل شؤون الحياة والمجتمع . فالعلم هو القائد للحضارة .. وفي هذه الحالات ، تموت الدروشات ، ويضمحل الجهل ، ويتراجع التكهن الخرص . وعندما يصبح التوجيه بين يدي العلم ، تصبح للفكرة قيمة ، ولصاحبها رسالة ، يعيش من أجلها . وهذه الرسالة في كل الحالات خاضعة لعقيدة الإنسان ، وفلسفته في الحياة .. وبشكل عام ، تمثل العلمية الطاقة الخلاقة التي فتقت الخيرات المركوزة في البشر ، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من الدقة ، والإتقان ، واستطاعوا أن يتحكموا في الكثير من سنن الله في الخلق . ( فالعلمية ) هي الضوء الخافت الذي ينساب بين دروب الجهل ، ليتحول إلى نور ساطع ينير طريق السائرين في الكون إن تدبروا ، وفقهوا ، ووعوا ولكنها قد تتحول إلى مرض عضال تسقط الحضارات العملاقة ، وذلك عندما تمسكها الأيدي التي لا تعرف قيمتها . تماماً كما يحدث هذه الأيام عند أصحاب الحضارة المعاصرة. .
خاصية العملية
العمل في الحقيقة هو محرك الطاقة الحيوية للبشر ، وإذا انتفى العمل انتفت معه الحضارة البشرية . فالعبادة عمل ، وعمران الكون عمل ، والتفكير عمل ، وإنقاذ الخلق من الظلمات إلى النور عمل ، والتعارف بين الناس عمل ، والبحث عن المعاش عمل ، ونحن لا نقصد هنا هذه القيمة المطلقة للعمل ، كشيء فطري تكويني في الخلق ، وإنما نعني ( بالعملية) ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المعضل ، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق . فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية ، فهو لم يعد شغوفاً بالفلسفة النظرية ، والعمل هو الذي يعطي للأفكار قيمتها ، وإشعاعها ، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية.
إن استحكام هذه الخاصية في الحياة العقلية ، والثقافية للحضارة المعاصرة ، وفي السلوك العام للإنسان ، مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكرة بالواقع ، ويربط العمل بوسائله الكفأة بشكل فعال ، ومؤثر . ويصل الكيفيات المنهجية بالغايات البشرية . لقد أصبح لكل جهد إنساني مقياس واقعي واضح يحكمه . فالعملية كذلك تعني ( كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه ، وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي ، وما يشتمل عليه من إمكانات ). كما تعني كذلك امتلاك ( الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه ..بين سياسة ووسائلها .. بين ثقافة ومثلها .. بين فكرة وتحقيقها ).
خاصية التخصص
لقد كان لخاصيتي العلمية والعملية ، دور بالغ الأثر في طبع الواقع العالمي الراهن بميزة التخصص الدقيق في كل شيء . فعلى صعيد المعرفة مثلاً تفرعت المعارف ، وتخصصت بشكل لم يكن يتصوره ( دور كايم) ، وهو يقدم ملاحظاته في موضوع علم الاجتماع ، فقد تعب كثيراً في موضوع التسمية نفسه ، واليوم نجد هذاا لعلم متفرعاً إلى أكثر من سبعين فرعاً ، كل واحد منها بحاجة إلى وقت كبير جداً لاستيعابه . لقد انتشر المنطق التخصصي في كل تفاصيل حياتنا العامة ، والخاصة ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والتعليمية ، والتربوية ، والإدارية . إنه فيما يتعلق بهذه الفكرة بالذات ، نتأسف كثيراً لما يحدث في عالمنا الإسلامي عندما نشاهد متخصصين مطلقين يتكلمون في كل العلوم بلا علم ولا دراية ، مازالت تراودهم فكرة الموسوعة التي قضي عليها عصر العالمية ، والعلمية ، والعملية.
خاصية الواقعية
نحن كثيراً ما نسمع في ثقافتنا الراهنة أصواتاً تذكرنا بعصر الفلسفة الخرافية المشؤومة ، فنسمع بعضهم يقول: أنت لست واقعياً ، وأنت خيالي ، وأنت فيلسوف ! .. حالم .!. تهيم في الفراغ ، وتعيش في جزيرة حي بني يقظان . وإذا سألت لماذا ؟ جاءك الجواب الذي يسقط كل الاعتبارات التي يمكنها أن تدخل في توجيه الواقع إلى الأحسن . فماذا تعني الواقعية في حياتنا المعاصرة؟ إنها باختصار شديد تعني : الحكمة في التعامل مع وقائع الحياة الإنسانية ، أي توجيه الأعمال بما يؤدي إلى نجاحها في إنجاز مهامها ، بدون خسائر في الأوقات و الجهود والطاقات .. إدراكه في حالته القائمة ، بدون زيادة ولا نقصان ، ومعالجته انطلاقاً من طبيعته ، وظروفه ، ومعطياته..(9/152)
إن الواقعية في العقل الحضاري المعاصر ، خاصية نابعة من ثقافة العامة ، ومن تعامله السلوكي مع الأشياء . كما أنها الوعي التام ، والفهم الشامل لشروط ، وظروف ، ووسائل ، ومناهج ، وأساليب أداء عمل معين . فهي إعطاء الوقت الكافي لإنضاج الأفكار ، وفهم الأحداث ، والمتابعة الواعية لحركة المجتمع ، والإدراك المستوعب لإمكاناته ، ونقائصه ، وقواه.
خاصية المنهجية
العمل إذا لم يكن خاضعاً لقواعد ، وضوابط ، ونواظم معيارية ، ومعرفية ، فإنه لا يسمى منهجياً . فهو هنا لا يخضع لمنظور استدلالي معين ، ولمنطق برهاني منظم ، أي لا يصدر عن إطار مرجعي يحكمه ، ويوجهه وفق أسس معينة ، ولغاية محددة ، وبوسيلة مشروعة.
فالمنهجية خاصية من خصائص الخطاب العالمي القائم. فهي وعي على كيفيات إنجاز عمل ما ، وفهم لطريق الوصول إلى غرض مطلوب، وفق ترتيبات واضحة ومنظمة . والعقل الحديث ساهم بقسط وافر في تعميق القيمة المنهجية في السلوك الإنساني الراهن ، رغم أن موضوع المنهجية كان موجوداً قبل هذا التاريخ بقرون متطاولة . فكل عمل لا يخضع لمنهجية استدلالية أثبتت صحتها سوف لن يجد مكانه في منطقنا العالمي القائم . وكل إقناع لا يصدر عن توجيه منهجي مؤسس ، سوف يُرد ، فعندما تنعدم الحركة المنهجية في العمل الإنساني يصاب بالعمى ، وتظهر فيه لفوضى ، وتتملكه الحيرة . فالمنهجية هي برنامج العمل ، وخريطة السير ، وروح التوجيه ومنطقه الذي يربطه بالواقع.
خاصية التقنية والتكنولوجية
صحيح أن التكنولوجية والتقنية نتاج من منتوجات الوعي البشري في الحقل العلمي ، والمعرفي ، والعملي والمنهجي .. إلا أنها تمكنت من تحرير موقعها في عالم القرن العشرين كواحدة من خصائص الحضارة القائمة.
فالحياة البشرية اليوم ، مطبوعة بطابع التقنية والتكنولوجية ، التي وحدت القارات ، وقلصت زمن الاتصال والتعامل ، ورفعت درجة الحوار الثقافي بين الحضارات ، بشكل لم يكن يتصوره العقل الإنساني قبل هذا التاريخ . فقد حلت الآلة محل الجهد البشري ، وأصبحت العلاقات الإنسانية متيسرة بوسائل ، وأدوات بسيطة في متناول جميع البشر ، وغزت التكنولوجية الدقيقة عالم الناس.
فإذا كان ابن خلدون من قبل قد كتب مؤلفه التاريخي الضخم في أكثر من سبعة مجلدات ، وإذا كان معاصرنا أرنولد تويمبي قد أنجز عمله الضخم (دراسة للتاريخ) ، في ما يقرب من سبعة آلاف صفحة وقضى فيه أكثر من أربعين عاما ، فإن كتابة هذا الكم من المعارف أصبح اليوم ممكناً في جهاز بسيط يمكن للإنسان أن يحمله معه ، وهكذا دخلت التكنولوجية في تفاصيل حياتنا الخاصة والعامة ، ونقلتها إلى طور آخر من أطوار تعاملها مع الحياة والكون والناس ، وأخرجتها من طور قتل الأوقات ، وتبديد الطاقات إلى مراحل الاقتصاد في الجهد والوقت ، وإلى عالم الدقة ، والإتقان ، والجمال ، في العمل الإنساني .
فالاتصال السلكي واللاسلكي ، والحاسوبات الإلكترونية ، والأدمغة الصناعية ، وأجهزة الذكاء الاصطناعي ، والأقمار الصناعية ، والتقنيات الاتصالية الحديثة ، والمراكب الفضائية ، والتكنولوجية العسكرية ، والطبية ، وكل الأداتية ، والتقانية ، والألياتية التي نشاهدها في عالم الحضارة المعاصرة هي نتاج طبيعي (للمنطق التكنولوجي) و(للعقل التقني) الذي خلفته النزعة العالمية ، والعلمية ، والعملية ، والتخصصية ، والمنهجية في حياة الناس.
لقد أعطت ( التكنولوجية ) الحديثة للعقل البشري فرصة التفاعل الإيجابي مع سنن الله في الكون والأنفس ، وأمدته ببعض وسائل التسخير المادية التي تتطلب استعمالاً أكثر فاعلية لأجهزة التسخير المعنوية : السمع والبصر والفؤاد والقلب..
والتكنولوجية اليوم تسير بخطى متسارعة إلى عالم جديد أسماه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق (زبيغنيو بريجنسكي) بـ ( العصر التكنتروني).
==============
المنهج النبوي وقدرته على البناء
ففي ظل هذا الواقع البشري الخطير الذي يستدعي التفكير الجدي في شروط ، وموجبات العيش في العصر العالمي الذي سيمتد في مستقبل الحضارة البشرية بشكل واسع ، وخاصة في القرن الواحد والعشرين ، يتثبت في الأذهان تساؤل مهم هو:
كيف يساهم المنهج النبوي في حل الإشكال العالمي الراهن؟ وبعبارة أخرى: ما هي المساهمة التي سيقدمها المنهج النبوي في مجال البناء الحضاري الجديد؟
فالمعلوم بالضرورة لدى قطاع ضخم من البشرية في الوقت الراهن أن الحياة الإنسانية موسومة بمسحة الشيطان . فالظلم الحضاري هو المنطق الذي يحكم حضارة البشر القائمة ، في نفس الوقت الذي يبدو فيه أفق الحضارة ، وصانعيها ، ضيقاً ، ولا يحتمل توسيعه - على مستوى المنظور - بشكل يعطي للناس فرصة العيش المشترك في العصر العالمي . فقدرة العقل البشري الراهنة غير قادرة على فهم مقتضيات الانتقال ، وموجبات الاستمرار الحضاري ، على أساس فطري عادل ، يستوعب كل الاتجاهات البشرية القائمة ، دون هدر لحاجات الناس العقيدية ، والعقلية ، مع إلزامية الوعي ، بأن البشرية لن يصلح حالها ما لم تعد إلى (فطرة الله) التي ركبها سبحانه وتعالى في الأنفس ، والآفاق ، وفي الكتاب.
إن هذا النوع من الاستيعاب قد أنجزته من قبل (السنة النبوية) بشكل لا يتوهم فيه أحد تغييره إلى الأصلح منه مطلقاً . وهنا تظهر لنا الأهمية القصوى في مجال دراسة المنهج النبوي كمركب حضاري ساهم من قبل في بناء حضارة التوازن الفطري من خلال المفاعلة بين الوحي الأعلى - قرآناً وسنة - وبين حاجة الخلق ، والغاية من وجودهم الأرضي (الاستخلاف والمحافظة على الكون) .
فالمنهج النبوي ليس فقط خطاباً أخلاقياً - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) - بل هو حركة وعي عقلية، ومنهجية ، وروحية ، وسلوكية لهذا الخطاب الأخلاقي على الصعيد الاجتماعي ، ودراسته في إطار تجربة بناء نموذج حضاري مستوعب للمطلق وللنسبي - أي - مركب على أساس وعي متطلبات الزمان والمكان. لهذا كان (النظام التوحيدي) الأخير (القرآن) أنموذجاً عالمياً مبعوثاً لكافة الخلق ، ولجميع البشر.
ونحن هنا نريد أن نبحث عن ظاهرة المنهج النبوي في هذا المستوى من الوعي ، الذي ساهم في تركيب حضارة ، بدءاً من تركيب إنسان ، وثقافة ، ومجتمع ، وأمة ، في ضوء مذهبية توحيدية ، إلهية المصدر ، ومن أجل غاية شاءت إرادة الله أن تكون لصالح الإنسان في حياته الدنيا والآخرة
==============
من أجل قراءة أخرى للسنة
وبعبارة أخرى نريد أن نقوم بقراءة جديدة للسنة النبوية المطهرة تنطلق من قراءتين سابقتين:
- قراءة الرسول صلي الله عليه و سلم الأخلاقية ، والسلوكية القاصدة إلى وضع أسس البناء الحضاري العالمي ، الذي أصبح مصدراً أساسياً لفهم القرآن ، وتنزيله إلى أرض الواقع (قراءة الوحي).(9/153)
- قراءة بشرية علمائية تمثلت في البناء النظري للنموذج النبوي ، وتدوينه ، وتسجيله في كتب السنة، والحديث ، والفقه ، والأصول ، والعقيدة ، والتاريخ ، والجغرافيا ، والسياسة الشرعية .. إلخ (قراءة بالعقل). مع العلم بأن القراءة الثانية مستخلصة من التفاعل بين العقل الإسلامي والقراءة الأولى (قراءة الرسول صلي الله عليه و سلم) ، وذلك في ضوء المذهبية التوحيدية. وهذا معناه أن غياب القراءة الأولى، يعني أن أي قراءة لاحقة إلى قيام الساعة مرفوضة في حياة الأمة ، وأن أي بناء حضاري لا يقوم عليها فهو رد ، وغير مقبول مهما كانت نتائجه . فالقراءة النبوية للوحي ، وتنزيله إلى أرض الواقع حجة على كل التطور العقلي ، والمنهجي الذي وصلته ، وستصله البشرية في مستقبل أيامها ، وبعباة أكثر دقة : أن كل الانتاج العقلي ، والفكري الراهن ، مطلوب للمثول بين يدي معيار الوحي الإلهي ، الذي تمثل السنة النبوية المطهرة إطاره العملي ، الذي أدى فيه الرسول صلي الله عليه و سلم رسالة البلاغ المبين ، كما أمره الله سبحانه وتعالى.
فالقراءة الجديدة محظوظة بشكل عظيم لأنها تقف على خبرة الجيل النبوي الأول ، الذي كان في مرحلة التأسيس للنموذج الحضاري التوحيدي ، كما تقف على تجربة الجيل الإسلامي الثاني (عصر التدوين ثم العصور التي تلته وساهمت في مواجهة الحملات الشرسة ضد السنة النبوية) الذي كان في جهاد متواصل للحفاظ على الحضارة الإسلامية ، ووراثتها بشكل غير مخل بغاياتها ، وحقائقها التاريخية.
فهذه القراءة التي ظهرت منذ بوادر الصحوة الإسلامية الحديثة مطالبة بالوعي العميق على القراءتين السابقتين ، بالإضافة إلى وعيها على أمرين مهمين:
- طبيعة القراءة الجديدة للسنة النبوية المطهرة ، باعتبارها مصدراً لبناء حضاري جديد ، بكل ما يتطلبه هذا العمل من فهم للعصر العالمي ، وشروط العيش فيه ، والتعامل معه من أجل تغييره لينسجم مع خطاب الشارع الحكيم ، ويحقق مقاصده العليا في الخلق.
- منهج وكيفيات ، ومستويات هذه القراءة على الصعيدين النظري والعملي . فهذان هما العملان الحاسمان اللذان يستحقان العناية الكافية من قبل حركة التغيير الإسلامي . إذ عليها أن تثبت فيهما بشكل منهجي . وعندما يتم هذا التلاحم ، والتفاعل بين العقل الإسلامي ، والسنة النبوية المطهرة في ضوء المعيار التوحيدي، فستظهر للناس القدرة المذهلة للمنهج النبوي في تركيب حضارة جديدة انطلاقاً من تغيير الإنسان ، والثقافة، والمجتمع ، وإعادة ضبط حركة هذه العناصر الأساسية في البناء الحضاري.
فالمنهج النبوي سوف لن يفهم بالشكل المطلوب ، ما لم يقرأ كقوانين اجتماعية ، وسنن تاريخية ، ومسالك أخلاقية ، حكمت حركة التغيير الحضاري الإسلامي الأول الذي أنجز من خلاله الرسول صلي الله عليه و سلم بناءاً حضارياً شامخاً ، وحقق به عملية (أسلمة حضارية شاملة) للمجتمع الجاهلي ، ومكنه من تحرير مكانه في عالم الحضارات . أعني أن المنهج النبوي نفسه يمثل إطاراً - ساحة تاريخية تطبيقية - خصباً لدراسة السنن الإلهية الحاكمة للجهد البشري . ولهذا فتطبيق (منهج السير في الأرض) في دراسته ، مجد جداً ، لأنه سيتم عن طريق منهجيات (النظر) التي تسعى إلى كشف سنن الهداية الربانية ، وقوانين الفطرة الإلهية التي فطر عليها الناس . فالمنهج النبوي ، ساحة للتعامل مع عالم الأسباب ، وعالم سنن العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف ، التي ستوصل الناس إلى تحقيق غاياتهم الدنيوية المتمثلة في (الاستخلاف والمحافظة على الكون)
===============
المنهج النبوي يحدد المأزق العالمي الراهن
إن المنهج النبوي الذي اعتبرناه مدخلا أساسياً لأي بناء حضاري يقوم على أساس (النظام التوحيدي القرآني) ويساهم في تحديد المفتاح المدخلي للبناء الحضاري الجديد . إذ من المعروف في علم الاجتماع التغييري: أن حل أي مشكلة تواجه المجتمع ، مهما كان نوعها (ثقافية ، أو تاريخية ، أو حضارية) مشروطة بفقه هذه المشكلة في تركيبها الواقعي ، وتشكيلها الاجتماعي ، أي كما هي في حياة الناس ، دون زيادة ولا نقصان ، وهذا التحديد ، لابد أن يخضع كما هو معروف كذلك لمنهج علمي أثبت صحته ، ولخطوات تحليلية منظمة ، تقوم على الملاحظة ، والافتراض ، والتجريب ، والوصول ، أي استخدام المنهج الاستقرائي ، والمنهج الاستنباطي ، بغرض الوصول إلى كشف علل الأشياء ، والأسباب القابعة وراء وجودها ، وفهم قوانين التعامل معها ، وعلاجها . وهذا الأمر يتطلب منا أن نبحث في المنهج النبوي ، كسبيل لكشف سنن الهداية والترشيد . وهذا الأمر لن يتم لنا في الحقيقة إلا باستقراء كلي لنصوص السنة النبوية ، وتحقيق هذه النصوص على صعيد المنهج التاريخي ، أي وفق (منهج السير في الأرض والنظر في سنن الهداية الربانية) كما أمر المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم . ولتعذر هذا العمل الضخم في مثل هذه البحوث الفردية ، سوف نحاول تقديم نموذج تحليلي لنص نبوي ، نبين من خلاله الطريقة المقصودة في التحليل ، والتي سنقوم بتطبيقها على الكثير من النصوص النبوية في المستقبل بحول الله وقوته.
قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) .. قالوا : أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : (لا ، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ) . قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت؟ ).
إن هذا الحديث النبوي الشريف ، يعتبر من المداخل الأساسية التي يمكنها أن تعيننا على التحديد الصحيح ، والدقيق لنقطة الانطلاق في التغيير الحضاري الراهن للعالم . فللحديث منطقية منهجية خاصة في تفسير الظاهرة الاجتماعية . فقد تجاوز المراحل التمهيدية ، لما يسمونه البحث العلمي ، ثم تخطى مرحلة التجربة ، وتوصل إلى استخراج القانون ، الذي يحكم الظاهرة الإنسانية . وهذا التوصل ليس ضرباً من التكهن الخرص ، بل وعي مستوعب في عالم الأسباب ، وفهم مستنير للسنن الإلهية ، واستخدام ناجح للمنهج الذي يشكل وعياً تاريخياً مستقبلياً ، ينتج عن إدراك عميق للنفوس البشرية ، وللحركة الاجتماعية عموماً .
عرض عام لموضوعات الحديث النبوي :
هذا الحديث يشتمل على قضايا ، بعضها يتصل بمجتمعنا الإسلامي ، وبعضها الآخر ، متعلق بغيره من المجتمعات . كما يمثل في جوهره قمة سامقة من قمم الوعي التاريخي على سنن الله في الخلق . لنحاول التعرف على بعض جوانبه التي تهم بحثنا هذا:
أولاً : فهو يحدثنا عن أمم متنوعة ، سوف تتكالب على أمتنا - وهذا هو واقعنا اليوم - وهذا التداعي يكون في سياق التدافع الاجتماعي بين النموذج الإسلامي والنماذج الأرضية الأخرى - الغرب واليهود -.
ثانياً : ويصف لنا طبيعة هذا التداعي على هذه الأمة ، التي تدين بدين (الحق والحقيقة) , ويشبهه كتداعي الأكلة إلى قصعتها ، فهذا يدمر عالم أفكارها ، وذاك ينسف عالم أشخاصها ، وذلك يبدد علام أشيائها .(9/154)
ثالثاً : ثم يضعنا أمام حوار صادق بين المجتمع الإسلامي الوليد ، الذي كان في أحسن ظروف انسجامه ، وفاعليته الاجتماعية في ذلك الوقت ، وبين النبي عليه الصلاة والسلام كمرجعية توجيهية ، وتبينية للخطاب الإلهي . إذ نجد المجتمع يستفسر عن سبب هذه الفاجعة الحضارية ، التي توشك أن تدرك مجتمعاً ناشئاً . ثم يقدم هذا المجتمع افتراضاً احتمالياً - الصحابة - محاولاً تفسير الظاهرة التي يتحدث عنها رسول الله صلي الله عليه و سلم قائلاً : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ وكأنه يريد أن يرجع المسألة بأكملها إلى عالم الكم ، وبالضبط إلى (عالم الأشخاص) . ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ، يرد القضية إلى مسارها الحقيقي ، بوعي سنني عميق ، بعيداً عن عالم الكم قائلاً : (بل أنتم كثير) . ثم يصف هذه الكثرة بوصف ينزع عنها الفاعلية النفسية ، والاجتماعية قائلاً: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) .. وهذه الحالة في الحقيقة ، هي أقصى حالة يعيشها مجتمع إنساني معين . فمليار من البشر لا يستطيعون توفير شروط حياتهم واستمرارهم الحضاري ، ويصبحون لقمة سائغة توجهها مجتمعات سرطانية ، تعشش اليوم في قلبها النابض - السرطان اليهودي - وهذا كله لأنهم غثاء ، ووضعية الغثائية ، من الأمراض النفسية الاجتماعية ، التي إذا حلت بثقافة مجتمع ما ، أهلكتها ، وحولتها إلى مجرد كيان شكلي مهلهل ، كالثقافة الإسلامية في عصور الانحطاط مثلاً.
رابعاً : ثم بعد هذا يقدم الرسول صلي الله عليه و سلم العلة الحقيقية للظاهرة المرضية مرجعاً أياها إلى مصدرين أساسيين هما:
- التحولات الجارية في نفسية الأعداء ، أي المجتمعات ، والثقافات التي تعادي الإسلام قديماً وحديثاً (الغرب واليهود ) والتي سعت وتسعى إلى إنهاء الوجود الحضاري للإسلام كعامل حاسم ، وأساس في إحداث التوازن الكوني - اجتماعياً - ، وهذه التحولات جعلت من هذه النفسيات تكتسب مناعة ، وقدرة على مواجهة قوى الأمة ، والعمل للفتك بها (ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ).
- التغييرات الجارية في نفسية الأمة ( فرداً ومجتمعاً ) بحيث أصيبت هذه النفسية (بمركب الوهن) الذي أرجعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى فاجعة العصور والدهور ، ومعضلة النفوس، والعقول ، وآفة الحضارات ، والثقافات وهي (حب الدنيا وكراهية الموت ).
فالنبي عليه الصلاة والسلام أعاد العلة الحقيقية في الحالتين إلى عالم النفوس وإن - صح التعبير - إلى عالم الأفكار ، كبديل عن عالم الأشخاص على ما رأى المجتمع الإسلامي . وبالضبط في فكرة الوهن ، التي لها علاقة مباشرة مع أجهزة العمل الصالح في الإنسان : العقل والقلب والجوارح . فالعقول جمد عملها ، والقلوب فتر إيمانها ، والجوارح تعثر عملها . وكما هو معلوم فإن : العلم والإيمان والعمل ، هم الزاد الدائم للحضارة.
خامساً : ويبدو كذلك بأن الحديث لم يربط تشكل مركب الوهن ، بفترة زمنية معينة ، ولكنه أعادها إلى جهود أجيال (الوهن الثقافي) والتخلف الحضاري ، لتساهم بإرادتها ، وتوجيهها ، في تشكيل هذا المركب داخل نفسية الفرد ، والمجتمع ، وثقافتهما على حد سواء . وبواسطة قوانين (التوارث الاجتماعي) للمركبات المرضية في (الحقل الثقافي) ، نقل المرض بشكل تراكمي إلى أن وصل إلى (بدايات العصر العالمي) الذي نعيشه اليوم ، عباد الثلث الأخير من القرن العشرين ، وهنا دخلت الإنسانية في منعطف من منعطفات صيرورتها فوق الأرض ، فتطلب منها الأمر ، نظرة مستوعبة في مشكلاتها ، وأزماتها .. والحديث النبوي يقدم وعياً عميقاً على هذه القضية كما أشرنا سابقاً.
إن (الحديث النبوي) الشريف ، سنة من سنن الله في الخلق ، ورؤية صائبة في المأزق العالمي الراهن الذي تشكل من:
- التحول النفسي الذي تم في نفسية صانعي الحضارة الحديثة ، بما في ذلك الجانب العقلي ، والفكري ، والمنهجي ، والعمراني ، والتكنولوجي ، والثقافي والسياسي ، والاجتماعي ، والتربوي.
- التحول النفسي الذي تم في نفسية الإنسان المسلم بما في ذلك جوانب الفعالية الثقافية الثلاثة: العقل ، والقلب ، والجوارح.
المنهج النبوي وتوجيه جهود النهوض
فالحديث يقدم المساعدة الأولية اللازمة لبناء حضارة العصر العالمي ، وذلك بتحديده للمشكلة الإنسانية المعيشة ، ولكن يبدو أن عالم الاجتماع المسلم المشتغل بحقل النهضات - إن وجد أصلاً كعلم جماعي - لم يعر بعد الاهتمام المطلوب للمنهج النبوي باعتباره مركباً حضارياً للطاقة الإنسانية ، كما لم يتذوق بعد قيمة هذا الحديث النموذجي الذي نحن بصدد تحليله.
فقد أتاح لنا الحديث فرصة عظيمة ، واختصر لنا زمناً طويلاً ، قد نقضي فيه كأمة ، ويقضي فيه غيرنا من الحضارة القائمة قروناً متطاولة بعلومهم الإنسانية ، والاجتماعية ، كيما يصلوا إلى تحقيق النتيجة المذهلة التي توصل إليها الحديث ، منذ أربعة عشرة قرناً . فقد حدد لنا رسول الإنسانية صلي الله عليه و سلم موقع المرض العضال الذي خلف حضارتنا ، وهو بصدد إسقاط الحضارة الغربية ، وقدم لنا منهجاً قاعدياً لتركيب حضاري جديد ، يؤهل الإنسانية للدخول إلى العصر العالمي ، فهذا الحديث يخدم منهجية عالم التاريخ ، وعالم النفس ، وعالم الاجتماع ، والمفكر المسلم ، لأنه يوفر عنهم تكاليف تأسيس منهجية لدراسة أزمة الأمة الحضارية على حد تعبير المرحوم مالك بن نبي.
إن في الحديث تعبيراً صادقاً وصحيحاً عن تغيير اجتماعي ونفسي عميق ، أصاب النفسية البشرية عموماً (الإسلامية وغير الإسلامية) .. فعلى صعيد النفسية الإسلامية ، سارت الأزمة على طريق ( حب الدنيا وكراهية الموت) . وعلى صعيد النفسية غير الإسلامية ، نمت العقلية الاستعمارية التي تسعى هذه الأيام إلى نفي الإسلام من العالم تحت تسميات ، ومسميات متنوعة مثل (السلام .. والحضارة الغربية العالمية .. والأصولية الإسلامية) .
فالحديث يرى بأن المجتمع الإسلامي غثاء ، لأنه فقد الشعور برسالته الاجتماعية ، التي تأسست على (حب الموت وكراهية الدنيا من أجل الدنيا) كما وضح بأن المسلم أصبح من المخلدين للواقع الأرضي الفاني . حيث هبط الكثير من الناس ليعيشوا راضين في فوضى عالم الأشياء . فمعظم مواقف المجتمع الإسلامي أصبحت تدور حول محور (حب الدنيا وكراهية الموت) وذلك هو جوهر (الأزمة الحضارية) التي تمر بها البشرية ، بما فيها مجتمعنا الإسلامي ، الذي أصيب بالوهن (فلقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار حالة العالم الإسلامي ، بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية ، أي عندما لا يعود مجتمعاً ، بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل . ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك الحديث ، أكثر مما يدركه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر ، والعالم القابل للاستعمار ، الأمر الذي تعرضنا فيه لتجربة شخصية).
من هنا تتضح لنا أهمية هذا المدخل الذي ساعدنا على تشكيل الجملة السابقة من الملاحظات ، وفتح لنا طريق التأمل الأعمق . فهذه الطبيعة الدقيقة للأزمة ، هي المفتاح ، لأي تحول في مجتمعنا الإسلامي الراهن ، وفي مجتمعنا البشري القائم . فكل فلسفة للتغيير الحضاري ، تتجاوز هذا الوعي تعد جهلاً ، وانتحاراً في هذا الميدان الخطير ، وخير دليل على صحة هذا الزعم ، هو كل المشاريع النهضوية ، التي قامت في عالمنا الإسلامي المعاصر ، وكل الأمراض التي رافقت نمو الوجهتين الرأسمالية والشيوعية في العالم.(9/155)
لقد تجاوزت السنة النبوية في وعيها للأزمة الإنسانية الراهنة ، العلوم الحديثة بقرون من الوعي ، والجهد المخبري الذي سيثبت في النهاية أن حل الأزمة الإنسانية وتأهيليها ، لتدخل العصر العالمي ، مشروط بعلمها (أنه الحق) ولهذا قال المولى تبارك وتعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت : 53).
فحل الأزمة ينطلق إذن من عالم النفوس ، ويمتد في عالم المجتمع ، ثم ينتشر في عالم الثقافة ، وبعدها يدخل إلى عالم التاريخ ، ليتحول فيما بعد إلى منهج للسير في الأرض من أجل الاهتداء إلى السنن الإلهية . قال تعالى :(يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم )(النساء : 26).
وهذه هي رسالة السنة النبوية في حقل البناء الحضاري ، حيث تبين منهج كشف السنن ، وكيفيات تركيبها لتصبح ثقافة اجتماعية حية ، تتجسد فيها قيم الوحي ، ومعاييره ، ونظمه الحياتية المتنوعة ، والشاملة لحياة الناس الدنيوية ، والأخروية
==============
منطقية السنة النبوية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية
إن منطق السنة في التعامل مع الظواهر الاجتماعية منطق متميز ، أخذ قوته الاستدلالية ، ومنهجه البرهاني، من منهج القرآن الكريم ، الذي يمتلك حق النظر في الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، وفي كل غيب علمه عند الله سبحانه وتعالى ، ويتحكم في هذه الحركة بشكل مستوعب ، وصحيح لا ريب فيه مطلقاً. فهو صبغة الله ، ومن أحسن من الله صبغة. وعلى هذا فالسنة النبوية مثلاً عندما تتحدث عن ( قصص الأنبياء) ، فهي تكشف لنا عن تجارب حضارية عميقة وعن تركيب جوهري للحقيقة الدينية ، مع حوادث الكون ، والحياة . ومن هنا يكون لها القصص النبوي ، حق كشف السنن ، وتوجيه الناس إلى سنن الهداية . فعندما تعطي السنة النبوية حكماً حضارياً ، وتاريخياً مضطرداً ، فإنما تأخذ حجتها من الموقف القرآني الكلي ، وتعتمد فيما وصلت إليه على استقراء كلي للمنطق القرآني في دراسته للظاهرة التاريخية .. وهذا مثال لذلك ، فقد ذكر رسول الله صلي الله عليه و سلم: (ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى في قلوبهم الرعب ، ولا فشا الزنا في قوم قط ، إلا وكثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان ، إلا قطع عنهم الرزق ، ولا حكم قوم بغير الحق ، إلا فشا فيهم الدم ، ولا ختر بالعهد ، إلا سلط الله عليهم العدو ).
لنحاول فهم الحديث في منظور منهجي معين . ولتسهيل التحليل نقسم الحديث إلى موضوعات: - ظهور الغلول (مرض اجتماعي) في مجتمع يؤدي إلى (أزمة نفسية) ، من مظاهرها: (إلقاء الرعب في القلوب)، وهذا يؤدي بدوره إلى نتائج حاسمة في غير صالح المجتمع ، الذي يمارس هذه الأعمال . فالسبب مرض اجتماعي ، والنتيجة أزمة نفسية ، تجعل حياة الناس في قلق ، وفوضى ، وخوف ، وهذا صحيح ، ومعيش في حياتنا.
- فشو الزنا (مرض أخلاقي) في مجتمع يؤدي إلى (نتيجة كونية تدخل في إطار السنن التكوينية وتساهم في هلاك النسل) وهي حدوث الموت ، ومصداق هذا الحديث في هذه الأيام هو مرض (الإيدز) .
- نقص المكيال والميزان (مرض اقتصادي) يؤدي إلى (أزمة معاشية) هي انقطاع الرزق ، وهذ معناه هلاك الأموال.
- الحكم بغير الحق (مرض سياسي) يؤدي إلى (أزمة أخلاقية) هي التقاتل ، والتنازع ، وهذا سيؤثر في بقاء النسل ، ويساهم في فشو الدم الذي يخرب به العمران البشري.
- والختر بالعهد (مرض أخلاقي ونفسي) يؤدي إلى (أزمة حربية) وتقاتل وتسلط الأعداء ، وبالتالي الخوف ، وضياع الأمن ، وتعثر الاقتصاد ، وانهيار البلاد ، وهلاك مصالح العباد ، من حفظ للدين ، وللعقل ، وللنفس ، وللنسل ، وللأموال.
هذه الثنائيات التي يذكرها الحديث ، والتي تمثل سبباً ونتيجة ، ليست مذكورة على سبيل الحصر ، وإنما مجرد أمثلة بسيطة للسنن ، التي تتحكم في الظاهرة الاجتماعية في مستواهاا لاخلاقي ، والاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والتربوي ، والعسكري ، والعمراني ، والنفسي . أي أنه يمس كل حياة الناس ، ويرتب نتائج على أكثر من علم ، ومنهج وصعيد.
فالحديث يقدم منطقاً معيناً في فهم الحركة التاريخية ، والاجتماعية ، وبأمثلة تمس بعض جوانب الحياة الإنسانية ، والروح التي تسري في أحشاء الحديث هي الروح السننية . بمعنى أنه مبني على أسباب ، وقوانين ، وسنن مضطردة لا تتخلف في أي زمان ولا مكان ، في حالة توفر الشروط المحددة لكل قضية من القضايا المطروحة . ومن هذا المنطق بالذات ، استطاع النبي عليه الصلاة والسلام ، بحكمته ، وإحاطته بالأمور ، أن يخترق حدود الزمان ، والمكان ، ليقرر مسألة (الغثاء) التي تعيشها أمتنا اليوم . فهو ليس بالضرورة تكهن خرص ، وليس كذلك رجماً بالغيب ، وإنما تبصر ، وفهم . فهو وعي للسنن الإلهية ، ولقوانين الحركة التاريخية ، وهذا هو المنطق الكلي الذي جاءت السنة النبوية لتثبيته في حياة الناس ، وتنبههم عليه ، بوعي ، ومن خلال تجارب عملية ، ومواقف بشرية ، صنعت أحداث قسم من التاريخ العالمي ، هو تاريخ الحضارة الإسلامية ، بكل ما تحمله من خصائص متميزة .
فلو تساءلنا مثلاً عن سبب فشو الغلول ، والزنى ، ونقص المكيال والميزان ، والحكم بغير الحق ، والختر بالعهد .. إلخ ، لوجدنا السنة النبوية المطهرة ترسم لنا وعياً آخر ، على صعيد آخر من الأسباب ، والمنطق الاستدلالي ربما يهدينا هذا الحديث إليها:عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : ( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً . المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه ).
فالحسد ، والتناجش ، والتباغض ، والتدابر .. أمراض نفسية ، وأخلاقية ، تؤدي إلى سلوكيات ، وأعمال للجوارح ، تؤثر في الحركة الاجتماعية بأكملها .. والبيع على بيع الأخر ، والظلم ، والخذلان ، والكذب ، والتحقير .. إلخ أمراض أخرى تصدر عن نفس مريضة ، وكل هذه الظواهر السقيمة هي التي تصنع الأزمة داخل المجتمع بعد أن تكون قد كونتها في النفوس ، وبالتالي يحدث الانهيار الاجتماعي . والرسول صلي الله عليه و سلم يشير إلى مركز الداء العضال ، منبهاً إلى مصدره ، ومؤشراً على موقعه الحقيقي (التقوى ههنا) هناك في عالم القلب ، والفؤاد ، والعقل ، والنفس . ولهذا نجده في نفس الحديث ، يضع حدوداً أخلاقية لحفظ القلوب ، وتزويدها بالضابط الروحي ، والناظم الأخلاقي ، الذي يلهمها القدرة على الانسجام مع سنن الله في الخلق، (كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه ).(9/156)
ولا يتوقف النبي صلي الله عليه و سلم عند هذا الحد ، بل يرسم منهاج الحل للمشكلات ، ويعطي التدابير العملية لذلك ، وهذا ما نستخلصه من حديث سنني آخر: (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن رسول الله صلي الله عليه و سلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. ومن ستر مسلماً ، ستره الله في الدنيا والآخرة .. والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه .. ومن سلك طريقاً يتلمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة .. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون الكتاب ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده .. ومن بطّأ به علمه لم يسرع به نسبه ).
في هذا الحديث سنن ، وقوانين ، وتوجيهات تسعى إلى تأسيس القاعدة الأخلاقية للسلوك البشري ، وما التوجيهات ، والطرق التي قدمها الرسول صلي الله عليه و سلم في هذا الحديث ، بغرض تحقيق الرقي الروحي والسلوكي ، إلا مظاهر للغاية الأخلاقية الاجتماعية ، التي يقصدها الرسول صلي الله عليه و سلم . لقد ربط كل فعل بجزاء إلهي لا نظير له . فكما ربط تنفيس الكربة في الدنيا ، بجزاء إلهي ، هو تنفيسها في الآخرة - وما أعظمه من أمل يعيش من أجله المسلم - فقد ربط التيسير على المعسر ، بتيسير الله في الدنيا والآخرة . وهكذا تواصل منطقية السنة في تقديم نظامها البرهاني للحركة التاريخية ، ورسم وعيها في شكل نظام منهجي أخلاقي ، يمكن تطبيقه في أرض الواقع ، وفي حياة الناس ، وما غايتها إلا العمل من أجل المحافظة على مقاصد الشارع في الخلق ، كما أمر المولى تبارك وتعالى.
فالغاية القصوى للسنة ، والتي أخذتها من القرآن الكريم ، هي السعي إلى (إخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبداً لله اختياراً ، كما هو عبد لله اضطراراً).
إن هذا العرض العام لبعض الأحاديث ، مكننا على الأقل من اكتشاف المدخل الأولي، الذي يمكن أن نستعمله ، من أجل فهم منطقية السنة ، ونظامها البرهاني ، ومنهجها الاستدلالي ، ورؤيتها المنظمة للظواهر الإنسانية ، وتعاملها مع عالم الأسباب . فعمق هذه الأحاديث ، يعبر عن وعي الرسول صلي الله عليه و سلم لسنن الله في الخلق . وعليه فالسنة النبوية المطهرة ، ساحة خصبة للسنن الإلهية العاملة في الذكر ، والأنفس ، والكون .. واكتشافها ، وفهمها ، وتسخيرها ، مطلب شرعي ، ولازمة استخلافية ، لا تقوم بدونها حياة إنسانية مستقيمة على الطريقة.
================
السنة النبوية مصدر للثقافة الإسلامية
ولكي نتعامل بشكل جيد ، ونافع ، مع السنة النبوية المطهرة باعتبارها مركباً للفعل الحضاري الإسلامي ، الذي يراد له أن يعمل على حفظ مقاصد الشارع في الخلق ، يجب أن نلاحظ بأن هناك مستويات للتعامل ، كما أن هناك منهجيات ، وكيفيات ، سوف نقوم بعرض عام لها ، ضمن هذا العنصر الذي عقدناه لبحث منطقية السنة في تعاملها مع الظاهرة الاجتماعية.
إن السنة النبوية مصدر من مصادر الثقافة الإسلامية. وهذا يؤدي إلى البحث في مستويات الفعل الثقافي ، وكيف يتركب في الواقع البشري المعضل . فللثقافة وجهان : الوجه النظري ويمثل البناء التصوري ، والمفاهيمي ، والمعرفي ، والمنهجي للظاهرة الثقافية. والوجه العملي ، ويمثل التشكل الاجتماعي ، والسلوكي للظاهرة . فدراسة أي ثقافة بشرية لابد أن تمر على المستويين السابقين : مستوى الإطار المرجعي ، ومستوى الإطار السلوكي . ودراسة أي منهما بمعزل عن الآخر ، سوف يجزيء الظاهرة الثقافية ، ويفصل شقيها المتلازمين . فكل السلوكيات ، والمواقف العملية ، والبنى المادية لثقافة ما ، إنما يرجع إلى الجذر النظري والمرجعي ، الذي يطبع عالم الثقافة بطابعه ، وبنائه الخاص ، المستمد أصلاً من تصورات المجتمع ، ومواقفه الكونية ، والحياتية.
وما دامت السنة النبوية مصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية ، فإنها تؤثر في الجانبين معاً . وعليه فمن الضروري دراستها من الجانبين كذلك:
- السنة النبوية كمصدر للبناء الثقافي النظري والمرجعي (عالم العقيدة والأخلاق الإسلامية).
- والسنة النبوية كمصدر للنظام السلوكي لدى الأشخاص (عالم السلوك وعالم العمران).
في المستوى الأول ، تظهر لنا مجالات التعامل مع الظاهرة الثقافية التي منها:
- مجال التصور الكوني.
- مجال المفاهيم.
- مجال المنهجية.
- مجال النظرية المعرفية.
- مجال القوانين الثقافية.
- مجال القوانين الأخلاقية.
- مجال المشروع الاجتماعي.
- ومجال التنظير ، وضوابطه.
أما في المستوى الثاني للظاهرة الثقافية ، هناك كذلك مجالات للتعامل نذكر منها:
- مجال الواقع الإنساني.
- مجال السلوك البشري.
- مجال الجهد البشري.
- مجال المعاش والعمران البشري.
- ومجال التاريخ ، والسير في الأرض.
والسنة النبوية تدخل في توجيه الجانبين معاً ، حتى ينسجما مع الخطاب الإلهي ، وينضبطا مع القانون الفطري العام الذي جاءت الشريعة لتدل عليه ، وتعلم بأنه صبغة الله التي يجب أن يعود إليها البشر في صناعة حياتهم ، وتسخير سنن الله من أجل تحقيق السعادة في الدارين.
إن فهمنا للسنة النبوية بهذه الشمولية ، وإدراك قدرتها الفائقة على التوجيه في مختلف الأصعدة السابقة ، سوف يتيح لنا فرصة التعرف على الخير الإلهي الذي أودعه سبحانه وتعالي في جهد نبيه صلي الله عليه و سلم كما سيطلعنا على القدرة الذاتية للوعي النبوي المضمن في سنته ، التي تمثل الإطار العملي لمقاصد الشارع الحكيم في الخلق ، ولحركة تنزيل الخطاب الرباني في صورة موقف اجتماعي ، كان من محصلته بناء الإنسان ، والمجتمع ، والثقافة الإسلامية المعبرة عن حضارة الإسلام في الأرض
=============
المنهج النبوي ومفهوم التغيير الحضاري
سوف لا نسعى إلى البحث عن مفهوم للتغيير الاجتماعي من وجهة نظر العلوم الاجتماعية ، والسلوكية الحديثة ، لسبب واحد ، هو أنها ليست في العمر الحضاري الذي تعيشه أمتنا عموماً ، والحركة الإسلامية التغييرية خصوصاً . فالموقع العملي للأحداث التي تمر بها الأمة داخلياً ، وخارجياً ، مختلف عما يدور في الذهنية الحضارية المعاصرة ، ولما تسعى إلى تحقيقه من الأهداف ، تبعاً لتصورها الكوني . أعني أن هذه العلوم ، وبشكل خاص علم اجتماع التغيير والحضارة ، والثقافة ، تعيش في عمر حضاري آخر ، يتصل بجدلية الحضارة القائمة ، وصيرورتها التاريخية الذاتية ، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمها، مالم تصبح معارفها معبرة عن القانون الفطري ، الذي يحكم الخلق.(9/157)
ومراعاة اختلاف الأعمار الحضارية ، لازمة منهجية في مجال التغيير الاجتماعي ، وقد أشار إليها ابن خلدون بذكاء في قوله: (اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة ، وحالات متجددة ، ويكتسب القائمون بها في كل طور ، خلقاً ، من أحوال ذلك الطور ، لا يكون مثله في الطور الآخر ، لأن الخلق تابع لمزاج الحال الذي هو فيه). وابن خلدون هنا ، يوضح قاعدة مهمة في مستوى الدولة ، يمكننا أن نعممها لتصبح حاكمة للسلوك الحضاري ، وهذا ما أكده مالك بن نبي رحمه الله ، بقوة في قوله: (وعليه فلا يجوز لأحد وضع الحلول والمناهج ، مغفلاً مكانة أمته ، بل عليه أن تنسجم أفكاره ، وعواطفه ، وأقواله ، وخطواته ، مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته .. أما أن يستورد حلولاً من الشرق أوالغرب ، فإن ذلك تضييعاً للجهد ، ومضاعفة للداء . إذ كل تقليد في هذا الميدان ، جهل وانتحار .. وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية ، ناتجة عن فكرة معينة ، تؤرخ ميلادها عمليات التطور الاجتماعي ، في حدود الدورة الحضارية التي ندرسها .. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها ، في إطار الدورة الزمنية الغربية ، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية).
ونفس الموقف نجده عند المفكر السيلاني المسلم البروفيسور عبد المجيد مكين ، الذي يرى أنه: (في ظل الطرح الإسلامي ، يبدو لنا معيار الوحي ، هو المدخل الوحيد لدراسة مشكلات وقضايا الفكر الإسلامي ، إذ لا تجدي الطريقة العلمية الحديثة شيئاً ، في استكناه خبايا الظواهر الإسلامية ، ومغازيها الحقيقية ، وأبعادها الجوهرية ، التي لا يمكن فهمها إلا في ضوء معيار الوحي . فالظواهر الإسلامية لا يمكن إدراكها بمعزل عن منهاج الوحي ، وسياقه الذاتي . فالطريقة العلمية الحديثة تبقى دوماً مفتقرة إلى عنصر أساسي ، هو مخ البحث وروحه ، وهو من هبات معيار الوحي للباحث المسلم ، حيث لن يجد هذا العقل ذاته ، ووعيه ، إلا ضمن هذا الإطار).
فعندما أؤكد على هذه القضية ، فتأكيدي لا ينفي التعامل مع المناهج الاجتماعية السائدة في الحقل التغييري ، وإنما يتطلب الأمر دائماً أن نستعمل إمكاناتنا العقلية ، ومنهجيتنا الذاتية كيما نتجاوز بعض المراحل الخطيرة .. والمنعطف الحضاري الراهن ، الذي نعيشه ، منعطف من المنعطفات ، التي تحتاج إلى تجاوز أصيل ، لأننا نعيش في مرحلة التأسيس لعمل نهضوي جديد ، سوف يثمر في مستقبل الأمة ، وسترى الأجيال اللاحقة عمل أجدادها الذي قاموا فأعلنوا ضرورة العودة إلى مصدر الطاقة الخلاقة ، الذي أشع من قبل على الإنسانية ، عندما فتح لها طريق التفكير العلمي ، الذي يخضع لقواعد منهجية ومعيارية أخلاقية ، قصد بها الشارع الحكيم تحقيق مقاصد الخلق في الدارين.
=============
التغيير الحضاري في ضوء وعي المنهج النبوي
إذاً لابد لناأن نبحث عن معيار آخر ، نعرف في ضوئه التغيير الحضاري ، ونحدد مضامينه . ولا يمكن ابتداء أن نعثر على هذا المعيار إلا في إطار (النظام التوحيدي) أعني في معيار الوحي الإلهي ، الذي يشتمل على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
فتحديد مضمون للتغيير الحضاري ، لابد أن يتم من خلال استقراء لمقاصد ( الوعي التغييري في المنهج النبوي ) ، وفهم عميق على المنهج التغييري الذي سلكه النبي عليه الصلاة والسلام في عملية البناء الاجتماعي الأولي ، أي في (عملية الإسلامية الحضارية الشاملة) الأولى التي حقق بها مرتبة (الأمة) للجماعة الإسلامية المؤسسة للحضارة التوحيدية.
طبيعة التغيير الإسلامي:
إننا كلما تعمقنا في فهم الأشياء ، وفق نموذج الإيمان التوحيدي ، كلما أحسسنا بضخامة مسؤوليتنا أمام الله، ثم أمام أنفسنا ، وأمام التاريخ ، وأدركنا خطورة واجباتنا أمام الواقع الإنساني المعضل ، وخاصة في مراحله الراهنة ، وأطواره المتوقعة . فموقفنا الحضاري اليوم مازال غامضاً ، وبشكل ملح في ميدان قدرتنا على وعي مناهج التعامل مع خطاب الله تبارك وتعالى ، وفقه ضرورات استيعابه العملية ، أي على المستوى الاجتماعي كمشروع حضاري . وسوف لن يتحقق لنا وعي رسالي اجتماعي ، إذا لم ندرك موقفنا الجماعي (كأمة) إزاء موضوع وجودنا الحقيقي في هذا العالم الأرضي . أعني موضوع (الاستخلاف) وتبعاته على صعيد العبودية والعمران . وهذا الأمر لن يتم لنا على الوجه المرغوب ، إذا لم نفهم موجبات تحصيل (التغيير الاجتماعي) في واقع أمتنا المتردي . فالتغيير اليوم من متطلبات استمرارية الأمة ، ومن شروط استعادتها لهيبتها الحضارية ، وتمكينها للناس ، كيما يسترجعوا ما فقدوا من فطرتهم الخيرة. والحديث عن التغيير هنا لا ينسحب إلى ما رسخه العقل الغربي منذ أربعة قرون ، القرون التي ولدت فوضى العالم الغربي المنهجية والثقافية الراهنة ، ولكن التغيير المنشود هنا هو ذلك الجهد الإنساني ، الذي يتيح للناس فرصة توفير موجبات (الوراثة الحضارية) ويعينهم على السير السنني في الكون . فهو تغيير عالمي ، علمي ، عملي ، سيتجه بالإنسانية من (العهد الحضاري) إلى (الطور الاستخلافي) الذي سيعبر عن الفعالية الكونية للتوحيد من الوجهة الاجتماعية ، ويفسر المشروع الحضاري للإسلام من الوجهتين النفسية والثقافية ، كما سيعلن عن إفلاس المنطق البشري الخاضع لسلطان المستكبرين ، ويخلصه من نزعة: (أتعبدون ما تنحتون) ويمده بالقدرة على فهم قيمة (اقرأ باسم ربك ) إذ بين القراءة باسم ما ينحتون ، والقراءة باسم ربك ، فرق كالفرق الموجود بين الكفر والإيمان ، والباطل والحق.
============
المنهج النبوي كمركب حضاري مشكلة توجيه العملية التغييرية:
فرغنا فيما سبق ، من الحديث عن بعض الأفكار المتعلقة بالجانب النظري لعملية التغيير ، في ضوء المنهج النبوي ، وبقى لنا في هذا الفصل أن نقدم تفسيراً نفسياً ثقافياً ، واجتماعياً تربوياً ، لدور المنهج النبوي في تركيب حضارة ، وتوليد أمة في التاريخ هي (الأمة الإسلامية) .
ففي كل عمل تغييري ، أو توليدي لثقافة حضارية ، لابد من فلسفة تغييرية أو (توليدية) تقوم بتركيب عناصر الاجتماع البشري ، لتنتج منها وحدة تاريخية تمثل في جوهرها (المجتمع الوليد) ، الذي سيسعى إلى تحقيق رسالة جماعة من الناس ، في ظرف زمني معين ، استجابة لمذهبية كونية معينة ، وبوسائل معينة ، ولغاية معينة.
مشكلة توجيه العملية التغييرية:(9/158)
الدارسون لميلاد مجتمع ، كحدث تاريخي ، والمتتبعون لتلك اللحظات الحية التي تهيئ لنشوة اجتماع بشري رسالي ، صادر عن عقيدة تغييرية معينة ، تحمل في أحشائها مشروعاً اجتماعياً تغييرياً ، يحتاجون في الحقيقة إلى فهم بعض القضايا المتعلقة بجملة من الترتيبات الأولية ، ذات الصلة بفلسفة التغيير ، ومنهجيته . فانطلاق أي تغيير اجتماعي ، مشروط ببعض الموجبات الأساسية ، التي تمثل في جوهرها (تحدياً) واقعياً لحركة التغيير ، وعلى رأسها ( القيادة التغييرية ) التي تحمل ( هم ) توجيه العملية التغييرية ، بكل ما تحمله هذه المهمة من صعوبات ، وابتلاءات متنوعة المصادر ، ومختلفة الأشكال ، ومتباينة الشدة والقوة . فالعملية تستدعي وعياً معيناً ، نطلق عليه تسمية ( الوعي الانطلاقي ) الذي يحتاج إلى نظرية في (التوجيه الانطلاقي) وأعني به ( جملة الأفكار والأعمال ، والاجراءات ، والخطوات المتعلقة بالإجابة عن هذه التساؤلات : ما مضمون النموذج الجديد ، الذي ننتمي إليه؟ وماذا نريد من خلاله؟ وكيف نحقق ما نريده؟ وما هي الوسائل المطلوبة لذلك ؟ وكيف نتعامل مع الوضع القائم ، الذي نريد تغييره؟ وبأي منهجية نعالج قضاياه ؟ فهذه المجموعة من الاستفسارات ، بحاجة إلى مخطط ، وبرنامج يحدد كل عنصر من عناصرها، ويقدم له الإجابات النظرية ، والعملية الكفيلة بحل إشكالاته ، وتحقيق متطلباته.
إن التوجيه في لحظات إنطلاق العملية التغييرية ، يختلف حتماً عن التوجيه الذي سيأتي بعد إنجاز هذه الخطوة ، بحيث تطرح فيما بعد ، أنواع أخرى من التوجيه منها: (توجيه المحافظة) على ما حققته الحركة التغييرية من منجزات على مختلف الأصعدة التغييرية ، ومنها (التحدي الاستيعابي) الذي يقوم بحل ما يواجه الحركة داخلياً وخارجياً من سلوكيات ومواقف ، قد تغير مسارها عن مسالكه الصحيحة ، ومنها ( التوجيه الاستمراري ) الذي يهدف إلى دفع الحركة لتستمر في خط سيرها الأصيل ، وتدوم في حركتها التغييرية ، مهما كانت التحديات .. ومنها ( التوجيه التقويمي ) الذي يقوم بعمليات التقويم للأزمة ، وللأشخاص ، والأشياء ، والأفكار ، في المنعطفات المختلفة للعملية التغييرية .. ومنها ( توجيه التوريث للتغيير ) بمعنى التفكير في مناهج ، وكيفيات ، ووسائل توريث الرسالة التغييرية بين الأجيال المختلفة ، كيما تواصل الحركة فعلها التغييري دونما انقطاع ، وتمرد على الأصول .. ومنها ( توجيه تنمية الوعي مع حركة التغيير) وفيها يطلب تجنب تخلف الوعي التغييري عن هموم المجتمع ، ومتطلبات المرحلة ، وضرورات الزمان والمكان .. إلخ . فكل هذه الأنواع من التوجيه وغيرها بحاجة إلى وعي تام ، من قبل القيادة التغييرية على الأقل ، كيما تتمكن من خوض معركة البناء ، والتغيير بكفاءة.
فالتوجيه إذن مشكلة من المشكلات الأساسية في أي عمل تغييري ، غايته بناء مجتمع على أصول رؤية كونية معينة.
فلسفة البدء والتوجيه الانطلاقي:
التوجيه الذي يلزم القيادة التغييرية في لحظات الانطلاق ، يعتبر من أقسى التحديات في المجال (المنهجي)، لأن حركة ( التحديات ) للواقع القائم ، ستسعى إلى مخاطبته بنوع جديد من الواجبات والأفكار ، التي تختلف كثيراً أو قليلاً عما ألفه من أوضاع ، وفي القرآن تعبير عميق عن هذا النوع من التحدي ، الذي تواجهه المجتمعات القائمة ، من قبل قوى التغيير الجديدة ، فيكون جوابها ما تعبر عنه هذه الآية بعمق . قال تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون ) (الزخرف: 22).
فهذا النوع من الإحساس ، والسلوك المضاد لحركة التجديد ، إنما مرده إلى النفسية الأثرية ، والمقتدية بغير وعي ، والمحافظة على الوضع القائم الذي ألفته ، وتحول عندها إلى ثقافة آبائية مستحكمة . ومن هنا تكون الحركة التغييرية كمن يريد إيقاف أنفاس المجتمع القائم ، وقبض روحه القديمة ، ولهذا فالمجتمع القائم ، يرد بعنف على هذا السلوك ، ( والمجتمع الجاهلي ) الذي عاصر النبي صلى الله عليه و سلم خير دليل لهذا النوع من السلوك.
ولكي يكون التوجيه الانطلاقي متماشياً مع قوانين البناء الحضاري ، فإن القيادة التغييرية مطالبة بمواجهة ، وتوجيه أول عمل على طريق التغيير الاجتماعي وهو : ( التحديد الدقيق ، والصحيح لموقع المرض ، والأزمة القائمة في كل مستوياتها ) وعليه فمشكلة أي حركة تغييرية تلك المتصلة بالتاريخ التكويني لها ، هي امتلاك القدرة الكافية على التحديد الإيجابي لموقع ، ونوعية المرض ، الذي يراد استهدافه بالعلاج ، إذ الأمراض تختلف ، وتتنوع بشكل كبير . فمريض السرطان مثلاً يختلف عن مريض السل ، أو فقر الدم على الصعيد البيولوجي ، ومريض الثقافة ، يختلف تماماً عن مريض السياسة ، أو الاقتصاد ، على الصعيد العقلي . وهكذا فالتحديد مطلوب ولازم ، لأنه بهذا العمل الأساسي الأولي تنبني فلسفة الانطلاق في التغيير، ومناهجه ، وأهدافه ، ووسائله ، وطبيعته . والعجز عن آداء هذا العمل المفصلي ، سيؤدي حتماً إلى تضييع الجهود و( تبديدها ) خارج دوائر التغيير المطلوب ، وربما (تحريفها) عن مسارها الحقيقي ، وهذا ما حدث مثلاً مع الثورة الفرنسية ، التي استأثرت بها جماعة على حساب الفلسفة الانطلاقية ، التي قامت الحركة لتحقيقها ، ونفس الأمر تقريباً حدث للثورة الإسلامية التحريرية في الجزائر .
فأول نقطة استفهام كبرى تواجه القيادة إذن ، في الطور الأول من أطوار التغيير الاجتماعي ، هي تقديم الجواب الصحيح ، والواضح المعالم ، والذي تضبط به مشكلة المجتمع ضبطاً محكماً ، بحيث تعرف طاقاته ، وإمكاناته ، وقواه المختلفة ، وتناقضاته المتنوعة ، ونقاط الضعف والقوة فيه ، وتدرك مداخل استجابات أفراده ، ومفاتيح التعامل مع عقائدهم ، وطبائعهم ، وعوائدهم ، ومواقفهم التي درجوا عليها . والقيادة التغييرية ، عندما تقوم بهذا العمل ، ليس فقط من أجل التوجيه الخارجي للمجتمع ، ولكن وبشكل ملح من أجل التنظيم الذاتي لطاقاتها ، وإمكاناتها ، وتوجيه مشكلاتها ، وحل معضلاتها ، وترتيب قواها للمواجهة ، والمراجعة ، والإقدام ، والإحجام.
إن فلسفة البدء في التغيير ، وكل ما يتعلق بها من شروط ، ومتطلبات ، تقوم أصلاً على هذا (التحديد) في صحتها وخطئها ، فلا يمكن وضع برنامج للتوجيه الانطلاقي في مختلف مراحله ومستوياته بدون هذا الوعي على المشكلة وامتداداتها التاريخية ، والثقافية ، والاجتماعية ، والسلوكية ، والمنهجية..
=============
المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية(9/159)
إن ميلاد الجماعة في التاريخ ، يعني من جهة ، ظهور فكرة جديدة ، داخل حركة المجتمع ، تكون مسنودة في كل الحالات بقيادة تغييرية ، ويعني من جهة أخرى ، بداية ظهور حركة وجود جديد ، ينزع إلى تحدي الوضع القائم ، ويسير بشكل معين ، لتحقيق غاياته ، ومضامين عقيدته ، من الناحية الواقعية . بمعنى أن الحركة الجديدة ، سوف تؤدي إلى (توليد نموذج تربوي) لبناء إنسان جديد ، يتبنى الفكرة الجديدة ، ويعمل من أجل تحقيقها في حياة الناس . وهذا مما سيؤدي إلى وضع نواة بناء اجتماع بشري ، يتميز بخصائص ثقافية معينة ، مازالت في حيز القوة . فميلاد الجماعة في التاريخ ، هو عنوان على بداية دورة حضارية ، ذات نزوع عقائدي ، مخالف لما هو موجود في لحظات ميلادها . فهذه الجماعة تقوم ، وتتحرك ، لأنها تشعر بضرورة ، وأهمية ، وإلزامية حركتها ، وذلك بغرض تغيير شرائط واقع ، لم يعد قادراً على تقديم دوافع العيش لأفراده ، ومؤسساته ، وأفكاره المتقادمة ، التي تحتاج إلى تجديد ، كيما يرتفع وعيها إلى مستوى الأحداث ، التي يمر بها (الوعي الجماعي) للمجتمع في صلاته الداخلية والخارجية . ومصيبة (تخلف الوعي)، عن فهم ومعايشة وقائع حركة العالم ، من الإصابات المنهجية ، التي تعيشها كثير من المجتمعات المعاصرة ، والتي منها المجتمع الإسلامي الراهن.
إن ميلاد الجماعة من الوجهة الثقافية ، دليل على ظهور منهج جديد للسلوك الاجتماعي ، وبروز اتجاه فكري ، يحمل قيماً تهدف إلى إعادة بناء المجتمع القائم ، وطبعه بطابع آخر ، لمّا يتحول بعدُ إلى نظام ثقافي مُولِّد للسلوك ، والنشاط الاجتماعي . فعندما يصبح ثقافة اجتماعية فذلك إعلان ، على أن الجماعة قد بدأت رسالتها ، ودخلت بذلك إلى ساحة (العمل الحضاري) ، وفي هذه الحالة تكون القيادة التغييرية ، مطالبة بالتنزيل المستديم لمضمون عقيدتها ، ووجهتها الحياتية إلى عالم النفوس أولاً ، ثم إلى عالم المجتمع ، الذي ينقله بدوره إلى عالم الثقافة ، التي تقوم بتغذية جنين الحضارة ، وتمده بلوازم النماء ، والنمو ، والنضج ، والاستمرار . فهذا هو ميلاد الجماعة في التاريخ (ولكن عندما نتحدث عن ميلاد معين ، فإنا نعرفه ضمناً " كحدث " يسجل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير ، التي تتعرض لها الحياة ، ويظهر هذا الشكل في صورة نظام جديد للعلاقات بين جماعة معينة .. الجماعة التي تغير دائماً خصائصها ، بانتاج وسائل التغيير ، مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير). فهذا النظام من العلاقات ، هو الذي يشكل المغزى الثقافي للجماعة ، التي تريد إنجاز عملية التغيير . (فالتوليد الجماعي المشترك للتاريخ) ليس عملاً عفوياً ، بمقدار ما هو جهد خاضع لسنن البناء الحضاري ، التي تحكم مقاييس السلوك ، داخل عالم الأفكار ، والأشخاص ، والأشياء . إذ (العمل التاريخي بالضرورة من صنع الأشخاص ، والأفكار ، والأشياء ، جميعاً ، ومعنى هذا أنه لا يمكن ، أن يتم عمل تاريخي إذا لم تتوفر صلات ضرورية داخل هذه العوالم الثلاثة ، لتربط أجزاءها في نطاقها الخاص ، وبين هذه العوالم ، لتشكل كيانها العام من أجل عمل مشترك .. وهذا الشرط يستلزم كنتيجة منطقية وجود عالم رابع هو شبكة العلاقات الاجتماعية). ونحن نريد أن ندرس المغزى الثقافي لميلاد الجماعة التغييرية في هذا المستوى ، وذلك باستيحاء النموذج النبوي ، موضوع هذه الدراسة.
الترشيد النبوي ونموذج التغيير الرسالي:
كما أسلفنا القول: فإن أول عمل تؤديه (القيادة التغييرية) على طريق نفي (ا لخبث الحضاري) هو تحديد موقع المرض الاجتماعي ، باعتباره لازمة منهجية في علم التغيير الحضاري.
ومن هنا كان أول عمل أنجزته القيادة النبوية بدقة بارعة ، وإيجابية كاملة ، وبترشيد واعٍ ، هو إدراك طبيعة المشكلة ، التي كانت تعشش في النفسية الجاهلية ، وفي أعماق العالم الثقافي المعاصر للرسول صلى الله عليه و سلم . لقد أدركها عليه الصلاة والسلام بشكل مستوعب ، استوفى شروط التحديد المنهجي العميق، وهذا الأمر يتبدى لنا بجلاء في المواقف ، والسلوكيات ، التي كان يتخذها النبي في سياق ترشيده للعملية التغييرية ، وتعامله مع النفسيات ، والعقليات ، والثقافات، والمشكلات المطروحة عليه يومياً . لقد فهم عليه الصلاة والسلام مشكلة المجتمع المنهك عقيدياً ، وثقافياً، وأخلاقياً ، ودبياً ، وسلوكياً .. ففي أعماق الواقع الجاهلي الذي كان مخرباً من الوجهة العقائدية - مما سمح بانتشار عبادة الأوثان ، والأصنام ، والمعبودات الأرضية المتنوعة (إثنوية ، ثالثية ، تعددية) - ومنهاراً من الناحية الاجتماعية ، والثقافية ، التي فتحت الطريق لظهور الزنى ، واللهو ، وشرب الخمر ، وإيتاء المحرمات ، ووأد البنات ، والرق ، والعبودية ، كما أنه متحلل من الناحية السياسية التي جسدت ( العقلية الفرعونية). ومختل من الناحية الاقتصادية التي كرست ( الثقافة القارونية ) . ففي ظل هذا الوضع المتأزم ، كان الرسول صلى الله عليه و سلم يمارس عمليات الترشيد للعملية التغييرية ، ويتحرك بوعي لترسيخ معالم النموذج الحضاري الإسلامي
=============
المنهج النبوي والنظرة الكلية للمشكلة
لقد قام النبي عليه الصلاة والسلام بمعاينة المريض الجاهلي ، وتشخيص أسقامه على مستويات متعددة ، نركز في هذه الدراسة على مستويين:
- المستوى الكوني ، أي مستوى الرؤية الكونية .
- والمستوى الاجتماعي ، أي مستوى المشروع الاجتماعي .
أولاً : الرؤية الكونية
لقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام ، أزمة ( إنسان ما قبل الإسلام ) في مستواها الكوني عن طريق الوعي القرآني ، وأرجعها إلى ( مشكلة غياب الرؤية الكونية الصحيحة ) لقضايا الإنسان ، والكون ، والحياة ، وموضوع كل واحد منها وغاياته ، ووظائفه .
فلم يكن عليه الصلاة والسلام ، ليضع مكان المرض أعراضه ، ولا مكان الأعراض أسبابها ، ولا مكان الأسباب آثارها ، ولم يكن ليغير الواقع الاجتماعي المخرب ، قبل تغيير واقع أسبق منه منهجياً هو (الواقع النفسي) .. ولم يكن ليغير الواقع النفسي ، قبل امتلاك نموذج تربوي للتغيير ، يستقيه من ( مذهبية كونية).
فالنبي عليه الصلاة والسلام يتحرك في وسط بشري ، ولكنه موجه بتعاليم الوحي الأعلى ، الذي دوى صوته من لحظات اقرأ) العالمية التي نشرت صوت الرسالة الخاتمة . فتلك هي اللحظات التي طبعت وعي النبي صلى الله عليه و سلم للأشياء ، وحددت له وجهة التغيير ، ومنهجيته . كما صاغت فهمه للحوادث والأفكار ، وشيدت إدراكه للسنن الإلهية ، وفتحت له سبيل الرشاد ، والهداية . ومن هنا كانت حركته الترشيدية ، متصفة بالخصائص الثلاث ، التي أشرنا إليها في مدخل هذه الدراسة : الوعي المقاصدي ، والوعي البلاغي ، والوعي السنني . ففي سياق فهمه لطبيعة المرض على المستوى الكوني مثلاً ، رأى بأن المرض عقائدي متصل بأزمة غياب الرؤية الكونية الصحيحة ، التي تهدي نشاط الناس ، وتريهم الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، وتسلك بطاقاتهم على طريق مشروع حضاري ، يخدم غاية تنفعهم في دنياهم وأخراهم.
فطبيعة الأزمة كونية ، وتصورية ، وهي نتاج لافتقاد النموذج الحياتي السليم ، والصحيح ، الذي يشكل للناس شرعة ، ومنهاجاً ، يحدد لهم معالم طريق الاستخلاف ، ويرسم لهم أبعاد المذهبية التوحيدية ، في مستوياتها الأربعة : الخالق سبحانه وتعالى ، والإنسان ، والكون ، والحياة.(9/160)
فهذا الغياب للرؤية الكونية ، هو الذي أنتج (إنسان الفراغ الكوني) الذي لا يملك أجوبة مقنعة ، وصحيحة ، عن التساؤلات الكونية الكبرى ، التي لا تستقيم الحياة البشرية بدونها.
المعالم الكبرى للمذهبية التوحيدية
فالمذهبية التوحيدية التي غير بها رسول الإنسانية صلى الله عليه و سلم وجه التاريخ الجاهلي ، وبنى بها حضارة الإسلام السامقة ، تتشكل من منطلقات أساسية سنحاول إثباتها في هذا العنصر دون شرحها - وذلك بسبب طبيعة البحث ، ومنهجيته الحالية - وهي:
- التوحيد كأساس مفاهيمي ، وتشريعي ، ومعرفي.
- الإيمان والتصديق بوحدة بعث أنبياء ورسل لكل الأمم بدون استثناء ، قال تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( فاطر:24).
- ضرورة الإيمان والتصديق بالملائكة .
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة مضمون البلاغ الرباني للناس كافة (عبادة الله ، وتعبيد الناس له).
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصدرية للبلاغ والوحي (المولى تبارك وتعالى).
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة جهل الغيب الإلهي ، من قبل البشر.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة القضاء و القدر خيره و شره.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة نصرة الله للأنبياء والمرسلين ، ولعباده الصالحين.
- ضرورة الإيمان والتصديق بأن الأرض يرثها الصالحون.
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصدرية للخلق والكون والحياة (الله سبحانه وتعالى).
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة الابتدائية للخلق.
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة الهدفية للخلق (الاستخلاف) .
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة التشريعية للخلق (الله هو المشرع الحقيقي) .
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة التكريمية للإنسان (كل البشر بدون استثناء) .
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الفطرة ، والإرادة البشرية (في اختيار الخير والشر).
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة المسؤولية الفردية للناس عن أعمالهم أمام الله سبحانه وتعالى.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الرزق الإلهي للمخلوقات كافة.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة التسخير الكوني (الكون المادي) للناس كافة.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة التسخير السنني (الكون السنني) لكل البشر.
- ضرورة الإيمان والتصديق بالوحدة المصيرية للخلق ، (الموت والرجوع إلى المولى تبارك وتعالى).
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة بعث الخلق بعد الموت.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الحساب الإلهي ، للناس.
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة الجزاء الإلهي ( الجنة والنار).
- ضرورة الإيمان والتصديق بوحدة العدل الإلهي.
ثانياً : الرؤية الاجتماعية:
عندما نتأمل المشكلة السابقة من منظور عالم اجتماعي ، تبرز لنا أحد الجوانب الأخرى للأزمة الجاهلية . الجانب الذي يصلنا مباشرة بعالم الممارسة اليومية ، والحركة الواقعية للإنسان الجاهلي في ظل الثقافة الجاهلية . الثقافة الأرضية العاجزة عن السمو إلى مستوى الوعي التوحيدي . فالظاهرة الجاهلية من هذه الزاوية ترسم لنا صورة أخرى ، من صور المأزق العقائدي ، الذي كان وراء محنة الجاهلية . فالإنسان هناك كان سلبياً لجملة من الأهداف كرس ذاته ، وحياته ، وطاقته ليحققها . فكل قدراته الذهنية ، والجسدية ، والمادية موجهة لخدمة هذه الغاية ، والدافع الأساس الذي كان وراء حركة الجاهلي ، والمبرر المعقول بالنسبة إليه ليتحرك بالشكل السلبي ، الذي أشرنا إليه ، وهو تلك الأهداف التي سنتعرف عليها من خلال هذين المثالين:
المثال الأول:
ففي مقالة جعفر بن ابي طالب للنجاشي في أعقاب حوادث الهجرة الأولى إلى الحبشة قال : (يا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي الضعيف).
المثال الثاني:
في مقالة مبعوث الكفار عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (يا ابن أخي إذا كنت تريد بما جئت به من هذا مالاً ، جمعنا لك من أموالنا ، حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا ، حتى لا نقطع دونك ، وإن كنت تريد به ملكا سودناك علينا) .
يبدو أن هذا البيان المختصر عن حالة المنطق الجاهلي ، يستطيع أن يقدم لنا على الأقل الصورة الأساسية لطبيعة الحياة الجاهلية ، وملامح فلسفتها الاجتماعية . فالبشر هناك من الوجهة الاجتماعية ، يعانون من خلل ، جعلهم رهائن (دائمين) لجملة من الأهداف السلبية ، التي لم تتح لهم فرصة تفتيق طاقاتهم ، وتسخيرها في خدمة رسالة معينة ، ترتفع قليلاً أو كثيراً عن الفلسفة الأرضية المغرقة في المادية ، والظلم الاجتماعي . لقد حصر الاجتماع الجاهلي نفسه في سجن (الاهتمامات البسيطة) المتوارثة ، عن أجيال الفراغ العقائدي . ويبدو كأن خلاصة أمراض الجاهلية الإنسانية ، وجدت لها مكاناً آمناً للتعشيش ، والبيض ، والتفريخ ، والنمو في ذات الجاهلي . فالجاهلي يقدم لنا أزمة مثلثية الشكل ، تشتمل على ثلاث زوايا :
- زاوية الهوى والاشتغال بالعرض الدنيوي الزائل.
- وزاوية عبادة الأصنام ، والإعراض عن الحق تبارك وتعالى.
- وزاوية الجمود العقلي (الآبائية) والركود الثقافي .
قال تعالى : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً )(الفرقان : 43)(أتعبدون ما تنحتون )(الصفات : 95).
ولو استعملنا اللغة الاجتماعية ، للتعبير عن الأزمة الجاهلية ، لوجدنا بأن هذه (الأهداف البسيطة) لا تقدم مشروعاً اجتماعياً متكاملاً ، لتوجيه الطاقة الحيوية للمجتمع ، كيما تتحرك على خط التحضر ، والتثقيف ، تبعاً لإيديولوجية معينة . ولهذا فالمجتمع الجاهلي ، انعدمت فيه الفعالية الحضارية ، وبالتالي فقد القدرة على التأثير في حوادث العالم ، التي كانت تمر بهدوء يخدر النائمين ، بعيداً عن كونه الجغرافي والفكري ، هناك في ديار الحضارة الفارسية ، والرومانية ، حيث كانت تصنع الظاهرة الحضارية ، استجابة لعقيدة تلك المجتمعات . وسوف نرى بعد مدة غير طويلة ، من تحرك النبي صلى الله عليه و سلم ، كيف أصبحت المنطقة السابقة ، محطة لبناء حضاري عظيم ، استقطب أنظار الحضارات القائمة ، وهد فيما بعد أركانها من الأساس.
إن الناس في المجمع الجاهلي ، كانوا يستبسلون في دوامة أهداف بسيطة ، دلّ (علم السير في الأرض) أنها هي التي أغرقت كل الحضارات القديمة ، تلك الحضارات التي كانت تقدس أشباه الأرباب الأرضيين، وخير مثال نسوقه هنا هو نموذج المجتمع الفرعوني القديم .. ونفس هذه النزعة سوف تهلك الفراعنة الجدد للعالم .. فراعنة (الاستعمار الديمقراطي) ، والمجتمع السوفياتي القديم المعاصر ، مثال آخر .. وتلك هي سنن الله في الاجتماع البشري.
إن الأهداف البسيطة لا تمتلك الروح الدافعة ، التي تخلق للناس اهتمامات ترتفع بهم فوق وجودهم الأرضي الزائل ، وتربطهم بالواقع الرباني المتسامي ، الذي يستلهمون منه (النفس الحضاري) الممكن في الأرض.(9/161)
هكذا إذن وضعيه المجتمع الجاهلي ، التي امتدت في الحقيقة (أكثر من ألفي عام ، ابتداء من الجد الأكبر إسماعيل حتى محمد صلى الله عليه و سلم ، ولقد أثمر هذا التاريخ الطويل فناً غنياً ، وخلف تراثاً أدبياً رفيعاً لا نظير له من بين الأمم الأخرى ، وتلك هي القائمة التاريخية للمجتمع ، خلال هذه الحقبة من الزمان ، ولو استخدمنا لغة الاجتماع لقلنا : إن هذا كل ما أثمره المجتمع الجاهلي ، كثمرة لنشاط استقطب حول (الحاجة) و(المنفعة) ، وبذلك نلاحظ أولاً أن هذا المجتمع لم ينتج كثيراً ، مادام لم يخضع إلا لاتجاهات الحياة اليومية وقواعدها).
من هنا تشكلت الأمة الحقيقية للمجتمع الجاهلي في شقيها: الكوني والاجتماعي. ولكي تحل هذه الفاجعة الحضارية الكبرى ، يتطلب الأمر إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الجاهلي ، ولن يتحقق هذا إلا بتغييرات جذرية في البناء الثقافي ، ولا يمكن تحصيل ذلك إلا بتغييرات جذرية في الإنسان ، ولا يمكن إجراء أي تعديل عقلي أو روحي أو سلوكي في حياة الإنسان ، إلا بعقيدة كونية معينة . وهذا هو العمل التاريخي الأساس ، الذي قام به رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم.
==============
المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية
النبي صلى الله عليه و سلم واجه قضية تركيب حضارة ، وبناء مجتمع انطلاقاً من واقع معين ، ولكي نفهمه بعمق ، علينا أن نتعرف على العناصر الأساسية التي ساهمت في تشكيل الظاهرة التغييرية الإسلامية، وهي:
- عالم العقيدة الإسلامية ، الذي أشرنا إلى جانب منه في التحليل السابق.
- المنهج النبوي في البناء الحضاري (مرتبط بالسنن ، وبمنهج السير في الأرض).
- الإنسان القديم بمواريثه ، وأمراضه الكونية ، والاجتماعية.
- المجتمع الجاهلي ، بثقافته ، وتاريخه ، ومؤسساته.
- الجماعة المؤسسة للعمل التغييري الإسلامي (الصحابة).
- القراءة (باسم ربك) كمعجزة حضارية ، وكمنهج تغييري.
فالقدرة على فهم هذه العناصر في سياقها الاجتماعي ، والعضوي ، هو الذي سيكشف لنا عن معالم المنهج النبوي ، في بناء الحضارة العالمية من خلال تقديمه لنموذج من نماذجها ، وهو المثل الكامل ، والقدوة الحضارية ، التي تمثل معيار البناء الحضاري الإسلامي.
فالمنهج النبوي في بناء النموذج الأول للحضارة العالمية ، ووضع برنامجها ، وتأسيس قواعدها ، وترسيم حدودها ، وصياغة منهجيتها ، وتحديد وجهتها ، وتعليم مقاصدها ، كان مبنياً على أصول الوحي الأعلى ، الذي أدار العملية التغييرية ، حول الإنسان كفرد ، وكمجتمع ، وكأمة ، وكإنسانية ، وعلى هذا فدراسة الظاهرة التغييرية النبوية ، هي دراسة في منهج بناء الإنسان ، بما في ذلك فلسفة هذا المنهج ، ومشروعه ، وغاياته ، ومقاصده ، وأدواته ، وشروطه ، وأساليبه ، ومنهجيته ..
ومن هنا فسنحاول الآن إثبات بعض الملاحظات عن المعالم الكبرى للمنهج النبوي في بناء الإنسان
=============
المحاور الثلاثة للمنهج النبوي
إن المتتبع لحركة التغيير النبوي ، يجدها قد سارت بتوافق تام ، مع سنن البناء الاجتماعي ، التي ترافق دوماً ميلاد المجتمعات الحضارية في التاريخ ، أعني أن جهد النبي صلى الله عليه و سلم مر بمراحل (الإنشاء الحضاري) الثلاث ، والتي سبق وأن أشرنا إليها في فصل سابق وهي:
- مفصل الربط الحضاري للإنسان بالرؤية الكونية الإسلامية.
- مفصل التثقيف الحضاري للمجتمع على المشروع الاجتماعي.
- مفصل البناء الحضاري للرؤية والمشروع في شكل واقع ثقافي وعمراني..
إن التحليل الاجتماعي ، والاستقراء التاريخي ، لحركة التغيير الاجتماعي ، التي ترافق نماذج التغيير الخاضعة لتوجيه نموذج فكري ، قد دلا على أن العملية التغييرية تمر بهذه المفاصل ، مع اختلاف منهجي في طبيعة الواقع المستهدف بالتغيير ، من حيث الوسائل ، والأدوات ، والكيفيات ، والتوجيهات الاجتماعية ، تبعاً للرؤية الكونية ، والإمكان البشري ، والفكري ، والمادي . فالتغيير الذي أجرته الحركة المسيحية على المجتمع الأوروبي ، وأدخلته بذلك إلى العصر العالمي الراهن يشبه التغيير الحضاري الإسلامي ، الذي أدخل المجتمع الجاهلي إلى عالم الحضارات في مفاصل التغيير ، أي في أنهما معاً قد مرا بمفاصل الربط ، والتثقيف والبناء . ولكنهما اختلفا في الأسلوب ، والفلسفة ، والمفهومية ، والوسائل ، المنهجية . فالتغيير الحضاري المعاصر ، الذي تسعى الحركة الإسلامية ، والحركة المسيحية إلى تحقيقه ، سيمر بنفس المفاصل التغييرية الثلاثة : الربط ، والتثقيف ، والبناء ، ولكن مع اختلاف جوهري في الفلسفة ، والمنهج ، وكذلك في اختلاف الوسائل ، والأدوات ، والتقنيات ، والكيفيات ، إذا قرناها بما كان عليه الوضع في حركة التغيير الإسلامي ، والمسيحي الأولي . فالعصر العالمي الراهن أحدث تغيراً مهولاً في وسائل ، وتقنيات التغيير الاجتماعي ، تجب مراعاتها في أي تغيير جديد.
فالوعي الذي يجب أن تتمتع به القيادة التغييرية في حقل التغيير ، هو ضرورة علمها بأن عملية التغيير الحضاري في الطور الأول من أطوارها ، تشتمل على عوالم ثلاثة هي : عالم الربط الحضاري ، وعالم التثقيف الحضاري ، وعالم البناء الحضاري ، ولكل عالم من هذه العوالم شروطه ، ومتطلباته ، ومراحله ، ومناهجه ، ووسائله ، وأساليبه .. وكل إخلال بحاجة أي واحد منها ، سوف يؤدي إلى الفوضى ، والتصادم داخل الحركة التغييرية ، ناهيك عن مسارها الكلي ، وخاصة في المجتمع العالمي الراهن.
أولاً : المنهج النبوي وعالم الربط الحضاري
عملية الربط الحضاري للإنسان برؤية كونية معينة ، هي العمل التاريخي الأول في حركة التغيير الاجتماعي ، الهادفة إلى بناء ثقافة .. وعملية الربط أول ما تتحرك ، فإن وجهتها ، تكون نحو الإنسان ، إذ هو غايتها الأساسية ، وساحتها الكبرى.
ولهذ السبب كان التوجيه القرآني حاسماً في التنبيه على الساحة المركزية للتغيير الاجتماعي الأصيل ، وهي الساحة النفسية بمفهومها الشامل : قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد:11).
فهذه الآية تحدثت عن ضرورات خاصة بفهم الرؤية الكونية عموماً ، وتحدثت عن ضرورات خاصة بالمجتمع ، وسلوكه الاجتماعي (سلباً وإيجاباً) .. كما تحدثت عن ضرورات خاصة بالمنهج التغييري .. والذي يهمنا منها في هذا التحليل هو الشق الذي أشار إلى تغيير ما بالنفس ، والذي سنبحثه من وجهة نظر النموذج التغييري النبوي.
ففي مفصل الربط الحضاري ، جاهد الرسول صلى الله عليه و سلم من أجل (ربط) النفوس والعقول بالخطاب الإلهي ، وأتاح لها فرصة الاستجابة لتوجيهات الوحي الأعلى .
مفهوم الربط الحضاري :
إذا ما حاولنا البحث عن كلمة الربط ، ومشتقاتها من خلال النصوص القرآنية نجدها وردت في عدة مواضع هي: (وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) (الأنفال : 11). (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين )(القصص : 10). (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا ) ( الكهف : 14 ). (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )(آل عمران : 200). (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )(الأنفال : 60).(9/162)
ففي الآيات الأربع الأولى ، جاءت معبرة عن وضع ديناميكي حركي ، أي في صيغة الفعل الذي يؤدي إلى نتائج مثل : الثبيت على الحق ، والإيمان ، والإقرار بالربوبية ، والدعوة إلى الله الواحد القهار ، والحركة المستديمة في سبيل الحق تبارك وتعالى ، حيث اشارت الآيات الثلاث الأولى من الأربع ، إلى قضايا متعلقة بعالم القلوب ، والنفوس (ظاهرة نفسية) ، متعلقة بعلوم النفس ، أما الآية الرابعة فقد أشارت إلى قضية متصلة بالظاهرة الاجتماعية ، والتحرك في الواقع ، ومسك الثغور ، والساحات الجهادية المتنوعة
(المرابطة) .. وبعبارة أخرى ، الآية تشير إلى (عالم الحركة الاجتماعية) ، حيث علوم الاجتماع البشري.
أما الآية الخامسة ، فقد أشارت إلى وسيلة من وسائل المرابطة ، أي توجهت نحو (عالم الوسائل) (رباط) . ثم تحدثنا الآيات في مجموعها عن مقاصد ، وغايات ، ينشدها الإنسان ، وعن كيفية الوصول إليها ، وفي الإطار الكلي للآيات يقف المنهج التغييري ، الذي ترجعه إلى عالم النفوس ، وعالم المجتمع ، فهو منهج الربط الحضاري الذي يحتاج إلى البنيان البشري المرصوص ، الذي يرابط في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
إننا لا نقصد هنا ، البحث عن المعنى اللغوي لكلمة ربط ، وإنما عن المضمون المنهجي ، والنفسي ، والاجتماعي ، والغائي لها . فلو أخذنا مثلاً وجهة نظر مفسر كابن كثير ، فإننا نعثر لديه عن فكرة مهمة في هذا المجال ، وهذه فقرة من تفسيره : (..وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السموات والأرض ) يقول تعالى : وثبتناهم على مخالفة قومهم ، ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ).
فالربط الذي نعنيه هنا هو الذي يتعامل مع القناعات الخالصة للبشر ، بدون ضغط ولا إكراه .. فهو الاقتناع الراسخ ، والارتباط الوثيق بفكرة معينة ، وهو كذلك دافع ذاتي في أعماق النفس الإنسانية ، بحيث يعطيها طاقة الالتزام الكامل بضرورات العيش ، تحت توجيه فكرة معينة .
فالارتباط بالشيء هو السلوك الناتج عن عمليات الربط للإنسان بعقيدة معينة ، وفق منهجيات تتطابق مع سنن الله في الربط الحضاري ، فهو من الوجهة النفسية ، حرارة ذاتية غلابة على طريق الفكرة ، وإيمان داخلي يخلق في الإنسان طاقة الإخلاص لها .. وهو من الوجهة الاجتماعية ، الموقف التاريخي الذي تأخذه جماعة تغييرية ما ، وبه تستجيب لمقتضيات الكفاح ، من أجل رسالة معينة ، وتنشط من أجل تحقيق مشروعها الاجتماعي .. وهو كذلك جو إنساني يتيح للجماعة بأن تتعلم قوانين العيش في جماعة حضارية.
الربط الحضاري في الجهد النبوي:
والنموذج النبوي في التغيير ، يعطينا صورة عميقة لظاهرة الربط الحضاري ، وخير دليل على صحة هذا الاعتقاد ، هو تتبع بعض العينات العملية من حياة الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام:
المثال الأول:
تأمل جيداً جواب النبي عليه الصلاة والسلام لكفار قريش ، وهم يحاورونه في بعض قضايا الدين ، وذلك باستعمال وسائلهم الخاصة التي تنتمي إلى الثقافة التقليدية: (وما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا أملك عليكم ، ولكن بعثني الله إليكم ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه على أصبر لأمر الله ، حتى يحكم بيني وبينكم ).
المثال الثاني:
تأمل كذلك مقالة جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، وهو يشرح مباديء الإسلام حيث قال : ( فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله ، لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه ، من الحجارة ، والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، والدماء ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ..).
إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها على المثالين ، هي بداية ظهور منظومة جديدة من الأهداف ، وبوادر ثقافة، مازالت في حيز القوة ، ومعالم مشروع اجتماعي وليد ، بدأ يسجل حضوره التاريخي ، في عالم الآخرين، عن طريق نموذجه الكوني ، الذي انطلق في تلك اللحظات في صراع واسع النطاق مع الجاهلية القائمة بكل ألويتها القديمة.
فكلام النبي عليه الصلاة والسلام من جهة ، يبرز لنا معالم النموذج التوحيدي ، ويحدد مضامينه العامة ، على الأقل في المرحلة الدعوية الأولى ، ومن جهة أخرى يوضح لنا مهمته صلى الله عليه و سلم في هذه المرحلة التاريخية ، ثم يوضح لنا نتائج الاحتمالين الواردين : احتمال الرفض ، واحتمال القبول ، وجزاء كل واحد منهما.
أما كلام واحد من أصحابه الأوائل (مرتبط بالفكرة) فقد بين لنا العلامات البارزة على طريق المشروع الإسلامي الجديد ، وحدد بعض أبعاده الاجتماعية ، والتربوية ، والسلوكية . كما قدم لنا تقريراً موجزاً ، ووافياً عن شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم فيها بعض جوانب أخلاقه ، وتاريخه.
إن هذه العينة مأخوذة عمداً من الفترة المكية ، لكي تبرز لنا بعض القضايا المتعلقة بالتغيير من مراحله الانطلاقية.
فالمرتبطون الجدد بالإسلام سيخضعون لعملية تربوية منهجية ، من قبل النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو في الحقيقة العمل التاريخي الأول ، الذي أنجزه صلى الله عليه و سلم ، حيث عمل على ربط الناس بالرؤية التوحيدية ، وبالتالي (بالأهداف الحضارية الكبرى) للإسلام كبديل عن الأهداف الصغرى والبسيطة للجاهلية القديمة ، بكل ما يحتاجه هذا العمل الحضاري الضخم من وسائل ، ومناهج ، وأساليب ، تتماشى وطبيعة الدين الجديد ، حيث فكرة المشروع وغير المشروع من الأدوات ، والسلوكات ، والمواقف ، واجبة المراعاة . وحيث ضرورة الانتقال بالدعوة من مرحلة إلى التي تليها ، ومن مستوى البيت ، والأسرة ، والعشيرة ، والقوم ، والمجتمع الجاهلي القديم ، إلى مستوى العالم أجمع ، حيث كانت المنهجية الأخيرة في دعوة النبي صلى الله عليه و سلم للحضارات القديمة جميعاً ، وإعلان عالمية الحضارة الإسلامية واقعياً.
لقد سعى صلى الله عليه و سلم عن طريق عمليات (الربط الحضاري) الأولى إلى بناء جماعة إسلامية قاعدية - (الصحابة) - على أساس النموذج الحضاري التوحيدي ، تلك الجماعة التي ستكون قائدة البناء الحضاري الإسلامي الأول ، والذائدة عن حمى الإسلام ، ورسالته ، ومشروعه . لقد كان جهد الرسول صلى الله عليه و سلم منظماً ، ومخططاً بواقعية ، وعلمية ، وتوازن .. يعمل بلا كلل ولا ملل ، يحذوه الأمل المشرق ، ويرافقه العزم والتصميم ، والإرادة ، والرغبة المتنامية ، وتوجهه الإرادة الإلهية عن طريق رسالة الوحي الأعلى ، الذي كان يتابع عن كثب أحداث الدعوة ، ومراحل نموها لحظة لحظة ، وموقفاً موقفاً ، يتابعها في تفاصيلها الظاهرة والباطنة..
عمليات الربط وشبكة العلاقات الاجتماعية(9/163)
مرحلة الربط الأولى ، كانت حاسمة في حياة الدعوة بأكملها ، كانت حاسمة في حياة الدعوة بأكملها ، لدقتها وخطورتها ، لأنها كانت تواجه الجاهلية في أعز ما تملك .. تواجهها في أصنامها وفي دنياها المطلقة . وهذه المواجهة باللغة الاجتماعية ، تعني استقطاب عالم الأشخاص الذي كان ينتمي إلى المجتمع الجاهلي ، وربطه بالمجتمع الإسلامي الوليد ، وهذا الذي ظهر من خلال حركة النبي عليه الصلاة والسلام ، من أجل بناء قاعدة بشرية ، ترتبط بأهداف الإسلام الحضارية ، وتقتنع برسالة ومشروع هذه العقيدة الجديدة . فهذا العمل هو مخاطبة للعقول ، ومحاورة للأذهان ، والثقافات ، والتقاليد ، والعادات ، كيما تنتقل من طورها الجاهلي إلى طورها الإسلامي ، وذلك عن طريق عمليات الربط الحضاري . وهذا فعلاً ما أنجز في فترة قصيرة حيث وجدنا جماعة ، تشتمل ضمن صفوفها على مختلف شرائح المجتمع ، وطبقاتها ، بما فيها : السيد والعبد ، والعالم والأمي ، الغني والفقير ، الصبي والشيخ ، التاجر والفلاح ، الراعي والصانع ، الطبيب والعسكري .. فكل هؤلاء - ( نساءاً ورجالاً ) - أصبحوا موضوعات للدعوة ، والربط الحضاري، فهم الذين كانوا بمثابة الزاد الذي غذى جنين الحضارة الإسلامية ، وصنع تاريخها.
من هنا نستطيع أن نؤكد بأن الغاية الأساسية لعمليات الربط الحضاري ، هي : بناء شبكة علاقات رسالية ، يتواجد فيها : العالم ، والمعلِّم ، والمتعلم .. والداعي ، والمفكر ، والمثقف .. والصناعي ، والزراعي ، والحرفي .. والجمهور المسلم الواعي ، ويتحرك هؤلاء في تناسق ، وتناغم ، وانسجام من أجل تحقيق رسالتهم الحضارية ، ذلك لأن (أول عمل يؤديه مجتمع معين في طريق تغيير نفسه ، مشروط باكتمال هذه الشبكة من العلاقات ، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقرر : أن شبكة العلاقات ، هي العمل التاريخي الأول ، الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده).
عمليات الربط وشبكة العلاقات النفسية
أما عندما ننظر إلى عمليات الربط من الوجهة النفسية ، فإننا نجدها عبارة عن جهود من أجل تحقيق غايتين في ذات الإنسان ، هما:
- عملية إفراغ للعقول من المواريث الجامدة ، والمعطلة ، وإخلاء للقلوب من مس الشياطين ، وهوس الملاعين !!
- عملية بناء للعقول بالقيم الحية ، والأفكار السليمة ، وتعمير للقلوب بالمبررات الدافعة ، والشحنات الإيمانية القوية..
وبعبارة أخرى : إفراغ الإنسان من كل المعطلات ، والمثبطات الفكرية ، والنفسية ، والسلوكية ، التي تعيق حركته الفاعلة في التاريخ ، وتكبل نظم الطاقة الحيوية لديه ، وتبددها خارج دوائر البناء الحضاري المستقيم على الطريقة وتزويده بالقيم، والمبررات الفاعلة التي تسلك بطاقته على طريق الخير ، والعمل الصالح وبعبارة أخرى عمليات الربط على الصعيد النفسي ، هي التي تخلق في ذات الإنسان جواً: (يجد الفرد نفسه فيه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعة الاجتماعية ، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية ، وذلك هو تكييف الفرد .. فهو عملية تنحية ، تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي - كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية ، وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر - وهو عملية انتقاء ، وإحساس ، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً .. طابع أخلاقي ، جمالي مثلاً).
مثال من السيرة النبوية
لنتتبع هذا المثال التوضيحي .. فجعفر بن أبي طالب ، لما أجاب النجاشي ، قال له:
- ( كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار .. ) فهذه هي مجموعة المواريث ، المعطلة للطاقة البشرية .. ثم واصل كلمته قائلاً:
- ( فدعانا إلى الله لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه .. ) وهذه هي مجموعة الأهداف ، والمبررات الجديدة ، التي تمثل مصدر الطاقة الجديدة . ثم يضيف مؤكداً :
- ( فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به ، وحرمنا ما حرم الله علينا ، وأحللنا ما أحل ..).. فالدلالة واضحة هنا على تمام عمليات الربط الحضاري ، بشكل مستوف للشروط ، وذلك على صعيد العينات الفردية ، التي ستتحول فيما بعد إلى مجتمع حضاري هو ( مجتمع المدينة).
قال تعالى: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )(الأنفال:63).
إن التحول الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه و سلم في نفسية صحابته الكرام ، هو الذي يفسر لنا فيما بعد ، قدرة هذا المجتمع على (المرابطة الحضارية) ، والعطاء الإنساني الكبير ، في مختلف حقول المعرفة البشرية..
لقد مارس الرسول صلى الله عليه و سلم عمليات الربط الحضاري ، على مستوييها : النفسي ، والاجتماعي ، وحقق فيها أعلى مستويات الإتقان المنهجي والثقافي ، وترك لنا نموذجاً لبناء حضاري عالمي شامخ ، بمقدوره أن يقدم لنا ( الهداية الحضارية ) كلما استدعيناه بوعي ، وفهمناه بعمق .
العصر العالمي والربط الحضاري
إننا نريد اليوم ، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين ، أن ننجز عملية تغييرية حضارية في مستوى القرآن الكريم ، والسنة النبوية . ففي ظل قرن الحضارة العالمية ، يطرح سؤال مهم هو:
كيف نربط الناس بالإسلام ، وبمشروعه الحضاري من جديد؟
وأمام هذا التساؤل ، فإننا مضطرين إلى تحديد صورة عامة ، عن طبيعة عمليات الربط الحضاري ، ومتطلباتها الأساسية ، مرجئين منهجية الربط ، وكيفياته ، إلى حينه . فلكي تتم عمليات الربط الحضاري ، بشكل مستوف للشروط ، نحن بحاجة إلى:
- السعي إلى بناء شبكة علاقات اجتماعية في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية القائمة ، كمرحلة ضرورية على طريق بناء شبكة العلاقات الحضارية للأمة من جديد ، وذلك من خلال التحرك على مستوى : الإنسان ، والمجتمع ، والإنسانية .. والاستفادة من التعاطف العالمي مع الإسلام ، من قبل من لم تمسخ الحضارة الغربية فطرتهم الخيرة.
- بناء وعي مستوعب على الواقع الاجتماعي الفردي ، والجماعي المحلي ، والعالمي ، على اعتبار أن هذا الواقع سوف يخاطب بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام.
- تشكيل وعي عميق على الرؤية التوحيدية ، ومشروعها الحضاري البديل وضوابطها الشرعية ، ونواظمها الثقافية ، والمعرفية ، والأخلاقية ، وضماناتها ووعودها.
- امتلاك منهج للعمل التغييري الذي سوف يجدد الوسائل ، والأولويات ، والمراحل ، والأوقات التي ينفذ فيها الفعل التغييري ، كما تعرف فيه أساليب التغيير في مرحة الربط الحضاري ، ومنهجياته النظرية والعملية ، وإجراءاته التربوية ، والاستثنائية . فبدون منهج واضح المعالم ، والخطوات ، والأهداف ، والسياسات ، قد لا تصمد الحركة التغييرية أمام ابتلاءات الواقع العالمي الداهمة!؟
وفي نفس المفصل التغييري سوف تكون الحركة التغييرية مطالبة بوضع مخططات ، وبرامج للربط الحضاري على المستوى الفردي ، والجماعي ، والإنساني ، وعلى الصعيدين المحلي والعالمي ، والانطلاق الفعلي في طرح الرؤية الإسلامية ، وعرضها على المجتمعات ، وهنا تنشأ ضرورة التخصص في الفعل التغييري من خلال إنشاء المؤسسات التغييرية لعالم الربط الحضاري والتي منها:(9/164)
- مؤسسات إعداد ، وانتاج مناهج عرض الرؤية ، والضمانات ، بالأسلوب الأمثل ، الذي أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام (الجدل الأحسن) و(التيسير المخفف) .. وهنا تعد المشاريع التربوية بالمفهوم الشمولي حتى تصبح تربية اجتماعية ، تطول كل شرائح المجتمع ، وفي كل مؤسساته المتنوعة ، مع مراعاة توزيع الخريطة الثقافية ، والجغرافية للناس ، وقدراتهم ، واستعداداتهم ، كما أشرنا في البداية ، فالعامة موضوع ، والجماهير موضوع ، والمثقفون موضوع ، والمفكرون موضوع ، والمهنيون موضوع ، والسياسيون موضوع ، والتجار والأغنياء موضوع .. إلخ ، وكل موضوع من هذه الموضوعات يحتاج إلى فهم معادلته ، والأسلوب الأمثل في التعامل مع قضاياه ، ومتطلباته.
- مؤسسات ممارسة الدعوة ، وتخريج الدعاة الربانيين ، وإنتاج منهجيات البلاغ المبين.
- مؤسسات توزيع ، ونشر الأفكار ، وتبادل الخبرات .
- مؤسسات المتابعة ، والمراقبة ، والتقويم المتنامي للأشخاص ، والأشياء ، والأفكار .
- مؤسسات تنمية الإمكان المادي ، والوسائلي ، والخبرات الاستخدامية للأدوات .
كما أن كل مؤسسة من هذه المؤسسات وغيرها ، تقتضي تفريعات ، وتخصصات ، فمثلاً في مؤسسات إعداد ، وإنتاج مناهج عرض الرؤية ، والرسالة نحتاج إلى :
- قسم التوجيه وإنتاج المنهجيات الدعوية .
- قسم التوجيه المعرفي للعلوم الاجتماعية ، والسلوكية ، والكونية عموماً .
- قسم تصنيف احتياجات الدعوة على صعيد الأفراد ، والأسر ، والجماعات ، والدول ، والمجتمعات ، والأمم ، والإنسانية..
- قسم هندسة عالم الأشخاص ، وتسيير الجهاز البشري للحركة التغييرية ، بعيداً عن منطق الإدارات ، والبيروقراطيات المريضة ، بل في إدارات أخرى هي إدارات الجرح والتعديل ، وعلم الرجال .. إلخ .
- قسم متابعة الحركة التربوية ، والتكوينية للمرتبطين بالرسالة ، والإجابة عن تساؤلاتهم ، وتنمية صلاتهم بالفكرة.
هكذا إذن تتعقد العملية التغييرية ، وتتعقد العمليات في مفصل الربط الحضاري ، كلما تطور العقل البشري ، ونما نضجه الفكري ، والنفسي ، وكلما تحسن النمو العقلي والنفسي للناس ، كلما حقق الإسلام مقاصده المنشودة ، لأن الإسلام يحب العمل تحت سيادة منطق الحوار ، والإقناع ، والجدل الحسن ، ويمج منطق التزييف ، والغموض ، والقهر.
فالتغيير الحضاري لم يعد مجرد تكديس للأعمال والبشر ، بل أصبح هندسة حضارية عالية للمجتمع ، وطاقاته ، تتطلب المزيد من الوعي والفهم والخبرة .
ثانياً : النبوي وعالم التثقيف الحضاري
إن الحركة التغييرية وهي تتفاعل مع مشكلات الواقع ، وهمومه ، سوف تضطر إلى استيعاب متطلبات المجتمع ، والسماع لخطابه ، وحاجاته التي يرفع صوتها الناس من كل توجه ، وتيار ، وحزب . فمن الناس ، من مشكلاتهم عقلية ، ومنهم من مشكلاتهم نفسية ، أو أخلاقية ، أو تربوية ، ومنهم من مشكلاتهم معاشية أو مادية ، ومنهم من مشكلاتهم عصبية أو قبلية .. ومنهم من يطالب بسيادة منطق الفوضى ، ومنهم الحاقدون ، والمغرضون .. ومنهم من يجادل على صعيد الفكر والعلم، ومنهم المجادل على صعيد المنهج ، والمشروع .. ومنهم من يطالب بالبدائل ، ومنهم من يطالب بالمعجزات الخارقة ، ومنهم من يريد الخير للإسلام ، ولكن أسلوبه يسيء إلى الإسلام ، ومنهم من يريد الشر للإسلام ولكن يخدمه من حيث لا يعلم .. والخلاصة هي : أن في المجتمع حياة ، وديناميكية ، وخير ، وشر . والحركة التغييرية الحية ، هي التي تفهم حركية المجتمع ، وتسعى إلى معرفة همومه ، واحتياجاته في كل لحظة ، وآن ، كيما تتمكن من استيعابه ، وتقديم الخير له بدون إكراه ، ولا تكليف بما لا يطاق.
كما أن الحركة التغييرية سوف تواجه من قبل عالم أشخاصها ، وما يطرحه من تناقضات ، وأمراض ، وظروف متعلقة بثقافات الناس القديمة ، تلك التي ستدخل إلى الحركة التغييرية ، عن طريق العمليات الجارية في مفصل الربط الحضاري . ولكي تستجيب الحركة التغييرية بوعي ، لكل هذه المتطلبات وغيرها ، مما يعرفه أصحاب القضية ، فهي مضطرة منهجياً إلى فتح المفصل الثاني ، من مفاصل التغيير ، وهو مفصل ( التثقيف الحضاري).
مفهوم التثقيف الحضاري
إنه بمثابة المرحلة الوسيطة التي تتخصب فيها المشاريع ، وتنمو فيها الخبرة باستمرار ، وتتوجه نحو الواقع رويداً رويداً ، وذلك بعد أن تتم عملية بناء المشروع التغييري ، على الصعيد النظري ، أي مستوى النفوس ، والعقول ، التي تمارس عليها عمليات التثقيف ، التي ستؤهلها للعيش في ظل ظروف الواقع المعيش ، وفيها كذلك تعد مناهج تطبيق مشروع الإصلاح الاجتماعي.
إنها مرحلة حاسمة حقاً ، لأنها هي التي تصل الوعي النظري بالوعي الواقعي ، وتربط بين المباديء النظرية ، والمؤسسات الميدانية ، وتؤلف بين الرؤية الكونية ومشروعها العملي ، وبين إنسان النظرية الذي يكون في مؤسسات الربط الحضاري ، وبين إنسان التطبيق الميداني ، الذي يباشر عمليات الإنجاز . فهي مرحلة لازمة لاكتمال نمو الأفكار ، ونضج الطروحات ، وترسيخ القيم والمباديء ، وتجذر الاقتناع بالرسالة وبمشروعها.
فهي الجسر الذي يربط بين عالم ظهور الفكرة ، وبداية ارتباط الناس بها ، وعالم تجسيدها ، وبنائها الموضوعي ، وبين أزمة ما قبل الربط الحضاري ، التي يعيشها الإنسان والمجتمع ، وعالم ما بعد التثقيف الحضاري ، الذي يصير فيه الإنسان والمجتمع على استعداد تام ، ليعيشا في ظل الواقع الذي قاما لإنجازه .
وبعبارة أخرى : إنها مرحلة تعمير العقول ، وتنوير القلوب ، وتزكية النفوس ، واكتساب القدرة على البناء ، والعلاج لمشكلات المجتمع ، وصياغة المناهج الكفيلة بتقديم البدائل العملية للواقع المتأزم . والتثقيف الحضاري للإنسان ، وعملية تكوين الخبرات ، تحتاج إلى شروط ، وموجبات ، ومنهجيات ، ومؤسسات ، تماماً كما كان الحال في مفصل الربط الحضاري.
المنهج النبوي والتثقيف الحضاري
النموذج النبوي يعطينا صورة حية عن هذا المفصل ، من مفاصل التغيير ، وهذا ما تدل عليه توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، المتعلقة بحثه على العلم ، والتجربة الواقعية ، والتفقه في دين الله ، وكذلك في عملياته التربوية التي ثقف بها المجتمع الإسلامي الأول ، وساعد الإنسان ليفهم بعمق رسالته ، ومشروعه ، والبدائل التي يجب تقديمها ، لحل أزمات مجتمعه . ومن الأهمية بمكان أن نثبت هنا بعض النماذج من حياته صلى الله عليه و سلم وحياة صحابته الكرام ، كمنتوج لعمليات التثقيف التي مارسها في مراحل الدعوة الأولى.
النموذج الأول:
تأمل جيداً جواب النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب ، عندما قدم له مقترحات قريش لإغرائه ، وصرفه عن دعوته حيث قال: (ياعم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته ).(9/165)
في هذا النموذج الرائع ، لم يترك النبي عليه الصلاة والسلام ، أي مجال للشك في ارتباطه الوثيق ، وإيمانه الجازم ، بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام ، فقد وضع عليه الصلاة والسلام وعيه ، بين حدي العمل المنتج ، وهما أن يظهر الله هذا الدين ، أو يهلك دونه ، وهذا فهم عميق لرسالة الإسلام ، وقدرة كبيرة على توجيه المشكلات ، وحل المعضلات ، لصالح مسار الدعوة الأصيل ، فهو هنا لم يقدم فقط موقفاً رافضاً لما هو مطروح عليه من استفسارات ، بل وضح منهجهاً في التعامل مع المشكلات ، التي تتصل بقضية الاعتقاد ، والإيمان بالأفكار ، والتعامل مع أعدائها المغرضين.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ، قد نفذ بوعيه ، وإدراكه للفكرة التوحيدية ، من مجال الوعي البشري العادي ، إلى مجال الوعي المتسامي ، والمتجه نحو المولى تبارك وتعالى ، وليتحرك في الواقع بنور الله ، وهدايته .
النموذج الثاني:
أنظر إلى موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين لحقهم أذى المجتمع الجاهلي ، عندما قال له والده أبو قحافة: ( يا بني إني أراك ، تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أنك ما فعلت ، أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : يا أبت إني ، إنما أريد ما أريد لله عز وجل ).
إن هذا الموقف من الخليفة الإسلامي الأول ، فيما بعد ، يعبر عن وعي بصير على الأهداف الحضارية الكبرى للأمة , ولنموذجها التوحيدي ، رغم أن هذا الموقف كان في المرحلة الأولى للدعوة .. فعلى الرغم من معقولية كلام والده وخاصة من المنطق القديم لكن جوابه كان واضحاً وحاسماً ، لأنه يعرف بأن هؤلاء الضعفاء هم إسمنت البناء الحضاري .. وهذا الموقف هو الذي صدقه التاريخ الإسلامي فيما بعد .
النموذج الثالث :
ويعبر عن الوعي التثقيفي ، والتربوي العميق لدى النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحكمه الجيد في حركة التوعية على منهجية العمل الإسلامي ، وفهمه لمراحلها ، ومتطلباتها . ففي إطار التدريب التربوي لأصحابه ، رأي ( رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية ، بمكانة من الله ثم من عمه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه ).
النموذج الرابع:
في هذا النموذج يرسم لنا النبي عليه الصلاة والسلام منهجاً أصيلاً من مناهج الدعوات ، وذلك باستخدامه منهج السير في الأرض ، والنظر في سنن الذين خلوا ، من أجل تثقيف أصحابه على منهج البناء الحضاري . فعن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه ، أنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه و سلم: قد كان من قبلكم ، يؤخذ الرجل ، فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه ، وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه .. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ).
إن هذا الوعي البصير ، هو الذي حافظ على حركة التغيير الإسلامي ، ومكنها من المواجهة ، والمراجعة الناجحة ، والنمو الإيجابي ، الخاضع لسنن الله في الخلق .. ومن المهم هنا أن نعرف أمرين أساسيين:
الأول : ( أن الرسول صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم ، كان وازعهم فيه من أنفسهم ، لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب ، ولم يكن بتعليم صناعي ، ولا تأديب تعليمي ، وإنما هي أحكام الدين ، وآدابه المتلقاة نقلاً ، يأخذون أنفسهم بها ، بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق).
ثانياً : ومن هنا ، فإن عمليات الربط الحضاري ، والتثقيف الحضاري ، كأنتا متلازمتين في النموذج التغييري النبوي ، وهذا ما انتبه إليه مالك بن نبي رحمه الله بذكاء حيث قال: (إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بالتحديدين مرة واحدة ، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية ، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية).
التثقيف الحضاري والعصر العالمي
فكما أشرنا في موضوع الربط الحضاري ، أنه يقتضي وعياً على التطورات الراهنة للبشرية ، فإن نفس الشيء يستدعيه فهم مفصل التثقيف الحضاري .. ولكي نفهم النموذج التغييري الإسلامي ، في:
- رؤيته ، ورسالته ، ومشروعه ،
- ومنهج تطبيقه ،
- ومنهج المحافظة عليه ،
- ومنهج توريثه للاجيال،
- وفي منهج استمراره وتواصله ،
علينا أن نعي بأن هذا المفصل بحاجة إلى شروط ، ومنهجيات ، ووسائل ، وأدوات ، نذكر منها ضرورات قيام مؤسسات ، من أجل:
- استقبال منتجات عالم الربط ، من أفكار ، وأشياء ، وأشخاص ، وتساؤلات ، ومشكلات تحتاج إلى حلول.
- تأهيل الأفراد في مجال الوعي بالمشروع الاجتماعي ، والبديل الإسلامي .
- تكوين الإنسان منهجياً ، ومعرفياً ، وروحياً ، وسلوكياً ، وتأهيله ليتطابق مع نموذجه .
- تشكيل القدرات الإنجازية لدى الأفراد ، والجماعات .
- الصياغة المشروعية ، والتنفيذية لنظم النموذج الإسلامي ، القانونية ، والتشريعية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية .. إلخ .
ولكي تقوم مؤسسات التثقيف بهذه الوظائف وغيرها ، فهي بحاجة إلى ما يلي:
- إنشاء مؤسسات للفكر ، والمعرفة ، تقوم بإعداد مشاريع ، ومنهجيات التثقيف .
- إنشاء مؤسسات للاتصال بين عالم الربط الحضاري ، وعالم التثقيف الحضاري ، بغرض مفصلة العمل التغييري ، وربطه ببعضه بعضاً ، في وحدة عضوية متكاملة .
- مؤسسات التوجيه ، والتقويم ،
- مؤسسات توزيع ونشر المشاريع ، والمخططات ، وتطبيقها على الأفراد والجماعات .
- مؤسسات استثمار الأفكار ، والأشخاص ، وتوليد الطاقة الحيوية ، والبدائل الضرورية.
من هنا تظهر لنا أهمية هذا المفصل التغييري ، كمرحلة وسيطة لازمة ، تعود إليها الكلمة في نجاح المشاريع أو فشلها ، وفي تزويد حركة التغيير بالأفكار ، والمناهج في كل أطوارها السابقة واللاحقة ، كما سنلاحظ بعد قليل ، إن شاء الله.
ثالثاً : المنهج النبوي وعالم البناء الحضاري
هل يمكننا القول : بأن العملية التغييرية قد اكتملت ، إذا توفر الشرطان السابقان ، وهما:
- طرح المذهبية التوحيدية على المجتمع ، ومحاولة ربط الناس بها،
- تثقيف الناس على مشروعها الاجتماعي؟
في الحقيقة ، يعتبر الشرطان السابقان ، من الركائز الأساسية في أي عملية تغييرية ، مهما كانت طبيعتها (مادية أو أخلاقية) ، ولكنهما غير كافيين ما لم ينزلا إلى أرض الواقع ، كتشريعات ، وسلوكيات ، ومواقف يومية ، تجسد المضمون الاجتماعي ، للرسالة المتبناة . إذ يعتبر الواقع ، في هذه الحالة بماثبة التحدي الحقيقي الذي يواجه عمليات الربط ، والتثقيف .ففيه تتأكد المصداقية الاجتماعية للفكرة ، ولمشروعها ، وتتأكد فيه الاستقامة ، والصواب ، والعاقبة.(9/166)
وعلى هذا الأساس ، تضطر الحركة التغييرية ، وقيادتها ، إلى الانتقال إلى المفصل الثالث من مفاصل التغيير في إطار الاطراد العام للعملية التغييرية بأكملها ، وهو مفصل (البناء الحضاري) . وفيه تنزع الحركة إلى الواقع ، وساحاته المتنوعة ، لتطبق مضامينها ، وتنظر لحركة المجتمع اليومية ، وتقدم الأفكار العملية .. فهي مرحلة إرساء مؤسسات الميدان المتعلقة بـ :
- توفير شروط العبادة ،
- وشروط الإعمار ، والانتشار في الأرض ،
- وشروط الإنقاذ للناس ، من الظلمات إلى النور ،
- والتعارف بين الثقافات والمجتمعات ، على أساس نظرية (التقوى).
ففي هذه المرحلة ، تبنى قدرة الحركة الأدائية ، والعملية . فبعد أن كانت في عالمي الربط ، والتثقيف ، قدره نظرية ، تصبح في هذا المفصل ، قدرة عملية ، فهي مرحلة (الوعي الواقعي البناء) ، والتفاعل مع سنن الله في الذكر ، والأنفس ، والكون ، واقعياً ، استجابة للرؤية التوحيدية ، بغرض تحقيق مقاصد الشارع في الخلق ، وتثبيت ، وحفظ حقوق الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل ، والكون.
فهو نقل للنظرية الحضارية ، ومشروعها ، إلى أرض الواقع ، وتحويل الوعي إلى قيم سلوكية ، ومواقف ميدانية منظمة ، تدخل في اطراد تسيير المجتمع.
جهد النبي والبناء الحضاري:
ففي سياق تتبع النموذج التغييري النبوي ، نجده قد مر بمفاصل التغيير الثلاثة:
- مفصل الربط الحضاري.
- مفصل التثقيف الحضاري.
- مفصل البناء الحضاري.
فمن الوجهة التاريخية ، نجد أن مفصل الربط الحضاري، قد امتد خلال الفترة المكية، مع التنبيه إلى ذلك التلازم الرائع ، بينه وبين مفصل التثقيف الحضاري ، كما أشرنا سابقاً .. أما مفصل البناء الحضاري ، فقد أعقب هاتين المرحلتين مباشرة ، حيث انطلق واقعياً من هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم إلى المدينة المنورة ، مهد الحضارة الإسلامية الأولى ، وفيها بدأ في الترتيبات العملية لبناء المجتمع الإسلامي، وترسيم معالمه ، وحدوده السياسية والجغرافية ، وتشكيل مؤسساته الدينية والاقتصادية ، والدعوية ، والجهادية.
ثم تحرك النبي بعد عملية الترسيم الأولى ، إلى إكمال عمليات الربط والثقيف والبناء ، في مستويات أخرى من العملية التغييرية ، وفي ساحات جغرافية ، وثقافية أخرى ، حيث الدوائر المحلية ، والدولية ، والعالمية . وفي هذه المراحل بالذات انخرط الصحابة الكرام في عملية بناء واسعة النطاق ، طالت كل العالم الإسلامي القديم ، الذي وصله الدين الحق ، عن طريق الدعاة الفاتحين .
البناء الحضاري والعصر العالمي:
إن طبيعة البناء الحضاري أصبحت اليوم ، ونحن على مشارف العصر العالمي ، معقدة للغاية . ولذا فحاجتها ماسة جداً إلى الفعل المنهجي المنظم ، وإلى الوسيلة الكفأة ، والمناسبة ، والمشروعة ، وإلى الأسلوب الأمثل والفعال.
فلهذه المرحلة التغييرية موجباتها ، وشروطها ، ووسائلها ، ومنهجياتها .. ومن بين وظائفها الأساسية :
- استقبال منتجات مفصلي الربط والتثقيف من أشخاص ، وأشياء ، وأفكار ثم تزويد هذه المفاصل بما تحتاجه من متطلبات ، ولوازم،
- بناء مؤسسات توجيه طاقات الأفراد ، والجماعات ، ومساعدتها على ممارسة أدوارها الاجتماعية .
- بناء مؤسسات لحماية المنجزات ، والمحافظة على الحركة التغييرية ، وخطها الفكري الأصيل .
- بناء مؤسسات الربط بين أجيال المجتمع ، وتوريث الرسالة والمشروع ، من خلال إرساء مناهج الاستمرار الحضاري
==============
المنهج النبوي وبناء إنسان الاستخلاف
إننا عندما نتأمل الجهد النبوي ، نجده فعلاً انصب حول بناء هذا الإنسان النموذجي بمختلف صوره .. حيث وجدنا الرسول صلى الله عليه و سلم وفر الجو الملائم لبناء الإنسان الخليفة ، والداعية ، والعالم ، والمبّلغ ، والعسكري والسياسي ، والمجاهد ، والقاضي ، والتاجر ، والفيلسوف ، والمترجم ، والطبيب ، والمالي ، والجمهور المسلم الواعي ، الذي يدافع عن الإسلام ، ويذود عنه في ساعات الخطر الداهم ، كما كان الحال في حروب الردة ، وفي الهجمة التتارية على العالم الإسلامي . وهذا الإنسان المنسجم مع الخطاب الإلهي ، هو الذي بنى المجتمع الإسلامي العادل .. وشيد ثقافته الحضارية التوحيدية..
إن إنسان الاستخلاف هو الإنسان ، الذي يتطابق مع الخطاب الإلهي ، ويستجيب لنداء الإسلام ، ويمارس وظائفه الأساسية في : العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف ، ويسعى دوماً إلى إيجاد الشروط التي تأهله لتقديم الإسلام للناس ، وتوفير الوسط الذي تعيش فيه تعاليمه ، وتشريعاته ، وتسمو فيه ذات الإنسان ، وتتكرم ، وتتصارع فيه الحسنة مع السيئة ، فتغلبها الحسنة.
إن إنسان الاستخلاف الذي شاده النبي عليه الصلاة والسلام ، هو من هذاا لطراز الذي دفع بمشروع الإسلام إلى عالم الحضارة ، حيث رابط هذا المجتمع في التاريخ أكثر من عشرة قرون كاملة .. ساهم خلالها في إثراء مسيرة الإنسانية بالعلم ، والمنجزات الحضارية المتنوعة ، التي ساعدت في وقت لاحق ، الكثير من الأمم لتعيد بناء ذاتها الحضارية ، مثل الأمة المسيحية.
فإنسان الاستخلاف هو الذي دفع بالمجتمع الإسلامي الوليد إلى عالم (الابتغاء الحضاري) ، وعندما توقفت رسالة هذا الإنسان ، ولم تستطع الأجيال المتعاقبة تجديد العهد بهذه النوعية من البشرية الراقية ، نزل المجتمع إلى مستوى دون المستوى الأول .. وتغير الإنسان غير الإنسان الأول ، وجاء (إنسان التولي الحضاري) الذي فتح عهد (التخلف الحضاري) في المجتمع الإسلامي.
إنسان المنهج النبوي
إن المنهج النبوي وهو يتحرك لبناء المشروع القرآني ، انطلاقاً من بناء الإنسان ، يضع في اعتباره نموذج هذا الإنسان ، الذي يفترض فيه التأهل لحمل أعباء الاستخلاف في الأرض .
فإنسان السنة النبوية ، مسؤول في كل ساحة يتواجد فيها (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ومجد في النهي عن المنكر ، والأمر بالمعروف ، طبقاً لسنن الدعوات ، وقوانين البلاغ المبين: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) ومتق لله سبحانه وتعالى في كل موقع ، ومخالق للناس بخلق حسن: (أتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ).
فهو الساعي في الأرض ، والضارب في مناكبها باحثاً عن رزقه ، وقوته . تجده هناك في ساحات الحضارة ، يحتطب من قيمها ، وأخلاقها ، وعلومها ومدنيتها ، ومعاشها: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه ) .. ( أطيب ما أكل الرجل ، من كسبه ).
وهو الكيس، الفطن، الذكي، والمتحرز الحذر ، المنتبه: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) وليس بماكر ، خداع ، وغشاش، غير مؤتمن: (من غشنا فليس منا ). نزاع إلى الأدب ، والخلق الحسن ، والجمال : ( إن الله جميل يحب الجمال ).(9/167)
والمسلم يمثل مع إخوانه عضوية متماسكة ، وبناءاً منسجماً مرصوصاً: (المؤمن كرجل واحد ، إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكت عينه اشتكى كله ) فهم كلهم متعاونون ، ومتراحمون ، لا يحبون الظلم ، ويفرجون كرب بعضهم بعضاً: (المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه .. من كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج على مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ، ستره الله يوم القيامة ) كما أنهم متحابون: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (6) وجارهم محفوظة حقوقه ، ومحترمة محارمه: (والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن .. قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ) وجماعتهم لا تجتمع على الضلالة والظلم : ( ما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة أبداً ) ولا يتخلفون عن المشورة إذا استدعتها الظروف .. ويجاهدون في سبيل الله : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ).
وإنسان الاستخلاف كذلك ، متوازن في حياته ، يربط بين الدنيا والآخرة ، ويعرف وظيفة ، وموقع كل واحدة في حياته ووجوده .
نموذج لإنسان الاستخلاف
لنأخذ نموذجاًمن النماذج البشرية ، التي أخرجتها مؤسسات البناء الحضاري التي كان يشرف عليها النبي عليه الصلاة والسلام .. ولغرض التحليل ، سوف نختار نموذجاً يصور لنا العملية التغييرية النبوية في مفاصلها الثلاثة:
جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير :( أرسل سعد قبل القادسية ، ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية ، وأمريهم ، فدخل عليه ، وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة ، وزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت ، واللالئ الثمينة ، والزينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، ، وقد جلس على سرير من ذهب .. ودخل ربعي بثياب صفيقة ، وسيف ، وترس ، وفرس قصيرة ، ولم يزل يركبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل ، وربطها ببعض تلك الوسائد ، واقبل وعليه سلاحه ، ودرعه ، وبيضة على رأسه .. فقالوا له : ضع سلاحك ، فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا ، وإلا رجعت .. فقال رستم : إئذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها ، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسلنا بدينه إلى خلقه ، لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ، ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبداً ، حتى نفضي إلى موعود الله . قالوا : وما موعود الله؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن يبقى .. فقال رستم : قد سمعت مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال : نعم كما أحب إليكم ، يوماً أو يومين ؟ قال : لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ، رؤساء قومنا . فقال : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث بعد الأجل ، فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل .. فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد ، يجير أدناهم على أعلاهم . فاجتمع رستم برؤساء قومه ، فقال : هل رأيتم قط أعز ، وأرجح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا ، وتدع دينك إلى هذا الكلب ، أما ترى إلى ثيابه ؟ فقال : ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي ، والكلام ، والسيرة ، وإن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب).
لنتأمل بعمق هذا الكلام الرسالي ، الذي لا يكف عن إعطاء السائرين في الكون بمعالم زاد المسير ، لنحلل بعض جوانبه . إن هذا الإنسان الجديد ، هو منتوج من منتجات المدرسة التغييرية النبوية ، كما أنه يقدم لنا صورة لجندي بسيط في مؤسسات البناء الحضاري ، وهو يؤدي واجبه اليومي في سياق تبليغ الإسلام للناس . إن هذا الإنسان يحمل في ذاته (المبررات الكونية للإسلام) وهو يتحرك بقوة الروح ، والعزيمة التي منحته أياها قيم هذا الدين وتعاليمه ، وضماناته ، ليحقق أهدافه في هذه الحياة والمتمثلة في : العبادة والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف - كما رأينا سابقاً .
عندما نتأمل موقع هذا الإنسان ، وهو يمارس مهامه ، وفي تلك اللحظة التي يقف فيها أمام رستم ، ماذا نستنتج؟
الأمر الأول الذي نلاحظه ، هو أن هذا الإنسان قد انهى تكوينه الحضاري القاعدي ، بمعنى أنه قد تخرج من:
- مؤسسات الربط الحضاري ، بالرؤية والرسالة الإسلامية ، حيث وعى أهدافه ، واقتنع بها .. فهو في حالة ارتباط قوي برسالته ، التي تتمثل في مشروع الإسلام عموما .
- ومؤسسات الوعي الحضاري للمشروع ، فهو يتمتع بفقه محيط لأهداف الإسلام ، وقيمه .
- ومؤسسات البناء الحضاري ، والانخراط في الإنجاز للمشروع .
ونستدل على المفصل الأول من التكوين من خلال قوله : ( الله ابتعثنا لنخرج من شاء ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. ) فهو مؤمن بهذه المنظومة الجديدة من الأهداف ، ومجاهد من أجل تبليغها للناس ، كما نلاحظ بأنه تجاوز مفصل الوعي ، وبقوة عجيبة ، فرغم أنه كان في موقف زينت له فيه الدنيا ، وأعدت خصيصاً لإغرائه ، وإذهاله ، ولكن على العكس أذهلها ، وأذهل أصحابها . فقد استحقر كل ذلك العالم ، من الأشياء المائلة أمام عينيه ، ففي هذه اللحظة الجمالية الحضارية ، أعطى موقفه التاريخي الخالد ، وبرهن على ارتباطه بأهدافه ، ورسالته ، ووعيه العميق لها ، وأبان مدى مسؤولياته الكبيرة ، التي تفرض عليه أن يؤدي واجبه ، كممثل حضارة ، لا كمجرد مبعوث من قبل قائد إسلامي ، هو نفسه طراز آخر من النماذج الاستخلافية . فهو يعيش في موقف فرض عليه أن يلخص فيه رسالة الإسلام في كلما واضحة ، ومفهومة ، بعيدة عن التكهن ، والتفلسف ، والخلط . كما فعل جعفر من قبله بسنوات في أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة وهو يخاطب النجاشي ، ولنا أن نقارن المواقف لنتعرف على مدى التطابق الذي يعبر على نفس النموذج ، الذي أخرجته المدرسة التغييرية النبوية ، مع مراعاة الفارق الزمني .. فجعفر كان في العهد المكي ، وربعي كان في العهد المدني ، لقد عبر ربعي - رحمه الله - عن تطليق عالم مادي ، لم تعد تسري فيه روح الحياة ، ولم يعد له مفعوله القديم على النفوس الجديدة ، وارتبط بعالم غيبي ، يمده بمبررات أكثر إنسانية ، وفعالية ، وفطرية . كما وضعه أمام ضمانات عظيمة ، لا يمكن تقديرها وفق المقاييس المتعارف عليها في عالم الناس ، حيث أصبح لعالم الأشياء مفهوم آخر ، أدمجه في منظموة تحقيق أهداف إنسانية ، تخدم مصالح الإنسان في عالمه الحاضر ، وعالمه الآخر.(9/168)
وربعي في الحقيقة ، وفي ذلك الظرف ، كان في المراحل المتقدمة للبناء الحضاري ، للنموذج الإسلامي الاجتماعي ، وبالضبط كان يمارس عملية ( الإنقاذ ) التي هي الهدف الثالث في منظومة الأهداف الحضارية الكبرى للإسلام . وهذا واضح في قوله (.. ابتعثنا الله لنخرج ..) .. وكان كل كلامه نابع عن قناعة تامة بما يقول ، ويفعل ، وكانت الضمانات التي تبرر له سلوكه ، وتملأ عقله ، ونفسه وباطنه ، حتى أصبحت تشع بالخير في الخارج ، ويتضح ذلك في قوله (.. الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن يبقى ..) وهذا الاستحضار ، ليس من باب (المنتاج السياسي) ، الذي ألفته المجتمعات القديمة ، ولكن من باب التوافق مع سنن الله في الذكر ، والأنفس ، والكون .. السنن التي دفعته ليقول ، وهو يجيب عن طلب رستم : (.. ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نؤخر عند اللقاء أكثر من ثلاث ، فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل ..) .. لقد حدد المصير بدقة ، وعن علم ، ودراية ..
فموقفه سنني ، لأنه قد وفر في تلك اللحظات شروط ( سنة الإعداد ) سواء الروحي ، أو المعنوي ، أو العملي ، أو المادي ، فهو قادر على أن يحقق عملية الإنقاذ ، بتوفيق من الله ، وتثبيته ، ونصرته ..
ثم يقدم لنا فصلاً كاملاً من فصول التغيير الحضاري ، في معرض إجابته عن تساؤل رستم: (أسيدهم أنت؟) فقال : لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد ، يجير أدناهم على أعلاهم .. ) إنه يتحدث عن شبكة العلاقات الاجتماعية ، في أحسن ظروفها وانسجامها .. وفي خلاصة الكلام ، يأتي رستم ليحكم على هذه النوعية البشرية الراقية ، التي تغيرت معالم نفسيتها ، وعقليتها ، فتغيرت معها الكلمة ، والسيرة ، واللهجة ، والهدف ، والضمانة .. فقال : (.. ويلكم لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي ، والكلام ، والسيرة.. ) وكأن رستم في تلك اللحظة أدرك جوهر التحول ، وأصل التغيير ، وأحس بأنه يتحدث مع نموذج بشري آخر ، لم يعهده من قبل ، في حياة الأمم السابقة . هذا النموذج الذي قال عنه خالد بن الوليد الصحابي الجليل المؤمن ، والعسكري المحنك المظفر ، والجندي الطائع عندما بعث لولاة كسرى على ألوية العراق: ( وإلا فوالذي لا إله غيره لابعثن إليكم قوماً ، يحبون الموت ، كما تحبون الحياة .. ) .. إن التغيير لما في النفس ، هو الذي أنتج هذه النماذج الاستخلافية العالية ، وإنه لتحول يعبر عن عظمة الإسلام ، ورسالته ، وأهدافه ، وضماناته ووعوده ، وعن التربية النبوية المستقيمة على الطريقة ، والمتطابقة مع سنن الله المنتشرة في الذكر ، والأنفس ، والكون . وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن نؤكد على أن التغيير الأصيل ، هو الذي يكون موجهاً إلى تغيير النفس الإنسانية ، أي رفع قدارتها الفهمية ، والروحية ، والعملية ، التي تؤهلها لفهم عقيدتها وأهدافها ، ورسالتها ، واستيعابها لسنن الله العاملة في الذكر ، والأنفس ، والكون ، لأن هذا التغيير يتبعه آلياً التغيير في الكلام ، والعمل و الموقف . وعليه فالحركة التغييرية مالم تستهدف بالتغيير الإنسان في ذهنه ، وقلبه ، وجوارحه ، فإنها ليست أصيلة .. والحركة الأصيلة كالتي غيرت ربعياً ، هي التي تستطيع النفاذ إلى أقطار النفس ، وتستهدفها بالإفراغ من الأسقام ، والملء بالخير ، تبعاً لسنن الربط الحضاري..
لقد تخرجت أمثال هذه النماذج تحت الرعاية الخاصة للرسول صلى الله عليه و سلم وفي الورشات الإسلامية للبناء الحضاري ، المختصة في بناء القدرات الفهمية ، والقدرات الروحية ، والقدرات العملية ، والقدرات الجهادية ، والإعمارية ، والإنقاذية.
ومن الوجهة التاريخية العامة ، نلاحظ بأن العميلات الأولى لبناء (إنسان الاستخلاف) ، هي المقدمة الأساسية لبناء (مجتمع الاستخلاف) ، و( ثقافة الاستخلاف) ، كقوى حضارية كبرى ، بإمكانها تغيير مسيرة الإنسانية نحو الأفضل ، بتوفيق من الله عز وجل .. وعندما يبنى الإنسان ، ويرتفع إلى مستوى الاستخلاف ، فذلك دليل على اجتيازه المرحلة التي يكون فيها في (مؤسسات بناء المبررات الحضارية) وبالتحديد قد اجتاز العوالم الثالثة للتغيير الحضاري ، أي:
- الربط الحضاري ، وتكون المبررات في مرحلة التشكل وفي تنام مستمر .
- والتفقيه الحضاري ، وتكون المبررات في أعلى مستوياتها ودافعة للنشاط داخل النفس.
- وعالم البناء الحضاري ، وتكون المبررات دافعة للنشاط داخل الواقع الاجتماعي، المعضل بكل تحدياته، وصعوباته، ويكون الإنسان ، والمجتمع ، والثقافة في حالة حركة مستمرة..
=============
خاتمة
الحمد لله الذي وفقني لهذا ، وأمدني من العون ما مكنني من إنجاز هذا العمل المتواضع ، الذي أضعه بين يدي القاريء الكريم ، راجياً من المولى تبارك وتعالى أن يعيننا جميعاً على الاستفادة منه ، وذلك بتقبل النصائح والتوجيهات ، واستقبال الانتقادات ، والتصويبات ، بقلوب شجاعة ، وعقول نيرة ، ونفوس على الحق صابرة ، وفي سبيله ماضية ، ومن أجله مضحية . فما أرجوه من قاريء هذا الكتاب هو أن يدلني على الخطأ إن اكتشفه ، ويبصرني على العيب إذا لمحه ، ويوجهني إلى الصواب ، كلما رأني ملت عنه ، وأخذت مسلكاً غيره ، وحدت عن طريق الحق ، وتنكبت عن العلم الذي ينفع الأمة ، ويسدد خطاها ، ويعينها على استعادة عافيتها ، حتى تعود لأداء دورها في العبادة ، والإعمار ، والإنقاذ ، والتعارف كما أمر المولى تبارك وتعالى.
إن القاريء الكريم سيلاحظ أفكار هذا الكتاب المتنوعة ، وسيكتشف أن بعضها لم ينضج بالشكل المستوفي للشروط ، وأن بعضها ينقصه العمق ، كما أن بعضها الآخر يفتقر إلى التحليل ، والتمثيل ، والتأصيل .. وهكذا سيسجل ملاحظاته المختلفة ، وأشد الناس حاجة إلى هذه الأمور ، هو المؤلف . ومؤلف هذا الكتاب من أحوج الناس إلى التعلم ، وطلب المعرفة ، وتلقي النصح ، والترشيد من الأساتذة ، والعلماء ، والمفكرين المتخصصين في هذه الحقول العلمية.
وفي ختام هذه الدراسة أريد أن أنبه إلى أن هذا الكتاب هو القسم الأول في هذه السلسلة ، التي خصصتها لدراسة قضايا التغيير الحضاري ، في ضوء السنة النبوية . وهي محاولة إنسان مسلم ، مقصده الأساس ، هو المساهمة في تحريك طاقات الأمة الحيوية من الأفكار ، والأشخاص والأشياء ، لتسير على خط (الاستخلاف) . وكما يعلم القاريء الكريم أن الذي يريد أن يخوض معركة الاستخلاف في الأرض ، بحاجة إلى منهج تغييري ، وكما رأى القاريء في الكتاب ، أهمية المنهج النبوي في التغيير الحضاري الجديد .. وعليه فالحركة الإسلامية المعاصرة ، بحاجة إلى فتح فصل كامل من فصول التغيير ، يتعلق بدراسة هذا المنهج الفطري المنسجم مع قانون الحياة السليم.
والله من وراء القصد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
==============(9/169)
المستقبل للإسلام
الدكتور أحمد علي الإمام
- ولد بمدينة دُنْقُلا بشمالي السودان، (1364هـ - 1945م) .. وبها تلقي الابتدائي والتوسط.. وتلقى تعليمه الثانوي في معهد أم درمان العلمي، بأم درمان.
- حفظ القرآن يافعاً.
- تخرج في جامعة أم درمان الإسلامية.
- حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرا، بريطانيا، في علوم القرآن، مع عناية خاصة بنقد أعمال المستشرقين في لغويات وتاريخ القرآن.
- عمل محاضراً بجامعة أم درمان الإسلامية.
- عمل في الكلية الإسلامية في زنجبار، بتنزانيا، شرق أفريقيا.
- شارك في عدد من المؤتمرات والندوات العلمية الإسلامية، في دول مختلفة، على مستوى العالم. له العديد في الدراسات والأبحاث، باللغتين العربية والإنجليزية، وبعضها منشور، ومنها ما لا يزال مخطوطّا، مما يتصل بعلوم القرآن، وتطبيق الشريعة، ومستقبل الإسلام، والجهاد في سبيل الله، ودور العرب في انتشار الإسلام في شرقي أفريقيا.
- يجيد اللغات: الإنجليزية والسواحلية، فضلاً عن العربية.
- يعمل حالياً مديراً لجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في السودان
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه
الحمد لله، الذي أنعم علينا بالإيمان لسبيله، وهدانا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين.
والصلاة والسلام، على المنقذ من الضلال، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة الله، حرر العبودية، التي هي نزعة فطرية، في الإنسان، من التسلط، والاستعباد، واسترد إنسانية الإنسان، ووضع عن البشرية إصرها، والأغلال، التي كانت عليها..
وكانت النبوة، بكل المفاهيم، والاعتبارات، والواقع الميداني، والسياق التاريخي، ثورة تحرير، وانعتاق، ونسخ لألوهية الإنسان، التي تمارس تحت شتى العناوين، والشعارات، والادعاءات، لإخلاص الوجهة لله سبحانه وتعالى. ذلك أن الشر، والظلم، تاريخياً، ناشئ، من تسلط الإنسان على الإنسان، وتعدد الآلهة، المتخذة من دون الله، والانحراف عن التوحيد، الذي يعني فيما يعنيه، مساواة الخلق أمام الخالق.. والذي لم يعرف الجاهلية، ولا يعرف الإسلام حقيقة، وبعد:
فهذا كتاب الأمة السادس والأربعون: (لمستقبل للإسلام)، للدكتور أحمد علي الإمام، في سلسة ( كتب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة قطر، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وإعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه بدوره الحضاري، ورسالته الإنسانية، ووظيفته في الشهادة على الناس، والقيام لهم، إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم، بعد تحققه بالمرجعية الشرعية، وتبصره بالسنن الاجتماعية، في الأنفس والآفاق، التي تمثل أقدار الله ، وسننه، التي لا تتبدل، ولا تتغير، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر أحب إلى الله، والفرار من قدر إلى قدر ، فليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله- كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- وهذا لا يأتى ما لم يمتلك- إلى جانب فقه السنن- القدرة على استشراف التاريخ، واستعياب الواقع، وإبصار المستقبل، في ضوء هدايات الوحي، ومدارك العقل، وإعداد العدة المطلوبة، بإحياء فروض الكفاية، وتحقيق التخصصات المتعددة، في فروع المعرفة جميعها، والإحاطة بالعلم، وإنضاج الخبرات، والتزود بالطاقات الروحية المحركة، ليتخلص المسلم، من العطالة، ويستأنف دوره من جديد، على هدى وبصيرة.
وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: إن الإسلام دين الفطرة، وإن الحضارة الإسلامية، هي عطاء الفطرة، وإن خلود هذا الدين، وامتداده، وقدرته على الإنتاج، والعطاء، مستمد من خلود الفطرة، التي تتأبى على التشويه، والتبديل، وتمتلك إمكانية التجاوز، والتصويب، قال تعالى: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (الروم:30) .. إن هذا الدين، فطرة الله، فقوامته، واستقامته، وقدرته على التقويم ، والامتداد، والتجدد، والتجديد، مستمدة من رصيده في الفطرة البشرية، وكأن بين الإسلام، الذي هو دين الله إلى البشرية: (إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران:19)، الذي رضيه الله لعباده: (ورضيت لكم الإسلام دينا ً) (المائدة:3)، وبين الإنسان، الذي فطره الله على هذه الخصائص، والصفات، والمزايا، تواعد، والتقاء.. وأن المعركة الحقيقة، كانت ولاتزال، في صراع، والتدافع، بين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، وبين محاولات التشويه، والتبديل، والتضليل والاغتيال لهذه الفطرة.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم قول الله سبحانه وتعالى، في الحديث القدسي: (...وإني خلقت عبادي حنفاء، كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم ) (رواه مسلم في كتاب الجنة)..
ونفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبوهريرة: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ) (رواه مسلم، في كتاب القدر).
وندرك الأبعاد الكاملة لقوله تعالى في سورة الروم: (أقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون30* منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين31 من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون )
(الروم: 30-32).
وفي ضوء ذلك أيضاً، يمكن أن ندرك، بأن حقائق الخلق الإنساني العضوي، والنفسي، لها من الثبات، والامتداد، والديمومة، والعطاء، كحقائق الخلق الكوني.. وإن تميزت، عنها بأهلية الاختيار..وأن رصيد الخلق في الفطرة البشرية، كرصيد الخلق في الفطرة الكونية.. وأن حقائقها، لا تقل ثباتاً وامتداداً، عن حقائق الشمس والقمر، والكواكب، الأخرى.. وأن السقوط المستمر للآلهة المزيفة، التي أرادات تبديل خلق الله، عبر التاريخ البشري، وفتنت الناس إلى الحين، جاءت من مواضعات البشر.. وأن غياب الحضارات، واندثارها، واستمرار الإسلام، دليل على خلود هذا الدين، لأنه استجابة طبيعية لفطرة الله، التي فطر الناس عليها، وشاهد إدانة مستمر، وتأكيد على أنه لا تبديل لخلق الله، وأن العبرة دائماً هي بالعواقب، والمآلات الممتدة، وليست بالنتائج القريبة، التي تحاول أن تختزل الخلود في لحظات مرضية، في إطار الزمان والمكان..
لذلك بالإمكان القول: إن رصيد هذا الدين، في الفطرة البشرية، أو باعتبار هذا الدين، هو دين الفطرة، أو هو الفطرة نفسها، وإنه صبغة الله سبحانه وتعالى: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} (البقرة:138)، وثمره علمه المطلق، بتقلبات الزمان، والمكان، والإنسان: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك :14)، {وإذ قال ربك للملكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ) (البقرة :30)، ونتاج عدله المطلق الذي لا يليق به غيره... إن هذا المنطلق لفطرية هذا الدين، هو الذي أهل الإسلام، ليكون دين الإنسان، وهو الفيصل الأساس، بين الإسلام، وسائر المشروعات الحضارية البشرية، والمنظومات العقائدية المختلفة، والأيديولوجيات الوضعية المتعددة.. ولعل هذا هو السر الأعظم، في خلود الإسلام، حيث تتساقط المشروعات، والحضارات البشرية، والدينية التي عبثت بها أيدي البشر.
إن الإمكان الحضاري، والقدرة على تحقيق الشهود الحضاري على الناس، والقيادة لهم، وتقويم سلوكهم، بشرع الله، الذي يمثل أساس مهمة الأمة المسلمة، الذي بينه قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة :143) ، نابع من القابليات المركوزة في الفطرة لهذا الدين.
وفي نطاق هذه القدرة، المتميزة، لهذا الدين، على النهوض، وإعادة البناء، الذي اصطلحنا على تسميته:بالإمكان الحضاري، يمكن لنا أن نلمح بعض المقومات، ولعل في مقدمتها، إضافة إلى ركيزة
الفطرة:(9/170)
أن رصيد التجربة البشرية التاريخي، وبكل إصاباته، وإنجازاته، وسقوطه، ونهوضه، وعبره، ودروسه، انتهى إلى النبوة الخاتمة، فهي بذلك تمتلك، إلى جانب رصيد الفطرة، رصيد الفعل التاريخي، الذي يعتبر المختبر الحقيقي للأفكار، والمبادئ، والدعوات، والحضارات، والعبرات، فهي تقف على قمة التجربة البشرية، ليس وقوف الذاهل، الغافل، وإنما وقوف المبصر، الذي يمتلك أدوات النظر، ومعاييره، وقيمه.
إن الوقوف على هذه القمة الحضارية، إن صح التعبير، بكل ما فيها من نهوض، وسقوط، وكفر، وإيمان، وخير، وشر، وقوة وضعف، في أقدار التدين، سوف يمكن المسلم، من امتلاك القدرة على استشراف الماضي البعيد، والنظر إلى كيفية بدء الخلق، والتأمل في مسيرته، وما تعرضت له من عثرات، كما يمكنه من استشراف المستقبل البعيد والمآلات، والعواقب، في ضوء ذلك الماضي، الذي استقرت له، وفيه، قوانين الاجتماع البشري، والحركة التاريخية، وتأكدت فاعلية سنن الله في الأنفس، والآفاق.. وحتى لا يصيب إنسان الإسلام، الذهول، والغفلة، والعجز، والضياع، جعل الله النظر في العمق التاريخي، والتأمل في العواقب، والاهتداء إلى السنن، الناظمة للحياة، والاتعاظ بأحوال السابقين، واختصار الزمان، والتجربة، وتحقيق الوقاية الحضارية، من السقوط.. جعلها من الفروض الحضارية، أو الاجتماعية، فقال تعالى:(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين ) (آل عمران:137-138)
وإذا سلمنا بأن الحاضر هو مستقبل الماضي، وماضي المستقبل، كما يقال، أدركنا الرصيد، والزاد، ومقومات الرؤية المستقبلية، التي يتمتع بها إنسان الإسلام، الذي لم يقف فيها عند حدود المحسوس، في عالم الشهادة، ويخادع ببعض النتائج القريبة، ويعيش قلق المصير، وإنما يتجاوز إلى ما وراء المحسوس، والمنظور، في عالم الشهادة، إلى التحقق برؤى مطمئنة عن العواقب، والمآلات، التي سوف تصير إليها الأمور، من خلال مقدماتها في الماضي، ونتائجها في الحاضر، الأمر الذي سوف ينتهي بها إلى إدراك مآلاتها المستقبلية، المقترنة بتوثيق الوحي، الصادق المصدوق، قال تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14).
وهنا قضية، قد يكون من المفيد الإشارة إليها، ولو سريعاً، وهي أن الرؤية، التي يمنحها الإسلام للمستقبل، بشكل أخص، ولعالم الغيب بشكل أعم، ليست رؤية غائمة، حالة، طوباوية، بعيدة عن القدرة على التصور، والإحاطة العقلية بها، وإنا هي رؤية تمتلك كامل مقوماتها، وحتى مقدماتها المادية في الدنيا، ونماذج السنن، التي تحكمها، حيث يمدنا التاريخ بدليل صدقها، وفاعليتها، ويضعنا على عتبة المستقبل، متحقيقن بالزاد المطلوب.
لذلك نقول: بأن أي استشراف للمستقبل، لا يمكن أن يتحقق بدون استشراف للماضي، والتحقق به، وأي إدراك لمصير الخلق، لا يمكن أن يدرك بدون السير في الأرض، والنظر في السيرورة البشرية: كيف بدأ الخلق، قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) (العنكبوت:20).
والقرآن الكريم، لم يكتف، بتوجيه المسلم صوب التاريخ، وأمره بالتوغل فيه، واكتشاف السنن الناظمة للحركة الاجتماعية، وتسخيرها، والوقاية الحضارية من إصابتها،وتركه يمارس الاكتشاف بنفسه، وإنما زوده بهدايات الوحي، كما زوده بأدلة، ونماذج تاريخية، في القصص القرآني، تفتح بصيرته، وتقدم له القدر، الذي يشكل الأنموذج، وسراج الهداية، ودليل العمل، وبُوصلة التوجه.
والمقوم الآخر، الذي يمتلكه هذا دين، في إطار الإمكان الحضاري، أنه يتملك، دون غيره من الأديان، صحة النص السماوي، وسلامته من التحريف،والتبديل، وانتقاله بالتواتر.. وعلى الرغم من أن سلامة النص، تعتبر من لوازم الخاتمية، حيث تعني الخاتمية، في أقرب مدلولاتها، توقف التصويب من السماء، لما يمكن أن يكون من عمليات التحريف، والتبديل ، والإلغاء، فإن من خصائص الخلود أيضاً، استمرار النص سليماً، لكل الأجيال، في كل زمان ومكان، حيث لا يعقل أن يخاطب الناس بنصوص محرفة، أو منحولة، ومن ثم يحاسبوا على مدى التزامهم، بما حمل لهم الخطاب من تكاليف، وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم الأبعاد الكاملة لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9).
نقول: على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من لوازمه المادية، وثمرته، بتعهد الله بالحفظ، فإن الخطاب السماوي في الرسالة الخاتمة، خضع لأعلى درجات التوثيق، والحفظ، والنقل، حيث بلغ حد التواتر، الذي يفيد علم اليقين، مشافهته، وكتابته، إلى درجة أصبح معها النص القرآني-بالمعايير العلمية البشرية- يعتبر أقدم وثيقة تاريخية، وردت بطريق علمي صحيح، ولذلك قد لا نستغرب، أن يدرك ذلك بعض أبناء الأديان الأخرى، ويقوده إداركه، ومنهجه العلمي الوثائقي، إلى اعتبار القرآن، هو المصدر الوحيد، الوثيق، لبيان عقائد النصرانية، واليهودية الصحيحة، وبيان ما داخلها من تحريف، وتشويه، ذلك أن المصادر الأخرى، لا يوثق بها، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية العلمية، إذا خضعت للفحص والاختبار، وأن قبولها واستمرارها، محكوم بنوع من التسليم، وهالة من القدسية، تحول دون مناقشتها، وعرضها على موازين التقويم والنقد.
وهنا قضية، لابد من إثارتها، ولعلها من مقومات الإمكان الحضاري أيضاً: وهي أن المسلمين، في الجيل المشهود له بالخيرية، لم يفهموا من قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)، أنهم معفوون من مسؤولية الحفظ، والتوثيق، والنقل، طالما أن الله تعهد بها، وإنما أدركوا مسؤوليتهم تجاه القرآن، وأنهم أوعية الحفظ، والنقل، وأن الحفظ والنقل، إنما يتحقق من خلال عزمات البشر وفعلهم، لذلك، سارعوا إلى الحفظ والكتابة،منذ بدء الوحي، حيث اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتّاباً للوحي، ونهى عن كتابة غير القرآن، حتى لا يختلط النص السماوي بكلام البشر، فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه ) (رواه مسلم في كتاب الزهد)، وأرعبهم اشتداد القتل بالقراء، في معركة اليمامة، وخافوا على ضياع القرآن، وأن يلحق بهم ما لحق باليهود والنصارى، من الاختلاف ومن ثم استنفروا جهودهم كاملة لحماية خطاب الله، الذي هُدد بالإصابة، فكان جمع القرآن، وحفظه، ونقله، حتى وصلنا كما أُنزل.
وأمة تمتلك وتنفرد بوراثة الكتاب، وبامتلاك النص السماوي الخاتم، الخالد، سليماً، وتدرك أن مدلولاته، ومقاصده، لابد أن تتحقق من خلال عزمات البشر، هي أمة مؤهلة، لتحقيق الشهادة على الناس، والقيادة لهم، والقيام بأمانة الشهود الحضاري.(9/171)
وقد يكون من الأمور المهمة، التي تقتضي الإشارة إليها، نحن بسبيل الكلام عن مقومات الإمكان الحضاري الخالد، الذي تحقق للأمة المسلمة، والذي يمنحها القدرة على النهوض، وإعادة البناء، هو عقيدة التوحيد، وثمراتها الإيجابية، في إعادة صياغة الإنسان، وتوحيد وجهته، في العقيدة والعبادة، والولاء والبراء، وتحقيق الانسجام بين نفسه، وروحه، وجسمه، وعقله، وعاطفته، وسائر أشواقه، وتطلعاته، وسموه، وحاجاته، وترقية، خصائصه، وتصعيد غرائزة، ذلك أن التوحيد لم يقتصر على آفاق البحث النظري، في مجال العقيدة، وتوحيد الأسماء والصفات، وإنما أثمر رؤية توحيدية، في كل شُعب الحياة، المعرفية والعملية، ونفي الشرك، وتوحيد الوجهة، في المجال السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والأخلاقي: (قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين ) (الأنعام: 162).
ولعلنا نقول هنا: إن التوحيد هو الركيزة الأساس، في الإمكان الحضاري، حيث قضى على التثليث، والتجسيد في العقيدة، الذي حاول إخضاع الخالق لسيطرة الإنسان، وخصائصه، وصفاته، وقضى على الثنائية، بين الوحي والعقل، التي كانت سبباً في سقوط الحضارات تاريخياً، وتشطير الإنسان، وتقطيع أوصاله، وتعدد وجهاته، ومنازعه، ومصادر التلقي عنده.
لقد تخلص إنسان الإسلام، من ثنائية الوحي والعقل، ذلك الخيار الصعب، الذي طُرح تاريخياً، كثمرة لمقدمات مغلوطة، فلم ير المسلم تناقضاً، بين معارف الوحي، ومدارك العقل، لأن الله، هو مرسل الوحي، وخالق العقل، ومكلفه بتعاليم الوحي، ومخاطبه بمعارفه، ولذلك فلا يمكن أصلاً، تصور أي تناقض.. فالعقل هو سبيل معرفة الوحي، ومحل تكليفه، والوحي، هو سراج الهداية للعقل، والإطار المرجعي، والضابط المنهجي لمعارفه، ولا يمكن ابتداء لأحكام الوحي، أن تناقض العقل السليم، لأنه محل الخطاب والتكليف، كما أسلفنا.. ولو افترضنا أن الصدام والتناقض، حاصل من الناحية النظرية، فلا معني إذاً للتكليف، الذي مناطه العقل، لأن التكليف لايقع إلا في محله.. ولما كان العقل، متأثراً بالرغبات والنزوات، وواقعاً تحت احتمالات خطأ الحواس المعتمدة، لإيصال المعلومة إلى العقل، كما أنه خاضع للعلم المحدود، والعمر المحدود، والاطلاع النسبي، فلا يمكن له أن يستقل بالنظر، له والحكم. أما الوحي فهو: خطاب الله، العليم، علماً مطلقاً، منزهاً عن الخطأ والغرض، والمبلغ المبين له هو: الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، لذلك فالتعارض منتف، بأصل الوضع، أما عند توهم التعارض، أو وجوده، لسبب أو لآخر فإن الوحي المعصوم، مقدم عقلاً، على العقل المظنون.
وجيل خير القرون، ومن تبعهم بإحسان، في فترات التألق، والعطاء الحضاري كلها، لم يعانوا من هذه الإشكالية، التي دمرت إنسان الحضارة الغربية، ووضعته أمام الخيار الصعب، فانتهى، إما إلى إلغاء العقل، وإسقاطه، واعتبار التدين والإيمان، يعني ويقتضي: الإلغاء الكامل للعقل، والتسليم، بدون تعقل، الأمر الذي أدى إلى شيوع الخرافة، والتصورات المشوهة، والانسلاخ من الدين، والقيم الأخلاقية.. وإما إلى نفي الدين، وتأليه العقل، والاكتفاء بعلم ظاهر الحياة الدنيا: (يعلمون ظهراً من الحياة الدنيا ) (الروم:7)، وإسقاط معارف الوحي، وتقطيع الإنسان إلى أبعاض.
إن جيل خير القرون، والفترات التاريخية كلها، التي تمتعت بالبناء، والتألق الحضاري، لم تعان من هذه الثنائيات، إلا عندما طغت مفاهيم الحضارة الغربية، وأخذ الناس بأشيائها، ونقلوا فكرها، وفلسفتها، وثقافتها، وهماً، منهم بأنها قارب النجاة، وسبيل الرقي الحضاري وما زادتهم إلا تبعية وتكريساً للتخلف، ونوعاً من الفصام الحضاري.
ولعل من مقومات الإمكان الحضاري، الذي يؤهل الأمة المسلمة للشهود الحضاري، أو بعبارة أدق: يؤهلها للشهادة على الناس،والقيادة لهم: هو وجود أنموذج الاقتداء التطبيقي، المعصوم، الذي تم تطبيقه، وبناؤه، على عين الله، صاحب الخطاب الأصلي،وفعل المعصوم صلى الله عليه وسلم لتنزيل القيم، والنص السماوي المطلق، على الواقع النسبي، وتقويم سلوك الناس بها..وهذا الأنموذج الذي امتد بناؤه ثلاثة وعشرين عاماً، أستوعب أسس الحالات، وسبل حلول المشكلات، التي يمكن أن تتعرض لها البشرية، في تاريخها الممتد، حتى قيام الساعة،إنه أنموذج للدعوة والدولة،والضعف والتمكين، والسقوط والنهوض، والهزيمة والنصر..الخ.. أنموذج لكيفية التعامل مع القيم، من خلال الواقع، والتعامل مع الواقع، والارتقاء به، وتقويم سلوكه، بشرع الله، من خلال القيم.. ويبقى المطلوب، في كل مشروع للنهوض والتجاوز: القدرة على استلهام الأنموذج المعصوم، وفقه الحالات المشابهة، ووضع الواقع في موقعه المناسب، من مسيرة بناء الأنموذج، والإفادة من كيفية تعامله مع الحال المشابه، لتسديد المسيرة، وتغذية السير، بعيداً عن أي تقليد، ومحاكاة للنماذج الرديئة، من أي مصدر جاءت. لذلك جعل الله استلهام الأنموذج المعصوم، ديناً من الدين، قال تعالى:(لقد كان لم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21)
ومن الأمور التي لابد من لفت الانتباه إليها، ويمكن اعتبارها من مقومات الإمكان الحضاري أيضاً، في هذا المجال- مجال تميز الأمة المسلمة، بأنموذج الاقتداء التطبيقي المعصوم، لتنزيل القيم على الواقع- هو استمرار حمل الأنموذج، وعدم انقطاعه، في كل المراحل.. صحيح بأن مساحة هذا الأنموذج، قد تتسع، لكنها أبداً لا تنقطع، ولعل سمة الخلود، التي تعتبر من لوازم الرسالة الخاتمة، تعني فيما تعني، من الناحية النظرية: القدرة على الإنتاج العلمي في كل عصر، وتأكيد ذلك من الناحية العملية التطبيقية، إنما يكون في امتداد الأنموذج، الذي يجسد القيم، ويدلل على قدرتها على الإنتاج، وقابليتها للتطبيق، وإثارة الاقتداء بها.. في ضوء ذلك، يمكن أن نفهم بعض الأبعاد الغائبة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) (رواه البخاري ومسلم).
إنه استمرار لأنموذج الاقتداء، الذي يمنح الدليل العملي، والشاهد الواقعي على الإمكان الحضاري، وقابليات النهوض،وإعادة، البناء،والإقلاع من جديد، ذلك أن الطائفة القائمة على الحق، تمثل بحق ميداناً تدريبياً تأصيلياً للمعاني الغائبة، وترجمة القيم إلى واقع وسلوك، والأفكار إلى أفعال.. ولعل امتلاك الأمة المسلمة للقيم، في الكتاب والسنة، التي لا يد للإنسان في وضعها، يمنحها القدرة على اكتشاف أخطائها، وممارسة عمليات التصويب، والنهوض، والتجديد الذاتي، والقضاء على جوانب الانحراف، ونوابت السوء.. يمنحها القدرة، ليس فقط على معايرة الحاضر(الواقع)، وتحديد مواطن الإصابة، والقصور، ومعرفة أسباب التقصير ورسم سبل الخروج منه، وتقويمه بشرع الله، وإنما تمتلك القدرة أيضاً، على تقويم الماضي(التاريخ)، وبيان جوانب الانحراف والاستقامة، والخطأ والصواب فيه، التي انتهت بنا إلى ما صرنا إليه.
فالتاريخ، هو في نهاية المطاف، فعل بشري، يجري عليه الخطأ والصواب، وهو محاولة لتنزيل القيم على الواقع.. وهو ليس أمراً مقدساً، ولا معصوماً، وهو بذلك ليس مصدراً لتشريع الأحكام، وإنما هو محل للدرس،والعبرة، والاهتداء إلى السنن الاجتماعية الفاعلة، والتحقق بالوقاية الحضارية، حتى لا يتكرر الخطأ، وتستمر الإصابة.(9/172)
فالأمة المسلمة، ليست أسيرة لتاريخ أو لماضٍ ، اللهم إلا السيرة الصحيحة، التي تمثل أنموذج الاقتداء، المسدد بالوحي، والمؤيد به.. بل لعل السيرة النبوية، تشكل أحد المعايير التطبيقية، لتقويم التاريخ، وبذلك فالأمة المسلمة، قادرة باستمرار، على التجدد الذاتي، والتجديد ، وهذا يعتبر أحد مرتكزات الإمكان الحضاري الكامن في طبيعة الأمة، وقيمها، التي تؤهلها باستمرار، لاستئناف السير، ومعاودة النهوض، ولعل هذا، هو السر الحقيقي في عدم انقراض الأمة المسلمة، وموتها، وعدم خضوعها بإطلاق، للدورات الحضارية، التي جرت على الحضارات التي سادت ثم بادت، على الرغم من خضوعها لسنة التداول الحضاري، قال تعالى :(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140)، ذلك أن خميرة النهوض، تتمثل دائماً في القيم المستمدة من الوحي(الكتاب والسنة)، وفي تجسيدها، وتفعيلها في الطائفة الممتدة، القائمة على الحق.
لقد ذهب علماء الحضارات، كثمرة لاستقرائهم التاريخ البشري، وصفحات السقوط والنهوض، إلى أن الحضارة، أية حضارة، تمر بمراحل ثلاث، فقالوا:
إن المرحلة الأولى: هي مرحلة الفكرة، مرحلة الإيمان بالهدف، الذي يملأ على الإنسان نفسه، ويشكل له هاجساً دائماً، وقلقاً سوياً، ويدفعه للعطاء غير المتناهي، و التضحية في سبيل ذلك، بكل شيء، بما يمكن أن يعتبر أن من أهم سمات هذه المرحلة: بروز إنسان الواجب، الذي لا يرى إلا ما عليه، ويقبل على فعله بوازع داخلي، بإيمان، واحتساب، دون أن يخامر عقله، ماله من حقوق.. هو إنسان واجب، إنسان إنتاج، وليس إنسان حق فقط، إنسان استهلاك.. وقد يكون من المفيد هنا، أن نذكّر بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وصف مرحلة الوهن الحضاري، والإشراف على السقوط، وحدد معادلتها، عند سئل عن الوهن، الذي يصيب الأمة قال: (حب الدنيا ) (ظهور إنسان الغريزة-إنسان الاستهلاك)، (وكراهية الموت ) (غياب إنسان الإيمان، والإنتاج، والاحتساب) (الحديث رواه أحمد، مجلد5 ،ص 278).
أما الدورة الحضارية الثانية، أو المرحلة الحضارية الثانية، التي تمر بها الأمة، هي مرحلة العقل، وضمور الإيمان، وفتور الحماس، نسبياً.. مرحلة التوازن، بين العمل والأجر، بين الحق والواجب، بين الإنتاج والاستهلاك، بين الدنيا والآخرة، دورة ضبط النسب.. حلول العدل، محل الإحسان.. وهنا تصل الحضارة إلى قمتها، وتبدأ مرحلة السقوط، إذا لم تستدرك ما يتسرب لها من أمراض. والدورة الحضارية الثالثة، أو مرحلة ما قبل السقوط النهائي، هي مرحلة غياب الإيمان، وبروز الشهوة، والغريزة، وانكسار الموازين الاجتماعية، واستباحة كل شيء وبكل الأساليب، وعندها تسقط الحضارة، وتموت الأمة، ويتم الاستبدال.
إن عدم خضوع الأمة المسلمة، للدورات الضارية بإطلاق، وقدرتها على الاستمرار، والتجاوز، والتجدد، والتجديد، والنهوض، من دون غيرها من الأمم والحضارات، يعني فيما يعني: أنها تمتلك الإمكان الحضاري الممتد، والمفقود في الحضارات الأخرى، السائدة منها، والبائدة، وذلك بامتلاكها النص السماوي السليم، الذي يشكل المعيار، وامتداد الأنموذج، المفعم بالإيمان، والإيثار، والإحسان، المتمثل بالطائفة القائمة على الحق، التي تمثل خميرة النهوض، بما تحمل من إيمان وفاعلية، إنما تمثل استمرار إنسان الواجب الذي يحفظ التوازن، ويعيد للحياة معناها المفقود، ويثير الاقتداء به، وهذا من ثمرات الخاتمية، الخلود، ومن لوازمها، إن صح التعبير.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك مواثيق الله، وعهده لهذه الأمة، أن لا يسلط عليها عدوها، تسليط استئصال وإبادة، وإنما تسليط تأديب على معاصيها، وتحريض لها، لتعاود المراجعة، والتقويم، والنهوض من جيد.
قال تعالى :(لن يضروكم إلا أذى ) (آل عمران:111)، وقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (..وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم ) (رواه مسلم، في كتاب الفتن وأشراط الساعة).
وهنا نقطة، قد تكون جديرة بالتوقف قليلاً، بما يتسع له من المجال، وهي أن السقوط الحضاري، مهما كان قاسياً، يكون بالإمكان تجاوزه، واستدراكه، واستئناف عملية النهوض من جديد، إذا اقتصر السقوط والانهدام، على عالم الأشياء، أو ما اصطلح على تسميته: (بالمدنية)، واستمر عالم القيم والأفكار، أو ما اصطلح على تسميته: (بالثقافة)، سليماً.. لذلك استطاعت الأمة الإسلامية بما تمتلك من قيم محفوظة بحفظ الله:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون) (الحجر: 9)، والمتحقق حفظها، من خلال عزمات البشر، استطاعات أن تعيد البناء، وتمارس عملية النهوض، على الرغم من فداحة الانكسارات، وعظم النكسات، وشراسة الهجمات، وقوة الأعاصير المدمرة، لأنها لم تفتقد قيمها، وأفكارها، و مخطط النهوض ودليله.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك أبعاد قوله تعالى، في أعقاب هزيمة أحد: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:139-140)..أنه استعلاء الإيمان رغم سقوط، وهزيمة الأشياء، وعظم الانكسار.. وقوله تعالى في سورة البروج، بعد أن عرضت السورة لعذابات المؤمنين، تحريقهم بالأخدود، وشراسة الظالمين، وتقديم نماذج للظلم المتصاعد، قال تعالى :(هل أتك حديث الجنود * فرعون وثمود ) (البروج:17-18) (طغيان واستبداد حاكم: فرعون. وتواطؤ وظلم أمة: ثمود)، ثم ختم السورة بقوله تعالى:(بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ ) (البروج:21-22)، الأمر الذي يلمح منه الإنسان، أن الشدائد الشديدة، لا تنال من الأمة، ولا تسقطها، إذا حفظ لها عالم أفكارها، الذي يضمن القدرة على العود، لذلك فإن معركة إسقاط الأفكار، والغزو الثقافي، هي الأخطر دائماً، وعملياً.. وأن عملية التحريف والانتحال، والمغالاة، هي الأدهى والأمرّ..ولذلك أيضاً، نرى أن حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، رسالة كل مسلم، وفريضة الأمة المسلمة، هي الحارس الأمين لعالم القيم، وتطبيقاتها في المجتمع، ونرى أن الدورات التجديدية على رأس كل مائة عام، التي أخبر عنها الصادق المصدوق، تأتي لتعيد تنقية عالم الأفكار، مما أحدث فيه من جديد (يبعث الله على رأس كل مائة عام، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه أبو داود، في الملاحم)، ليبقى الإمكان الحضاري مستمراً.
وفي إطار ما تتمتع به الأمة المسلمة، من الإمكان الحضاري، الذي يمنعها من السقوط، ويدفعها إلى النهوض، بما تمتلك من الخصائص، التي أشرنا إلى شيء منها، قد يكون من الأهمية بمكان، العود على بدء، من أن الحضارة الإسلامية، بعطائها، وامتدادها، لم تعان، على مستوى التصور والسلوك، معاً،أو على مستوى الفكر والفعل، من ثنائية العقل والوحي، الأمر الذي أدى إلى تشطير الإنسان، وتدمير بعضه، وإنما سار العقل والوحي بخطين متوازيين، لا يصطدمان، فلا تعارض في التصور الإسلامي، بين العقل والنقل، أو بين صريح المنقول، وصحيح المعقول، والأمر لا ينظر له في المجال المعرفي الإسلامي، في إطار التعارض، الذي غالباً ما يمليه اليوم الموقف الدفاعي، بمقدار ما ينظر إليه في نطاق الانسجام والتوافق، لإنتاج الإنسان المتوازن، المتناسق.(9/173)
فإذا كان الوحي في الكتاب والسنة، مصدراً للمعرفة والتشريع، فإن العقل، بما يمتلك من الإمكان، والأهلية، هو الذي يستنبط، ويحقق ذلك، بل ويمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق ذلك، بل يمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق مقاصده في الواقع، بما اصطلح عليه :(بالاجتهاد، الذي يعتبر المصدر الثالث للتشريع..) وما الاجتهاد إلا إعمال العقل، لمد الرؤية، وتوليد الأحكام الجديدة، للحوادث الجديدة، في ضوء الوحي، ذلك أن العقل، يجرد المقاصد، من حدود الزمان، والمكان، ويولد في ضوئها الأحكام الجديدة، أي أن العقل، يمتد بالوحي ليقوّم بأحكامه جميع شؤون الحياة.. فإذا كانت النصوص تتناهى، والحوادث المتجددة لا تتناهى، كما يقول علماء الأصول، فإن اعتماد الاجتهاد كمصدر للتشريع، هو أحد مقومات الإمكان الحضاري، ومصدر الحيوية، وسبيل تحقيق الخلود، وآلية الفعل الحضاري، ذلك أن الاجتهاد، هو مصدر الإجابة عن كل الأسئلة، وتقديم الحلول لكل المشكلات، التي تواجه المسلمين، بعيداً عن صور التخلف، والعجز، والتخاذل الحضاري، التي يمكن أن يصنف خارج نطاقه الإسلام الصحيح، وأمانة التكليف.
وقد يكون من الأمور، التي لابد أن تقدر حق قدرها، على الرغم من كل المحاولات المستميتة لتشويهها، والتي كانت سبباً في اختيار الإسلام، واستمرار امتداده، في كل الظروف، والأحوال، والأوضاع، سواءً في أكثر المجتمعات تقدماً مدنياً، أو في أكثرها تخلفاً وانحطاطاً، أن الإسلام استرد إنسانية الإنسان، وجعل التدين حرية واختياراً، واستطاع إيقاف تأله الإنسان على الإنسان، الذي هو مصدر الشر، والظلم في العالم -كما أسلفنا-وحلّ المعادلة الصعبة، أو صوّب المعادلة، بين السلطة والألوهية والإنسان.
ذلك أن العلاقة، بين السلطة، والطغيان، والعلو في الأرض، وبين الألوهية، أخذت حيزاً كبيراً من تاريخ الإنسان الطويل، في هذه الدنيا، حتى لتكاد تكون علاقة تلازم في فترات طويلة، حيث كان يصعب على صاحب السلطة، أن يقبل، أو يعترف، أو يتصور بوجود سلطان غيره، أو بوجود إله غيره، يمكن أن يتجه إليه الناس.
وهنا لابد أن نذّكر مرة أخرى، بقولة فرعون، كأنموذج للطغيان في التاريخ البشري، عندما دعاه موسى إلى الإيمان بالله، حيث قال:(ما علمت لكم من إلهٍ غيرى ) (القصص: 38).. (أنا ربكم الأعلى ) (النازعات :24)، ومقوله النمرود:( أنا أحى وأميت ) (البقرة:258)، واستدل لذلك من استخدام سلطته، التي أوهمته بالألوهية، وفهم من قول سيدنا إبراهيم: إن الله يحي ، ويميت، تلك العملية الساذجة، حيث يقدر هو أيضاً أن يقتل إنساناً، ويطلق سراح آخر، ممن حكم عليهم بالإعدام، وعندما نأتي على ذكر هذين الأنموذجين، من تاريخ العلاقة، بين الإنسان، والسلطة، أو بين السلطان، والتأله، والعلو في الأرض، فإننا نؤكد أن هذه النماذج، سوف تتكرر، بشكل، أو بآخر، بشكل واضح، سافر، أو بشكل خفي مستتر، وأقل ما في ذلك اليوم، عزل الحياة عن سلطان الله، ليحل محله المتألهون، أو آلهة العصر الجديد-ولكل عصر آلهته-لأن القرآن خالد، ومجرد عن حدود الزمان، أو المكان.. وهذا الخلود يعني تكرار الفراعين، والنماريد،والقوارين، وتكرار المواجهة، والإصابات، والتدافع، بين الحق، والباطل، ليمتحن الناس، ويتمايزوا، والشر من لوازم الخير، قال تعالى: (كذلك يضرب الله الحق والبطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأماما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد :17) ولولا هذه الشواهد، التي قد لا يخلو منها عصر، أو مكان، في جنبات الأرض الواسعة، لكان القرآن، كتاب تاريخ، وقصة، وتسلية، لا علاقة له بواقع الحياة، ولا مستقبلها.
إن صاحب السلطة، إذا تجرد من الإيمان بالله، وديمومة مراقبته، وخشيته، واستصحاب الحذر من التسلط، وما يترتب عليه من الإثم العظيم، يصعب عليه، بما يتملك من القدرات التنفيذية رؤية مقام العبودية لله تعالى، واستشعار المسؤولية عن العمل، والكف عن شهوات النفس.
لذلك نرى، من استقراء التاريخ، أن الكثير من أصحاب السلطان، والحكام، حتى عند اعترافهم، بوجود الله، لم يرضوا أن يعترفوا بسلطانه، على الأرض!!، وعند اعترافهم بهذا السلطان يحاولون تشويه، صورة العبودية لله تعالى، لتكون في خدمتهم، فيجعلون من أنفسهم، آلهة الأرض، نيابة عن إله السماء، ويعلنون أنهم هم المتحدثون باسمه، والمفسرون لتعاليمه، وأنهم هم ظله على الأرض، الذين يمثلون إرادته، وفي هذه الحالة، يربطون، بين استبدادهم، وتسلطهم على حياة الناس، وضمائرهم، وبين إدارة الله، الذي انتدبهم، بزعمهم، ليكونوا آلهة الأرض، بحيث يصبح كل من يخالفهم، أو يناقشهم، أو يتقاعس عن تنفيذ أوامرهم،عاصياً لله سبحانه.. إنه التأله، والتسلط، والظلم، باسم الله، والدين، وهو أشد وأشر أنواع التسلط، وتعبيد الإنسان للإنسان.
ولقد عاني الإنسان، من الحكم الديني، أو ما عرف في أوربا، باسم :( الحكم الثيوقراطي)، أشد المعاناة، حيث لم يعد الحكام يتسلطون، على دنيا الإنسان، ويلغون وجوده، واختياره، وإنما امتد ذلك، للتسلط على أخراه أيضاً، لأن معارضة الحاكم الثيوقراطي، عصيان لله، سوف يحاسب عليه الإنسان، في الدنيا بالظلم، والعسف، والطغيان، وفي الأخرة، بالعذاب الأبقى!!
وكان من المستحيل، عقلاً، وواقعياً أن يستمر، هذا التأله، الذي يمارس على الإنسان، منفصلاً، ومنكراً لله تارة، ومستخدماً اسم الله، وإرادته، حينًا آخر. لكن المشكلة بالقراءة الخاطئة، التي وقع فيها الإنسان،أثناء النظر إلى معادلة السلطة، والإنسان، فتوهم أن المشكلة كلها آتية من الإيمان بالله، الذي يزيفه هولاء، الذين يدعون أنهم ظل الله على الأرض، وليست المشكلة في التزييف، ومحاولة الاعتداء على سلطان الألوهية، من بشر، هم كسائر البشر، يعطون أنفسهم حق التسلط على الآخرين، الذين لا يختلفون عنهم، فكان أن أنكر الإنسان الدين، والإيمان، سقوطاً في هذا التزييف، دون أن يدرى أن حل المشكلة، وتصويب المعادلة، إنما يكون بالإيمان الصحيح، وتوحيد الألوهية، والربوبية، وإيقاف الشرك السياسي، ونسخ التألهات السلطوية، التي حاولت أن تجيّر الإيمان لحسابها.. ولم يدر الإنسان أن إلغاء الإيمان بالله، وقيمه، التي تحكم الجميع، ويتساوى أمامها الجميع، هو تكريس لألوهيات البشر، بشكل ظاهر، أو خفي، لأنهم هم، الذين سوف يتولون وضع الضوابط، والمعايير، التي يحكمون بها الناس، ويغيرونها تبعاً لأهوائهم، ولتحقيق مصالحهم، وتأمين سلطتهم، وتسلطهم.(9/174)
ولابد أن نذكر هنا، أن أعتى المواجهات، كانت بين النبوة والكبراء، سدنة الشرك السياسي.. كانت بين مدعي الألوهية من البشر ومنكري ألوهية البشر وتسلطهم، من الأنبياء، إلى درجة يمكن أن نقول معها :إن النبوة جاءت كثورة تحريرية، لإيقاف تسلط الإنسان، على الإنسان، وإعلان مساواة الناس، وإعلان التوحيد، والوحدانية، التي تلغي تأليه البشر، أو شراكة البشر.. جاءت لتحرير الإنسان، من العبوديات جميعاً، وتربطه، بخالق البشر، بما فيهم أصحاب السلطان، وتمنحهم القدرة على الصمود، والمواجهة، والصبر، في مواجهة الظلم، والاستبداد، والشرك السياسي، وتجعل ثوابهم عظيماً، في مواجهة التأله، في الأرض، وتقدم لهم نماذج للظلم، والاستبداد السياسي الموهوم، وكيف كانت عاقبته، بل وتتحدى الظالمين، والمتألهين، بالعواقب، وأنهم على الأرض، ليسوا أكثر من وسائل إيضاح، وأدوات فتنة، موقوتة، للظلم، والطغيان، فأين فرعون، وهامان ونمرود، وقارون؟! وتمنحهم الثقة، والانتصار، مهما اشتد الظلم، والظلام، فالذي قوّض ملك فرعون، هو الذي تربى في قصره، على الرغم من كل الاحتياطات السلطوية.
ونستطيع أن نقول هنا :إن الإسلام، أو النبوة، الخاتمة، استطاعت أن تصوب معادلة السلطة، والإنسان، في التصور، وتجسد هذا التصويب، في الواقع، عندما نزعت صفة الألوهية، عن كل المخلوقات، وأعلنت المساواة في الإنسانية، والخلق، بين الحاكم، والمحكوم، بل أكدت أكثر من مرة، حتى لا يتلبس الإنسان بألوهية الإله، أن الأنبياء المتصلين بالله فعلاً، هم بشر من البشر، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.. وأن السلطة، هي في نهاية المطاف، تكليف، وليست تشريفاً.. وأنها مسؤولية، من أعظم المسؤوليات.. وأنها إجارة، وليست إمارة، وتعالياً على خلق الله.. وأن السلطان، ملزم بتنفيذ شرع الله.. وأن طاعته لا تنعقد، إلا بهذا الالتزام بالقيم، التي لا يد له في وضعها.. وأنه ليس بالضرورة، أن يكون خير الناس، لأنه تولى أمرهم.. وأن الشورى، إنما تكون فيما لا نص فيه،من الله، ورسوله، وحتى في تطبيق النصوص، وتنزيلها على الواقع.. وأن الإنسان، مسؤول أمام الله وليس أمام المخلوقين، مهما كانوا.
نقول : لقد استطاع الإسلام، أو النبوة الخاتمة، تصويب معادلة السلطة، والإنسان، واسترداد كرامة الإنسان، بحيث أصبحت العلاقة، بين السلطة والإنسان، نوعاً من العقد الاجتماعي، الذي ُضبطت فيه حدود الطاعة، والمسؤولية، سواء بالنسبة للحاكم، أو المحكوم، على حد سواء.
وكان شعار، أو ميثاق الحكم، في الإسلام: (أطيعوني، ما أطعت الله )- والناس يعلمون شرع الله، الذي يشكل لهم المعيار لفعل الحاكم، ويستوجب طاعته-(فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم ).. (وليت أمركم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).
إن هذا الميثاق، للعلاقة سوَّى بين الحاكم، والمحكوم، وجعل المسؤولية أمام الله وليست أمام البشر، وجعل القيم المنزلة، الثابتة، هي معيار الحاكم، والمحكوم،وبذلك صوبت معادلة السلطة، والإنسان وألغيت ألوهيات البشر لبعضهم، وهذا هو أشد أنواع التسلط، الذي عاني منه الإنسان، في تاريخه الطويل، من التعامل مع الأرباب، من غير الله.
لكن النزوع السلطوي، إلى الطغيان، والاستبداد، والتألة، والترفع على خلق الله، لا يزال يتكرر بشكل، أو بآخر،..ولعل من مظاهر الخلود، في القرآن، أن يتكرر الوهم، عند بعض أصحاب السلطان، ويدعي بعضهم، أنهم آلهة الأرض، فتأتي ممارساتهم جميعاً، اعتداءً على كرامة الإنسان، واختيار الإنسان، ويتكرر شعار :(ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم ) (الشعراء:49)، ويستمر العدوان على سلطان الله، في التشريع، ويخول بعض أصحاب السلطان أنفسهم، وضع الشرائع، التي تؤمن من مصلحتهم، وتحقق تسلطهم، ويتلاعبون بها، طبقاً لأهوائهم، حتى أصبحوا يتفننون بالاعتداء على سلطان الله، فكما كانوا، في الماضي يعتبرون أنفسهم آلهة الأرض، فهم اليوم يقولون :إن الإيمان بالله، أو الإسلام، هو نوع من العلاقة الوجدانية الخاصة، بين الله، والإنسان، محلها الضمير، بعيداً عن تنظيم مسالكه، وعلاقاته، في الأرض، التي يتصرف بها، بشر من البشر، هم أصحاب السلطة.
وبعد هذا، هل نستطيع أن نقول : إن فصل الدين عن الحياة، أو بعبارة أدق، فصل الحياة عن الدين، الذي يمثل التطبيق العلماني، في المجال المعرفي- كما أن اعتبار الإنسان مصدر كل السلطات، والتشريعات، باسم الديموقراطية، يمثل الوجه الآخر للتطبيق العلماني في المجال السياسي- هو لون من الارتكاس، عن طريق النبوة، وعودة إلى تأليه السلطة، ومنحها، سلطان وضع القيم للناس، وإلغاء لقيم الله الناظمة للحياة، والعلاقة بين الناس، وعودة إلى ممارسات الأرباب في الحكم، والتشريع، وإهدار كرامة الإنسان؟
لذلك نقول :إن تصويب المعادلة، بين السلطة، والألوهية والإنسان، هو من أبرز ملامح الإمكان الحضاري، وإعادة البناء الصالح.
وبعد:
ففي هذه الظروف العسيرة، التي، تمر بها الأمة المسلمة، التي يسودها الإحباط، واليأس، والتخاذل، والاستسلام، بسبب استكبار(الآخر) وعلوه، وما استدعى ذلك من العبث بمفاهيم الجهاد، وتغييب مدلوله، وإسقاط تاريخه، وتجاوز موقعه من الدين، بلون من التأويل الفاسد، والفهم المغشوش، والانتحال الباطل، وتفسير المنهزم، تأتي هذه اللمحات التفاؤلية، تحمل البشائر والبصائر، بأن المستقبل لهذا الدين، وتعيد الاعتبار لاستعلاء الإيمان، الذي يكاد يتوارى، والذي يحمي من الانكسار، استجابة لقوله تعالى :(ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران :139)، ليس ذلك من خلال الأمنيات، والرغبات، وإنما من خلال السنن التغييرية، التي شرعها الله وأرادها، وفطر الناس عليها، وزودهم بآلياتها، بكل ما تقتضية من الإعداد الروحي والمادي، ليكون الإنسان هو وسيلة التغيير وهدفه، في آنٍ واحد.
يأتي هذا الكتاب، ليؤصل لمفهوم الجهاد، من الناحية الشرعية، ويعيد له روحه، وفاعليته، ومواصفاته، وبعده الحضاري، والمستقبلي، وما يقتضيه من إعادة الصياغة والإعداد، ويحذر من التقاعس، والتثاقل عن النفرة إليه، الذي يؤدي إلى تعريض الأمة للاستبدال، والانقراض، خاصة وأن دور الإعداد الروحي بدأ يتضاءل، ويغيب، تحت وطأة الانتكاسات المتلاحقة، وضغوط الحياة المادية، وانطفاء الفاعلية، وتسرب اليأس إلى النفوس، وغلبة سلطان العادة، وغياب معاني العبادة، وانكماش الأبعاد النفسية، والمادية، المترتبة على ملازمة المجاهد لذكر الله، لكي يتحقق بالنصر، والفلاح، :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران:200).
إن الانهدام الروحي، الذي يعاني منه، الفرد المسلم اليوم، ومحاولات الانتقاص، والتقليل من شأنه، وإغفال دوره، يستدعي نذر النفس للمرابطة من جديد في هذا الموقع، وإحياء معانيه في نفوس الأمة.
وقد حاول مؤلف الكتاب-جزاه الله خيراً- ترجيح بعض الأمور الاجتهادية، لأسباب يراها ومواجهات يعيشها، ومقاصد شرعية يهدف إلى تحقيقها-وفي الأمر سعة، إن شاء الله- لكن تبقى وجهات نظر فكرية، اجتهادية، ليست بالضرورة أن تكون هي المرجحة في رأي كثير من المسلمين، ذلك أن (كتاب الأمة)، هو كتاب فكر، معنيُّ بالاجتهاد الفكري، والتشكيل الثقافي- وكل إنسان يجري عليه الخطأ والصواب من خلال مرجعية شرعية، منضبطة بضوابط الكتاب والسنة.
والله هو المرفق والهادي إلى سواء السبيل.
==============(9/175)
المقدمة
الحمد لله، الذي جعل المستقبل للإسلام، بالفتح المبين، والنصر العزيز، والتمكين لعباده المستضعفين، الذين، يسعون لنشر هدى الله، ونور الإسلام، أنحاء المعمورة، عبر القارات كلها، تحقيقاً لوعد الله الحق :(وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (الروم :47).. (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة :33)، وهو مستقبل قريب، إن شاء الله، يتحقق معه استخلاف المسلمين في الأرض، :(وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ) (النور :55).. (ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة :214).. (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) (آل عمران :160).
وفي القرآن كله، يعضده ما صح من هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، تأكيد بأن المستقبل لدين الإسلام، والأمة المسلمة، فالمصدر محفوظ بحفظ الله، باق أبد الدهر:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون ) (الحجر:9).
فهو كتاب مصون عن التحريف، والتبديل.. أخباره صادقة.. وأحكامه عادلة :(وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام:115).. ورسالته عالمية، تعم كل مكان وزمان..ورحمته تشمل العالمين :(تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ً) (الفرقان:1).. (وما أرسلنك إلا رحمة للعلمين ) (الأنبياء :107).
والصلاة والسلام، على من بعثه ربه، بالرسالة الخاتمة :(ما كان محمدُُ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (_الأحزاب:40)، فكان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ختمه للرسالات، وعموم رسالته.. وختم الرسالة، وعموميتها، مقتضيان لأبديتها، وبقائها، لتؤدي دورها في هداية الإنسان، وعمران الكون، وسيادة الحضارة الإسلامية، التي هي حضارة الذاكرين، القانتين، الصالحين، الذين شروا أنفسهم، وأموالهم لله، وأقاموا شرع الله، فحكموا بالعدل بين الناس، وأحسنوا، وأصلحوا المجتمع، فكانت النهضة الواسعة، المؤذنة بتجديد أمر الدين، على سنة الله الماضية في القرون المتوالية :(إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه أبو داود).
وبعد:
فهذه دراسات، كتبتها في ظروف مختلفة، حول المستقبل، الذي نعتقد يقيناً، بأنه للإسلام، بإذن الله، وعوامل وشروط صناعته، آخذين بعين الاعتبار، أنه يلزم لصناعة المستقبل، للإسلام، في عصرنا هذا، تضافر جهود العاملين في ميادين العمل للمستقبل، ومجالاته، لتلتقي، وتجتمع، وتتحرك إلى قبلتها، منشرحة الصدور، بتوحيد الله، مجتمعة القلوب، متحدة الكلمة، على حب الله تعالى، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين:(يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة:54).
ولعل في مقدمة هذه العوامل والشروط، الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام بمعناه الواسع، الذي يشمل: إلى جانب الجهاد بالأموال والأنفس، جهاد الحجة والبيان، ومجاهدة النفس، في سبيل الله، ليكون من ثم سبيل تمكين الدين، وإزالة العوائق والفتن، التي تحول دون صناعة المستقبل، ليعم من بعد السلام والأمن الحقيقيان، يقول تعالى :(أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير 39 الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (الحج: 39-40).
فالمؤمنون حين يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى، يؤدون واجبهم في بناء النفوس، ونشر الطمأنينة، وانشراح الصدور بذكر الله، وتحقيق التكافل، والإصلاح الاجتماعي، يقول تعالى:(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج:41).
ومثلما كانت مشروعية الجهاد بالسلاح، بعد سلوك السبل السليمة كلها، مع الصبر على الأذى، واحتساب ما لقي المؤمنون في سبيل الله، فهو كذلك في ترتيب العمل الإسلامي اليوم، لإحياء شعائر الله، وإقامة شرائعه، وتبليغ كلمة الحق ليكون الناس منها على بينة.. ولكن المؤمنين مأمورون أبداً بإعداد العدة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وعلى قدر طاقتهم في التصنيع الحربي، والإعداد القتالي:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) (الأنفال:60).
وعوامل النصر الحقيقية، هي الاستنصار بالله، والتوكل عليه، والافتقار إليه، يقول تعالى:(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآوئكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) (الأنفال:26).. ويقول :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران :200). وقد لزم إعداد المجاهدين أنفسهم، بما يشرح صدورهم، من التحقق بالمقامات الإيمانية، والتزام ذكر الله كثيراً، ليقبل على القتال، وهو كره للنفوس، من حبب الله إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق، والعصيان، ليكون جهاد المجاهدين، من ثم: حتى لا تكون فتنة، ولا صد عن سبيل الله، ويكون الدين كله الله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
فالدعوة إلى الإسلام، هي دعوة الذاكرين، كما أن الجهاد في سبيل الله، هو جهاد الذاكرين، الذين إن مكّن الله لهم في الأرض، ورأوا إقبال الناس على الدين الحق، ذكروا الله، وعظموه، وعلموا الناس أمور دينهم، وسعوا في منافعهم، ومصالحهم، وحكموا بينهم بالعدل، والإحسان، وأقاموا حضارة الذاكرين، وكانت نهضتم العمرانية، تجعل المساجد محوراً وقبلة.
ومن هنا، تنشأ الأمة الجليلة وتأخذ مكانها في الريادة، والعمل، والإنتاج، والتفوق العلمي، والثقافي، والحضاري، لأن الذكر والدعاء، يبعثان على العمل الصالح، ويزيدان المقامات الإيمانية.
ولذلك كان سلفنا، من أهل الصحبة، والإحسان، يتناصحون بذلك، مثل قولهم لبعض :(أجلس بنا نؤمن ساعة ).(1)
وهذه الروح، تحث على العمل، والإنتاج، الجيد، والجهاد، وبناء الدولة، وإصلاح المجتمع، بل إن الأذكار والأدعية المسنونة، أثناء هذه الأعمال والواجبات، دالة على أن أكثر الذكر، والدعاء، ما يكون أثناء الحركة والعمل.. والأعمال العظيمة تنشأ، والحضارة تنهض، وتزدهر، في ظل الإيمان، والاطمئنان بذكر الله ودعائه، واطمئنان القلوب، وانشراح الصدور، وتحقيق السلم، والأمن.
وهي حقيقة مقررة، وقد سجلها بعض المراقبين من الباحثين في تاريخ الحضارات (إن الحضارة تبدأ، حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع، والإنشاء، وحينئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية، تستنهضه، للمضي في طريقه، إلى فهم الحياة، وازدهارها ) (2).(9/176)
والحكم بالشريعة، الذي يعتبر من أهم شروط صناعة المستقبل، لأنه يستحيل عقلاً وشرعاً، تصور مستقبل إسلامي، بعيداً عن تطبيق شرع الله، هو ثمرة الجهاد في سبيل الله، لإقامة العدل والإحسان بين الناس، وحماية المجتمع، بسيادة أحكام الشريعة الإسلامية، على سعة معاني الشريعة، في المعاملات المدنية، والقوانين الجنائية، والحدود جزء منها، ومميز للمسلمين، وسياج منيع لتحقيق الاستقرار، وإصلاح المجتمع، لأنه لا يكون في المجتمعات الإنسانية، إلا بما شرعه الخلاق العليم، الذي يعلم النجوى والسر وأخفى، يقول تعالى :(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك :14)..
فلا يحقق التناسق بين الكائنات كلها، إلا ما شرعه الله، وخلاف ذلك الجاهلية، قديمة كانت أو حديثة :(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) (المائدة :50).
وقد أمر الله بأداء الأمانات إلى أهلها، وإقامة العدل بين الناس كلهم، مؤمنهم و كافرهم، موافقهم ومخالفهم، وعلى اختلاف أصولهم ومللهم:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).
ومع العدل، أمر بزيادة الإحسان :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)..
ثم أمر بالبر والقسط مع غير المسلمين، ما داموا مسالمين :(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهكم الله عن الذين قتلوكم في الدين وأخرجوكم من ديركم وظهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون ) (الممتحنة:8-9).
ومهما كانت قوة البطش، التي يملكها المخالفون أو المحاربون، فإن المسلمين يملكون أن يقدموا للمجتمع الإنساني، هذه الدعوة.. وهي بقوتها الذاتية، بالغة، وهادية، لمن شرح الله صدره للإسلام، أو رضى بمسالمة هذا الدين، ما دام حراً في اختياره، لا سلطان لأحد عليه، بلا إكراه :(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى ) (البقرة :256).. (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).
لهذا، فإن بالحوار والمجادلة بالحسنى، حيث وجد الدعاة سبيلاً إلى ذلك، يتحقق التحول السلمي للإسلام، في كثير من بقاع الأرض اليوم، تماماً كما حدث من قبل.
ولنجاح هذه المهمة، لابد من نماذج صالحة، متأسية بالنبي صلى الله عليه وسلم، يرى العالم أثر الهدي النبوي عليها، في تكامله، وشموله، وجماله، بحيث يشع رأفة، ورحمة. ولا يكون ذلك، إلا وهذه النماذج، توالي في الله، وتعادي في الله.
وهذا الكتاب، يُفتتح بحديث عن بشائر مستقبل الإسلام، في مواجهة التحديات الحضارية المعاصرة، وقفنا من خلاله على أبرز معالم الاختلاف، بين الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية، مع مناقشة موضوعية لدور مؤسساتنا الثقافية، في هذا الصراع الحضاري، وبيان عناصر الإيجاب والسلب، في تقييم الدور الذي تقوم به، ثم عرضنا لبعض بشائر القرآن النبوة، بأن المستقبل للإسلام.
ولما كان المستقبل للإسلام، يصنعه حملة رسالة الإسلام، وفي مقدمتهم المجاهدون، كان لابد من الحديث عن المجاهدين، وأهل الذكر، في ساحات الجهاد.. خاصة ونحن نرى صراع الإسلام مع أعدائه، متفجراً في شتى بقاع العالم … كما كان لابد من الحديث عن القنوت، لحاجة صناع المستقبل للقنوت إلى الله، والارتباط به، وخاصة في النوازل، مواجهة التحديات، التي يصارعونها، وهو يصنعون مستقبل الإسلام المشرق بإذن الله.
ومما يشكل الركن الأساس، في صياغة مستقيل الإسلام، تطبيق الشريعة الإسلامية، بل هو أهم ثمرات الجهود، التي تبذل في ميادين الجهاد وغيرها، ونحن اليوم في عالم اختلطت فيه المجتمعات، وتعددت فيه الملل والثقافات، حتى في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، فكان السؤال الذي لابد من بيان الجوانب المتعلقة به، وهو ما يتعلق بتطبيق أحكام الشريعة في المجتمعات، التي تتعدها فيها الملل والثقافات.
الدكتور أحمد علي الإمام
رمضان 1415هـ
==============
بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التحديات الحضارية المعاصرة
منذ بزوغ فجر الرسالة، والإسلام يعيش في دورات من الصراع، والتداول الحضاري.. يواجه التحديات الثقافية والاجتماعية، ويتفاعل مع التجارب الإنسانية من حوله.
يدافع الكفر، ويدعو لتحرير العباد، وتنمية المجتمعات، ويجادل بالحسنى، متميزاً بعقيدته، وشموخ بنيانه الحضاري المتفرد.
والوقوف على التحديات، المعاصرة منها، المستقبلية، يقتضي وقفة مراجعة وتقويم، لمواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، فنبيّن عناصر الإيجاب، التي اكتسبتها، وننبه على أوجه السلب والقصور، التي لحقت بها، حتى يستقيم أمرها، وتعتدل في وجه التحديات الحضارية المعاصرة.
ولعل من عناصر الإيجاب في ثقافتنا، ذاك الاهتمام بالرصيد الهائل من المسلمين- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلوم، والمعرفة، والثقافة، وما صاحب ذلك اجتهاد فقهي متجدد، يحيط بالواقع، ويسعى لمواجهة المشكلات المستجدة. وفي مقابل هذا الكسب الإيجابي، فإن واقعنا الثقافي اليوم، يعاني من مشكلات التبعية والتقليد، والفهم القاصر للذات، وجهود سلفنا العظام، فهماً لا يبلغ الشمول والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في شرح النصوص، ويهمل متغيرات الحاضر والعصر.. كما أن بعض المؤسسات الفكرية والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعتنا، انحرفت وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام وتبعيضه، بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، وتفصل بين الدين والسياسة، وتخذل روح الجهاد، والاجتهاد، متناسية أن الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني العملية، التي تقيم الحياة الدنيا والآخرة.
وإذا كان المسلمون قد عانوا من الغفلة لقرون مضت، ثم انتبهوا، فإن الصحوة الراهنة، قد جلبت عليهم عداءً متصاعداً، وأدخلتهم في دائرة صراع جديد، شكلاً ومضموناً وقد يكون المطلوب هنا، أن نسعى لنقل هذا الصراع المتصاعد، إلى دائرة الحوار، وأن نبادر إلى فهم الغرب، وأساليبه، وأن نعد العدة.
والثقافة الإسلامية، وسيط اجتماعي فاعل، وحي، يسهم في تحقيق التنمية الشاملة، ويؤسس لنهضة جديدة للحضارة الإسلامية، التي هي حضارة أمة منتجة، عاملة...معتنية بالتنمية، والاعتماد على الذات.. حضارة أمة تعتقد جازمة، بما تواتر لديها من الأدلة، والنقول، والإرهاصات، أن لها المستقبل كله ظهوراً، وانتشاراً، وأن عاقبة أمرها النصر والتمكين.
تحديات .. وتميز
مقدمة في تعريف التحديات الحضارية المعاصرة وتميز الحضارة الإسلامية
1- مفهوم الحضارة:
الحضارة، في تعريف بعض الباحثين في علوم الحضارة، تعني العمران، والإنتاج الثقافي، والنظام الاجتماعي (1)، فهي كما عرفها ابن خلدون:(أحوال عادية، زائدة على الضروري من أحوال العمران)، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم، في القلة والكثرة، تفاوتاً غير منحصر..) (2). أو كما عرفها ول ديورانت هي :نظام اجتماعي، يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي(3). وقد درس الدكتور أبو زيد شلبي التعريفيين، واستخلص منهما أن الحضارة هي:
(مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم، في نواحي نشاطها الفكري، والعقلي، من عمران، وعلوم، ومعارف، فنون، وما إلى ذلك، والترقي بها في مدارج الحياة ومسالكها، حتى تصل إلى الغاية التي تواتيها بها أحوالها، وإمكانياتها المختلفة) (4).
2- الحضارة الإسلامية:(9/177)
والحضارة الإسلامية، ذات نسب عريق في الحضارات، سبقاً، ورسوخاً، وشمولاً، ومحتوى، لكونها بحكم نسبتها إلى الإسلام، متسمة بالخلود، ولا تزال آثارها المادية والمعنوية باقية، وإسهاماتها في الحضارة الكونية، والنهضة العلمية المعاصرة، ظاهرة (5).
وقد قامت الحضارة الإسلامية على ركن شديد من القيم الأصلية، الراسخة والحارسة، لأسباب الرقي البشري، والرعاية لكرامة الإنسان (6)، وحرماته، من التوحيد والعدل، والإحسان، والمساواة، والإصلاح، والصدق، والعفاف، والأمانة، والعلم، والرحمة، والرفق، وحسن الخلق، والإخلاص، والتجرد، والعمل الصالح.
ولا عجب، إذ هي وليدة التربية الإيمانية، فردية وجماعية، بين مكة والمدينة، فأقامت صوراً مشرقة، حيث أقامت الحضارة الفكرية، التي ظهرت في تأليف العلماء، المبثوثة في الأنحاء، وقد سبقت غيرها في أبحاث العلوم الشرعية، والاجتماعية والطبيعية، واللغوية، مع العناية بالعمران، والجمال التوحيدي، في المساجد، والجامعات، والمداس، والقصور في المدن الإسلامية العريقة، في مشارق العالم الإسلامي، ومغاربه، وأسست أركاناً، وقوائم راسيات للعلم التجريبي، اعتمدت عليها المؤسسات والجامعات الأوربية، وقامت عليها النهضة العلمية المعاصرة (7).
3- بين الحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الإسلامية:
(أ) الحضارة الغربية في الأساس، حضارة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، توحلت إلى حضارة استكبارية باطشة، تركت الجدال بالحسنى، وجاءت للناس على متن المقاتلاتـ والمدرعات، تمشي بينهم بالتقتيل، والتشريد، والاضطهاد، والإبادة، ويشهد لذلك الحرب العالمية الأولى، والثانية، وأخيراً، النظام العالمي الجديد.
أما حضارة الإسلام، فتقوم على الجمع بين التقوى والتقانة، دون تعارض أو تنافر.
(ب) والحضارة الغربية، من ناحية أخرى، تقوم على تمجيد العقل، والاعتماد عليه وحده، بينما تقوم الحضارة الإسلامية على التوفيق بين العقل والوحي، فليس فيها خصام، أو فصام بين الدين، والعلم، كما كان في أوربا، بل يتواءم العلم والإيمان: الإيمان القائم على العلم.. والعلم المؤمن، الداعي للإيمان.
(جـ) الحضارة الإسلامية، تقوم على السلام العالمي، والأمن الداخلي(8)، كما في قوله تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (الأنفال:61) (لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8).
وفي الحديث النبوي :(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (9) و(… المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) (10).
بل تتجاوز حضارة الإسلام ذلك، إلى الاتساق، والانسجام، والتوافق، والتوازن، مع نظام الكون والحياة، والإنسان(11)، حيث أن الحقيقة الدينية في خلق الإنسان وتمام إسلامه: اعمار الكون، بالصلاح، والفلاح، بعد تسخيره له:(الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية :12-13).
(د) يتجلى هدى الإسلام، في تسخير الكون للإنسان، ليؤدي شكر النعمة، بينما تسعى الفلسفة المادية، لتسخير الإنسان، وتعبيده للكون، وظاهر الحياة الدنيا(12).
ومهما يكن من أمر، فإن الصراع بين حضارة الإسلام، وحضارات غيره، صراع مستمر، إلا أن الحقيقة، التي يجب أن تبقى ناصعة، واضحة، بينة، هي أن العاقبة لأهل التقوى، والبقاء للحق، والخير، والبر وما ينفع الناس :(فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17).
الخطر المخيف
خطر الصراع بين الحضارات الإسلامية والحضارات الأخرى، يكون محدوداً لو بقي المسلمون معتصمين بدينهم، متميزين بأصالتهم، ولكن فقدان هذا، هو النذير بالخطر، لأنه يعني فقدان الانتماء والإحساس بالذات.. والسلمون إنما يدركون ذاتهم من طريقين:
(أ) من طريق وحدتهم، التي تكونها المفاهيم، والتعاليم، والقيم المشتركة.
(ب) ومن طريق مخالفتهم للآخرين، والتي تنشأ عن المغايرة، والمفارقة في الاعتقاد، والعبادة، والإخلاص.
وهذا التمييز والتمايز، الذي يجب أن يبقى، هو الأمانة التي تلقاها كل جيل عمن قبله، ولابد أن يحملها إلى من يجيء بعده، ليبقى مستعراً، متقداً، يواجه كل التحديات، والحضارات، على مر الأزمان، إلى يوم تبديل الأرض غير الأرض والسموات(13).
فإن فقد هذا الإحساس، وزال هذا التمييز، واجهنا خطراً أكبر، يتهدد أصالتنا، ويهد أركان بقائنا(14). ذلك الخطر، يتمثل في تقليدنا، وتبعيتنا للملل، والحضارات الأخرى، وقد حذر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطورة التقليد والتبعية لغيرنا، فقال :(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذرعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، وقد ورد هذا الحديث بروايتين، بإحداهما :قالوا: اليهود والنصارى؟ وفي الأخرى قالوا: الفرس والروم؟ فأقرهم..(15).
إذ حيث كان تقليدهم في العبادات، كانت الإشارة إلى اليهود والنصارى، وحيث كان تقليدهم في الحضارة، والثقافة، كانت الإشارة إلى الفرس والروم.
توجيه الصراع الحضاري
قدر الله أن نكون أمة الرسالة الخاتمة، ولذلك فإن أعدى من عادانا، في الماضي، هم أهل الكتاب، ومن والاهم على هذه المعاداة، ممن قادوا حملات الحروب الصليبية، من العواصم الأوربية، على المسلمين، وهكذا كانت بداية الغرب في اتصاله بالعالم الإسلامي، عن طريق المواجهات العسكرية أولاً، ثم الإدارة الاستعمارية، أو الاستخرابية ثانياً، فأصاب المسلمين من جراء ذلك غزو عسكري سياسي، واستغراب فكري ثقافي، واجتماعي، ونهب اقتصادي.
ثم لما نهض المسلمون، وبدأوا مسيرة العودة إلى الجذور، عاد خصومهم للحرب العدوانية، بأوهى الأسباب والحجج، وبمعايير مزدوجة في التعامل، خاصة بعد اختفاء التحدي الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي، في مواجهة أمريكا، زعيمة النظام الرأسمالي.
وقد صارت هذه القوة العسكرية، هي سبيل الحضارة الغربية الأوحد في إسكات صوت المسلمين، إن طلبوا رقياً، أو سعوا إلى الالتزام بشريعتهم، أو أرادوا إصلاح حالهم، أو تحرير قرارهم، أو تصحيح انتمائهم، وذلك بعد ما كانت من قبل تستخدم قوتها الاقتصادية، ومعوناتها، وقمحها، في فتنة المسلمين، وصدهم عن سبيل الله.
هذه العلاقة بيننا وبين الغرب، علاقة متخلفة في الحوار الفكري، والصراع الحضاري، لذلك قد يكون المطلوب: العمل على توجيه هذا الصراع، من صراع العسكر، وتحويله، إلى صراع الحوار.. نصرفهم عن علاقة الحمية والقتال، إلى علاقة التحاور، والجدال بالحسنى، فإن استطعنا ذلك، نكون قد حولنا صراع الحضارات، من التقاتل، والتحارب حول الموارد، ورغيف العيش، إلى صراع حول الثقافة والتحاور.
غير أن هذا التحويل، وهذا التوجيه، يتطلب منا أموراً عدة، لعل أهمها:
(أ) تحديد القضايا والموضوعات، التي يصب عليها، ويدور حولها، الحوار.
(ب) الاجتهاد في تجديد وتقويم الوسائل، التي نقيم بها الحجة عليهم.
(ج) أن نهتم بالمثال، والأنموذج الفعلي، لا أن نعتمد مجرد المقال.(9/178)
(د) أن نكون عالمين بما لدى غيرنا، وخصوصاً الدين المقارن، وقد سن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السنة، فيما أخرجه الإمام أحمد عن عدي بن خاتم قال:(دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يا عدي أسلم تسلم )، فقلت: إني من أهل دين، فقال:(أنا أعلم بدينك منك )، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال (نعم، ألست من الركوسية(16)، وأنت تأكل مرباع قومك ؟) قلت: بلى، قال : (هذا لا يحل لك في دينك ). قلت: نعم. فلم يعد بعد أن قالها، فتواضعت لها). الحديث(17)… وهو دال على أن العلماء المسلمين، ينبغي أن يكونوا أعلم بما عند المخالفين، وخاصة من ابتلى بهده المهمة.
(هـ) إعداد دعاة منا ممن عاش في الغرب، وعرف لغاتهم، ومصطلحاتهم، وطرائقهم في التفكير، ومداخلهم في التعامل، ليؤدوا مهمة الحوار، والتواصل الثقافي والحضاري.
(و) أهمية إعداد العدة، وامتلاك القوة، والتقدم العلمي، والتفرد الحضاري، والتمييز الأخلاقي، لنفرض على (الآخر) احترامنا، حتى يسمع كلامنا، بعد إزاحة العوائق التي يضعها بيننا وبينه، بل بيننا وبين قومنا.
عناصر الإيجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية
حتى نقف على التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية-كما أسلفنا- لابد من وقفة مراجعة، وتقويم لمواقفنا، ومؤسساتنا، الثقافية، نصحب مراكز الثقافة، وأدواتها، وقدراتها، وطاقتها، لمواجهة المتغيرات، فنبين عناصر الإيجاب، التي أكتسبها،وننبه على أوجه السلب، والقصور، وبيان أسبابها، في محاولة للخروج منها، وتصحيحها، وتقويمها، لتعتدل، وتستقيم في وجه التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية.
أولاً: عناصر الإيجاب:
(أ) للمسلمين رصيد هائل- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلم، والمعرفة، والثقافة، والحضارة.
(ب) المسلمون هم أول من أقام المكتبات، وأنشأ مراكز الترجمة، والمعاهد الأهلية، والشعبية، وكانوا رواداً في كل موضوعات العلوم، وقد بذلوا الجهود العلمية، والمعرفية، وعرفوا بالتسابق العلمي، وتقدير النابغين فيه، مهما كان اختلافهم، وإن كانوا من غير المسلمين، فقد احتوت كتب طبقات العلماء، على تراجم عدد من العلماء، من غير المسلمين، في العلوم الطبية، والهندسية.
(ج) كانت المحاضر، والجوامع الجامعية، في حواضر العالم الإسلامي، تعلم إلى جانب العلوم الشرعية، والعربية، العلوم الطبية، والهندسية، وكانت المحاضر الأندلسية، تستقبل الطلاب من أوربا وغيرها.
(د) لم يعرف المسلمون هذا الانفصال بين ما يسمى بالعلوم العصرية، والعلوم الدينية، إلا على آخر عهود السلاطين العثمانيين، وكان هذا الانفصال من أخطر ما أثر في تخلف المسلمين علمياً.
(هـ) ومن إيجابيات حضارتنا، أن العلماء، والفقهاء- على بعض الفترات انفتحوا للعصر، والحال، بفهم للواقع، وفقه للمرحلة التي يعيشونها، مع سعة أفق، وعمق إدراك، وصاروا يعالجون المشكلات المستجدة، والقضايا المتجددة، والحوادث العارضة.
(و) يطبقون الشريعة، وفق مقتضيات العصر والحال، مع التفريق بين الشريعة، والتطبيق الفقهي، ومراعاة ظروف المجتمع، ولهذا كان استخدام العرف.. ومن المعلوم عند أهل أصول الفقه، أنه لا ينكر تغير الأحكام والفتوى، لتغير الأزمنة، والأحوال، والعوائد، والنيات.. ومن طريف ما يذكر هنا، حكاية العلامة زروق الفاسي(ت899) في شرحه لرسالة بن أبي زيد القيرواني، أن الشيخ أبا محمد بن أبي زيد القيرواني(ت386)، صاحب الرسالة المشهورة في فقه المالكية، انهدم حائط بيته، وكان يخاف على نفسه من بعض الطوائف، فربط في موضعه كلباً، اتخذ للحراسة، فقيل له: إن مالكاً يكره ذلك فقال رحمه الله : لو أدرك مالك زمانك، لاتخذ أسداً ضارياً!؟ (18).
(ز) ولابد هنا من إشارة إلى الومضات، والإضاءات التجديدية، والاجتماعية، بين عدد من قادة الحركات، والمؤسسات الإسلامية، في عالمنا المعاصر، مما يبشر بمستقبل زاهر.
ثانياً: عناصر السلب:
إن كانت تلك هي بعض عناصر الإيجاب في مواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، في عصرنا، وعالمنا، فإن من أخطر عناصر السلب، ومظاهر القصور:
(أ) عدم استكمال جهود التأصيل، والتعريب، في مؤسساتنا العلمية، مع مضي هذه العقود من سنوات استقلالنا. مما يعني ضعف إرادة البناء، والتبعية الثقافية للغرب (19)
(ب) الاشتغال بدراسة اللغات الأوربية، في برامج التعليم العالي، على حساب حاجات أمتنا الفعلية، وأولوياتنا الحضارية.
(جـ) عدم التخطيط للمستقبل، بما يكافئ حجم الأخطار، التي تواجهها أمتنا، ومازال ما يسمى بالعالم الثالث، ونحن جزء منه، ينفق مالا يزيد عن 30% فقط مما ينفق، على الخطط، والبرامج المستقبلية (20).
(د) ومما يؤثر سلباً على علاقتنا الثقافية، ضعف التبادل التجاري، والمعاملات بين الدول الإسلامية، حيث لا تتجاوز نسبة 10% بينما تبلغ نسبة 90% مع الدول الغربية، مع ما عرفت به من احتكار، واستغلال لمنتجاتنا الإسلامية، فضلاً عن عدم قيام سوق إسلامية مشتركة، في مواجهة السوق الأوربية المشتركة، وغيرها من التكتلات الاقتصادية الأخرى.
(هـ) العلاقات الدبلوماسية، بصورتها القديمة، صارت متخلفة.. فالعلاقات بين الدول، حوار ثقافي في المقام الأول، حتى في العلاقات الاقتصادية، والتبادل التجاري، وهو حوار كامل، قد يعبر عنه المثقفون بصورة شاملة، تؤدي إلى حسن الفهم المشترك، والتواصل.
(و) التبعية الفكرية، والتقليد، والكتب المدرسية المذهبية، التي سادت في الفكر الإسلامي، وعطلت تجديد الفكر.
(ز) الاشتغال بالبحوث النظرية، النمطية دون أصالة، أو تجديد، أو اجتهاد، وهي بحوث آلية، لا تبعث روحاً، ولا تزيد عن كونها تمارين رياضية.. وشيء عجيب أن مؤسسات كثيرة في التعليم، العالي خاصة، تخرج حملة شهادات عليا، يترفعون، ويترقون في سلك الأستاذية، دون أن يقدموا إضافات علمية مقدرة، ولكن:
أما الديار فإنها كديارهم….. وأرى نساء الحي غير نسائه
(جـ) فهم بعض مؤسساتنا، وأفرادنا، وجماعتنا، للتراث، وجهود سلفنا العظام، فهماً، لا يبلغ الشمول، والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في فهم النصوص، ولا يراعي الحاضر، والعصر، الذي نحن فيه، بتدبر، وتبصر، وفقه.
(ط) استغلال الغرب لبعض المقصرين من أفراد، وجماعات، واستخدامهم لمصالحه، على حساب المسلمين، تعطيلاً لجهودهم، في العودة، وكسب الصراع، وإيقافاً لمسيرتهم، حتى ساقهم، بكثرة الطرق والإثارة، إلى مواطن الخلاف، يؤجج نار الفتنة بين المسلمين، لصرفهم عن طريق النصر، والعزة، والتمكين، بل ينعطف بهم عن هم التمكين، والتفاعل مع الواقع، والعصر، إلى الثرثرة، والجدل، والمراء.. وبسبب ذلك مازلنا نتناظر حول المتشابهات، ونتجادل حول غسل، أو مسح قدم، حتى صار بعضنا لا يملك من الأرض، موضع قدم!!
(ي) انحراف بعض المؤسسات الفكرية، والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعاتنا، وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام، وتبعيضه بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، فصلاً، بين الدين والسياسة، وتخذيلاً لروح الجهاد، والاجتهاد، والتأصيل، بينما الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني، العلمية والعملية، التي تقيم الحياة الدنيا، والآخرة.
(ك) هجرة كثير من المؤسسات الثقافية، في العالم الإسلامي- خاصة تلك التي تدرس وتبث العلوم المدنية والطبيعية- للقرآن، مخاصمة له، مجافية إياه، مبعدة له عن تلك العلوم، والمعارف.. فتدرس هذه العلوم، كأن ليس للقرآن فيها دخل، أو علاقة، مع أنه أنزله رب العزة، تبياناً، لكل شيء.(9/179)
وهجره القرآن في واقعنا المعاصر، اتخذ صوراً ثلاث:
الأولى :الفصل بين كتاب الله المقروء، وكتابه المنظور، أي الكون.
الثانية :الأمية، وأعني بها الأمية الحضارية، والثقافية، والدينية، وأمية الحرف.
الثالثة :القصور عن فهم عالمية الدعوة.
1- الفصل بين الكتاب المقروء والكتاب المنظور:
الفصل بين كتاب الله المقروء، وهو القرآن، وكتاب الله المنظور، وهو الكون، يشكل في خارطة همومنا اليوم، تحديا كبيراً.
ولابد من إنهاء هذا الفصام، وإزالة الخصام، بين المصحف والكون، في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، حتى يكون الذي يتلو القرآن، ناظراً في الكون، يتأمل خلق السماوات والأرض، ويتدبر سر التوافق بين الأجرام، والتوازن بين الكواكب، ليهتف في الآخر مقراً موقناً :(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة :138)، (ما خلقت هذا بطلاً سبحنك ) (آل عمران:191)، ويدرك سر وجوده:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56).
لهذا ندب القرآن قارئيه، بالسير في الأرض، تنقيباً للخيرات، وطلباً للأرزاق، وأعمارا للكون، واعتباراً بسننه، وقوانينه، ونواميسه :(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت:20) (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدًى وموعظة للمتقين ) (آل عمران :137-138)، (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (غافر:57)، وهذا هو سبيلنا إن أردنا حقاً أن يكون القرآن دستورنا.
2- الأمية:
أن تبقى الأمية في العالم الإسلامي، إلى يوم الناس هذا، أمر لا ينبغي أن يكون، لأنه بدون محوها وإبعادها عنا تماماً، لا يمكننا إقامة أي صرح لحضارتنا، إذ أن حضارة الإسلام قام أساسها على :(اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1-2)، فكانت (اقرأ)، أو الأمر بالقراءة، أول كلمة تتنزل من السماء الدنيا، على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حقيقة الإشكال، ليست في الأمية الحرفية، بقدر ما هي في الأمية الثقافية، التي لا تعي الكتاب، وإن نظرت فيه، لا تتدبره، وإن قرأت آياته.. إنها الأمية التي تجعل أصحابها يقيمون حروف الكتاب، ويضيعون حدوده، وقد نعى الله تعالي هؤلاء فقال :(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد :24)،(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) (ص:29)..هذه هي حقيقة الإشكال: الأمية التي لا تعي الكتاب، ولا تتدبره،ولا تتفاعل دينياً مع مشكلات العصر.
3- القصور عن فهم عالمية الرسالة:
إن القصور عن فهم عالمية الكتاب، يفضي إلى القصور في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة في العالمين، وقد قامت الأدلة على عالمية الرسالة منذ العهد الملكي في تنزيل القرآن العظيم:(وما هو إلا ذكر للعلمين ) (القلم :52) (إن هو إلا ذكر للعلمين ) (التكوير:27)، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيراً ) (الفرقان:1).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً للكتاب الذي أنزل عليه، رسولاً للعالمين، ورسالته رسالة عالمية :(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) (الحج:49)، (وما أرسلنك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) (سبأ:28)، (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107)، وأمته من ورائه أمة عالمية، همّها دولي، ودعوتها للبشرية، وما أخرجها الله إلا للناس، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).
دور التنمية الثقافية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة
ونتجاوز العناصر السلبية في مواقف بعض مؤسساتنا وجماعتنا، التي لا تلبث أن تزول بنهضة الأمة، نهضةً شاملة، بكل عناصر الحضارة، الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهي جوانب يعزز بعضها بضعاً، ويقويها، لتسهم جميعاً في صياغة مستقبل الحضارة الإسلامية.
فالحضارة الإسلامية، هي حضارة أمة منتجة عاملة.. معتنية بالتنمية، والاعتماد على الذات، مع تفضيل للاستثمار الزراعي، لكونه أكثر بركة، ونفعاً، وأعظم تحقيقاً للأمن الغذائي، وحرية القرار، والاستقلال.. وفي تقدير العمل، وأهمية تداول المال، واستثماره، بلغ فقهاؤنا مبلغاً عظيماً، حتى إن بعضهم قال فيمن ضاع له مال، أن يبذل مثله إن لزم إيجاراً في استخراجه، حتى لا يعطل تداوله بين الناس.. ومن الفقه، قطع الصلاة حفاظاً على روح متقوم.
والتوجيهات النبوية، تحض على العمل والإنتاج، يقول صلى الله عليه وسلم :(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها ) (21).
وقد سلكت بلادنا الإسلامية، مذاهب شتى في التنمية، ولكن فشلت كل محاولة في التنمية الاقتصادية، أو الاجتماعية، لكونها معزولة عن أصالة وتراث أمتنا..إذ لا سبيل إلى نهضة أمتنا، وسيادة حضارتنا، إلا بالتماس الهدى من شرع الله.
وما دامت هذه نظرة الحضارة الإسلامية، للتنمية والإنتاج، فإنها إذاً تقوم على أمور، هي:
أولاً :إن الإسلام يعارض جمع الثروات في يد واحدة، أو أيد معدودة، دون الناس، لذلك نادى القرآن بتوزيع الثروات، من الفيء، والغنيمة، والزكاة، والخراج، والعشور، والتركات بين أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع :(كى لا يكون دولة بين الأغنياء ) (الحشر:7).
ثانياً: الأرض لمن يحييها، لمحاربة الإقطاع، الذي كان يأخذ الأرض كلها، نظير ضرائب صغيرة.
ثالثاً: الملكية الحقيقية لله، كما في أكثر من عشرين، آية في القرآن، نذكر منها: قوله تعالى :(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) (الحديد:7).
وقوله تعالى:(وأتوهم من مال الله الذي أتاكم ) (النور:33).
وقوله تعالى:(ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله ) (الطلاق:7).
أما الحضارة الغربية، فإن نظرتها للثروة، والمال، تقوم على الرأسمالية، التي تعطي للمالك الحرية المطلقة، من حيث أنه هو المالك الحقيقي، الذي أوتي على علم عنده، ولا علاقة لله بماله.
أي مستقبل لثقافتنا في وجه التحديات المعاصرة والمستقبلية ؟
المستقبل للإسلام، ليس هو مجرد شعار نتبناه، محوطاً بالأمل والرجاء، إنما هو دين، وعقيدة..نؤمن يقيناً، ونوقن بجزم، أن المستقبل للإسلام، لأن المسلم بحكم إسلاميته، وتدينه، يؤمن بالمستقبل، وأن لكل مشكلة حلاً، ولكل مسألة جواباً، ولكل داء دواءاً، وقد قرر هذه الحقيقة كتابنا المحفوظ، وسنة نبينا المعصوم.
1- بشائر قرآنية:
فمن آيات النصر وبشائر المستقبل، في القرآن الكريم، وهي بغير حساب:
(أ ) قوله تعالى :(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون ) (الأنبياء:105)، فوراثة الأرض، مستقبل ينتظر الصالحين من عباد الله، الذين التزموا دينه، وأقاموا شرعته.
(ب ) ويتأكد ذلك بظهور الإسلام، وسيادته، وهيمنته على الأديان كلها، مصداق قوله تعالى:(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون ) (التوبة:33).
2- بشائر نبوية:
والسنن، جاءت تترى، تثبت هذه الحقيقة، وتقررها، وتنبه عليها:
(أ) روى مسلم وغيره، عن ثوبان، وشداد بن أوس، رضي الله عنهم، مرفوعاً :(إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) (22).(9/180)
(ب) وروى ابن حبان في صحيحه :(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر )( 23).
(ج) وأخرج أحمد، والدارمي، والحاكم، وغيرهم، عن أبيّ رضي الله عنه، قيل :قال:(كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً :القسطنطينية أو رومية ؟ فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله علية وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مدينة هرقل تفتح أولا ً(يعني القسطنطينية) (24).
(د) وفي صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً ) (25)، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، أن أرض العرب، كانت مروجاً وأنهاراً، وأن دورة ستمر عليها، لتعود مروجاً وأنهاراً.
3- من إرهاصات المستقبل:
إن كثيراً من الإرهاصات، تنبئ بحقيقة أن المستقبل لحضارة الإسلام، منها:
(أ) القيم الروحية، والأخلاقية، والمعنوية، المميزة لحضارتنا.
(ب) امتلاك الأمة الإسلامية لمصادر الطاقة والحياة، مع كونها وسطاً جغرافياً وتاريخياً، يمثل سكانه خمس سكان العالم، وما يتيحه لها ذلك من إمكانيات.
(ج) اعتماد الأمة الإسلامية، فوق ذلك، على دينها الخاتم، المهيمن على الأديان..الدين القائم على العلم، وسيادة علومه، وحضارته.
(د) إفادة الأمة من حكم الآخرين وتجاربهم، وحضارتهم، مع تفريق بين ما هو مقبول، وما هو مردود، وبين ما هو إسلامي، وما هو جاهلي.
(هـ) وحدة الأمة، وإحياء روابط الأخوة الإيمانية، والقوة التي تنتج عن ذلك، وقد قال تعالى: (إنما المؤمنون أخوة ) (الحجرات:10)..وجعل النبي الكريم، علامة الإيمان، حب المؤمنين بعضهم بعضاً، وكان يمثلهم المهاجرون والأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم:(آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ) (26).
(و) علاقات العدالة، والإحسان، ورعاية الحرمات، التي هي أوثق للدلالة، من كونها مجرد حقوق للإنسان، تواضع عليها قبيل من الناس (27).
فمقام الإحسان في الدين، في كل شيء :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90).. وفي العبادة كلها يكون الإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام، الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مقام الإحسان، فقال:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) (28).. وفي المسند :(صلي صلاة مودع كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، وحتى في العادات والمعاملات كلها، فإن الإحسان، مأمور به المسلم :(إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ) (29).
(ز) صحوة الأمة، واستشعارها، ودعوتها إلى ضرورة التوجه الكلي نحو الدين، والالتزام به، والحصول على القوة، التي تحفظ كيان الأمة، والعمل على استقلالية الأمة، في كافة مجالات الحياة، مما يعني بدء زوال ظاهرة القابلية للاستخراب (للاستعمار)، التي بقيت ردحاً من الزمان عند المسلمين.
(ج) أن الأمة بتوحدها، بإيمانها، وجهادها بامتلاك القوة، والتقدم العلمي، تبلغ أوج الحضارة، وتنتصر على قوى التخلف في داخلها، وتواجه قوى الطغيان والاستكبار العالمي، لتنتصر عليها إن شاء الله.
الخلاصة:
إن التحديات الحضارية، هي الخطر الحقيقي، الذي يواجهنا نحن المسلمين اليوم، غير أن هذا الخطر كائناً ما بلغ، قد ردنا إلى الإيمان، وأحيا فينا آمال العودة، حتى ولو كان بعضنا أمياً، فيؤتيه الله علما.. والإيمان بالله، هو أصل العلم.
ومهما كان ضعفنا، وتفرقنا، اليوم، فإن الله يعيننا، ويؤلف بيننا، إذا استمسكنا بعروته الوثقى، وعدنا إلى الإيمان العاصم، فنملك بهذا العلم الإيماني، إمكانية أن نهدي العالمين إلى الصراط المستقيم. ثم إننا من أجل إقامة نهضة حضارية، وتفوق ثقافي، وتقدم علمي، لنكون قوة المستقبل، التي تحمي الحق، وتدافع عنه، لابد من عمل دائب، وجهاد في هذا السبيل، وإقامة للدين، بمعانيه الشاملة والكاملة، من أنه اعتقاد، وعمل، وعبادة، وأخلاق، وآداب، وسلوك، ومعاملات، وقوانين مدنية، وجنائية.. أو شعائر وشرائع، وأسلمة لشؤون الحياة كلها، في الفرد، والمجتمع، والدولة.
===============
دور الذكر والجهاد في صناعة المستقبل
هذه دراسة في جهاد أهل الذكر، وبيان حالهم، في ساحات الجهاد، في سبيل الله، نشرح فيها معاني كلمة الذكر، في لغة القرآن الكريم، وصفات أهل الذكر، ومراتب الجهاد في سبيل الله، ومقام الجهاد في الدين، مع تقديم نماذج من جهاد أهل الذكر، من لدن عهد النبوة، والصحابة والتابعين لهم، لتكون أنموذجاً للاقتداء، حيث يقوم اليوم، طوائف من أهل الذكر، بأمر الدين، والجهاد في سبيل الله، يدورون مع الكتاب، حيث دار، ويهتدون بهدي السنة النبوية، ويجددون، أمر هذا الدين، يحيون شعائره، ويقيمون شرائعه، ويجمعون بين القرآن والسلطان، ويؤاخون بين السيف والقلم، وهم أهل البشرى، بشرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال :(لا يزال أهل الغرب، ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة ) (1)، وهم أهل الحدة، والشوكة، والسلاح، أي الجهاد في سبيل الله، وهم أيضاً، امتداد المهاجرين والأنصار، ممن ساحوا في الأقطار، يرفعون لواء التوحيد، وذلك إلى كونهم أظهر جهة في اتجاه الغرب، وأقربها من جهة القبلة.
وهذه هي المعاني الجامعة لكلمة الغرب، كما جاءت في هذا الحديث (2)، وأنها الطائفة المنصورة إن شاء الله تعالى، تحقيقا لوعد ربنا :(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173).
معاني الذكر في لغة القرآن الكريم
قد جاءت معاني الذكر في القرآن الكريم، على أوجه كثيرة، يجمع بينها أنها تعد كلها من صفات أهل الذكر، منها ما يعد صفة ملازمة لأهل الذكر، الذاكرين الله كثيراً:
(أ) فالذكر :بمعنى الوحي، كما في قوله تعالى :(أءلقى الذكر عليه من بيننا ) (القمر:25)، يعني الوحي.
(ب) والذكر: بمعنى القرآن، كما في قوله تعالى :(وهذا ذكر مبارك أنزلنه ) (الأنبياء :50)، يعني القرآن.
(ج) والذكر :بمعنى الحفظ، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) (البقرة :63)، يعني احفظوا ما فيه.
(د) والذكر :بمعنى طاعة الله، التي لا يكون بدونها أحد ذاكراً، كما في قوله تعالى :(فاذكروني أذكركم ) (البقرة: 152).
(هـ) والذكر :أيضاً الشيء يجري على اللسان، كما في قوله تعالى: ( فإذا قضيتم الصلوات فاذكروا الله ) (النساء:103)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) (3).
(و) والذكر بالقلب، كما في قوله تعالى :(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ) (آل عمران:135)، أي ذكروه في أنفسهم، وعلموا أنه سائلهم عما عملوا.
(ز) والذكر :بمعني التفكر، وذلك في وقوله تعالى :(إن هو إلا ذكر للعالمين ) (يوسف:104).
(ج) والذكر، والذكرى: بمعنى التذكير :(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (الذاريات :55).
(ط) والذكر، والذكرى: نقيض النسيان :(وادكر بعد أمة ٍ) (يوسف:45)، أي تذكر بعد نسيان.
(ي) والذكر :بمعني الصلوات الخمس، وذلك في قوله تعالى :(رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (النور:37)، يعني الصلوات الخمس.(9/181)
(ك) والذكر: بمعني الدراسة، كما في قوله تعالى :(واذكروا ما فيه ) (الأعراف:171)، معناه: وادرسوا ما فيه.
(ل) والذكر: الصيت، والثناء، والشرف(ص والقرءان ذى الذكر ) (ص:1).
(م) والذكر: بمعنى الخبر، كما في قوله تعالى :(سأتلوا عليكم منه ذكرا ً) (الكهف:83)، يعني خبراً.
(ن) والذكر: بمعني البيان، كما في قوله تعالى :(أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ) (الأعراف:63و69)، أي بيان من ربكم.
(س) والذكر :الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، ومنه قوله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر :9).
(ع) الذكر: الصلاة، والتسبيح، والدعاء، والشكر، وتمجيد الله تعالى، وتهليله، والثناء على الله، بجميع محامده(4).
(ص) وقد أحسن صنعاً، الحكيم الترمذي، حين ذكر قي كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، أن من معاني الذكر: الجهاد. قال:(وإنما صار الذكر(الجهاد) في مكان آخر، لأنه إنما يجاهد عن لا إله إلا الله، ولإقامتها، وللذب عنها، فذلك الفعل هو ذكر) (5).
ويلزم أهل الذكر، ليكونوا من أهل الثناء، والشرف، والرفعة حقيقية، أن يكونوا أهل فكر، وعظة، واعتبار، وعمل صالح، كالصلاة، والجهاد، وذكر الله بالقلب، واللسان، وذكر الله بتلاوة القرآن، وحفظه، وتدبره، ومعرفة بيانه، وأخباره، وذكر الله بالدعاء والتسبيح، والشكر، والثناء على الله تعالى.
هذا، وذكر الله واسع سعة معاني الدين، وشموله لشؤون الحياة كلها، كما نجد في الهدي النبوي، الأنموذج، والقدوة الحسنة. وقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم، كلها ذكراً، إذ كان يذكر الله في جميع أحيانه.
وهكذا كان فقه الصحابة..وهذه واحدة من الصحابيات الجليلات، كمثال على هذا الفقه: فعن أم الدرداء أنها قالت في تفسير قوله تعالى :(ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت:45 ).
فإن صليت، فهو من ذكر الله.
وإن صمت، فهو من ذكر الله.
وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله.
وكل شر تجتنبه، فهو من ذكر الله.
وأفضل الذكر، تسبيح الله (6).
صفات أهل الذكر
أهل الذكر هم المسبحون، الحامدون، التالون، المصلون، المقيمون لشعائر الله، وشرائعه، وهم المحبون لله تعالى، والمحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين يحبون إخوانهم في الدين، وهم المستجيبون لأمر ربهم، بالإكثار من ذكره تعالى.
قال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا ً) (الأحزاب: 41-42)، وقد جاءت هذه الآية، في سياق إثبات ختم النبوة والرسالة، لخاتم الأنبياء والمرسلين :(ما كان محمدُُ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيءٍ عليم اً) (الأحزاب :40).. وفي الذكر إشارة واضحة، إلى أن الذكر صفة ملازمة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالذكر…. ذكراً، ومذكراً.
وفيها من لطائف الإشارات، أنها جاءت على رأس الأربعين آية من سورة الأحزاب، الموافقة لسن النبوة، عند نزول الوحي.
وقال تعالى :(والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:35).
وهذه الآية جاءت في سياق الأمر بذكر الله، وتلاوة كتابه، وإحسان الفقه في القرآن، علماً، وعملاً، مع إخلاص الإسلام، والإيمان، وصدق للدين، والصبر، والخشوع، والإنفاق، والتصدق، والصيام، والعفاف، قال تعالى :(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً * إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (الأحزاب:34-35)، وقال تعالى :(اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلوة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) (العنكبوت:45)، أي ذكر الله لكم بالثواب، والثناء عليكم، أكبر من ذكركم له في عبادتكم، وصلواتكم.. قال معناه ابن مسعود، وابن عباس، وأبو الدرداء، وأبو قرة، وسلمان، والحسن، وهو اختيار الطبري(7).. وثواب ذكر الله، هو أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث القدسي:(من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم ) (8).
والذكر النافع، هو ما كان مع العلم، وإقبال القلب، وتفرغه إلا من الله، وأهل الذكر، قد باعوا لله أنفسهم، وزكوا أنفاسهم في سبيل مرضاته، فما يقعدهم عن الجهاد شيء.. كيف لا وهم المتحققون بالتوبة، والعبادة الخالصة لله، وهي العبادة الجامعة لأركان الإسلام، وسهامه، وشعائره، وشرائعه، بالتوحيد الخالص، والصلاة الخاشعة، والإحسان في إيتاء الزكاة، وصيام رمضان والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمحافظة على حدود الله تعالى، والدعوة إليه جل جلاله:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآءمرون بالمعروف والناهون عن المنكروالحفظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) (التوبة:111-112)، وقد ورد وصف المؤمنين من أهل الذكر، في سياق الجهاد، في صدر سورة الأنفال التي تسمى أيضاً سورة الجهاد، وسورة بدر :(يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيامناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (الأنفال :1-4). وذلك ليطهروا نفوسهم، عن الاشتغال بالاختلاف حول المغانم، ولتتعلق هممهم بالفردوس الأعلى، وليتحققوا الإيمان الكامل.
الجهاد وصدق الإيمان:
ثم إنه لا يكون صدق الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله، وأمره، إلا بالجهاد في سبيله تعالى، بالمال، والنفس، مصدقاً لقوله تعالى :(إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصدقون ) (الحجرات :15).
جهاد النفس:
ولا يكون جهادنا في ساحات القتال، إلا ونحن نجاهد أنفسنا جهاداً عظيماً، حتى نتخلى عن رغائب الدنيا، وجواذبها الأرضية، ومن لم يجاهد نفسه، لم ينتصر عليها، فيخرج مقاتلاً للعدو الخارجي :(كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا ًوهو خيرُُ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرُُ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:216)، وبجهاد النفس، يصير ما تكرهه حبيباً إليها، حتى القتال، ومبارزة العدو، وتعريض النفس للخطر، وحينئذ فالمجاهدون لا يفرغون من غزوة، إلا وأعدوا أنفسهم لما بعدها، ولولا هذه الروح الدافعة، والسر العظيم في الجهاد، ما بلغوا في وجيز من الزمان مشارق الأرض ومغاربها. وفي بيان المقام العظيم لجهاد النفس يقول صلى الله عليه وسلم :(المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل )(9).
الجهاد: المعنى .. والمراتب
معنى الجهاد:
وتفسير الجهاد، في لغة القرآن الكريم، على ثلاثة وجوه:
1- الجهاد بالقول، في ذلك كما في قوله تعالى :(وجاهدهم به جهاداً كبيراً ) (الفرقان :52).(9/182)
2- القتال بالسلاح كما في قوله تعالى :(لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) (النساء:95).
3- الجهاد يعني العمل، فذلك قوله تعالى :(ومن جهاد فإنما يجاهد لنفسه ) (العنكبوت:6)، يعني :ومن عمل الخير، فإنما يعمل لنفسه، وله نفع ذلك (10).
والجهاد في سبيل الله باب واسع، فمنه جهاد النفس، وجهاد العلم، والحجة، واللسان، وجهاد المال، والبذل، والإنفاق، وجهاد العدو بالقتال والمبارزة.
وقد حقق بعض العارفين القول في الجهاد، ومراتبه، على نحو ما يرد موجزاً، في فيما يلي:
مراتب الجهاد:
الجهاد على أربع مراتب:
المرتبة الأولى :جهاد النفس، وهو أيضاً أربع مراتب:
أحدها :أن يجاهدها على تعلم الهدى.
الثانية :على العمل به بعد علمه.
الثالثة :على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.
الرابعة : على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانياً، حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه.
المرتبة الثانية :جهاد الشيطان، وهو مرتبتان :إحداهما، جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، والثانية جهاده على دفع ما يلقي من الشهوات.
فالأولى بعدة اليقين، والثانية بعدة الصبر، قال تعالى :(وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ) (السجدة:24).
المرتبة الثالثة :جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم، والمنكرات، والبدع، وهو ثلاث مراتب: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه (11).
وقد كانت حياة السلف الصالح، قائمة على ذكر الله آناء الليل، وأطراف النهار، تلاوة للقرآن، مع الالتزام ْوردٍ فيه معلوم، بحسب مقام كل واحد منهم، مع التزام الجماعة، جماعة المسلمين، وجماعة الصلاة، وقيام الليل، وصيام التطوع، والسعي في مصالح المسلمين، وإيصال النفع، والخير لهم، مع الاستقامة على أمر الله، والقيام بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في رفق، وأناة، وحلم، حتى رضى الله عنهم، ورضوا عنه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يوالي بعضهم بعضاً، ويذكرون الله بلسان حالهم، ومقالهم، على نحو ما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه :(اجلس بنا نؤمن ساعة) (12).
وما أثر عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يقول، وهو يأخذ بيد الرجل والرجلين أصحابه :(قم بنا نزدد إيماناً)، فيذكرون الله تعالى بعض الوقت(13) .
لقد كانوا حقاً رهباناً في الليل، فرساناً في النهار، وربما تقرحت بطون بعضهم، من التزام أكل قدر محدود من التمر كل يوم، كأهل الصفة الذين رحم حالهم حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموصوف بالرأفة، والرحمة، حتى إنه لم يجد شيئاً يطعمهم غير شعير ولبن، مع تطييب خاطرهم، بأنه لا يجد في بيته غير هذا(14).
وقد يسقط بعضهم من الإعياء، في طريقه إلى صلاة الجماعة، على قرب المكان، أو يربط على بطنه الحجر من الجوع، لكنه إذا نودي للجهاد، كان أسرع إجابة للنداء، ولربَّما قال بلسان حاله، أو مقاله: ما أحسن الآن لو سمعت منادياً ينادي: يا خيل الله اركبي(15). إن همهم الفردوس الأعلى.
وهذان مثلان لرجلين، من هؤلاء الرجال، فأحدهما وهو يصب ماء الضوء لنبي لله، فيطلبه أن يسأل ما يتمنى، فلا يكون جوابه إلا :(أسألك مرافقتك في الجنة)، قال له عليه الصلاة والسلام :(أو غير ذلك ) ؟ فأكد ما طلبه أولاً، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) (16).
والمثل الثاني لعمير بن الحمام، وقد بلغ به الشوق مداه لدار الخلد، لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على القتال، ويبشر الشهداء، فما كان منه إلا أن سارع إلى مبتغاه، وهو يلقي، بتمرات كن معه قائلاً:(لئن أنا عشت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة) (17).
النبي صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين في جميع أبواب البر:
وإن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على قدر طاقتنا، وهو سيد الذاكرين، والشاكرين، والحامدين، والمصلين، والصائمين، والمنفقين، وهو سيد قراء القرآن، وهو قائد الغر المحجلين، وهو إمامنا في كل خير(18)
الجهاد ذروة سنام الإسلام:
والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو ركن من أركان الدين.. والنبي صلى الله عليه وسلم، أسوة المؤمنين، هو المعظم شأن الجهاد، الواصف له بأنه ذروة سنام الإسلام(19).
والجهاد ملحق بأركان الإسلام الخمسة، وقد وعدّ النبي صلى الله عليه وسلم، أسهم الإسلام الثمانية: الخمسة المعروفة، وأضاف إليها ثلاثة، هي: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(20).
النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الذاكرين والمجاهدين:
وقد جاء ذكر الأسوة في القرآن، في ثلاثة مواضع، في سورتي الأحزاب، والممتحنة، المدنيتين، كلها في سياق الولاء، والبراء في الله تعالى، والجهاد في سبيله.. ففي موضعي سورة الممتحنة، دعاء إلى التأسي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا، وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، وموضوع الأسوة هنا، في الولاء في الله تعالى، لأوليائه، والبراءة من المشركين، ومقاطعة الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً.
قال تعالى :(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شىءٍ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (الممتحنة: 4-6).
أما آية سورة الأحزاب، فقد جاءت في سياق الجهاد، تدعو للتأسي بسيد الذاكرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً * ولما رءا المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً * من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً ) (الأحزاب: 21-23).
يقول ابن كثير في تفسيره : هذه الآية، أصل كبير في التأسي برسول صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهداته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا، وتزلزوا، واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، أي: هلا اقتديتم به، وتأسيتم، بشمائله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى :(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (21).
وهذه الآية الأخيرة، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، بين يدي جثمان المعلم الأول، ومقرئ القرآن بالمدينة، الصحابي الشهيد مصعب بن عمير، رضى الله عنه، ثم قال :(إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة).
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن هذه الآيات، نزلت في عمه أنس بن النضر رضي الله عنه :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه )… الآية (22).(9/183)
ومن الصحابة، من أسعده الله، وشرفه بالشهادة النبوية، أنه ممن ينتظر، وما بدول تبديلاً.. فعن طلحة رضي الله عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحد، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر، والذخر، ثم قرأ هذه الآية :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً)، فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء ؟ فأقبلت وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال: (أيها السائل هذا منهم) (23).
المجاهدون وملازمة الذكر:
وذكر الله، يلازم المجاهدين في سبيل الله، وهم يستغيثون الله، ويدعونه، ويتضرعون إليه، في ساحات القتال، ويفتقرون إليه تعالى، ويخضعون له، ومع إعدادهم العدة اللازمة، فهم لا يعتمدون عليها، بل يفوضون أمرهم إلى الله، ويتوكلون عليه، أو كما وصف صاحب البردة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كأنهم في ظهور الخيل نبتُ ُربىً *** من شدة الحزم لا من شدة الحُزُمِ
ولكنهم معتمدون على عناية الله:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم
ودعوة هذا شأنها، وهؤلاء جنودها، فإنها منصورة بإذن الله، مهما كان أعداؤها:
ما حوربت قط إلا عاد من حرب *** أعدى الأعادي إليها ملقي السلم
وقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، رجال من الصحابة الكرام، وتبعهم بإحسان رجال ممن جاء بعدهم: (والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :10).
لقد كان ذكر الله حالة غالبة عليهم، وجهاد النفس سمة تميزهم، وساحات الجهاد، سياحة لهم. والمؤمنون مأمورون بالإكثار من ذكر الله تعالى.
ثم إنه لو كان الله تعالى، مرخّصاً لأحد في ترك الذكر، لكتن ذلك مع زكريا عليه السلام حين سأله أن يجعل له آية :(رب اجعل لي ءايةً قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشى والإبكار ) (آل عمران:41)، ولكان ذلك أيضاً مع المجاهدين، وهم يقاتلون في ساحات الجهاد، فقد أُمروا بذكر الله كثيراً :(يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) (الأنفال:45).
أهل الذكر وساحات الجهاد:
وأهل الذكر، قلوبهم متعلقة بساحات الجهاد، لأنها مظنة استجابة الداء، ومدد الملائكة في الغزوات :(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ) (الأنفال:9).. وقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن الدعاء يستجاب في ميدان القتال، حيث قال صلى الله عليه وسلم :(ثنتان لا تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلجم بعضهم بعضاً ) (24)، كما روى الشافعي في كتابه (الأم)، بسند مرسل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(اطلبوا استجابة الدعاء، عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ) (25).
وأهل الذكر، هم المرابطون على ثغور الإسلام :(يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعكلم تفلحون ) (آل عمران:200).
وعيون الخاشعين، الذاكرين الله كثيراً، مثل عيون المرابطين، يحرسون ثغور الإسلام، كتب الله لها النجاة: (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) (26).
الجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام:
وأهل الذكر، مجاهدون، دعاة إلى الله.. والجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام، وهو ذروة سنامه، وأقصر طريق إلى رضوان الله، وأقربه، فالجنة تحت ظلال السيوف، ثم إنه لا سبيل لإعلاء كلمة الله تعالى، بدون الجهاد، وإنه لحقاً أعظم العبادات، حتى إن المالكية يذكرون باب الجهاد، متصلاً بالعبادات، اعتباراً بنية المجاهد :(لتكون كلمة الله هي العليا) (27).
نماذج من مجاهدي الصحابة
لقد كان الصحابة، من المهاجرين والأنصار، على مراتبهم في الأولية، والسبق، والفضل، يتصدر التعريف بكل واحد منهم، بعد ذكر إسلامه، أنه شهد المشاهد، والغزوات كلها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذكر في ترجمته مقدار ما شهد من هذه المشاهد، وشارك في تلك الغزوات، مع ذكر جمعه للقرآن، أو ما حفظه منه، وذكر عبادته، وتهجده، وإنفاقه، وبذله.. وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، إلى تمام العشرة المبشرة، وقد زادوا فوق ذلك، تحمل أعباء الخلافة، والإمارة، والقيادة (28).
وحيثما نظرت في تراجم هؤلاء الرجال، وجدتهم في المشهورين بالعلم، والزهد، والتعبد، والجهاد، ومن بينهم عدد وافر من الصحابيات العابدات، اللائي اشتركن في جملة من الغزوات، بما تيسر من مشاركة مناسبة، كالسقي، والتمريض، والنقل، والأعمال الإدارية، مع المشاركة الفعلية في القتال أحياناً (29)، وقد شاركت جملة من أمهات المؤمنين في بعض هذه الغزوات، بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفقاً لقسمهن، وسهمهن، في الخروج(30).
وهذه نماذج يسيرة، من هدي خير القرون، من جيل الصحابة، السابقين بالإحسان، من المعروفين بالقراء والعلماء، الذين كانوا من أهل التقوى، والمغفرة، والجهاد، والبذل في سبيل الله، والعبادة، والتهجد، والصوم، وسلامة الصدر، ولزوم الذكر:
1- مصعب بن عمير.. المقرئ:
أول من يهاجر إلى المدينة، داعية إلى الإسلام، يمضي شهيداً يوم أحد، وهو يتلو القرآن في الميدان:
لقد ظل مصعب بن عمير يعلِّم القرآن، ويدعو الناس للإسلام، واستشهد يوم أحد وهو يحمل الراية، وجعل يقرأ القرآن في الميدان، يثبت به المؤمنين، وكان آخر ما قرأ: (وما محمد إلا رسولُُ قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشكرين ) (آل عمران:144).
2- سالم مولى أبي حذيفة.. يحمل اللواء يوم القيامة، على درب مصعب بن عمير (31):
كما اعتنق سالم مولى أبي حذيفة، اللواء يوم اليمامة، وجعل يدعو الناس للاجتماع والقتال :(يا أهل سورة البقرة، يا أهل سورة آل عمران)، وأنكر على من ظن به أن الراية تسقط من يده فقال :(بئس حامل القرآن أنا إذاً). وقطعت يداه، والراية على صدره، بين يديه، وهو يقرأ بين يدي استشهاده، تماماً مثلما صنع مصعب ابن عمير، قرأ:(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. .) (آل عمران:14) (32).
3- معاذ بن جبل.. أنموذج فريد، في حب الله، ولقائه:
لقد حُبب لقاء الله إلى الصحابة، وهم سادة الذاكرين، إنهم كانوا يذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً، فزكت نفوسهم، واشتاقوا للقاء الله، إن كانوا في ميدان الجهاد، فهم يرجون الشهادة، وإلا فحسن الختام، وهم في سبيل ذلك يلبون النداء، فيخرجون عن المدينة، التي يحبونها، ويحتملون ألم فراق سيد الصحابة، بل سيد الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم.
وإنه يمثل لنا هذا الأنموذج، معاذ بن جبل رضى الله عنه، وقد كان معلماً، داعية إلى الخير، مجاهداً. فعن عاصم بن حميد، عن معاذ بن جبل قال، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال :(يا معاذ عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا، وقبري )، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت، فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال :(إن أولى الناس بي، المتقون، من كانوا، حيث كانوا ) (33).(9/184)
وقد أعد معاذ بن جبل، رضي الله عنه، نفسه للقاء الله، بل إن أهله كانوا مثله، فإنه لما أصاب ولديه الطاعون قبله، استبشر معهما بلقاء الله، قال لهما: كيف تجدانكما؟
قالا :يا أبانا(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) (البقرة:147)، قال :وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين (34).. ثم إن معاذ بن جبل استقبل الموت بحفاوة بالغة، وذلك في طاعون عمواس، بناحية الأردن، سنة ثمان عشرة من الهجرة، وله من العمر حينئذٍ ثلاث وثلاثون سنة. ولما شعر بدنو الأجل، هتف: مرحباً بالموت مرحباً، زائر مُغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها، لكري، الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر(35).
وقد خص الله تعالى معاذ بن جبل رضي الله عنه، بجملة فضائل، من السبق في الإسلام، والبيعة، والعلم، والعمل والزهد، والورع، والكرم، والجود، والتعبد، والاجتهاد. شهد بيعة العقبة، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردفه وراءه، وبعثه إلى اليمن، بعد غزوة تبوك، وشيعه ماشياً في مخرجه، وهو راكب.
وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد (36).
4- أبو طلحة الأنصاري.. رجل كألف:
أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري، شهد العقبة مع السبعين، وبدراً، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الرماة المذكورين، يقي بصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوي التأثير على العدو، حتى قال صلى الله عليه وسلم (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ) (37)، وفي رواية أخرى :(لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة ).
وكان من أكثر الأنصار مالاً، ولما نزل قوله تعالى :(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران: 92)، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقف أمواله إليه، وجعلها صدقة في سبيل الله على الأقربين، وبني عمه (38) وعن أنس، أن أبا طلحة، ما أفطر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في مرض، أو سفر، حتى لقي الله. وعنه: أن أبا طلحة، غزا البحر، فمات، فلم يوجد له جزيزة يدفن فيها، سبعة أيام، فلم يتغير(39).
5- عبدالله بن رواحة.. الفدائي المقدام والصوّام:
عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امريء القيس، يكنى أبا محمد، أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة مع السبعين، وبدراً، وأحداً، والخندق، والحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء. واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المدينة في عزوة بدر الموعد (بدر الآخرة)، وبعثه في سرية في ثلاثين مجاهداً، إلى أسير بن رزام اليهودي، بخيبر، فقتله، وأرسله إلى خيبر خارصاً.
وعن أبي الدرداء قال :لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، في اليوم الحار، الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شده الحر، وما في القوم صائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة (40).
6- أبو دجانة.. يبايع على الموت:
أبو دجانة سماك بن خرشة، شهد بدراً، وأحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذٍ، وبايعه على الموت، وقتل بعد اليمامة شهيداً.
كان سليم الصدر، يحفظ وقته ولسانه، فلا يتكلم فيما لا يعنيه، فعن زيد بن أسلم، قال :دُخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل :ما لوجهك يتهلل ؟ فقال :ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنين، أما أحدهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً (41).
7- خُبيب بن عدي.. أول شهيد سن صلاة ركعتين بين يدي القتل:
وهذا خبيب بن عدي بن مالك، شهداً أحداً مع النبي صلى الله عليه سلم، وكان فيمن بعثه مع بني لحيان، فأسروه هو وزيد بن الدثنة، فباعوهما من قريش، فقتلوهما، وصلبوهما بمكة، بالتنعيم. ولما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب :دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، وقال :والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع، لزدت: (اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً).
وقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
وكان خبيب، هو الذي سن هذه الصلاة لكل مسلم، ويستبشر بلقاء الله عز وجل، فيصلى بين يدي تقديمه للقتل، رحمه الله، وأحسن لقاءه (42).
نماذج من مجاهدي التابعين لهم بإحسان
1- صله بن أشيم العدوي.. شهيد من أهل الذكر والذاكرين:
وهذا نموذج لرجل من التابعين، وهو صلة بن أشيم العدوي، من كبار التابعين، من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع، وعبادة، وزهد، كان يصلي ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبواً، وله مناقب كثيرة جداً. وكان يكثر من صلاة الليل في الغزوات، التي يشارك فيها، مقاتلاً مع الجيش، وقال رجل لصله :ادع الله لي.. فقال :( رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ورزقك اليقين، الذي لا يرجى إلا إليه، ولا يعَّول في الدين إلا عليه).
وكان صله في غزاة، ومعه ابنه، فقال :أي بني، تقدم فقاتل، أحتسبك.. فحمل فقاتل حتى قتل، ثم قاتل صله، حتى قتل.
واجتمع النساء عند امرأته، معاذة العدوية، فقالت :إن كنتن لتهنيئنني، فمرحباً بكُن، وإن جئتن لتعزينني، فارجعن (43).
2- عبدالله بن المبارك.. فقيه محدث، من أهل الذكر والجهاد:
وهذا عبدالله بن المبارك، أحد أئمة المسلمين، أدرك جماعة من التابعين، وروى عن كبار الأئمة، رجل جمع الله له بين العلم الغزير، والعمل الوفير، والإحسان الجزيل، والجهاد المتصل، فكلما سمع صيحة، لبى النداء، وهو مع ذلك كثير النفع لعباد الله، بعلمه، وماله، ويعتني في ذلك بأهل العلم، ورفقة الحج، ويجتهد في إدخال السرور على المسلمين.
وابن المبارك، كثير الخشية، والمراقبة لله عزوجل، فإذا أدرك محل استجابة الدعاء، سأل الله أن ينجيه من ظمأ يوم القيامة.. وفي هذا المعنى، يقول سويد بن سعيد:
رأيت عبدالله بن المبارك بمكة، أتى زمزم، فاستقى منها، ثم استقبل الكعبة، فقال :اللهم إن ابن أبي الموالي، حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(ماء زمزم لما شرب له )(44)، وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه.
ثم إن أطيب الناس عيشاً، وأسعدهم حالاً، من كان عارفاً بالله، وفي ذلك يقول ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا، قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له :وما أطيب ما فيها؟ قال :المعرفة بالله عزوجل.
وعن القاسم بن محمد، قال : كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي :بأي شيء فضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس، هذه الشهرة؟
لئن كان يصلى، إنا لنصلي، ولئن كان يصوم، إنا لنصوم، وإن كان يغزو، فإنا لنغزو، وإن كان يحج، إنا لنحج ! قال :فكنّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيت، إذ طفيء السراج، فقام بعضنا، فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فكمث هنيهة، ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيته قد ابتلت من الدموع. فقلت في نفسي :بهذه الخشية، فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة، ذكر القيامة.(9/185)
ولقد كان عبدالله بن المبارك، القدوة في الزهد، والقيام، والذكر.. كان كذلك الإمام المجاهد، بلسانه، وسنانه، حتى اصبح مثلاً يحتذى، وقدوة للمجاهدين… وهو الذي يرسل لصاحبه وأخيه الفضيل بن عياض، من ساحات الشهادة، هذه الأبيات، كما رواها الإمام الذهبي في السير، قال :روى عبدالله بن محمد، قاضي نصيبين، ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض، من طرسوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكْذَب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق الله بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال :فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه، وبكى، ثم قال :صدق أبو عبدالرحمن ونصح (45).
لقد ظل ابن المبارك طيلة حياته، يحج عاماً، ويغزو عاماً، حتى توفي في (هيت) من نواحي العراق، وهو منصرف من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وعن محمد بن فضيل بن عياض، قال :رأيت عبدالله بن المبارك في المنام، فقلت :أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال :الأمر الذي كنت فيه. قلت :الرباط والجهاد ؟ قال :نعم.فقلت :فأي شيء صنع ربك ؟ قال :غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين (46).
وكما كان عبدالله بن المبارك رحمه الله، العالم الذي يذكرك الآخرة برؤيته، كذلك هو بعد مماته.. فهذا أحد الصالحين، يمر على قبر عبدالله بن المبارك، فيتذكر سيرته الزكية في العبادة، وفي الجهاد، فأنشأ يقول :
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظاً وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق(47).
3- إبراهيم بن أدهم.. الزاهد الأواه، يركب البحر غازياً في سبيل الله.
وهذا إبراهيم بن أدهم، ويكنى أبا إسحاق، ورى عن جماعة من التابعين.. نشأ في بيت شرف، وعز، ومال، وانصرف عنه إلي العبادة، والزهد، وانشرح صدره بما آتاه الله من فضله، وما ذاقه من لذة العبودية لله، والافتقار إليه، حتى قال :لو علم الملوك، وأبناء الملوك، وما نحن فيه من النعيم، والسرور، لجالدونا عليه بالسيوف، أيام الحياة.
إن هذا النعيم، يدركه أهل الذكر والجهاد، ومراقبة المولى عزوجل، وهكذا كان إبراهيم بن أدهم، فعن محمد بن الحسين، قال :ما انتبهت من الليل، إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله، فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) (المائدة:45).
وعن عبدالملك بن سعد الدمشقي، قال :سمعت إبراهيم بن أدهم يقول :أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.
وكان مستجاب الدعوة، حتى إنه ركب البحر، غازياً في سبيل الله، عصفت بهم ريح شديدة، فأشرفوا على الهلاك، فدعا ربه :(اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك)، فسكن البحر، وصار كأنه قدح زيت.
وهكذا ظل إبراهيم بن أدهم، بين الذكر والجهاد، حتى قال عشية موته:
أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات، وهو قابض عليه، يريد الرمي على العدو (48).
وحسبنا ما قدمنا من سيرة هؤلاء العشرة، وقد أكثرنا من ذكر الصحابة، لأنهم النماذج العملية في حسن التأسي، والاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه :(فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (الأعراف:157).
وجزى الله خيراً من اتبعهم بإحسان :(والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر :109).
وكلهم يتسابق في التحقق بصفات الرجال المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، والثابتين على الحق :(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ً) (الأحزاب :23).
الحركات الإسلامية المعاصرة.. تحاول الجمع بين الذكر والجهاد:
وهكذا كانت حركات الجهاد، والتحرر من الاستعمار، في بلادنا العربية، والإسلامية، فقد ظلت ساحات الجهاد، مجالاً لسياحة أهل الذكر، في أرجاء العالم الإسلامي.. وقد لا نحتاج إلى التفضيل، فكتائب الجهاد الإسلامية، لا يمكن أن تغمر أو تطمس، في السودان، والجزائر، وفلسطين، وسائر بلاد المسلمين.
وساحات الجهاد القائمة اليوم في عالمنا الإسلامي، لجنودها، في كل ركن أذان، وإقامة، وصلاة، وقيام ليل، وتهجد، وصيام، وتلاوة جماعية للقرآن، والتزام للذكر كثيراً، حتى أضاءت وجوه الذاكرين، فهي ناضرة بذكر الله، متعلقة بالفراديس العلى، وتتصل الأنوار من قبور شهدائها، بالسماء، ويفوح المسك من دم الشهداء، ويعظم الاحتمال والصبر، عند جرحى العلميات، ويكثر الذكر والتسبيح، من الممسكين بالزناد، في خط النار، وكلهم يتسابقون حول غايتهم في صدق ووفاء:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) (الأحزاب :23).
وأهل الذكر يجتهدون، حتى تنشرح صدورهم، وتطمئن قلوبهم بذكر الله : (ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) (الرعد :28-29).
وأهل الذكر، في جهاد متصل الحلقات، في صلاة، وركوع، وسجود، وفعل الخير، وعبادة لله، وطاعة مع جهاد للعدو، وامتثال لجميع ما أمر الله به، وانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، وجهاد في الطاعة، ورد النفس عن الهوى، وجهاد في رد وساوس الشيطان، ومدافعة لأهل الظلم والكفر(49).
وذلك كله امتثالاً لأمر الله جل جلاله :(يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج: 77-78). وقد يبلغون درجة الحبور، بذكر الله، حتى يعبر بعضهم عن هذه الحالة، فيقول :(إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لايدخدل جنة الآخرة) (50). وإنها لمجاهدة متصلة، وتزكية للنفس، لبلوغ درجة الإحسان في العبادة : (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ) (51). وصدق الله العظيم، القائل في محكم تنزيله :(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت :69).
=============
القنوت.. دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة
ولا ريب في أن مستقبل الإسلام، يصنعه، أهل الذكر والجهاد.. ومن حيث هم أهل ذكر، فإنهم أهل قنوت، وطاعة، واتصال بالله، ولجوء إليه.. فالقنوت ديدنهم.. والوقوف على معالم القنوت، والأحكام المتعلقة به، أمر يحتاجه صناع مستقبل الإسلام، في مواجهة التحديات، التي لا يغنيهم فيها إعداد العدة الحربية، بل لا بد من العدة الإيمانية، والقوة الروحية، والطاقات المعنوية، ولهذا فإنهم يلتزمون القنوت، وخاصة قنوت النوازل، في مواجهة الحرب، والحصار والمقاطعة، والكيد، واستبداد قوى الطغيان والاستكبار.(9/186)
ومن ثم هذه دراسة في القنوت، تشرح معناه في لغة القرآن الكريم، وتفسر الآيات التي جاء فيها ذكر القنوت، مع بيان مشروعية قنوت النوازل، وضرورته في عصرنا هذا، وتبين آداب القنوت، وأحكامه، ومذاهب الفقهاء في وقته، ومحله، وما يجزىء من القنوت، وألفاظه، وشرح غريبه، وسعة الهدى النبوي في ذلك.
وأهم شيء في القنوت، أن يتحقق من يدعو، بالمعاني الجامعة لكلمة القنوت: من الاشتغال بذكر الله، والخشوع في الصلاة، والقيام، وأن يدعوه سبحانه وتعالى، مقرين له بالعبودية، مخلصين له الدين :(وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) (البينة :5)، وحقاً :(إنما يتقبل الله من المتقين ) (المائدة :279)، ثم إنه:(لن ينال الله لحُومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (الحج:37)، والمؤمنون يعتمدون في أعمالهم كلها، على عناية الله، ويتوكلون عليه وحده :(قل هو الرحمن ءامنا به وعليه توكلنا ) (الملك :29).
ونحن مندوبون إلى سؤال الله تعالى، ودائه، مفتقرين إليه، منكسرين له، حتى نكون أقرب للإجابة، ونيل المطلوب، كما وجهنا نبينا صلى الله عليه وسلم :(إنما تنصرون، وترزقون بضعفائكم، بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم ) (1).
والله تعالى نسأله أن يجعلنا من عباده القانتين.
دواعي الكتابة عن القنوت:
وهي كثيرة، علمية، وعملية على نحو ما يلي:
1- دواعٍ علمية :لبسط العلم، ونشر سننه، وآدابه، وذلك لما يلي:
(أ) خفاء فقه القنوت.
(ب) تعدد الآراء الفقهية، وتباين مواقف العلماء.
(ج) التنازع حول مسألة القنوت.
(د) غفلة الأمة عن القنوت.
2- دواعٍ عملية :نواجهها في حياتنا، مع واقع المسلمين، اليوم، ومن ذلك:
(أ) الهجمة الشرسة من الكفار على المسلمين، بمختلف الأشكال، والأنواع، والصور.
(ب) ظلم بعض حكام المسلمين، للانفصام الحادث في مواقفهم، وأحكامهم، بين السلطان والقرآن، وبين السيف، والقلم، مع التبعية المخزية للكفار، وموالاة غير المؤمنين.
(ج) غفلة عامة المسلمين، عن هذا الواقع المرير، وإنه لمن النوازل حقاً، عدم اعتبارالمسلمين لذلك، وعدم انتباههم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، يستدعي قراءة قنوت النوازل.
(د) حالة الضيق والتمزق، الذي قد يصيب بعض من نذر نفسه، أن يكون مصلحاً، فيواجه مكر الليل والنهار، وليس له إلا أن يخلص في دعائه، والتجائه إلى ربه.
(هـ) دعوة المسلمين كافة، للإكثار من القنوت، والتوسع فيه، وعدم التعرض لمن يقنت، لأن الأمر في فقه الدين، واسع.
(و) أهمية القنوت في تزكية النفوس، وإعلاء القيم الروحية، وتوثيق صلة العباد بربهم، والاهتمام بأمر المسلمين، وتنمية العلاقات الأخوية، والاجتماعية.
لأجل هذه الدواعي مجتمعة، كان هذا الفصل، ولنتقرب بذلك كله إلى ربنا جل جلاله، وهو قريب ممن دعاه :(وإذا سألك عبادي عني فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ) (البقرة :186). ونشرع في بيان المقصود، والله المستعان:
أولاً : معاني القنوت في اللغة
قنت* القنوت:
يرد القنوت في لسان العرب، على المعاني التالية:
1- الإمساك عن الكلام، والسكوت.
2- الدعاء والتسبيح.
3- الصلاة.
4- الدعاء في الصلاة.
5- الخشوع والإقرار بالعبودية.
6- القيام.
7-إطالة القيام.
8- القيام بالطاعة، التي ليس معها معصية.
فيصرف في كل واحد من هذه المعاني، إلى ما يحتمله اللفظ في سياقه، من آية، أو حديث، أو عبارة.
(أ) قال ابن سيده، فيما نقله عنه ابن منظور، في كتابه :(لسان العرب) :القنوت الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى :(والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35)، ثم سمى القيام في الصلاة قنوتاً، ومنه قنوت الوتر.. والقانت :المطيع.
القانت :الذاكر لله تعالى، كما قال عزوجل :(أمن هو قانت ءاناء الليل ساجداً وقائما ً) (الزمر :9).
وقيل: القانت :العابد.
والقانت في قوله عزوجل :(وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، أي من العابدين.
والمشهور في اللغة، أن القنوت الدعاء. وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله، فالداعي إذا كان قائماً، خص بأن يقال له :قانت، لأنه ذاكر لله تعالى، وهو قائم على رجليه.. فحقيقة القنوت :العبادة، والدعاء لله عزوجل، في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين، فهو قيام بالشئ بالنية.
قال ابن سيده :والقانت القائم بجميع أمر الله تعالى (2).
(ب) وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني، في تفسير معنى القنوت، أنه:
لزوم الطاعة مع الخضوع، وفسر بكل واحد منهما في قوله:
1- (وقُومُوا لله قانتين ) (البقرة :238)، وقوله تعالى :(كل له قانتون ) (البقرة :116)، (الروم :26)، قيل: خاضعون، وقيل: طائعون.
2-وقيل :ساكتون، ولم يعن به كل السكوت، وإنما عنى به ما قاله عليه الصلاة والسلام :(إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي قرآن وتسبيح )، وعلى هذا قيل :أي الصلاة أفضل ؟ فقال : (طول القنوت )، أي الاشتغال بالعبادة، ورفض كل ما سواه. وقال تعالى : (إنّ إبراهيم كان أمةً قانتا ً) (النحل :120)، (وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، (أمن هو قنت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً ) (الزمر :9)، (اقنتى لربك ) (آل عمران :43)، (ومن يقنت منكن لله ورسوله ) (الأحزاب :31)، (والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35)، (فالصالحات قانتات) (النساء :34) (3).
(ج) وفي زاد المعاد (4) :أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى :(وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) (الروم :26)، وقال تعالى :(أمن هو قانت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه ) (الزمر :9).
وقال تعالى :(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، وقال صلى الله عليه وسلم :( أفضل الصلاة طول القنوت ) (5)، وقال زيد بن أرقم: (لما نزل قوله تعالى :(وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238)، أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام (6)، وقد نظم الشيخ الحافظ زين الدين العراقي، معاني القنوت، على ما يلي(7):-
ولفظ القنوت أعدُد معانيه تجد مزيداً على عشر معاني مَرْضِيَّة
دعاءُُ، خشوع، والعبادة طاعة إقامتها إقرارُهُ بالعبودية
سكوتُُ، صلاة، والقيام، وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح القنية
ثانياً :معاني القنوت في القرآن الكريم
لقد جاء ذكر القنوت، في القرآن الكريم، في ثمان سور، في اثني عشر موضعاً، وثلاثه مواضع منهن مكية، في النحل، والروم، والزمر، وبقيتهن مدنيات، في سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والتحريم، والأحزاب.
تدور معاني القنوت في هذه المواضع، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عزوجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.
وعليه، فالقانت هو الخاشع، المطيع لله ورسوله، العابد، الراكع، المستكين له، الخاضع لأمره، الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.
والقنوت مرتبة عالية، لأنه يُذْكر بعد الإسلام، والإيمان، ولهذا فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها، وهو الإيمان، ثم القنوت ناشيء عنهما.
وهذا بيان تفصيلي، للمواضع التي جاء فيها لفظ القنوت، مع تفسير موجز لمعنى القنوت، في كل موضع، مع تصنيف الآيات موضوعياً:
الكون كله قانت لله:(9/187)
(وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) (البقرة :116)، (وله من في السموت والأرض كل له قانتون ) (الروم :26). ومعنى (قانتون) في الموضعين :أي مقرون بالعبودية، مطيعون، خاشعون لله خاضعون.
القنوت صفة الأنبياء:
كما جاء في ذلك في وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام :(إن إبراهيم كان أمة قانتاً ) (النحل: 120)، وقانتاً هنا، تعني: الخاشع، المطيع.
فضل القانتين وأهل القيام والتهجد:
(أمّن هوقانت ءانآء اليل ساجداً وقآئماً يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه ) (الزمر :9). وكلمة قانت هنا، تعني: الخشوع في الصلاة، والتهجد. (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238).
الأمر بالقنوت خطاباً لمريم عليها السلام:
(يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين ) (آل عمران :43). والقنوت هنا، بمعنى :طول الركوع في الصلاة، امتثالاً لأمر الله تعالى. وفي خطاب القرآن لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن: (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً ) (الأحزاب :31).
أي :تطع الله، ورسوله، وتستجيب.
ثم جاء في ذكر القنوت، على أنه صفة ملازمة، للمؤمنين، والمؤمنات: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ) (الأحزاب :35). أي :المطعين، والمطيعات، في سكون. (الصابرين والصادقين والقانتين ) (آل عمران :17)، أي: الطائعين ، الخاضعين. (فالصالحت قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله )(النساء :34)، أي :مطيعات لأزواجهن. (مسلمات مؤمناتٍ قانتت ٍ) (التحريم :5)، مطيعات.
(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم :12)، أي :من المطيعات.
ثالثاً: المعنى الاصطلاحي للقنوت
وقد ذهب ابن حجر العسقلاني إلى أن (القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة، في محل مخصوص من القيام) (8).
ومع أن المراد بالقنوت هنا، هو الدعاء في الصلاة، فإن هذا المعنى، يجمع المعاني الأخرى المرادة من القنوت، لأنه دعاء، في قيام، في صلاة، لا كلام فيها، إلا ذكر الله، في طاعة لله، وعبادة خالصة، خاشعة، وإقرار بالعبودية.
رابعاً :مشروعية القنوت، وخاصة قنوت النوازل، وضرورته في عصرنا هذا
والقنوت سنة نبوية، وخاصة عند النوازل الكثيرة، التي تحل بالأمة المسلمة، وهي تواجه الحرب، والحصار، والمقاطعة، والكيد، واستبداد قوى الطغيان، والاستكبار، من أعداء الله الظاهرين، والمستترين، ولا بد من بيان المقصود من النوازل، التي يشرع عندها القنوت.
النوازل في حياة المسلمين:
ومن يتأمل اليوم في حال المسلمين، ويهتم بأمرهم، ويتابع أخبارهم، ويسعى مع العاملين لإقامة الدين، يجد من النوازل ما يدعو المسلمين لدعاء القنوت، وهذا بيان ذلك:
(أ) حال المسلمين:
1- أغلبية، مغلوبة وأكثريات مقهورة.. وأقليات مهضومة.
2- العرب والمسلمون، مختلفون فيما بينهم، وبعضهم تبع للأجنبي، تماماً كما كان الغساسنة والمناذرة.. أو كما كان في اليرموك، يقاتل الروم المسلمين، بعدد مساوٍ لهم من العرب تبعاً..
3- بيت المقدس في أيدي اليهود، وأهل فلسطين مشردون، حرموا الأمن، حتى إنهم لُيقَتَّلون في مساجدهم.
4- المسلمون مستضعفون حيثما كانوا.. وقد اجتمعت كلمة الكفر على حربهم، واستلاب خيراتهم، وتداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، مخافة أن تعود دولة الإسلام، وتنتشر دعوته في العالمين، وتسود حضارته، وتزدهر على ضفاف النيل، والرافدين، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، والقرن الأفريقي، وقلب أفريقيا، فضلاً عن أوروبا، وأمريكا.
والمسلمون في البوسنة والهرسك، أُستبيحت نساؤهم، وشرد أطفالهم، وقتلوا تقتيلاً، على مرأى ومسمع من دول العالم. بل تآمرت دول الغرب، المدعين المسيحية، حتى تتم تصفيتهم، جسدياً وعرقياً، واستولى أعداء من الصرب والكروات، على معظم أراضيهم، ومنعهم مجلس الأمن الدولي، بقرار ظالم، من التسلح، ثم مُنع المسلمون من مساعدتهم، وأتيحت الفرصة لأعداهم الصرب والكروات، للقضاء عليهم نهائياً، حتى لا تقوم للإسلام قائمة في قلب أوروبا :(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) (الصف :8).
ثم كانت كارثة الشيشان، التي مكر فيها أعداء الله الروس بالمسلمين الشيشان، وسكت الغرب، وتآمرت جمعياته، المنسوبة للعفو، وحقوق الإنسان، وتواطأوا جميعاً، ومكروا مكراً كباراً، في محاولة منهم لتدمير تلك القوة الإسلامية، فأخلوا الطريق للروس، ليقوموا بتنفيذ خططهم في تدمير المباني والمعاني، وليس بالمسلمين اليوم، حيلة لنصرة إخوانهم، بل قد حيل بينهم وبين إخوانهم، بشتى العوائق، ومكر الليل والنهار. وما للمسلمين والحالة هذه، إلا أن يضرعوا إلى الله، قانتين في صلواتهم، ومناجاتهم لربهم، أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
والقنوت سبيلنا، لنصرة إخواننا المستضعفين، نصرهم الله، وأعلى لواءهم، وقهر أعداءهم.
5- المسلمون ممنوعون عن إقامة دينهم، والقيام بمقتضيات توحيد الله، والاتساق مع أنفسهم، في إقامة شعائر الله، وشرائعه:
(أ) في النظم التربوية، والتعليمية، والثقافية، والإعلامية، تبعاً وتقليداً للغرب، وتراثه الوثني، والمادي.
(ب) وشرع الله معطل، في المعاملات المالية.. فالربا المحرم، تقوم عليه مؤسسات، والغش، والغرر، والبيوع الفاسدة، تسود المعاملات المعاصرة.
(ج) والقوانين الجنائية، مستمدة من القوانين الوضعية، ذوات الأصول المادية، والمجوسية، والوثنية.
(د) وحدود الله معطلة.. ورغم مطالب المسلمين، فإن مؤسساتهم التشريعية مقهورة، بالعلمانية، والتدخلات الخارجية، حتى لا يتميز المسلمون في قوانينهم.
وليشوهوا صورة النظام الإسلامي، ويشوشوا عليه، يفترون على الله الكذب، ويقولون على الله مالا يعلمون، ويصفون الشريعة العادلة بما هي منه براء.
(ب) أهل الكفر مع المسلمين:
1- الكفار في تطاول، واستكبار، واستبداد، على خلق الله، واستضعاف، واستصغار، واستذلال للمسلمين..
2- جيوش الكفار، تعيث في الأرض الفساد..
3- وصنائعهم، وجيوبهم، مؤتمرة، تحارب بالسلاح جنود الرحمن..
4- ومن خلع رقبة الكفر عن عنقه، وطرح قوانينه، ونظمه، وعاد إلى الله، متوكلاً عليه، دارت عليه دوائر البغي، ومكروا عليه مكراً كباراً، وزوروا عليه، وافتروا الكذب، مستخدمين سيطرتهم على المؤسسات الدولية، والسياسية، والأمنية، والمالية، ومتخذين ستائر الرحمة، والإغاثة، والعدل، وحقوق الإنسان، لفرض الحصار الظالم، والمقاطعة الجائرة.
إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وعلى المفترين الظلمة، خزي، وندامة.. ودعوة المظلوم، ليس بينها وبين الله حجاب.
وعلى دعاة الحق، أن يوجهوا عداءهم، وبغضهم، إلى هؤلاء الأعداء، ثم إن على الدعاة إلى الله، أن يكونوا مخلصين لله، في القنوت، والدعاء، أن يتولاهم بالتأييد، والتمكين لدينه، وينصرهم على عدوهم.
خامساً :أحكام القنوت
1- مشروعية القنوت:(9/188)
القنوت، سنة مشروعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح، مستحب، بينما ذهب الشافعي إلى أنه سنة (9)، وقد أثبت الإمام البخاري، سنية القنوت، ومشروعيته في الصلاة، حين بَوَّب له في كتاب الوتر، من صحيحه، قال :(باب القنوت، قبل الركوع وبعده)، وقد علق على ذلك صاحب :(فتح الباري في شرح صحيح الإمام البخاري)، فقال :(أثبت بهذه الترجمة- أي عنوان الباب- مشروعية القنوت، إشارة إلى الرد على من روي عنه أنه بدعة، كابن عمر.. وفي الموطأ عنه، أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات، ووجه الرد عليه، ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرتفع عن درجة المباح) (10).
2- وقت القنوت:
(أ) صلا الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي (11) للحديث الصحيح فيه، عن أنس رضي الله عنه :(أن النبي صلى الله عليه سلم، قنت شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، فأما في الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)، وهو حديث صحيح، رواه جماعة من الحفاظ، وصححوه (12).
وقد احتج الشافعي على أن الصلاة الوسطى، الصبح، من حيث قرانها بالقنوت، في قوله تعالى :(حفظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة :238).
(ب) وذهب أبو حنيفة، وأحمد، إلى أن وقت القنوت، هو الوتر، في جميع السنة (13)، وقد نسب ابن قدامة هذا القول، لابن مسعود، وإبراهيم، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وأنه رواية عن الحسن (14) ..وفي رواية عن أحمد، أن وقته الوتر، في النصف الأخير من رمضان، وقاله ابن قدامه. وعن أحمد في رواية أخرى، أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وروي ذلك عن علي، وأبي، وبه قال ابن سيرين، وسعيد بن أبي الحسن، والزهري، ويحيى بن ثابت، ومالك، والشافعي، واختاره أبوبكر الأثرم، لما روي عن الحسن :(أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ركعة، ولا يقنت إلى في النصف الثاني) (15).
وعن ابن عمر :(أنه لا يقنت، إلا في النصف الأخير من رمضان). وعنه :لا يقنت في صلاة بحال (16).
3- مذاهب العلماء في القنوت في الصلوات الخمس:
(أ) في الصلوات الخمس، إن نزل بالمسلمين نازلة (وهو قول للشافعي) (17).
(ب) في الصلوات الخمس مطلقاً، كما قال قوم (18).
(ج) عدم القنوت مطلقاً، في غير صلاة الصبح (19).
والصحيح الذي قام عليه الدليل، من هدي النبوة، مشروعية قنوت النوازل، في الصلوات الخمس، ويكون الدعاء فيها جهراً، بعد الرفع من الركوع (20).
ويدل على القنوت، عند النوازل، في الصلوات الفرائض كلها، حديث ابن عباس، قال :(قنت الرسول صلى الله عليه وسلم، شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال :سمع الله لمن حمده، من الركعة الأخيرة : يدعو عليهم، على حي من بني سُلَيْم، وعلى رِعْلٍ، وذكوان، وعُصيَّة، ويُؤَمن من خلفه) (21).
4- القنوت في شهر رمضان:
(أ) يستحب القنوت، في النصف الأخير من شهر رمضان، وقيل في النصف الأول منه، في الركعة الأخيرة من الوتر (22)، وهو مذهب الشافعية.
(ب) أو في جميع رمضان، على قولٍ للشافعية.. ونسبه الإمام النووي، إلى الإمام مالك (23).
5- محل القنوت في صلاة الصبح:
(أ) قبل الركوع، في الركعة الأخيرة، وهذا مذهب مالك، وقد ذكر الشيخ أبو الحسن، صاحب :كفاية الطالب الرباني، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أن ظاهر كلام ابن أبى زيد القيرواني- أن القنوت- بعد الركوع أفضل، ونسب هذا القول إلى حبيب، وأن المشهور أن القنوت، قبل الركوع أفضل، لكونه أصح، وأضاف الشيخ علي الصعيدي، صاحب حاشية العدوي، أنه مع كونه أصح قبل الركوع، فلما فيه من الرفق بالمسبوق، ولأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه، بحضور الصحابة (24).
وروى محمد بن نصر، من طريق أخرى، عن حميد، عن أنس :(أول من فعل القنوت، قبل الركوع، أي دائماً، عثمان، لكي يدرك الناس الركعة).. وفي صحيح البخاري بلفظ :(سأل رجل أنساً، عن القنوت، بعد الركوع، أو عند الفراغ من القراءة؟ قال :لا، بل عند الفراغ من القراءة (25).
(ب) بعد الرفع من الركوع، وهو مذهب الشافعي (26).
وتحقيق المقال، في هذا الموضع، أن الأمر، واسع في كل القنوت، قبل الركوع، أم بعده، ويدل على ذلك، حديث ابن ماجه، عن أنس أنه سئل عن القنوت، فقال :(قبل الركوع، وبعده) (27) .. وقال ابن حجر العسقلاني :(إسناده قوي)- ومجموع ما جاء عن أنس بن مالك، في ذلك، يدل على أن القنوت، للحاجة، بعد الركوع، لا خلاف فيه عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح، أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة، في ذلك، والظاهر، أنه من الاختلاف المباح (28).
6- محل القنوت في الوتر:
في موضع القنوت في الوتر، أوجه:
(أ) أنه قبل الركوع، أي بعد القراءة، وقبل التكبير.
(ب) الصحيح المشهور، أنه بعد الركوع، ونص عليه الإمام الشافعي.
(ج) يتخير بينهما (29).
وذهب بعض الفقهاء، إلى أنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قنت في الوتر، إلا في حديث ابن ماجه، عن أُبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه سلم، كان يوتر، ويقنت قبل الركوع (30).
7- محل القنوت في النوازل:
بعد الرفع من الركوع جهراً (31).
وفي بيان الحكمة، من جعل القنوت في النوازل، بعد الرفع من الركوع جهراً، يقول ابن حجر العسقلاني:
وظهر لي، أن الحكمة في جعل قنوت النازلة، في الاعتدال، دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت :(أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه :أن المطلوب من قنوت النازلة، أن يشارك المأموم الإمام، في الدعاء، ولو بالتأمين، ومن ثم، اتفقوا على أنه يجهر به، خلاف القنوت، في الصبح، فاختلف في محله، وفي الجهر به (32).
سادساً :ألفاظ القنوت
اختلف الأئمة فيما يقنت به:
(أ) فاستحب مالك القنوت بـ : (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونتوب إليك، ونخنع لك، ونخلع ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى، ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكافرين ملحق).
(ب) وقال الشافعي، وإسحق، بل يقنت بـ : (اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، تباركت ربنا، وتعاليت) (33)، وهذا يرويه الحسن بن علي، من طرق ثابتة، أن النبي عليه الصلاة والسلام، علمه هذا الدعاء، يقنت به في الصلاة (34).
(ج) قال النووي :فالاختيار، أن يقول فيه ما رويناه، في الحديث الصحيح :(اللهم إهدنا فيمن هديت...) قال أصحابنا :وإن قنت بما جاء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان حسناً، وهو أنه قنت في الصبح، بعد الركوع، فقال :(اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك...) (35).
(د) وقال قوم :ليس في القنوت شيء، موقوت، لأنه دعاء، وأهم ما يراعى فيه، الإخلاص في الدعاء (36).
حكم الجمع بين أدعية القنوت:
ويجوز الجمع بين هذه الأدعية، الواردة في القنوت، وغيرها، مع اختيار جوامع الدعاء، والإخلاص، ومراعاة الاعتدال في الدعاء، ومناسبته، للمقام، وحال المصلين.
وقال النووي :ويجوز، بل يستحب، مع النشاط، الجمع بين أدعية القنوت (37).
ما يجزئ من القنوت:
والدعاء في القنوت، واسع، غير مقيد بنص معين، من أدعية القنوت الواردة، بل كل دعاء من أدعية القرآن، أو السنة، أو مطلق الدعاء، وافٍ بالمطلوب.
من أدعية القنوت:
وقد تعددت صيغ القنوت، في السنة النبوية، ومن ذلك:
1- الدعاء الأول:(9/189)
(اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، وتباركت ربنا وتعاليت)، رواه الترمذي، وقال :حديث حسن.. ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، في القنوت شيئاً، أحسن من هذا.
وفي رواية ذكرها البيهقي، أن محمد بن الحنفية- وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال :إن هذا الدعاء الذي كان أبي يدعو به، في صلاة الفجر، في قنوته.
قال النووي(38) :ويستحب أن يقول، عقب هذا الدعاء :(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم).. فقد جاءت رواية النسائي، في هذا الحديث، بإسناد حسن: (وصلى الله على النبي) (39).
2- الدعاء الثاني:
(اللهم، إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع، ونترك من يفجرك، اللهم، إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى، ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. اللهم، عذّب الكفرة (40)، الذي يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم، اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان، والحكمة، وثبتهم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك، الذي عاهدتم عليه، وانصرهم على عدوك، وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم (41).
3- الدعاء الثالث :دعاء قنوت النوازل.
وهذا أنموذج لما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، في قنوت النوازل، يدعو فيها على أعدائه الذين يصدون عن سبيل الله، ويقاتلون أولياءه، أو يدعو للمستضعفين من المؤمنين، مع الدعاء على الكفار:
1- عن ابن عمر، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الآخرة من الفجر، يقول :(اللهم، العن فلاناً وفلاناً، بعدما يقول : سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل الله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) إلى قوله تعالى :(فإنهم ظلمون ) (آل عمران :128) (42). وفي الحديث، دليل مشروعية الجهر بالقنوت.
2- عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال، إذا قال :سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد (اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف)، قال يجهر بذلك ويقول في صلاة الفجر :(اللهم العن فلاناً وفلاناً)، حيين من أحياء العرب، حتى أنزل الله تعالى :(ليس لك من الأمر شيء ) (آل عمران :128) (43).
وفيه نص الراوي على أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد جهر. ودلالة ذلك واضحة، في أنه لا يجوز أن يكون القنوت سباباً، أو لعناً، وخاصة إذا كان مع المخالفين في الرأي، من أهل القبلة. ولاشك، أن ذلك هدي كتاب ربنا تعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
4- الدعاء الرابع :نموذج من جوامع الدعاء، في قنوت النوازل، ليختار منها، ما يوافق الحال، والنشاط.
* اللهم، إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
* اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عنا.
* اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال.
* اللهم اجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.
* اللهم ارزقنا الإخلاص في العمل، والتوفيق لما ترضى، والقبول عندك.
* اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو، فاعف عنا.
* اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
* اللهم العن الكفرة، الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك.
* اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك، الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
* ونج اللهم المستضعفين من المسلمين، وانصر المجاهدين، في مشارق الأرض ومغاربها.
* اللهم احفظنا، وانصرنا، ودعوتنا وأمتنا.. ومكن دينك الذي ارتضيت، وأيد اللهم جنودنا، وثبت أقدامهم، وسدد رميتهم، واشرح صدورهم، وأذهب غيظ قلوبهم، وانصرهم نصرك المؤزر المبين، على عدوك وعدوهم، واكفنا شر أعدائنا، من الساعين بالفتنة، والباغين للبرآء العيب، والمحادين الله، ورسوله، والمؤمنين.
* اللهم اكفنا شرهم بما شئت، وكيفما شئت، إنك على ما تشاء قدير.
* اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم.
* اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وارفع عنا الغلاء، والوباء، وما لا يكشفه عنا غيرك.
* اللهم بارك لنا في زرعنا، وضرعنا، وأرضنا، واجعل سائر بلادنا سخاءً، رخاءً، وأماناً، وسلاماً، وارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، وارحم أمتنا رحمة من لدنك خاصة، وقها شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واهد اللهم ولاة أمورنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد، واهدهم إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وأعنهم في دينهم، ودنياهم، وآخرتهم، وقهم شر من حولهم، وارزقهم بطانة الخير، التي تأمرهم بالمعروف، وتحضهم عليه، وجنبهم بطانة السوء، وانشر اللهم في بلادنا لواء العدل والإحسان، وألف بين قلوب عبادك يا كريم.
سابعاً :آداب وأحكام
1- صيغة دعاء القنوت:
(أ) يستحب أن يدعو الإمام بصيغة الجماعة.
(ب) ويكره أن يخص نفسه بالدعاء، لما في سنن أبي داود، والترمذي، عن ثوبان رضي الله عنه، قال :قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :(لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم ) (44).
2- رفع اليدين في دعاء القنوت:
يستجيب رفع اليدين في دعاء القنوت (45)، لما صح عن أنس، رضي الله عنه، في قصة القرَّاء، الذين قُتلوا رضي الله تعالى عنهم، قال :(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما صلى الغداة يرفع يديه، يدعو عليهم، يعني على الذين قتلوهم)، قال البيهقي :ولأن عدداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، رفعوا أيديهم في القنوت. ثم روي عن أبي رافع، قال :(صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء).
وفي مسح الوجه باليدين، قولان، ونسب النووي إلى البيهقي، أن الصحيح عدم المسح، لأنه لم يحفظ فيه شيء عن أحد من السلف، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر، ولا أثر، ولا قياس (46).
3- تأمين المأمومين:
ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه)، ويستحب له أن يشاركه في الثناء، لأنه لا يصح التأمين على ذلك، فكانت المشاركة أولى (47).
4- القنوت بين الإجهار والإسرار:
(أ) قال الشافعية :إن كان المصلي منفرداً، أسر به، وهكذا، إن كان مأموماً، ولم يجهر الإمام، قنت المأموم سراً، كسائر الدعوات، فإنه يوافق فيها الإمام سراً.
(ب) وإن كان إماماً، جهر، على المذهب الصحيح المختار، الذي ذهب إليه الأكثرون.
(ج) وقيل :يسر، كسائر الدعوات في الصلاة.
(د) إن جهر صلاة الإمام بالقنوت، فإن كان المأموم يسمعه، أمن على دعائه، وشاركه في الثناء في آخره، وإن كان لا يسمعه قنت سراً.
(هـ) في غير صلاة الصبح، إذا قنت، فالمغرب، والعشاء كالصبح.(9/190)
(و) والجهر بالقنوت في جميع الصلوات، مسنود بسنة صحيحة، ففي صحيح البخاري في باب تفسير قول الله تعالى : (ليس لك من الأمر شئ ) (آل عمران :128)، عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم، جهر بالقنوت في قنوت النازلة).
5- القنوت بين الترك والاستمرار:
ولا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من ترك الدعاء، واللعن على الكفار، في قنوت النوازل، بعد، ما نزل قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ ).
ويدل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه سلم، مما أخرجه الإمام البخاري عن أبي هريرة، أن رسول صلى الله عليه سلم، قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته:
(اللهم انج الوليد بن الوليد)
(اللهم انج سلمة بن هشام)
(اللهم انج عياش بن ربيعة)
(اللهم انج المستضعفين من المؤمنين)
(اللهم اشدد وطأتك على مضر)
(اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف).
قال أبو هريرة :وأصبح ذات يوم، فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له، فقال :(أو ما تراهم قد قدموا) (48).
يقول الإمام النووي، في تأييد هذا المذهب :أما الجواب عن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، في قوله :(ثم تركه)، فالمراد ترك الدعاء على أولئك الكفار، ولعنتهم فقط، لا ترك جميع القنوت، أو ترك القنوت في غير الصبح.. وهذا التأويل متعين، لأن حديث أنس، في قوله :(لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)، صحيح صريح، يجب الجمع بينهما. هذا الذي ذكرناه متعين للجمع، وقد روى البيهقي، بإسناده، عن عبدالرحمن بن مهدي الإمام، أنه قال :إنما ترك اللعن، ويوضح هذا التأويل، رواية أبي هريرة السابقة، وهي قوله:( ثم ترك الدعاء لهم).
والجواب عن حديث سعد بن طارق، أن رواية الذين أثبتوا القنوت، روي عنهم زيادة علم، وهم أكثر، فوجب، تقديمهم... (49).
6- رأي المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح:
والمنكرون للقنوت في صلاة الصبح، على سبيل الالتزام المستمر، يذكرون أنه كان قنوت النوازل، أو يؤولونه بمعنى من معاني القنوت، وهو هنا، طول القيام بعد الركوع، ولم يكن طول القيام، مجرد سكوت، بل كان فيه الدعاء والثناء. والمراد بالدعاء هنا، مطلق الدعاء،لا دعاء القنوت المحفوظ. بل كان فيه الثناء على الله تعالى، وتمجيده والدعاء.. وقد انتصر لهذا الرأي، ابن قيم الجوزية، وتبعه الشوكاني، فأيده في عدم الاستمرار في قنوت الصبح، وأنه مختص بالنوازل في الصلوات كلها، دون تخصيص (50).
7- الإنصاف والاعتدال في التزام القنوت في صلاة الصبح:
ومع أن ابن القيم قد وقف مع المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح، لكنه وقف موقف الاعتدال، والإنصاف، من مخالفيه في الرأي، حين لخص الهدي النبوي في القنوت فقال: (51)
والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وقنت، وترك، وكان إسراره أكثر من جهره. وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل، للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاءوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس (52).
ثم خلص في بيان الهدي النبوي في القنوت، حيث قال: وكان هديه، القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها، لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السحر وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة، التي شهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار (53).
8- سعة الهدي النبوي في القنوت، فعلاً وتركاً:
الأمر في القنوت، واسع أيضاً، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق بيان ذلك في الأدلة، مع عرضنا لأقوال الفقهاء، والمجتهدين، وقد أحسن صاحب (زاد المعاد في هدي خير العباد)، حيث مدح الفقهاء من أهل الحديث، بأنهم أسعد بالهدي النبوي، من حيث أنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه.
ويقولون :فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من دوام عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على ما أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعه، ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن (54).
ولعل هذا التسامح، هو الأقرب لسنة من وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، في قوله تعالى :(لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128)، من نجاه ربه، من أن يكون فظاً غليظ القلب، حاشاه، بل كان خلقه القرآن، يعفو، ويصفح، ويستغفر لأمته، ويشاورهم في الأمر، فإذا عزم على إمضائه، فإنه يتوكل على الله تعالى، قال تعالى :(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران :159).
الخلاصة
* وهي إيجاز ما انتهت إليه هذه الدراسة، في القنوت، وأحكامه، وآدابه، وهو اختيارنا، ولا بد من الرجوع لما فصلته من أحكام قنوت النوازل، وخاصة ذكر دواعيه، في حياتنا المعاصرة اليوم، في وجه التحديات القائمة، والأخطار.. وإنه لمن النوازل حقاً، عدم اعتبار المسلمين لذلك، وعدم انتباههم، ومعرفتهم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، يستدعي قراءة النوازل كما في فصل هذا الفصل.
* تدور معاني القنوت، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عزوجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.. وعليه، فالقانت هو الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.
* والقنوت، سنة مشروعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب، فيما ذهب الشافعي إلى أنه سنة. وقد أثبت الإمام البخاري سنية القنوت، ومشروعيه في الصلاة، حين بوب له في كتاب الوتر، من صحيحه، قال :(باب القنوت قبل الركوع، وبعده)، وقد علق على ذلك صاحب (فتح الباري) فقال :أثبت بهذه الترجمة- أي عنوان الباب- مشروعية القنوت، إشارة إلى الرد على من روي عنه، أنه بدعة كابن عمر.
* وقت القنوت:
في صلاة الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي، للحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه :(أن النبي صلى الله عليه وسلم، قنت شهراً، يدعو عليهم، ثم ترك، فأما في الصبح، فلم يزل يقنت، حتى فارق الدنيا).
وذهب أبو حنيفة، وأحمد، إلى أن وقت القنوت، هو الوتر في جميع السنة..وفي رواية عن أحمد، أن وقته الوتر، في النصف الأخير من رمضان.. والصحيح الذي قام عليه الدليل من هدى النبوة، مشروعية قنوت النوازل، في الصلوات الخمس، ويكون الدعاء فيه جهراً، بعد الرفع من الركوع.
* محل القنوت في صلاة الصبح:
قبل الركوع، في الركعة الأخيرة، وهذا مذهب مالك.. قال الشيخ على الصعيدي، صاحب حاشية العدوي :إنه مع كونه أصح قبل الركوع، لما فيه من الرفق بالمسبوق، لأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه، بحضور الصحابة، وماجاء عن أنس في ذلك، يدل على أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف فيه عنه، وأما لغير الحاجة، فالصحيح أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح.(9/191)
* محل القنوت في النوازل:
بعد الرفع من الركوع، جهراً، وفي بيان الحكمة من جعل القنوت في النوازل بعد الرفع من الركوع جهراً، يقول ابن حجر العسقلاني :(وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة، في الاعتدال، دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه، أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام، ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به، بخلاف القنوت في الصبح، فاختلف في محله، وفي الجهر به.
* يجوز الجمع بين الأدعية الواردة في القنوت، وغيرها، مع اختيار جوامع الدعاء، والإخلاص، ومراعاة الاعتدال في الدعاء، ومناسبته للقيام، وحال المصلين.
* يستحب رفع اليدين، في دعاء القنوت، ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه).
* لا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من أنه ترك الدعاء على الكفار، ولعنهم في قنوت النوازل، لنزول قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ )، كما نجد ذلك في نص الحديث.
* الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وترك، وقنت، وكان إسراره أكثر من جهره.
* الأمر في القنوت، واسع، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق ذلك مع الأدلة، وبيان آراء الفقهاء.
نسأل الله تعالى أن يتقبلنا وقراء هذا الفصل، والمسلمين كافة، وأن يوفقنا أجمعين لما يحب، ويرضى، وأن يجعلنا من عباد الله المخلصين، القانتين، الخاشعين، المطيعين، العابدين، الراكعين، الساجدين، المسبحين، المفتقرين إليه جل جلاله، والمفوضين أمرنا كله إليه تعالى، كما نسأله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يزيدنا علماً. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
وصلى الله تبارك وتعالى، وسلم تسليماً كثيراً، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
=============
تطبيق الشريعة وأثره في إصلاح المجتمع
وتتناول هذه الدراسة، الشريعة، وأثر تطبيقها في استقرار المجتمع، وإصلاحه، فنبين أولاً، معنى الدين، وأنه يشمل جميع علاقات الحياة الدنيا، والآخرة، من العبودية لله تعالى وطاعته، والاستسلام لأمره، والتزام الصراط المستقيم، والاحتكام لشرع الله، وانفاذ أحكام القوانين الإسلامية، في شؤون الحياة، كلها، الأسرية، والمدنية، والجنائية، حتى يكون الدين كله لله تعالى،مع بيان معنى الشريعة، وأنها ما شرع الله لعباده من الدين، وشمولها للعقيدة، والشعائر، والشرائع- خلافاً للفهم المتأخر، من أنها القوانين، وربما الحدَّية منها خاصة- ثم نتناول معنى الحدود، لغة، واصطلاحاً، والتطور الدلالي لها، مع بيان أثر إقامة الحدود، وتطبيق الشريعة الإسلامية، عامة، في إصلاح المجتمع، عقيدياً، وأخلاقياً، واقتصادياً، وأمنياً،وبركة في الحياة، وتجاوباً شعبياً، وما يحققه انفاذ كل حد من مصالح للأفراد، والجماعات، وما يؤدي إليه ذلك، من إصلاح المجتمع، واستقراره..
كما تتناول أيضاً، أثر التوبة، في رفع الحدود، وإسقاط العقوبة، لفتح باب الأمل في رحمة الله للتوابين المتطهرين:(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (البقرة:222). وخُتمت الدراسة، ببيان خصائص الشريعة الإسلامية.
من معاني..(الدِّين)
الدَّيان:من صفات الله، عزوجل، ومعناها :الحكم القاضي.. والديان :القهار، وهو فعال، من دان الناس، أي قهرهم على الطاعة، يقال :دنتهم فدانوا :أي قهرهم فأطاعوا.
وفي حديث أبي طالب، قال له عليه الصلاة والسلام :(أريد منهم- أي من قريش- كلمة واحدة تدين لهم العرب) (1)، أي تطيعهم، وتخضع لهم.
الدين :الجزاء، والمكافأة، ويوم الدين، يوم الجزاء، وفي المثل :كما تدين تدان، أي كما تجازى، تُجازى. وقوله تعالى :(أءنا لمدينون ) (الصافات :53)، أي :لمجزيون، محاسبون، ومنه الدَّيان، في صفة الله عزوجل.
الدين :الحساب، ومنه قوله تعالى :(ملك يوم الدين ) (الفاتحة:3)، وقيل :معناه، مالك يوم الجزاء.
والدين :الطاعة، وقد دنته ودنت له، أي أطعته، يقال :دان بكذا، ديانة، وتدين به، فهو ديِّن، ومتدين.
والدين هو الإسلام، وقد دنت به.
والدين :العادة، والشأن، لقول العرب :ما زال ذلك ديني، وديدني، أي عادتي، وفي الحديث :(الكًيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله ) (2).
قال أبو عبيدة :(دان نفسه، أي أذلها، واستبعدها، وقبل حسابها)
وفي التنزيل العزيز :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف :76)، قال قتادة :في قضاء الملك، أي الأغراض.. دان الرجل، إذا عز.. ودان، إذا أطاع.. ودان إذا عصى.. ودان إذا اعتاد، خيراً أو شراً...ودان إذا أصابه الدين، وهو داء.
وقوله تعالى :(أَءِنَّا لَمَدِينُون َ) (الصافات :53) أي مملوكون. وقوله تعالى :(فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) (الواقعة :86)، قال الفراء :غير مدينين، أي مملوكين، قال :سمعت غير مجزين.
ودنته، أدينه، ديناً :سسته.. ودنته، ملكته.. ودينته القوم :وليته سياستهم.
الدين :يتدين به الرجل.
الدين:السلطان.
الدين :الورع.
الدين :القهر.
الدين :المعصية.
الدين :الطاعة (3).
معاني الدين في لغة القرآن الكريم
ترد كلمة الدين، في آيات القرآن الكريم، على وجوه من المعاني المتعددة، تفهم بحسب ورودها، في سياق المعاني المرادة في مواضعها من تلك الآيات، وقد تناول الحكيم الترمذي هذه المعاني بالدراسة، والتحليل في كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، فقال :وأما قوله تعالى :(الدين) على كذا وجه :فالدين هو الخضوع، يقال :دان له، أي خضع له، مشتق من الدون، وكل شيء، دون شيء فهو له خاضع، فخلق الآدمي، والكبر فيه، وراثة من صلابة الأرض وقوتها، واقتضاهم أن يدينوا له، أي يخضعوا له، ويخضعوا لعظمته.
فالخضوع، والخشوع، مبتدأ من القلب إلى الأركان، حتى يظهر على الأركان بالائتمار بأمره، والتناهي عن نهيه، والقبول لأحكامه، والانقياد له.
1- شهادة ألا إله إلا الله :وإنما صار الدين في هذا المكان، شهادة ألا إله إلا الله (4)، لأن الموحد لا يشهد بهذه الشهادة، إلا بعد خضوعه لله، وسقوطه بين يديه تذللاً، وتسليماً لرقبته.
2- الحساب :وإنما صار الدين (الحساب) (5) في مكان آخر، لأنه إذا جاء الحساب، دان العبد، فلم يقدر أن يجحد، فإن جحد نطقت الجوارح، فالحساب من الله، مطالبته ما وجب له على العبد، فيما عهد إليه، وفيما قلده، وفيما ضمن العبد، فيطالبه بالوفاء لذلك.. فذاك كله خضوع، يحل بالعبد.
3- حكم الله وقضاؤه :وإنما صار الدين، حكم الله وقضاءه في مكان آخر :لأنه إذا حل بالعبد حكمه وقضاؤه، دان العبد له.
4- حكم الملك الذي حبس يوسف عليه السلام :وإنما صار الدين حكم الملك (6)، الذي حبس يوسف عليه السلام، لما وضحنا أن الدين :الخضوع عند الحكم.(9/192)
5- الإخلاص، والإسلام، والإيمان :وإنما صار الدين الإخلاص، والإسلام، والإيمان (7)، :فإنما أسلم المسلم، وأشرك المشرك، خضوعاً لله، وللوثن، ليقربه إلى الله زلفى، لذلك وصف الله في تنزيله عز شأنه فقال :(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر :3) وإنما سمي شرك المشرك، وكفره، ديناً، لأنه اتخذ إلها من دونه، فخضع له، فقال :(لكم دينكم ولي دين) (الكافرون :6)، أي لكم خضوعكم لمن خضعتم له، ولي خضوعي لمن خضعت له (8).
معنى الدين في الاصطلاح:
والدين بمعناه الاصطلاحي، شامل لمعانيه الواردة في لغة القرآن الكريم، من أنه الحساب، والجزاء، والمكافأة، وبمعنى الطاعة، والخضوع، والانقياد لأمر الله عزوجل، وبمعنى الحكم، والقضاء، والقانون الجنائي، والحدود خاصة، وهذا المعنى الأخير بحاجة إلى بيان، لكثرة الشبه، التي آثارها عليه الغزو الأجنبي، وما تبعه من نظم الحكم العلمانية.
وقد جاء بهذا المعنى في قوله تعالى :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف : 76)، أي في سطانه، وحكمه، وقضائه.. أما في سورة النور فقد جاءت الآية :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ) (النور :2)، في إشارة خاصة إلى الحدود، وهي جزء من أحكام القوانين الجنائية، التي يختص بالحكم فيها الحاكم، أو من أنابه عنه.
ويلزم من ذلك، وجوب إقامة الدولة الإسلامية، والحكم بالشريعة الإسلامية، مع ما يتبع ذلك من فقه سياسة الأمة، وسيادة الدولة.
معنى .. (الشريعة)
أولاً :معنى الشريعة في اللغة العربية:
الشِّرعة، والشريعة، في كلام العرب: مَشْرَعُة الماء، وهي موردُ الشاربة، التي يُشْرَعُها الناس، فيشربون منها، ويستقون.. والعرب لا تسميها شريعة، حتى يكون الماء عداً، لاانقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً، لا يُسقى بالرَّشاء.. كما ترد كلمة (شرع) بمعنى أظهر، وشرع فلان، إذا أظهر الحق، وقمع الباطل.
والشريعة :العادة، وهذا شرعة ذلك، أي مثاله.. والشارع، الطريق الأعظم، الذي يَشْرَعُ فيه الناس عامة .وأشرع الشيء :رفعه جداً، وحيتانُُ شُرُوعُُ :رافعة رؤوسها (9).
ثانياً :معنى الشريعة كما وردت في القرآن الكريم:
(أ) يقول الله تعالى :(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه ). (الشورى :13)، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية :شرع لكم من الدين، ما شرع لقوم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم بين ذلك بقوله تعالى :(أن أقيموا الدين )، وهو توحيد الله، وطاعته، والإيمان برسله، وكتبه، وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً.. ولم يرد المصالح، التي هي مصالح الأمم، على أحسن أحوالها، فإنها مختلفة، متفاوتة. قال تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (المائدة :48). ويتابع القرطبي تفسير هذه الآية، مسنداً ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، أنه قال :ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور :(ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض…..) (10).
وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال، لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، إنما كان نبياً على بعض الأمور، واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة، والبقاء، واستقر المدى، إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات.. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحداً بعد واحداً، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المعنى :أوحيناك يا محمد، ونوحاً، ديناً واحداً، يعني الأصول، التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي :التوحيد، والصلاة، والزكاة، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب، والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والأذية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوانات، كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع، ديناً واحداً، وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذكر قوله تعالى :(أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى :13)، أي اجعلوه قائماً، يريد دائماً، مستمراً، محفوظاً، مستقراً، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب، فمن الخلق من وفي بذلك، ومنهم من نكث :(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) (الفتح :10) .. واختلف الشرائع وراء هذه، في معان حسبما أراده الله، فما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة، وَضَعَهُ في الأزمنة على الأمم (11).
(ب) (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون ) (الجاثية :18)، فالشريعة، من شرع الله لعباده، من الدين، والجمع :الشرائع.. والشرائع في الدين، المذاهب، التي شرعها الله لخلقه. فمعنى :(جعلناك على شريعةٍ من الأمر )، أي على منهاج واضح من أمر الدين، يشرع بك إلى الحق.
قال ابن العربي :والأمر يرد في اللغة بمعنيين، أحدهما بمعنى الشأن، كقوله :(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيدٍ ) (هود:97).. والثاني أحد أقسام الكلام، الذي يقابله النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً ها هنا، وتقديره :ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى :(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) (النحل :123). ولاخلاف في أن الله تعالى، لم يغاير بين الشرائع في التوحيد، والمكارم، والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع، حسبما علمه سبحانه (12). قال ابن عباس :(على شريعة)، أي هدى من الأمر.
وقال قتادة :الشريعة :الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض.
وقال مقاتل :البينة، لأنها طريق إلى الحق.
وقال الكلبي :السنة، لأنه يستند بطريقة من قبله من الأنبياء.
وقال ابن دريد :الدين، لأنه طريق النجاة.
ج- وفي تفسير قوله تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ً) (المائدة :48) يذهب الإمام القرطبي، إلى دلالة هذه الآية :(على عدم التعليق بشرائع الأولين)، وأن (الشريعة، الطريقة الظاهرة، التي يتوصل بها إلى النجاة).. والمنهاج: الطريق المستمر، وهو المنهج.. والمنهج، أي البين، وروى ابن عباس، والحسن، وغيرهما :(شرعةً ومنهاجاً)، سنة، وسبيلاً.. ومعنى الآية :أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله.
وهذا في الشرائع والعبادات.. والأصل، والتوحيد، لا اختلاف فيه. روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد :الشرعة، والمنهاج، دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه (13).
الخلاصة في بيان معنى الشريعة:(9/193)
والخلاصة، أن هذه الآيات، وما سبق في تفسيرها، تدل على شمول معنى الشريعة، لكل ما جاء به الدين، من مباحث الإيمان، وفقه أركان الإيمان، والإسلام، والأسرة، ووجوب الحكم بما شرع الله، حتى يهتدي الناس بذلك في شؤون حياتهم كلها، في الاعتقاد، والشعائر التعبدية، والشرائع، التي تنظم حياة المجتمع، في قوانين الأخلاق، والآداب، والمعاملات المدنية، والجنائية، التي تشمل الأحكام الحدية والتعزيرية. ثم أن الله قد أغنى المسلمين، بما شرعة في دين الإسلام، عن متابعة ما لدى الملل الأخرى، أو النظم الغربية، أو الشرقية.
وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، يعني الحكم بما أنزل الله، وهو واجب ديناً، قال تعالى :(وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة :49).. (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون ) (المائدة :50).. (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (نساء:58).. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...) (النحل :90).. (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ً) (النساء:65).
وأخيراً، فإنه لا سبيل لتحقيق العدل، والإحسان، وأداء الأمانات، إلا بتحكيم الشريعة، والتسليم الكامل لذلك. ثم إنه لا خيار لمسلم، يؤمن بالله، واليوم الآخر، إلا في هذا الاحتكام لشرع الله، وطاعه الله، ورسوله :(وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب :36).
الحد.. في اللغة.. والاصطلاح
أولاً :معنى كلمة (حد) في اللغة:
الحد مفرد، وجمعه حدود، وترد كلمة الحد، في اللغة العربية، على عدة معان:
1- بمعنى الفصل بين الشيئين :لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر.. ومنتهى كل شيء حده، ومنه حدود الأرضين، وحدود الحرم.
2- بمعنى التمييز :وحَّددَه :ميزه، وحد كلٍّ، منتهاه، لأنه يرده، ويمنعه عن التمادي.
3- بمعنى المنع :وحد الرجل عن الأمر، يحده حداً :منعه، وحبسه، تقول :حددت فلاناً عن الشر، أي منعته.
4- بمعنى المخالفة، والمعادة، والمحادة :المعادة، والمخالفة، والمنازعة، وهو مفاعلة من الحد، كأن كل واحد منهما يجاوز حده إلى الآخر.
5- بمعنى الحلال، والحرام :
وحدود الله تعالى، التي بين تحريمها، وتحليلها، وأمر ألا يُتعدى شيء منها، فيتجاوز إلى غير ما أُمر فيها، أو نهي عنه منها، ومنع من مخالفتها، قال الأزهري :فحدود الله عزوجل ضربان:
ضرب منها :حدود حدها الناس، في مطاعمهم، ومشاربهم، ومناكحهم، وغيرها، مما أحل وحرم، وأمر بالانتهاء عما نهى عنه منها، ونهى عن تعديها.
والضرب الثاني :عقوبات، بأن جعلت لمن ارتكب ما نهي الله عنه، كحقد السرقة، وكحد القاذف، لأنها تحد، أي تمنع من إتيان ما جعلت عقوبات فيها.
وسميت الأولى حدوداً، لأنها نهايات، نهي الله عن تعديها.
قال ابن الأثير :فكأن حدود الشرع، فصلت بين الحلال، والحرام، فمنها ما لا يقرب، كالفواحش المحرمة، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تقربوها ) (البقرة :187)، ومنها ما لا يتعدى، كالمواريث المعينة، وتزوج الأربع، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تعتدوها ) (البقرة :229).
ومنها الحديث- في قول ماعز)- إني أصبت حداً فأقمه علي، أي أصبت ذنباً، أوجب علي حداً، أي عقوبة (14).
وفي حديث أبي العالية، أن اللمم- الوارد في الآية :(إلا اللمم ) (النجم :32) - ما بين الحدين، حد الدنيا، وحد الآخرة، يريد بحد الدنيا :ما تجب فيه الحدود المكتوبة، كالسرقة، والزنا، والقذف. ويريد بحد الآخرة :ما توعد الله تعالى عليه العذاب، كالقتل، وعقوق الوالدين، وأكل الربا.. فأراد أن اللمم من الذنوب، ما كان بين هذين، فيما لم يوجب عليه حداً في الدنيا، ولا تعذيباً في الآخرة.
ثانياً :معنى الحد في الاصطلاح:
الحد، عقوبة مقدرة لأجل حق الله، فيخرج التعزير، لعدم تقديره، أو القصاص، لأنه حق آدمي (15).
وسميت عقوبات المعاصي، حدوداً، لأنها تمنع العاصي، من العود إلى تلك المعصية، التي حد لأجلها، في الغالب (16).
قال ابن حجر العسقلاني :وقد حصر بعض العلماء، ما قيل بوجوب الحد به، في سبعة عشر شيئاً، فمن المتفق عليه :الردة، والحرابة- ولم يتب قبل القدرة عليه-، والزنا، والقذف، وشرب الخمر- سواء أسكر أم لا -والسرقة (17).
وقد ذهب ابن رشد، إلى إطلاق كلمة الحد، على كل العقوبات المقدرة، في الكتاب والسنة، حيث يقول :(الجنايات، التي لها حدود مشروعة، جنايات على الأبدان، والنفوس، والأعضاء، وهي المسماة، قتلاً، وجرماً.. وجنايات على الزوج، وهي المسماة، زنا، وسفاحاً، وجنايات على الأموال...) (18).
هذا، ويتبين مما سبق، أن الحدود كانت تطلق بتوسع، حتى بلغ بعض الفقهاء، بمعناها الاصطلاحي، ما أشار إليه ابن حجر العسقلاني، في قوله المتقدم.. أما جمهور الفقهاء، فقد اتفقوا على الحدود الخمسة التالية :السرقة، والحرابة، والزنا، والقذف، والخمر، واختلفوا فيما سواها.
العقوبات الحدية :
وهي سبع عقوبات:
1- الجلد، ودليله:
(أ) قوله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ٍ) (النور :2).
(ب) وقوله تعالى :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شاهدةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).
(ج) لما صح في السنة، من جلد شارب الخمر، وهكذا فعل الخلفاء الراشدون.
2- القطع :
ودليله، قول الله تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38).
3- القتل.
4- الصلب.
5- القطع من خلاف.
6- النفي.
ويدل على ذلك قوله تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلُوا أو يُصلّبُوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم 33 إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله عفور رحيم ) (المائدة :33-34).
7- الرجم، وقد ثبت بالسنة النبوية الصحيحة.
أثر إقامة الحدود في إصلاح المجتمع
(أ) عقدياً :سلامة الاعتقاد، واتساق المسلم مع نفسه، بتحكيم الشريعة، وحفظ الدين، وصيانته في وجه المرتدين، الخارجين عليه، المحادين لله، ورسوله.
(ب) أخلاقياً :الاستقامة، والعفاف، والطهر، وحسن المظهر العام، وتعليم الأمة أفرداً، وجماعات، وتربيتها على حب الفضيلة، وكراهية الرذيلة، وبغض أهلها، وشهود ما يجري عليهم، من إقامة الحد :(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)، مقارنة بما في العالم الغربي، من جرائم متكاثرة، ربما رأوها معيار حضارة، وتقدم، قياساً على مقدار ما يستهلكونه، من طاقة كهربائية.
يضاف إلى ذلك :استقرار الأسر، وحمايتها من التشرد، وحفظ الأعراض، وصيانة الأنساب، وطهارة المجتمع، وسد أبواب الفساد، والفحش، والبذاءة، والتبذير، وإفساد العقول، ورعاية مصلحة المجتمع في ذلك كله، وإن وقع الضرر في ذلك على أفراد معينين.
(ج) اقتصادياً :حفظ المال، وتنميته، وحماية الملكية، وإعلاء العمل، وحسن استثمار الوقت.
(د) أمنياً :الأمن على النفس، والعرض، وفي الممتلكات، لأن السرقة عدوان على الملكية، والحرز، وما يتحقق من أمن اجتماعي، بإقامة الشريعة.(9/194)
(هـ) التجاوب الشعبي :لأن الشعب، يدرك بفطرته، أنه تتجلى آية كمال الإيمان، ومنتهى الصدق، في توجه الدولة إلى الله، بإقامة الحاكم لشرع الله، مع العناية بتنفيذ الحدود، لأن في ذلك مباينة تامة، ومفارقة كاملة، للقوانين الوضعية.. وفي سبيل ذلك، يبايع الحاكم، إماماً للمسلمين، وتبذل له الطاعة الخالصة، ويجاهد وراءه، ويتحمل الشعب المعاناه في المعاش، والحصار الاقتصادي.
(و) بركة الحياة :حيث تتنزل البركة على المجتمع، فينعم الفرد، والجماعة، بفضل الاستجابة لأمر الله تعالى، الاستقامة على شرع الله، بنزول الغيث، ونماء الزرع، وكثرة القوت، والأمن من فتنة الجدب، والجوع، واختلال الأمن، وانتشار الخوف، والرعب، يقول الله تعالى :(فليعبدوا رب هذا البيت * الذى أطعمهم من جوعٍ وءامنهم من خوف ) (قريش :3-4) :وقال تعالى :(ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ) (الأعراف :96).. ويقول سبحانه وتعالى :(وألو استقموا على الطريقة لأسقيناهم مآءً غدقاً ) (الجن :16).
أثر تطبيق حد الزنا في إصلاح المجتمع
الردع الحاسم، بعقوبة تكافئ جريمة مقيتة، حمل عليها سعار الشهوة البهيمية، دون مراعاة لكرامة الإنسان، المميز على غيره، أو احترام لنظام الشريعة، الذي وثق العلائق الزوجية، وصانها، فسن الرضا، والإيجاب، والقبول، والإشهاد، والإشهار، حتى امتن الله على عباده بهذه النعمة، وجعلها من علامات قدرته :(ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن فى ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم :21).
ولذلك كانت عقوبة المجاهرة بهذه الفاحشة، حتى شهد عليها، بصورتها المغلظة، أربعة شهود عدول، أو جاء الزاني مقراً على نفسه بالزنا، وجاء بكامل قواه العقلية، وطوعه، واختياره، مريداً تطهير نفسه، بإقامة الحد عليه.. وكانت حكمة الشريعة عظيمة في سن هذه العقوبة الرادعة للجاني، حتى لا يعاودها، والزاجرة لغيره، عن الاقتراب من هذه الفاحشة.. وتحقيقاً للزجر المراد، كان حد الزاني غير المحصن، كما أمر الله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)
ولأن هذه الجريمة، تنشأ عادةً من سعار الشهوة، وما يصاحبها من إغواء، وإغراء، بحيث لا يكف عن الاقتراب منها، صاحبها، ما لم يخوف، ويواجه بعقوبة مشددة، مع افتضاح أمره، وشهود الناس، والمجتمع عليه، يقام عليه الحد.. وبتنفيذ هذا الحد، تحفظ الأعراض، وتصان الأنساب، وتؤدى الحقوق، ويسلم المجتمع.
أثر تنفيذ حد القذف في إصلاح المجتمع
من ذلك:
1- كف السفهاء من تدنيس المجتمع، ورمي الأطهار، واتهامهم بالفواحش، وتخويفهم من عاقبة ذلك، حتى هددهم الله تعالى بالعقوبة الدنيوية، والأخروية.. قال تعالى :(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والأخرة ) (النور :19).. ثم فصلت الآية الكريمة، وهي الرابعة من سور النور، العقوبة الحدية للقذف، من الجلد، وإسقاط الشهادة، والاتصاف بالفسق :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).
2- حماية المجتمع من انتشار الفاحشة، وخدش حياء المحصنات، العفيفات الطاهرات.
3- حماية الأعراض، وشرف الأسر الكريمة، من المرجفين، والمستهزئين.
4- زجر الفساق، من الطعن في الأنساب الكريمة، التي هي أساس التواصل، والتعارف :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13).. ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسب إخوانه، بالفسق، حيث قال :(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) (19)، بل وصف عليه الصلاة والسلام، المسلم الحق بأنه :(من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (20).
أثر تنفيذ حد الخمر في إصلاح المجتمع
من ذلك:
1- حماية العقول، وعدم تعطيلها.
2- حفظ الكيان الأسري، من التفكك، والانهيار، وضياع الأولاد.
3- حفظ المال، من إضاعته في شراء الخمر، ومن تبديده، وصرفه في غير وجه حق، بسبب غياب العقل.
4- حفظ الأمانات، وعدم إفشاء الأسرار، واستخدام الأعداء للمخمورين، في معرفة بعض الخبايا، والأسرار.
5- الكف عن جرائم عديدة، تقود إليه الخمر، فهي حقاً أُمّ الخبائث.
6- الحفاظ على الصحة النفسية، والجسمية، للأفراد، والجماعات.
7- عدم تبديد الوقت، وتضييعه.
8- مضاعفة الانتاج، بتوظيف الطاقات العاملة في المجتمع.
أثر حد السرقة في إصلاح المجتمع
من ذلك:
1- كف السارقين، وردعهم بعقوبة غليظة، وزجر من تسول له نفسه، أن يسرق، بقطع يده، وافتضاح أمره، وهوانه على الناس.
2- التنفير من أكل أموال الناس بالباطل، على وجه السرقة، بعقوبة حاسمة، ورادعة، وزاجرة، لتكون صورة السارق المحدود، باعثة على كراهية جريمة السرقة.
3- حفظ الملكية الخاصة، وأموال الناس، وقد اجتهدوا في جمع المال، وتنميته لمصلحة المجتمع.
4- إعلاء قيمة العمل، والإنتاج، والكسب الحلال، ليكون وسيلة للتملك، والاقتناء، من أداء حق الله فيه، نحو المجتمع، على وجه الوجوب، بالزكاة، والكفارات، أو على وجه الإحسان، صدقة، وبراً، وصلة.
5- تحقيق الأمن، والاطمئنان النفسي للفرد، وللمجتمع.
6- الرحمة بالناس، بإقامة حد السرقة، رعاية للحكمة المرادة، من ذلك، كما قال تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :38-39)، وذلك لأن في كف الناس عن السرقة، وزجرهم، عنها رحمة بهم، من تكفير عن السارق، وزجر للغير.. فالحدود زواجر وجوابر معاً، ومن رحمة الله بالمجتمع، في صيانة المال الذي هو قوام الحياة، وحماية الملكية الخاصة، وإعلاء قيمة العمل، والاعتماد على النفس في الكسب، والإنتاج.
وفيما تقدم، تحقيق لمعاني الرحمة، ولئن كانت فاصلة الآية السابقة، ببيان حد السرقة، تصفه سبحانه، بالعزة، والحكمة، فإن التالية لها تختم بالغفران، والرحمة، فسبحان الله تعالى المشرع، الحكيم، العادل، الموصوف بالرأفة، والرحمة، وهو تعالى القائل :(إن الله بالناس لرءوف رحيم ) (الحج :65)، وصلوات الله المباركات، وتسليماته الزاكيات، على رسوله الأمين، الذي أقام الشريعة، ونفذ الحدود، والذي وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، وأنزل عليه في هذا الشأن، في أواخر ما نزل من القرآن :(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128).
أثر تنفيذ حد الحرابة في إصلاح المجتمع
من ذلك:
1- حفظ المال، من أن يعتدى عليه بالقوة، والغلبة، فتتعطل مصالح الأفراد، والجماعات، وللوقاية من أن يستخدم المعتدون القوة، في أخذ أموال الناس، فكانت العقوبة مشددة، أكثر من عقوبة السرقة العادية.
2- حفظ الأعراض، من الانتهاك، باستخدام القوة، أو الإكراه على الفاحشة، يقول القرطبي :(إذا أراد إخافة الطريق، بإظهار السلاح، قصداً، للغلبة على الفروج، فهذا أفحش، وأقبح، من أخذ المال) (21)، ولذلك كانت شدة العقوبة بالقتل، دون تفرقة بين كون الزاني محصناً، أو غير محصن.(9/195)
3- حفظ الأنفس، والآمنين، من إرهاب المحاربين، المحادين لله ورسوله، فلا عفو من أحد، ولو كان ولي الدم، أو الإمام، بل تتحتم العقوبة على المحاربين.
4- تأمين الطريق، والمجتمع، والمجتمع، ونشر الطمأنينة فيه، والاستقرار، وكف شر المحاربين، المعتدين على سلامة الأرواح، والدماء، والأعراض، والأموال.
5- استقرار الدولة، والمجتمع، وإخلاص الولاء لولاة الأمور، من الحكام المسلمين.
6- حرية الحركة، والتنقل، وما يؤدي إليه ذلك من نهضة اقتصادية.
أثر إقامة القصاص في إصلاح المجتمع
من ذلك:
1- كف المعتدين، من الجناية على الأنفس، والأرواح، والجوارح، والأعضاء، وحماية المجتمع من الاعتداء، بعضه على بعض، ومن التقاتل ثأراً، بعقوبة رادعة، وزاجرة، ومماثلة لما فعله الجاني بأخيه.. يقول تعالى في وجوب إقامة القصاص :(يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) (البقرة :178)، ويقول سبحانه وتعالى :(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) (المائدة :45)، ويقول تعالى :(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (النحل :126) (ولكم في القصاص حياة ) (البقرة:179).
2- تأمين المجتمع، من انتشار الجرائم، والعدوان، بعضه على بعض، وتماسك المجتمع، واستقراره، بالقصاص، أو بالعفو عنه، ممن جعلت لهم الشريعة هذا الحق.. وفي إثبات حق أولياء الدم في العفو، ما يحقق رعاية هذا الأمر، ويحقق التسامح مع من وقع في الخطيئة، من غير أن يكون من معتادي الجرائم، مع مراعاة حق الإمام الحاكم، في أن يوقع بالجاني، عقوبة تعزيرية مناسبة.
التوبة وأثرها في رفع الحدود أو العقوبة
أولاً :سقوط عقوبة المرتد بالتوبة:
وهو رأي جمهور الفقهاء :أنه يجب أن يستتاب المرتد، فإن تاب، عفي عنه وأخلي سبيله (22).
ثانياً :سقوط عقوبة المحاربة بالتوبة:
إذا تاب المحارب، قبل المقدرة عليه، فإن العقوبة المقررة المنصوص عليها، تسقط.. يقول تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيدهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) (المائدة :33-34).
ثالثاً :سقوط عقوبة الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، بالتوبة :
وهو رأي الحنابلة، وبعض الفقهاء، أن التوبة إذا حدثت قبل وصوله إلى الإمام، فإنها تسقط عنه الحد، ومستدلين بأن الآيات الموجبة للعقوبة، المنصوص عليها، تلتها آيات التوبة، والمغفرة، والرحمة، قال تعالى :(والذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما ً) (النساء :16)، وقال أيضاً :(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :39).
كما جاءت التوبة، بعد عقوبة الشرك، والقتل، كما في قوله تعالى :(والذين لا يدعون مع الله إلاهاً ءآخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) (الفرقان :68-70).
ويستدلون، بأن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على من جاء تائباً، أن ذلك خاص بهم، بأنهم طلبوا تطهيراً لأنفسهم (23).
والتوبة النصوح، باب عظيم في الأمل في رحمة الله، وفضله، ونيل محبته تعالى :(إن الله يحب التوابين ) (البقرة :222) .. وقد ندب الله تعالى إلى التوبة النصوح، فقال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شىءٍ قدير ) (التحريم :8).
وعندما يحقق المؤمن التوبة، فإنه يحقق لنفسه الاستقرار النفسي، ويتخلص من العقد النفسية، التي تؤرقه، إلى جانب تكفير السيئات، وسقوط العقوبات، المترتبة على اقتراف تلك المخالفات.
رابعاً :سقوط حد القذف بالتوبة:
وفي أثر توبة القاذف، في سقوط الحد عنه، نقرأ قوله تعالى:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) (النور :4-5).
خصائص الشريعة الإسلامية
ومن أبرز خصائص الشريعة الإسلامية:
1- تحقيق العدالة، مع الإحسان في الحكم، والمساواة بين الناس كافة :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأماناتٍ إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58)، ومن ذلك، النهي عن الشفاعة في الحدود، بعد بلوغها الإمام، وفيه حديث أسامة المشهور :(أتشفع في حد من حدود الله؟)(24)
2- إقامة الرقيب الداخلي :التزكية الإيمانية، على الطاعة، والاستقامة، كآداب الاستئذان، وغض البصر، والخلوة، والبعد عن الفواحش، وما يؤدي إليها، وبغضها، لأنها ليست من أخلاق المؤمنين، مع ما ورد من الزجر عنها، ووصف مقترفيها بالفسق، وتخويفهم بالخزي، والنكال في الدنيا، وغذاب الآخرة، الأمر الذي يجمع بين الديانة، والقضاء، وفي حديث صحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) (25).
3- رعاية مصلحة المجتمع، وسد باب الفساد، وإن، أوقع ذلك بعض الضرر، على أفراد معينين.
4- إحياء الرقيب الاجتماعي :الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرقابة الاجتماعية على المجتمع، بأداء واجب الحسبة، لإحداث الرقي الأخلاقي، في المجتمع.
5- تيسير أبواب الحلال، والطيبات، مع الحض عليه، فيما يغلق أبواباً من الشر، والمنكرات.
6- الطبيعة الحاسمة لأحكام الشريعة، في مقابل القوانين الأوربية الوضعية، التي تبالغ في العقوبات (الحبس والسجون)، وقد صار أثرها السيء واضحاً في تعليم الإجرام، وإفساد السجناء، بما يقترف في السجون، من منكرات، مع ما يؤدي إليه الحبس من كراهية المجتمع، وتعميق روح الانتقام، وضياع أسر السجناء.. زيادة على ذلك، فإن هذه السجون، عبء على الأمة، في إيواء المجرمين، وإعاشتهم.
7- كون هذه العقوبات، المقدرة في الشريعة :(نكلاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38)، أي عبرة للآخرين، عن مصير المجرم المحدود، ليتجنبوا فعل ما أوجب تلك العقوبة، ممن شهدوا إقامة الحد عليه، أو رأوا أثره.
8- استقلال المسلمين، وتميزهم في الأمم، والحضارات المعاصرة، خاصة بهذه التشريعات، ولذلك فإن الغرب شديد العداء، والمقاومة لهذه التشريعات الإسلامية عامة، والحدية منها خاصة، لأنها تخص المسلمين، وتميزهم عن غيرهم، وتقطع أمل الأعداء في رد المسلمين عن دينهم :(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة :3).(9/196)
ومهما يكن من نفور الغرب، من بعض أحكام الشريعة، ووصفها بالقسوة، فإنه لاجئ إليها اضطراراً، كما رجعت مضطرة لإعادة عقوبة الإعدام. ومع أن الغرب لا يزال يستخدم اسم الإنسانية، وحقوق الإنسان، في تشويشه على التشريعات الإسلامية، حتى على عقوبة الجلد، فإن قانون العقوبات الإنجليزي، قد تضمن في مواده، عقوبة الجلد، وظل هذا القانون معمولاً به في بعض البلاد الإسلامية، مثل السودان، إلى وقت سن التشريعات الإسلامية.
ومهما يكن من عداء الغرب، وغيره، للشريعة، والدعاية الظالمة ضدها، فإنها دعوة منصورة، بإذن الله: (يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد :7).. (ولينصرن الله من ينصره ) (الحج :40).. (وما النصر إلا من عند الله ) (آل عمران :126).. (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173) .. (كتب الله لأغلبن أنا ورسلى ) (المجادلة:21) .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).
==============
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات
وتتناول هذه الدراسة، موضوع تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات.
وبعابرة أخرى، تجيب عن أسئلةٍ، كثيراً ما تثار حول:
(أ) الأسس التي وضعها الإسلام، في مجال التعامل مع غير المسلمين، لتكون هادية للفرد، والمجتمع، والدولة، ولتكون ديانة يدين بها المسلمون، ويلتزمون أحكامها، طاعة لله، وعبادة، وتكون مع ذلك قضاءً، وقوانين حاكمة، للدولة والمجتمع.
(ب) التعامل مع المواطنين، من غير المسلمين، ممن يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في الدولة، التي تحمي قوانينها حرمات المواطنين، وحقوقهم في الحياة، والتكريم، والحرية الاعتقادية، والفكرية.. وعن المساواة، والعدل، والتعليم، والعمل، والتملك، والتصرف فيه.
(جـ) التكامل في المجتمع، والوطن، حتى يسود المجتمع كله، خلق البر، والقسط، والتراحم، والمعاملة الحسنة.
ومن ثم فإن هذه الدراسة، تهدف إلى تحقيق مزيدٍ من التعاون بين جميع المواطنين، على اختلاف مللهم، وثقافاتهم في مجتمع الشريعة الإسلامية، حيث تتكافل جهودهم جميعاً، وتتفجر الطاقات من أجل نهضة البلاد وتقدمها، وسيادتها، على ضوء تلكم القواعد والأسس العادلة، التي تحقق التسامح الديني، والتآلف، والتواصل الاجتماعي، والفكري، بين جميع المواطنين.
وها هنا نذكر نذكر بشيء من البيان والتفصيل، ما أُجمل فيما سبق، فنتحدث وبشكل عام عن:وحدانية البشرية، والدين، وأصل الاختلاف، وأسس التعامل مع غير المسلمين.
منشأ البشرية
يرجع البشر كلهم إلى أصل واحد، تفرعوا عنه، ونفس واحدة، خلقوا منها :(يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفسٍ وحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) (النساء :1).. والقرآن يذكرنا بهذا الأصل، الذي تفرعت عنه الشعوب والقبائل، ليتعارف الناس فيما بينهم، ويتواصلوا :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13) .. وتقريراً لهذا الأصل، قال عليه الصلاة والسلام، في خطبة الوداع :(يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) (1).
وأصل الدين واحد، من عند الله جل جلاله، أنزل الكتب على رسله الكرام، الذين تعاقبوا مبشرين ومنذرين، يدعون إلى توحيد الله.. والإيمان بهم جميعاً، واجب، دون تفرقة بينهم، لقوله تعالى :(ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحدٍ من رسله ) (البقرة :285)، ولقوله أيضاً:(قولو ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) (البقرة :136).
اختلاف الناس:
وقد قدر الله تعالى، أن يكون بين البشر، اختلاف في الدين :(ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هو :118-119). وهذا ما يخبرنا به الخلاق العليم جل جلاله :(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك :14).
وتبعاً لذلك، فللناس حرية الرأي، والفكر، والاختيار للعقيدة، التي يعتقدونها :(فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر ) (الكهف :29)، وليس لأحد، ولا قوة، أن تكره فرداً، أو جماعة، على دين، يقول تعالى: (لا إكراه في الدين ) (البقرة :256).
وهي مشيئة الله القاضية، أن يترك الناس واختيارهم الحر، وما يدينون: (ولو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).
الإسلام والحرية الفكرية
والإسلام هو دين الحرية الفكرية، الذي تواترت فيه آيات الكتاب، الداعية إلى التفكر والنظر، ولا حجر على أحد في حرية الفكر، والتعبير عن آرائه، إلا إذا صار الأمر افتراءً محضاً، أو إثارة للفتنة. وما جاء في القرآن الكريم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذكر أقوال المخالفين من غير المسلمين، على اختلاف مللهم، ومناقشة هذه الأقوال بالحجة، والبرهان، دليل واضح على هذه الحرية، كما هو دليل على امتداد بقاء غير المسلمين، وسماحة التعامل معهم.. وقد كانت هذه الحقيقة، واضحة في المواقف، التي وقفها كل داعية إلى الإسلام، وسيظل معلماً بارزاً لكل الأجيال، موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر، رضي الله عنه، حين أجاب على القائد الفارسي رستم :(إن الله ابتعثنا، لنخرج من شاء الله، من عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن الأديان إلى عدل الإسلام) (2).
والواقع التاريخي، يثبت أنه على توالي القرون، في تاريخ الدعوة الإسلامية، لم يحدث أن أكره المسلمون غيرهم على الدين، وهذا ما شهد به كل منصف، ولو كان غير مسلم، مثل (السير توماس آرنولد) في كتابه :(الدعوة إلى الإسلام) الذي كتب فيه عن تاريخ نشر الدعوة الإسلامية، في أرجاء العالم، وكيف أن دعاة الإسلام، نشروا دعوتهم بين أقوام، عرفوا بالشدة، والخروج على كل نظام، أو قانون، حتى أسلموا، وصار دعاة يهدون غيرهم) (3).
ويمضي آرنولد في هذه الشهادة، ليقول :(لم نسمع عن آية محاولة مدبرة، لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين) (4)، ويزيد آرنولد في بيان تسامح المسلمين فيقول: (لا يسعنا إلا الاعتراف، بأن تاريخ الإسلام، في ظل الحكم الإسلامي، يمتاز ببعده بعداً تاماً، عن الاضطهاد الديني) (5).
وهذه شهادة منصفة أخرى، يؤديها (ول ديورنت)، في كتابه :(قصة الحضارة)، حيث يقول :(لقد كان أهل الذمة، المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية، بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية، في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم، ومعابدهم، ولم بفرض عليهم أكثر من أداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله) (6).
وهذه الحرية لغير المسلمين، تشمل التعبير عن معتقداتهم، بالتعليم والممارسة، وأداء شعائر دينهم، فردياً، وجماعياً.
أدب الدعوة والحوار مع غير المسلمين(9/197)
وإذا كان ثم حوار، أو مجادلة، أو مناقشة، فالأدب القرآني يقضي أنه :(ولا تجدلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهانا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت :46).
فهي دعوة إذاً تعتمد الأدب، والحجة، والبيان، لمن أراد من غير المسلمين الاستبصار في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، لتكون أنجح فيه كما قال تعالى :(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل :125)، ولا تكون مواجهة بالقوة، إلا حين يختار الطرف الآخر ذلك، ويكون من أهل الحرب (7).
التطبيق العملي في عهد النبوة والخلافة الراشدة
والوثائق، والعهود، والأمثلة التالية، دليل قاطع على هذه الحرية الفكرية، والتسامح الديني:
1- وثيقة المدينة:
أول وثيقة تفصيلية، بين المسلمين وأهل الكتاب، ضمنت حرية الاعتقاد، والفكر، وحقوق المواطنة الكاملة، هي الوثيقة المعروفة بوثيقة المدنية (8) وهي تبدأ هكذا:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي، رسول الله بين المؤمنين، والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة، من دون الناس (9).
2- عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:
وهو عهد ضمن لنصارى نجران، الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وعشيرتهم، وأماكن عبادتهم، وألا يغير أسقف، ولا راهب، ولا كاهن (10).
3- عهد أبي بكر لأهل نجران:
ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، فإنه أكد في عهدٍ منه لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة النبي محمد رسول صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران (11).
4- عهد عمر لأهل إيلياء:
وعلى ذات النهج، سار عمر رضي الله عنه، فأعطى لأهل إيلياء عهداً، وأماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمهم، وبريئهم، وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، وألا يضار أحد، ولا يكره على الدين (12).
وقد التزمت مشروعات القوانين، المستمدة من نفس الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسائل التعامل مع غير المسلمين، أعدل الأقوال، والآراء، وأوثقها، وأدومها، وأنسبها لتحقيق العدل والإحسان، مع رعاية لظروف المكان، والزمان..
وغير المسلمين، أشبه بأهل العهد، الذين حررت بشأنهم وثيقة المدينة، والعهد النبوي مع أهل نجران، ومما ينبغي أن يعلم بهذه المناسبة، أن اصطلاح أهل الذمة، في الفقه الإسلامي، ليس كما لم يحسن فهمه كثير من الناس. فالذمة في اللغة، بمعنى :الأمان، والعهد، والضمان، والكفالة (13).. وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى، واليهود، من أهل الكتاب، وغيرهم، ممن بقي في دار الإسلام (14).
وعليه، فالذمة هي العهد، أي العهد الذي يعهده الإمام، أو من ينوب عنه، مع غير المسلمين على السلم، ووضع الحرب.. وعقد الذمة، كما عبر عنه بعض الفقهاء المعاصرين، يشبه التجنس في الوقت الحاضر (15).
ويلحق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، غيرهم من جميع الملل، غير الإسلامية، كالمجوس، حيث ورد في الهدي النبوي، أنه أخذ الجزية من مجوس هجر (16). ويؤيده ما ورد في صحيح البخاري، عن عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم أخذ الجزية من مجوس هجر(17).
وأيضاً، فقد روي مرسلاً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال :(سنوا بهم سنة أخل الكتاب ) (18).
ويقول في ذلك، الإمام علي رضي الله عنه :(من كان له ذمتنا، فدمه كدمنا، ودَيْنُه كَدَيْنِنَا)، وأنهم (إنما بذلوا الجزية، لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) (19).. وفي مصنف الإمام عبدالرزاق (20) أن رجلاً مسلماً، قتل آخر من أهل الذمة، في عهد عمر بن عبدالعزيز، فاقتص من المسلم بالذمي.
العدل والحقوق المتساوية لغير المسلمين
المساواة أمام القانون
ويتمتع كل مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).. وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون ديناً، أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى :(يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة :8).
وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم :(من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ً) (21)، ويقول في حديث غيره :(ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (22).
واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقاً مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية، لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها :(الرسالة القبرصية)(23).
الجزية وحق الدفاع:
وحكمة مشروعية عقد الذمة، هي أن يترك الحربي القتال، مع احتمال دخوله في الإسلام، عن طريق مخالطته للمسلمين، واطلاعه على شرائع الإسلام.
وليس المقصود من عقد الذمة، تحصيل المال (24)، وقد كان دفع الجزية واجباً على كل رجل بالغ، قادر، حسب طاقته، نظير الحماية والدفاع، حتى إن القادة المسلمين، كانوا يردون على غير المسلمين، ما دفعوا من جزية، إذا لم يقدروا على القيام بواجب الحماية والدفاع، بل كان بعض الخلفاء الراشدين- وهو عمر رضي الله عنه- يسقط دفع الجزية عن غير المسلمين الذين يشتركون مع الجيش، ويؤدون خدمات عسكرية، وهو ما نأخذ به في عصرنا هذا.
والتفسير الصحيح لكلمة الصغار في قوله تعالى :(حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صغرون ) (التوبة :29)، هو جريان أحكام الشريعة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار (25)، وفي ذلك يقول الشافعي: وسمعت عدداً من أهل العلم، يقولون :إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام (26)، وفي ذلك رد، على من زعم أن الصغار هو الإذلال.. وتأسيساً على ما تقدم، فليس يصح ما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من شروط سميت بالشروط العمرية (27)، وإسنادها ضعيف اتفاقاً، حتى إن ابن القيم، لم يجد سبيلاً لتأكيدها، إلا بأن قال :إن شهرة هذه الشروط، تغني عن إسنادها.(9/198)
وقد أنكر محقق الكتاب، د. صبحي الصالح، هذه العلة، لأن الاستفاضة لم تكن دليلاً على الصحة في موضوع تاريخي، تشريعي كهذا، ثم وصف هذه الشروط بأنها متضاربة، ومتناقضة (28) والواقع أن هذه الشروط، تخالف ما صح من جملة العهود، والمواثيق النبوية، كوثيقة المدينة، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، وعهد أبي بكر ضري الله عنه أيضاً لأهل نجران، وكانوا نصارى، كما أنها تخالف العهود العمرية، كعهد عمر رضي الله عنه لأهل إيليا، الذي نص على إعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وأنهم لا يكرهون، ولا يضار أحد منهم (29).
حق التعليم:
ويدل على مكانة العلم في الإسلام، أن أول كلمة نزلت منه هي :(اقرأ باسم ربك الذى خلق ) (العلق :1)، وتوفير العلم بمختلف تخصصاته، وفنونه، واجب المجتمع، والدولة، وقد شهد الواقع العملي للمسلمين، ما كان يتمتع به غير المسلمين من امتلاك ناصية العلم، في كثير من التخصصات، التي لا غنى عنها في مجتمع، كالطب والهندسة. ويشمل هذا الحق، الرجل، والمرأة، على السواء.. ومن واجب الدولة، تنمية شخصية الإنسان، وتوسيع ثقافته.. وقد ذهب ابن حزم، إلى إلزامية التعليم، وأن الإمام يجبر النساء على التعليم (30) .. وفي الجانب التطبيقي، كان التعليم تاريخياً متاحاً للجميع، من أدنى المراحل التعليمية، إلى أعلى المراحل، والتخصصات.. وتوزيع الفرص الدراسية، محكوم بأسس عادلة، هي التميز العلمي.
عقوبة المرتد على الخيانة العظمى:
وقتل المرتد، ليس عقوبة على الفكر ذاته، لأن غير المسلمين، قد كفل لهم الإسلام، حرية العقيدة، وحمايتها، من غير إكراه، ولا تضييق، لكن هذه العقوبة على الجناية الكبرى، والمكيدة، التي ادعى بها المرتد اعتناق الإسلام، ثم أعلن الخروج منه، للطعن فيه، والإساءة إليه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :(وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران :72).
ولقد تحدث ابن قيم الجوزية في كتابه، زاد المعاد (31) عن الردة، وأثرها على الأمن الداخلي لدولة الإسلام، وأنها ليست مسألة فردية.
الشريعة الإسلامية وحقوق الشعوب والأقاليم
وفي ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، تتحقق للشعوب حقوقها الجامعة .. وقد حكم القاضي المسلم لأهل سمرقند، بحق تقرير مصيرهم، لأنهم كانوا أُدخلوا في سلطان الدولة، بالقوة، دون اختيارهم، ودون مراعاة أحكام الشريعة، القاضية بالتخيير، والإعلام، والإنذار، لأن استخدام القوة الجهادية، ليس في الواقع، إلا لرفع الإكراه، على اعتناق دين، أو على المنع منه.
كما يكفل نظام الحكم الإسلامي، حق الحكم الذاتي، مع حق التمييز الثقافي للأقاليم، التي يكون فيها غير المسلمين متحيزين في مكان يخصهم، ويباشرون بأنفسهم إدارة شؤونهم، مع الاحتكام إلى محاكمهم، بما كان يجعلهم في حكم الأقاليم الآن، وهكذا كان الشأن مع نصارى نجران، الذين كانوا على عهد دولة المدينة، خارج حدودها، وجاءت اتفاقية المدينة تؤكد هذا المعنى (32).. وهذا الاستثناء، ليس استثناءً من الجريمة، بحيث يعد الفعل مباحاً، بل وضعت عقوبات تعزيرية لهذه الجرائم، عدا الخمر والردة.. ولم يقفل الطريق أمام المسلم القوي، المتثبت في دينه، أن يطلب تطبيق الحدود عليه، بل إن هذا الحق، من المطالبة بالطوع، والاختيار، ثابت لغير المسلم.
والتأصيل الفكري لمبدأ استثناء غير المسلمين، من تطبيق أحكام الحدود، يعتمد على نص الآية الكريمة:(فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) (المائدة :42).. وقد اختار الإمام الطبري هذا القول بالاستثناء، وأن الآية الكريمة محكمة (33).
الحقوق المدنية والسياسية:
في ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الحقوق المدنية، والسياسية مكفولة لكل مواطن، فيحق لكل فرد أن يملك، ويرث، ويبيع، ويشتري، ويرهن، ويكفل، ويهب، ويوصي، ويقف، ويتصرف، وفقاً لمصلحته الشخصية.
حق العمل:
يضمن الإسلام لكل أفراد المجتمع، العدالة في ممارسة العمل الشريف، والأجر المناسب، لأن ذلك كله من أداء الأمانات، والوفاء بالحقوق، والقيام بالعدل والإحسان، كما في قوله تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) (النساء :58)، وقوله عزوجل :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)، ثم إن العمل في الفقه الإسلامي، ضروري، لسد حاجة المجتمع، وعمران الكون.. وفي حماية الشريعة الإسلامية للعاملين، وضمان الأجر العادل لهم، ورد قوله :صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (34).
وتطبيقاً لذلك، فلغير المسلمين فرصة للعمل، وحرية التوظيف للوظائف العليا القيادية، في مناطقهم، والوسيطة، وغيرها، وقد بلغ بعض المؤرخين الغربيين، حد الإعجاب، في بيان ما لاحظه من كثرة العمال غير المسلمين في الدولة الإسلامية، حيث يقول :(من الأمور التي نعجب لها، كثرة العمال والمصرفين غير المسلمين، في الدولة الإسلامية) (35).
الضمان الاجتماعي:
يقوم المجتمع الإسلامي، على التكافل، والتراحم، بين الناس جميعاً، على مستوى الأسرة، والجيران، والحي، والمجتمع، يقول الله تعالى :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءِ ذى القربى ) (النحل :90).. وفي التوجيهات النبوية في التراحم بين الناس كلهم :(الراحمون يرحمهم الرحمن، تبارك وتعالى، إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء) (36).
وفي حق الجيران، يقول صلى الله عليه وسلم :(ليس المؤمن، الذي يشبع، وجاره جائع ) (37).
وفي مسؤولية الجيران، وأهل الحي، نحو المحتاجين، يقول :(أيّما أهل عرصة، بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله ) (38) .. وقد كان بيت المال، في عهد الخلافة الراشدة، يفرض للمواليد القوت، ثم توسع الأمر، حتى شمل الكسوة (كما يذكر البلاذري) (39).
وتقوم الأوقاف الإسلامية، والمبرات الخيرية، والجمعيات الطوعية، بدور عظيم، يحقق التكافل، والترابط، والتراحم.
وأما الدولة، فلها الصناديق القومية للضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي لأرباب المعاشات، إلى جانب ديوان الزكاة، الذي يسع بمصارفه المتعددة، الأفراد، والمجتمع.
التعامل مع غير المسلمين: نماذج قرآنية
وهنا نقدم نماذج، من آيات القرآن الكريم، محكمة وحاكمة، في المعاملة، الحسنة، العادلة:
1- يقول تعالى :(لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة :8).
فهذه الآية، تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين، أنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية :(إن الله يحب المقسطين )، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.(9/199)
ولاشك في أن هذا التعامل، يقود إلى السلام الحقيقي، وقد أحسن صاحب الظلال، في تعليقه على هذه الآية، حيث يقول: إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين، متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا، إلا عدوان أعدائه عليه، وعلى أهله, فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك، وحتى هو في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الولوج في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه، بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم، الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.
ويمضي التعليق في الظلال، يبين أن الأصل في العلاقات، هو العدل، والسلام، فيقول :وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين، هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظره إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد المتعاون في تصميمه اللدني، وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف، وتنويع.. وهو أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً، هو الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رده، أو خون الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة، في وجه حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا، فهي السلم، والمودة، والبر، والعدل للناس أجمعين (40).
2- يقول تعالى :(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ً) (النساء :105)، فقد جاءت هذه الآية تأكيداً عملياً لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب.
وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محامياً، ولا مدافعاً، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في الحديث التالي: روى الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت :( جاء رجلان من الأنصار، يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارث بينهما، قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة ).. فبكى الرجلان، وقال كل منهما :حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أما إذا قلتما، فاذهبا، فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه ) (41).
وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمه، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب. يقول تعالى:(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلُُّ لكم وطعامكم حلُُّلهم والمحصنات من المؤمانت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفاحين ولا متخذى أخدانٍ ) (المائدة :5).
يقول صاحب الظلال، في بيان معاني هذه الآية (42) :(وهنا نطلع على صفحات السماحة الإسلامية، في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار الإسلام)، وتربطهم به روابط الذمة، والعهد، من أهل الكتاب، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع مجفوين، معزولين، أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة، والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهنا المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين.. ويقرن ذكرهن، بذكر الحرائر العفيفات، من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام، من بين سائر أتباع الديانات والنحل).
وواضح أن الإسلام، لم يبح زواج المسلمات بغير المسلمين، والسبب الظاهر في ذلك، هو أن القوامة في الزواج للرجال، والمسلم مؤتمن على رعاية حقوق زوجته الكتابية، لا يكرهها في الدين، ولا يمنعها من الكنيسة، بل يوصلها، ولا يمنعها ما هو مباح لها في دينها.
وفوق كل هذا، فهو مؤمن بأنبياء الله جميعاً، لا يفرق بين أحد من رسله، بينما غير المسلم، يكفر بالرسالة الخاتمة، ويخشى من فتنه المسلمة عن دينها.
وهذه المعاملة الحسنة، وخلق البر، والقسط، أصل ثابت مستقر، في توجيهات القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في العهد النبوي، والخلافة الراشدة، وما اتصل بها من معاملات في العصور الإسلامية، وليست سياسة عارضة، أو مؤقتة.
ومثالاً على هذه المعاملة الحسنة، وخلق البر والقسط، مع غير المسلمين، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود غلاماً يهودياً مريضاً، حتى إن والده لم يملك تقديراً لهذا الجميل، والصنيع الحسن، من الزيارة النبوية، إلا أن يشجع ولده على قبول الدعوة النبوية، واعتناق الإسلام (43).
وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ودرعه مرهونة عند يهودي، وفي ذلك أعظم الدلالة على حسن التعامل .. وفعل ذلك مع وجود مسلمين أثرياء، في صحابته، الذين يفدونه بأرواحهم، وأموالهم (44).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من القبائل، والأمصار، ويحسن وفادتهم، وهكذا صنع حين زاره وفد نصارى نجران، وكان بمسجده في المدينة المنورة، مما هو معروف خبره في السيرة النبوية، وتاريخ الدعوة الإسلامية(45)، وسيظل هذا الهدي النبوي العظيم، هو نبراسنا في معاملاتنا المعاصرة، بإذن الله.
==============
الخاتمة
الحمد لله الذي أكمل الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً :(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين ) (آل عمران :85) .. ثم أما بعد:
فهذا غيض من فيض، وقطر من غيث، ينهمر من بشائر المستقبل للإسلام، بظهوره وانتشاره، وسيادة حضارته في العالمين، فكل أخبار القرآن صدق، وأحكامه عدل :(وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام :115).. وفي تعاليم الإسلام والسنة، وفقه الشريعة الإسلامية، دلائل لا تستقصى، تبشر كلها بالمستقبل للإسلام :(ولتعلمن نبأه بعد حين ) (ص :88).. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).(9/200)
ولا يزال في موضوع المستقبل للإسلام، كثير مما يحفز الدعاة إلى الله، للعمل على بصيرة، وفقنا الله ومن والانا، لتصويب النظر على قضايا المستقبل للإسلام، نجدد بحسن تقديمها أمر ديننا، ثم إننا نجدد دعوتنا إلى أمتنا، ونخص جيلنا المعاصر، وشبابنا، عدة المستقبل، أن يسارعوا إلى الاستجابة لداعي الحق: (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال :24) .. وأن يكونوا عند أمل أمتهم بهم، فيلتزموا ذكر الله، وساحات الجهاد، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعتصموا بحبل الله المتين، ويلجأوا إليه، قانتين، في النوازل وغيرها، ليكونوا حملة لواء الشريعة، والدعوة إلى تطبيقها، وإحياء الشعائر، وإقامة الدين كله، مراعين واقع مجتمعاتهم، وأدب التدرج، والانتقال في المراحل، حاملين رسالة الرحمة والرأفة، مقتدين بإمامهم ونبيهم، عليه الصلاة والسلام، في رأفته ورحمته بالمسلمين، ومن يعيش في كنفهم، ليعيشوا السعادة الحقيقية مع المسلمين، في ظل التزامهم شريعة الإسلام، وإقامتها في شؤون حياتهم كلها. سائلين الله أن يهدي شباب الإسلام، صناع المستقبل، وقادة المسلمين، وأن يعزهم بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، ليصنعوا مستقبل الإسلام المشرق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
=============(9/201)
المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أوقف الأمة المسلمة على خط النهاية من المسيرة البشرية للأمم والحضارات والثقافات، واصطفاها لوراثة الكتاب، فقال تعالى : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (فاطر : 32)، وخصها بالنص السماوي الذي تعهد بحفظه، وعصمه عن التحريف والتبديل، بقوله : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر : 9)، وتحقق الحفظ من خلال عزمات البشر، ليكون ميزانا للحق، ومعيارا للتقويم، وهداية للطريق، ومنهاجا للسير، وتقوى -أي وقاية- لما يمكن أن يكون من إصابات.
وجعل الإسلام الدين الخاتم مكملا للدين، حيث انتهت إليه محصلة تجربة النبوة التاريخية، كما جعل الأمة المسلمة أمة معيارية شاهدة على الناس، بعد أن صوبت معرفة الوحي مسيرتها، ومنحتها القيم والموازين السوية، التي تمكنها من الحكم الصحيح، والوزن بالقسطاس المستقيم، قال تعالى : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة : 143)، فالرسول صلى الله عليه وسلم والوحي، يصوبان مسالك الأمة المسلمة .. والأمة المسلمة بما تمتلك من الوحي، تصوب مسالك الناس، وتميز الخطأ من الصواب، والحق من الباطل، والرشاد من الضلال، والمعروف من المنكر، ولا يعتبر ذلك حكرا على ناس بأعيانهم، أو زمن دون آخر، أو منطقة جغرافية، كما هو حال الدعوات العرقية ونظريات الشعب المختار، وإنما هو متاح لكل من آمن بهذه القيم، لأنه بإيمانه يصبح جزءا منها كافة، لأن الخطاب الإسلامي خطاب إنساني لا يخص قوما أو لونا أو جنسا.
والصلاة والسلام على النبي الخاتم (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين) (الأحزاب : 40)، الذي بعث للناس كافة بشيرا ونذيرا، قال تعالى : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) (سبأ : 28)، فكانت رسالته إنسانية الخطاب، مستوعبة للزمن، منذ بدء الخلق وإلى أن ينشئ الله النشأة الآخرة، ومكملة لتاريخ النبوة الطويل، وجاء عطاؤها وإنتاجها إنسانيا، شاركت فيه كل الأمم والشعوب، وإليها انتهت أصول الرسالات السماوية جميعا .. فالمؤمن بها ليس حدثا زمانيا أو مكانيا عارضا، وإنما إيمانه متجذر في التاريخ، مستوعب للحاضر، ممتد إلى المستقبل، حتى يوم الدين .. فهو لبنة في بناء النبوة التاريخية الواحدة، تاريخها تاريخه، وما شرع الله لها من الدين شرعه له، وما لحقها من الإصابات، وتحقق لها من النهوض والإنجازات، جزء من تاريخه الممتد، الذي يشكل مصدر عبرته واستلهامه واقتدائه .. قال تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى : 13)، وقال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء : 92)، وقال : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام : 90).
فالفرد المسلم ليس خلقا معزولا، ولا يعاني القطيعة والانفصال عن التاريخ الإنساني، بل هو جزء منه .. وهذا التاريخ، يشكل للمسلم منجما للخبرة، وثمرة لتجارب متعددة، وميدانا فسيحا للرؤية والعبرة والهداية والوقاية لحاضره ومستقبله، وبعد:
فهذا كتاب الأمة الستون .. (المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب) للدكتور سالم أحمد محل، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في عملية استرداد شخصية المسلم الذي يفقه الدين ويفهم العصر، ومعاودة إخراج الأمة المسلمة؛ وتحقيق مدلول الإيمان والوحدانية بأبعاده المتعددة في النفوس، بعد أن لحق به الكثير من التأويلات والتفسيرات، التي أشاعها مناخ التخلف والاستخذاء الثقافي.
فالإيمان بالله الواحد هو السبيل الوحيد لتحقيق إنسانية الإنسان؛ وتخليصه من الرق والشرك الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي والتربوي، والقضاء على التخاذل، الذي لحق بعالم المسلمين، وأورثه حالات من الخنوع والتواكل والإرجاء، وأخرجه من التاريخ والواقع.
إن حالة الإرجاء والتخاذل والانسحاب من الحياة، أدت إلى انطفاء الفاعلية، وانعدام الشعور بالمسؤولية، والتفكير في امتلاك القدرة على تأسيس الرؤية الثقافية المبنية على معرفة الوحي المعصوم، والتي تقتضي إحياء دور العقل في النظر، وبيان أهمية الاجتهاد الفقهي والفكري في التطور البشري، وتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، والنظر لمشكلات الأمة وقضاياها المعاصرة في ضوء هدايات الوحي.
فالمسلم الحق يقوده إسلامه إلى استيعاب التاريخ البشري، والتعرف إلى وسائل النهوض والسقوط، وإدراك السنن والقوانين الكامنة وراء الفعل التاريخي، التي لم تتحول ولم تتبدل، ودور الإرادة البشرية في صنع التاريخ، وممارسة عملية التغيير، ومدافعة القدر بقدر أحب إلى الله ، والاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى الذي ناط عمليات التغيير وصنع التاريخ بإرادة الإنسان وقدرته، فقال تعالى : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد : 11).
فالله سبحانه وتعالى هو الذي أراد للإنسان أن يريد، وأكثر من ذلك إنه ربط حدوث التغيير بإرادة الإنسان، كقانون للفعل التاريخي، ولم يتركه هملا بدون دليل عملي، وإنما هداه إلى مفاتيح التغيير وسننه في الأنفس والآفاق، وبسط له مساحات كبيرة من تاريخ البشرية الطويل، وقدم له نماذج متعددة تستوعب مسيرة الحياة بجوانبها وأنشطتها المختلفة، لتكون دليله إلى الفعل الصائب، ومنهجه إلى العبرة والوقاية من كل الإصابات وانتقال علل الأمم السابقة.
ونستطيع أن نقول : إن الكتاب والسنة قدما مساحات تعبيرية هائلة عن تجارب الأمم السابقة ومسالكها، وعللا أسباب الإصابات التي لحقتها، والقوانين والسنن المجردة عن حدود الزمان والمكان التي حكمت ذلك، وألقيا الأضواء الكاشفة على جميع جوانب الحياة، على مستوى العقيدة والعبادة والمعاملة والمسالك .. ولم يقتصرا على ما كان، وإنما تجاوزا الماضي والحاضر، إلى إلقاء الأضواء على المستقبل، وما سوف يكون من الفتن، بما في ذلك علامات ومؤشرات اقتراب الساعة، ليستوعب المسلم موقفه تماما، ويأخذ حذره، ويمارس دوره، من خلال هذه النوافذ على الرؤية الشمولية لما كان وما سوف يكون.
ولعل القضية الأهم هنا، أن الوحي (الكتاب والسنة الصحيحة)، هو مصدر الوعي التاريخي للمسلمين بشكل خاص، فهو الذي أثار الرغبة في الاطلاع والتشوف إلى التعرف على أحوال الأمم السابقة، وسبب انقراضها، وسنن التداول الحضاري، حتى إنه لم يدع الإنسان أمام هذا الغيب المجهول، المحرم على حواسه، بل قدم له مساحات كبيرة لقصص السابقين، قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ، غطى فيها جميع جوانب النشاط البشري، العبادي والفكري والسياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحتى النفسي، بما يمكن أن نطلق عليه اليوم التاريخ الحضاري، وامتد إلى أنباء الغيب، والغيب هنا يعني الماضي الغائب عن ساحة المعرفة والشهود.
لقد امتد الوحي في رؤيته التاريخية إلى مرحلة بدء الفعل التاريخي، وحض على النظر في كيفية بدء الخلق، قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت : 20)، وغطى الكثير من المساحات المجهولة للإنسان، وعلى الأخص في مرحلة ما قبل الكتابة -كما أسلفنا- وامتد بملامح الرؤية التاريخية لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن والبيان النبوي، يعتبران بهذا المعنى الوثائقي (وليس الديني فقط)، أقدم وثيقة تاريخية وردت بطريق علمي صحيح، بمعايير البشر، عدا عما يؤمن به المؤمن من اليقين الإيماني بتعهد الله بالحفظ .. لذلك نرى أن القرآن والبيان النبوي يشكلان مصدرا تاريخيا للكثير من العقائد والأديان والأقوام والمواقع الجغرافية على خارطة الزمن الطويلة، حيث لا توجد وثائق معتمدة تغطي هذه الفترات التاريخية.
فالقرآن هو مصدر المعرفة التاريخية، ومصدر الوعي التاريخي في وقت واحد، خاصة وأنه طلب التوغل في التاريخ، ودعا إلى السير في الأرض، ولفت النظر إلى أهمية الاعتبار بأحوال الأمم السابقة، وأتى على نماذج منها، مما دفع الإنسان المسلم للبحث والتنقيب التاريخي، لمعرفة هذه الأحوال، والخروج من عهدة التكليف الشرعي بتحقيق العظة والعبرة والوقاية الحضارية، قال تعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (آل عمران : 137 -138)، وقال : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف : 111)، وقال : (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) (هود : 120). حتى لقد جعلت المعرفة التاريخية ومسالك الأنبياء مع أقوامهم، مصدر تبين واهتداء ومنهج اقتداء للموحى إليه : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (الأنعام : 90). (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) (الأحقاف : 35) .. ولئن كانت هذه المحركات للنزوع التاريخي، بالنسبة للموحى إليه، المستغني عنها بالوحي، فهي بالنسبة للمسلم المسترشد بالوحي -بعد توقفه- أشد لزوما.
ولم يقتصر القرآن على ذكر الحدث التاريخي أو القصة التاريخية وتسجيلها كما وردت، وهذا يمثل نصف الطريق في البحث التاريخي، وإنما تجاوزها إلى التقويم والنقد، أو التفسير التاريخي في ضوء السنن الفاعلة في الحياة والقيم المعيارية الموحى بها، ليمتلك المسلم الأبجدية المطلوبة لقراءة التاريخ وتفسيره، فلا يضل ولا يشقى، فيذهب إلى التاريخ بلا معيار، ويعجز عن العودة للتعامل مع الحاضر.
ويمكن القول : إن عملية النقد والتقويم والمراجعة، كانت تسير في القرآن جنبا إلى جنب مع تسجيل الحدث التاريخي، مما يوحي بأن النقد والتقويم التاريخي يعتبر جزءا من صناعة التاريخ أو البناء التاريخي، الأمر الذي يؤكد ما يراه بعضهم من : أن النقد والتقويم يبقى دائما جزءا لا يتجزأ من عملية البناء الفكري والتربوي والأدبي والثقافي، وأن الناقد والمنتج شريكان في العمل.
وإن أسباب النزول للآيات والورود للأحاديث، التي تعتبر وسائل معينة لفهم الحدث، وإدراك سببه، والإحاطة به، هي في الحقيقة بما تقدمه من التعقيب والتعليق، والتحليل والتفنيد، والتوجيه وصياغة العبرة على أرض الحدث، إنما تؤكد أن هداية الوحي تنبثق عن رؤية وتفحص للتاريخ، فتجئ تلك الهداية في واقعيتها وصدقيتها في علم التاريخ، أشبه ما تكون بالتجربة المعملية في نطاق العلوم التجريبية.
لذلك كان من معطيات منهج القرآن والحديث في هذا المجال، البحث في سند الحدث التاريخي والتحقيق فيه لمعرفة صدقه، ومن ثم التفسير، والتقويم، والتعليل، والمراجعة لدوافع الحدث ونتائجه وعواقبه، الأمر الذي تبلور من خلاله وانتهى إليه علم التاريخ، الذي تقوم معادلته على أمرين : تحري الدقة للوصول إلى الحقيقة التاريخية، ومن ثم التفسير والتحليل والتعليل للحدث والتقويم له، للخلوص إلى العبرة التاريخية، أو إلى ما يسمى : "حكم التاريخ"، قال تعال : (وجاءك في هذه الحق -دقة المعلومة- وموعظة وذكرى للمؤمنين -تحقيق العبرة-) (هود : 120) .. وبهذا لا يكون التاريخ مجرد استعادة للماضي وإعادة تسجيل له على أوراق جديدة، وإنما تجريد الحدث التاريخي من قيود الزمان والمكان، ونقله وتعديته، ليتمكن الإنسان من الإفادة منه في التعامل مع الحاضر، ورؤية المستقبل من خلاله، وبمعنى آخر هو بعث للماضي، وإحياء له في وجدان الحاضر.
ومن هنا رأى ابن خلدون، أن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى .. ولكنه في باطنه : "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها خليق".
ولذلك، لابد أن نشير هنا إلى أن ابن خلدون، الذي يعتبرونه مؤسس علم الاجتماع والعمران، وأول من تكلم في تفسير وفلسفة التاريخ، هو في الحقيقة لم يخرج عن المنهج القرآني الذي سبقه بسبعة قرون أو يزيد، وإنما انطلق من مرجعية القرآن والسنة ومنهج علماء التفسير والحديث، وعلم أسباب النزول والورود، ومناهج الجرح والتعديل، في نظرته التاريخية، وكيفية فحص الحدث والتعامل معه، والسعي للوصول إلى الأسباب الكامنة وراءه، والقوانين التي تحكم الحركة التاريخية .. ذلك أن التاريخ إذا انقلب ليصبح مجرد حروب ومعاهدات، وسير أشخاص، ومواريث حكم، بعيدا عن التاريخ الثقافي والحضاري واستكناه حقائقه وموجهاته، قد لا يستحق المعرفة والجهد، لأن ذلك لا يضيف شيئا يذكر، وقد يكون مضيعة للأجر والعمر معا.
ذلك أن الوعي بالتاريخ ليس حفظا للذاكرة وتسجيلا للحدث، وإنما إعمالا للتفكير، واستنتاجا للعبرة والعظة، وامتلاك المؤهل لاستيعاب الحاضر وتفسيره، والتنبؤ بتداعياته ومآلاته وعواقبه.(9/202)
وهذا يمنحنا القناعة باستمرار، وكلما تلونا القصص القرآني أو قلبنا أوراق التاريخ أن أية عملية للإصلاح والتغيير واستشراف المستقبل، لابد أن تبدأ باستشراف التاريخ، وأن الوعي التاريخي هو من أهم الموارد الثقافية والمعرفية، لثقافة الحاضر، ورؤية المستقبل، وأن القطيعة التاريخية تجعل التعامل مع الحياة نوعا من الخبط الأعشى.
إضافة إلى بعد آخر، ليس بعيدا عما ذكرنا وهو : "أن الفضل الرئيس للتاريخ، هو أن يكون أداة للثقافة العقلية، فممارسة المنهج التاريخي في البحث، يفيد العقل صحة، ويشفيه من داء السذاجة في الاعتقاد" (انظر : ما هو التاريخ؟ ترجمة أحمد حمدي محمود).
ذلك أن من أبرز ميزات الثقافة التاريخية : أنها توسع اختبار الإنسان وتعمقه، وإن كانت فائدتها ليست عملية مباشرة، لأن التاريخ لا يعيد نفسه من كل وجه.
والثقافة التاريخية سبيل لإدراك الذات، أفرادا وأمة وإنسانية، وهذه الثقافة تبعث في النفس اعتزازا بالأجيال الماضية، من شأنها بناء الفرد والأمة، وتوطيد كيانهما، على أن تكون معرفة الذات المؤدية إلى احترام الذات وتقدير الماضي، هي أيضا نقد للذات وللماضي.
إن الثقافة التاريخية تنمي الحكمة، التي يولدها عمق الاختبار وسعته، والتي تلح على الإنسان في التساؤل حتى يصل إلى الأعماق والجذور .. "إن الإنسان الحي الفاعل صانع التاريخ، ليس مستقبليا مطلقا، سائحا في الرؤى والأحلام .. ولا حاضريا مطلقا، غارقا فيما حوله من مشكلات .. ولا تاريخيا مطلقا، يحن إلى الماضي ويبغي أن يرجعه كما كان .. وإنما هو يعيش في توتر دائم بين الحاضر والماضي والمستقبل، تتفاعل قواها وعناصرها في ذاته، بإدراك متزن صحيح، وشعور دقيق نافذ، فيكون من أثر هذا التفاعل العملي، تاريخي مبدع" (انظر : نحن والتاريخ، زريق).
لذلك اعتبر بعضهم التاريخ، هو المفتاح الكبير لمغاليق المشكلات المعقدة، والمدخل المأمون للقوانين والسنن التي تعين على حل تلك المشكلات (محمد مصطفى زيادة، مقال في التاريخ في الشرق الأوسط).
وحسبنا أن نشير إلى أن التاريخ، كما هو معلوم، هو الرحم الذي تخرجت منه العلوم الاجتماعية جميعا، واستقرئت قوانينها وفلسفتها ونظرتها الكلية التي تنتظم جميع الجزئيات، أو أنه كان السبيل إلى اكتشاف قانون الحركة الاجتماعية، لأنه المختبر الحقيقي للمبادئ والقيم والفلسفات، إلى درجة يمكن أن تقاس به وفيه مدى فاعليتها.
والتاريخ ليس حركة عبثية قائمة على المصادفة والعشوائية، وإنما ينتظمه قانون، وتحكم حركته سنن، وهو من أعمال وصناعة البشر، أصحاب القدرات والإرادات والمسؤوليات، ولو لم يكن للتاريخ هذا البعد والقانون الكلي، لما استحق أن يكون علما، ولما استحق أن يكون مصدرا للعبرة والتجربة للإنسان في كل زمان، ولما أمكن الإفادة منه لغير زمانه، ولما جاز أن يترتب على الفعل التاريخي أية مسؤولة، ولما استطاع أن يضيف عمرا يضاعف أعمارنا، وعبرا تغذي عقولنا .. أو بكلمة مختصرة : لم يكن لذكر القصص القرآني، أي معنى في صناعة الحاضر ورؤية المستقبل!
ذلك أنه من المعروف أن قوانين العلوم التجريبية، يمكن الوصول إليها واكتشافها من خلال الملاحظة والاختبار في التجارب المعملية، وضمن إطار زمني قصير نسبيا، لأن عناصرها مركبة من مواد صماء لا اختيار لها، ولا إرادة لحركتها، لذلك فمن السهولة بمكان إدراكها والوصول إلى نتائجها وقوانينها، بحيث كلما توفرت عناصرها تحققت نتائجها .. أما العلوم الاجتماعية والإنسانية فلا يمكن أن تخضع للقوانين نفسها، لا من حيث الزمن ولا من حيث المواصفات والخصائص، ولا من حيث النتائج، لأن موضوعها ومادتها وأداتها الإنسان نفسه، الذي يملك الحرية والإرادة والقدرة على الكمون والتشكل، لذلك تبقى عصية عن الضبط والتحكم، لأنها لا تخضع للنتائج القريبة، وإنما تخضع للعواقب والتداعيات المركبة والمعقدة بعيدة المدى، ولأن الإنسان بكل مكوناته هو موضوع العلم وهو وسيلته وأداة البحث فيه -كما أسلفنا- لذلك فإن اكتشاف سنن وقوانين الاجتماع والسقوط والنهوض والدورات الحضارية، يبقى عصيا عن الإدراك، من خلال جيل أو حاضر أو حدث، لأنه لا يمكن اختزال حياة الإنسان الخاضعة لأكثر من عامل في وقت واحد أو حدث واحد، فقد تستوعب مقدماته جيلا أو جيلين، إلى درجة قد يظن الإنسان معها أن الأمر لا ضابط له، حتى تظهر نتائجه أو عواقبه في الجيل الثالث أو الرابع.
لذلك يبقى التاريخ الطويل هو محل الرؤية والاستقراء والاستنتاج لمثل هذه القوانين، التي تحكم الحركة البشرية عموما، فكم من الأجيال سقطت فريسة للظلم والاستبداد السياسي وفتن الناس بها، وامتد زمانها، ريثما تحضرت القابليات للتغيير، والدلالة على أن الظلم مهما امتد فسوف يؤذن بخراب البلدان والعمران، وقد حكى الله قصة ذلك في قوله : (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) (يوسف : 110).
ولعلنا نقول : إن فهم أية أمة، وكيفية التعامل معها، والنهوض بها، وتغيير واقعها، هو إلى حد بعيد رهين باستيعاب تاريخها الطويل، وطبيعة استجابتها للظروف المختلفة، الأمر الذي يمكن من اكتشاف عوامل وأدلة التحريك فيها، لذلك رأينا الاستعمار ركز أول ما ركز على دراسة التاريخ والعلوم الاجتماعية، ليكون ذلك مدخله الصحيح إلى التحكم والاستعمار، فالثقافة التاريخية والاجتماعية بشكل عام هي مفاتيح الشعوب، ودليل التعامل معها.
وقد نخلص إلى القول : إن سياسة الأمم، وأدلة التعامل معها، ورؤية مستقبلها، والتفكير بمشاريع الإصلاح والتغيير لواقعها، يكمن في ثلاثة معطيات تقريبا هي:
• الإحاطة بعقيدتها وقيمها (نظرتها للحياة).
• دراسة تاريخها، وتحديد نصيب هذا التاريخ من الاستجابة لعقيدتها، وقدرة الأمة على ترجمة القيم والمبادئ إلى برامج وأفعال بشرية، أي تنزيل القيم والعقيدة على الواقع، وتتبع الخط البياني لأقدار التدين هبوطا ونهوضا، ودراسة سبب ذلك، لأن التدين يزيد وينقص بحسب المؤثرات الخارجية، والتربية الذاتية، والاندفاعات التاريخية للنهوض.
• دراسة الحاضر بكل مكوناته وظروفه وأسبابه، ومن ثم التحديد الدقيق لموقع هذا الحاضر من متطلبات العقيدة ومن المسيرة التاريخية الطويلة، سواء كان ذلك على مستوى التاريخ الخاص للأمة، الذي لن يكون بحال من الأحوال منفصلا عن التاريخ العام، أو التاريخ العام للإنسانية من خلال القوانين والسنن التي تحكمه، والتي لا تحابي أحدا، مع أهمية الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية التي تميز التاريخ الخاص عن العام، حتى لا يكون الخلط.(9/203)
لذلك نقول : إذا تم إدراك هذه الأبعاد الثلاثة، أمكن بعد ذلك الدخول من الباب الصحيح لسياسة الأمة، وإحداث التغيير، واكتشاف سنن السقوط والنهوض، والوسائل التي تشكل مفاتيح العمل والتعامل مع هذه الأمة، وإن أي تجاهل لمعادلة الأمة الاجتماعية، والقفز من فوق تاريخها، في الريادة والقيادة والإصلاح والتغيير أو التحديث والنهوض، سوف يبوء أصحابه بالفشل كسائر المحاولات للمشروعات المستوردة التي شهدتها بلدان العالم الإسلامي، فأهدرت طاقاته، وعبثت واستغلت إمكاناته، وانتهت به إلى التخلف والفشل، لأن مدعي التحديث والنهوض قاسوا واقعه على تاريخ غيره، بعيدا عن معطيات عقيدته وتاريخه وخصوصيته الثقافية .. والغريب أنهم لايزالون مصرين على وضع المفاتيح في الجدران الصماء، بدل وضعها في الأبواب، إنهم يمارسون على الأمة غربة الزمان وغربة المكان، وغربة المبادئ والعقائد والقيم والأديان، لذلك يضطرون لحراسة طروحاتهم ومشاريعهم الثقافية والاجتماعية المفروضة بالحراب والاستبداد السياسي.
إن عملية استقراء تاريخ الأمم والشعوب اليوم، أصبح ميسورا إلى درجة تمكن من رؤية العالم بأكثر من حاسة.
وللحق نقول : إن المعاناة التي كان يعيشها الباحث في القديم، حتى يحصل على الأحداث المتفرقة والمعلومة التاريخية هنا وهناك، ويحاول أن يجمعها وينظر فيها ويكتشف النظرة الكلية التي تحكمها، اختزلت اليوم بثورة المعلومات والإعلام، لدرجة أصبح معها تاريخ العالم حلقات متصلة يؤثر بعضها ببعض إلى حد كبير.
وقد لا يكون مستغربا، بعد أن أشرنا إلى ملامح عامة لأهمية التاريخ وبعده الثقافي والحضاري ودور الإنسان في صناعته، أن يجعل القرآن -وهو وحي معصوم من خالق الإنسان صاحب الفعل- التاريخ مصدرا للمعرفة، التي تستوعب المعلومة، وتوسع الخبرة، وتصنع الحكمة، وتحقق الموعظة، وتكون العبرة، وتغني بالتجربة، وتؤكد اطراد السنن وفاعليتها، ويستنكر على من يقعدون عن السير في الأرض، والتوغل في التاريخ والاطلاع على الأحوال، ويتعرفون على أسباب التداول الحضاري، بقوله تعالى : (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) (الروم : 9).
ولم يرض القرآن للإنسان أن يكون مصورا للواقع، ومسجلا لأحداث التاريخ من الخارج، بل لفت نظره إلى أهمية النقد والتقويم التاريخي، كما لم يدعه يتيه في عملية النقد ويضل المنهج أو علم الطريق، وإنما منحه من معرفة الوحي المعيار، الذي بموجبه يقوم، والسراج الذي يستنير بضوئه، وقدم له نماذج عملية تدريبية من القصص القرآني في التعليل وبيان الأسباب، وما صارت إليه من النتائج أو من العواقب، ليكتسب المنهج في البحث، ويأخذ حذره .. فالإنسان الحر المختار هو الذي يصنع التاريخ، ويدرك الخطأ ويقومه، ويمكن أن يتشكل بالثقافة التاريخية، التي تعتبر من أهم موارد التشكيل الثقافي، لكنه لا يقع أسيرا لها، لما يملكه من معيار الخطأ والصواب، الذي تمنحه معرفة الوحي، والقصص القرآني بشكل خاص.
وقضية أخرى قد تكون جديرة بلفت النظر إليها في إطار المعطيات القرآنية للوعي التاريخي، واعتبار التاريخ مصدرا للمعرفة، والتأكد من صدقية السنن والقوانين التي تحكم الحركة التاريخية، في مقدماتها ونتائجها وعواقبها، وهي أنه من المعروف أن للإسلام رؤيته وفلسفته للكون والإنسان والحياة، أو هو دين انتظم قيم الحياة بكل أبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية …إلخ، لذلك نرى أن القصص القرآني والنماذج المطروحة من خلالها، أو مفهوم التاريخ بالمعنى القرآني، غطى المساحات والأنشطة الحياتية جميعها، وقدم نماذج في مجال الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والانحراف السلوكي، والصراع الطبقي، والانحراف الفكري والثقافي، والتقليد الاجتماعي، والفساد الاقتصادي، والترف الحياتي، وقدم لذلك نماذج، وحكى قصتها، والعواقب التي انتهت إليها .. قدم نماذج لمسالك أفراد وأمم، وأقوام وأسر، وحكام ومحكومين، وحوارات متعددة بين الملك والجمهور، وبين الضعفاء والذين استكبروا، بحيث تمحورت حركة التاريخ على قضية الإيمان والكفر، ولو تعددت صورها واختلفت أشكالها.
وبذلك نقول : إن القرآن الكريم في مجال الإفادة من البعد التاريخي، قدم للمسلم خبرات وتجارب وعبر وثقافة تاريخية، في مجالات الحياة جميعها، بالقدر الذي يشكل له زادا كافيا، ودليلا هاديا، يمكنه من استيعاب الحاضر ورؤية المستقبل، في المجالات جميعا.
من هنا نقول : إن الفهم الإسلامي للتاريخ لا يقتصر على مجرد ذكر الأحداث السياسية، أو الاكتفاء بتسجيل تاريخ الحكام، أو تتبع تفاصيل المعارك العسكرية، أو الصراع على السلطة، وإنما يتجاوز ذلك إلى تغطية كل المساحات الحياتية بأنشطتها المختلفة، السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، أو بتعبير أشمل المجالات الحضارية، لأن التاريخ الحقيقي للأمم هو التاريخ الثقافي .. فالثقافة دائما تمثل الحقيقة، والسياسة تمثل الصورة .. وكثيرا ما وقع الانفصال في تاريخ الأمة بين التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي، أو بتعبير أدق انفصل السلطان عن القرآن، فغاب واندثر تاريخ السلطان، واستمر عطاء تاريخ القرآن وحملته العلماء الأعلام.
ولعل مما يميز النظرة الإسلامية للتاريخ، أو للثقافة التاريخية المطلوبة لتربية الأجيال -حتى تحقق العملية التربوية والتعليمية بعدها المطلوب- أن المعيار الإسلامي في النقد والتقويم التاريخي أو في الصناعة التاريخية، توجه إلى تقدير الأعمال والإنتاج، ولم يركز على تقدير وتعظيم الأشخاص، وإعادة بناء الصنمية بشكل أو بآخر .. إنه يمجد البطولة كصفة لابد من التطلع والنزوع إليها من الناس جميعا، ولا يقدس البطل ويحصر البطولة في إطاره، ويجعلها حكرا عليه، لتصبح مطلبا شعبيا .. لذلك نرى في التاريخ الإسلامي، إذا ذكر أبو بكر رضي الله عنه، ذكر الصدق والشجاعة في الحق .. وإذا ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكر العدل، والتواضع، والتزام الحق .. وإذا ذكر عثمان رضي الله عنه، ذكر الحياء .. وإذا ذكر علي رضي الله عنه، ذكر العلم والحكمة .. وإذا ذكر خالد رضي الله عنه، ذكرت الشجاعة والإقدام في سبيل الله … إلخ.
كما أن القرآن الكريم حاول إنقاذ المسلم من الوقوع في الأسر الثقافي للتاريخ، وخلصه مما يمكن أن يسمى "الآبائية" أو "المواريث الضالة"، ومنحه المعيار الدقيق للقبول والرد، وأن وجود الفعل التاريخي ووقوعه لا يعني بالضرورة صوابه وصدقه، فلابد من الاختبار للميراث التاريخي، وتحكيم القيم المعصومة في النظر إليه.
لذلك نعى الله سبحانه وتعالى على الذين يعطلون معايير النظر والتقويم، ويقعون أسرى للميراث الثقافي، ويقبلونه بدون نظر، بقوله : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) (المائدة : 104).
وهكذا يتحول التاريخ والوعي التاريخي، أو إن شئت فقل : الثقافة التاريخية الخاضعة للنقد والتقويم، إلى مورد من أهم موارد التشكيل الثقافي والتربوي للأجيال.(9/204)
وهنا قضية قد يكون من الأهمية بمكان معاودة التأكيد عليها، وهي أن التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، ذلك أن الإسلام هو ما ورد في الكتاب والسنة والسيرة العملية، وإنما هو فعل بشري يجري عليه الخطأ والصواب، وتتعرض الأمة في مسيرتها التاريخية لحالات من السقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والصواب والخطأ، أو هو اجتهاد بشري في تنزيل القيم الإسلامية من الكتاب والسنة على واقع الناس، وهذا الاجتهاد أو التنزيل قد يصيب وقد يخطئ، وصوابه لعصر معين لا يعني بالضرورة صوابه لكل العصور، على تبدلها وتغيرها، ولا عصمة لفعل البشر الذي يشكل التاريخ.
لذلك يمكن القول : بأن التاريخ الإسلامي ليس مصدرا للتشريع، وإن كان مصدرا للعبرة والعظة والمعرفة، واكتشاف السنن، والتعرف على قوانين الحركة التاريخية، للإفادة من التجارب، وتحقيق الوقاية الحضارية، وقد حدد القرآن ذلك بقوله : (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (آل عمران : 137 -138).
إنه الاهتداء إلى قوانين الاجتماع البشري، وأخذ العبرة مما أصاب الأمم السابقة، بما فيهم الأمة المسلمة، من خطأ وصواب، وسقوط ونهوض، وزيادة ونقصان في أقدار التدين، حتى لا تنتقل علل التدين والإصابات الحضارية إلينا، بما يمكن أن نسميه : تحقيق الوقاية الحضارية من السقوط، أو التقوى بالمصطلح القرآني .. وما يلحق الأمة من إصابات لا يتعارض مع الاعتزاز بالتاريخ، والتأكيد على أهمية الثقافة التاريخية في مجال التربية والتشكيل الثقافي، لأن اكتشاف الخطأ لا يقل أهمية في العملية التربوية عن إدراك الصواب، إلى درجة يمكن القول معها : إن التاريخ هو أبو العلوم الاجتماعية والإنسانية والتربوية -كما أسلفنا- لكن الانحياز الأعمى للتاريخ بكل ما فيه، يعطل الإفادة منه، ويحجزه عن عطاء الأجيال، وتربية ملكة النقد والتفكير عندها، وبذلك يتحول التاريخ إلى نموذج لتكريس التلقين، والإبقاء على حالة الركود والاستنقاع الحضاري، والاستمرار في تحكم عقدة الافتخار في الماضي، لتعويض السقوط والتخلف في الحاضر.
ومن هنا نقول : إن التاريخ الإسلامي بهذا الاعتبار الذي أشرنا إليه، غير السيرة النبوية، وإن كانت جزءا منه أو حلقة فيه من الناحية الزمانية، إلا أن السيرة تتميز عنه بأنها معصومة بتأييد الوحي وتسديده، وهي خالدة في عطائها، مجردة عن حدود الزمان والمكان، وهي أنموذج للاقتداء والتلقي، وبذلك فهي مصدر للتشريع أو للفقه العملي التطبيقي، وبهذا تفترق عن التاريخ من بعض الوجوه، ولا أبين في ذلك من قولة الإمام مالك رحمه الله : كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد، ويؤخذ من فعله واجتهاده ويرد، إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.
ولعل من الخطورة بمكان أن تجعل السيرة من التاريخ الماضي، وأن يجعل التاريخ في منزلة السيرة، ومع شديد الأسف نجد أن الدراسات التاريخية، حتى في المناهج المدرسية والكتب التربوية، في الأدب واللغة والسياسة، تقوم في معظمها على هذا الاعتبار، فتاريخ صدر الإسلام يعني السيرة والخلافة الراشدة، وبعده التاريخ الأموي أو العصر الأموي، وبعده العصر العباسي وهكذا، دون التمييز بين التاريخ والسيرة، وما تمتاز به هذه الفترة من الخلود والأنموذجية، والفقه الميداني لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس.
ولعلنا نقول : إن وجود أخطاء واجتهادات متنوعة ومتعددة حتى في مرحلة القدوة، هو من لوازم الطبيعة البشرية، وحتى تتحقق عملية الاقتداء والتعامل مع كل الحالات المتوقعة على الزمن، لأن مجتمع الصحابة الأنموذج والمثال مجتمع بشري، وليس مجتمع ملائكة، ولو كانوا ملائكة مسيرين بلا أخطاء، ما كانوا مؤهلين لإثارة الاقتداء.
لكن الفرق واضح بين فترة السيرة وما تلاها من تاريخ، لأن الخطأ الواقع ناله التصويب من الوحي، فما وقع في هذه الفترة إما صواب أقره الوحي بسكوته عنه، وإما خطأ صوبه لذلك فكل ما وردنا عن هذه الفترة هو صواب إذا توفرت له شروط النقل، وإلا كيف يمكن أن يكون قدوة للناس إذا لم يكن صوابا؟
وهنا قضية تجدر الإشارة إليها : وهي أنه على الرغم مما يقال عن المسلمين بأنهم ماضويون أو تاريخيون، وعلى الرغم من أهمية علم التاريخ في تحقيق الوعي بحركة الأمة ومكوناتها، ودور التاريخ في فهم الحاضر والتحضير للمستقبل، والتبصر بوسائل النهوض والتغيير لواقعها، فإن علم التاريخ بأبعاده المطلوبة لم يأخذ المدى المطلوب من تخصصاتنا ودراساتنا المنهجية .. والذين يدعون منا إدراك فلسفة التاريخ، هم نقلة يملؤون أوعيتهم الذهنية من إنتاج الآخرين، أما باقي المسلمين فهم يقتصرون على قراءة التاريخ الذي يكتب لهم، ويعجزون عن صناعته .. إنهم يقرأون تاريخهم بأبجديات وتقسيمات غيرهم.
وقد تكون المشكلة أن التاريخ في هذه الحالة، بدل أن يكون عامل نهوض وتغيير، يصبح سبيل ركود وتمزيق لنسيج الأمة الثقافي والاجتماعي.
لأن المشكلة تبقى دائما، وخاصة في دراسة التاريخ، بين الذات والموضوع بين الدراسة المنهجية والعصبية المذهبية، أو التركيز على جانب واحد في صناعة التاريخ وقراءته .. فالتاريخ دائما لا يكتب من الخارج، ولا يقرأ من الخارج.
لقد أصبح التوجه صوب التاريخ والتعامل معه كمعطى ثقافي، أو كمورد من أهم موارد التشكيل الثقافي، من الأهمية بمكان، لأنه يعتبر إلى حد بعيد من ضرورات الخصوصية الثقافية، وعلى الأخص في عصر العولمة، ومحاولات طمس الهوية وتذويب الخصوصيات، وفرض ثقافة وتاريخ الغالب باسم التطبيع أو نهاية التاريخ والنزوع إلى العالمية والإنسانية.
فالتاريخ هو ذاكرة الأمة ومخزون تراثها الثقافي، ومناخ عمليات التفكير وتحديد الوجهة، وحامل قسمات شخصيتها الحضارية، وهو من أهم عوامل الارتكاز الثقافي .. وهو مفتاح لكل نهوض أو إصلاح أو تغيير، في صفحاته تقرأ الأمم والشعوب، ويكتشف دليل التعامل معها .. ومن خلال استقرائه تعرف السنن الفاعلة في الحياة، والقوانين التي تحكم الفعل التاريخي، وتحقق العبرة التي تختزل لنا التجربة، وتطوي مسافة الزمان والمكان، وتمد أعمارنا إلى الماضي البعيد، وتوجه أبصارنا إلى أفق المستقبل وعالم الغد المديد، وتمنحنا الحكمة، وتزكي عقولنا، وتنمي معارفنا، وتمنحنا القدرة على الموازنة والمقارنة والفهم والتحليل والتعليل، وتحرضنا على التفكير في أسباب السقوط والنهوض، لذلك اعتبر القرآن التاريخ -كما أسلفنا- مصدرا للمعرفة، ودعا إلى السير في الأرض لاستيعابه، واستنكر الركود والاستنقاع وعدم الاكتشاف الحضاري، فقال : (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) (الروم : 9).
وحسبنا أن نقول : بأن الكثير من الموحى به، من أنباء الغيب، كان تاريخا، ومع ذلك فالمسلم اليوم يكاد يعيش خارج التاريخ وخارج الحاضر، الأمر الذي سوف يؤدي إلى إخراجه من المستقبل أيضا، لأن تاريخا ينتقى منه ويقرأ ويفسر لنا بأبجديات تصب في تحقيق أهداف أصحابها، يعني أن حاضرنا يصنع من غيرنا، ومستقبلنا -إذا كانت هذه هي مقدماته- فالله أعلم به .. لذلك فالمؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية مدعوة جميعا إلى إدراك أهمية التاريخ، وموقعه من تشكيل الأمة الثقافي، والتفكير بكيفية تصويب الحال، وكيفية إحياء هذا الفرض الكفائي أو هذا الفرض الحضاري، بعيدا عن الضجيج والصخب، والخطب والحماس، وضرب الطبول، وارتفاع الأصوات، وسماكة الحناجر، والإثارة التي لا تؤدي إلا إلى الإحباط والحسرة.
وبعد :(9/205)
فهذا الكتاب الذي نقدمه، يعتبر محاولة على قدر من الأهمية في تبيان دور القرآن في تحقيق النقلة الحضارية والثقافية، وإثارة وعي المسلمين بالبعد التاريخي ودوره في التشكيل الثقافي، وتحقيق العبرة، وإخراج العرب من النظرة الدهرية، وتنمية حسهم بالزمن كوعاء للفعل الحضاري، وما قدمه القرآن من منهج في تفسير التاريخ أو فلسفة التاريخ، وأثر منهج القرآن والحديث في التدوين والتحقيق التاريخي، ومحاولة تقديم مسح لملامح المكتبة التاريخية الإسلامية بتنوعاتها وخصائصها المتعددة، والجهود العلمية المتميزة وخصائصها في هذا المجال.
ذلك أن التاريخ هو وعاء الفعل الحضاري، وميدان تنزيل القيم على الواقع، وذاكرة الأمة ومحل تجربتها وعبرتها، وهو مخزون غني يورثه الآباء للأبناء والأحفاد، ونهر متدفق يتجه من الماضي، ويمر بالحاضر، ويصب بالمستقبل، لذلك لا غنى عنه لكل العاملين في مجال الثقافة والتربية والتعليم والإعلام، ولكل رواد الإصلاح لعالم الغد.
والله المستعان.
============
المقدمة
قد يكون من المناسب أن نعطي فكرة عن مدلولات هذا المصطلح : (المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، حتى عصر ابن خلدون) ، كي نتجنب ما يمكن أن نقع فيه من الالتباس خلال معالجتنا لموضوع البحث.
ونود أن نشير في البداية أننا لسنا مبتدعين لهذا المصطلح، فقد أخذ يظهر في الكتابات المعاصرة وبأقلام أكاديميين متخصصين (1).
على أن ذلك لم يكف، فعدنا إلى بعض المعاجم العربية، لعل فيها ما يفيدنا في تحديد مصطلح المنظور، فوجدنا أن (المنظور) كلمة عربية، واشتقاقها من الفعل (نظر) .. و(النظر) و(النظران)، تأمل الشيء بالعين (2) .. ورجل منظور : .. معين .. وسيد منظور : يرجى فضله وترمقه الأبصار (3).
ومن هنا يظهر أن كلمة (منظور) هي كلمة عربية، إلا أن معانيها لا تطابق الاستخدامات التي وظفت لها في الكتابات المعاصرة.
لقد وجدنا أن كلمة المنظور في الإنكليزية، جاءت بمعنى : "مظهر الموضوع كما يتبدى للعقل من زاوية تاريخية معينة. أو هو : القدرة على رؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة وأهميتها النسبية "(4) .. والمفهوم الأخير للمنظور كما يبدو، هو الذي أخذت به الكتابات المعاصرة، مما جعلنا نأخذ به في معالجة موضوعنا هذا.
فعندما نقول : منظور المسعودي في كتابه : "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، فإننا نقصد بذلك ما رآه المسعودي ضروريا وحيويا من المعلومات التاريخية فدونها على صفحات كتابه.
أما الحضارة، فاشتقاقها في العربية من الفعل (ح ض ر) ، و(الحضر) خلاف البدو، و(الحاضر) ضد (البادي)، و(الحاضرة) ضد (البادية)، وهي المدن والقرى والريف، والبادية ضدها (5).
فالحاضرة هي المدينة أو القرية، وهي نقيض البادية . ويقال : فلان حضري، وفلان بدوي، فالحضارة هي الإقامة في الحضر (6).
على أن الحضارة قد تعدت هذا التخصيص المعجمي الضيق (حضري ضد بدوي)، أو (حاضرة ضد بادية) ، فاتسعت مدلولاتها لدى الباحثين المعاصرين، رغم عدم اتفاقهم على إعطاء تعريف موحد لها، لا في اللغة العربية ولا في اللغات الأوروبية المختلفة (7).
وقد وجدنا أن أقرب هذه التعاريف وأقلها التباسا، ذلك الذي يعتبر الحضارة (هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء) (8).
وعلى ضوء هذا، يكون المنظور الحضاري للمؤرخ : هو ما يراه جديرا بالتسجيل أو التدوين من المعلومات، التي تتصل بالجوانب الحضارية أو ذات المنحى الحضاري، سواء كانت روحية أو ثقافية أو اجتماعية، أو اقتصادية أو عمرانية.
كذلك فقد وردت مصطلحات : (الحس التاريخي)، و(الوعي التاريخي)، و(الأمة)، في صفحات هذا الكتاب، أرتأينا من المناسب تحديدها وضبطها قدر الإمكان، بما ييسر تقنين مضامينها حينما وردت في مظان البحث.
(فالحس) والحسيس، هو الصوت الخفي . قال تعالى : "لا يسمعون حسيسها" (الأنبياء : 102) ، وأحس الشيء وجد حسه .. وأحس معناه : ظن ووجد (9).
فالحس التاريخي، كما استخدمناه في هذا البحث، هو إحساس جماعة أو أمة بقيمة الزمن، ولو بشكل نسبي، دون أن يترتب على ذلك أية ممارسة متقدمة في مجال المعرفة التاريخية أو التدوين التاريخي المنظم، القائم على ربط الأسباب بمسبباتها، وربط الحوادث في إطار علاقاتها الزمانية والمكانية.
أما الوعي التاريخي : فإن الوعي جاء من الحفظ، (وعى) الحديث يعيه (وعيا) حفظه .. وأذن (واعية) .. "والله أعلم بما يوعون" (الانشقاق : 23) . أي يضمرون في قلوبهم من التكذيب (10).
فالوعي هو الحفظ والإدراك، ولذا فإن الوعي التاريخي حالة متقدمة في مجال المعرفة التاريخية وامتلاك القدرة على ممارسة التدوين التاريخي فالوعي التاريخي هو حالة أكثر تقدما من الحس التاريخي لجماعة أو أمة من الأمم .. ونرى أن الكتابة التاريخية لا تتحقق قبل تحقق الوعي التاريخي عندأمة أو جماعة.
أما الأمة : فهي الجماعة .. والأمة الطريقة والدين .. يقال : فلان لا أمة له، أي لا دين له ولا نحلة .. وقوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران : 110) ، يريد أهل أمة، أي كنتم خير أهل دين (11).
فالأمة هي الجماعة، بصفة الإطلاق، تتميز على غيرها من الجماعات .. وفي العصور الإسلامية تميزت على غيرها بدينها، فصارت الأمة في نظر العربي المسلم جميع الناس الذين يعتنقون الإسلام، فكان يرتحل من أقصى الشرق -في نظر العربي- من خراسان إلى العراق ومكة والمدينة، ويتجه إلى مصر والمغرب دون أن يحس بالوحشة والاغتراب .. وقد بقي هذا الشعور عند العرب والمسلمين حتى بعد ضعف الخلافة العباسية وقيام إمارات ودويلات سياسية مختلفة، إذ ظل الشعور بحقيقة الأمة الواحدة يسيطر على كيان العربي المسلم في تلك العصور.
كان اختياري لهذا الموضوع، قد جاء نتيجة لما يحيط بالدراسات التاريخية المعاصرة من توجهات هدفها دراسة الماضي البشري من وجهة نظر حضارية، أو بعبارة أكثر تحديدا دراسة التاريخ، وتفسير حوادثه على أساس حضاري.
لقد بدأ المنظور السياسي في التفسير التاريخي يتنحى عن مكانته إلى حد ما، تاركا المجال مفتوحا للنظرة الحضارية الجديدة وتفاسيرها التي بدت أقرب إلى الحقائق من التفاسير السياسية.
لقد شهد القرن الثامن عشر الميلادي، ميلاد هذه التوجهات الجديدة في أوربا، فقد وجد بعض الدارسين الأوربيين، أن التاريخ الأوربي في العصور الوسطى، لا يعدو أن يكون تواريخ لملوك أوربا وحروبهم ومنازعاتهم وتحالفاتهم ومعاهداتهم.
فلم يكن التاريخ الأوربي، استنادا إلى هذه المعطيات، ليؤرخ للأمة في مسيرتها الثقافية والاجتماعية والعلمية، وإنما أصبح التاريخ وكأنه قد وضع لتغطية أعمال الملوك فحسب، ولا تتعدى مهمته أبعد من ذلك .. وهكذا بدأت بعض الصيحات في أوربا في القرن الثامن عشر، تدعو إلى لفت الانتباه إلى المعطيات الحقيقية التي تستحق من المؤرخ الدراسة والبحث، وهي الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفنية، وعدم الاقتصار على دراسة النواحي السياسية .. إذ أن الأخبار السياسية وأخبار الحروب في نظر أصحاب هذا الرأي، لا تفصح عن العقل الإنساني خلال العصور، يقول فولتير :
"ولكني بعد قراءة وصف ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة، وبضع مئات من المعاهدات، لم أجد نفسي أكثر حكمة مما كنت قبلها، حيث لم أتعرف إلا على مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة" (12).(9/206)
لقد لقيت دعوة فولتير هذه، وهي كتابة التاريخ وفقا للمنهج الحضاري، ترحيبا من قبل بعض المؤرخين الغربيين ك (ماكولي) وغيره، وبدأت الدراسات وفق هذا المنظور تتزايد في الغرب، وبدأ المنظور السياسي يتنحى عن مكانته، التي ظل سيدها في أوربا طيلة العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر.
على أن ما يصدق على التاريخ الأوربي في العصور الوسطى، لا يصدق على التاريخ العربي الإسلامي في العصور الإسلامية.
فلقد كانت توجهات أغلب المؤرخين العرب المسلمين توجهات حضارية، بمعنى أنها أرخت للأمة في كافة جوانب حياتها الدينية والعلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
فقد أرخ المسلمون في السيرة النبوية الشريفة، فكتبوا عن كل ما يتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته الرسول والنبي وهادي البشرية، وأرخوا للصحابة رضوان الله عليهم، والمحدثين والفقهاء والنحاة والشعراء والأطباء والحكماء (الفلاسفة) والصوفية والأولياء .. وفي كتب الطبقات والتراجم ما يقف دليلا صادقا على ما نقول.
بل إن الصورة التي تظهر بها كتب التواريخ العالمية وكأنها قد عنيت فقط بالجوانب السياسية، لا تمثل كل الحقيقة . إذ نجد الكثير من المعلومات التي تتصل بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، قد وجدت مكانها في كتب اليعقوبي، والدينوري، والطبري، والمسعودي، والمقدسي، ومسكويه، وابن الأثير، والذهبي.
كما أن مقدمة ابن خلدون التي كتبها في القرن الثامن الهجري، تعزز رأينا في اهتمام المؤرخين العرب المسلمين المبكر بالجوانب الحضارية.
فلم تكن هذه المقدمة التي جاءت لأول مرة في التاريخ بتفسير حضاري لأحداثه والعوامل الفاعلة فيه، سوى حصيلة ذلك التراث الثقافي الثر للأمة العربية الإسلامية.
لقد أوضح ابن خلدون أنه قرأ ذلك التراث، من خلال ثنائه على كبار المؤرخين العرب المسلمين، كالواقدي، والطبري، والمسعودي، والبكري .. كذلك فإنه أشار إلى الطرطوشي (ت : 450 هـ) ، وكتابه (سراج الملوك)، واعتبره سابقا له في الاقتراب والتحويم حول الموضوع الذي استلهمه ابن خلدون وهو (العمران البشري).
وهكذا فإن ابن خلدون مدين لتراث أمته في ما أبدعه، فمن ذلك التراث تبلورت نظريته في العمران البشري.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإنه لم يتصد أحد من المعاصرين لإبراز هذه الرؤية ومعالجتها بشكل شمولي.
============
الفصل الأول : الوعي التاريخي عند العرب أ - مرحلة ما قبل الإسلام
أ - مرحلة ما قبل الإسلام
وبعيدا عما فصلنا القول فيه في أصل دراستنا (1) من تتبع لوجود وعي تاريخي في كل من وادي الرافدين ووادي النيل والعربية الجنوبية (بلاد اليمن) وتدمر والأنباط والمناذرة، فإن منطقة نجد والحجاز قد تأخر فيهما ميلاد مثل هذا الوعي أو ذاك الحس التاريخي.
وقد يكون السبب في ذلك أن البيئة الصحراوية القاسية لم تساعد على الاستقرار وقيام مجتمع متحضر (في نجد) خاصة، مما طبع النشاط الاقتصادي هنا بطابع الرعي، والحياة الاجتماعية بطابع البداوة والترحال، فأصبح النمط الثقافي السائد في هذه البيئة شفاهيا يقوم على الأيام والأنساب.
إضافة إلى ذلك فإن هنالك اعتقاد بأن غياب وعي تاريخي لدى عرب الشمال، إنما يعود إلى :
- عدم وجود دولة واحدة تضم العرب وتوحدهم قبل الإسلام.
- افتقاد العرب إلى دين عام يوحد توجهاتهم العقائدية، وبالتالي يخلق في نفوسهم أحد أهم أسس الوحدة السياسية، وهو الشيء الذي تحقق لهم بالإسلام فيما بعد.
- إضافة إلى هذا، فإن العربي كان يفتقد وجود تصور واضح للتاريخ، فقد تعامل مع الزمن بجانبيه، البداية والنهاية، من نظرة أحادية، ركزت على الجانب الثاني الذي هو النهاية أو الموت، فهو تعلق بنهاية التاريخ.
وكانت هذه النهاية أو المصير أو الموت، مثار قلق دائم بالنسبة للعربي قبل الإسلام، وقد ظهر مثل هذا القلق في شعر بعض الشعراء قبل الإسلام، يقول طرفة بن العبد (2) :
لعمرك ما أدري وإني لواجل أفي اليوم إقدام المنية أم غد؟
فإن تك خلفي لا يفتها سواديا وإن تك قدامي أجدها بمرصد
وكذلك ما يعبر عنه امرؤ القيس (3)،من حزن عندما تحل المنايا بقوم، فهي لا تفرق بين سيد وأحمق، وبين صغير وكبير :
تلك المنايا فما يبقين من أحد يأخذن حمقا وما يبقين أكياسا
وعلى هذا أصبح الزمان في نظر العربي قبل الإسلام يرمز للفناء، وبمرور الأيام تمضي حياة الناس إلى نهايتها المحتومة.
هذه أبرز عوامل تأخر ظهور وعي تاريخي قبل الإسلام .. فما هو أثر الإسلام في ظهور وعي تاريخي عند العرب المسلمين؟ هذا ما ستجيب عليه الفقرة التالية .
============
ب- عصر الرسالة
أشرنا سابقا إلى أن مفهوم الزمان في نظر العربي المشرك قبل الإسلام قد تحدد في النهاية، أي نهاية الإنسان التي هي الموت، ولم يحدث أن تعدت هذه النظرة إلى البداية، إلى بداية خلقه ووجوده على سطح هذا الكوكب، وكيف خلق، ومم خلق، وما هي الغاية والهدف من خلقه، بل من وجوده على هذه الأرض؟
لقد كان هناك قصور تام في تصوره ورؤيته للحياة، عندما ألغى البداية وركز على النهاية.
لذا كان لابد من رسالة كونية شاملة تصحح للإنسان مساره ونظرته للكون والحياة، وتعيد له ثقته بنفسه، وتربطه بأمل يجد فيه كل معاني الخلود والسرمدية بعد الموت، بعد أن كان يجد فيه فناء مطلقا، لا حياة أخرى من بعده.
على أن في هذا القول ما يشير لأول وهلة إلى أنه يتناقض مع حقيقة وجود النصرانية واليهودية، وانتشار أتباعهما، وإن كان بشكل محدود، في جزيرة العرب، وهم أصحاب ديانتين سماويتين، تمتلكان رؤية واضحة للكون والوجود، والخليقة، والموت.
ويبدو أن هؤلاء العرب المتنصرين أو المتهودين لم يكونوا على وعي كامل ودقيق بحقائق دينهم، (فقد عرفوا الكنائس والبيع والرهبان والأساقفة والصوامع، ولكنهم ظلوا لا يتعمقون في هذا الدين الجديد، وظلوا يخلطونه بغير قليل من وثنيتهم) (4) ، فيكون بذلك فهمهم للدين فهما سطحيا، يهتم بالمظاهر الدينية أكثر من اهتمامهم بجوهر الدين، ولذا (فهم مسيحيون وثنيون في الوقت نفسه) (5).
أما الأحناف،فهم الذين خالفوا قومهم في عبادة الأصنام والأوثان، وحرموا على أنفسهم في فترة ما قبل الإسلام، الخمر والميسر والأزلام والميتة والذبائح التي تذبح على الأوثان، وراحوا يلتمسون الحقيقة وهي دين إبراهيم عليه السلام (6).
على أن الأحناف كانوا من القلة، بحيث لا يمكن أن ينتظر منهم عمل كبير وواسع، يغير من معتقدات إخوانهم المشركين، الذين يعيش الأحناف بين ظهرانيهم في مكة أو بين القبائل .. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يبدو أن فكرة (دين إبراهيم) لم تكن واضحة في أذهانهم، إذ لم يكن مثل هذا الدين محددا ومعروفا قبل الإسلام، ولذا نجد بعضهم قد تنصر، وبعضهم اعتزل قومه، وبعضهم ظل قلقا، وقد التبست عليه الأمور حتى جاء الإسلام فاعتنقه (7).
وإذا كان من معنى للحنيفية قبل ظهور الإسلام، فإنه يمثل حالة القلق عند بعض العرب، وإن ما هم عليه من شرك أصبح موضع اتهام .. كان العربي قبل ظهور الإسلام يفتقد وجود عقيدة كونية عامة أو دين عام، يربط بين الماضي والحاضر، ويعطي مغزى وغاية للحياة البشرية (8).(9/207)
إن ظهور الإسلام يعد منعطفا خطيرا في حياة العرب، فقد غير مسار حياتهم وأسس تفكيرهم، واستبدل عقائدهم المنحرفة الضالة بعقيدة واضحة، فكون بذلك القاعدة الفكرية اللازمة لتوحدهم بعد حياة التبعثر والشتات التي كانوا يعيشونها في ظل القبلية، وما فرضته طبيعتها عليهم من مخاصمات وحروب ودماء.
وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي، فإن القرآن الكريم قد استفز العقل العربي في المحاور الأربعة التالية، والتي نرى في مجملها أنها كانت المشكاة التي أضاءت الطريق لمسيرة علم التاريخ العربي-الإسلامي :
1- فكرة المصير في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي.
2- البعد الحضاري في القرآن الكريم فكرة استخلاف الله تعالى للإنسان في الأرض ، وأثره في الوعي التاريخي.
3- أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.
4- فكرة وحدة الرسالات السماوية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.
إن هذه المحاور الأربعة ستكون مدار حديثنا، لتشخيص ما تنطوي عليه من محفزات الوعي التاريخي عند العرب المسلمين في عصر الرسالة.
أولا : فكرة المصير في القرآن الكريم وأثرها في الوعي التاريخي :
الواقع أن الإسلام من خلال كتابه الكريم القرآن، لم يكن أول من جاء بفكرة المصير، أي نهاية الإنسان، وما سيؤول إليه بعد الموت.
لقد تناولت اليهودية والنصرانية هذه المشكلة، وقدمتا لها حلا يتلخص في أن الإنسان ليس وحيدا في هذا العالم، بل إنه يتمتع بمكانة ممتازة في مجرى التاريخ، فتاريخ الإنسان في منظورهما : "يبدأ ببداية العالم من قبل أن يخلق المرء بأمد طويل" (9) . كما أن هذا التاريخ للإنسان لا ينتهي بالنهاية المحزنة المأسوية التي يطويها العدم والفناء، وإنما تستمر في عالم آخر بعد الموت، حتى تحصى أعمال الإنسان، وكل ما جنت يداه في الحياة الدنيا، دون إغفال لأي منها، صغيرة كانت أو كبيرة (10).
ورغم انتشار اليهودية والنصرانية -المحدود- في الجزيرة العربية، فالظاهر أن فكرة (المصير التي جاء بها القرآن، بدت للمشركين العرب وكأنها فكرة جديدة لم يسمعوا بها من قبل).
كذلك فإن (الدين الإسلامي الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتميز بالوضوح والقدرة على تفهم أسس هذا الوجود بصورة واضحة جدا ومن غير تعسف) (11).
عالج القرآن الكريم مسألة الزمان بشكل واضح لا لبس فيه، فالوجود نوعان : وجود يرتبط بالزمن، فهو وجود متزمن، وهو هنا مخلوقات الله جميعا، ويأتي في مقدمتها الإنسان .. ووجود خارج عن إطار الزمان والمكان، فهو وجود غير مرتبط بزمن، وهو الله سبحانه وتعالى، وهو المطلق.
غير أن هذين الوجودين مرتبطان ارتباطا فلسفيا عميقا، يتجلى بصورة واضحة في العلاقة بين الخالق (اللامتزمن) وبين المخلوق الإنسان (المتزمن) .. وبين المطلق (الله) وبين النسبي (الإنسان) (12).
إن هذه العلاقة كانت الحلقة المفقودة في تصور العرب المشركين، فصار الزمان أو الدهر مصدر شقاء، لأنه يوردهم موارد الفناء والعدم، في حين نجد أن فكرة الزمان في التصور الإسلامي قد استبعدت كل معاني الخوف والألم والشقاء (13).
لقد ألغى القرآن الكريم فكرة العدم والفناء اللتين يمثلهم الموت، وأكد على حياة أخرى تجيء بعد يوم البعث أو القيامة، وسيحاسب الإنسان على جميع ما عمله في حياته الدنيا، فإن كانت أعماله صالحة فاز بالجنة، حيث الخلود والنعيم، وإن كانت أعماله سيئة أدخل النار، حيث العذاب الأليم.
يقول تعالى : "إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" (يس : 12).
فالله تعالى يحيي الموتى، فانتفت بذلك فكرة الفناء، وفي حياة الناس في الدنيا قد كتبت جميع أعمالهم وآثارهم، وأحصيت هذه الأعمال من خير وشر في كتاب واضح مبين : "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" (الإسراء : 13 -14).
فكل إنسان يلزمه الله ما قضى له أنه عامله، وهو صائر إليه بعمله من شقاء أو سعادة .. وقد فسر ابن عباس الآية الكريم : "وكل إنسان ألزمناه .." ، قال : عمله وما قدر عليه، وا يخرج له يوم القيامة كتاب عمله فيجده منشورا أمامه (14).
وهكذا لم تعد الأفعال التي قام بها الإنسان في الماضي منسية ضائعة بعد موت الإنسان، وإنما أصبح كل ما جناه في حياته الدنيا مسطرا ومكتوبا، ويكفي تقديم هذا السجل الكامل بأعمال الإنسان ووضعه بين يديه يوم القيامة، ليكون حكما على نفسه، حسيبا عليها.
وبهذا فقد أصبح للماضي قيمة كبيرة في نظر المؤمنين، وهذه القيمة للماضي الزماني، ترتبط في القرآن بفكرة (العبرة) والاتعاظ بأحداثه وتجاربه، تجارب الأمم والشعوب التي مضت، والوقوف والتأمل في ما فعلته في حياتها من خير، فكان سبب تقدمها وفوزها وسعادتها في الدنيا، أو بما ارتكبته من طغيان وتظالم وتقاعس عن فعل الخير فكان فيه هلاكها ودمارها.
والبحث في الماضي، وأخذ العبر والعظات من حوادثه، هو من صميم النظرة التاريخية، ومن هنا جاء الاستدلال على أثر فكرة (المصير) في القرآن الكريم، في تحفيز الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، ولكي يعتبر المؤمنون بما حدث للطغاة والظالمين والمنحرفين عن السلوك الإنساني القويم، الذي أراده الله لعباده في الأرض، يقول تعالى : "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" ( النازعات : 25 -26). جاء في تفسير هذه الآية الكريمة (15) : فعاقبه الله عقوبة الآخرة، وعقوبة الدنيا بإغراقه لفرعون.
وهكذا توثقت مكانة الزمان الماضي في حياة الإنسان، وهذا هو التاريخ بعينه، أوليس التاريخ هو : (السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه)، على حد تعبير أحد المؤرخين المعاصرين؟ (16).
لقد نفى القرآن الكريم نفيا قاطعا أي معنى للعبثية في وجود الإنسان، وهي الفكرة التي كانت سائدة عند عرب ما قبل الإسلام، يقول تعالى : "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون" (المؤمنون : 115).
بهذا تحدد الزمان في : خلق العالم بوصفه بدايته، وبيوم القيامة بوصفه نهايته، وبين البداية والنهاية تتم كافة الفعاليات التي يقوم بها الإنسان، لذلك أصبحت هذه المرحلة (أي مرحلة الإنسان الدنيا)، مرحلة اختبار دقيق لمحتوى أعماله، بانتظار تقويمها يوم القيامة، فينال بها الخلود والنعيم، (أو تكون سيئة فيدخل بها الجحيم) (17).
إن نظرة العربي المسلم إلى الماضي، كما جاء بها القرآن، وإلى المستقبل الذي امتد إلى ما بعد الموت، قد فتقت ذهنيته للإحاطة بالحركة التاريخية في كافة جوانبها، لأنه العنصر الفعال في هذه الحركة، وهو صانع أحداثها.
فلا غرو أن تصبح فكرة المصير في القرآن، أحد دوافع تبلور ونضوج الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فالذي يفكر بمفهوم التاريخ في هذا اليوم لابد (أنه يتساءل عن البداية والنهاية، عن الزمان، عن الوجدان الإنساني، وكل بحث عن أي من هذه المفاهيم يعتبر مساهمة في توضيح معنى التاريخ)(18).
ثانيا : البعد الحضاري في القرآن الكريم وأثره في الوعي التاريخي :
قص القرآن الكريم قصة خلق آدم، قال تعالى : "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" ( المؤمنون : 12) . وقال : "وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون" (الحجر : 12).(9/208)
وفي آية أخرى ينص القرآن على الدور المنوط بهذا المخلوق وهو الإنسان، يقول عز وجل : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة : 30).
وإذا كان الهدف من هذه الدراسة ليس الخوض في التفاصيل المتعلقة بآدم عليه السلام، إلا بالقدر الذي يمس البحث مسا مباشرا، فإننا نقول إن الله تعالى كرم آدم لما أودع فيه من قدرات جعلته يرتقي فوق مصاف الملائكة، لذلك أمرهم بالسجود له، مما أثار حفيظة إبليس وحسده، فصار يمثل الشر، كما صار العدو اللدود لآدم عليه السلام وذريته حتى قيام الساعة.
لقد خلق الله تعالى مع آدم كافة المقومات العقلية والبدنية، التي تؤهله لأداء فكرة استخلاف الله له على الأرض.
وفكرة الاستخلاف هذه تقوم على دعامتين، هما الإيمان بالله والعمل الصالح، ونبذ وتجنب كل ما هو من شأنه الإفساد في الأرض (19) ، يقول تعالى : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" ( النور : 55).
ولا شك أن العمل المخلص الصائب الجاد البعيد عن الهوى، والنشاط والتفاني اللذين يظهرهما الإنسان في أداء عمله، والإبداع الذي يسعى إلى تحقيقه بما فتق الله له ذهنه وعقله من طاقات وقدرات كبيرة قادرة على تسخير الأنهار لخدمته، والنار لحاجته، والأرض لزرعه ومسكنه، هي التي وضعت لبنات الحضارة الأولى التي بناها الإنسان.
ولكي لا تنهار هذه الحضارة بالفساد، الذي يسببه الظلم والطغيان، ظلم الناس وطغيانهم بعضهم على بعض، فإن الالتزام بمقتضيات الإيمان بالله فيما أمر ونهى، يعد العامل الأساس الثاني في ديمومة الحضارة واستمرارها.
لقد احتفظ القرآن الكريم (للعمل) بمكانة بارزة، وقرن دائما بينه وبين الإيمان بالله : "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (سورة العصر). فمما لا جدال فيه أنه بدون العمل الصالح المثابر الجاد لا يمكن أن يقوم عمران بشري أو حضارة، ولهذا ترد لفظة العمل في القرآن ثلاثمائة وخمسين مرة، مؤكدة سلبا أو إيجابا على أن العمل هو المحور الذي يقوم عليه الوجود البشري (20).
والآيات التي قرن الله تعالى فيها بين الإيمان والعمل كثيرة، منها : "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (التين : 4 -5) ، "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا" (فصلت : 33).
فالإيمان والعمل الصالح هما اللذان يبدعان الحضارة، وبهما تتحقق سعادة الإنسان على الأرض، وكلما أبدى الإنسان ضربا جديدا من الهمة والنشاط والإبداع، كلما ارتقى مدرجا جديدا من مدارج الحضارة التي يصنعها لنفسه ولبني جنسه من البشر والإيمان بالله ، وتلقي هدايته عن طريق رسله وأنبيائه، هو الكابح الذي ينظم المسيرة الحضارية، ويحفظ لها التوازن من الطيش والتعالي والتظالم والطغيان، مما يجعل حياة الجماعة البشرية أكثر سعادة ورخاء وأمنا.
إن الله تعالى عندما استخلف الإنسان في الأرض وأمره بإعمارها بحثه على العمل الصالح النافع له ولبني جنسه، أراد بذلك استمرار المسيرة البشرية نحو الخير والصلاح، كي ينعم المجتمع البشري بالرخاء والاطمئنان، ولذلك فإن القرآن الكريم يعتبر الأرض من نعم الله التي أنعم بها على المجتمع البشري : "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون" (الأعراف : 10) ، "وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الرعد : 3 ) ، "أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم" (الشعراء : 7).
وكثير من آيات القرآن الكريم الأخرى، تتحدث عما في الأرض من خير : الماء، والنبات، والحيوان، والمعادن، وكل هذه وضعت تحت تصرف الإنسان، وحث على استغلالها والتنعم بها، لتحقيق الكفاية في راحته وسعادته وضمان مستقبله .. بمعنى وجود كل المقومات والعناصر، التي تدخل وتساعد في البناء الحضاري للإنسان، قد يسرها الله تعالى على الأرض، فما على الإنسان إلا أن يجد ويسعى لصنع حضارته وبناء مستقبله، وتواصل جهوده بجهود الأجيال اللاحقة، لذلك فإن القرآن الكريم يحتفظ للأرض بمكانة كبيرة كونها مستقر الإنسان، ومصدر جميع عناصر الحياة التي تضمن بقاءه، كما تضمن تواصله مع الكون، على خلاف ما جاء في العهد القديم عنها، فنراه يلعن الأرض لعصيان آدم وهبوطه عليها وهو مثقل بالخطيئة (21).
وطبقا لفكرة وحدة الرسالات السماوية التي جاء الإسلام خاتما لها، فإن الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تتحدث عن الأرض وعن ما أودع الله فيها من ماء ونبات وحيوان ومعادن كي تصبح حياة الإنسان على ظهرها ليست ممكنة فحسب، وإنما مزدهرة ومتطورة متقدمة إن هو أحسن استغلالها، واستخدم تلك الطاقة الجبارة، التي أودعها الله فيه وهي عقله، وأطرافه وجسده، اللذان انطويا على قدرات هائلة لمواجهة متطلبات البناء والتعمير والتصنيع، التي بتلاقيها مع الإيمان بالله والتلقي للهداية عنه، تتحقق فكرة استخلاف الإنسان على الأرض وفق النواميس والسنن التي أرادها الله تعالى، كي ينعم المجتمع البشري بنعمة التقدم والسلام، اللذين أرادهما الله لبني البشر، أقول : فإنه وفقا لهذه الفكرة، فإن آيات القرآن كانت تتضمن لفت نظر الإنسان، ومنذ بدء الرسالات السماوية، إلى التفكر والتمعن فيما خلق الله من نعم على الأرض وفيها، وما أنزل الله من السماء من ماء فأخرج به من نبات الأرض، ما يكفل للإنسان بناء حضارته . قال تعالى : "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين" (الحجر : 19 -20) ، ومعايش الإنسان في الأرض متنوعة ومتعددة، منها النبات والحيوان، ومنها المعادن بمختلف أشكالها للسلاح والآلة والزينة، قال تعالى : "أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم" ( الشعراء : 7) ، وقال جل شأنه : "وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل" ( الرعد : 4) . وقال تعالى : "والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون" ( النحل : 5) ، وقال : "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" ( النحل : 66). وجعل من بعض هذه الأنعام وسائل للنقل بين الجماعات وتيسير الحاجات، عن طريق التجارة وبواسطة السفن التي يسر الله صنعها للإنسان، قال تعالى : "وجعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون" (غافر : 79 -80) ، وقال : "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" (النحل : 14).(9/209)
والقرآن يوجه أنظار الناس إلى ما خلق الله لهم من نعم وخيرات على سبيل المنة، أي على الناس أن يشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم .. وشكر الناس يكون بطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه، وهي جميعا وراء كل خير للمجتمع البشري، وتحقيق كل تقدم وتطور حضاري في الحياة الإنسانية، لذلك فإن القرآن يهاجم كل فعل أو قول من شأنه أن يؤدي إلى الفساد في الأرض، لأن هذا الفساد يعني هدم جميع المنجزات الحضارية التي شيدتها جماعة أو مجتمع ما أو البشرية جميعا (22) ، فترى القرآن يعيب أولئك الذين إن تولوا في الأرض سعوا إلى تدمير كل ما ينفع الإنسان أو المجتمع : "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" (البقرة : 205).
لذا فإن القرآن يسعى إلى حماية المنجزات الحضارية التي بناها الإنسان، ومنع العبث بها وتخريبها، بل إنه رفض أية محاولة من شأنها إعاقة المسيرة الحضارية للبشرية بجانبيها المادي والأخلاقي أو الروحي، لأن سلامة الجانب الأخلاقي وتنامي الجوانب الروحية في أية حضارة، هو الذي يضمن استمرار الحضارة وتقدمها في جوانبها المادية فعندما تضيع الأمانة والصدق في حضارة ما، وينعدم الإخلاص في العمل، وينتشر الغش، ويتسلط الولاة وأولي الأمر على الرعية، فإن ذلك يعد إيذانا بانهيار تلك الحضارة، لأن الفساد الخلقي والروحي من شأنهما حرمان الحضارة من نصف عناصر قوتها التي تضمن لها الحيوية والانتشار.
إن المجتمع البشري مأمور بعمران الأرض، وإقامة قواعد العدل والحق عليها، وليس له أن يتهاون في أداء هذا الجانب (23). وفي كل ذلك فإن البشرية محروسة بالعناية الإلهية، ومحمية بها، طالما ظلت أمينة على رسالتها في تحقيق العدل والسلام فيما بين أفرادها : "قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون" (الأنبياء : 42) ، "كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى" (طه : 81) ، "الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعاكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى" (طه : 53-54) .
إن أصحاب العقول النيرة الواعية، هم أكثر الناس إدراكا لعظمة الله ، كما أنهم الأكثر قربا منه، والأكثر حرصا على استمرار وتنامي المسيرة الحضارية لقد لفت الله تعالى أنظار البشر لأعمال وآثار السالفين منهم، في دعوة منه للتأمل فيما ترك هؤلاء من مساكن وعمران، بمعنى تأمل فعل أولئك الأقوام على الأرض، أي تاريخهم، بقصد الاعتبار وتحقيق الكمال في بناء حياتهم الروحية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية (24) ، لذلك أصبح التاريخ في القرآن الكريم مصدرا للعظة والعبرة التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية في تدبر وإمعان (25). يقول الله تعالى : " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" ( الحج45 -46).
ودعوة القرآن الكريم إلى التأمل والتفكر في آثار الأمم والحضارات، هي دعوة للمؤمنين بتجنب المصير ذاته، فإنه يضع سننا وقواعد في الحياة، بمراعاتها تستمر الحضارات وتزدهر المجتمعات، ويعيش الناس في أمن ودعة وسلام.
أما الانحراف والعزوف عنها وإهمالها أو تجاهلها، فسيؤدي إلى كارثة تحل بتلك الحضارات لا محالة.
ثالثا : أخبار الأمم الماضية في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين:
قص القرآن الكريم أخبار بعض الأمم التي سبقت الإسلام، فذكر قوم نوح وعاد وثمود ومدين، وقوم إبراهيم وموسى وعيسى ويونس، عليهم السلام، إضافة إلى إشارات مقتضبة عن (سبأ) وذي القرنين.
قال تعالى : "إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم" (نوح : 1) وقال عز وجل مخبرا عن إبراهيم عليه السلام وقومه : "واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين" (الشعراء :70 -71 ).
وعن موسى عليه السلام يقول تعالى : "ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بأياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين" (يونس : 75) . ثم قص خبر قوم هود عليه السلام (وهم عاد) فقال تعالى : "وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون" (هود50). وكذلك في خبر ثمود وهم قوم صالح، يقول سبحانه وتعالى :"وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب" (هود : 61).
لقد لفت الله عز وجل أنظار البشر لأعمال وآثار الماضين منهم، بهدف التأمل والاتعاظ بما حل بتلك الأقوام من كوارث أصابتهم، وما نزل عليهم من العذاب، بسبب جحودهم وإعراضهم عن الإيمان بدعوات رسلهم الذين بعثوا فيهم، يدعونهم إلى توحيد الله ، ويمنعونهم من التظالم والتنازع، ويحثونهم على الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، والإحسان إلى المستضعفين والفقراء.
إن هذا الحشد من القصص عن الأنبياء وأممهم في القرآن الكريم، جاء بهدف العظة والعبرة، التي يجب أن يتلمسها الإنسان في أخبار الأمم الماضية، وأن يتدبر ويتمعن في نتائجها (26) ، ولم تكن الغاية منها (المعرفة التاريخية بذاتها).. ولكنها من ناحية أخرى، حفزت الوعي التاريخي عند المسلمين، فلابد وأن أثارت هذه القصص في أذهان الصحابة أسئلة متعددة : من هم أصحاب النبي نوح أو إبراهيم أو موسى .. ؟ أين عاشوا؟ ومتى وجدوا؟ ومتى جاءهم الدمار؟.
إن هذه الأسئلة، نجد نماذج منها وجهت إلى بعض الصحابة، فقد استفسر أحد الصحابة عن موسى والرجل الصالح الذي قص القرآن قصته أهو النبي موسى أم موسى آخر غير النبي صاحب فرعون؟ فجاء الجواب من عبد الله بن عباس حيث روى عن أبي بن كعب حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، جاء فيه أن المقصود بصاحب الرجل الصالح هو النبي موسى عليه السلام (27).
وعن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب، عن عمرو ابن خارجة، قال : قلنا له : حدثنا حديث ثم ود قال أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود : "كانت ثمود قوم صالح، عمرهم الله عز وجل في الدنيا .. فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين، فنحتوها وجابوها وجوفوها"(28).
وهذا يعني أن ورود أسماء مثل هذه الأمم في القرآن الكريم، كان مما يشغل الصحابة رضوان الله عليهم، ويدفعهم للسؤال عما ورد في القرآن بصددهم .. يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون أهل الكتاب لعل في كتبهم الأولى خبر تلك الأقوام.
وفي غزوة تبوك (8 هـ) ، نزل الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر فقال : "أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله تعالى ذكره لهم الناقة آية .. "(29).
وخبر بلقيس وقصتها تأتي عن وهب بن منبه، قال : "لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان، قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة …" (30).(9/210)
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى"، قال : قلت يا رسول الله ! ما كان في صحف موسى؟ قال :" كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل" (31).
إن الآيات الكريمة التي أوردناها، والتي كانت مثار تساؤل المسلمين، وبعض النماذج التي أتينا بها أجوبة عن أسئلة، أو توضيحا لبعض الإشارات القرآنية، إنما تظهر أثر القرآن الكريم في تحفيز الوعي التاريخي وتنشيطه، وهو مما لا غنى عنه في أي عمل يتجه صوب التأليف التاريخي، وعليه فهذا يأتي في صميم النظرة التاريخية.
رابعا : وحدة الرسالات السماوية كما جاءت في القرآن الكريم، وأثرها في الوعي التاريخي :
الإسلام هو خاتم الأديان السماوية، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى : "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" (الأحزاب :40) ، فلا نبي من بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما هو موقف الإسلام من الأديان السماوية التي ظهرت قلبه؟ وما هي صلة الإسلام بها؟ هل يرتبط الإسلام بهذه الأديان من قريب أو بعيد؟ والجواب على هذه الأسئلة جميعا نجده في القرآن الكريم، وهو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد : "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" (البقرة : 285).
فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كلهم، قد آمن بالله والملائكة والرسل والأنبياء السابقين، لا فرق بين أحد من رسل الله وأنبيائه، ومن هنا فإن كل دعوات الأنبياء السابقين، في أصل تنزيلها صحيحة، وتحمل نفس القداسة بالنسبة للمسلم، لأنها جميعا جاءت من عند لله تبارك وتعالى.
بل إن القرآن الكريم أشار إلى العمق التاريخي لرسالة الإسلام، التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وأنها امتداد لرسالات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وبقية الأنبياء، قال تعالى :"ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس" (الحج : 78). وقال تعالى : "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (آل عمران : 48).
وهكذا يكون الإيمان والتصديق برسالات الأنبياء والرسل السابقين، من قواعد الإيمان في الإسلام، والتي لا يمكن اكتمال إيمان المسلم إذا جحدها أو تنكر لها.
ويبدو أن كلمة الإسلام ومسلم، وإن صارتا اليوم علما على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا أنهما تعنيان الخضوع والاستسلام لله تبارك وتعالى، لأن أسلم تعني : أسلم أمره إلى الله ، و"أسلم" من الإسلام (32). وبهذا المعنى وردتا في القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى : "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وهو في الآخرة من الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (البقرة :130 -132).
وعندما سأل يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت أبناءه ماذا سيعبدون من بعده أجابوا، كما جاء بقوله تعالى : "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون" (البقرة : 133).
والمعاني التي يمكن استخلاصها من تلك الآيات الكريمة، أن جميع الرسالات السماوية هي واحدة ومتوحدة فيما دعت إليه من توحيد الله تعالى وتنزيهه.
فالعقيدة واحدة عند جميع الأنبياء والمرسلين، وهي الإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، أما التباين بين أولئك الأنبياء عليهم السلام فيكمن في الشرائع التي جاءوا بها من عند الله ، تبعا للظروف الزمانية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية للجماعات أو الأمم التي بعثوا لهدايتها، ولذا فإن باحثا معاصرا يرى : "أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق، إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة، التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين" (33).
لقد كانت دعوة الإسلام خاتمة ومتممة لكافة الشرائع السماوية السابقة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الصلة بين دعوته وبين دعوات إخوانه الأنبياء والرسل السابقين في الحديث التالي : قال عليه الصلاة والسلام : "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (34).
ونعود الآن لنرى أثر فكرة (وحدة الرسالات)، التي جاء بها القرآن الكريم على الوعي التاريخي عند العرب المسلمين.
لقد كان لفكرة (وحدة الرسالات) أثر واضح وبين في الوعي التاريخي عند العرب المسلمين، فلقد جاء القرآن الكريم بنظرة عالمية إلى التاريخ، وقد تمثلت هذه النظرة في توالي النبوات، التي هي في أساسها تعد رسالة واحدة بشر بها أنبياء عديدون، كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم هؤلاء الأنبياء والمرسلين .. ومن هنا، أي من العقيدة الإسلامية، بدأ الاهتمام والعناية بالتاريخ، وأعني (تاريخ الأنبياء والمرسلين).
وكان المسلمون في عصر الرسالة، على وعي تام بوحدة الرسالات السماوية، فعن مجاهد قال : سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال أوما تقرأ : (ومن ذريته داود وسليمان أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم (35).
كما أن صوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم عاشوراء، بعد قدومه إلى المدينة، وكان اليهود يصومون عاشوراء لأنه يوم نجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فرعون، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصيامه، وقال : "أنا أولى بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه"(36) .. كل ذلك فيه ما فيه من الدلائل على وعي المسلمين بفكرة وحدة الرسالات، أو بفكرة النظرة العالمية إلى التاريخ التي جاءهم بها القرآن.
كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الفكرة -أي وحدة الرسالات- امتداداتها التي تنتهي بالمسلمين، الذين يتبعون سنن من سبقوهم من أهل الأديان السابقة، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، فقلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ فقال : فمن؟" (37).
إن هذه الفكرة قد دفعت المسلمين إلى سؤال أهل الكتاب عن بعض ما جاء في القرآن الكريم عن أديانهم وأنبيائهم، طالما اعترف القرآن بهذه الأديان وبأنبيائها عليهم السلام (38).
وقد تبلور هذا الوعي في مرحلة التدوين بدخول ما عرف بالإسرائيليات في التاريخ العربي الإسلامي.
فقد التفت المؤرخون المسلمون أو بعضهم إلى هذا التراث، وخاصة ما يتعلق بالخليقة، السموات والأرض، وآدم، ونوح وأبنائه، والطوفان وغير ذلك، فنقلوا عن الإسرائيليات (39).(9/211)
ونجد من المنقول عن الإسرائيليات شيئا غير قليل في كتب اليعقوبي والدينوري والطبري وغيرهم، وخاصة في مواضيع (بدء الخليقة)، وآدم، ونوح والطوفان، وأبناء نوح الذين ينتسب إليهم العالم آنذاك.
وهكذا تبلورت النظرة العالمية التي جاء بها القرآن الكريم إلى تواريخ عالمية لم تقتصر في مادتها على التاريخ الإسلامي، وإنما تناولت أنبياء وأمما عديدة، كبني إسرائيل والفرس والروم، ثم السودان والصين وغيرهم من الأمم، مما يعكس فاعلية النظرة القرآنية وعمقها في الوعي التاريخي في عصر الرسالة من خلال فكرة وحدة الرسالات التي جاء بها القرآن الكريم.
وفي الختام، فإن عصر الرسالة كان فاتحة وعي تاريخي واضح المعالم، كان أحد عوامل تلك الاندفاعة الكبيرة في مجال التأليف التاريخي في القرون الثلاثة اللاحقة من الهجرة.
وكان القرآن الكريم هو الملهم لهذا الوعي في نفوس العرب المسلمين:
1- فمن خلال فكرة المصير أو النهاية، أعطى للماضي قيمة كبيرة لدى الإنسان، وذلك لما يترتب على هذا الماضي من مسؤولية الإنسان عما يفعله في الحياة الدنيا، ثم التقاط العبر مما حدث في الماضي البشري، وهما يقعان في صميم النظرة التاريخية.
2- ومن خلال قصة خلق آدم عليه السلام، التي بدأ بها الصراع بين الخير والشر .. الشر الذي تمثل في الدور الذي يقوم به إبليس، ابتداء برفضه السجود له، ثم بإغوائه في معصية ربه وإخراجه من الجنة، ثم بتعهده بمواصلة العمل من أجل تخريب وهدم كل ما بناه الإنسان وأنجزه من عمران، بمعنى تخريب حضارة الإنسان، والحيلولة بين الإنسان وبين فعل الخير، والسعي لإثارة الفتن والحروب بين الجماعة البشرية.
إن فكرة الصراع بين الخير والشر، التي ركز عليها القرآن الكريم، تعد إحدى محفزات الوعي التاريخي، لأنها تمتد في عمق التاريخ البشري، كما أنها تظل معاصرة للإنسان.
3- كذلك فإن ما يعرضه القرآن عن مصير بعض الأمم والأقوام، التي أسميناها (بالحضارات)، من نمو أو انهيار، فإنه يضع أسس نمو الحضارة، متمثلة بالإيمان بالله ثم العمل الصالح الجاد المخلص الذي يبذله الإنسان من أجل تحقيق الرقي والتقدم في حياته.
وبقدر ما يبقى الإنسان أمينا على هذين المبدأين، فإن إنجازاته الحضارية تبقى في تصاعد دائم، ومن جهة أخرى فإن إهماله أو تجاهله لأحد هذين المبدأين، سيكون إيذانا بتراجع يحصل لكافة إنجازاته الحضارية، حتى تذوى وتنهار ثم تزول.
وبقدر تعلق الأمر بالوعي التاريخي، فإن ما ذكره القرآن عن مصير بعض الأقوام وعوامل انهيارها، كان مدعاة للنابهين من العرب المسلمين في التساؤل عن هذه الأقوام : مكانها، وزمانها، وأحوالها، وأخيرا سبب انتكاساتها وانهيار إنجازاتها .. ولا يخفى أثر مثل هذه التساؤلات على الوعي التاريخي.
4- وأخيرا فإن (وحدة الرسالات السماوية) التي جاء بها القرآن الكريم، كانت قد لفتت أنظار العرب المسلمين لمعرفة تواريخ الأنبياء السابقين، والأقوام والأمم التي بعثوا إليها، باعتبار تواريخهم تمثل العمق التاريخي لرسالة الإسلام .. وأفرز هذا الاهتمام بعينه النظرة العالمية في التاريخ الإسلامي .. هذه النظرة، وضعت دعائمها في القرآن الكريم.
=============
الفصل الثاني : نشأة التدوين التاريخي والمنظور الحضاري
ذكرنا في الفصل الأول أن هناك شيئا من الوعي والإحساس التاريخيين عند العرب في الجزيرة العربية وأطرافها في الشام والعراق، غير أنهما لم يكونا من النضج والوضوح بحيث يتمخض عنهما نتاج كبير في التأليف والتدوين التاريخيين.
كانت أكثر مظاهر هذا الوعي بادية للعيان في نجد والحجاز، وقد تمثلت في اتجاهين، هما (الأيام) و(الأنساب).
فبينما يكون (النسب) المحور الذي تقوم عليه القبيلة، كوحدة اجتماعية سياسية في نجد والحجاز، كانت (الأيام) التي فرضتها طبيعة الحياة العربية القبلية قبل الإسلام، الوعاء الذي تحفظ فيه القبيلة ذكريات غزواتها وملاحمها مع القبائل الأخرى، وتأتي المفاخرة والمباهاة بأبطالها وشجعانها، الذين قاتلوا ببسالة في الذود عن حمى القبيلة، لتضيف إلى القبيلة مجدا وعزا هي أحوج ما تكون إليه وسط بيئة لا يعيش فيها إلا الأقوياء.
لذا فقد جاءت (الأيام) و(الأنساب) استجابة حضارية فرضتهما طبيعة الحياة العربية، المتوثبة، والمتحفزة دوما لمواجهة التحدي الذي هو أحد إفرازات البيئة الصحراوية القاسية، فلا غرو أن أصبحت القبائل تولي أيامها وأنسابها منتهى الاهتمام، فتغرس في أطفالها ويافعيها، في مجالس السمر القبلية، حب هذا الإرث، والإخلاص له، والمحافظة عليه، وإضافة أمجاد جديدة عليه حين يشبوا.
وقد أفاد من هذا التراث بعد الإسلام، الكتاب المسلمون، واستمدوا الكثير من معلوماتهم عن حياة العرب قبل الإسلام، وخاصة تلك التي تتعلق بنجد والحجاز.
على أن ظهور الإسلام شغل العرب في بداية الدعوة الإسلامية وعصر الراشدين عن كل ما سواه، عن الأيام والأنساب، وأخبار اليهود والنصارى، والفرس والروم، والأحباش وأخبار ملوك اليمن فلما انتشر الإسلام على الشرك في الجزيرة العربية، وظللتها رايته، وأصبحت كل أرجائها تخضع لحكومته في المدينة، بدأ المسلمون عملية إعادة النظر فيما تضمنه القرآن الكريم من قصص لأنبياء ورسل، وأمم وشعوب وقبائل، وما أصاب المكذبين منهم من دمار وفناء، وما لاقى الصالحون من فلاح ونجاح.
إن هذه القصص جاءت في القرآن الكريم بقصد العبرة والاتعاظ، وقد حفز هذا المسلمين على التساؤل عن تلك الأمم ومواطنها وأزمانها وصلتها ببعضها أو بالعرب .. ولأن أكثرها كانت من العرب كعاد وثمود، وأصحاب شعيب .. إلخ، فقد كان القرآن المحفز لدراسة التاريخ العربي القديم، إلى جانب التاريخ العام، في حين كان الحديث النبوي الشريف المحفز للاهتمام بجمع وتدوين التاريخ الإسلامي.
ولأن رسالة ا إسلام كانت امتدادا تاريخيا لرسالات سابقة، نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد أصبح للماضي -كما أسلفنا- قيمة كبيرة في نظر العرب المسلمين، لأنه يمثل العمق الذي تمتد فيه جذور رسالة الإسلام.
أصبح مفسرو القرآن الكريم بحاجة ماسة إلى المعلومات التاريخية، عند تفسيرهم للآيات القرآنية التي يرد فيها ذكر بعض الأنبياء وأقوامهم، فكان ذلك سبب اهتمامهم بالماضي (1).
وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم المحفز الآخر للاهتمام بالسيرة، فهو مثال المسلمين الأعلى في الحياة، وأقواله وأفعاله تعد الركن الثاني في التشريع الإسلامي الذي كان قانون الدولة، لذا بدأ الاهتمام مبكرا بجمع كل ما يتعلق بحياته فيما سمي بعد ذلك بـ(السيرة)، ثم اتسع نطاق هذه الدراسة لتشمل ما عرف بـ(المغازي)، والتي تغطي الجوانب السياسية والعسكرية من حياته (2)، حيث لم تعد الجوانب الاجتماعية، والتي رأيناها في السيرة مثار الاهتمام لوحدها، بل صار كفاحه وجهاده في سبيل نشر رسالته، بما في ذلك كفاحه المسلح، أي سراياه وغزواته، مثار المزيد من الاهتمام.
من هنا، فإن التاريخ الإسلامي قد ولد ونشأ وترعرع، ووصل درجة النضج والكمال في ظل الإسلام (القرآن والسنة) ، كذلك فإن غزارة التأليف والتدوين في حقل التاريخ من قبل العرب المسلمين، وصل حدا بحيث لا نكاد نجد أمة تتفوق عليهم (3).(9/212)
وسوف نعود لأثر القرآن الكريم والسنة في نشأة علم التاريخ الإسلامي عند الحديث عن بدايات التدوين التاريخي، بعد الانتهاء من الوقوف على تعريف التاريخ، لغة، واصطلاحا، وأصالة، وزمن ظهوره في ثقافتنا العربية الإسلامية.
تعريف التاريخ
في البحث عن المعنى لأي مصطلح أو علم، لابد من الرجوع إلى اللغة التي ظهر فيها هذا المصطلح، كجزء من ثقافتها، فما هو تعريف التاريخ في لغتنا؟.
التاريخ لغة : يقول الرازي : ( "التاريخ" و"التوريخ"، تعريف الوقت. تقول : أرخ الكتاب بيوم كذا، و"ورخه" بمعنى واحد)(4).
ولا يعدو هذا الفرق الإملائي بين الكلمتين (تاريخ) و(توريخ)، أكثر من كونهما نطقا لمعنى واحد للهجتين عربيتين، لهجة بني تميم ولهجة قيس، فبنو تميم يقولون : "ورخت الكتاب توريخا"، وقيس تقول : "أرخته تأريخا" (5).
ويتفق الكافيجي والسخاوي مع الرازي في هذا التعريف، فالتاريخ عند الكافيجي هو (تعريف الوقت)(6)، وعند السخاوي هو (الإعلام بالوقت) (7).. والتاريخ والتوريخ : (تعريف الوقت)، عند الجوهري، ولكنه يلتمس له اشتقاقا فيقول : "وقيل اشتقاقه من الأرخ يعني بفتح الهمز وكسرها، وهو صغار الأنثى من بقر الوحش، لأنه شيء حدث كما يحدث الولد" (8).
غير أن هذا التعسف في اشتقاق الكلمة كان مثار اعتراض من قبل بعضهم، لعدم وجود صلة أو علة بين صغار بقر الوحش وبين التاريخ (9).
وقيل : إن أصل الكلمة (تاريخ) جاء من الكلمة السامية : (أرخو) التي تعني في الأكدية (القمر)، وفي العبرية (يرح) أو (ياريح)، التي تعني القمر أيضا (10).
إلا أن الشك يكتنف هذه الرواية، لعدم قيام أي دليل على استعمالها في اللغة العربية، إضافة إلى ذلك فإن احتمال استعارة اللغة العربية لهذه الكلمة من الأكدية مستبعد، كما أن وجود الحرف (ي) في الصورة العبرية والآرامية لهذه الكلمة، يجعل الافتراض ليس محتملا، باستعارة الكلمة من العبرية أو الآرامية (11).
وفي بحثه عن أصل كلمة تاريخ في العربية، يستبعد روزنثال أن تكون هذه الكلمة مأخوذة من الإثيوبية، إذ لو كانت كذلك لبقيت الكلمة في اللغة الإثيوبية لحد الآن ..كما أنه يستبعد أن تكون الكلمة قد استعملت أو كانت مستعملة في اللهجات العربية الشمالية قبل الإسلام، لعدم وجود مراكز ثقافية متقدمة في تلك الفترة، مما جعله يخلص إلى تغليب الظن باحتمال أن يكون أصلها من العربية الجنوبية (12).
ويرجح شاكر مصطفى أن يكون جذر الكلمة (ورخ) جذر سامي، ولكنه مأخوذ من لغة اليمن الجنوبية وليس من كلمة (يرح) أو (ياريح)، العبرية أو السريانية (13).
وهناك رأي آخر مفاده بأن الكلمة (التاريخ)، جاءت عن (ماه روز) الفارسية، والتي تعني حساب الشهور، ثم عربت فقالوا : (مورخ)، وجعلوا مصدرها (التاريخ) (14).
غير أن العديد من الباحثين، قد تنبه إلى خطل هذا الرأي كالشرقاوي (15) ، والعروي (16) ، وروزنثال (17).
يصر العروي على عروبة مصطلح التاريخ، فيقول : "إن تأليف التاريخ الإسلامي من إبداع العرب، لقد فشلت المحاولات للعثور على مؤثرات خارجية، يونانية أو فارسية، على غرار ما كشف عنه المنقبون من مؤثرات أجنبية في الفلسفة وعلم الكلام .. ليس التاريخ الإسلامي نقلا أو اقتباسا أو استعارة من الغير .. إن كلمة (تاريخ) كلمة عربية، والكلمة الأجنبية (اسطوريا) التي كان من الممكن استعارتها، استعملت فعلا، لكن في معنى آخر للتعبير عن القصص الخيالية والميثولوجية التي لا تخضع لقوانين المراقبة والفحص والتدقيق، كحوادث التاريخ القريبة أو البعيدة" (18).
ويستطرد العروي وبشيء من العاطفة لدعوة العرب في أن يفخروا "إنهم وحدهم شعب تاريخ، والشعوب الأخرى تملك نمطا فقط حكايات، لا يجد اليقين إليها سبيلا .. يحق لنا أن نضع التاريخ في مقام النحو، أي في ميدان أظهر فيه عرب القرون الأولى أصالة وقوة على الخلق والإبداع لا شك فيهما" (19).
ظهور المصطلح:
أما عن ظهور مصطلح التاريخ في ثقافتنا العربية الإسلامية، فقد نسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وضع التاريخ، فقد رفع إليه أبو موسى الأشعري : "أنه تأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها يعمل، قد قرأنا صكا محله شعبان، فما ندري أي الشعبانين، الماضي أم الآتي …" (20).
هذا النص يشير إلى أن التاريخ، بمعنى الوقت، كان معروفا ومعمولا به أيام عمر رضي الله عنه، ولكنه يقصر على الشهر دون السنة التي هي المعلم أو البداية في التاريخ، لعدم وجود بداية متفق عليها، فاقتصر التاريخ على الشهر فقط (شعبان)، كما ورد في رسالة أبي موسى لعمر رضي الله عنهما.
ويذكر السخاوي في موضوع وضع عمر للتاريخ : أن أبا يعلى ابن أمية هو أول من أرخ، وكان عاملا لعمر على اليمن، فكانت كتبه ترد إلى عمر في المدينة، فاستحسن عمر هذا واستشار أصحابه في وضع التاريخ، ولكن ينبغي الاتفاق على اختيار البداية أو المناسبة، فاقترح بعضهم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واقترح آخرون سنة وفاته، غير أن الآراء اجتمعت أخيرا على سنة هجرته، لما فتح الله على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من خير، فقامت الدولة الإسلامية وأعز الله الإسلام وأهله، ودخلت الجزيرة العربية جميعا في الإسلام .. واستبعدت سنة مولده عليه السلام، لعدم وجود اتفاق على تحدد مولده بدقة، كما استبعدت سنة وفاته، لأنها مناسبة غير سارة في نفوس المسلمين (21).
من هذا يتبين لنا أن كلمة تاريخ، بدأت حياتها كتعبير فني، بعد ظهور التاريخ الهجري الذي وضعه عمر رضي الله عنه، أما قبل ذلك فاستخدموا العد في معنى التاريخ، فقد روى البخاري في صحيحه قول الصحابي سعد بن سهل في التقويم الهجري : "ما عدوا من بعث النبي ولا من وفاته .. ما عدوا إلا من مقدمه المدينة" (22).
مرت كلمة التاريخ بتطورات عديدة في ثقافتنا، فقد بدأت بمعنى التقويم والتوقيت في صدر الإسلام، واستعملت فترة بهذا المعنى، ثم صارت بمعنى آخر وهو تسجيل الأحداث على أساس الزمن، وكان الخبر يقوم مقامها في معنى هذه العملية التاريخية، ثم أخذت كلمة التاريخ تحل محل الخبر تدريجيا، وصارت تطلق على عملية التدوين التاريخي، وعلى حفظ الأخبار، بشكل متسلسل، متصل الزمن والموضوع، للدلالة على هذا النوع الجديد من التطور في الخبر والعملية الإخبارية، منذ منتصف القرن الثاني الهجري .. ومنذ ابتداء القرن الثالث الهجري، صارت كلمة التاريخ تطلق على العلم بأحداث التاريخ وأخباره، وأخبار الرجال، والكتب التي تحوي ذلك، وحلت كلمة التاريخ محل كلمة الخبر والأخباري، اللتين انحطت قيمتيهما العلمية قبل أن تختفيا من الاستعمال في القرن الرابع الهجري (23).
أصبحت كلمة (تاريخ في العربية)، تحمل خمسة معاني (24).
* سير الزمن والأحداث، أي التطور التاريخي، كالتاريخ الإسلامي، وتاريخ اليونان .. إلخ .. The History of .
* تاريخ الرجال ..The Biography.
* عملية التدوين التاريخي، أو التاريخ، مع وصف لعملية التطور وتحليله وتقابل : istoriography.
* علم التاريخ والمعرفة به، وكتب التاريخ، ويقابل :History.
* تحديد زمن الواقعة أو الحادثة، باليوم والشهر والسنة :Date.
والخلاصة، فإننا نتفق مع القائلين بأن كلمة تاريخ كلمة عربية، دخلت الثقافة الإسلامية من اليمن، للصلات الثقافية والحضارية والتاريخية بين اليمن والحجاز، ونستبعد صحة تلك الروايات التي ترجعها إلى أصول غير عربية، بحيث يبدو التعسف واضحا للعيان في محاولة اشتقاقها ثم في تعريبها بعد ذلك.(9/213)
التاريخ اصطلاحا
أما التاريخ اصطلاحا فقد تنوعت تعاريفه وتعددت، بتنوع ثقافات ومشارب وأهواء وانتماءات ومذاهب الذين ولجوا موضوعه، فتراءت لهم تعاريفه من طبيعة مهمته، ومن دوره الذي يقوم به ضمن إطار الثقافة العربية الإسلامية، على ضوء المنظور الثقافي والفكري والمذهبي لكل مؤرخ .. فالتاريخ يعني (الوقت)، يقول خليفة بن خياط : "وبالتاريخ عرف الناس أمر حجهم وصومهم وانقضاء عدد نسائهم ومحل ديونهم، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة : 189)"(25).
والكافيجي يعرفه بأنه : "هو تعيين الوقت لينسب إليه زمان مطلقا، سواء كان قد مضى أو كان حاضرا أو سيأتي .." (26) ، ثم يعطي الكافيجي بعدا حضاريا للتاريخ ضمن استطراده لتعريف التاريخ، فيقول : "وقيل: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، كظهور ملة، أو وقوع حادثة هائلة، من طوفان أو زلزلة عظيمة" (27).
وإذا كان في تعريف الكافيجي شيء من البعد الاجتماعي (كظهور ملة) ، فإن في تعريف السخاوي للتاريخ مسحة ثقافية واجتماعية واضحة، فهو يقول : "وفي الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة، وعقل وبدن، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم …) (28).
وتتسع هذه المسحة الثقافية والحضارية عند ابن خلدون، عندما يتحول التاريخ إلى الإخبار عن كل ما يتعلق بجيل من الأجيال، فيقول عن التاريخ بأنه : (ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل) (29).
ويبدو أنه كلما تقدمنا باتجاه الحاضر، فإن تعاريف التاريخ تقترب أكثر فأكثر من الجوانب الاجتماعية والحضارية، ففي تعريف حاجي خليفة (30) ، وطاش كبرى زاده (31) ، يكاد التاريخ يتحول إلى ما يمكن نعته (بالتاريخ الحضاري)، ويتبين هذا من خلال التعريف التالي لكليهما للتاريخ : (هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم، وعاداتهم وصنائع أشخاصهم، وأنسابهم، ووفياتهم، إلى غير ذلك ..) أفليس تغطية الجوانب المتعلقة بالمجتمعات (الطوائف) ، وبلدانها وعاداتها ورسومها (نظمها) وصنائعها، إلا أبرز الجوانب التي يعكف على دراستها علماء تاريخ الحضارات؟
وفي تحديد موضوع التاريخ، فإن السخاوي يحدد الموضوع الذي يتناوله التاريخ، على أنه الإنسان والزمان (32) ، وبهذه الدقة والشمولية في تحديد موضوع التاريخ كما يراها السخاوي، فإن الحضارة هي الموضوع الرئيس للتاريخ، لأن الإنسان بفطرته التي فطره الله تعالى عليها كائن حضاري، مبدع، صانع، مفكر، متغير ومتحول، وهو بهذا تميز على الحيوان.
ولا يفوتنا الوقوف على تحديد طاش كبرى زاده لموضوع التاريخ، لأن موضوعه، من وجهة نظره، ينطق بالمفردات الحضارية من خلال العينات التي يحددها موضوعا للتاريخ، فيقول : "وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية، من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء" (33).
هو إذن يدرس النبوات والأولياء والعلوم ورجالاتها، والفلاسفة في محاوراتهم ومطارحاتهم، والفنانين وفنونهم، والأدباء والشعراء، ونتاجهم، وليس تاريخ ملوك وساسة وقادة يلهون ويتحاربون، كما يشاع عند بعض الناس.
إن موضوع التاريخ كما نراه عند السخاوي وعند طاش كبرى زاده، هو تاريخ أمة أو مجتمع، بكل ما في الأمة من أفكار وعقائد وعلماء وفلاسفة وشعراء، فهو دراسة للعناصر الحركية في حياة المجتمع : النبي، والحكيم، والعالم، والفيلسوف، والشاعر، والصانع.
الخبر والتاريخ
"الخبر : واحد الأخبار … وخبر الأمر : علمه … والخبر بالضم وهو العلم بالشيء .. والخبير : العالم" (34).
والخبر كان أحد علوم العرب قبل الإسلام، مثل الفقه، والأيام، والأنساب، والشعر، فكانت للعرب أخبار في مرحلة ما قبل الإسلام (35).
كان الخبر وسيلة لمعرفة الحدث أو الشيء، ويعد التعبير عن فكرة التاريخ قبل الإسلام، أي أنه كان يعني مضمون التاريخ، لأن العرب لم يتداولوا التاريخ أو يؤلفوا فيه قبل الإسلام، مثلما تداولوه وألفوا فيه في الإسلام (36).
لذلك فإن الخبر أسبق من التاريخ عند العرب، وعرفوه قبل أن يعرفوا التاريخ بمدلوله الاصطلاحي.
ويتميز الخبر قبل الإسلام بارتباطه بالرواية الشفوية، بمعنى أنه لم يظهر بمظهر كتابي إلا في النقوش، وذلك يعود إلى قلة التدوين وشيوع الأمية في الحياة العربية، واعتماد العرب على الذاكرة في الحفظ، حتى لم تتوفر لأي شعب أو أمة ما كان لهم، وما عرفوا به من قوة الذاكرة (37).
فلما جاء الإسلام، أصبحت الأخبار ترتبط بالإسلام .. والظاهر أن رسالة الإسلام وخاصة في عصر الرسالة والراشدين، قد شغلت العرب عما كان لهم في جاهليتهم من أخبار، فصارت الأخبار في خدمة الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف (38).
وبسبب قدم الخبر على الإسلام، أي على الحديث النبوي الشريف، فقد ظل للخبر كيان خاص به، حتى في أيام الأمويين والعباسيين، فظل يعرف بعلم الأخبار، وعرف رواة الأخبار ونقلتها بالإخباريين(39) ، حتى إن بعض المصنفات المبكرة في التدوين التاريخي أخذت عناوين ابتدأت بـ(الإخبار) أو (إخبار) مثل : (الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري (ت : 282 هـ) ، و(أخبار العلماء بأخبار الحكماء) لابن القفطي.
ظل الخبر في الثقافة العربية الإسلامية، يتمتع بأهمية كبيرة، على الرغم من أن التاريخ -بالمفهوم الذي تعنيه الكلمة الإنكليزية (Historiography) التي يقصد بها كتب التاريخ، أو التدوين التاريخي- قد حجب الخبر وحجمه إلى حد ما (40).
فها هو التاريخ في تعاريف بعض فحول مؤرخي الإسلام، عبارة عن خبر أو أخبار، رغم التطور الذي شهدته الكتابة التاريخية، فالمسعودي يعرف التاريخ بأنه : (علم من الأخبار) (41) ، وابن خلدون يعرفه بأنه : (ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل) (42)،
ولأحد الباحثين المعاصرين تصور دقيق عن فاعلية الخبر ودوره المتميز في الثقافة العربية الإسلامية، فالتاريخ على حد تعبيره، ليس علما للواقع بل معرفة بخبر عن الواقع، فكتابة التاريخ إخبار وإعلام عن الحادثات الماضية (43).
ولأن التاريخ خبر، فهو يشابه الفقه والحديث والشعر، لأنها هي الأخرى أخبار، غير أن الفرق بين التاريخ كونه خبرا، وبين الأطر الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها أخبارا كالفقه والحديث والخراج، هو في (تعيين الوقت) لحادث من الحوادث .. فالخبر التاريخي يحدد أو يعين زمن وقوع حدث أو شيء بالنسبة لشيء حدث قبله ضمن إطار تقويمي معين (44).
وانطلاقا من اعتبار الخوارزمي علم الأخبار أحد العلوم العربية الستة وهي : علم الكلام، وأصول الفقه، والنحو، والشعر، والأخبار، والكتابة (45) ، فإن إدماج التاريخ في هذا الإطار الأوسع للخبر (أعني الفقه والحديث .. إلخ) ، يتمخض عنه (إدماج سوسيولوجي " اجتماعي" ثقافي للفاعلية التاريخية في الأطر الأوسع للثقافة العربية الإسلامية) (46).
وإذا كان التاريخ قد حجب الخبر إلى حد ما، فمن الممكن التمييز بين الاثنين، فالخبر يعد مادة ساذجة، فهو الحدث أو الواقعة، أو العلم المباشر بحدوث شيء، أما التاريخ فهو موضوع يتضمن عدة أخبار، مع ضرورة توفر الإحساس لدى المؤرخ وفهمه لتلك الأخبار، والتعاقب المرتبط بها .. إضافة إلى أن التاريخ عكس الخبر، (فإنه يستحسن ألا يكون التاريخ هو المعرفة المباشرة للنظر فيه) (47).
ولكن متى حل التاريخ محل الخبر؟(9/214)
لا يستطيع المرء أن يعين تاريخا محددا دقيقا لظهور مصطلح التاريخ كبديل عن الخبر، أي عندما ظهرت كلمة التاريخ بمعنى (كتب التاريخ) ، ويرى (روزنثال) أن كلمة التاريخ (كانت راسخة الكيان بهذا المعنى منذ القرن الثاني الهجري) (48). وهذا يعني أن المصطلح قد جاء تبعا للتطور الذي مرت به الأمة خلال حقبتين : ما قبل الإسلام، والمرحلة الإسلامية .. فالخبر كان المعرفة السائدة عند العرب قبل الإسلام، ثم استمر حتى بعد ظهور الإسلام، وظهر بأجلى صوره في مدونات الإخباريين، كما مر معنا، غير أن الخبر تبعا لحالة التطور، أصبح لا يفي بالمتطلبات الثقافية والحضارية، الأمر الذي سوغ ظهور التاريخ واستخدامه في التدوين التاريخي بديلا عن الخبر، الذي أخذ بالتراجع منذ القرن الثاني الهجري.
ويستطيع المتتبع لنشأة التدوين التاريخي عند العرب المسلمين أن يلحظ بداية هذا التراجع للخبر منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وبداية شيوع كلمة (التاريخ) كعناوين لمصنفات كتبها إخباريون أو مؤرخون فيما بعد، فلعوانة بن الحكم (ت : 147 هـ) كتاب اسمه : (كتابة التاريخ) .. و(التاريخ على السنين)، كان عنوانا لكتاب ألفه الهيثم ابن عدي (ت : 207 هـ) .. وكتاب (التاريخ الكبير) للواقدي (ت : 207).. وكتاب (التاريخ) لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ).. إلخ.
على أن المصطلحين قد تعايشا فترة من الزمن، بعد ظهور مصطلح التاريخ، فنجد في مؤلفات بعض الإخباريين تأليفا في كلا المصطلحين : فالهيثم بن عدي (ت : 207 هـ) الذي ألف كتابا (في التاريخ على السنين) ولم يصلنا، ألف إلى جانبه كتابين هما : (أخبار الحسن ووفاته)، وكتاب (أخبار الفرس) (49).
كما كتب المدائني (ت : 225) (كتاب أخبار أبي طالب)، و(كتاب خبر الحكم بن أبي العاص)، وكتاب (أخبار الشعراء)، و(خبر الجسر)، و(خبر القادسية)، إلى جانب (كتاب تاريخ أعمار الخلفاء)، و(كتاب تاريخ الخلفاء) إلخ (50).
وقد لاحظ الباحث أن كثيرا من الكتاب الإخباريين قد استعملوا كلمة (كتاب) دون استخدام لكلمة (خبر) أو (تاريخ)، وكأن استخدام كلمة (كتاب) كانت تقوم مقام (الخبر) ومقام (التاريخ) في فترة أسبق.
فلعوانة بن الحكم (ت : 147 هـ) (كتاب سيرة معاوية وبني أمية) ولهشام بن الكلبي (ت : 206 هـ) كتب هي : "كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة، كتاب حلف الفضول، كتاب ملوك اليمن من التبابعة، (كتاب اليمن)(51) . وللواقدي (ت: 207 هـ) كتاب أخبار مكة، كتاب فتوح الشام، كتاب فتوح العراق" إلخ (52).
ومثلها كتب للمدائني وغيرهم من الإخباريين، ممن ابتدأت العنوان بكلمة (كتاب) (53).
ولنا الآن أن ننتقل إلى الحديث عن البدايات في التدوين التاريخي، والتطورات التي مرت بها حركة التأليف هذه، وأثر الانطلاقة الحضارية الكبرى للأمة العربية الإسلامية على حركة التدوين التاريخي.
==============
المنظور الحضاري في أنماط التدوين التاريخي حتى عصر ابن خلدون
أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم.
ثانيا : الطبقات والتراجم.
ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري.
ابن خلدون وفلسفة التاريخ.
إن استقرار أنماط التدوين التاريخي عند العرب المسلمين، يفرض على الباحث تناولها بمنهجية تقوم دراستها على طريقتين : عمودية، وأفقية، مع التأكيد على تباين واختلاف المنظور الحضاري للمؤرخين في كلتا الطريقتين من ناحية، واختلاف المنظور الحضاري داخل الأطراف المعنية من المؤرخين ضمن الطريقة الواحدة من ناحية أخرى.
ويقصد بالطريقة العمودية هي أن المؤرخ يبتدئ التاريخ منذ الخليقة، أو الطوفان، أو منذ الميلاد، أو ظهور الإسلام، حتى ينتهي بعصره، وهي طريقة كما نرى لها بداية وتنتهي بنهاية، قد تكون عصر المؤرخ، أو يتوقف عند فترة قد تكون سابقة لعصره، على أن المهم فيها أنها طريقة تصاعدية في تناول حوادث التاريخ.
أما الطريقة الأفقية فهي التي تقوم دراستها بشكل يتوزع على المكان أكثر من توزعه على الزمان .. بعبارة أخرى، هي تدرس شرائح منتخبة من الناس موزعة على المجتمع العربي الإسلامي في امتداداته العرضية في ديار الإسلام.
يتمثل النمط العمودي في:
أولا : التواريخ العامة أو تواريخ العالم
يتميز هذا النمط من التدوين التاريخي، بأنه يركز على الفرد في التفسير الحضاري للتاريخ، بمعنى أن التاريخ أو الحضارة لأمة من الأمم هي من صنع (بطل)، سواء كان نبيا هذا البطل أو ملكا، أو قائدا عسكريا مظفرا، وهكذا فإن منظور المؤرخ في هذا النمط من التدوين قد تقمس أحد هذه الأشكال البطولية في تفسيره لحوادث التاريخ، أو للحضارات التي عني بدراستها (1).
ومن أوائل من مثل هذا النمط في التدوين التاريخي هم:
1- الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت : 282 هـ أو 290هـ).
ألف الدينوري كتاب الأخبار الطوال، وهو من بين عدة كتب ذكرها له ابن النديم (2).
والكتاب هو في التاريخ العام، قسم الكتاب إلى ثلاثة مباحث : الأول ويتناول الخليقة منذ آدم مرورا بكافة الأنبياء، والثاني يتناول فيه تاريخ الساسانيين والروم أما القسم الثالث فقد خصصه لحروب الفرس والعرب، والفتوحات، مع شحة في ذكر تاريخ الخلفاء الراشدين، ودون أن يتطرق إلى الأمويين.
منظور الدينوري منظور ديني، فهو لا يبتعد عن فكرة البطل في التاريخ، ولكن البطل عنده نبي وليس ملكا أو قائدا، وهذا ما يعطي لنظرته تلك القيمة الحضارية (3).
2- اليعقوبي، أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح ( ت : 284 هـ أو 292 هـ) ، ينتمي لطبقة الكتاب قامت شهرة اليعقوبي على أثرين من آثاره هما : (كتاب البلدان)، و(التاريخ) أو تاريخ اليعقوبي.
وتاريخه يعد نموذجا للتاريخ العالمي .. ابتدأ فيه منذ بداية الخليقة، ثم أرخ للأنبياء حسب تسلسلهم حتى الإسلام، بعد ذلك يؤرخ لعصر الرسالة والخلفاء الراشدين والأمويين .. والأنبياء كما يستشف من العناية بأخبارهم، هم صناع التاريخ والحضارات الحقيقيين، الذين ينبغي الاقتداء بهم في مواجهة تحديات الحياة، كما أن عنايته بالجوانب الحضارية كانت واضحة في كتابه، حيث وصف الأناجيل الأربعة، ثم بحث في كتب أرسطو وأبقراط، وفي الفترة الإسلامية ابتدأ ببعض الحكم في أهمية العلم والمعرفة (4).
3- الطبري، محمد بن جرير ( ت : 310 هـ) : يحتل الطبري مكانة بارزة بين المؤرخين العرب المسلمين، إذ بلغت -بتاريخه- الكتابة التاريخية النضج والاكتمال .. اشتهر الطبري بكتابه (تاريخ الرسل والملوك)، الذي قسمه إلى قسمين : القسم الأول تضمن مرحلة ما قبل الإسلام، وابتدأه بالزمن والذات الإلهية، ثم الخليقة، ثم يؤرخ للأنبياء حتى ظهور الإسلام أما القسم الثاني فخصصه للفترة الإسلامية، بدأه بالحديث عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم الوحي والدعوة والهجرة والدولة الإسلامية التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم يتناول بعد وفاته عليه السلام اجتماع السقيفة، والفترة الراشدة، والأموية، والعباسية، حتى سنة (302 هـ) (5).
اعتمد منهجه على الرواية، باعتباره محدثا، واستخدم الإسناد، وهي طريقة المحدثين، كما أنه اعتمد الترتيب الموضوعي لفترة ما قبل الإسلام، بينما اعتمد الترتيب الحولي في الفترة الإسلامية.
أصبح تاريخ الطبري رمزا لختام عصر من عصور التاريخ، فقد كفى الطبري من جاء بعده مهمة العناية بجمع وتحقيق المواد المتصلة بالتاريخ الإسلامي، وصار المؤرخون اللاحقون يلخصون عن الطبري.(9/215)
5- المسعودي (ت : 346 هـ) : عرف أبو الحسن علي بن الحسين ابن علي بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، بكثرة رحلاته وتنقلاته بين أطراف الدولة العربية الإسلامية، بل وتعداها إلى سيلان (6) ، مما أعطى لمعلوماته قيمة كبيرة باعتبارها حصيلة المشاهدة والمعاينة التي توفرت للمسعودي .. ترك المسعودي عدة كتب، أشهرها (مروج الذهب ومعادن الجوهر) .. ويمكن تلمس دور البطل في الحركة التاريخية لدى المسعودي، فقد يكون البطل نبيا، وبالتالي فإن سعيه لإقامة مجتمع يسود فيه العدل والرخاء، أو ملك متجبر طاغية .. فمنظور المسعودي ديني، يؤكد ويقوم على الجوانب الحضارية، فهو يحاول تعليل سبب سكنى العرب وبعض الأقوام الأخرى للبوادي، ويعطي أسبابا لهذه الظاهرة، أحدها هو الأنفة وطلب العزة (7) ، ثم يتكلم المسعودي عن حضارة أهل الهند، ويورد معلومات مهمة عن أديانهم وفلسفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكذلك في حديثه عن حضارة أهل الصين والترك (8) ، الأمر الذي يوضح اهتمام المؤرخين المسلمين المبكر بالجوانب الحضارية للشعوب، أكثر من مجرد العناية بملوكها.
ومن المؤرخين الذين ألفوا في التاريخ العام:
- حمزة الأصفهاني ( ت : 350 هـ) ، الذي ألف كتاب (تاريخ سني ملوك الأرض، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام)، وقد قرن حمزة بين الملكية والنبوة في أن الحضارة لابد أن تكون صنيعة إحداهما (9) ، وقد أظهر حمزة اهتماما بالجوانب الثقافية ،كحرق الأسكندر لكتب الفرس، ونقله ما احتاج إليه من علوم الفرس إلى اللغة اليونانية، وبداية ظهور عبادة الأصنام والأوثان، مما يضفي على الكتاب مسحته الحضارية (10).
- المقدسي، المطهر بن طاهر ( ت :390 هـ) ، صاحب كتاب (البدء والتاريخ)، حيث قسمه إلى فترتين، الفترة السابقة للإسلام والفترة الإسلامية.
والمنظور الحضاري للمقدسي ينحصر أيضا في رؤيته لوحدة الرسالات السماوية، لهذا فهو يسرد تاريخا للنبوة يبتدئ بذكر آدم مرورا بنوح وإبراهيم عليهم الصلاة السلام، وينتهي بخاتم هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم .. كذلك فإن المقدسي في رؤيته للحضارة، يجدها من صنع الملوك والأنبياء، غير أن كلا منهم ينظر إليها بمنظار خاص، فبينما هي بمنظور الأنبياء تشاد بالتوحيد والتناهي عن الظلم والتسلط والجبروت، نجدها في رؤى الملوك في الأعم الأغلب تقوم على العبودية والتعسف واغتصاب حقوق الآخرين (11).
كذلك فهناك مؤرخون آخرون كتبوا في التاريخ العام مثل:
- مسكويه (ت :421 هـ) : وهو صاحب كتاب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم) .. كان مسكويه قد اشتغل بالكيمياء، ودرس الفلسفة، الأمر الذي ظهر واضحا على دراساته للتاريخ، فقد أصبحت دراسة التاريخ في نظره تحوي فائدة مهمة، وهي فائدة العبرة والاتعاظ، وهذا ما سوغ تسمية مؤلفه ب (تجارب الأمم وتعاقب الهمم)، بمعنى أن التاريخ صار يمثل تجربة أممية عالمية (12).
لم يؤرخ مسكويه للأنبياء مطلقا، رغم أن كتابه من الناحية المنهجية مقسوم إلى قسمين، فترة ما قبل الإسلام والفترة الإسلامية (13) ، بل إنه حذف التاريخ الديني للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، واقتصر على تدوين التاريخ السياسي، وهذا أمر له مغزاه، فقد سبق وأن أشرنا إلى أن الأنبياء والملوك يتبادلان الدور في صنع الحضارات، ويبدو أن مسكويه أراد أن يجعل الملوك وحدهم أصحاب الدور القيادي في البناء الحضاري، وذلك كي يجعل التاريخ معينا للتجارب الإنسانية السياسية، التي يمكن أن يستفاد منها عبرا أخلاقية، لذا فإنه يقول : "وإني تصفحت أخبار الأمم وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان وكتب التواريخ، وجدت فيها ما يستفاد منه تجربة في أمور لاتزال يتكرر مثلها، وينتظر حدوث شبهها وشكلها، كذكر مبادئ الدول ونشئ الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافي من تلافاه وتداركه .. "(14).
وإذا كانت التجارب هي فعل بشري، يقع في حدود الطاقات والإمكانات البشرية على أرض الواقع، فإن أعمال الأنبياء لا يمكن أن تكون تجارب قابلة للخطأ والصواب، لأنها معجزات إلهية، ومسكويه الفيلسوف يخضع الفعل الإنساني للعقل .. أما المعجزات فهي خارج إطاره، ولهذا يقول : "ولهذا السبب بعينه لم نتعرض لذكر الأنبياء صلوات الله عليهم، وما تم لهم من السياسات بها، لأن أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهم إلا ما كان منها تدبيرا بشريا لا يقترن بالإعجاز " (15).
ومن هنا، فإن التاريخ بنظر مسكويه، مسرح للنشاط الإنساني، ومستودع لتجارب العقل البشري على مر الأزمان.
ومن المؤرخين المسلمين في حقل التاريخ العام:
- أبو منصور الثعالب: (ت : 429 هـ) : صاحب كتاب (تاريخ غرر السير، المعروف بكتاب غرر أخبار ملوك الفرس)، وهنا نجد المنظور الحضاري التاريخي للثعالبي يتمحور حول الملك صانع الحضارة، حيث يقول : "فإن الناس بالزمان، والزمان بالسلطان، والسلطان بعد الله للملوك الذين استرعاهم أمور عباده، وملكهم أزمة بلاده، فلا دين إلا بهم ولا دنيا إلا معهم" (16) . على أن الثعالبي لا يستبعد الأنبياء من تصدرهم في بعض الأحيان لقيادة المسيرة الحضارية لمجتمعاتهم، وهو هنا يشير إلى أن هناك ملوكا أنبياء كآدم ويوسف، وداود وسليمان وذي القرنين ومحمد صلوات الله عليهم (17).
ويبدي الثعالبي شيئا من الأصالة في القسم المتعلق بملوك الفرس، أما في القسم الإسلامي من تاريخه فهو عالة على الطبري (18).
على أن هذا الكتاب يعتبر إيذانا بتوقف تجربة التاريخ العالمي منذ بداية القرن الخامس الهجري ولمدة قرنين (19) ، إذ كان لضعف الخلافة العباسية، وتسلط القوى الأجنبية عليها، وانفصال بعض الولايات عنها، والاقتصار على الارتباط بها ارتباطا واهيا، أدى إلى ظهور وازدهار ما يعرف بالتواريخ المحلية، وبدأ الأمراء المستقلون يشجعون الفقهاء والعلماء وأهل الأخبار في مجالسهم، وأصبحت حواضرهم تكاد تكون صورة ربما مصغرة عن بغداد (20).
ومع ذلك فإننا نجد عودة لكتب التاريخ العالمي، تعود مرة أخرى منذ أواخر القرن السادس ومنتصف القرن الثامن ممثلة بـ:
(المنتظم) لابن الجوزي (ت : 517 هـ) : وهذا الكتاب لا يعطينا صورة دقيقة لمؤلف في التاريخ العام رغم ضخامته، وخاصة في نصفه الثاني المطبوع، إذ أنه أعطى التراجم حجما أوسع من الأحداث، كما أنه يفتقد الشمول فيمن تحدث عنهم، فلم يكد يتجاوز بغداد وأحداث رجال العراق الذين ترجم لهم (21).
أما المؤلف الثاني فهو:
(الكامل في التاريخ) لابن الأثير (ت : 630 هـ) : وهذا الكتاب يعتبر أكثر انسجاما مع الخط العام في التواريخ العالمية، وهو يسلك مسلك الطبري من حيث تقسيم الكتاب إلى قسمين : ما قبل الإسلام، والقسم الإسلامي، غير أنه اختلف عن منهج الطبري، وذلك بتجاوزه للإسناد الذي اتبعه الطبري في تاريخه (22).
ولا يختلف (مرآة الزمان) لسبط بن الجوزي (ت : 654 هـ) عن (الكامل في التاريخ)، إلا في أنه يضع في نهاية حوادث كل عام -عندما يتحول الحديث إلى الفترة الإسلامية- أسماء من توفي من الأعيان والأعلام (23).
وضمن هذا الخط، خط التاريخ العام، نلتقي أبا الفداء، الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت : 774 هـ) ، وهو من المعاصرين لابن خلدون، وكتابه (البداية والنهاية) لا يختلف في منهجيته عن الذين سبقوه من المؤرخين المسلمين من حيث تقسيمه الكتاب إلى فترتين : ما قبل الإسلام، والفترة الإسلامية .. وهو منساق أيضا وراء فكرة (وحدة الرسالات)، وفكرة (البطل)، اللتين تعدان جوهر منظوره الحضاري (24).(9/216)
لقد تميزت كتب التاريخ العام، التي ظهرت خلال الفترة المحصورة بين القرنين السابع والثامن عن سابقاتها من عيون كتب التاريخ العام، كاليعقوبي والطبري والمسعودي والمقدسي ومسكويه، بميزات منهجية فقط فقد أضافت مادة جديدة إلى موادها أخذتها من كتب التراجم، حتى ظهرت هذه وكأنها ذيل متمم لمادة القسم الإسلامي منها، كما وضعت في نهاية حوادث كل سنة بابا للوفيات، حيث دمج المؤرخون منذ أواخر القرن السادس تاريخ الرجال مع الأحداث فالتقى في مدوناتهم فرعا التاريخ الأحداث، والتراجم (25).
ثانيا : الطبقات والتراجم.
كانت السيرة النبوية التي عني بجمعها وتدوينها فقهاء ومحدثون كعروة بن الزبير وشرحبيل بن سعد وأبان بن عثمان، مثالا يحتذى لدى المؤرخين، نسجوا على منوالها سير الخلفاء فيما بعد، وإن كانت كتاباتهم قد تضمنت قيما ومثلا جديدة، كسيرة الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز .. كما كانت الحروب الصليبية والنجاحات التي تمخضت عنها، حافزا لكتابة سير بعض السلاطين والزعماء الذين تصدوا لهذا الخطر، فالذين كتبوا سير مودود وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، إنما انطلقوا من دور هؤلاء البارز في التصدي للعدوان الصليبي، ولهذا ظهرت ما يمكن تسميته (بالسير الملكية) (26) .. أما الطبقات والتراجم فقد ظهرت منذ زمن مبكر في الأدب العربي، وتعتبر من إبداعات الحضارة العربية الإسلامية، كما وتعد فنا فريدا من فنون التاريخ لا نجد لها شبيها في آداب أية أمة من الأمم الأخرى إلا في عصرنا الراهن (27) .. ظهر فن التأليف في الطبقات والتراجم، نتيجة لحاجة العلماء المعنيين بتدوين الحديث معرفة سير رجال الأسانيد أو رواة الحديث، بهدف التحقق من صدقهم طبقا لمنهج (الجرح والتعديل)، الذي اتبعه المحدثون، فظهرت في البداية طبقات المحدثين (28).
بعد ذلك تنبه بعض العلماء إلى وضع تراجم أخرى لطبقات الرجال الذين تتفق توجهاتهم وتخصصاتهم، فتتوحد في لون واحد من العلم، فظهرت كتب طبقات الصحابة، وطبقات المفسرين، وطبقات القراء، وطبقات النحاة، وطبقات الشعراء، وطبقات الأطباء، وغيرهم (29).
ولابد من الإشارة إلى اختلاف غايات أصحاب كتب الطبقات والتراجم، فبعضهم كما سنرى ألف تبعا لغاية دينية، وآخرون من وجهة نظر دنيوية، بينما نرى عند آخرين أن تآليفهم تجئ تحت إلحاح غايات مذهبية .. وأقدم كتب الطبقات هي:
كتاب "الطبقات" لخليفة بن خياط (ت :240 هـ) ، الذي وضع فيه ابن خياط الصحابي كبطل صانع لحوادث التاريخ، وهذا هو منطلق خليفة الحضاري (30) .. أما ابن سعد (ت : 230 هـ) ، فقد جعل السابقة في الإسلام أساس التمايز بين الصحابة، ففي كتابه (الطبقات الكبرى) جعل البدريين الطبقة الأولى، ومن له إسلام قديم وهاجر إلى الحبشة أو شهد أحدا، ومن أسلم قبل فتح مكة جعلهم الطبقة الثانية، وهكذا (31).
هذا وقد أصبحت طبقات خليفة بن خياط وطبقات ابن سعد، أنموذجا سار على منواله واعتمد عليه البخاري (ت : 256 هـ) في كتابه (التاريخ الكبير)، وابن عبد البر (ت : 463 هـ) في كتابه (الاستيعاب لمعرفة الأصحاب)، وأبو نعيم (ت : 430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء)، وقد بقي هذا التقليد شائعا حتى منتصف القرن الثامن الهجري، حيث يمثل الذهبي (ت : 748 هـ) أبرز من اهتم بنظام الطبقات وخاصة في كتابه (المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه) (32).
كذلك فإن هذا التقليد في ترتيب الصحابة والمحدثين إلى طبقات قد امتد إلى كتب التراجم الأخرى، كطبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (ت : 232 هـ) ، وطبقات القراء لخليفة بن خياط (ت : 240 هـ) ، وطبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (412 هـ) ، وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (ت :476 هـ) وغيرهم (33).
ومما تجدر ملاحظته أن المنظور الحضاري لمعظم مؤلفي كتب الطبقات والتراجم، قد انطلق من منطلقات دينية أو ثقافية.
فالسلمي (ت : 412 هـ) في كتابه (طبقات الصوفية) يعكس منظوره الحضاري النظرة الدينية، لأن المتصوفة في نظره هم (أرباب حقائق التوحيد) (34) ، كذلك نجد هذه النظرة الدينية في منظور أبي نعيم الأصبهاني (ت :430 هـ) في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) (35).
ويستمر المنظور الحضاري في منطلقاته الدينية في بعض التراجم، التي قد تبدو لنا لأول وهلة أن صلتها بالناحية الدنيوية الاجتماعية أكثر من صلتها بالدين، كالأنساب مثلا، في حين نجد أنه حتى في مثل هذه التآليف، فإن منطلقات مؤلفيها دينية، فمثلا نلاحظ في كتاب (جمهرة أنساب العرب) أن ابن حزم (ت : 456 هـ) ، عني بالأنساب، لأنه يرى أن دراسة الأنساب فرض كفاية أيضا : (فأما الغرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة ورحل إلى المدينة) (36).
وهكذا يكتسب النسب في منظور ابن حزم قيمته الدينية التي تفوق قيمته الاجتماعية .. كذلك نجد هذا المنظور الديني واضحا لدى ابن عبد البر (ت : 463 هـ) ، في كتابه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) (37) ، حيث يعتبر الصحابة هم أولى الناس بالمعرفة، لأنهم هم الذين نقلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووعوها، وهي الركن الثاني بعد كتاب الله في قيمتها التشريعية والدينية (38).
أما ياقوت الحموي (ت : 626 هـ) فعلى الرغم مما يوحي به كتابه (معجم الأدباء) (39)، من نزعة ثقافية دنيوية، فإن ياقوت يغوص في أبعاد العلم، ليجد فيه الجانب الديني قائما واضحا، فيقول عن كتابه إنه جمع فيه : "أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة .. وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام" (40).
وما وجدنا عند ياقوت وجدناه عند ابن أبي أصيبعة (ت : 868 هـ) في مصنفه عيون الأنباء في طبقات الأطباء (41) ، فهو أيضا أسير النظرة الدينية، فصناعة الطب في نظره (من أشرف الصنائع وأربح البضائع، وقد ورد تفصيلها في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، حتى جعل علم الأبدان قريبا لعلم الأديان) (42).
ويقدم ابن خلكان (ت : 681 هـ) رأيا آخر في عنايته بالسير، ولا يرجع ذلك إلى أية نظرة دينية، بل مرد اهتمامه بسير بعض المتقدمين هو ولعه الشخصي بالاطلاع على أخبار النابهين، فالنباهة والذكاء والفطنة التي تميز بها بعض الناس، هي التي جعلت ابن خلكان يضع مصنفه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) (43) .. كذلك تقوم نظرة السبكي (ت : 771 هـ) في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) (44) ، إذ أصبح العالم في نظره يحتل مكانة أرفع وأعلى من مكانة أصحاب التيجان.
وعلى منوال السبكي سار كل من محمد بن شاكر الكتبي (ت : 764 هـ) في كتابه فوات الوفيات، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت : 764 هـ) في كتابه (الوافي بالوفيات) (45).
وإذا كان ابن خلكان قد ترجم للنابهين، وتابعه في ذلك إلى حد ما الكتبي، الذي أضاف على تراجم ابن خلكان بعض التراجم للخلفاء والمميزين الذي أغفلهم ابن خلكان، غير أن هذه النظرة الشمولية استمرت في تراجم بعض المؤلفين اللاحقين، كالسخاوي (46) والسيوطي (47) ، فصارت تشمل المشهورين من الناس إلى جانب آخرين لم يكونوا على حظ وافر من الشهرة في التاريخ، استنادا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزلوا الناس منازلهم" (48).
ثالثا : التواريخ المحلية والإقليمية والمنظور الحضاري(9/217)
تعد التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، والتواريخ الإقليمية، إحدى أنماط التدوين التاريخي العربي الإسلامي، ومنذ عهد مبكر ظهرت تواريخ لبعض المدن الإسلامية (التواريخ المحلية) ، كما ظهرت تواريخ إقليمية لبعض أقاليم ديار الإسلام، فقد ألف ابن زبالة كتابه : (أخبار المدينة) في حدود سنة (199 هـ) (49) ، كما ألف الأزرقي (ت : 244 هـ) كتابه : (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار)، وألف بحشل (ت :292 هـ) (تاريخ واسط)، وكتب أبو الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها) . وألف حمزة السهمي (ت : 427 هـ) كتابه تاريخ جرجان كذلك ألف أبو نعيم الأصبهاني (ت : 430 هـ) كتابه (ذكر أخبار أصبهان). كما ألف الخطيب البغدادي (ت : 463 هـ) (تاريخ بغداد) وألف ابن عساكر (ت : 557 هـ) كتابه (تاريخ دمشق). وفي الأندلس ألف الوزير لسان الدين بن الخطيب (ت : 776 هـ) كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة).كما ظهرت تآليف أخرى شملت إقليما بعينه، وهذا يعني أن الاهتمام تجاوز مدينة بعينها في ذلك الإقليم.
وفي هذا المجال فقد وصلنا لابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) كتابه : (تاريخ فتوح مصر والمغرب والأندلس) . والهمداني (ت : 334 هـ) في كتابه (الإكليل) الذي وضعه في تاريخ اليمن وابن حيان القرطبي (ت : 469 هـ) في كتابه (المقتبس من أنباء أهل الأندلس)، وهناك غيرها كثير.
كان الدافع لتأليف تواريخ عن بعض المدن دافعا دينيا، فابن زبالة عندما يؤلف كتابا في (أخبار المدينة)، فلأنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاعدة دولته، ومسرح نشاطاته الدينية والعسكرية والسياسية.
كذلك فإن تأليف الأزرقي لكتابه أخبار مكة، فمن نفس المنظور الذي انطلق منه ابن زبالة، فمكة هي التي شهدت مولده ، وشبابه ودعوته كما أنها قبلة المسلمين وفيها المسجد الحرام، الأمر الذي يعطيها قيمة دينية كبيرة في نظر المسلمين، ولذا نجد الأزرقي يحشد الكثير من الروايات في فضائل مكة وقدسيتها (50).
ومما يجدر ذكره أن (أخبار المدينة)، و(أخبار مكة) لا يعنيان بتراجم المحدثين أو العلماء والفقهاء الذين سكنوا هاتين المدينتين، وخاصة أخبار مكة ولعل بحشل (ت : 292 هـ) في كتابه (تاريخ واسط) ، يعد أول من اهتم بذكر رجال وعلماء مدينته، مما جعل كتابه أنموذجا يحتذى من قبل أصحاب التواريخ المحلية (51).
وقد حاول بحشل لكي يضفي على مدينته شيئا من الأهمية، أن يضفي على موقعها شيئا من القداسة، بحيث كانت السبب وراء اختيار الحجاج لموقع واسط .. وهذه القدسية تتكرر عند معظم الذين كتبوا في التواريخ المحلية، إما بكونها مدينة أنبياء أو صحابة، أو أنها مباركة بدعوة نبي أو رسول، وهذا المنظور الديني الحضاري يضفي على النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والصوفي، والفقيه، قيمة ودورا في حياة الأمة، يتضاءل عندها دور الحاكم أو السياسي (52).
إن استمرار التأليف في تواريخ المدن، أو التواريخ المحلية، أظهر المدن باعتبارها وحدات حضارية فكرية .. ففي كتابه (طبقات المحدثين بأصبهان)، لأبي الشيخ الأنصاري (ت : 369 هـ) ، تحدث في المقدمة عن طوبوغرافية المدينة، ثم انتقل إلى الحديث عن فضائل أصبهان، ثم ذكر أعداد الصحابة الذين نزلوا بها وهم ثمانية عشر صحابيا، بينهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي أخذت ترجمته نصف ما خصص لبقية الصحابة (53).
ومن الجدير بالذكر أن التأليف في تواريخ المدن أو التواريخ المحلية، ربما يعكس تعصب المؤلف لمدينته.
فمثلا الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ينفي عنها ما روي فيها من حديث بذمها وتوعدها، وبالعكس فإنه يحشد عددا من الأقوال في فضائل بغ داد وخيرها وبركتها (54) ، كذلك نجد تشابها في المواقف لابن عساكر في فضائل مدينته دمشق، مع مواقف الخطيب البغدادي، على أن هذه العصبية للأمصار كانت ظاهرة إيجابية، لأنها حفظت للأجيال اللاحقة الشيء الكثير من جوانب الثقافة والفكر في الحضارة الإسلامية .. وهكذا فإذا اتجهنا نحو الأندلس، نجد العصبية واضحة في تأليف الوزير لسان الدين بن الخطيب لكتابه عن مدينته (الإحاطة في أخبار غرناطة)، بعدما يستعرض الكتب التي ألفت عن بعض الأمصار الإسلامية، يقول : "فداخلتني عصبية لا تقدح في دين ولا منصب، وحمية لا يذم في مثلها متعصب" (55).
وهكذا ظهرت هذه التواريخ، لتقدم خدمة جليلة للثقافة العربية الإسلامية .
التواريخ الإقليمية:
وهي تقع موقعا وسطا بين التواريخ المحلية أو تواريخ المدن وبين التواريخ العالمية، أما أسباب ظهورها فتتصل أيضا بأسباب ظهور التواريخ المحلية أو تواريخ المدن، وهي العصبية للأمصار، والعامل الديني، ويضاف إلى ذلك العامل السياسي لظهور التواريخ الأندلسية، بسبب عزلة هذه الجزيرة عن بقية ديار الإسلام، كما أننا يمكن أن نضيف عاملا آخر وهو أن أهل كل بلد أعرف بأحوال وأخبار بلدهم (56).
وأقدم التواريخ الإقليمية التي وصلتنا هي:
فتوح مصر وأخبارها، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم (ت : 257 هـ) (57) : ولكي يضفي ابن عبد الحكم على مصر وأهلها شيئا من القيمة الدينية، فإنه ابتدأ في الصفحة الثانية من الكتاب بذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبط، ويذكر في هذا الصدد أحاديث نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنبأ فيها بفتح المسلمين لمصر من بعده، ثم يوصيهم خيرا بأهلها (58) .. والتماس الأثر الديني واضح في تبريره لتأليف الكتاب، إضافة إلى أثر التعصب الإقليمي .. والذي يهمنا من هذا الكتاب، هو منظور ابن عبد الحكم، الذي ينطلق من اهتمامه بالصحابة الذين حلوا مصر، والذين رووا عنهم أهل مصر، وهو ما يبين عنايته برجال الثقافة والعلم في تلك الحقبة، الذين هم حملة حديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم .
أما في أقصى الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة العربية، فنلتقي بمؤلف آخر من مؤلفي التواريخ الإقليمية، وهو لسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني (ت : 334 هـ) ، وكتابه (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير )(59).
وهذا الكتاب يعكس منظور الهمداني الاجتماعي، إذ خصصه في سرد أنساب أهل اليمن منذ فترات بعيدة عن الإسلام وحتى عصره في القرن الرابع الهجري .. وإذا كانت المنطلقات الأساسية في التواريخ الإقليمية، التي مر ذكرها، منطلقات دينية مرصعة بشيء من العصبية للمصر المعني، فإن هذا المنظور يختفي في (الإكليل)، ولا نحس إلا بروح المباهاة والمفاخرة في سرد أنساب اليمن، لبيان ما كان لأهلها من ملك وسلطان قبل الإسلام، مقابل المجد والعز الذي ناله عرب الشمال وعلى رأسهم قريش في الإسلام.
وإذا يممنا شطر أقصى بلاد الغرب الإسلامي آنذاك، فإننا نلتقي بمؤرخ إقليمي أندلسي هو:
أبو حيان القرطبي (ت : 469 هـ) ، صاحب كتاب : (المقتبس من أنباء أهل الأندلس) (60).
يعتبر القرطبي أشهر مؤرخي الأندلس على الإطلاق، والشاهد على ذلك الدقة والضبط، اللتان تميز بهما عمله في (المقتبس).
لقد توزع منظور ابن حيان بين هموم بلده في مواجهة التحديات التي تفرضها عليه الممالك النصرانية في الشمال، والتحركات الداخلية في العدوة المغربية، وبين الاهتمام بالجوانب الثقافية والحضارية.
وهناك مؤرخ أندلسي آخر وهو:(9/218)
ابن بسام (ت : 554 هـ) ، صاحب كتاب : (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) (61) ، والعنوان يدل على تعصب ابن بسام لمصره الأندلس، وفي مقدمة الكتاب نجده يشيد ببراعة الأندلسيين في النثر والنظم : (… ومازال في أفقنا هذا الأندلس القصي إلى وقتنا هذا، من فرسان الفنين وأئمة النوعين، قوم هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر) (62) ، ثم ينتقد أهل بلده الذين يروون الأدب والعلم عن أهل المشرق .. كذلك فإنه يبين انسياح العلماء والفقهاء بين ديار الإسلام دون قيود، فيذكر بعض الفقهاء والعلماء والكتاب المشارقة، الذين قدموا الأندلس مثل : أبو الفضل البغدادي، وأبو الفتح الجرجاني، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وأبو القاسم المغربي، وابن رشيق، وأبو منصور الثعالبي (63) ، وهذا ما يدل على انفتاح المدينة العربية الإسلامية في تلك العصور، لاحتضان العلماء والكتاب والشعراء والفقهاء، دون أن تكون قلعة مغلقة.
ابن خلدون وفلسفة التاريخ
يبدو أن مهمة (علم العمران) كما تصورها ابن خلدون هي (تمحيص الأخبار)، على أن الدراسة المتأنية لعلم العمران الخلدوني، تخرج باستنتاجات عديدة عن هوية علم العمران فهل يمكن أن يعد (علم الاجتماع) أو (فلسفة التاريخ)، أو هو علم في المنهج، على غرار المنطق، أو هو فلسفة سياسية؟ (64).
إن دراسة ابن خلدون للظواهر الاجتماعية، يمكن أن ترتقي بعلمه الجديد (علم العمران)، إلى مصاف الدراسات التي تتصل في صميم فلسفة التاريخ، وبالتالي فإن ابن خلدون يمكن أن يكون أول فيلسوف للتاريخ، وأول من فلسفه، بل ويكون منشئ فلسفة التاريخ على صعيد الفكر الإنساني (65).
لقد استخدم فولتير مصطلح (فلسفة التاريخ)، لأول مرة في القرن الثامن عشر، في كتابه الموسوم (طبائع الأمم وفلسفة التاريخ)، الذي أصدره سنة (1756م) (66) ، لقد كان فولتير يعني به دراسة التاريخ الحضاري للأمم من وجهة نظر عقلية ناقدة، ثم توالت الدراسات في هذا الحقل، وأصبحت له مقومات معينة يقوم عليها هي :
1- الكلية : تهدف فلسفة التاريخ إلى البحث عن المعاني الكلية في أحداث التاريخ وتجميعها في مختلف العصور، بغية الوصول إلى قوانين كلية تفسر لنا التاريخ الإنساني.
2-العلية : هي اتجاه فلسفة التاريخ، تقوم على تجاوز العلل الجزئية التي يفسر بها المؤرخون الوقائع الفردية المحصورة في زمان ومكان محددين، إلى محاولة العثور على (علة عامة) أو أكثر، لتفسير مجمل حوادث التاريخ الإنساني.
وبهذا فإن مقولات التاريخ تختلف عن مقولات فلسفة التاريخ اختلافا جوهريا، فأصبحت النظرة الكلية بديلا عن النظرة الفردية، كما تجاوزت فلسفة التاريخ مقولتي الزمان والمكان إلى ما وراء الزمان والمكان (67).
لقد تنبه الكثير من الباحثين وخاصة في الغرب، إلى أن مقدمة ابن خلدون التي كتبت في القرن الثامن الهجري، والتي سبقت مؤلف فولتير آنف الذكر بأربعة قرون تقريبا، قد تضمنت (فلسفة للتاريخ)، وهذا برر إعلانهم عن أن ابن خلدون يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، أو بعبارة أخرى هو رائد ومؤسس هذا النوع من الدراسة (68).
لقد حاول ابن خلدون أن يدرس تاريخ أوسع مساحة من العالم التي سنحت له فرص دراستها، فقد درس تاريخ شمال أفريقيا والأندلس، وتاريخ الدولة العربية الإسلامية في الشرق، إضافة إلى تواريخ الفرس والروم .. وقد حاول ابن خلدون أن يخرج بهذه الدراسة عن نظريات عامة عن العصبية والدولة والحضارة، والظاهرات الاجتماعية، مما يجعل من ابن خلدون رائدا لدراسة التاريخ على أساس حضاري (69).
وإذا كان بعض الباحثين انتقد ابن خلدون، لأن دراساته في نظرهم، تفتقد إلى (الصفة الكلية)، لأنه لم يقم باستقراء شامل لتاريخ العالم، حيث قصر دراسته على تاريخ العرب، بمشرقه ومغربه (70) ، فإن الدكتور الملاح يرى أن هذا الحكم فيه بعض المبالغة، إذ أن دراسة ابن خلدون تضمنت إضافة إلى التاريخ الإسلامي، تواريخ بعض الإمبراطوريات القديمة التي سبقت المسلمين أو عاصرتهم، كما أن تخلف المواصلات في العصور الوسطى تعطي العذر لابن خلدون في ضيق مجال دراساته (71).
العلية : أما بحث ابن خلدون في مقدمته عن العلة أو العلل في التاريخ، فقد أوضح أن التاريخ (هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول) (72).
غير أنه يرى أن هذه الأخبار من التاريخ، تمثل الأمور الظاهرية، التي يتساوى في فهمها العلماء والجهال، بينما هو يتجاوز هذه المظاهر إلى البحث عن العلل والأسباب المحركة للأحداث .. يقول ابن خلدون في وصف مهمة التاريخ الرئيسة : (وفي باطنه نظر وتحقيق، وتحليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق) (73).
وهكذا فإن ما يهم ابن خلدون من التاريخ، النظر في بواطنه، وليس في ظاهره، ولذا فقد توصل ابن خلدون إلى دراسة التاريخ وفقا لمنهج يمكن عده من ضمن الدراسات الفلسفية : (الحكمة) .. فالتاريخ طبقا لمنظور ابن خلدون، (أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) (74).
لقد كان ابن خلدون مدينا لتراث أمته في بلورة نظرية (علم العمران)، على أن ملكاته وقدراته ومواهبه وعبقريته، كان لها جميعا أكبر الأثر في النجاح الذي أحرزه في ميدان التفسير الحضاري للتاريخ.
ورغم مرور ما ينيف على ستة قرون على وفاة ابن خلدون، فإنه ما يزال يشغل أذهان الباحثين والمفكرين المعاصرين.
================(9/219)
نحن والحضارة والشهود (الجزء الأول)
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أورثنا الكتاب واصطفانا لحمل الرسالة الخاتمة، جماع الرسالات السماوية، فقال تعالى:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }( فاطر:32)، وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه... } (المائدة:48)، وجعل الرسالة الخاتمة رسالة إنسانية للعالمين، وجعل الغاية من النبوة إلحاق الرحمة بالعالمين فقال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (الأنبياء:107).
والصلاة والسلام على من انتهت إليه رسالات الأنبياء، وتحققت فيه كمالات الرسل، فبرسالته تكامل الدين وكمل، واختُتمت النبوة، وتم البناء، فجاءت نبوته ورسالته على خط النهاية من الرسل، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا }(المائدة:3) ، وقال: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين }(الأحزاب:40) ، وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده }(النساء:163). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : [ إن مَثلي ومَثَلَ الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بيتًا فأحْسَنهُ وأجْمَلَهُ، إلا موضعَ لبنةٍ من زاويةٍ، فجعلَ الناسُ يطوفونَ بهِ ويعجبون لَهُ، ويقولون: هلاّ وُضِعَتْ هذه اللبنةُ، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ](أخرجه البخاري).
وبعد :
فهذا كتاب الأمة الثمانون: (نحن والحضارة والشهود ) للأستاذ الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في التشكيل الثقافي، والوعي الحضاري، واسترداد دور الأمة المسلمة في الشهود الحضاري والحضور الإنساني، وإعادة تأهيلها لتكون محلاً لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، ومن ثم تتمتع بصفة المعيارية التي تجعلها مؤهلة لأن تكون شهيدة على الناس، تسهم بمعالجة أزمة الحضارة الإنسانية اليوم، مهتدية في ذلك بقيمها ومرجعيتها وتجربتها الإنسانية التاريخية، بعد هذا التيه من الغياب والشتات والتراجع الحضاري.
إن عملية التحضير لردم فجوة التخلف وعودة الشهود الحضاري والتأهيل لمعاودة الإقلاع واستئناف دور الأمة في البناء الحضاري وبناء رؤية مستقبلية، سوف لا يتحقق لها النجاح ما لم تأخذ في اعتبارها استيعاب الماضي، بكل معطياته، كما تقتضي الإحاطة بالحاضر، بكل مكوناته، كمقدمة للمستقبل، ومن ثم إبصار المستقبل وتوفير واكتساب أدوات بنائه واستكمالها.
ولعلنا لا نأتي بجديد إذا أكدنا أن أي انطلاق من جديد، أو أي إقلاع حضاري، لابد له من الإحاطة بمرحلة القدوة على وجه الخصوص، ذلك أن نهوض أي مجتمع أو معاودة توليده مرهون إلى حد كبير بإعادة استدعاء وتمثل ظروف وشروط ميلاده الأول، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أو كما يقول الإمام مالك رحمه الله.
ذلك أن استقراء الشهود الحضاري، أو استقراء النهوض الحضاري على مستوى الذات (والآخر ) بشكل موضوعي ومنهجي، يؤكد أن فترات التألق والنهوض والإبداع وامتلاك القدرة على التجاوز والإقلاع إنما تمت عند امتلاك القدرة على إعادة بناء المنطلقات، وتوفير الظروف والشروط الملائمة لامتدادها وتجسيدها في واقع الحال.. وفي تاريخنا الحضاري، على تقلباته المتعددة، وتضاريسه المختلفة نبصر هذه المعادلة، بما لا يدع مجالاً للشك.. إن فترات التألق والإبداع والنهوض إنما بدأت بتصويب المنطلقات وإصلاح الخلل.
فالعطاء الحضاري أو الإنجاز الحضاري، على الأصعدة المتعددة، إنما هو التجلي الكلي والأساس لثقافة الأمة ورؤيتها للكون والحياة.. أو بعبارة أخرى، إن عالم الأشياء مدين في وجوده وصموده وامتداده إلى التزود من عالم الأفكار، وإن نمو عالم الأفكار وسلامته وتقبله وانتشاره مشروط بقدرته على ترجمة القيم واستحضار المرجعيات وتجسيدها في واقع الناس، من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة وامتلاك الخصوبة والقدرة على إبداع أوعية التعامل معها، وامتلاك القدرة على تجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، والقدرة على توليدها في كل زمان ومكان وتجمع بشري، بحسب إمكاناته وظروفه.
ومن هنا نقول، وفي ضوء الاستقراء الحضاري للمعادلات الاجتماعية ومشاريع النهوض التاريخية على مستوى الذات والآخر: إنه لا يمكن بحال من الأحوال بناء حضارة أو إقامة ثقافة وبناء عالم أفكار على أصول ثقافية وحضارية لثقافة وحضارة أخرى، ولعل ذلك أصبح من المسلمات الثقافية، بعد رحلة الضلال الطويلة.. وهذا لا يعني الانغلاق والحيلولة دون التبادل المعرفي والمثاقفة والتلاقح (القبول بالآخر )، وإنما ينفي الارتماء وإلغاء الذات وفقدان المعايير.
إن ترجمة القيم والمبادئ إلى برامج، وإيجاد أوعية شرعية لحركة المجتمع، وتوفر المعارف والتخصصات والأدوات التي تمكن من التعامل معها، وتجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وإعادة توليدها في واقع الحياة، قضية تعتبر من أعلى أنواع الاجتهاد وأشقها.. وهي بطبيعتها خارجة عن نطاق الأماني والرغبات.. وهي بحاجة إلى الكثير من المدارسة والمراجعة والتقويم والتصويب والإفادة من التجربة التاريخية، على مستوى الذات و(الآخر ).
والاجتهاد المطلوب لتطوير الذات وإعادة بنائها، مطلوب بالقدر نفسه لكيفية التعامل مع (الآخر )، واكتشاف المواقع والمداخل التي تمكن من الشهود والمساهمة بالرحلة الحضارية الإنسانية، والمساهمة أيضًا بمعالجة أزمة الحضارة، ذلك أن الادعاء بالحضور والشهود الحضاري بدون الاجتهاد في إبداع الوسائل والأدوات والأوعية لتنزيل القيم على الواقع، واختبار هذا التنزيل، هو نوع من تكريس التخلف وفسح المجال لتمدد (الآخر )، وإجهاض للقيم، وفقدان الثقة بقدرتها على إعادة البناء واستئناف النهوض.
إن عملية الشهود الحضاري، والقيام بالدور المطلوب على مستوى الحضارة الإنسانية، وامتلاك القدرة على تنزيل القيم في الكتاب والسنة على واقع الناس، وتقويم سلوكهم ومجتمعاتهم بها، وإبداع البرامج والأوعية لحركة الحياة، من خلال منطلقات إسلامية، واستيعاب التجربة الحضارية التاريخية والإحاطة بعلم مرحلة السيرة وخير القرون، محل القدوة والتأسي، وتحديد الموقع المناسب لواقع الحياة اليوم من مسيرة السيرة، ليتم الاقتداء المناسب، ويؤتي ثماره بعيدًا عن الحماس والادعاء، يتطلب أول ما يتطلب الشهود على الذات، أو الشهادة على الذات، أو الوعي بالذات، وإعادة المعايرة لها، والشهادة عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الإصابة والخلل الذي لحق بها، والتعرف على أسبابه والسنن الذي تحكمه، وعدم الاكتفاء بالشكوى والتبرم وملاحظة الأثر والعرض، ومن ثم تحديد الاستطاعة أو تحديد الممكن أو المستطاع، بالمصطلح الشرعي، في هذه المرحلة.
وذلك لأن تجاهل الاستطاعة المتاحة والظروف المحيطة يؤدي إلى خلل في أدوات البحث والمعالجة نفسها، وينزل القيم في الكتاب والسنة على غير محالها، ويقود إلى سوء التقدير، فتحدث الفوضى والإرباك، ويستمر الوهن والإنهاك الحضاري، وتفتقد الثقة بالقيم نفسها، ويحدث نوع من التطاول وأحلام اليقظة، أو (الطوباوية ) إن صح التعبير.
إن سوء التقدير للاستطاعة ومعرفة التكليف في ضوء ذلك، لا يتحقق معه استقامة، ولا يفيد من الاستطاعة المتاحة، وتفعيلها، والبناء عليها لبنة بعد أخرى، وإنما يكون سبيلاً إلى تبديد الاستطاعة المتاحة نفسها، وتضييع الحاضر والمستقبل معًا، وترك ما نملكه، والتطلع إلى ما يملكنا، وبذلك يستمر العجز والتخاذل الثقافي والحضاري، فنلجأ إلى التاريخ لنحتمي به، لا لنعتبر به ونغترف منه ونبصر قوانينه وسننه.. نلجأ إلى التاريخ لنغطي مركب النقص، فنعيش غربة الزمان والمكان، ونحاصر القيم الإسلامية، ونكرس شُبه الأعداء بتاريخيتها وعدم خلودها وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان.
وقد يكون الوجه الآخر لسوء تقدير الاستطاعة والظروف المحيطة، التي تعتبر جزءًا من تقديرها، وإدراك حدود التكليف في ضوء ذلك - الأمر الذي أدى ولا يزال إلى القيام بمجازفات غير محسوبة، والتطلع إلى تكاليف فوق الطاقة، بحيث تضيع الطاقة، ويضيع ما فوقها، ونعود بالخسران المبين على الذات - قد يكون الوجه الآخر للإشكالية كامنًا أيضًا في سوء التخطيط لدور الاستطاعة نفسها، والعجز عن حسن توظيفها وإدارتها، واغتنامها، ووضعها في الموقع المناسب والفاعل.(9/220)
إن سوء التخطيط يؤدي إلى التحرك تحت رايات عُمِّيّة، وذلك عندما يمتلك (الآخر ) أو العدو القدرة على تحريك استطاعاتنا وتوظيفها واستغلالها في معاركه وتصفية حساباته في الأوقات المناسبة، والإفادة منها لصالحه، بحيث نتحول مع استطاعاتنا إلى أدوات مسخرة (للآخر ) ورصيد جاهز لدخول معاركه، دون أن تكون لنا القدرة والإرادة والبصيرة على الإفادة من استطاعاتنا والتخطيط لها لتحقيق الأهداف الإسلامية الممكنة التي تقع في حدود تكليفنا.
وكم من الطاقات الإسلامية والتضحيات الإسلامية هدرت ووظفت لصالح العدو في أكثر من موقع، وكانت عواقبها وآثارها خطيرة على أصحابها، الذين صاروا أولى ضحاياها، فتحولوا من رموز للتضحيات المقدورة إلى أشلاء من الضحايا المحزنة التي تعاني من المطاردة والإحباط.
وما أمر تجربة الجهاد الإسلامي في أفغانستان، والصورة التي بدأ فيها والحال التي انتهى إليها، ومن قبله معظم ثورات التحرير التي بدأت إسلامية جهادية ومن ثم انتهت تطارد الإسلام ثقافة وحضارة وحركة، وتشكل رصيدًا لصالح العدو، عنا ببعيد.
كما أنه ليس بعيدًا عنا أيضًا استدعاء الإسلام في فترات الأزمات ليقدم التضحية ويشكل السلاح الفاعل والدرع الواقي في المواجهة، فإذا ما انتهت الأزمة عاد الإسلام ليكون أول الضحايا!
ونعاود القول: إن الانكفاء التاريخي سوف لا يحقق إلا مجرد الإبقاء على النسب الحضاري والتراثي لهذه الأمة، ذلك أن الالتجاء السليم إلى التاريخ يزود الأمة بالطاقة والبصيرة والعبرة، والاهتداء إلى قوانين الحركة التاريخية أو السنن التي تحكم الحياة والأحياء، وتمكن للعودة المكينة، واستئناف الشهود، بأدوات دقيقة وسليمة ومختبرة تاريخيًا.
وقد يُقابل هذا الانكفاء على الذات والالتجاء السلبي إلى التاريخ لمعالجة مركب النقص، أو الحيلولة دون الاقتلاع، عندما لم ينتج شيئًا ولم يغير ساكنًا ولم يحدث حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا، قد يُقابل بلون من الانتحار الحضاري وذلك بالارتماء على (الآخر )، وإعدام الذات، وتجاوز السنن الحضارية والمعادلات الاجتماعية، والتوهم أن نهوض حضارة أو نهوض مجتمع يمكن أن يقوم على أصول حضارية ومعادلات اجتماعية غريبة عنه.
إن الوعي بالذات، والعكوف عليها، وتحديد إصاباتها، ووضع البرامج والخطط لانتشالها، وإعادة إخراجها لمعاودة الشهود واستئناف الدور للانتقال من الشهود الذاتي إلى الشهود الإنساني في ضوء قيم ومعايير الكتاب والسنة، هو الخطوة الأولى على طريق الشهود الحضاري والقيام بأمانة الاستخلاف والعمران وإلحاق الرحمة بالعالمين، الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة.
وما لم نتحقق بالشهود على الذات، حقيقة لا ادعاءً، فسوف نستمر في طحن الماء والحراثة في البحر، والمراوحة في أمكنتنا، وإجهاد أنفسنا بلا طائل.
وكون وسائلنا ومشاريعنا وشعاراتنا ورياداتنا وادعاءاتنا السائدة والشائعة لم تنتج إنجازًا، فإن ذلك يعني أن هناك خللاً، وأن باطلاً يصارع باطلاً، أو أننا نتعامل بوسائل معطوبة، أو مناهج قاصرة، أو رؤى حالمة، أو إخلاصًا يفتقر إلى الصواب على أحسن الأحوال.. إن ذلك يقتضي إعادة النظر، وإعادة الفحص والاختبار، مهما تذرعنا بالظروف وشراسة العدو، وحتى في حالات الهروب الكاملة التي تنتابنا في إلقاء التبعية على القدر، لأن ذلك يعني، على أحسن الأحوال، أننا دون سوية المرحلة والتعامل مع الظروف وحسن توظيف الاستطاعات، فنلغي ذاتنا دون أن ندري.
وعندما نلقي بالتبعة على القدر ونتحول إلى جبريين، بمعنى الانتهاء إلى قناعة سلب الإرادة والعجز عن الاختيار، فإن إيماننا وتعاملنا مع قيمنا في الكتاب والسنة وفترة التجسيد في واقع الناس، فيه الكثير من المجافاة للحق والواقع والسيرة والتاريخ وخصائص خير القرون.. فليس المؤمن، في الرؤية الإسلامية، هو الذي يستسلم للقدر، وإنما المؤمن الحق هو الذي يغالب القدر بقدرٍ أحبّ إلى الله، فالأقدار هي السنن التي شرعها الله.. وتعبدنا في هذه الحياة بمدافعة قدر بقدر.
إن المنهج الإسلامي أو المنهج القرآني هو منهج تقويم وتصويب وشهود على الذات قبل (الآخر )، في كل الحالات والأحوال، حتى حالات بناء الأنموذج، التي مثلها كرام الخلق من الصحابة رضوان الله عليهم.. ففي بدر مثلاً، وهي معركة الفرقان، والبدريون، وهم خلاصة الخلق المؤمن - (إن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) (أخرجه أبو داود)- عندما اختلفوا كبشر في قسمة الغنائم، وفسدت ذات بينهم، وكادت تسوء أخلاقهم، نزع الله أمر قسمتها منهم، وأعاد بناء ذات البين، وبناء الخصائص والصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمن، فقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } (الأنفال:2).. وعندما توهموا أن النصر كان بسبب إقدامهم وشجاعتهم قال الله تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } (الأنفال:17)، {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (الأنفال:17)، {وما النصر إلا من عند الله } (الأنفال:10) .
لقد أعاد القرآن بناء الذات وتصويب الشهادة عليها، لتكون مؤهلة لحمل الأمانة وتحقيق الشهود الحضاري المستقبلي.
وعندما هُزم المسلمون في أحد، وعلا الكفر واهتزت النفوس، وتشكك بعض المسلمين - وهم من الصحابة- وعندما أُشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب بعضهم على أعقابه، جاء القرآن بمساحات تعبيرية هائلة لبيان الخلل، وتحديد الإصابة، والدخول إلى بواطن النفس، ونشر ما داخلها، واختبار النوايا، وبيان أن بعضهم كان يريد الدنيا: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } (آل عمران:152)... والآيات في ذلك كثيره لا يتسع المجال لإيرادها.
لقد جاء القرآن ليعيد بناء الإخلاص (النية ) وتنقيته من الشوائب، ويعيد بناء الصواب (الفعل ) وتخليصه من المجازفة والارتجال.
وكان لابد من إعادة بناء الذات بجرأة وشجاعة، والشهود عليها، وتقويمها بقيم الكتاب والسنة، لتكون مؤهلة للشهود على (الآخر ).
وفي تقديري أن إشكالات أو إشكاليات بناء الذات، وإعادة تقويمها ومراجعة واقعها، ونقد الحال التي هي عليها، ونقض الباطل، والاجتهاد في تحديد الإصابات ومواطن الخلل والأسباب، تعود إلى حد بعيد إلى اضطراب فهم القيم وكيفية التعامل معها، والتلبس والخلط بين الذات والقيمة، بين نصوص الدين الإلهي المعصوم وصور التدين البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب.(9/221)
ذلك أن التلبس بين قيم الدين المنزل المعصوم وبين صور التدين البشري التي يجري عليها الخطأ والصواب والنقص، يعتبر إشكالية خطيرة من إشكاليات الوعي بالذات وإعادة البناء، وتقويمها بقيم الدين، والانطلاق بعمليات النقد والتقويم والمراجعة.. وقد تقود صور التدين أو علل التدين إلى ممارسة أشكال من عمليات التحريف والمغالاة والانتحال باسم الدين، فيصبح التدين والفهم البشري والاجتهاد هو الدين المعصوم، وبالتالي تحاط صور التدين بأقدار من القدسية، وادعاء العصمة، وتحاط بنماذج من الإرهاب الفكري الديني تشل الفاعلية وتطارد عمليات التقويم والمراجعة والمثاقفة والنقد والنقض، وتتوضع الأخطاء التي هي من طبيعة البشر، وتختل الموازين والمعايير، ويصبح الرجال وصور تدينهم واجتهاداتهم هم المعيار للحق ولمعرفته، ويصبح أي نقد لهم ولممارساتهم واجتهاداتهم، الذي هو في الأصل لصالح الدين ونصوصه المعصومة، نقدًا لقيم الدين نفسه، فتتكرس الأخطاء، وتتعطل الملكات، ويُقتل الإبداع، ويغيب الشهود على الذات، وتختلط الأمور، وتُحاصر قيم الدين، ويُحال دون قدرتها على الإبداع والإنتاج لكل عصر، بحسب مشكلاته، ويصبح الإنسان هو المعيار وهو محل المعايرة في الوقت نفسه.
ولقد حذر القرآن من علل التدين وصور التدين المغشوش حتى لا تتسرب لأمة الرسالة الخاتمة، وذلك عندما تتحول العصمة من القيم إلى الذات، وتتلبس الذات بالقيم والقيم بالذات، وتؤّل النصوص لتسوغ الممارسة، ويصبح لكل إنسان كتاب وسنة.
ولقد حذر تعالى من علل تدين الأمم السابقة، لتكون الأمة المسلمة متحققة بالشهود الحضاري التاريخي فقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله } (التوبة:31)، وقال: {إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } (التوبة:34).
ولعل من الأمور المطلوبة لوعي الذات وإعادة بنائها وتحققها بمؤهلات الشهود أو ممارسة شهود الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لتصبح مؤهلة للشهادة على الناس، {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ً} (البقرة:143)، أن نتجاوز الرؤية النصفية من الاقتصار في بذل الجهود على إثبات النص وما يتطلب ذلك من الجهود الفكرية والتوثيق وضبط مناهج النقل ومعايير الجرح والتعديل، وأنشطة التحقيق العلمية في المعاهد والجامعات، وما استدعى ذلك من الكلام عن صحة النص وعظمته وخلوده، إلى استكمال الرؤية في الاجتهاد وبذل الجهد، ووضع المناهج والضوابط، لكيفية إعمال النص وتنزيله على الواقع.
صحيح بأن بذل الجهود في حفظ النص ونقله تبقى على غاية من الأهمية، لأنها تحتفظ بالإمكان الحضاري، وتشكل المحور الأساس لحركة الحياة، لكن الاقتصار على ذلك دون التفكير بكيفيات التنزيل وتقويم المجتمع بقيم النص أو بالنص يفقد النص قيمته العملية، ويعطل وظيفته، ويصبح الحفظ والنقل عملية سلبية خارج حركة الحياة.
لقد تحدثنا كثيرًا ولا نزال عن عظمة الإسلام، وصوابية النص وخلوده، وتجربته التاريخية، ومرونته، وتميزه، وقدرته على معالجة مشكلات الحياة في كل زمان ومكان، وقابليته للتطبيق، حتى يكاد ذلك يستغرق أدبيات العمل الإسلامي، أما البحث والدرس والاجتهاد وتقديم البحوث والرسائل الجامعية وتوجيه جهود الباحثين إلى كيفية التنزيل على الواقع، ونصيب الواقع الإسلامي من هذا النص، ومعاودة تقويم واقع المجتمعات بقيم الكتاب والسنة، بحيث ينظر إلى القيم من خلال الواقع، وينظر إلى الواقع من خلال القيم، فواقع محزن.
ولن يتغير هذا الواقع المحزن مالم نجتهد في إيجاد الأدوات الصحيحة لاختبار صور التدين، وإعادة معايرتها، وممارسة الاجتهاد والتجديد، أو بمعنى آخر التحول بالأقدار الكافية من الكلام عن عظمة الإسلام إلى دراسة واقع المسلمين وأسباب عدم تحققهم بهذه العظمة، ووضع المناهج والبرامج والأوعية لبناء صور للتدين تكون في مستوى الدين والعصر، وإتاحة الفرصة لنقد الواقع وصور التدين التي هو عليها، والاجتهاد في اختبار صور التدين وتحديد أسباب الخلل بين عظمة الدين وخيبة المسلمين، وبذلك يتحقق الوعي بالذات، وتصوب مسيرتها في ضوء قيم الدين الخالدة، وتتأهل بعد تصويب الشهادة عليها من الكتاب والسنة لتكون شهيدة على الناس.
ولعل من آثار ذلك ومظاهره أيضًا المباهاة بإنجاز القرن الأول، المشهود له بالخيرية من الرسول بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ) (أخرجه البخاري).. تلك الخيرية المفترض لها أن تحقق المقاربة، وأن تثير الاقتداء، وتغري به، على الأصعدة المتعددة، فقول الرسول: (خير الناس... ) يعني فيما يعني -إضافة إلى الشهادة النبوية لفهم خير القرون وتنزيلها على الواقع- أن هذا الفهم للقيم من الأمور المرجعية.
وحتى يتحقق الاقتداء بالشكل المناسب، فإن الأمر يتطلب، بالنسبة للأجيال المسلمة في كل عصر، الاجتهاد في محاولة تحديد مجموعة الخصائص والصفات التي بها كانت تلك الخيرية، ووضع المناهج التربوية والإعلامية والثقافية التي تمكن من التحلي بها، والمقاربة منها ولها.
إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما نرى- لا يحمل الإخبار فقط عن ذلك، فالإخبار على أهميته بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل، إلا أنه يبقى عن جيل ماض لا سبيل للوصول إليه والانسلاك في إطاره من حيث الزمان والمكان، وإنما يحمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا أبعادًا تكليفية لابد من التفكير بكيفية تحقيقها أو مقاربتها على مدى الأجيال، وذلك بتجريد تلك الصفات من قيد الزمان والمكان والأشخاص، ومحاولة توليدها في كل زمان ومكان عن طريق وسائل التربية والتعليم، والتوجيه، والإرشاد، والإعلام، والتثقيف، وتأطير الفهم بعطاء المشهود لهم بتلك الخيرية والهدى من المعصوم.
أما الاقتصار في القراءة لسيرة خير القرون لمجرد الاحتماء بها ومعالجة مركب النقص وتغطية العجز دون القدرة على التحلي والتمثل ودراسة مدى تحقيق هذه الخيرية في الأجيال المستمرة، فتلك المعادلة التي ما تزال بانتظار الحل.. فالجيل عظيم، وصاحب إنجاز متألق وإبداع وبناء حضاري، وأنموذج متفرد... وهذا قد لا يحتاج منا للشهادة له بعد شهادة المعصوم بالخيرية والهداية من الله، وإنما نحن الذين نحتاج للتأهل بخصائص وصفات ذلك الجيل، حتى نتحقق بالشهود على الذات، وتصويب خطواتها، وترميم إصاباتها، وتقويمها بتلك الخصائص والصفات، لتصبح في مستوى الشهادة على نفسها، وقادرة على الشهادة على الناس: {لتكونوا شهداء على الناس } (البقرة:143).
فطالما نحن مفتقرون للشهادة على الذات ومعايرتها بالقيم في الكتاب والسنة وخصائص خير القرون، فسنبقى عاجزين عن الشهادة الحضارية على الناس.
وقد يكون من البدهيات القول: بأن إعادة بناء الذات، وتأهيلها، باسترداد مقومات الشهادة على الذات لتصبح قادرة وقائمة بالشهادة على (الآخر )، أو ممارسة مهمة الشهود الحضاري، لا يتحقق بالرغبات والأمنيات وبمزيد من الحماس والتوثب والحشد والخطب، وإنما لابد له من توفير التخصصات في المجالات المعرفية المتنوعة والمتعددة، وإبداع المناهج والبرامج الدقيقة، واختيار أدوات البحث، وتقويم النتائج وقياسها، واكتشاف مواطن الخلل ومعالجتها بجرأة وشجاعة.(9/222)
ذلك أن عمليات النقد والتقويم والمراجعة من المهام الوظيفية الكبرى لتحقيق الشهادة على الذات وسلامة مسيرتها، والقيام بواجبات الشهود الحضاري، فأهل الذكر في كل قضية هم المتخصصون بها، المحيطون بعلمها: {فاسأل به خبيرًا } (الفرقان:59)، وأن غير المتخصص عاجز عن تقديم الشهادة وإدراك أبعادها ورؤية متطلباتها، عاجز عن تحملها، عاجر عن أدائها معًا. وأهل الحل والعقد هم أهل الاختصاص الذين يمتلكون الرؤية الشرعية، أو المرجعية الشرعية، التي تفيد من الاختصاص وتوجهه صوب أهدافه.
فلا نستطيع تحقيق الشهود الحضاري، لا على أنفسنا ولا على (الآخر )، إذا كان الكثير من شعب المعرفة التي يتطلبها بناء المجتمع وشهوده، وتقتضيها وظائفه غائبة ومؤذنة بتمدد (الآخر ).
وفي اعتقادي أن الإصابة في هذا الموضوع بالغة ومتجذرة وخطيرة، وتحتاج إلى جهود لفك الأطواق من التقاليد المحكمة على الرقبة، والعزم على اقتحام هذه العقبة، حيث المتحمسون وغير المتخصصين بين المتدينين يفتون بما لا يحيطون بعلمه، ويقتحمون مجالات لا خبرة ولا اختصاص ولا همَّ لهم بها.. والمتخصصون من كثير من المسلمين في بعض شعب المعرفة ما يزالون عاجزين عن إدراك الرؤية الإسلامية للاختصاص وأهمية تكامل الاختصاصات في تحقيق الشهود على الذات، فيغادرون مساحات ومجالات الاختصاص إلى منابر الوعظ والإرشاد، فيدعون ما يحسنون إلى ما لا يحسنون، ونفصل بذلك الدين عن مجالات الحياة عمليًا، أو نفصل الحياة عن قيم الدين، رغم أننا ندعي غير ذلك، وتستمر حالة الاستنقاع الحضاري، ويستمر تمدد (الآخر ) في المجالات والوظائف التي يتطلبها المجتمع المدني، وبعد ذلك ندعي بأننا الشهداء على الناس، رغم الافتقار لمقتضيات الشهادة: { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } (البقرة:143).
وقد تكون المشكلة التي تكمن وراء الكثير من المجازفات والمفارقات، عدم الإدراك الكامل لحدود التكليف في كل مرحلة وحالة، وإمكانيته، الأمر الذي يؤدي إلى العبث بالأحكام والتكاليف الشرعية، وتنزيلها على غير محالها.
والسبب الأساس في ذلك -في نظري على الأقل- هو الاقتصار بالاجتهاد على فهم النص، وغياب الاجتهاد في محل التنزيل، وإلى أي مدى تتوفر الشروط المطلوبة في المحل أو الاستطاعة المطلوبة لتنزيل الحكم، والله يقول: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها } (البقرة:286)، ويقول: {وفاتقوا الله ما استطعتم }(التغابن:16)، حتى يكون التكليف في حدود الاستطاعة، وهو ما اصطلحنا على تسميته (فقه الواقع )، الذي هو فقه المحل، وعدم الاقتصار على فقه النص.. وهذه الثنائية بين فقه النص وفقه الواقع، أو المحل، هي في واقع الحال ثنائية فنية لتسهيل الإدراك للموضوع، ذلك أن الحقيقة أن من مقتضيات فقه النص فقه المحل ولافقه لنص دون فقهٍ لمحله.
إن التكليف إذا انعدمت الاستطاعة المطلوبة له، لا يَرِد على الإنسان ابتداءً، وهذا طبيعي في شرع الخالق. فإذا توافرت درجات أعلى من الاستطاعة علا التكليف، وإذا ضعفت أو تراجعت اقتضت من التكليف ما يناسبها.
إن عدم إدراك هذه الحقيقة البدهية التي أدركها الكثير من فقهائنا الأعلام يعتبر من الإشكاليات الكبيرة التي أعاقت ولا تزال تطبيق الشريعة حتى اعتبر أن غير المستطيع غير مكلف، ولا ترد التكاليف في حقه أصلاً.
ومن هنا ندرك أن التخلف، كعملية متراكبة ومتداخلة، لا يقتصر على أن يضعنا دون سوية عصرنا ويؤدي إلى عجزنا عن الشهود الحضاري، وإنما يضعنا أيضًا دون سوية ميراثنا الثقافي والفقهي.
إن العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها تحت شعارات الحماس والحرص على تطبيق الشريعة، لا شك أنه يؤدي إلى إهدار الطاقات، والقيام بمجازفات، والإقدام على أعمال غير محسوبة بدقة، ويعود في النهاية أو المحصلة النهائية، على إجهاض أداء القيم، والتوهم بأن الأزمة أزمة قيم وتجربة حضارية وأطر مرجعية، والحقيقة أن الأزمة أزمة تعامل، وفقه تنزيل، وغياب اختصاص، وفقدان مقومات الشهود.
وهذا العبث بالأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها، وعدم فقه المحل، وتوفير الاستطاعات لتتوازى مع التكاليف، وتوفير الاطمئنان النفسي،أدى إلى كثير من القلق والاضطراب والتطاول إلى ما لا نستطيع على حساب ما نستطيع، ذلك أن المسلم إذا استفرغ وسعه وبذل استطاعته في التكاليف الشرعية المناسبة لها، فقد طبق الإسلام المكلف به في حاله التي هو عليها ولو لم يستكمل جميع تكاليف الشريعة.
إن غياب فقه الاستطاعة، أو غياب فقه المحل، وعدم إدراك مواصفات الخطاب القرآني بحسب محاله، أدى إلى لون من العجز عن التعامل مع القرآن، والفوضى في إدراك خطابه، ذلك أن من المعروف أن الخطاب القرآني متنوع الأغراض، متعدد المجالات، ولكل حالة ومجال خطابه الملائم له: فخطاب المعركة غير خطاب الحوار، وخطاب الدعوة غير خطاب الدولة، وخطاب النصر غير خطاب الهزيمة، وخطاب العقيدة غير خطاب المعاملة الاجتماعية.
لذلك نقول: إن الفوضى في التنزيل، وقراءة الخطاب القرآني والاستشهاد به في غير محاله، أدى إلى الكثير من الضياع والبلبلة الفكرية، والكوارث الاجتماعية، والإحباطات والأزمات النفسية، كما أدى إلى العجز عن الشهود الذاتي والشهود على (الآخر )، أو الشهود الحضاري بشكل عام.
وعلى الجملة يمكن القول: بأن الإشكالية الأساس في تحقيق الشهود على الذات، الذي يؤهل للشهود على (الآخر )، هي تلبس الذات بالقيم، والخلط بين الدين والتدين، والتجريم والتأثيم والإرهاب الفكري لكل من ينتقد صور التدين، على اعتبار أن هذا النقد وهذه المراجعة والتقويم إنما تنال من قيم الدين المعصوم (!) فاستمر التشوه، وتكرس الكثير من التدين المغشوش، وحلت اجتهادات البشر محل قيم الدين المعصومة الخالدة.
ولعل من مقومات الشهود ومستلزماته، إلى جانب الوعي بالذات وتحقيق الشهود الذاتي وتقويم ذلك بقيم الكتاب والسنة، الوعي (بالآخر )، محل الشهود، والشريك في الشهود والبناء الحضاري.
وفي تقديرنا، أن الوعي (بالآخر ) يتطلب فيما يتطلب المعرفة بعقيدته، وعالم أفكاره، كما يتطلب المعرفة بتاريخه الطويل، أو نصيب هذا التاريخ والفعل البشري من عقيدته وعالم أفكاره، ومن ثم إدراك حاضره وموقع هذا الحاضر من عقيدته وتاريخه، حيث لابد من هذا الوعي لتحديد القواسم المشتركة، وتحديد المداخل الحقيقية لكيفية التعامل معه على بصيرة، وتحقيق الشهود الحضاري المطلوب.
ونحب أن نؤكد هنا أمرًا ما يزال غائبًا عن كثير من العاملين في المجال الإسلامي: أن (الآخر ) موجود من الناحية العملية والواقعية، وأنه محل الدعوة، وأحد أطراف الحوار والجدال، وأحد ميادين سنن المدافعة، واستمرار التاريخ البشري، ولذلك خلقنا الله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (هود:118-119) .
إن الاعتراف (بالآخر ) ومعرفته لا يعني إقراره على ماهو عليه، وهذه إشكالية بعض الذهنيات الإسلامية، حيث يقع الخلط بين الاعتراف (بالآخر ) وبين الإقرار بصحة عقيدته ودينه، ذلك أن الله لم يخلق الخلق نسخًا مكررة عن بعضهم، ولو كان ذلك كذلك لانتهى التاريخ، وتوقفت سنن المدافعة، التي تأذن بامتداد الحياة واستمرار الضرب بين الحق والباطل: {كذلك يضرب الله الحق والباطل } (الرعد:17).(9/223)
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد على أن القرآن أفرد مساحات تعبيرية هائلة للحديث عن (الآخر )، عقيدته، وعباداته، وعاداته، وتاريخه، وعلل تدينه، وأسباب سقوطه، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن القرآن يمكن أن يعتبر من بعض الوجوه كتابًا في التاريخ الحضاري، أو في الشهود الحضاري الإنساني، حيث عرض للحضارات الإنسانية كمختبر للفعل الإنساني، والسنن والقوانين الاجتماعية التي حكمت سقوطها، وتحديد أسباب السقوط، واستخدم ذلك وسيلة إيضاح لبيان أسباب السقوط والنهوض، لتكون الأمة المسلمة، أمّ الرسالة الخاتمة الشاهدة على الناس، على بينة من الأمر، فلا تنتقل إليها علل التدين وأسباب السقوط، يقول تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين }
(آل عمران:137-138).
وقال تعالى: { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } (إبراهيم:45)
إن هذا المسح الحضاري، وهذا الشهود التاريخي الحضاري، الذي يقدمه القرآن للأمة الشاهدة على الناس، وهذا الوعي (بالآخر )، ومعرفة الخارطة الحضارية والفكرية والأنماط الحياتية التي لابد أن يبصرها المسلم ليؤدي دوره في الشهادة والقيادة وإلحاق الرحمة بالناس على بصيرة، هو جزء لا يتجزأ من بناء الوعي بالذات.
إن الوعي بالذات، والشهادة عليها، وتأهيلها لشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها لا يكتمل إلا بالوعي (بالآخر ): { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا } (البقرة:143)
والوعي (بالآخر ) يمكِّن -كما أسلفنا- من تحديد المشترك الإنساني، ويبيِّن مواطن الخلل، ويحدد المداخل التي تمكِّن من الشهادة عليه، وإيصال الخير له، وتجنب الإصابات التي لحقت به.
والشهود الحضاري سواء أكان على الذات أو على (الآخر )، يتطلب قيمًا ومبادئ ومعايير ثابتة، واضحة ومنضبطة وواقعية، بعيدة عن الهوى وجموح الخيال، وليست من وضع الإنسان حتى لا يصبح الإنسان المعيار ومحل المعايرة في الوقت نفسه، وخالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، مرنة، قادرة على التنزل والتوليد والمعايرة في كل زمان ومكان.
وغني عن البيان القول: بأن القرآن معيار وشاهد على الكتب السابقة، على (الآخر )، لأن أصول الكتب والرسالات انتهت إليه، فجاء مهيمنًا عليها، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه } (المائدة:48).
والهيمنة هي الرقابة والشهادة المبيِّنة لما هو الصواب في الأصل، وما ناله التحريف والتبديل.. والشهادة هي الإمكانية والقدرة، ومعيار النظر، والبيان للعلل والإصابات.. والرسول شاهد بما نيط به من البيان والتصويب.. والأمة المسلمة شاهدة على الناس بما تحمل من قيم معيارية وحضارية تمثل منهاج التوسط والاعتدال، تمكنها من الحكم على الذات وعلى (الآخر ).
فالقرآن معيار، والسنة بيان القرآن معيار، والسيرة التطبيقية معيار، والأمة المسلمة معيار، والحضارة الوسط معيار.
فقيم الكتاب والسنة هما معايير الشهود.. والشريعة المستنبطة منهما معيار الشرائع.. والأمة المتمثلة بهما معيار الأمم.. والحضارة الناتجة عنهما معيار الحضارات.. وهكذا يتحقق الشهود، بوعي الذات وتصويب مسيرتها، ووعي (الآخر ) وشهوده الحضاري، فضلاً عن وعي معايير الشهود في الكتاب والسنة والسيرة العملية.. أما إذا فُقد المعيار، فإن الأمة تتحول من حال الشاهد إلى واقع المشهود.
وبعد:
فالكتاب الذي نقدمه، بما اضطلع به من محاولة جادة لمسح الفكر الحضاري، يساهم إلى حد بعيد بتقديم رؤية للملف الحضاري، ذلك أن الملف الحضاري، أو ملف الشهود الحضاري، التاريخي والمعاصر بشكل عام، أصبح يشكل أولوية في مجال الدراسات الإنسانية والحضارية، وعلى الأخص عصر العولمة وتحوّل المواجهات من الميدان العسكري إلى الميادين الحضارية والثقافية، والتحول من قوة العضلة والساعد إلى قوة العقل والمعلومة التي تحاول اليوم احتواء العالم.
إن ملف الشهود الحضاري هو الملف المفتوح باستمرار، على مستوى الذات وعلى مستوى (الآخر )، على حد سواء، بعد تحقق الوعي بأن الركائز الحضارية المؤهلة للحياة والاستمرار هي عالم الأفكار، ذلك أن عالم الأشياء بكل أبعاده لا يخرج عن أن يكون تجليًا لعالم الأفكار وناقلاً ومجسدًا له.
فالغياب الحضاري، الذي يتولد عن عدم وعي الذات ووعي (الآخر ) والتحقق بمعايير الشهود الحضاري، يعني الموت والخروج من ساحة الشهود.. كما أن فقدان معايير الشهود يعني السقوط والارتماء الحضاري، أو العمى الحضاري.. إضافة إلى أن عدم وعي (الآخر ) يعطل مهمة الشهود وإلحاق الرحمة بالعالمين.
والكتاب، إلى جانب ما يقدمه من مسح للمكتبة الحضارية على مستوى الذات (والآخر ) نوعًا ما، يعتبر محاولة لاستقراء عالم الأفكار لمعرفة الذات (والآخر )، يمكن أن تساهم بتشكيل ثقافة حضارية، ويضع لبنة على طريق استرداد الشهود الحضاري للأمة المسلمة، والتدليل على أن الأمة المسلمة، التي هي خلاصة تجارب الأمم الحضارية، بما تمتلك من شهود تاريخي، وشهود الخاتمية، وشهود الوسط، ومعايير خارجة عن وضع الإنسان، مؤهلة لإنقاذ الحضارة الإنسانية اليوم وإلحاق الرحمة بالعالمين.
والحمد لله رب العالمين
=============
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطيبين وصحابته المجاهدين..
وبعد:
فإن أمتنا تعيش أزمة، والواجب على كل مفكر غيور ومثقف نزيه مخلص أن يدلنا على مكامن الخطأ والتقصير.. فهل هي أزمة سياسية، أم أزمة ثقافية فكرية، أم أزمة قيم وأخلاق، أم أزمة تربية وتعليم، أم هي خليط من كل ذلك؟ وكيف المخرج؟ ابتداءً، لقد مرت أمتنا من العصر الجاهلي إلى اليوم بعدة أحوال ومراحل:
1- مرحلة ما قبل الإسلام، قبائل لا تجمعها دولة ولا نظام، يحارب بعضها بعضًا، ويغِير بعضها على بعض، ويتسابق حصان وفرس (داحس والغبراء ) فتختلف أيهما سبق، فيكلف ذلك حربًا، تستمر عقودًا من السنين.
2- جاء الإسلام فوحد الأمة، ودفعها نحو القيادة والريادة، ونشر الإسلام في العالم، فصرنا بفضل الله قادة العالم وسادته، لعدة قرون، لا يستطيع أحد أن يتجاهلنا، ولا يتخطانا، ثم أقمنا صرحًا حضاريًا، لا تزال معالمه ماثلة للعيان، وأنتجنا ثقافة ما زلنا نعتاش عليها.
3- ثم بدأ العد التنازلي، والبعد عن أساس نهضتنا، فتجمد فكرنا، وتحولنا من المضمون إلى الشكل، ومن القيم والأفكار إلى الأشياء، ففقدنا القيادة، بل ضيعنا السيادة في بلادنا، فاجتاحنا الكثير من برابرة العالم، ابتداءً من الصليبين الهمج، إلى المغول البدو، وأخيرًا جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في حياتها.
وقبل أن يجلو الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب، زرع لغمًا كبيرًا هو إسرائيل، ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق، وما يزال يمدها حتى اليوم.
وهنا أستذكر قضيتين، واحدة قديمة وأخرى جديدة:(9/224)
1- القضية الأولى: تقود للعصر العباسي، حيث أوصى المأمون أن يكون الخليفة من بعده (المعتصم )، وليس ولده، ولما كان المعتصم لم يتعلم جيدًا، فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم (ابن أبي الربيع)، الذي كتب للمعتصم كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك ) (1)، وكان الشخص الثاني (إسحاق بن إبراهيم المصعبي )، وقد طلب إليه المعتصم أن يجيب: لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته، بينما لم ينجح المعتصم؟
لقد خاف المستشار المصعبي من غضب المعتصم، إن هو صارحه السبب، فطلب أن يعفيه من ذلك، لكن المعتصم أصر على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع. هنا قال المصعبي: هل أنا آمن من غضبك؟ فرد المعتصم بالإيجاب.
قال المصعبي بإيجاز: لقد نظر أخوك إلى (أصول) فاستعملها فأنجبت، واستعمل أمير المؤمنين (فروعًا ) فلم تنجب شيئاً.. وهنا قال المعتصم: ويحك يا مصعبي، والله إن ما أعانيه أيسر عليّ من جوابك هذا!
هذه (المشورة ) عمرها أكثر من ألف عام، مفادها: أن المأمون اعتمد أصولاً لسياسته فأثمرت، والمعتصم اعتمد فروعًا فلم تنتج ولم تنجب.
2- القضية الثانية: خلال الحرب الكونية الثانية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب بما في ذلك أمريكا، وكانت حربًا قذرة بمعنى الكلمة، خلت من كل رحمة، فدكت المدن، وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونًا من البشر، وجاع وتشرد الملايين من البشر، ونهبت بلاد ومصانع، وفرضت غرامات، وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية لأول مرة في التاريخ، وانتهت هذه الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية.
وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة، فقد تقدم المغلوب على غالبه، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه، فما السر وراء ذلك ؟
أحسب أن عالم (الأشياء ) دمر ونهب، ولكن الإنسان وفكره بقي، فأقام كيانه مجددًا، وتخطى من هزمه. ولعل من تتمة هذا، الإشارة إلى ما حققته الدول الاشتراكية من إرسال صاروخ إلى الفضاء، قبل أمريكا والغرب، فقامت أمريكا ولم تقعد لهذا السبق، لذا أعادت النظر في مناهج التعليم، من رياض الأطفال وحتى الجامعات، كما فتحت أبوابها لهجرة العلماء، من كل بقاع الأرض، ولم يهدأ لها بال، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخًا إلى الفضاء، وكان ذلك عيدًا وأي عيد!
والآن أود أن أتساءل: هل الفكر هو العقل، أم العلم، أم الثقافة، أم هو الأحكام والمبادئ، أم حصيلة جمع ذلك كله ؟
إن الأفكار هي الضابط لسير المجتمع، والمانع من تراكم الأخطاء، والتآكل والصدأ.
العالم الصناعي اليوم ينشئ مراكز البحث، ويمدها بكل ما تحتاج(1)، فأين مراكز البحث عندنا ؟
أخيرًا: هل أزمتنا أزمة قيم، أم أزمة فكر ؟
إن شخصية الفرد المسلم تعيش أزمة، ليست بنت اليوم، لكنها تطاول عليها الزمن فأفرزت إفرازات ضارة، وربما قاتلة.
لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها، وتراجع شهودها الحضاري، فنتج عجز عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب التقصير والقصور، وكذلك تحديد أماكن الخلل والخطل، لقد خرجنا بعيدًا عن الفعل والفاعلية، وصار التحضر ليس من همومنا، كل ذلك ليس بسبب فقر القيم، ولا المرجعية السليمة، فما زال كتاب الله يتلى، وما زالت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدرس، وما زال إيمان جمهور الأمة بالإسلام كبير.
ليست مشكلتنا مشكلة قيم، ولا أزمة قيم -كما يحلو لبعض أبنائنا، وكل أعدائنا أن يصورها- وإنما المشكلة -في تصوري المتواضع- في العجز عن التعامل مع القيم، وفرضها على الواقع، أو الملاءمة بين هذه القيم والواقع الحياتي، وهذه مهمة الفكر، ووظيفة الفكر.
هناك جهات داخلية وخارجية، تريد أن تقنعنا بأن أزمتنا في قيمنا ذاتها، وتريد أن تهيل التراب على الإسلام، عقيدة وشريعة وحضارة وثقافة وتراثًا، فإن تعذر، فليكن عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا تشريع. إن انحسارنا الحضاري والثقافي، كان وما يزال أزمة فكر، فقد توقف النسق الفكري للحضارة والثقافة الإسلامية منذ قرون، وصار المعتقد: (لم يترك الأوائل للأواخر شيئًا ).
والمطلوب حاليًا أن نحاول بكل جد وإخلاص تحديد الأزمة، ومعرفة آثارها، ثم تحديد مواطن الخطأ والصواب، وكل ذلك وفق منهج يستلهم القيم، لا أن يقفز فوقها أو يهيل التراب عليها، ويستبدل بها قيمًا خارجية لا تمت إلينا بصلة.
هناك قيم عامة للبشر، وهناك قيم لكل حضارة وكل أمة.. قد تعيش الأمة بدون حضارة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة وقيم.
ولم يسجل التاريخ اسم أمة نزعت ثقافتها مرة واحدة، كما يخلع الإنسان ملابسه ويغيرها.
الثقافة صانعة الهوية، ومانحة الولاء، والذين يحتقرون ثقافتهم أولئك انسخلوا من الأمة، ولم يبق لهم بها صلة غير (المكان ).
وكم في العالم من بشر جسمه في وطنه، وقلبه وعقله يطوف حول أصنام لندن أو باريس أو واشنطن.. جسده هنا، أما عقله وقلبه فهناك، إنه مأزوم مهزوم، حتى سويداء القلب، ونخاع العظم.
ويقول (فرانك أنلو ): (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعًا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك... )
والله الموفق والمعين
===============
تمهيد
هناك مفاهيم تطرح هنا وهناك، تبدأ عادة يلفها غموض، ثم مع الأيام تتضح وتتبين، وأحيانًا يصاغ لها الغموض ويراد.
وأحيانًا يدخل التحريف لسبب ما.
فالمفهوم يمكن وصفه أو توصيفه بأنه شيء معرفي جامع، صاحب هوية، وربما تاريخ ميلاد، وشيء من تطور في دلالته، يوسع في دائرته أو يضيق فيها.
والأمر الذي يلمحه المتابع أن دائرة المفاهيم هي ميدان للصراع الفكري الثقافي، قديمًا وحديثًا، ساهمت فيه الأديان والمعارف البشرية.
والصدمات الحضارية، تصيب أول ما تصيب المفاهيم الثقافية، أما الأمراض التي تضربها فتتراوح بين الغموض والميوعة والتيبس.
والأمة -أي أمة- قد تستعير مفاهيم من حضارة أو ثقافة أخرى لتتداولها، ناسية خصوصيتها، خالطة بين المعارف الإنسانية العامة المشتركة كالرياضيات والفيزياء والفلك وعلوم النبات، والعلوم (المِلّية ) الخاصة، فهنا يتسرب الغموض، ويحدث الارتباك، وتتعدد المصطلحات والتعابير الدالة على معان واحدة -ظاهريًا- وليست كذلك في الحقيقة، وكأنها مترادفات.
والذين يتابعون الحوار في المؤتمرات، وعلى شبكات التلفزة، يشعرون أكثر من غيرهم بذلك.
فالذين يتحدثون عن الديمقراطية أو العلمانية أو الحداثة، أو ما بعد الحداثة، وحتى الوجودية والماسونية، يستمع لهم المتابع ليجد مصطلحات واحدة وتفسيرًا مختلفًا كل الاختلاف، لذا يجب تحديد المصطلحات والمفاهيم أولاً قبل الخوض في الحوار والنقاش.
إن الحوار يفقد معناه، إن لم تحدد المفاهيم بدقة وموضوعية، وأحيانًا يصعب النقد إن لم يصبح مستحيلاً، دون تحديد المفاهيم.
وقد يصير عالم (الأفكار ) فاقداً المضمون، دون تحديد للمفاهيم، ويتبع ذلك أن الأمة تصاب بنوع من التشوش، فتتحول من عالم الأفكار إلى عالم الأشياء، وبدلاً من معرفة الرجال عن طريق الحقيقة، يصار إلى معرفة الحقيقة عن طريق الرجال، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(9/225)
العالم، قديمه وحديثه، يشهد تصادمًا ثقافيًا، فضاؤه الأكبر حول المفاهيم، من هنا يمكنني فهم قول الحق سبحانه وتعالى، وهو يتحدث عن الاستخلاف في الأرض وجدارة الإنسان له: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30).
والقضية ملفتة للنظر، فالله يقول للشيء: (كن فيكون )، لا راد لأمره، ولا معقب لكلامه، وهو هنا يعرض على الملائكة أمر الاستخلاف في الأرض، فإذا كشفوا عن تصورهم بأحقيتهم بذلك الاستخلاف، كاشفين عن عيب في هذا المستخلف، أجملوه أولاً بأنه مفسد، ثم أوضحوا: بأنه يسفك الدماء، ثم يأتي الجواب فيه نوع غرابة، إذ لم ينف الحق عن هذا المستخلف هذه التهمة، لكنه بدلاً من ذلك كشف عن مزية، وهي القابلية العالية للتعلم، على حين لا تملك الملائكة هذه القابلية، فينجح آدم في الاختبار.
والأمر الآخر الذي أريد التفكر فيه هو تعليم الله تعالى الأسماء لآدم عليه السلام، وهذا يعني أن هناك معارف قدمها الله تعالى للإنسان، وأخرى تركها ليصل إليها بجده واجتهاده.
وإذن فليس من العقل ولا من المنطق، ولا من المصلحة، أن يترك الإنسان ما قدمه له خالقه، ليشتغل به بعقله المجرد.. وتاريخ الفلسفة قديمًا وحديثًا يخبرنا بذلك التخبط البشري، خصوصًا في الجانب (الميتافيزيقي )، فما يقوله فيلسوف، ينقضه تلميذه، وما تتبناه فلسفة، تنقضه غيرها.
فتعليم الله جدير بأن يُعضّ عليه بالنواجذ، ففي العقائد والعبادة، وفي ذات الله تعالى وصفاته، وما يحدث في اليوم الآخر، لا يجوز بحال أن نستبدل معارف بشرية ناقصة بما قدمه الله تعالى لنا.. وسوف أضرب بعض الأمثلة:
أولها: إن الله تعالى تحدث عن العائلة، فجعلها مشروعة وفق عقد رضائي بين رجل وامرأة، بشروط معينة، إذ بيّن لنا ما يجوز بينهما -الرجل والمرأة- من زواج وما لايجوز، فإذا جرى العقد وشهد بذلك شهود، ليحفظوا حقوق الكل، وينفوا حصول الزنى، قامت العائلة، هذا في الإسلام.. جاء الغرب اليوم (ليتلاعب ) بالعائلة وليقول: لا حاجة للعقد، ولا لإشهار الزواج، ويمكن للرجل والمرأة أن يتعاشرا دون عقد، وينجبا الأولاد، فإن شاء الرجل اعترف بالأولاد، فحملوا اسمه، ونُسبوا إليه، وإلا نسبوا إلى أمهم، وصاروا أولادًا غير شرعيين. ولم يقف الغرب عند هذا الحد، بل أتاح الزواج المثلي كأن يتزوج الرجل رجلاً أيضًا، ورسم لذلك (قسسًا ) ينجزون العقد، وهناك مطالبة من قوم (لوط ) من اليهود، أن يكون لهم (حاخام ) أيضًا.
ومن يدري ، فقد يطلع علينا الغرب غدًا بتشريع يسمح بأن يتزوج رجل من كلبة، وتتزوج امرأة من كلب أو قرد، أو بغل!!!
هذا التلاعب، خطر وعبث وقد نشرت بعض الصحف الغربية قضية وناقشتها، ملخصها: أن رجلين من قوم ((لوط )) خلطا (منيهما ) وأخذا بيضة من امرأة، ثم جرى تلقيحها لتزرع في رحم امرأة أخرى، فإذا جاء المولود (المبارك ) فلمن سيكون؟؟ إنه استنساخ جديد أو استمساخ جديد، وعبث يصعب تصوره، أو فهم الهدف منه!!!
قضية أخرى: اليهود يتلاعبون بكل شيء، ومن ذلك كلام الله، فكانوا يتلاعبون بمقولة: (راعنا ليجعلوها من الرعونة )، فأنزل الله قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) (البقرة:104). فمن أجل قطع الطريق على المتلاعبين جاء الأمر بترك (راعنا )، علمًا بأنه لا يوجد فرق كبير بين {راعنا } و{انظرنا }.
ولعل من الأمثلة التي لمستها، أن الشخص الماسوني الغربي لكونه لا يخاف فإنه يذكر أن الماسونية لا دينية، وأنها تعمل لإعادة بناء هيكل سليمان، أما أخوه الماسوني الشرقي فينفي ذلك كليًا(1).
قضية العلمانية: في الغرب تعني تقاسم السلطة بين الكنيسة والدولة، الكنيسة مسؤولة عن العقيدة والعبادة وإقامة القداسات والوصايا، وما سوى ذلك للدولة، ولا أحد يتدخل في اختصاصات الطرف الآخر. فلما نُقلت إلى الشرق الإسلامي، صار معنى العلمانية الإلحاد، ورفض الإسلام شريعة، ومحاربته دون سواه من الأديان، وتدخل الدولة في كل صغيرة وكبيرة من أمور الإسلام.
وقل مثل ذلك في الديمقراطية والوجودية والحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وأمثال ذلك.
فالمصطلحات أو المفاهيم هذه وأمثالها تنقل وهي (محملة ) بخلفيات ثقافية، ومرتبطة بأصول ومرجعيات، وحين تنقل إلينا يحدث الكثير من الخبط والخلط.. و(الدين ) خير مثال، فالإنسان المسلم يفهم الدين أو الإسلام على أنه منهج حياة، ليس من حق الحاكم ولا المحكوم أن يتجاوزه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما (الدين ) في المنهج الغربي فهو علاقة بين الإنسان وربه، أي عقيدة وعبادة ليس إلا.
وحين باشرنا الترجمة عن الأمم والثقافات الأخرى، ابتدأنا بعلوم اليونان، فلسفة ومنطق ورياضيات وطب، وتركنا الآداب مع جمالها، لأنها وثنية تؤمن بتعدد الآلهة.. وكان الذين ترجموا أولاً عن اللغة اللاتينية، من اليهود والنصارى، لذا لم يكن ثمة تعليق أو بيان للخطأ والصواب، ومن هنا دخل ثقافتنا الكثير من المفاهيم والمصطلحات، مثل: واجب الوجود بنفسه وبغيره، والجوهر والعرض، والمادة والهيولى، والجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، وأن الله قديم، والكلام حديث، فالله ليس محلاً للحوادث، وإذن فلم يتكلم، مع أنه تعالى يقول: (وكلم الله موسى تكليمًا ) (النساء:164 )، إلى أشياء كثيرة، حتى اضطررنا لإنشاء علم يرد على ذلك كله، أسميناه: (علم الكلام )، انتهى باختراع شبهات، والرد عليها، لقد تحول علماء الكلام إلى (دون كشوتيه ) يحاربون شبهات، قد لا تكون موجودة أساسًا.
أريد أن أصل إلى القول: بأن أزمتنا الطاحنة اليوم، من أكبر أسبابها الاحتكاك غير المنضبط بالغرب، حضارة وثقافة، وكسر كافة الحواجز، بيننا وبينه.
ومعلوم حين تصطدم حضارتان أو ثقافتان فإن الأقوى تطرد الأضعف وتحجمها، ثم يتبع ذلك فقدان الثقة بها من قبل أهلها، وتتوقف عن التعامل مع الواقع، لتحاول أن تتكيف مع العالم، ولتفسح له المجال لفرض مفاهيمه ومصطلحاته.
من هنا رحنا ومنذ أكثر من قرن، نقابل بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين التقليد والتجديد، فإما هذا أو ذاك.
وهكذا شغلنا بمعارك، ما تزال تستنزف المبتقي من طاقاتنا، ثم لم نحقق شيئًا، لاحققنا تقدمًا في المعرفة، هدمنا القديم، ولم نبن جديدًا.
المفاهيم الجديدة صارت وسيلة تشرذم وتشتت، بدل أن تكون أداة علم ومعرفة وإيضاح، لقد حصل تداخل وتشابك عجيب، بين الموروث المعرفي الثقافي القديم، والوافد الجديد، فحصل تخلخل في الإجماع الذي تبخر، ففي بلد عربي نسمع بأن نظامه إسلامي أكثر من اللازم، هذا ما يقوله المغتربون، وفي نفس الوقت نسمع بأن هذا النظام إسلامي شكلاً فقط، وهذا ما يقوله التراثيون، ولا يوجد نظام في العالم يمكن أن يصدق فيه الوصفان معًا!!!
لقد ضاع الإجماع الثقافي، فتكرست الاختلافات داخل الأمة، حتى صارت المفاهيم الجديدة الوافدة هدفًا ومقصدًا لبعض الأطراف، تريد فرضه بالقوة على الأمة، رضيت أم سخطت، وعُوملت الأمة وكأنها مخلوق قاصر تقتضي المصلحة على أن يجبر على قبول بعض المفاهيم والقيم، شاء أم أبى.(9/226)
وأريد هنا أن أسجل بعض ما قاله المستشرق البرتغالي (أرنولد شوبرت )(1) قد حضر في القاهرة مؤتمرًا، وأجرى مندوب مجلة الدعوة السعودية معه حوارًا صريحًا، تحدث فيه عن اللغة العربية وعبقريتها، وعن أسباب تخلف المسلمين، وعن صورة الإسلام في الغرب، وسبب الهجمة الشرسة عليه، وأخيرًا عن الحداثة وبعض الحداثيين عندنا.
فعن تخلف المسلمين يرى أنه عقوبة مستحقة على المسلمين، لتخليهم عن دينهم، وليس لتمسكهم به. ويزيد: أن الأديان عمومًا لم تكن مسؤولة عن الكوارث ولا المجاعات.
وعن سبب نظرة الغرب للإسلام وأهله، يقول: بأن صورة الإسلام في الغرب قاتمة، بسبب الموقف العدائي للغرب ضد الإسلام، منذ العصور الوسطى، وما تبعها من احتلال الغرب لبلاد العرب، وإذلالهم ماديًا ومعنويًا، واليوم تساهم الصهيونية في تشويه الصورة، وتدمغ الإسلام بأنه دين (إرهابي دموي )، من أجل تخويف الغرب منه، ومن انتشاره، وبهدف وقف زحفه.
وعن موقف الإسلام من الإبداع والابتكار، وعن موقفه من المرأة يقول (أرنولد ): إن الإسلام لم يظلم المرأة، بل أنصفها وكرمها وحافظ عليها، بما لا تعرف الشرائع والفلسفات الشرقية أو الغربية له مثيلاً في تاريخها.
كما أن الإسلام لا يقف في وجه الإبداع والابتكار، والتفكر في الأنفس والآفاق، وهو لا يحجر على العقول، بل يدعو دومًا إلى إعمال العقول.
وحول المجال الثقافي للمسلمين، يرى بأنهم لم يقتصروا على فن دون فن، ولا علم معين دون سواه، والقرآن أورد كل ما ينفع الناس من علم وهداية، وتشريع وفقه وعبادة، ودين ودنيا. وقد أقبل المسلمون على سائر العلوم والفنون يتعلمونها، حتى تفوقوا فيها، لذا تنوعت معارفهم، فلم يتركوا علمًا إلا درسوه، وقد أدهشت نهضتهم العلمية السريعة الدنيا، وهم يجمعون بين العلم والحكمة والأدب، وأوروبا اليوم تشهد كلها أن المسلمين كانوا وراء نهضتها.
وعن الحداثة تكلم (أرنولد ) بكل وضوح حين سأله مندوب المجلة قائلاً: رأيناك تهاجم الحداثة في المؤتمر، مع أن هذه النظرية روّج لها الغرب، وصدرها إلى العالم، فما خطورتها؟ أجاب (أرنولد ): أوروبا تكاد تنسى هذه النظرية، بعدما فشلت، فلاقت هجومًا عنيفًا من دعاة الأصالة، لكن المثقفين العرب لا يزالون ينظرون إليها ويقبلونها، وقد سرت فيهم إلى حد غير معقول.
لقد اعترفت أوروبا بكونها موجة خاطئة، مليئة بالفوضى والعبث، وهكذا جاءت ردود فعل عنيفة ضدها من مفكري الغرب، قائلين بأنها تسبب الاضطراب في صفوف الأمة، وتفسد ذوقها، وتشوه إحساسها بالجمال، فضلاً عن نشر التفكك في التراكيب اللغوية، ولذا فقد عجبت أشد العجب عندما رأيت من يدافع عنها في المؤتمر، بعدما تخلى الغرب عنها وتنكروا لها.
إن هذه (التقاليع ) وليدة بيئات الفراغ والترف.. وأنا أدعو الجميع، ليقفوا صفًا في وجه التيارات والمذاهب التي تهب عليكم من كل جانب، كي تحافظوا على شخصيتكم.
بعد هذا أود أن يقرأ أبناؤنا من عشاق الحداثة ما تقدم، وأضيف إليه نصًا للدكتور عبد الوهاب المسيري، حيث يقول(1): (ببساطة لقد اكتشفنا أن (الحداثة) المنفصلة عن القيم، أي عن الإنسان، لم تُودِ بالله تعالى فحسب، بل أودت بالإنسان ثم بالطبيعة.. والتحدي الأكبر، الذي يواجهنا في عالمنا العربي والإسلامي، بل العالم بأسره هو: كيف نتوصل إلى حداثة جديدة، تسخر السلع والعلم لخدمة الإنسان، ولا تسخر الإنسان لخدمة السلع والعلم.. حداثة لا تضع أمامنا الاختيار الساذج، بين مستقبل بدون ماضٍ ولا هوية، أو ماضٍ وهوية ولكن بدون مستقبل.. حداثة نحقق من خلالها التقدم، دون أن نفقد توازننا مع أنفسنا، أو مع بيئتنا الطبيعية.. حداثة غير منفصلة عن القيم ).
نعم وبكل العزم، نريد حداثة لا تجعل منا تابعًا ندور في فلك (الغير) ، بل جرمًا مستقلاً له كيانه وهويته وذاتيته، وله قيمه وثقافته ومشروعه الحضاري.
من الحق أن نقول: (بأن نخبنا الثقافية قد خدعت برنين الألفاظ وبريقها،ثم غفلت أو تغافلت عن كون هذه المفاهيم تحمل معاني وقيمًا يصعب قبولها ونقلها، ذلك أن البناء الثقافي والحضاري لا يمكن أن يركب تركيبًا، ولا يفرض بقرار سياسي، فإن لم يوجد في الأمة عقول مبدعة، تستطيع أن تصك ) مفاهيم، فإن الأمر يبقى تقليدًا جامدًا ومراوحة في المكان.
يحلو (للبعض ) أن يقارن بيننا وبين اليابان بالنسبة للغرب وثقافته، فيقول: كانت اليابان تتلمذ على الغرب مدة، ثم شبت وبلغت فتجاوزت الأستاذ، أما نحن فقد كنا مجرد (زبائن )، والزبون تهمه البضاعة، يأخذها ولا يسأل عن أمر آخر.
التلميذ يكبر، فيصبح أستاذاً، والزبون إذا كبر صار مثل (جهنم ) يصرخ دومًا: (هل من مزيد ) (ق:30)؟!
لقد مضى على زبونيتنا للغرب أكثر من قرنين، فما ازددنا إلا تابعية، وإلا ضعفًا فوق ضعف.. إن الحادي الذي يريد تحريك الأمة، لن يكون من خارجها، ومن عدوها، ولن يكون بما يخالف ويصادم ويناقض قيمها ومفاهيمها.
لا بد أن يتنامى وعينا ذاتيًا، وتنطلق طاقاتنا، قناعة لا قصرًا، وعلاج أوجه التقصير كافة، وإزاحة العوائق، كي نتحرك كأمة، كما تحركنا بعد انتشار الإسلام، أما أن نتحول إلى شراذم، يحارب بعضنا بعضًا، ويكيد بعضنا لبعض، ويستقوي بعضنا بالعدو على أهله، فلن نصل إلى شيء، إنها لعبة شد الحبل وكفى.
لقد صرنا حقًلا تجريبيًا، لكل المفاهيم والأنظمة، وجربت فينا ما يناسب وما لا يناسب من الأنظمة والمفاهيم، وكانت النتيجة قبض الريح، والحراثة في البحر!!!
ويعجبي ما كتبه د.برهان غليون -الأستاذ بجامعة السربون- في كتابه: (اغتيال العقل )، وطرحه القضية الثقافية والحداثة بقوة وشجاعة.
يقول د. غليون(1): التنافس الثقافي عامل أساسي في تقرير مستقبل الأمم، والشعوب والجماعات ومصيرها، ولا تتخلى جماعة عن ثقافتها أو تمايزها الثقافي، مهما كانت درجة هذه الثقافة من الضعف، إلا إذا قررت الانتحار الذاتي، والاندماج في غيرها من الجماعات، وحل جميع الثقافات وإدماجها في ثقافة عالمية واحدة يعني قتل إمكانية إخصاب الحضارة مستقبلاً...اهـ .
وحين تتمدد ثقافة -كالثقافة الغربية اليوم- فهي تحاصر الثقافات الأخرى، وتطردها بعيدًا، بحيث تظهر الثقافة المتمددة وكأنها الوحيدة الحية الفاعلة، وما عداها قد عفا عليه الزمن(2). وهذا ما يدفع الجماعات المحلية إلى النظر بسلبية إلى ثقافتها الخاصة، والاعتقاد بأنها خاوية وجامدة، ولا حياة فيها، ومفتقدة لكل القيم الإنسانية الحية، العقلية منها والروحية والإبداعية، فكل تجاوز حضاري يؤدي إلى تقييم أكبر للثقافة المرتبطة به، وإلى الانتقاص من قيمة الثقافة التي لم تلعب دورًا، أو كان دورها ضئيلاً في هذا التجاوز الحضاري.
ويظهر هذا الانتقاص في تخلي أصحاب هذه الثقافة عنها، فتنتشر الحضارة الصاعدة، خارج وطنها، ولتصبح ثقافة الشعوب (المتبناة )، بعد أن كانت وسيلة لغزوها وإخضاعها، عندئذ لا تستطيع هذه الشعوب أن تفكر بذاتها ولا بوضعها، إلا من خلال (المفاهيم ) التي تفرضها الثقافة السائدة، والرؤية العامة الروحية والتاريخية، التي تنشرها وتعممها، فيكون وعيها -أي هذه الأمم- لذاتها هو وعي بغيرها، فلا يقوم إلا به.
ومن لا يصدق ذلك، فلينظر إلى تبني أبناء المستعمرات لثقافة المحتل، حتى بعد رحيله.(9/227)
وأختم هذ التمهيد -الذي طال واستطال- بما تصوره د. غليون مما تريده الثقافة الغربية من باقي الثقافات. يقول د.غليون(1): إن الثقافة الغربية لا تكتفي -كالثقافات الكلاسيكية- بإلحاق ثقافات متعددة بها، والسماح لها بالحياة داخل (مدينة) واحدة، تسيطر عليها، وتتحكم فيها القيم، إنها تطلب (حل) جميع الثقافات الأخرى، ثم استبدالها بثقافة واحدة، شكلاً ومضمونًا، ومن هنا يتأتى إخفاق هذه الحضارة في تكوين إمبراطورية عالمية أولاً، وفي تسعيرها للنزعات القومية، بشكل لا سابق له، وهي وإن وصفت نفسها بثقافة (الحرية)، فهي ترفض كل استقلالية للآخر، وتتحول إلى ثقافة (شمولية)، لا تعترف من بعيد بالعلاقات الاجتماعية العديدة، المعقولة والممكنة، التي تؤسس للشخص البشري، إلا بعلاقة الفرد بالدولة، وتعكس تناقضاتها التاريخية، كثقافة عالمية، مناقضة لكافة الثقافات الأخرى... إنها تقبل وبحماس فكرة (الإمبراطورية الاستعمارية)، حيث لا يبقى للشعوب الأخرى الخاضعة إلا الاختيار بين (الفناء الكامل أو الاندماج والذوبان) ومن موقع الدونية واللامساواة...اهـ
وعن ترجمة المفاهيم والمصطلحات يقول د.غليون(1): (ففي ثقافة متدهورة ومتراجعة، تضعف قدرة اللغة على التعبير الدقيق، وتنمية المصطلحات بصورة مواكبة لتطور المعاني والمفاهيم المستقاة من ثقافة أخرى مهيمنة، كما تضعف القدرة على ضبط المعاني وتنظيم المفاهيم، بقدر ما تنفصل هذه المعاني والمفاهيم عن صيرورة مستقلة وذاتية، للبحث والإنتاج العلمي.. وعندما يرتبط وجود هذه المفاهيم بمصدرها الخارجي، وتعجز النظم اللغوية والعلمية عن استيعابها وضبطها من ذاتها، هنا يحصل شرخ في اللغة، وفي النظم العلمية ذاتها، فتبطل فاعليتها الإبداعية، عندئذ تضطر الثقافة التابعة إلى (استيراد) المفاهيم والمصطلحات معًا، وفي فترة لاحقة المعارف العلمية الجاهزة، والتي يعجز عن إنجازها وإنجابها النظام المعرفي. وهذا ما نلاحظه اليوم في ثقافتنا، حيث تدخل المصطلحات دون ضابط، فتثور مشكلة كبيرة في توحيدها وضبطها، مما يفقد اللغة دقتها ومرونتها، بل يدفعها إلى التفكك والركاكة، كما تبدو إجراءات (التعريب) قاصرة عن استيعاب هذه العملية، وهنا يترك للصحافة اليومية الحرية الكاملة، لتدخل ما تشاء من المفردات الأجنبية...اهـ ).
يعود لتوضيح القضية بعد صفحات فيقول(1): ... أكثر ما يميز (الثقافة التابعة) الاستخدام الاعتباطي للمفاهيم، وغياب الروح المنهجية والعلمية. إن استيعاب المعاني الجديدة وتوطينها، لا يمكن أن يتم إلا في إطار توسيع قاعدة البحث العلمي، ونشوء علوم وإشكاليات مستقاة من الواقع القائم، مستجيبة لمشكلاته.
إن الثقافة (التابعة) تطرح على نفسها باستمرار مشكلات ليست مطروحة على مجتمعها، ولكن مستوحاة مما تطرحه على نفسها الثقافة الأصل، وهي تجيب على هذه الإشكالات من أفق -أو افتراض- مُماثلة الشرق والغرب، فتظل على هامش المسألة، وقد لا تكون بالضرورة كاذبة، وليست صادقة، ولكنها خارجة عن الموضوع، وهذا هو مصدر عدم فاعلية الثقافة التابعة وتخبطها، واجترارها الدائم لنفس المسائل، خلال عقود، ولذات الموضوعات، ودون قدرة على بلورة حلول أو حركة مكتسبات علمية، وهذا أساس غياب الإبداع والتقدم الفكري -أي تطور الوعي- وهذا يتجاوز مشكلة سيطرة الأيدولوجيات المادية أو المثالية، والعقائد الوضعية العلمانية، أو اللاهوتية.
فالإبداع مرتبط بآليات عمل الثقافة ككل، وعلاقاتها بالمجتمع والبيئة التي تعيش فيها.
وضعفها أو تفككها ليسا في الحقيقة إلا مظهرًا لتعثر الجماعة في بناء أداة تواصلها، ووسائل تفكيرها وفهمها الخاصة والمستقلة، وذلك نتيجة لما أصابها من تهميش واستبعاد عن مصادر الحضارة والغلبة...اهـ.
وهنا استذكر ما كتبه د. هشام صالح -تلميذ د. أركون- من أن من وصل إلى الغرب أيام انتشار الوجودية، صار وجوديًا، ومن وصلها أيام الماركسية صار ماركسيًا، ومثل ذلك البنيوية. وهؤلاء يبحثون قضايا ومشاكل لا توجد في بلدهم، ويعتقد جل هؤلاء أنه متى نقل هذه المفاهيم فقد أدى كل شيء(1).
=============
الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر
قبل الدخول في تعريف الحضارة هناك قضيتان:
1- أجد في بعض التعاريف نوعًا من الرغبة في الإكثار والتعدد، لدرجة غريبة، فالدولة مثلاً، وهي مؤسسة قد يزيد اليوم عمرها على سبعة آلاف عام، نجد لها أكثر من (145) تعريفًا، وفي الحضارة نجد أكثر من (165) تعريفًا، وهذه الكثرة الكاثرة أمر بات معروفًا يصعب قبوله.
2- لدينا في اللغة العربية عدة مصطلحات متقاربة مثل:
حضارة، وثقافة، ومدنية، يقابلها في الإنجليزية على سبيل المثال (Civilization,Culture ) والذين اشتغلوا بالترجمة لم يلتزموا نمطًا واحدًا، فمرة ترجموا ( Culture ) بالثقافة ومرة بالحضارة، وفعلوا ذات الشي في ( Civilization ) فمرة ترجمت بالثقافة ومرة بالحضارة، وهكذا.
وهذه العملية تربك المتحدث والكاتب لأن عليه أن يحدد ما يعنيه من تلك المصطلحات، تحديدًا دقيقًا، وإلا حصل خلط واختلاط مضر. والآن ما هي الحضارة لغة واصطلاحًا ؟
1- الحضارة لغة واصطلاحًا:
الحضارة في اللغة: تأتي الحضارة على عدة معانٍ(1):
أ- يقال: حَضَر يحْضَر حُضورًا وحضارة: ضد الغياب.
ب- يقال: حكّمت فلانًا بحضرة فلان: أي بوجوده، كما يقال: كنا بحضرة ماء: أي عنده.
جـ- يشيع اليوم لفلان حضور متميز: أي وجود متميز.
كما يقال: رجل حاضر وقوم حضور وحُضر: ضد الغياب.
د- الحَضَارة: الإقامة في الحَضَر أي المدن. وقد أنشد (القطامي ):
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا
كما أنشد أبو الطيب:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
الحضارة ( Civilization) اصطلاحًا:
يعود أصلها الغربي إلى المدينة، وهنا يطابق الأصل العربي (الحاضرة ) بمعنى المدينة، والمتحضر ساكن الحاضرة، وشاع في العربية: سكان الحواضر، وأهل الحواضر، في مقابل البادية وأهل البادية، لكن الاستعمال الغربي للحضارة لم يتبلور قبل القرن الثامن عشر(1). وسوف استعرض بعض هذه التعاريف:
1) تعريف (ديورنت ): إنها نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وتتألف من أربعة عناصر: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه، للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها
(1).
يلاحظ أن التعريف جاء جامعًا، ومعه شرحه، علمًا بأن ديورنت خير من اعتنى بالحضارة، وكتابه (قصة الحضارة ) خير شاهد.
2) يركز المفكرون الألمان على الأبعاد المادية من حياة الإنسان، بينما يركز المفكرون الفرنسيون على البعدين المادي والفكري من أبعاد التقدم(2).
3) يعرفها (جورج باستيد ) الفرنسي: بأنها التدخل الإنساني الإيجابي، لمواجهة ضرورات الطبيعة، تجاوبًا مع إرادة التمرد في الإنسان، وتحقيقًا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته، ولإنقاص العناء البشري(3). والتعريف ينصب على الهدف من الحضارة بالدرجة الأولى.(9/228)
4) يعرفها (تايلر ) بأنها ذلك الكيان المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات، والفنون والآداب، والقوانين والعادات، وجميع القدرات، والتقاليد الأخرى، التي يكسبها الإنسان، بصفته عضوًا في المجتمع(4). التعريف يركز على مشتملات الحضارة، بشكل عام.
5) يعرفها د.قسطنطين زريق: بأنها حياة المجتمع المتمثلة في نظمه ومؤسساته ومكاسبه وإنجازاته، وفي القيم والمعاني التي تنطوي هذه الحياة عليها(1).
وهذا التعريف قريب جدًا من تعريف تايلر، وكأنه مأخوذ منه، أو هو اختصار له.
6) د. برهان غليون يحاول أن يقارن بين الحضارة والمدنية فيقول: (إذا كانت الحضارة هي النمو المطرد، في المنظومات المادية، والعقلية والروحية، التي تنقل المجتمع من البدائية إلى التحضر، وتجعله يتجاوز -كما ذكر ابن خلدون- إنتاج الحاجيات إلى الكماليات، أو تطوير نوعية إرضاء الحاجات، فإن المدنية هي المبادئ التي تقوم عليها هذه المنظومات، أو التي تشكل نواتها الأولى. وإذا كانت الحضارة مرتبطة أساسًا بتنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة، ودرجة سيطرته عليها، وأنماط إنتاجه المادي والروحي، فالمدنية ترتبط بتنظيم علاقات الإنسان الاجتماعية، وبدرجة تحول هذه العلاقات إلى علاقات مبنية على التواصل والتبادل السلمي، لا على العنف والإكراه، وعكسها )(البربرية) .
إن المدنية ثمرة الثقافة، لكنها ليست نتيجة تلقائية لها(2). الحضارة إذن النمو في الماديات والعقليات والروحيات، أما المدنية فهي المبادئ التي تقوم عليها الحضارة، والتي تنظم علاقات الإنسان الاجتماعية.
7) د. نصر عارف يرى أن المترجمين العرب لمصطلح ( Civilization ) قد انقسموا قسمين(1):
أ- القسم الأول: ترجمها (حضارة )، وقد بدأ ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، فقد ظهرت في كتابات (رفاعة الطهطاوي ) -المشرف على البعثات المصرية إلى أوروبا- فهو حين يتحدث عن التمدن يقول: إن للتمدن أصلين: معنوي وهو التمدن الأخلاقي، وفي العوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة، التي تسعى باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها.
والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية.. وقد استمر هذا الفهم للتمدن، حتى أوائل القرن العشرين، وابتداء من الربع الثاني للقرن العشرين، شاع هذا الاستعمال كثيرًا، أي ترجمة ( Civilization ) إلى حضارة.
يعلق د. نصر على ما تقدم، فيرى: أن الترجمة إلى الحضارة بدت صحيحة في ضوء أحد معاني (الحضارة )، لكن تطور المفهوم العربي، وتلبسه بالدلالات الغربية، قد أخرج مفهوم الحضارة عن نطاقه ومحتواه(2). كما يرى أن ثمة إجماعًا في القواميس والمعاجم، على اعتبار الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني والتقني، الموجودة في المجتمع، و التي تمثل مرحلة راقية في التطور الإنساني(1).
أسباب الاختلاف:
من أسباب الاختلاف والارتباك عندنا، أن الغرب الذي ننقل عنه المصطلحات عنده مصطلحان: ((Civilization ، Culture ))، يقابلهما في لغتنا أربعة مصطلحات هي: حضارة، ثقافة، مدنية، تقنية. من هنا جاء الارتباك والاختلاف والتداخل.
ومن البدهيات أن أي مصطلح يبدأ غامضًا وغير محدد بدقة، ولكن مع مضي الوقت، وكثرة الاستعمال، يذهب الغموض، ويتحدد المصطلح، ولما كان الغرب يختلف، بل يتوسع في الاختلاف، بحيث يضع للثقافة أكثر من (165) تعريفًا، ومثلها الدولة والحضارة، جاء الاختلاف عندنا وشاع، كما هو شائع في الغرب.
إن التناول الغربي لمصطلحي ((Civilization ، Culture ))، يجعل منهما مترادفين -كما لدى تايلور- وهناك من جعل ( Civilization ) قاصرًا على التقدم المادي مثل الألمان.. وهناك من يجعله شاملاً لكل أبعاد التقدم، مثل الفرنسيين.. فريق ثالث يحصر التقدم بما هو خاص بالفرد، ورابع يجعله شاملاً للفرد والجماعة.. وهناك فريق خامس، حاول أن يجعل من مصطلح ( Civilization )مفهومًا عالميًا، أي هناك حضارة واحدة، تساهم المجتمعات فيها كل بنصيب، أما الثقافة فهي خاصة بكل شعب.. وهناك فريق سادس يعكس القضية فيجعل الثقافة عامة، والحضارة خاصة(1).
هذا الاختلاف يصل إلينا، ونحن ما زلنا في دور المتلقي المترجم، ولسنا في دور المنتج المبدع. لذا وجدنا الاضطراب يسود كتاباتنا، فمن ترجم (Culture ) إلى ثقافة، جعل
( Civilization )حضارة، ومن ترجم ( Culture ) إلى حضارة، جعل (Civilization )مدنية. وهناك من يعتبر الثقافة هي الجانب الفكري، ولذا يكثر الحديث عن الثقافات الخاصة، وأن كل أمة لها ثقافتها، وقد لا تكون لها حضارة، أما الحضارة فتشمل الجانب المادي(2)، وقد ينعكس الأمر، لتكون المدنية تمثل الجانب المادي، والحضارة تمثل الجانب المعنوي.
ويعتقد د. محمد حسين هيكل، ومثله محمد عزيز الحبابي، أن العالم تسوده حضارة واحدة، ساهم فيها الكل، وهي ملك للكل.
يقول د. هيكل: إن الحضارة تراث عالمي، لا يجوز شطره جزئين منفصلين، فلا وجود لحضارة شرقية، ولا حضارة غربية، وإنما هناك حضارة عالمية واحدة، يجب الإيمان بها، والإخلاص لها (3).
ويقول الحبابي: ... والحضارة تراث مشترك يجمع بين جميع الشعوب، قديمها وحديثها، وإنها إرث إنساني، في نمو لا ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج، وله روافد عديدة تصب فيه على الدوام، تلك الروافد هي الثقافات القومية (1).
والذي لا شك فيه أن الحضارة حين تعطي كل ما لديها، تم تجف منابعها تسقط، فترثها حضارة أخرى تالية، لتبدأ من حيث انتهت سابقتها، وليس من الصفر، ولذا فهناك دومًا (إرث حضاري )، لكن الحضارة التالية تضيف وتحذف، تستبعد أشياء، وتستحدث أشياء، ومن هنا يأتي تميز الحضارات.
فإذا نظرنا للإرث، فهي واحدة، وإذا نظرنا للمستجدات فهي متعددة، وإن كان الغرب يريد أن ينكر هذه الحقيقة، خصوصًا على الحضارة الإسلامية، فلا يعترف لها بفضل، لكن يلاحظ أن أمثال شبنجلر وتوينبي يرفض ذلك، كما تتعالى اليوم أصوات ترفض هذه النظرة العنصرية وإنكار أي أثر للحضارات السابقة.
الحضارة في المدلول الإسلامي:
لقد وجدت د. نصر محمد عارف، يبحث عن الجذر اللغوي لكلمة حضارة، واستعمالاتها اللغوية، فيعد سبعة معان، ثم يبين الأكثر دورانًا واستعمالاً، فيقول(2):
1- الحضور نقيض المغيب والغيبة.
2- بمعنى عنده: كنا بحضرة ماء، ورجل حاضر.
3- قرب الشيء: الحضرة، كنت بحضرة الدار.
4- جاء أو أتى: حضرت الصلاة، أو حضر القاضي.
5- الحضر خلاف البدو، والحضارة الإقامة في الحضر.
6- الحاضرة: الحي العظيم.
7- الحاضر: ضد المسافر.
وتأتي حضر بمعنى شهد، كقوله : {إذا حضر أحدكم الموت } (البقرة:180)، وقوله تعالى: (اذا حضر القسمة أولو القربى ) (النساء:8).
كما تأتي (شهد ) معنى حضر، كقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (البقرة:185).
وقد اعتدت في مثل هذه الموضوعات، أن أعود للفيروزآبادي، فهو خير من يتابع المصطلح في كتاب الله، وألخص ما قال(1) في مصطلح الشهادة:
1- الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو البصيرة، يقال: شهدت كذا أي حضرته، كما يقال شهدت على كذا. قال تعالى: (ما شهدنا مهلك أهله ) (النمل:49)، أي ما حضرنا.
2- الشهادة: قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، قال تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون } (الزخرف:19)، تنبيهًا إلى أن الشهادة لا بد أن تكون عن شهود.
3- الشهادة بمعنى العلم، قال تعالى: (لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون )(9/229)
(آل عمران:70)، وقوله: (ما أشهدتهم خلق اسموات والأرض ) (الكهف:51)، أي ما أطلعتهم..
والشهادة تأتي على نوعين:
أ- أشهد بكذا: أعلم بكذا، ولا تقبل إلا بهذا اللفظ.
ب- أشهد: يجري مجرى القسم، فيقال: أشهد بالله أن فلانًا كذا.
4- شهادة الله بمعنى إيجاد، مثل قوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو ) (آل عمران:18)، فشهادته تعالى بوحدانيته، تكون بإيجاد ما يدل على وحدانيته في العالم وفي نفوسنا.
5- الشهيد: يطلق على المشاهد والشاهد، يقول تعالى: ( وجاءت نفس معها سائق وشهيد ) (ق:21)، والشهيد من قتل في سبيل الله.
6- الشهداء: جمع شهيد، وتأتي بمعنى من يشهد وبمعنى الأعوان، قال تعالى:(وادعوا شهداءك ) (البقرة:23) أي أعوانكم، أو من يشهدون لكم، وتكون على الغير قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143).
7- الشهادة، أي شهادة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقد وجدت د. نصر يولي الشهادة في القرآن الكريم عناية طيبة، فيرى أن لها أربع دلالات متكاملة، تؤدي معنى الحضارة، أو الشهادة في الفهم الإسلامي، وهي لا يمكن أن تتجزأ، وإلا فقدت مضمونها، وكل دلالة تمثل جزءًا من بناء مفهوم الحضارة، ولا بد من توافرها جميعًا، في نسق واحد، وهذه الدلالات هي(1):
1) الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بتفرده سبحانه بالألوهية والربوبية، وهي محور العقيدة الإسلامية، وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الله، أو الخروج عنه.
2) الشهادة بمعنى قول الحق، وسلوك طريق العدل، أو الإظهار والتبيين، أو الإخبار المقرون بالعلم، أو الملاحظة والمراقبة، وتعد مدخلاً من مداخل العلم، ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.
3) الشهادة بمعنى التضحية والفداء، وتقديم النفس في سبيل الله حفاظًا على العقيدة، ودفاعًا عن تحرير الإنسان من عبادة العباد، وإخراجه إلى عبادة الله وحده.
4) الشهادة كوظيفة لهذه الأمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة:143).
وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، ذلك أن واجب الشهادة لا تقوم به إلا الأمة الوسط، الخيرة المتميزة.
(وطبقًا لهذه المعاني الأربعة، فإن الحضارة هي الحضور والشهادة بجميع معانيها، التي ينتج عنها نموذج إنساني، يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها كبعد غيبي، يتعلق بوحدانية خالق الكون، وواضع نواميسه وسننه، والمتحكم في تسييره، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هي في تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في تعمير أرضه وتحسينها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها، والانتفاع بميزاتها، وحسن التعامل مع المسخّرات في الكون، وبناء علاقة سلام معها، لأنها مخلوقات تسبح الله، أو رزق لا بد من حفظه وصيانته. كذلك إقامة علاقة مع بني الإنسان، في كل مكان على ظهر الأرض، أساسها الأخوة والألفة، وحب الخير والدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة )(1).
الموقف من الحضارات الأخرى:
يبقى سؤال يفرض نفسه: كيف يمكن النظر للخبرات الحضارية خارج إطار الإسلام، هل نتجاهلها، كما يفعل الغرب مع الحضارة الإسلامية؟ هل نعترف بها ونفيد منها ؟
ابتداءً نجد القرآن الكريم يفرد لحضارات الأمم السابقة ثلثه للحديث عنها، في جوانبها الإيجابية والسلبية.
وورد أن أبا بكر رضي الله عنه نظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: أراك شبت يا رسول الله، فرد عليه صاحب الرسالة: (شيبتني هود وأخواتها ) (1). والذي يقرأ سورة هود يجدها تتحدث عن (ست ) حضارات، مضى عليها ألوف السنين، وكل واحدة أصابها (مرض قاتل )، فمن تلاعب بالموازين، إلى عبث بالأمن وإخافة للناس، إلى شذوذ جنسي، وتعاط للزنى علنًا ... إلخ. وكانت الثمرة أن كل أمة من هذه الأمم، أصابتها عقوبة موجعة، وضربة ربانية قاتلة.
ومعلوم أن بين هذه الأمم وبين عصر الرسالة ألوف السنين، ولكن الكتاب الكريم -وهو كتاب هداية بالدرجة الأولى- سرد أخبار هذه الحضارات وغيرها بتفصيل ليوجه رسالة للأمة الإسلامية، مفادها: من استقام على أمر الله فله السعادة في الدنيا والآخرة، ومن تنكب عن شرائع الله وهجرها، فمن السنن أن يناله العقاب في الدنيا -مع كونها ليست دار حساب وعقاب- وله مثل ذلك في الآخرة، لا فرق بين البشر، ومن هنا جاء تخوف صاحب الرسالة، أن تسقط أمته، وهي المنوط بها الشهادة على العالم، أن تسقط فيما سقط فيه غيرها، فيحل فيها ما حل فيهم.
أما تصور (البعض ) أنهم شعب الله (المختار ) فتلك من الأماني -والتمني رأس مال المفلس- فالله لا يحابي أحدًا، وعدالته تأبى ذلك.
حرب الروم والفرس:
قضية أخرى يسجلها القرآن النازل في مكة، ويفرد لها سورة باسم (الروم ).. وفي ستين آية، تتحدث السورة عن صراع الفرس والروم، فيقول تعالى: (ألم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:1-6).
فالمسلمون المحاصرون بمكة، والواقعون تحت الإرهاق والتعذيب، ينزل عليهم قرآن يتلى' إلى يوم القيامة، يتعلق باحتكاك مسلح بين أمتين على أطراف الجزيرة، واحدة صاحبة كتاب (الروم )، وأخرى مُشْرِكة (الفرس )، تكون الغلبة والانتصار من نصيب الفرس، فيحزن لذلك المسلمون وتفرح قريش وتباهي بهذا النصر، ثم لتتخذ منه عبرة فتقول: كما انتصر الفرس وهم مثلنا، على الروم وهم مثلكم، فكذلك سننتصر عليكم، فيأتي وعد من الله بأن النصر سيكون من نصيب الروم، وذلك في (بضع سنين ). ويلاحظ أن القرآن غير سالك مثل التوراة في ذكر الأسماء والسنين، وحتى عدد الجنود والمقاتلين، ومع ذلك خرج على سنته، وحدد لفوز الروم بضع سنوات، وعقب على ذلك تعقيبًا، وهو الأهم، إذ قال: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) (الروم:4-5). وهذا درس للأمة إلى قيام الساعة، كي لا تقف موقفًا سلبيًا لا مبالاة فيه مما يجري في الكون، والشهادة تقتضي ذلك.. وسوف أؤجل بعض الحديث إلى بحث الأهداف الكبرى من خلق الإنسان.
ومما له صلة بالموضوع أن نجد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين المضطهدين بمكة أن يهاجروا للحبشة، لأن فيها ملكًا لا يظلم الناس عنده، وتتكرر الهجرة، كما تحاول قريش استرداد المسلمين من هناك، فيرفض النجاشي ذلك ويمنحهم حماية كانوا بأمس الحاجة لها.
الحديث عن مصير الفرس والروم:
ليس من أهداف الإسلام الحديث عن الأمم -كما فعلت التوراة- لكنا وجدنا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يتحدث عن أمتين مجاورتين: الفرس والروم، فيصف مصيرهما، كما يصف بدقة علاقة المسلمين بهما، يقول عليه الصلاة والسلام: (فارس نطحة أو نطحتان، ثم لا فارس بعد هذا، والروم ذات القرون، كلما هلك قرن، خلفه قرن، أهل صبر، وأهله أهل لآخر الدهر، هم أصحابكم، ما دام في العيش خير )(1).
وفي مسند الإمام أحمد حديث لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة )(1).
وما حصل بالفعل أن جيوشنا هزمت الفرس في القادسية ونهاوند، فقضت على الإمبراطورية الفارسية نهائيًا. أما الروم فقد قذفنا بهم خلف البحر، ويقول أحد مؤرخي الغرب، بأننا اصطدمنا مع الروم (الغرب ) بـ (3700 ) معركة كبيرة، وما زالت المعارك حتى اليوم مستمرة.(9/230)
ولعل من تمام البحث أن نذكر حديثًا سمعه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم، فعلق عليه تعليقًا يدل على مدى فهم العرب لجيرانهم الروم، ولمقدار إنصافهم.
فقد روى موسى بن علي عن أبيه قال(2): قال المستورد القرشي، عند عمرو بن العاص، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس )، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله، قال عمرو: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك.
لا نعلم هل قال هذا -داهية العرب- من عنده، أم هو قبس من نور النبوة، وفي كل الأحوال، فهو ينبئ عن معرفة دقيقة أولاً، وعن إنصاف كبير للقوم.
وعد فريد:
أريد أن استطرد لذكر وعد فريد، يخص النصارى، جاء في كتاب الله، والقرآن الكريم ليس دأبه ذلك، يقول تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم ) (آل عمران:55). في الآية الكريمة قضيتان: الأولى بقاء النصارى إلى يوم القيامة، والثانية أن يكونوا فوق الكفار كذلك.
البعض يجادل بأن النصارى حرفوا وبدلوا، فهم ليسوا أتباعًا للسيد المسيح، بينما الوعد للذين اتبعوه. ومعلوم أن لا جديد في عقائد النصارى، إلا قلة قليلة جدًا، والباقون كلهم يؤمنون بالتثليث والصليب...إلخ، ولا جديد عندهم، اللهم إلا ما تحاول اسرائيل من رفع نصوص في الأناجيل، ومن بعض الصلوات، ومن الدعاء على اليهود، وأما ما سوى ذلك فلا جديد فيه.
الموقف من حضارة الغرب:
لا يخفى أن كل متكلم عن الحضارة، إذا أطلق (الحضارة )، فهو يقصد الحضارة الغربية.
وابتداءً، فإن الغرب يحتقر كافة الحضارات -باستثناء اليونانية والرومانية- ولا يقيم لها وزنًا، ويدرب أفراده على التعالي والتكبر، بل هو يتطرف فيصم كل معتز بحضارته بأنه يعادي الغرب وحضارته، ولذا سأستشهد بنصوص لبعض الرموز الإسلامية وغيرهم:
أولاً: شهادة سيد قطب(1):
يقول سيد قطب يرحمه الله:
(لقد غابت أمتنا المسلمة عن الوجود والشهود، دهرًا طويلاً، وقد تولت قيادة البشرية أمم أخرى، وتصورات أخرى، وأوضاع أخرى، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية في هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من العلم والثقافة والأنظمة والإنتاج المادي، وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته، غير مستعدة للتفريط فيه، ولا فيمن يمثله، وخاصة أن العالم الإسلامي يكاد يكون عاطلاً عن كل هذه الزينة ).
إن هذه الأمة لا تملك أن تقدم للبشرية تفوقًا خارقًا في الإبداع المادي، تحنى له الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية.. من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار، سبقًا واسعًا، وليس من المنتظر خلال قرون على الأقل، التفوق المادي عليها، فلا بد من مؤهل آخر، مؤهل تفتقده هذه الحضارة.
وهذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن ليس بوصفه المؤهل الذي نتقدم به قيادة العالم، في المرحلة الراهنة، وإنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا، وكذلك بوصفه واجبًا يفرضه علينا التصور الإسلامي الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض، ويجعلها تحت شروط معينة عبادة لله تعالى، وتحقيقًا لغاية الوجود الإنساني..
لا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية غير الإبداع المادي، ولن يكون سوى (العقيدة ) والمنهج، الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج عبقريتها المادية، تحت إشراف العقيدة والمنهج، من تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم). وأحسب أنها شهادة واضحة متوازنة منصفة.
2- شهادة د. رشدي فكار:
د. فكار يرحمه الله، ابتدأ تعليمه في الأزهر وانتهى في الجامعات الغربية، فهو ابن الحضارة الغربية، وثمرة من ثمراتها، وراصد جيد لها ولما تموج به..عرف إيجابياتها، كما يعرف سلبياتها.
وهو يقول(1): لن نستطيع أن نقدم للعالم طائرات أسرع، ولا طرقًا أنعم، ولا سيارات أجود، ولا صناعات أفضل، لكن بإمكان الإسلام أن يقول: سأعطيكم إنسانًا أكثر توازنًا واعتدالاً، أكثر برًا وإحسانًا، إنسانًا يرتبط بمبادئه، يهاب ويخشى خالقه، إنسان يحترم الإنسان، ويعمل لإسعاده، لا الارتقاء بناطحات السحاب، واستنزاف الخيرات، في إطار من التحايل والمكر، والدهاء والكيد.
بمعنى آخر: صياغة وبناء الإنسان ليبني كل ما دمر... إن صياغة الإنسان ما تزال الأصعب، الإنسان صنع (الكمبيوتر ) ، وقد راح الأخير يصمم ويصنع العجائب، صنع الإنسان المركبات وأرسلها إلى أعماق الفلك، صنع الطائرات التي فاقت سرعتها سرعة الصوت، صنع الصواريخ عابرة القارات، لكنه يفشل في تربية طفل داخل البيت.
إن التربية المتوازنة لإنسان متوازن ما زالت هي الأصعب، المطلوب إنسان تتوزان أشواقه الروحية ونزعته العقلية، وعواطفه وغرائزه، مع توجهاته الدنيوية، وأشواقه الروحية، وتتصالح هذه التوجهات ولا تتحارب، هذا الإنسان هو المطلوب اليوم وغداً، والحاجة له تفوق حاجتنا لصواريخ ذكية أو غبية، قبل أن يفلت الزمام، فتتحول الأرض كرة لهب، أو فرن ذري يشوي الكل.
3- مالك بن نبي:
تحوي الحضارة أفكارًا وتشريعات، كما تحمل قيمًا ومنتجات مادية، والمقتبس بالدرجة الأولى، هي المنتجات المادية، فالعالم اليوم كله يستعمل المنتجات الغربية فهل تحضَّر؟
يقول مالك بن نبي يرحمه الله(1): لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبني منتجات حضارة ما، فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية، من قبل كافة دول العالم، لم يجعلها تكسب حضارة أو قيمًا، إذ الحضارة ليست تكديس منتجات، بل هي فكر ومثل وقيم، لا بد من كسبها أو إنتاجها.
إذن فكل من يشتري منتجات حضارة، فهو مستهلك حضارة، وليس منتج حضارة.
ويحلو للبعض أن يقارن بيننا وبين اليابان، في الموقف من الحضارة، فيقول: كانت اليابان تلميذًا نجيبًا للغرب وحضارته، والتلميذ قد يتفوق على أستاذه ويتجاوزه، أما نحن فكنا مجرد زبائن، وما زلنا كذلك، فالزبون يأخذ البضاعة وينصرف، ويكرر ذلك كلما احتاج.
4- المستشرق الفرنسي (جاك بيرك):
يتحدث بيرك عن أخذ الحضارة الغربية كلية -كما ينادي البعض- فيتساءل(2): هل النموذج الغربي ضروري وحتمي، بالنسبة لكافة الشعوب ؟
ويجيب: ليس بضروري ولا حتمي، بل يؤدي في أحيان كثيرة إلى أنواع من الفشل والقلق والتمرد.
5- د. رفيق حبيب:
د. رفيق نصراني مصري، يردد كثيرًا بأنه: نصراني ديانة، مسلم ثقافة وحضارة.. له عدة كتب منها (تفكيك الديمقراطية )، يظهر منهجه الفكري وما يؤمن به، والكتاب يستحق القراءة بل والدراسة، وسألخص بعض ما جاء فيه، بحسب ما يسمح البحث.
لقد عنونه (حكم الأقلية )، موضحًا أن الحضارة العربية الإسلامية أصابها (الوهن )، مع نهاية القرن الثامن عشر، حيث حصل انقطاع تاريخي(1)، ونعني به انقطاعات عن قيمنا ومبادئنا ومقدساتنا، وهو انقطاع عن التطور، وأيضًا عن السيادة والسلطة...
أما قبل ذلك فكان للأمة كبوات تنهض بعدها، ولكن مع نهاية القرن الـ 18 كان السقوط الأكبر، وهنا ظهر الغرب بكل قوته وإنجازاته وسطوته.. وأمام هذا التحدي (الحضاري ) لم تكن الأمة قادرة على الصمود، فاجتمع على الأمة التحدي الخارجي والضعف الداخلي.
فراح الغرب يفرض قيمه، وفي نفس الوقت يهمش قيم الأمة، ووجدت مجموعة فرصتها لتصل إلى الحكم، محمولة على أسنة رماح الغرب، فراحت تميل لقيم مخالفة لقيم الأمة.(9/231)
(إن التدهور الحضاري -الذي عشناه- أخرج القيم المتنحية.. والقوة الغربية المهيمنة، حولت أصحاب هذه القيم إلى مساحة للوكالة عن الحضارة الغربية، وهكذا توحد الهامش الداخلي، مع الوافد المستورد، والمفروض من الخارج، ليصنعا (جماعة هامشية، ومجتمع أقلية)، تسوده قيم غريبة ووافدة وهامشية... لهذا فوكلاء الغرب الثقافيون، أصبحوا نخبة لا تبدع للأمة ولأجلها، بل أصبحوا قوة ناقلة لقيم الغرب، مؤكدة للقيم المتنحية من حضارتنا، مما أفقد الأمة الكثير من الفرص كي تنهض مرة أخرى )(1).
إذن هناك جدول أعمال (لتفكيك الأمة ) في نظر د. رفيق، يتمثل في فرض قيم وطرد قيم، فرض قيم مخالفة للأمة، وزرع قيم أخرى، لتصبح مع مرور الزمن قيمًا ثابتة، وليصبح وجود الأقلية وحكمها حالة مطلوبة ومستمرة، وليمدها الغرب بكل ما يملك من سند وإسناد.. ثم يطرح بعض النتائج فيقول(2):
1- إن صح تصورنا السابق، فالجاري الآن -في قلب أمة العرب والمسلمين- هو حكم أقلية، بنموذج قيم وافدة، وهو مفضٍ في النهاية إلى إرساء قواعد مغايرة تمامًا لنا.
2- ما يحدث هو فرض لقيم ليست من الأمة، وبالتالي لا تحقق إشباعًا لها، كما لا تحقق لها اتفاقًا ولا إجماعًا.
3- ما يفرض هو قيم يؤكد الشاهد التاريخي أنها غير محققة للتقدم والازدهار في أوطاننا، وإن كانت محققة لهما في أوطان أخرى.
4- إن حكم (قيم الأقلية ) في حد ذاته، يعني سيطرة قيم (مرفوضة ) على قيم (مرغوبة )، وهو ما يعني اغتصابًا للسلطة من الأمة، ونزع قيمها من حياتها.
5- إن قلب منظومة (القيم ) بهذا الشكل، يؤدي إلى تفكيك الأمة، وإدخالها في صراع حول القيم بين (مرفوض ومرغوب ) .
وهو يكرر التخوف من ذلك، بل يراه عملاً منظمًا (لتفكيك الأمة )، كما يصبح (الانقطاع التاريخي ) عملاً مقصودًا ومخططًا، وليس مجرد نتيجة لحالة تدهور تمر بها الأمة.
بعد ذلك يضع عنوانًا: (حكم الأقلية الحضارية ).
فيرى: أن الأمة تقع تحت حكم (الأقلية الحضارية )، ويفسر ذلك بأنه الوقوع تحت حكم (قيم حضارية مغايرة )، وفي تسبيب ذلك يذكر الاستعمار -بكل أشكاله- والسبب الثاني هو: ضعف الأمة، وتدهور حالها. والسببان يتفاعلان، مثل الضعف والمرض، فالضعف في الجسم يسهل المرض، والمرض يضعف الجسم.. إن الاستعمار يتأكد بالقابلية له، والهيمنة الحضارية تعضدها القابلية للاستعمار.
والإشكالية الراهنة جاءت من سيادة النموذج الغربي، بدرجة جعلته الحاكم وصاحب السلطة، والمؤيد بالقانون، وعلى الرغم من أنه غريب ولا يعبر عن الأمة، لكنه صاحب السيادة، والخروج منه صار أمرًا معقدًا، لذا فإن تفكيكه والخروج من أسره، سيكون عملاً نهضويًا وثوريًا في آن واحد (1).
والتحدي الحقيقي أمام الأمة يكمن في قدرتها على (إنهاض نمط حياتها الخاصة )، إلا أن العوائق كثيرة ومتشابكة، فتدفع بهذا التحدي للوصول إلى درجة خطيرة، كما يدفع بقوى الأمة إلى إعلان غضبها وتمردها، فحكم الأقلية الحضارية يعني -فيما يعنيه- أن أصحاب القيم الغريبة والمعارف غير السائدة في الأمة، هم أصحاب القرار، وهم الذين يحتلون موقع النخبة هذا الوضع نوع من عنصرية جديدة، يمكن تسميتها بـ (العنصرية الاستعمارية ) فهذه القيم الغريبة وأصحابها يحتلون مكانة أهم بكثير من قيم الأمة الأصلية، وهذه عنصرية لا شك فيها.
وهنا يقوم ويتحقق نوع جديد من (الاستيطان )، استيطان أفكار غريبة وافدة، مستقرة في عقول (وكلاء محليين )، وكل ذلك مما يجعل الصراع(2) (فتنة بين أبناء الأمة ).
وهي فتنة بحجم إحساس الأمة (وطليعتها الحقيقية ) بأن القيم الغريبة لها تلك المكانة، بينما القيم الأصلية مهمشة، وهذا ما يولد شعورًا بالغبن، ويدفع بالتالي إلى الغضب أو اليأس.
هذا ويتحقق حكم الأقلية الحضارية، من خلال آليات كثيرة، تم زرعها في جسم الأمة، وما زال يزرع غيرها، كي تبقى (الأقلية الحضارية ) قوية فاعلة مسيطرة، بفعل وسائل منظمة، تنتج وتكسب أعضاءً جددًا لهذه الأقلية، كي تتجدد أولاً، ولكي يضمن استمرارها.
إن هذه (الآليات ) تمثل المشكلة الرئيسة، والتي تجعل الصراع بين (الموروث و الوافد ) يتمدد من المجال الحضاري إلى السياسي، حتى يصل إلى حياتنا اليومية.
وأكبر ميدان تثيره آليات (الأقلية الحضارية ) هو التعليم، فهو غربي الروح، يروج للغرب، على كافة المستويات، (وهو يقدم رؤى معرفية ضمنية متحيزة للحضارة الغربية، كما تنتج تحيزات لحكم الأقلية الحضارية، بدلاً من أن تنتج طلائع لنهضة الأمة )(1).
ثم يستدرك فيقول: ليس بالضرورة أن يكون كل متعلم متغربًا، أو وكيلاً للغرب، ولكن -على الأقل- معرضون للتشوه الثقافي، والتداخل المعرفي. ويرى د. رفيق أن مشكلاتنا تتفاقم تحت مظلة (العلم)، إذ تتحول كل طاقاتنا العلمية باتجاه (إعادة إنتاج النمط الغربي) فيتأسس علمنا على الاقتباس، على حساب الإبداع، خاصة الإبداع الأصيل، النابع من ثقافة الأمة، وهكذا تتحول (آلة إنتاج المعرفة) إلى منتجة، ولكن بصورة مزيفة عن الأمة، صورة من شروطها تأهيل الأمة (لعملية التغريب)، يواكبها تشويه الصورة الأصلية للأمة.
هذه بعض طروحات د. رفيق في (تفكيك الديمقراطية )، وهي طروحات لا نعلم أنه سُبق إليها، وهو يحمل من الشجاعة ما نحن بحاجة إليه.
6- د. برهان غليون:
د. غليون سوري الأصل، فرنسي الجنسية، يعمل أستاذًا لعلم الاجتماع في السوربون، له أكثر من عشرة مؤلفات.
يدرس قضية النقل الحضاري، حيث يصورها (البعض ) أو يبسطها غاية التبسيط فيرى أن بإمكاننا أن نقلد الغرب لنكون مثله، فيرد د. غليون(1): (إن هذا المأزق يتمثل بالاعتقاد بأننا لو أخذنا نفس مبادئ الأوروبيين لتقدمنا. إننا بهذا الاعتقاد ألغينا التاريخ، وألغينا العلاقات التاريخية، بيننا وبين الغرب، وألغينا أيضًا كل صيرورة المسلسل التاريخي والاجتماعي، الذي أدى في أوروبا إلى ظهور الثورة الصناعية والثورة السياسية ).
هذا المعنى يكرره في كتبه، فالأمر معقد وإلا لأخذت أمم الأرض بذلك وتقدمت بيسر وسهولة.
القضية الثانية التي يكررها د. غليون خصوصًا في كتابيه (حوارات من عصر الحرب الأهلية )، و(اغتيال العقل ).. فهو يكرر كثيرًا جدًا أن الحاجة ملحة إلى إحياء التراث، والأخذ من الحضارة الغربية، ويشترط عدم الاكتفاء بعنصر واحد.
يقول د. غليون(1): (من الوهم أن تعتقد جماعة أنها تستطيع أن تندمج في الحضارة من دون أن تحيي تراثها، إن بالتغاضي أو بالتخلي عنه، فالنتيجة لن تكون إلا انتقامًا أكبر للماضي من الحاضر، وتهديدًا أعظم، لأي جهد تجديدي، كما أنه من الوهم أن تعتقد جماعة أيضًا أن تراثها بمفرده -مهما كانت عظمته- يمكن أن يحفظ لها استقلالها وحريتها، ونجاعتها التاريخية ).
إن اكتساب التراث الحضاري الجديد، لا يشكل شرطًا أساسيًا لدخول التاريخ المعاصر فحسب، ولكنه شرط أساسي أيضًا، لإعادة الفاعلية والقيمة الجادة للتراث القديم.
إن مصير الأمم مرهون بمقدرتها على أن تجعل من تراثها -أي من ثمرة أجيالها الماضية وتراكماتها- رأس مال قابلاً للتوظيف في عمليات التجديد والتحضر الكبرى.(9/232)
يمكن الزعم بأن الأمة يمكن أن تطير بجناحين: التراث والتحضر. إن د. غليون يعاود الفكرة مرارًا ويقلبها على عدة أوجه، فيقول: هناك مشكلة مفادها(2): (الاعتقاد بأن مجتمعنا لم يستطع أن يستوعبالحضارة الحديثة ) لأن ثقافته وتراثه تقليديان، وهذا ينفي عن عملية الحضارة والتحضر كل طابعها الاجتماعي والتاريخي الصراعي. فهل لو طبقنا في بلادنا القوانين (اللبرالية) مثلاً، أصبح لدينا بالضرورة صناعة حديثة؟
نحن نقول بالعكس، لو طبقنا نفس الحلول، التي طبقتها المجتمعات الغربية، دون النظر إلى تغير الظروف التاريخية، وأهمها بالضبط تحول الغرب إلى (مركز للحضارة ) يتحكم بآلياتها ووسائلها، ويصارع ليبقى المحتكر الأول لها، لوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.. أي زيادة التأخر والتبعية...
لا يعني هذا رفض (التحديث ) وإنما يعني ربطه بمعيار واضح، اجتماعي وقيمي أو أخلاقي. باختصار، لا لتدمير الهوية، لا لفصل العرب عن العالم، ولا لأي سياسة أو خطة تطمس أحد قطبي التناقض، لصالح القطب الآخر.
القضية أحسبها واضحة، فهناك في مجتمعنا من هو زاهد في التراث، بل يرى فيه عقبة كبرى، ويسخر من الهوية، فالعالم صار قرية واحدة، ولا معنى للتشبث بالهوية الخاصة، ولذا فالحل في نظره سهل ميسور، نتجاهل التراث، ونهمل الهوية، ونندمج في حضارة اليوم.
وقد وجدت د. غليون يطرح أسئلة فيقول(1): (ماذا نريد من الحضارة، وماذا نريده كمجتمع، وما هي أهدافنا ؟ )
هل نحن نسعى إلى أن يكون لمجتمعنا (واجهة حديثة شكلية ) ، تجعله يبدو مشابهًا لغيره من المجتمعات الحديثة، أم نريد أن يكون له وظائف إبداعية وإنتاجية مشابهة -وليست مماثلة- لما لدى هذه الأخيرة ؟
أي هل المقصود تحديث القائم والتراث أو هل أن تحديث التراث، يقدم حلولاً مفيدة، أم أن الحلول قائمة خارجه، وعلينا نحن أن نبدعها؟.. أسئلة جيدة، تستحق التفكير.
د. غليون لا يمل طرح القضية، ومن زوايا متعددة، فهو يقول مثلاً: إن التحديث العقلي لا يحل لنا مشكلة، لأنه يحذف الوعي، ويشرح ذلك فيقول(2): (إنه يقوم على الاعتقاد بأنه إذا نجحنا في تبني مؤسسات مشابهة للمؤسسات العلمية والثقافية الغربية، وفي أن نصبغ أفكارنا وقيمنا وطريقة بحثنا بالصبغة العلمية، وصلنا إلى الحضارة، ودخلنا في المعاصرة، أي أصبح لدينا قيم وفكر وعلم مماثل لعلم الغرب وقيمه، وأصبحنا بالتالي متحضرين أو أصحاب حضارة، وخرجنا من دائرة الهامشية وانعدام الفعل. )
ليست هذه إلا مسألة (مصطنعة ) في نظرنا، وشكلية ولا قيمة لها، إذ النهضة الثقافية والفكرية، ليست مرتبطة بمماثلة أو مشاكلة الغرب، ولا تعني التوصل إلى تحقيق نفس الوظائف الاجتماعية أو الثقافية، بل نحن نعتقد أن هذه (المماثلة ) هي السبب في إخفاق العقل العربي الحديث، وفشل النهضة الثقافية.
يتحدث بعد ذلك عما يسميه الثقافة الحية والثقافة الميتة، الثقافة الحية تكون -عادة- قادرة على إيجاد وإبداع حلول جديدة لكل وضع جديد.
أما الثقافة التي تعجز عن ذلك فهي ميتة أو (تكرارية )، تشتغل بمشاكل غيرها، وتعجز عن القيام بواجباتها، فتضطر لتركها إلى غيرها.. وينهي موضوعه قائلاً(1): (وكلما تماثلت البنيات الثقافية العربية مع البنيات الثقافية الغربية وحاكتها، أصبحت -بالضرورة- أقل قدرة على إدراك خصوصيات مجتمعها، وفقدت بالتالي قدراتها الإبداعية، ومبرر وجودها ). فهل يُقنع هذا متغربينا؟
المرجعية ونوعية النقل:
د. غليون مغرم بتحديد نوعية الشيء المطلوب نقله، عن حضارة الغرب، كما قاده ذلك للحديث بحرارة عن (المرجعية ).
فعن نوعية الشيء المطلوب استيراده يكرر(1): (من السهل استيراد الآلات والأجهزة والمنتجات المادية وغير المادية، لكن ليس من السهل ولا من الممكن استيراد (الفاعلية الثقافية)، لأن الثقافة هي التعبير الأساسي عن وجود الجماعة كجماعة موحدة، والشرط الأساسي لتحقيق استمرارها وتميزها وتاريخها، أي لإعطائها ذاتية مستقلة ).
فالثقافة هي مانحة الهوية، وهي أيضًا صانعة الولاء، والأمة -أي أمة- قد لا تكون متحضرة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة، واستقلالية الأمة رهن باستقلال الثقافة، فمن لا استقلال له ثقافيًا، فكيف تتحقق له الاستقلالية؟!
أما المرجعية، فالناس في المجتمع الواحد يختلفون، فإذا حصل ذلك فلا بد من مرجعية يرجعون إليها لضبط الاختلاف، وفي ذلك يقول د. غليون(2): (لا تستطيع أمة أن تتمتع بإرادة ذاتية وقوة معنوية ورؤية نظرية وقاعدة معيارية، إلا بقدر ما تنجح في تأسيس (مرجعية ثابتة) عميقة الجذور، مرتبطة بتاريخها أو بتجربتها التاريخية، ولا تستطيع جماعة أن تبني نشاطها، أو تؤسس وجودها على (مرجعية خارجية) مستمدة من تاريخ آخر، ومستقاة من ثقافة أخرى، أي لا تستطيع أن تجعل من (رمز استبعادها وتهميشها) مرجعًا لنهضتها الجديدة وتغلبها ).
أعتقد أن المرجعية أمر أساسي، وليس من الترف.. ومن لا يجد مرجعية، سوف يضربه الاختلاف، حتى يجعل من الأمة هيئة أمم. يقول الله: {اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا }(آل عمران:103)، ويقول: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا } (الروم:32)، ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينا } (آل عمران:105).
ويمكن القول: بأن المرجعية هي السلك الذي يجمع حبات الأمة، فلا يجعلها تنفرط، فإذا سقطت المرجعية، فما الذي يجمع الأمة ؟
قضية أخرى (كبيرة ) تضبطها (المرجعية )، كلما شاهدت الاختلاف في الفضائيات العربية، يقفز إلى ذهني: أين المرجعية، ولمن ينبغي أن نعود، وما معيار الخطأ والصواب ؟
لقد وجدت د.غليون يطرح القضية طرحًا دقيقًا، فيقول(1): (ما هو مصدر معلوماتنا الصحيحة؟؟ أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها ؟ ونستطيع طرح الموضوع بطريقة أبسط، فنقول: كيف يكون الواقع ما هو، أي مطابقًا لذاته، أي متسقًا، ومن ثم معقولاً ومقبولاً؟ ليس هناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس (المعرفة اليقينية)، وشروط نمو هذه المعرفة، والتي هي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده.. وعن هذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة، وكيف يمكن تجاوز العقبات، التي تقف أمام هذا التطور؟ )
قد يقول إنسان: المرجع هو العقل، ولكنه يختلف، بل ما أكثر ما يختلف، فهل نرجع لعقلي أم عقلك، أم ماذا؟
قد يقول آخر: لنرجع إلى العلم، فهو مرجعنا، وهو الآخر مختلف أيضًا، وقد تولى د. غليون الرد والمناقشة فقال(1): إن الحداثة تفترض أن الواقع (المطابق لذاته) هو الواقع الحديث، أو المساير للحداثة، أما مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها فكلها ليست واقعًا، ولا تحمل انسجامًا .
إن الواقع التقليدي ليس له أي قوام حقيقي، وليس مبررًا، ووجوده عبارة عن مظهر من مظاهر اللاعقلانية والانحطاط والشذوذ، وإذن فـ (الحداثة ) هي (معيار العقلانية والصحة )، فلا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجها هو (الواقع المطابق لذاته )، أي الواقع المعاصر، ولما كان العلم أحد منتجات هذه (المعاصرة ) فهو إذن معيار صحة أفكارنا عن الواقع، وبقدر ما تكون الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية.
هذا الكلام يبدو -لأول وهلة- معقولاً مقبولاً، كما يبدو وكأنه يستعمل (المنطق الأرسطي) بما يحمل من صحة ومغالطة.(9/233)
وأترك الجواب للدكتور غليون فهو يرى أن(1): (العقلانية العربية هدفها ومطلبها، نقل العلم، والنظرة العلمية، إلى ثقافة تعتبرها من الأساس فاقدة له، وغير قادرة على إنتاجه. إذن مطابقة أفكارنا للعلم، هي قاعدة الموضوعية والعلم، كما هي مجسدة في نظم معرفية جاهزة، تضمن صحة هذه الأفكار ويقينيتها ).
ونلاحظ هنا، كيف تصادر هذه المحاكمة - بالمعنى المنطقي- على المسألة الأساسية، التي ما كان من الممكن للعلم أن ينشأ بدونها، وهي التساؤل عن مصدر يقينية المعرفة العلمية نفسها، وهو التساؤل الذي قاد إلى تطور العلم، كثمرة لفلسفة ما قبل (علمية مؤسسة العلم ذاته كمفهوم ).
إن هذه (المحاكمة ) تقول عمليًا: إن أصل المعرفة اليقينية (العلم ) نفسه، وبذلك فهي لا تحرم نفسها فقط من التفكير في هذا العلم، والتحقق من المسعى العلمي، في كل مرة يسعى فيها الباحث إلى إدراك الواقع وتحليله، وإنما تضفي أيضًا على المعرفة العلمية صفة الحقيقة (المطلقة )، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى...
إنها تجعل من العلم معرفة (لاهوتية مقدسة ) مفصولة عن الواقع الذي استمدت منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له.
مرجعية العلم:
إن الغرب مكتشف العلم، لم يعد يعتبره حقيقة يقينية، ولو اعتبره فنحن نبحث عن مرجع نعود إليه حين نختلف، فإذا كان العلم مما يختلف فيه، فكيف يكون مرجعًا ؟
لقد هربنا من يقينية الأديان، فسقطنا في يقينية العلم، كما فعلت الماركسية، حين شطبت الأديان، ثم ما لبثت أن صارت دينًا، أكثر تشنجًا وتعصبًا، حتى حرمت قراءة الكتب المخالفة، وصادرت حرية المعارض كليًا، وهكذا تحولت إلى دين له طقوسه ورموزه، وحتى أنبياؤه، وصار قبر المعلم (لينين ) مزارًا، وعلى زائره أن يقف باحترام، فلا يسمح له مثلاً وضع النظارات على رأسه، ولا التحدث ...إلخ.
لقد هربت الحداثة وأهلها من الأديان لتجعل من العلم دينًا جديدًا، له سدنته وطقوسه!
إنها تكفّر كل من لا يقبل (يقينية العلم ) وصحة وسلامة الحداثة، وتُقْصيه بعيدًا، وتتهمه بالرجعية والظلامية والعودة للقرون الوسطى، إنها جماعة (تكفير ) جديدة، تكفر (وطنيًا )، وتبعد وتقصي كل من لا يشاركها الرأي والمعتقد، أنهم مكفرون جدد!
وأخيرًا أجد من النافع المفيد أن نتساءل: هل نحن ننشئ علمًا، أم نقتبس ونستهلك فقط؟ وهل نحن ننشئ حضارة أم نستهلك منتجات حضارة فقط ؟
وأخيرًا هل نحن بحاجة إلى مرجعية، نرجع إليها عندما نختلف أم لا؟ والسؤال الرابع والأخير: هل يمكن حل مشاكلنا بخلق عداء بين العقلية العلمية والعقلية الدينية ؟
يقول د. غليون(1): (إن مشكلة العلم لا تحل بخلق (عداء مطلق) بين وجود العقلية العلمية، والعقلية الدينية أو التقليدية، لأن معنى هذا أنه علينا أن ننتظر القضاء الكامل على الثقافة التقليدية، حتى نصل إلى اكتساب العقلية العلمية وهذا مناف للواقع، واقع العلم والثقافة في الغرب ذاته، فليس هناك ما يمنع تعايش الثقافة العلمية والدينية والأدبية، في كافة المجتمعات، القديمة والحديثة، على حد سواء، ويكفي في ذلك إلقاء نظرة على الحركات الدينية المتجددة في أمريكا ).
الذي يمكن تصوره أن هناك حقيقة روحية، وحقيقة علمية، ولا تناقض بين الاثنين، إلا إذا أسيء فهم إحداهما أو كلاهما.
رأي شيخ الإسلام في التعارض:
لقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، يدرس قضية التعارض بين القضايا العقلية والنقلية، ثم يضع ميزانًا لذلك(1) إذ يرى أن الحقائق منها ما هو شرعي (نقلي )، ومنها ما هو عقلي، وكل منهما فيه القطعي والظني، وهناك ثلاث قواعد تضبط ذلك:
1- إن القطعيين لا يتعارضان.
2- إذا تعارض قطعي وظني يقدم القطعي، أيّاً كان مصدره.
3- إذا تعارض ظنيان فعلى العقل أن يسعى للمفاضلة بينهما، وأن يأخذ بالأرجح.. منهج متوازن لا شطط فيه، أعتقد أنه مقبول لدى كل منصف.
ختامًا لقد وجدت الرئيس البوسني (علي عزت بكوفتش ) يعمل مقارنة لطيفة بين الحضارة والثقافة، من حيث الأهداف والوظائف فيرى(2):
أن الثقافة تحتل تأثير الدين على الإنسان.. أما الحضارة فتمثل تأثير الذكاء على الطبيعة.. الثقافة تعني الفن، وأما الحضارة فتعني صناعة الأشياء.. الثقافة صنع مستمر للذات، والحضارة تغيير مستمر للعالم.. الثقافة استمرار للتقدم الإنساني، والحضارة استمرار للتقدم التقني.
الثقافة تقدم مستمر للذات، والحضارة اضطرار للاعتماد على المادة، وفرض لها على الإنسان.. الثقافة تستهدف التقليل من حاجات الإنسان، والتوسع في آفاق الحرية.. حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع.
الثقافة تحتل القوة الذاتية، والحضارة تمثل قوة على الطبيعة.
الدين والقيم والفكر والآداب، من مكونات الثقافة. والعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي للحضارة..
وأخيرًا: فالحضارة ليست خيرًا بنفسها ولا شرًا، لذا فالمتحضر يمكن أن يكون مستعمِرًا ومستعبِدًا لأخيه، سارقًا لأقوات الشعوب الفقيرة، محطمًا لها، مشعلاً للحروب، مستغلاً تقدمه في تحطيم الآخرين، ومنعهم من التقدم، كي يظلوا سوقًا له ولبضائعه.
فالحضارة ومثلها التقدم، وصف وليس بحكم، فالمتحضر يمكن أن يكون ملكًا رحيمًا، كما يمكن أن يكون شيطانًا رجيمًا، وكذلك التقدم، يمكن أن يكون باتجاه الخير والسلام، ومعاونة الشعوب الفقيرة، والأخذ بيدها، كما يمكن أن يكون وسيلة استعلاء ونهب وسلب، وإشعالٍ للحروب، وفرض لتجارة مثل تجارة الأفيون.
إن أوروبا الناهضة المتقدمة استعمرت كافة القارات، وخاضت من أجل ذلك في أنهار من الدم، وفعلت في المستعمرات ما يفعله الذئب في فريسته، وكان سلاحها تقدمها وملكَها أسباب القوة وتخلفَ الآخرين.
فليس التحضر أو التقدم بنفسه خيرًا أو شرًا، ولكن بما يحمل، وبما يحسن أو يسيء من تصرف.
والمتقدم والمتحضر -اليوم- هو من يلوث البيئة، بعشرات الأضعاف مما يفعله المتخلف.. فالمتقدم ليس ملكًا، والمتخلف ليس شيطانًا.
==============
الأهداف الكبرى لخلق الإنسان
لو تساءلنا عن الأهداف الكبرى التي خُلق من أجلها الإنسان، ماهي؟ يمكننا جمعها في هدفين كبيرين: عبادة الله، وعمارة الأرض.
أولاً: عبادة الله تعالى:
يقول سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات:56).. والعبادة لغة: الانقياد والذل والخضوع(1).
يقول الفيروزأبادي(2): (العبادة: الطاعة، وهي أبلغ من العبودية، لأنها غاية التذلل، لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى.. العبادة ضربان: ضرب بالتسخير، وضرب بالاختيار، وهو النطق، وهو المأمور به في قوله تعالى: {اعبدوا ربكم } (البقرة:21)، وقد ورد العبد والعبادة في القرآن على ثلاثين وجهًا... )
والمعنى الاصطلاحي للعبادة، لا يخرج عن المعنى اللغوي، وقد جعلها شيخ الإسلام ابن تيمية، اسمًا جامعًا لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، فصارت تشمل العبادات البدنية والمالية والقلبية.
والعبادة تطلق -عادة- على معنيين اثنين هما:(9/234)
أ- معنى واسع: يشمل كل عمل مباح يفعله المسلم، يبتغي به وجه الله تعالى، وقد نُقل إلينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في نفر من الصحابة، فمر بهم رجل، فذكر بعضهم نشاطه وهمته في العمل، وقالوا: يارسول الله لو كان هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عله وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان )(1). فالعبرة لحسن النية، وصدق التوجه.
وقد اشتكى بعض الصحابة من فقرهم، وأن الأغنياء يشاركونهم العبادة، ويزيدون عليهم بالصدقة. فقد أخرج مسلم في صحيحه: قال بعض الصحابة: (يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجر )(2).
فالحديث يخبر بأنواع من الصدقات.. كما في المسألة أبعد من ذلك، وهي قرب الرجل أهله، يكون له في ذلك أجر، لأنه يعف نفسه ويعف أهله.
فالعمل العادي المباح يمكن أن يصبح عبادة، ومن ثم يحصل صاحبه على أجر، ويمكن العكس بأن يقوم المسلم بعبادة، ويكون فيها مرائيًا منافقًا، فيحصل على الإثم.
وقد وجدت (محمد أسد ) يتحدث عن شمول العبادة فيقول(1): (العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول كل حياة الإنسان العملية أيضًا، وإذا كانت الغاية من حياتنا -على العموم- عبادة الله تعالى، فيلزمنا حينئذ ضرورة أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها، على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وعبادة الله في أوسع معانيها تؤلف في الإسلام معنى الحياة.. هذا الإدراك وحده يرينا أحكام بلوغ الإنسان الكمال، في إطار حياته الدنيوية الفردية، ومن بين سائر النظم الدينية، نرى الإسلام وحده يعلن: أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا ).
إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى مابعد إدانته الشهوات الجسدية، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة من (تناسخ الأرواح ) على مراتب متدرجة -كما هو الحال في الهندوكية- ولا يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية، وانفصام علاقتهما الشعورية من العالم، كلا إن الإسلام يؤكد في إعلانه: أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجود الإمكان الدنيوي في حياته.
تصور جيد وشامل للعبادة في الإسلام.. وقد وجدت د.ماجد الكيلاني يحصي ثلاثة اتجاهات في العبادة: اتجاه ديني.. اتجاه اجتماعي.. اتجاه كوني(1).
والاتجاه الديني يتمثل في ممارسة الشعائر الدينية، بينما يتمثل الاتجاه الاجتماعي في علاقة الفرد بغيره، وضبط شبكة العلاقات الاجتماعية، أما الاتجاه الكوني فينظم علاقة الإنسان بالكون، ويتطلب معرفة جيدة به.. ويرى د. الكيلاني وجوب تكامل وتساند هذه الاتجاهات كلها، كي لا يصاب التدين بنوع من القصور.
أما إذا حصل انفصال بين هذه الاتجاهات، فحُصر مثلاً مفهوم العبادة بأداء الشعائر فقط، فهنا سينتج عن ذلك بعض الآثار السلبية، منها:
1- عدم الاهتمام بالاتجاهين: الاجتماعي والكوني، وعندها تنحسر العلوم الاجتماعية والكونية، أو تنحرف عن مسارها الصحيح، فيعمل كل واحد ضد الآخر.
2- يفرز الفصل بين الاتجاهين الديني وغيره، فريقًا من المتعلمين، بعضه يكون متدينًا، لكنه يتصف بالسلبية والمسكنة (كما هو حال أهل التصوف )، وفريقًا من الاجتماعيين، يتصف بالانفلات.
3- إن الفصل يمكن أن يخرج نماذج من المتدينين، تتصف بالتواكل والكسل والجبرية، على حين تتصف مجموعة من المهنيين بالمادية الاستهلاكية (وهذا بعض ما نعانيه اليوم ).
4- لقد أفرز الفصل بعض العاملين في الحقلين الاجتماعي والكوني، بحيث صاروا متمردين على القيم والأخلاق، وهذا مما يشعل الصراع والتطاحن داخل المجتمعات الإسلامية، فتتولد انقسامات كثيرة، بحيث ينشغل أفراد المجتمع بذلك، (وجل مجتمعاتنا اليوم تعاني من ذلك ).
5- إن الفصل يعطل رسالة الدين في الإصلاح الاجتماعي، ويعيقه عن محاربة الشر والفساد، بل قد يدفع بالدين ورموزه ليصبحوا عامل دعم للفساد، ومن هذا المنطلق نجد (المترفين ) يفصلون بين الدين، وتأثيره في الحياة، ويريدونه طقوسًا بلا روح، يقول سبحانه وتعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون } (البقرة:177).
فمن أجل أن يكون المسلم من أهل البر، فلا تكفي الصلاة، بل ينبغي توفر الإيمان ودفع الأموال، إضافة لكافة العبادات، والالتزام بالوفاء بالعهود..الخ.
ومما يوضح هذا (الفهم ) أن أحد الصحابة، جاء لرسول الله مبايعًا، وقد وصف حاله قائلاً(1): أتيت رسول الله لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أصبح، حجة الإسلام -أي الأولى- وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت يا رسول الله: أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أن من ولى الدبر -هرب من المعركة- فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك، جشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله مالي إلا غنيمة وعشر ذود -أي غنم قليلة وعشر من الإبل- هن رسل أهلي وحمولتهم، فقبض رسول الله يده، ثم حرك يده، ثم قال: لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟! قال: قلت: يا رسول الله أنا أبايعك، قال فبايعت عليهن كلهن .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يرفض بيعة الرجل لأنه أراد التنصل من الزكاة، لقلة الأموال، ومن الجهاد، لأنه يخاف إن اشترك في الحرب أن يهرب، فيحق عليه غضب الله، لكن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يشترط بوضوح تام، إما البيعة الكاملة أو عدمها، فالقضية لا تقبل المساومة ولا التجزئة.. وهذا الفهم الشامل المتوازن كان واضحًا كل الوضوح لدى جمهور الصحابة، وقد يكون ترجيح العبادة -بمعناها الضيق- والتوسع فيها جاء في عهد التابعين، ومن جاء بعدهم.
ب- معنى ضيق: الشق الثاني لإطلاق(العبادة ) يقصرها على الصلاة والصيام والحج والزكاة، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن. والأصل في هذا المعنى هو النص الصحيح، ذلك أن العبادة غير معللة.
وقد نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (لو كان الدين -أي العبادة- بالعقل، لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره ).(9/235)
ومعلوم أن العبادة مبنية على الحظر أي المنع، فلا يجوز أن نزيد أو ننقص فيها، وقد جاء نفر من الصحابة إلى بيت رسول الله يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم رأوها قليلة، فقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، وقال آخر أقوم الليل ولا أنام، وقال ثالث: إنه سيعتزل النساء، فلما سمع رسول الله بذلك قال لهم: (أنا رسول الله، أعرفكم بالله، وأتقاكم له، أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وأقرب النساء، فمن خالف سنتي فليس مني )(1).
فالعبادة أساسها النص الصحيح، وهي تقوم على الاتباع دون الابتداع.. أما الحضارة فتقوم على الإبداع دون التقليد، لكنا عكسنا الأمر فصرنا مبتدعين في العبادة، مقلدين في الحضارة، فلا سلمت لنا العبادة، ولا أبدعنا شيئًا في الحضارة.
ثانيًا: عمارة الأرض:
إن الهدف الثاني لخلق الإنسان أن يعمر الأرض، كما قال تعالى: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } (هود:61).
وعمارة الأرض تتطلب معرفة جيدة بعلوم (الحياة )، بل آخر ما توصل إليه الإنسان في هذه العلوم، التي تتطور يومًا بعد يوم.
وقد قسم الفقهاء (الفروض ) إلى قسمين: فروض أعيان وفروض كفاية.. وفروض العين مثل الصلاة والصوم.. وأما فروض الكفاية فهي فروض عامة، فإذا قام بها البعض سقطت عن الأمة، لكن إن أهملها الكل أثموا.. فكل علم نافع، أو صناعة مفيدة، فلابد أن يوجد من المسلمين من يحسن أداءها، وإلا حصل الإثم للجميع، لكن إذا جرى تعيين فرد لها، صارت بالنسبة له من فروض العين. ومن العلماء من يقدم فروض "الكفاية " على العين، لأهميتها بالنسبة للأمة.
وعلى ذلك، فعلى كل من يهتم بعمارة الأرض، أن يواكب تطور العلوم والصناعات، كي يستطيع فعلاً أن يعمر. وللأسف فإن ما أطلق عليه ابن خلدون (علم العمران ) ذهب معه، ولم نجد من يهتم به.
لقد تحولنا إلى مستهلكي حضارة، ولم نكن من صناعها، فمن السهولة بمكان أن يكون الإنسان (زبونًا ) يأخذ من منتجات الحضارة ما يحب، ويدفع الثمن، ولكن من الصعوبة أن ينتج حضارة أو يساهم في إنتاجها بجدية أو فعالية.
إن عمارة الأرض أو صنع حضارة، يتطلب الكد والكدح، والسهر المتواصل، والأخذ بناصية العلوم والصناعات، ومن لا يحسن ذلك فهو يعيش على (الهامش ).
لو قمنا بفحص لهذه المليارات من البشر، التي تدب على وجه الأرض، فماذا نجد بمقياس العبادة الصحيحة، والعمارة المفيدة النافعة؟
1- سنجد ملايين قليلة جدًا تعبد الله تعالى كما أراد وأمر، وأقل منها تشتغل في عمارة الأرض.
2- سنجد ملايين كثيرة في الغرب واليابان مثلاً لا تعرف الله، وإن عرفته لا تعبده كما أمر، لكنها تفني عمرها في عمارة الأرض، وقد تشتغل في خرابها، بما تنشر من معدات القتل الجماعي، وأسلحة ذرية وهيدروجينية وغيرها.
3- ألوف الملايين من البشر لا تعبد الله، كما أمر، ولا تشتغل بعمارة الأرض، والكثير منها تطلب الطعام والدواء من غيرها، فلا الله عبدت ولا عمارة للأرض أشادت، ولم تحقق شيئًا مما خلقت له، وللأسف فهي تبلغ مليارات من البشر، ومن هنا جاءت متاعب البشرية، أو بعض متاعبها.
أبو حامد الغزالي ونظريته في العلم:
أبو حامد من فوارس العلم والثقافة (1051 - 1111م) ، له نظرية في العلم، نشرها في ثلاثة من كتبه، متى جمعت إلى بعضها كونت فكرة واضحة عن العلم الشرعي والدنيوي، وعلاقة أحدهما بالآخر.
أ- في كتابه (إحياء علوم الدين )، قسم العلوم إلى شرعية، وهي ما استفيد من الأنبياء عليهم السلام، وغير شرعية، وهي ما أرشد إليهم العقل، كالطب والرياضيات وأمثالها. وغير الشرعية هي من فروض الكفاية، فإذا خلا منها بلد سارع إليه الهلاك(1).
ب- في (أيها الولد ) يتم فكرته قائلاً: من يقتصر علمه على العلوم الدنيوية، دون الشرعية، فعمره يضيع فيما لا ينفع في الآخرة (2).
جـ- في كتابه (ميزان العمل ) يقول:... من يقتصر على علوم الدين وحدها، فإنه لا يفهم من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته، دون لبابه وحقيقته(1)، إذ لا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء(2) .
من يتطلع لدور في الحضارة، فلا بد أن يكون له حضور متميز، كما ينبغي أن تكون لديه فكرة واضحة تجاه الكون وخالقه والحياة.
ويطرح (اشفيتسر ) في كتابه (فلسفة الحضارة )(3): (إذا أنتج المفكرون في عصر من العصور نظرية في الكون ثمينة، فإنها تتداول بين الناس تداولاً يؤدي إلى ضمان التقدم، وإن عجزوا عن ذلك، بدأ الانحلال يدب على نحو أو آخر، فكل نظرية في الكون، تجر وراءها نتائجها التاريخية ).
والقرآن الكريم يربط بين عمارة الأرض والأخذ بهدي الأنبياء، عليهم السلام، كما أن البعد عن هذا الهدي السماوي يجلب فيما يجلب التعاسة والحروب، وسقوط الحضارة.
يقول تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } (النمل:112). إن قصص القرآن في مجمله يكشف: كيف تقدمت الأمم، وتوسعت الحضارات، حين أخذت الأمم بهدي السماء، وماذا أصابها من تأخر وفساد وسقوط للحضارة حين تركت شرع الله، وفضلت عليه شرائع وضعية.
==============
التغيير في الحضارة
المتابع للحضارات الإنسانية يجد حضارة تقوم وتزدهر، ثم تشيخ وتموت، مفسحة الطريق لغيرها، وقد عد المؤرخ توينبي ستًا وعشرين حضارة، كان هذا شأنها.
والسؤال: هل يمكن معرفة قوانين التغيير، التي تحكم سير الحضارة؟ وهل يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحصل للحضارة من ارتفاع أو سقوط؟
والسؤال الثالث: ما هو واجب المؤرخ ومفسر التاريخ؟
لا نجد أجوبة متفقًا عليها، فمؤرخ مثل (فيشر ) يرى أن الحوادث تتعاقب، وكل طارئ يتبعه طارئ، كما تتبع الموجة موجة أخرى، لذا فهو لا يرى جدوى من البحث عن نظام التغيير(1).
وهناك من يرى أن مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الوقائع وتسجيلها، بعد التحقق من صحتها، دون حاجة للبحث عن النظم التي تربطها، وهؤلاء يقولون عادة: قد توجد للتغييرات الحضارية صور جامعة، تربط بعضها ببعض، ولكن محاولة كشفها ثم تعليلها ليس من واجب المؤرخ، فقد يقوم بذلك عالم الاجتماع أو الفيلسوف. وهؤلاء لا يرضيهم من يشتغل بتفسير التاريخ، ورصد حركة الحضارة، من أمثال شبنجلر وتوينبي وثورنثروب، وأمثالهم، ويذهبون لأبعد من ذلك حين يستخفون بالنتائج التي توصلوا إليها.
والذي لا جدال فيه، فإن عالم الاجتماع يحسن التعليل للوقائع والمتغيرات الحضارية، لكن ذلك لا يفقد المؤرخ هذه القدرة والقابلية، مادام يدرس التاريخ وحركته، ويتتبع تحولات الحضارة، إذن ليقل عالم الاجتماع ما عنده، وليقل المؤرخ ما عنده، دون أن يحجر أحد على أحد، فالميدان فيه فسحة للاثنين ولغيرهما.
والسؤال: هل يمكن أن نربط بين وقائع التاريخ والنتائج ارتباطًا (كليًا ) بكل ما تتضمنه هذه الفكرة(1)؟
هناك من يجزم بإمكانية ذلك، وأن ما يحدث يمكن توقعه، بعد مراعاة الظروف التي أحاطت به، وهنا يفترض التسليم بوجود (قوانين ) عامة، تحكم حركة الحضارة والتاريخ، فإذا عرفت هذه القوانين، عندها يمكن، أو لنقل يسهل التنبؤ بالمستقبل.. وأصحاب هذه التوجه يلحون على اكتشاف (حركة المجتمع )، كما يطالبون المؤرخين بذلك.(9/236)
أما (إشبنجلر )(2)فهو يؤمن بالفصل بين الحقائق التاريخية والحقائق الطبيعية، ومن ثم فإن المنهج الطبيعي سيقصر عن فهم وتفسير التاريخ البشري، ولذا فالمنهج الوحيد الذي يوقفنا على حقائق التاريخ الإنساني، هو المنهج التاريخي(1). وقد تلقف الماركسيون (المنهج الطبيعي )، وطبقوه في (المادية التاريخية ) ، التي اعتبروها علم الاجتماع الخاص بهم، وبناء على ذلك فقد فسروا التاريخ بأنه (صراع للطبقات ) من بعد الشيوعية الأولى، وحتى الشيوعية الثانية.
ومما قالوه، ونادوا به(2): (إذا عرفنا الأسباب، وأثرنا عليها، أمكننا خلق الظواهر، التي يريدها المجتمع، أو عرقلة نشوء الظواهر الضارة، أو غير المرغوب بها، والنضال ضدها... ).
إلا أن الفكرة قوبلت بهجوم شديد، من قبل بعض مفسري التاريخ، على اعتبار أن لكل حدث تاريخي خصوصيته وفرديته، إذ التاريخ لا يعيد نفسه.
كما قرروا أن الأحداث والوقائع التاريخية متشابكة ومعقدة، بحيث يصعب استخدام العلاقات الثابتة بين مجموع منها -كما هو الحال في العلوم الطبيعية- فحوادث التاريخ غير متشابهة، ولا متكررة حرفيًا.
أما (المثاليون ) فردوا الفكرة، بحجة أن التاريخ يتصل اتصالاً وثيقًا بالإنسان، وهو حر ولا يخضع لمنطق الحتميات.
ويمكننا القول: بأن المنهج الطبيعي، القائم على رصد الظواهر واستنباط قانون يشملها، هذا المنهج يصعب تطبيقه على الإنسان وحضارته، فالأمم في تقدمها وتخلفها، لا تخضع لقانون واحد صارم، ولا تحكمها نظرية واحدة، لذا رأينا تفسير التاريخ يعتمد إما أحكامًا عامة أو نظرية فردية.
لكن العمل في هذا الميدان نبه الأذهان إلى ضرورة الربط بين الحوادث، متى تشابهت، بهدف الإفادة من الماضي، لمعرفة ما يحدث في المستقبل. فقيام الحضارات وسقوطها، لابد أن يحمل أسبابًا متشابهة على الأقل، وبذا يفيد من هذا الجانب.
هناك أمر من المفيد ذكره، أن الذين اشتغلوا في تفسير التاريخ وحركة الحضارة، اعتمدوا (الواقع التاريخي للغرب )، ثم حاولوا فرضه على العالم -كما فعلت الماركسية مثلاً- فهي وليدة البيئة الغربية، وقد تأثرت بما فعلته الرأسمالية، فصاغت نظريتها، ثم عممتها على العالم، وفي كل العصور، وعلى كافة الأقطار، وزادت بأن تصورت أن (حتمية ) تحكم العالم كله في سيره الحضاري، وهنا كان المقتل!!!
ليس كل ما حدث في أوروبا يجب أن يحدث في العالم، ولكن من المشهود له والمسلم به أن الماركسية أجادت في نقد الرأسمالية أكبر وأعظم إجادة، بل يمكن القول: بأنه النقد الأفضل.. وإن سقطت الماركسية -لأي سبب- فإن نقدها للرأسمالية لم يسقط، وعلى رجال الفكر الرأسمالي أن يفيدوا من ذلك النقد، ولا يمنعهم سقوط الماركسية من ذلك، فالممارسة شيء، والنقد للرأسمالية شيء آخر.
وقبل أن أختم الموضوع لا بد من الإشارة إلى وجود (اتجاه تطوري تاريخي )(1)، يرى أصحابه أن السير الرتيب للإنسانية وحضاراتها، لا يمكن أن يكون اعتباطيًا، أو خاضعًا للمشيئة الفردية، أو الأهواء والصدف، بل يقع في مراحل متعاقبة، يضبطها وينظمها قانون، يجمع في ثناياه وسطوره كل تاريخ الإنسانية. هذا الاتجاه ظهر في القرن التاسع عشر.
والإنسان يتمنى ذلك، كما يتمنى عدم تكرار السقطات.. فلو أمكن تحديد أسباب سقوط الحضارات بدقة، وأمكن من ثم تجنبها أو بعضها، فسيكون نافعًا ومفيدًا، أما أن تسقط حضارة في مشكلة، ثم تأتي حضارة فتسقط في ذات الإشكال، فهذا هو المطلوب الهروب منه، وعدم الوقوع فيه.
بالمثل فما تنتجه حضارة من فكر جيد، أو فن رفيع، أو تنظيم حسن، فكل ذلك وأمثاله ينبغي الإشادة به أولاً، والإفادة منه بعد ذلك، وبدون حساسية.
=============
أهم العوامل المؤثرة في التحضر
ابتداءً أود الإشارة إلى أن (التحضر ) وصف وليس قيمة، فالتحضر بنفسه لا يحمل كل الخير، بل يمكن أن تكون الشعوب المتحضرة وبالاً على البشرية، حين يصير التحضر وسيلة استعمار واستعباد ونهب لثروات الشعوب، وتقييد لحريتها.. كما علمتنا الأيام أن المتحضرين هم من أشعلوا الحروب، وخاضوا بالدماء حتى (الركب )، ومازالوا يتلاعبون بشعوب العالم الفقيرة، يهبطون بثرواتها وسلعها إلى أسفل سافلين، ويرفعون بضائعهم يوميًا، حتى استحوذ 20% من سكان العالم على 80% من ثرواته، ومازال النهب والسلب على قدم وساق، حتى ازداد الأغنياء غنى، كما ازداد الفقراء فقرًا. وديون العالم الثالث خير شاهد، فهي اليوم عاجزة حتى عن دفع الفوائد.
وتلويث البيئة -اليوم- من نصيب المتحضر، بأكثر من الفقير ألوف المرات. لذا أود أن أكرر بأن التحضر وصف وليس قيمة. وقد حاولت جمع العناصر المؤثرة في التحضر، فجمعت أكثر من عشرة عناصر مثل: عامل الجنس (العرق )، العامل الاقتصادي، العامل الجغرافي، عامل العقيدة، عامل المعرفة، الفتوحات العسكرية، الفرد البطل أم المجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، عامل الثقافة والفكر، الرغبة في التحضر، البيئة الطبيعية للتحضر. وسوف أستعرض هذه العوامل، بما يسمح به البحث من الاختصار والإطالة والمناقشة، ثم أتحول بعد ذلك إلى حركة التحضر ومساراتها، بإذن الله تعالى.
اتجاهات التفسير:
لعل من المفيد أن أشير لوجود مدرستين في تفسير التاريخ، وضبط حركة التحضر: مدرسة تريد مزيدًا من العوامل مترادفة متعاونة، يكمل بعضها بعضًا، ومدرسة تكتفي بعامل أساس واحد، لتفسر به التاريخ، وتضبط به مسار الحضارة. ولكن أتباع هذه المدرسة، لم يتفقوا على عامل واحد، بل كل اختار عاملاً، وجعله قطب رحاه، لذا سأمر عليها بشيء من الاختصار غير المخل.
أولاً: عامل الجنس (العرق):
لا يجادل أحد أن البشرية تتكون من أجناس مختلفة، يتميز بعضهم عن بعض، وأنها خاضت حروبًا وصراعات ضد بعضها، كما حارب أبناء الجنس، بل أبناء الأمة بعضهم بعضًا.
فهم يتفاوتون في الرضى والإبداع، في الفكر والقناعات، وكل جنس واتته فرصة أقام حضارة تناسبه، وتناسب عصره. وقد شاع في القرنين السابع عشر والثامن عشر فكرة اختلاف الأجناس، وأن بعضها أرقى وأفضل من بعض، لكن الذي يصعب قبوله أن ينادي شعب بأنه المؤهل الوحيد لبناء حضارة، وأن شعبًا آخر لا يستطيع ذلك، ولو واتته كل الفرص.
وسأستعرض بعض الأقوال، مع بعض التصورات الغريبة التي تتصاعد منها أبخرة العنصرية، والنرجسية الغليظة.
لقد كتب الفرنسي (جوبينو ) (1) المتوفى عام (1882م ) رسالة حول عدم تساوي (الأجناس )، وأن الآريين وحدهم بناة الحضارة، والمحافظون عليها (وهو ماكانت النازية والفاشية، تبشر به ليل نهار ).
أما (كريستيان لامس ) (2) فيرى أن الآريين يتفوقون على الساميين في عقولهم وخواصهم.
أما (جوزيف آرثر، وهوستن ) (3) فيرون أن بعض الشعوب من الأجناس (الراقية ) تتقدم، على حين تظل أجناس أخرى محكومة اجتماعيًا وثقافيًا بميراثها العنصري. وقد انتهوا -كالعادة- إلى أن كافة الحضارات من عمل الآريين. أما النازية فقد تكون أقوى مَنْ طرح فكرة (النقاء العنصري )، معتبرة الاختلاط بين العناصر والأجناس المختلفة سببًا للقضاء على الحضارة وإفسادها.
وكل من يتحدث عن تفوق جنس على غيره، لابد أن يذكر اليهود، فهم معجبون بأنفسهم إلى أبعد الحدود، ويعيشون وهمًا مخيفًا حين يعتقدون أن الله تعالى قد اختارهم من بين كافة الشعوب، وأنهم الأذكى والأقدر، ولولاهم لحل بالعالم كارثة، حتى دماءهم تختلف عن دماء البشر.(9/237)
يقول (مارتن بوير ) -وهو مدير جامعة، ورجل اجتماع-(1): (إن الإسرائيليين شعب فريد، يختلف عن بقية الشعوب الأخرى، فهو الشعب الوحيد الذي يعتبر شعبًا، وفي الوقت نفسه يعتبر مجتمعًا دينيًا، وكل من يقطع العلاقة بين هذين العنصرين، يقطع حياة إسرائيل نفسها ).. والسؤال: ما الدليل على صحة هذا؟
وهل يهود روسيا وأوروبا والفلاشة من أثيوبيا، ويهود الهند وسيرلانكا واليمن، يشكلون شعبًا واحدًا؟
ويقول (آحاد هعام ) وهو اسم مستعار للكاتب الروسي (أشرغنزبرغ )(2): (من الطبيعي أن نسلم بحقيقة وجود درجات كثيرة في سلم الخليقة مرورًا بظهور الكائن غير العضوي، فالنباتات، والمخلوقات القادرة على النطق، يتقدمها جميعًا الجنس اليهودي ).
ما الدليل العلمي على ذلك؟
وأختم هذه (النقول ) بنص للكاتب الصهيوني (يوسف حييم بريبر ) يتساءل عن هذه (النرجسية ) الغريبة، فيقول(3): (من أين أتى هذا الاحتقار من جانب اليهود للأغيار، والشعور بالسمو عليهم؟ هل كان اليهودي عديم الشعور حقًا؟ وميتًا إلى درجة لم يشعر معها أن حياة الأغيار -أي غير اليهود- أكثر غنى، وأكثر جمالاً من حياته؟ إن هذا مستحيل، ولا نستطيع أن نصدق هذا، فإذا كان هناك احتقار للأغيار، فلم يكن ذلك سوى حسد طبيعي، يشعر به الفقراء تجاه الأغنياء، والرهبان تجاه الفرسان، والعاجز تجاه القادر، إن هذا الاحتقار لم يكن سوى استسلام لنصيبنا في الدنيا، وأحيانًا نوع من العزاء لآمالنا في العالم الآخر، يتلوه صرير أسنان، وغضب داخلي، عن وعي أو دون وعي ).
تسويق العنصرية وتبرير الاستعمار:
حاول بعض العنصريين أن يسوق نظريته في العالم، ويغطيها أو يحجبها ببعض المغالطات، ثم ليفلسف استعمار الإنسان لأخيه الإنسان.. تقول النظرية(1) ما يلي:
1- العروق مختلفة متباينة، ولكل صفاته المحددة، التي تميزه عن غيره.
2- هناك ارتباط وثيق بين الصفات الجسدية والروحية والعقلية، بحيث يمكن الاستدلال من الصفات الجسمية، على الصفات الأخرى.
3- العروق ليست مختلفة فقط، بل متفاوتة، أفضلها وأرقاها وأنقاها العرق (الآري ) (الفرع النورديكي )، وأدناها وأحطها الأفارقة السود.
ولي على هذه النظرية أكثر من تحفظ:
أولاً: العروق اختلطت لأكثر من سبب، والبحث عن عرق لم يختلط شبه مستحيل.
ثانيًا: الارتباط أو الربط بين الصفات البدنية والروحية والعقلية، لا أساس له، فالإنسان يتأثر بالبيئة، ويكتسب الكثير من العلوم والمعارف، فيختلف ذكاؤه الفطري بثقافته، حتى يصعب الفصل بينهما، فليس كل أبيض ذكي، ولا كل أسود بليد، تلك قضية يستحيل إثباتها أو تصديقها.
ثالثًا: اختلاف الأعراق قضية، وكون العرق الآري أرقاها وأنقاها، قضية أخرى يصعب التسليم بها، والأبيض الآري لو عاش الظروف التي يعيشها الأفريقي بفقره وأميته لكان أسوأ منه.
ولو عاش الأسود في مجال آخر، بعيدًا عن الفقر والأمية والتخلف، لتجاوز الأبيض، وتفوق عليه، وطلاب البعثات في الغرب يثبتون ذلك يوميًا.
تسويق العنصرية لدى تلاميذ (دارون):
تلاميذ دارون درسوا النظريات العنصرية، لكنهم زادوا في الطنبور نفخًا -كما يقال- وقد طرحوا نظريتهم على الوجه التالي(1):
1- البشر مختلفون، كما تثبت ذلك سماتهم البدنية والعقلية.
2- إن (البعض ) منهم أصلح بالطبع، ولذا فهم أرقى وأرفع شأنًا.
3- بعض الأجناس والأمم أصلح بالطبع، ولذا فهم أرقى وأرفع.
4- إن الطبيعة والتطور صنعا البشر، على هذه الشاكلة، ولذا فإن بعض العناصر والأمم يجب أن تسود، و(البعض ) يجب أن تكون مسودة وخادمة.
الطبيعة العمياء لم تصنع بشرًا ولا فأرًا ولا ضفدعة، والتطور لم يصنع ذلك، هكذا يعتقد جميع أصحاب وأتباع الديانات السماوية.
أما الفقرة الأخيرة فأشم منها روائح الاستعمار العفنة، والتي تزكم الأنوف، وكان بالإمكان أن تكون العبارة هكذا (... لذا من واجب الأمم المتقدمة والمتحضرة، أن تساعد وتعاون الأمم الثانية، وتأخذ بيدها ) لا أن تستعبد وتنهب خيراتها ومواردها.
القضية الأخرى: لا نصدق أن هناك أممًا أرقى وأصلح بالطبع، إذ لا دليل على ذلك، وكل جنس -وكل أمة- واتته فرصة تحضر اهتبلها وتقدم، ولو درست حضارات العالم قديمها وحديثها، لوجد مصداق ذلك.
كذلك لا نسلم ولا نصدق بوجود أعراق شريفة وأخرى وضيعة، إذ لا مقياس للشرف والوضاعة، وكل أمة يمكن أن تصف نفسها بالشرف، وعدوها بالوضاعة. فما مقياس الشرف والوضاعة، لدى تلاميذ المعلم (دارون )؟
ثانياً: العامل الجغرافي:
الإنسان قديمًا كان يسكن ويعيش قريبًا من الماء، ليتزود منه ويسقي حيواناته وزرعه، أما اليوم فلديه آلات تدفع بالماء بعيدًا، ويبدو أن الواقع القديم حمل البعض من مفسري التاريخ، ومن الراصدين للتحضر، للربط بين التحضر والموقع الجغرافي، فجل الحضارات القديمة قامت في أحواض الأنهر، فجاء من يعتبر العامل الجغرافي ذا أثر بالغ في التحضر، ومن هنا راح يدرس الأرض وتضاريسها، والموارد وحجمها. ثم عرج البعض على المناخ، ليصل في النهاية إلى أن هذه العوامل تشق لأصحابها طريق التحضر، وسبل التمدن، وهي تفرض على أهل القطر السير في مقدمة القافلة أو مؤخرتها، وبفضل هذا العامل اختلفت الحضارات.
ولما كانت طبيعة الصحراء مثلاً تختلف عن السهول، لذا فحضارتها تختلف كذلك.. وهكذا تختلف البلاد الجبلية عن الأرض السهلة فتختلف حضارتهما، كذلك تساهم وفرة المياه وشحها، حرارة الأرض وبرودتها، جفافها ورطوبتها...إلخ.
لقد ركزوا على العامل الجغرافي، لكنهم عادوا فاختلفوا، فمنهم من قدم المناخ، فجعله العامل الأول، ومنهم من قدم الأرض وجدبها وخصبها، ليأتي من يتعلق بالطرق والمسالك...
ولا يمكن إنكار أثر العامل الجغرافي في تكوين وتلوين الحضارة، لكن العيب الكبير يتمثل هنا بتجاهل الإنسان، وهو صانع الحضارة، فالحضارة أولاً جهد بشري، يستخدم فيه الإنسان المواد المتوفرة، لذا لم تقم الحضارة في جميع أحواض الأنهر، بل في بعضها دون بعض، كذلك نجد بلادًا كثيرة الأمطار، غنية الموارد، الشمس مشرقة فيها طوال العام، ومع ذلك مازالت تنتظر دورها في الحضارة، والذي قد يطول قرونًا.
هذه اليابان مساحتها بقدر مساحة بعض البلاد العربية، ثلاثة أرباع أرضها جبلية، مناخها قاري، حار صيفًا، بارد شتاءً، مواردها شحيحة، يعيش فيها أكثر من (125 ) مليون من البشر.. وبفضل الإنسان الياباني، فقد تخطى كل المصاعب، فكان هذا البلد مثالاً للإنسان الجاد المنتج المتغلب على المصاعب.
لقد عوض الإنسان الياباني كل نقص في موارد بلده، وهناك شعوب تملك كل الموارد، وتعيش تحت خط الفقر.. فالإنسان قبل الأرض، وقبل المناخ، لأن الحضارة صناعة بشرية، قبل أن تكون شيئًا آخر.
ثالثًا: العامل الاقتصادي:
يعتقد الماركسيون أن العامل الاقتصادي، هو المؤثر والموجه للأحداث، ومنها التحضر، فكل العلاقات الاجتماعية والتشريعات والنظم والدين، كلها تتأثر بالعامل الاقتصادي، نشوءًا وتطورًا، وهو (الباعث ) لكل مكونات المجتمع، الفكرية والمادية، وكل عامل آخر فهو ثانوي.
فالعلاقات الاقتصادية التي تتمثل بها أساليب الإنتاج هي الأساس، وكل تغير في أشكال الحضارة فهو عائد في أصله إلى تبدل في وسائل الإنتاج، وليس لشيء آخر.
وقد كتب (ماركس ) رسالة إلى (ف.أنتكوف ) عام 1846م تصور خلاصة فكره، وما توصل إليه بشأن الإنسان وحريته واختياره، لقوى الإنتاج فقال(1): (... ما المجتمع أيًا كان شكله؟ إنه وليد النشاط المتبادل الذي يقوم به الناس ).(9/238)
وهل لهم حرية اختيار هذا الشكل أو ذاك من المجتمع لأنفسهم؟ لا، بكل تأكيد.. إذا فرضت وجود حالة معينة من التطور في (قوى الإنتاج ) كان لديك شكل معين من أشكال التجارة والاستهلاك، يطابقه نظام اجتماعي، وتنظيم للأسرة والطبقات، وبعبارة موجزة، كان لديك مجتمع مدني، يتفق وهذا الشكل... ومن العبث أن نضيف أن الناس غير أحرار في اختيار قواهم (الإنتاجية ) وهي الأساس الذي يقوم عليه (تاريخهم ) كله، لأن كل قوة إنتاجية هي قوة مكتسبة، أي هي ثمرة فعل ونشاط سابق....
إن وسائل الإنتاج هي العامل المؤثر، وإليها -تحديدًا - تعود كافة التغيرات من اجتماعية وسياسية وتشريعية وفكرية. وفيها ينبغي البحث(1)(لا في أدمغة البشر، ولا في تحسن إدراك الإنسان للحق الأزلي وللعدل، بل في (أساليب الإنتاج) والتبادل، يجب أن يبحث عنها في اقتصاديات كل عصر، لا في فلسفته ).
وبقراءة هذا (النص ) يمكن أن يخرج القارئ بما يلي:
أ- إن المجتمع البشري، يرسم وجهته ويشكله النشاط الاقتصادي.
ب- ليس للإنسان حرية اختيار شكل مجتمعه، بل ذلك متروك لقوى الإنتاج، فهي وحدها تستطيع ذلك.
جـ- كافة الأنظمة الاجتماعية، ومنها الدين، ونظام الأسرة، ونظام الطبقات، والنظام المدني والسياسي، كلها لا يختارها الإنسان، وإنما تصوغها (قوى الإنتاج ).
د- قوى الإنتاج إله جديد جبار!!!
هـ- قوى الإنتاج لا يختارها الإنسان بنفسه، لأنه لا يملك ذلك، إذ هي ثمرة نشاط سابق. لكنه نشاط إنساني، فلم الهرب من ذلك؟
والسؤال: إذا كان الإنسان لا يملك وسائل الإنتاج ولا يختارها، فما دور الإنسان في رسم صورة مجتمعه؟ وما حريته في ذلك؟
يجيب (ماركس )(1): (في الإنتاج الاجتماعي، الذي يزاوله الناس، نراهم يقيمون علاقات محدودة، لا غنى عنها، وهي مستقلة عن إراداتهم، وعلاقات الإنتاج هنا تطابق مرحلة محددة من تطور قواهم المادية في الإنتاج، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية، والتي تطابقها أشكال محددة من الشعور الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية، يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والروحية في الحياة، وليس شعورهم هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هو الذي يعين شعورهم.. ).
ألا تشبه هذه العلاقات (الجدلية ) علاقة البيضة والدجاجة، وأيهما الأصل، وأيهما الفرع؟ إذا كانت (وسائل الإنتاج ) هي التي تصوغ نظم المجتمع كافة ومنها (الدين )، فكيف نفسر وجود أكثر من دين في كل بلد، بل داخل الأسرة الواحدة؟
في الهند وحدها يوجد أكثر من ثلاثمائة دين، وإله الخير في الشمال، هو إله الشر في الجنوب -كما تقول إحصائية لهيئة الأمم- ووسائل الإنتاج واحدة؟
أليس من الأنسب أن نقول بأن العامل الاقتصادي مهم جدًا في التحضر، دون أن نجعل منه إلهًا، يملي على البشر ما يريد، في جبرية مطلقة لا مثيل لها؟
رابعًا: العوامل الاجتماعية غير الاقتصادية:
إذا جرى التركيز على العامل الاقتصادي -كما فعلت الماركسية- فهناك من يرى أن العوامل الاجتماعية -غير الاقتصادية- هي الأجدر بالعناية في فهم التاريخ ومعرفة خط سير التحضر.. وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من جعل النزعة الإنسانية في إثبات الذات والسيطرة هي الأصل، معتبرًا (تنازع البقاء ) هو المحرك للتاريخ، والصانع لأحداثه، مرتكزًا إلى آراء (دارون ) بهذا الخصوص.
ثم قام فريق ليعكس الأمر، وليركز على توجه البشر للتعاون، خصوصًا وأن المواصلات والاتصالات، تجاوزت البعد المكاني، بينما كان العالم قديمًا يبدو كجزر في محيط كبير، يحيط بها الماء من كل مكان، ويفصلها عن غيرها.
ويجادل بعضهم قائلاً: حين مات نابليون في منفاه، لم تعلم فرنسا بموته إلا بعد ستة أشهر، واليوم لا يقع حدث في مكان حتى نسمع به ونرى صورته في ساعات. ويمكن أن يضاف أن (العولمة ) في بعدها، ستكسر الحدود، وتجعل العالم قرية واحدة، يؤثر فيه ويتأثر كل من فيه.
خامسًا: عامل العقيدة:
إذا أمكن إقناع إنسان بعقيدة ما، فإنه سينزل عند متطلباتها، دون معارضة قوية، من هنا يعتبر (البعض ) عامل العقيدة مهمًا وفاعلاً في التحضر، لأن الإنسان يتأثر تأثيرًا كبيرًا بدينه ومعتقده.
وحين فاخر أهل قريش بخدماتهم للحجاج، رد الله عليهم ذلك بأنه أمر لا يمكن مقارنته بصحة وسلامة الاعتقاد، فقال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم } (التوبة:19-20).
فتغير عقيدة الإنسان يعقبه تغير تام في نظرته للحياة وسلوكه كذلك، من هنا لا يجادل أحد في عامل العقيدة، وأمتنا العربية خير دليل، فقد انتقلت من الانقسام إلى الوحدة، ومن حرب (داحس والغبراء ) إلى مصارعة أكبر إمبراطوريتين (الفارسية والبيزنطية )، ولو بقيت على إيمانها بالأصنام لعاشت خارج التاريخ، كما تعيش أمم كثيرة.
وفي هذا الميدان وجدت الناقد البريطاني (كولن ولسن ) يقول(1): إن الإنسان ليس كاملاً بدون دين، فإذا أريد للحياة أن تتقدم خطوات أسمى من (القرد)، ومن الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق تطوير قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال يتمثل في (الشهية الدينية). إن الدين مقياس البطولة، ورمز حاجة الإنسان في الكفاح من أجل الفهم، وفشل الدين والحروب العالمية أمران متلازمان. ثم يصف (الدين) بأنه العمود الفقري للحضارة، معتبرًا الحضارة السليمة، ما كانت تؤمن بالدين.
العقيدة أو الدين هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، وكافة الحضارات والإمبراطوريات كان لها دين تعتز به، وتستمد التشريع منه، وتاريخ الإنسان خير دليل. ولم يكن (الإلحاد ) معتقدًا رسميًا، إلا في العصر الحاضر.
الفيلسوف البريطاني (برناردشو ) يذهب بعيدًا، فيقول(1): (كنت أعرف دائمًا أن (الحضارة) تحتاج إلى دين، كما أن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك ).
ثم يزيد قائلاً(2):( إن الحضارة تسقط في اللحظة التي تكون قوة الإنسان أشد وأكبر من قوة الدين ).
قيمة العقيدة أنها منظم وضابط لسلوك الإنسان، فإذا (انفلت ) الإنسان، بحيث لم يعد يضبطه دين ولا عقيدة، فسوف يفعل ما يحلو له، ومن هنا قد يتحول إلى عنصر هدم وفساد.. فالانضباط الديني، يشكل صمام أمان، لا تفرط فيه أمة عاقلة.
لكن من الحق أن نقول: إن العقائد لا تعمل بنفسها، ولو عملت بنفسها، لوجدنا أتباع المعتقد الواحد على حالة واحدة، وحضارة متقاربة، وهذا ما لا نجده، فالإنكليز والألمان والأمريكان، نصارى بروتستانت، وكثير من الأفارقة، وكذلك نصارى الهند وسيرلانكا مثلاً، فهل جعلت العقيدة الواحدة جماهيرها في مستوى واحد؟
ويهود الفلاشا ويهود اليمن وأمريكا، هل جعلت العقيدة الواحدة منهم جميعًا على مستوى حضاري واحد؟
إن العقيدة تعمل من خلال الإنسان وثقافته، وهو قد يجعل منها قوة دافعة محركة، أو باردة لا حياة فيها، وذلك بحسب وعيه وموقعه الحضاري، وثقافته، وحسن إدراكه.
مرة أخرى، العقيدة عامل مهم كبير، متى كان صاحبها فاعلاً واعيًا، وهي ذات أثر ضعيف جدًا حين تكون خاملة، أو يكون صاحبها متخلفًا.
لكنها يمكن عدها من أقوى العوامل المؤثرة، إذا أحسن تحريك الإنسان من خلالها.
ويمكن أن أشير إلى ثلاث مراحل متميزة، في حياة أمتنا:
أ- حالها قبل انتشار الإسلام.(9/239)
ب- حالها في القرون الأولى لانتشار الإسلام، وصدق الالتزام به.
جـ- حالها بعد التكاسل في الالتزام بالإسلام.
سادسًا: عامل المعرفة:
لا يجادل أحد في قيمة العلم والمعرفة في تحضر الأمة، وخروجها من دائرة التخلف والسقوط.
من هنا وجدنا من يعد هذا العامل كمحرك وموجه للحضارة -وقد تقدم- أن عمارة الأرض تقوم أساسًا على العلم والمعرفة، بل على آخر ما توصلت إليه العلوم والمعارف، ولكن (العلم والمعرفة ) هما دومًا من نصيب القلة في الشعوب، أما الجمهور فاكتسابه للعلم والمعرفة ومثلها الفلسفة، يقل كثيراً .
وهذه الهند والصين، وعدد شعوبها يصل إلى مليارين، أين نجد نصيب ذلك في شعبيهما؟ لا شك إنه في النخب القليلة جدًا، هذه واحدة.
وأما الثانية، فقد وجدنا معرفة (نظرية )، لم تعرف طريقها للحياة، فالمسلمون عرفوا الدورة الدموية، ومثلها كروية الأرض وحركتها، وابن خلدون كشف الكثير من قواعد علم (العمران )، لكن لم يستفد أحد من ذلك.. ورجال الفلسفة وعلم الكلام كانوا يناقشون: هل تنقسم المادة إلى ما له نهاية، أم إلى ما لا نهاية له؟ ثم وقفوا عند ذلك ولم يتعدوه. قد يقول إنسان: هذا ما تسمح به ثقافة ذلك الزمان، لكني أجيب أن المسلمين زمن (المأمون) مثلاً درسوا الفلك، كما درسوا محيط الأرض وحركتها، والغلاف الجوي وارتفاعه، ووصلوا إلى نتائج محترمة، لكنهم في ميادين أخرى بقوا يدورون في دائرة الفكر النظري ولم يتجاوزوه .
وحين وصل الناس إلى أمريكا، رفض اليهود ذلك كليًا، بحجة أن المعارف عندهم ترفض وجود قارة جديدة. كما رفضت الكنيسة الكاثوليكية وجود الجراثيم، وغيرها كثير.
إن العلوم والمعارف كانت دائمًا من نصيب نخبة قليلة، لكنها اليوم تتسع دائرتها يومًا بعد يوم، ولن يجادل أحد في قيمة هذا العامل في التحضر، والخروج من دائرة التخلف.
سابعًا: من يصنع التحضر.. الفرد أم المجتمع؟
لا خلاف أن التحضر صناعة إنسانية، والسؤال من يصنع ذلك، الفرد المبدع أم المجتمع؟
قضية قديمة، فهناك من يعتقد أن الفرد المبدع، ومنهم القادة العظام هم الذين يصوغون التحضر، ويصنعون التاريخ، ويتركون بصماتهم عليه، وهناك من يرى أن المجتمع هو من يصنع ذلك كله، ولولاه لما عرفت البشرية طريقها للتحضر.
الغرب يؤمن بالفرد وجهوده، لذا نراه يترجم لهؤلاء الكبار، كما يوصي بأن التحضر كان أولاً وأخيرًا من صنع عبقريتهم، وقوة إبداعهم، ولولاهم لما عرفت البشرية التحضر، ولبقيت حيث هي.
وهذا (أنشتاين) يقول بوضوح(1): (إن جميع الخيرات المادية والعقلية والأخلاقية -على مر العصور- كان مصدرها الأفراد الخلاقون... ).. وربما كان (توماس كاريل ) الأكثر حماسًا، فهو يكرر دون ملل دور الأبطال، وعبادة البطولة(2).
وهناك من يذهب في الاتجاه المعاكس، فيرى الفاعلية للجماهير، فهي صاحبة الأثر الأعظم في التحضر، وكذلك في التغيير.
فالماركسية مثلاً، تنكر أي دور للفرد، وقد نقل عن (ماركس) أغرب تعريف للفرد إذ يقول(3): (الفرد مجموع علاقاته الاجتماعية )، ويشرح ذلك فيقول(4): (ونضيف إلى هذا أن الفرد -تاريخيًا- لا يعني نفسه أبدًا إلا في إطار حضارة، أي في قلب جماعة ).
من هذه المنطلقات رأينا الغرب يؤله الفرد، ويعتبره الكل في الكل، بينما تعتبر الماركسية المجتمع هو كل شيء، ولا قيمة للفرد، إلا باعتباره ذرة صغيرة في مجتمع كبير.
وفي الإسلام موازنة بين الفرد والمجتمع، فلا يؤله الفرد، ولا يذوب ويختفي في المجتمع، فالفرد كائن مستقل، إلا أنه يعيش ويموت في المجتمع. وقد تحدث القرآن عن فرعون القائد، وهامان الوزير وجنودهم: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } (القصص:28).
فلم ينسب ما حصل للقيادة وحدها، أو للجنود وحدهم، بل جمع الكل.
وقد درس المؤرخ البريطاني المسألة، فرفض التوجهين معًا فقال(1): إن المجتمع هو علاقة بين أفراده، وهذه العلاقة تقوم على اتفاق مجالات أعمالهم، اتفاقًا يجمعها على صعيد مشترك، هو ما نسميه بالمجتمع .
ويمثل لنظريته هذه بالفلاح، يبذر البذر في الحقل، فإذا نبت، تكون لكل بذرة جذور وساق وأوراق، وهي تأخذ نصيبها من الغذاء والهواء (مثل الفرد )، وهذا الحقل زرع من قبل فلاح، بهدف الحصول على حصاد متجانس (وهذا مثل المجتمع ). وهو مثال جيد، فكل نبتة في الحقل تمثل فردًا، وكل مافي الحقل يمثل المجتمع.
قضية أخيرة: البطل لا يعمل لوحده، وكذلك المبدع، وخير مثال لذلك (الجيش )، فهو قيادة وجنود، فالقائد يطبق خططه في جنوده، والجنود لا يستغنون عن قيادتهم، وكسب أي معركة يتطلب قيادة واعية مبدعة، وجنودًا مطيعين، يطبقون بدقة خطط قيادتهم، وهكذا يكون العمل، ما لم يكن فرديًا في التخطيط والتفنيذ.
ثامنًا: الحضارة والكائن العضوي(1):
هناك من يعتقد بأن الحضارة والمجتمعات الإنسانية كيانات (عضوية )، ومن هذا المنطلق يرون أن التبدل والتغير، نشوءًا واكتمالاً وزوالاً، تحكمه عوامل حتمية، كتلك التي تفعل في الكائنات العضوية. ويضربون مثلاً بالإنسان فهو يولد طفلاً، ثم يصير صبيًا فشابًا فرجلاً، ثم يشيخ ويهرم ويموت، والحضارة كذلك.
ولعل (أوزولد اشبنجلر ) أشهر المؤمنين بذلك، لكنه أحيانًا يعدل عن هذا التصور، فيشبه الحضارة بفصول السنة، ويرى ذلك من (الحتميات ) التي لا تشذ عنها حضارة، فهو يقول(2): (إن لكل حضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، يعقب ذلك صيف تنضج فيه، ثم خريف حيث يسودها التحليل العقلي، وشتاء تكون فيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتتحول إلى الاحتمالات المادية، والفتوحات الخارجية، وعندها تكون قد شارفت على الانحلال والانهيار ).
الحتمية واضحة جدًا، ولكن الحضارة -في أصلها- ليست كذلك، فهي خليط من ماديات وأفكار وعقائد وآداب وفنون، ومنشآت مادية، كل هذا الكم يجتمع في زمان ومكان، مكونًا حضارة معينة.
وهذا لا يشبه الإنسان أو الكائن العضوي المتماسك المترابط، والذي ما أن تؤثر على جزء فيه حتى يتأثر الباقي.
الحضارة قد تقع في أخطاء قاتلة، فتنجح في تجاوزها ومعالجتها، فتجدد حياتها وديمومتها، لكن الإنسان يعجز عن تجديد شبابه.
وبالجملة، فإن تصور الحضارة وكأنها كائن عضوي، أمر يصعب قبوله، وإن كان بعض مكوناتها يتأثر ببعض، فالعقيدة يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الآداب، لكن تأثيرها على الصناعة مثلاً، سيكون أقل.
بهذا الخصوص يمكن أن أذكر أن العرب حين باشروا الترجمة عن معارف اليونان، اختاروا الفلسفة والمنطق، لكنهم لم يترجموا الآداب اليونانية -مع جمالها- لأنها كانت وثنية، تعتقد بتعدد الآلهة، وهذا زهّد المسلمين بها، وجعلهم يتحاشون ترجمتها.
تاسعًا: الاجتياحات العسكرية:
الدول والنظم تسقطها وتقلبها الاجتياحات العسكرية، فهل تسقط الحضارة باجتياح عسكري، مثل حملات التتار، والمغول، والحملات الصليبية؟ ماذا كان سيحدث لو فتح العثمانيون أوروبا كلها؟(9/240)
ماذا سيكون تاريخ العرب والمنطقة، لو أن ثوار (الردة ) أسقطوا النظام الإسلامي، فلم تقم للإسلام دولة؟ للدكتور (أنور عبد الملك ) المصري الجنسية وأستاذ جامعي في اليابان، فكرة ملخصها(1): أن أوروبا صعدت وتقدمت، بينما اضمحلت المراكز الكبرى في المشرق، منذ القرن الخامس عشر، وحصل ذلك بسبب الغزو الأوروبي للشرق، ابتداء من الحروب الصليبية، وانتهاء بالاستعمار الغربي، وزرع إسرائيل كإسفين في قلب البلاد العربية. فأوروبا بغزوها الاستعماري حطمت مراكز القوة في المشرق، واستنزفتها اقتصاديًا، وكذلك اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، ولم تترك للمشرق حرية التحرك والنهوض.
لكن المؤرخ (توينبي ) يرفض ذلك، ويرى أن العجز عن صد الاعتداءات الخارجية، على كيان حضارة، ليس هو السبب في السقوط، ولكن ثمة انهيار سابق قد حصل في قلب الحضارة نفسها.. واستشهد لذلك بسقوط الإمبراطورية الرومانية.
فإذا انتقلنا فكريًا إلى العباسيين، قبل وصول التتار إليهم، سلمنا لنظرية توينبي، فحال العباسيين -دولة وحضارة-كانت في النزع الأخير، وكشف هجوم التتار ذلك فقط. ولما وصل هذا الزحف إلى مصر، صد الهجوم وانتهى الأمر.
والذي يظهر: كما أن الدولة تشيخ، وتستوفي مبررات وجودها، فلا يبقى لديها ما تعطيه، فكذلك الحضارة تشيخ، بعد أن تعطي كل ما لديها، فلا يبقى لديها ما تعطيه، وإذن فلا بد من إفساح الطريق لحضارة قادمة، أكثر قوة وشبابية، تبني على الموجود ، وتزيد في البناء، وتجدد في نظم الحياة. وحين تسير القافلة طويلاً، فكل من يتعب أو يمرض، يتحول -دون جدل- من أول القافلة إلى ذيلها ونهايتها، ومن قيادتها إلى مجرد تابع.. هذا هو القانون.
عاشرًا: فساد شبكة العلاقات:
المفكر الإسلامي (مالك بن نبي ) يرحمه الله، يطرح فكرة ملخصها: أن الحضارة تبقى وتعيش وتستمر ما دامت شبكة العلاقات الاجتماعية سليمة قوية، فإذا فسدت تدهورت الحضارة وسقطت.. يكرر هذه النظرية في جل كتبه.
ففي (ميلاد مجتمع ) كتب قائلاً(1): .. عندما يرتخي التوتر في خيوط (شبكة العلاقات)، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك، وبصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع (مريض) وأنه ماضٍ إلى نهايته .
أما إذا تفككت الشبكة نهائيًا، فذلك إيذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى، مدفونة في كتب التاريخ.
وقد تحين هذه النهاية، والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء، كما كان المجتمع الإسلامي في المشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي المغرب، في نهاية عصر الموحدين.
وربما كانت هذه الحالة -من التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي- حين أصبح عاجزًا عن أي نشاط مشترك، هي التي أشار إليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم(1): (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يارسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت ).
ومالك يرحمه الله يولي هذه القضية عناية كبيرة، شرحًا وتفصيلاً، فيقول(2): (... فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كليًا، فإن المرض يحتل جسده الاجتماعي، في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، للأسباب التي ذكرناها، كمًا وكيفًا، وهذه الحالة المرضية قد تستمر قليلاً أو كثيرًا قبل أن تبلغ نهايتها، في صورة انحلال تام، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي. بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات... ).
وللمؤرخ توينبي فكرة عن انحلال الحضارة، فبعد رفضه الاجتياح العسكري، يرى(1)أن انحلال الحضارة يزامنه فساد كبير، يدب في أرواح الناس، وتغير جذري يطرأ على سلوكهم ومشاعرهم وحياتهم كلها، فيحل مكان الصفات الجيدة، والقوى المبدعة، التي كانوا يتحلون بها، في دور النمو لحضارتهم، يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف العقيمة المتناقضة، وهنا ينكشف ويتعرى الفساد الروحي، كاشفًا عن فوضوية، تعم الأخلاق والعادات، وانحطاط يشمل الآداب والفنون، ثم قد تسعى (الأقلية المسيطرة ) إلى فرض فلسفة خاصة، أو دين جديد، مستعملة في ذلك القوة، ولكن دون جدوى ولا فائدة...
تصور جيد، ومن يطبق هذه النظرية على الحضارة الإسلامية في الأندلس، أو العباسية في المشرق، وحتى العثمانية، فسيجد الكثير من الشواهد على صحة هذه النظرية.
الحادي عشر: عامل الثقافة والفكر:
ثقافة كل أمة هو رأسمالها الكبير، من هنا لا نجد أمة دون ثقافة وفكر، لكن قد نجدها بدون حضارة، وفي عالمنا المعاصر، نجد ملايين من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لهم ثقافتهم وفكرهم، لكنهم يعيشون خارج (فضاء ) الحضارة، وإن استعملوا واستهلكوا بعض منتجاتها(1).
1- أعتبر ما تقدم مسلمة، لا تحتاج لجدل كبير، كما أعتبرها القضية الأولى.
2- الثقافة تصنع الولاء أولاً، وتمنحه طواعية، دون إكراه.
3- الثقافة تموت أو تذبل، ومثلها الفكر، إذا حصل انفصال بين الوعي والواقع.
4- هناك قوانين في الحياة، يصعب تجاوزها أو تجاهلها، فالاستبداد في الحكم يفضي عادة إلى تخلف العقل، والتخلف يؤدي إلى تخلف التربية، وتخلف التربية يقود إلى نقد التراث الديني، وهكذا يحصل دوران في حلقة مفرغة، إذ يجري التنقل من المشاكل الثقافية إلى السياسية إلى التاريخية، دون حسم مشكلة من هذه المشاكل.
5- العالم -قديمه وحديثه- يشهد صراعات ثقافية، وغير ثقافية، فإذا وُجِد تدفق ثقافي أو (قصف إعلامي)، وعلى أكثر من جبهة، وعجزت الثقافة المحلية عن المقاومة والاستيعاب، فهنا احتمالان:
أ- أن تتفكك الثقافة الأضعف.
ب- أن تعدل من آلياتها، وتكيف نفسها.
6- كل ثقافة وفكر لا بد له من (مرجعية )، فالعقل البشري يصعب عليه العمل دون مرجعية، تمنحه أسسًا كي يستند إليها، وإلا حصل انقسام، وتحولت الأمة إلى أمم.
7- هل يمكن حل كافة الثقافات، ودمجها في ثقافة واحدة؟
إن التاريخ لم يسجل أن أمة تخلت عن ثقافتها كليًا، واندمجت في ثقافة غيرها، إلا إذا غيرت دينها وكافة معتقداتها، وغيرت لغتها.
8- مهمة الإنسان المثقف العمل لحل مشاكل أمته، فإن تحول إلى مجرد (سمسار ) لثقافة أخرى، فهو يخون بلده وأمته، كما يخون أمانة العلم والثقافة.
إن بعض مثقفي العالم الثالث، اتخذ من العلم والثقافة سلمًا لتحسين وضعه، والحيازة على أكبر قدر من المغانم، متحالفًا مع السلطة، مانحًا ظهره لشعبه وأمته.
9- سلوك الإنسان يجري منبثقًا عن فكر وثقافة، والأمة تقيم حضارة كثمرة لعقيدة وثقافة، وكلما كانت العقيدة والثقافة حية، كان التحضر أسرع وأنجز، فإذا تحول الفكر إلى مجرد أحلام، وصارت الثقافة مجرد عرف أو صف كلام، فإن العد التنازلي للحضارة يبدأ ويستمر، حتى تسقط الحضارة، أو تتحول إلى جسد لا روح فيه.
10- يقول (فرانك أنلو )(1) (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعًا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك ).
إذا كان هذا يصدق على الفرد، فهو يصدق على الأمة، فالتاريخ لم يسجل نهضة ولا تحضرًا جاء صدفة، دون تخطيط وتصميم، وعمل جاد، يشارك فيه الحاكم والمحكوم على حد سواء.(9/241)
11- المقصود بالثقافة والفكر: تكوين رؤية شاملة للحياة والوجود والهدف من ذلك، لأن التحضر سلوك جماعي، يتجمع في وحدة ثقافية جامعة، تدفع بالأفراد نحو محصلة مشتركة في العمران المعنوي والمادي، وكل هذا يتطلب نوعًا من التجانس يمكن تسميته بـ (الإجماع الثقافي )، وهو ما توفره في العادة العقيدة الواحدة، أما الإجماع السياسي، فتوفره قيادة (كارزمية )، ذات مواصفات عالية، وأهداف سياسية مشتركة.
ويمكن أن أقول: إن الأفكار هي (وقود ) التحضر، وبدونها يصعب قيام تحضر مفيد.
12- الثقافة والفكر قد تكون دينية، متأتية من مصدر سماوي غيبي، حقيقي أو أسطوري، أو فكر بشري، وهنا سنجد أن (الدين ) هو الأكثر دوامًا والأقوى، لذا وجدنا الحضارات الكبرى كلها كانت تقوم في أساسها على (دين )، أو متطورة عنه، فإن لم تكن كذلك فربما سقطت الحضارة، ومثلها الدولة، دون عدوان خارجي -كما سقط الاتحاد السوفياتي- وفي مدة قصيرة نسبيًا.
وأخيرًا، الثقافة والفكر مقدمة أو شرط للتحضر، لكن ليس كل ثقافة أو فكر بإمكانها أن تنتج حضارة، إلا أنه لا حضارة بدون ثقافة أو فكر، وأمثل لذلك بأن صحة الصلاة تتوقف على وجود طهارة (وضوء ) سابق، ولكن ليس كل من يتوضأ يصلي.. ويحلو لي أن أذكر (طلبتي ) بأن نهر الحياة يجري، وعلى جانبه الحضارة، وعلى الجانب الآخر الفكر والثقافة، ويربط بين الضفتين قنطرة هي (القيم ).
الثاني عشر: الدافع الحضاري:
قد تتوفر للإنسان إمكانات كبيرة، لكنه لا يتحرك ولا يستغل هذه الإمكانات، وقد تكون الفرص قليلة، والإمكانات كذلك، ولكن قوة في نفس الإنسان تدفعه للعمل والتشبث، وقل مثل هذا في الشعوب والأمم، وقد توهم بعضهم فقال: إن التحضر هو من نصيب شعوب بعينها، وثمة شعوب أخرى غير مستعدة لذلك، وإن وافتها الفرص، إلا أن التاريخ يشهد بغير ذلك، فكل من واتته فرصة اهتبلها وأقام حضارة.
وما يصدق على الأفراد، يصدق على الشعوب والأمم، وهذه اليابان، قد تجاوزت شح البلاد، وقلة الخيرات، لأنها كانت مصممة على صعود سلم التحضر، وبأسرع وقت ممكن، بينما نجد بلادًا فيها الكثير الكثير من الخيرات، وهي تراوح مكانها، أو تسير ولكن إلى الخلف، وإلى مؤخرة القافلة.
إن الأفكار حين تحل في النفوس حلولاً إيمانيًا، يكون حلولها دافعًا نفسياً قويًا للتحضر، والتغلب على المصاعب.
إن الأفكار قد تسيطر على نفوس أصحابها، فتدفع بهم إلى العمل الموحد، مع شيء من إنكار الذات، والزهد في المغنم.
وهنا أتذكر ما يكرره (مالك بن نبي ) يرحمه الله من أن الحضارة تبدأ روحية نشطة، يعمل أصحابها بجد وإخلاص، ونكران ذات، فتحقق إنجازات كبيرة، ثم يعقب ذلك مرحلة عقلانية، تفلسف المرحلة السابقة، يلي ذلك مرحلة ثالثة، تثور فيها الغرائز، فتتفسخ الحضارة وتسقط(1).
وهذا التوصيف ينطبق انطباقًا عاليًا على الحضارة الإسلامية.
وإذا نظرنا لرواد الحضارة الغربية، وجدناهم في منتهى الجد والتفاني، فإذا نظرنا اليوم إلى مجتمعات (الإنشورنس )(1)نجدها تفتقد كل تلك الصفات الجيدة.
إن همها الأول اليوم أن تكسب، ولو بالتهرب من العمل، للحصول على (الضمان ).. وفضائح الفساد تتوالى، من الكبار والصغار معًا، لقد ذهب الرواد، وذهبت معهم التضحيات، ونكران الذات.
وكل حضارة تعرف جيدًا الفرق الكبير بين الرواد المؤسسين وذلك النفر البائس المتكاسل، الذي يشهد سقوط الحضارة، وفي الأندلس عبرة لكل معتبر.
دخلناها بـ (000،12) مقاتل، وحكمناها قرونًا، وأقمنا أروع حضارة، وخسرناها ونحن أكثر من أربعة ملايين مأزوم مهزوم، فلم تضرنا القلة، ولا رفعت عنا الكارثة الكثرة، لقد صرنا (غثاء )، والسيل متى جاء حمل معه ما خف وزنه، وقل نفعه، أما النافع فيبقى في أرضه، ولا يفلح السيل في جرفه.
وأوجه للقارئ الكريم سؤالاً: هل يزعجك ويغضبك تخلف أمتك، وهل لديك مشروع للتحضر والنهوض؟ أم شعارك: نفسي نفسي، ثم ليكن الطوفان؟!
الثالث عشر: البيئة الطبيعية:
الحضارة تقوم في أمة وأرض.. أما الأمة، فإذا كانت مغلوبة على أمرها متخلفة، وكانت الأمية من نصيب أغلب شعبها، والفقر يضربها بسيوفه، والأمراض تستوطنها بشكل دائم، مرة تموت عطشًا، ومرة تدمر مدنها وقراها الفيضانات، فهذه الأمة لن تفكر بالتحضر، وإن فكرت فعلى حد قول الشاعر:
أتمنى أن أراه حُلمًا والتمني رأسمال المفلس
فلا بد أن يكون للأمة (كفاية ) حتى تفكر في التحضر.
ولا بد أن تكون الأرض سخية ولو إلى حد، ولذا فقد جعل توينبي للتحضر شرطين، بعد أن ربط التحضر بوجود (تحد ٍ)، لا يكون قويًا فيُقعد الإنسان، ولا سهلاً فلا يثيره، ويضرب لنظريته أمثلة من كلا النوعين(1).
فيمثل للتحدي الصعب بالصحراء وبلاد الإسكيمو، ففي الصحراء حيث الحرارة العالية والمياه الشحيحة، يصعب إقامة حضارة، أو نجاح مشروع حضاري، على نطاق واسع، ومثل ذلك بلاد (الأسكيمو ) حيث يصارع الإنسان البرد من أجل أن لا يفتك به، لذا فلن يفكر بمشروع حضاري وهو يصارع من أجل البقاء حيًا.
أما التحدي السهل، فيمثل له بالمناطق الاستوائية، حيث الجو المعتدل، والشمس المشرقة، والأمطار الغزيرة، فلا يخاف الإنسان الموت جوعًا أو عطشًا أو بردًا.
إن الإنسان صانع الحضارة، لكنه يحتاج للعوامل التي تعينه وتساعده، من البشر والطبيعة. ونحن نرى اليوم أممًا تجاهد للتغلب على العوائق، فهناك تحلية مياه البحر، واستخراج المياه الجوفية، والزراعة في بيوت محمية، وتحسين المنتوجات الحيوانية والنباتية، وإقامة السدود لجمع المياه، وتسميد الأراضي الزراعية لمضاعفة المنتوج، هذا في الحقل الزراعي، وفي الحقل الصناعي حصل تقدم أكبر، مما جعل التحكم في البيئة أفضل من قبل، وإن كان لكل شيء ثمن.
وأختم ما تقدم بقول (ديورانت )(1): إن العوامل الجغرافية، على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقًا، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيء سبل ازدهارها.
إن الأرض لا تضيق بأهلها، ولكن النفوس الشحيحة (الكزة )، هي التي تضيق. وأحب أن أكرر مع الشاعر:
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا
الأغنياء ونسبتهم في العالم عشرة بالمائة، يسيطرون من خيرات العالم على تسعين بالمائة، ولا يعفون عن سرقة ونهب الفقراء، فيزداد الأغنياء غنى، ويزداد الفقراء فقرًا.
الفقير بحاجة إلى محراث وحاصدة وجرار، ودواء، وطعام، وماء نقي، لكن الغني يفضل أن يبيعه دبابة وصواريخ، أو أدوات زينة وتجميل، أو سيارات فخمة، أو مشروبات غازية، فكيف نحل هذه المعادلة؟.
===========
حركة التحضر ومساراتها
التحضر مستمر، والتاريخ يتحرك، ولكن في أي اتجاه؟
هناك خمس مدارس تتوزع الموضوع:
أ- التقدم الصاعد.
ب- التأخر والنكوص.
جـ- دورات الحضارة
د- عدم التزام خط واحد.
هـ - الانقطاع التاريخي.
وسأحاول بحث كل اتجاه، بالحدود التي تسمح بها طبيعة البحث.
أولاً: التقدم الصاعد:
لعل أقدم من آمن بذلك بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء بعدهم كل من بيكون وديكارت، فتبنوها.
وقد راجت الفكرة في أواخر القرن (17)، حيث قام جدل كبير بين أنصار القديم والحديث، فراح أنصار (الحديث ) دفاعًا عن موقفهم يرددون: أن أنصار القديم يقعون في وهم حين يقولون بأن من سبقهم كانوا أرجح عقلاً، بينما الإنسان كلما كبر ازداد حكمة ونضجًا وأصالة، وكذلك الإنسانية، فهي تسير دومًا نحو (التقدم )، وإذا كان للقديم فضل السبق، فإن اللاحق له فضل الكمال.(9/242)
ابتدأت الفكرة (بالأدب )، إلا أنها ما لبثت أن تحولت إلى السياسة، وعلم الاجتماع، والفنون والفلسفة والتاريخ.
هذا التوجه هو الذي مهد وروج لفكرة (التطور )، والتي آمن بها (هيغل )، وعنه أخذها (ماركس وأنجلز ).
وقد منحت التطورات العلمية دفعة قوية لهذا التوجه، فقد استقر في النفوس أن (العلم ) سيحل جميع المشاكل، حتى لا يبقى في الحياة سر، ونادى البعض أن كل مشكلة لها في العلم حل، وإلا فهي مشكلة زائفة وميتافيزيقية.
وقد واجهت الفكرة الكثير من النقد والتجريح، بعضه يتعلق بالمنهج، والآخر يتعلق بالقيم، التي صدر عنها المؤمنون بها.
كذلك يلاحظ أنهم نقدوا مثلاً (العصور الوسطى ) وفق معايير حديثة معاصرة، ابتدأوا حملتهم أولاً على رجال الكنيسة، لكن سرعان ما تجاوزوا ذلك للهجوم على الدين نفسه، نافين أن يكون له دور في الحضارة، تكوينًا وتقدمًا.
المهم أن البداية كانت من (الأدب )، لتنتقل منه إلى سائر العلوم والمعارف، كما بدأت بنقد رجال الكنيسة، لتنتهي بالدين ذاته.
والإنسان يتمنى من كل قلبه أن تكون حركة التحضر تسير قدمًا، ولكن الحضارة ليست جسمًا عضويًا، إما أن يتقدم كله، أو يتأخر كله، فهي خليط من معارف وعقائد وتشريعات وآداب وفنون، ومنشآت مادية، يجمعها وعاء زماني مكاني، لذا ليس شرطًا أن تسير بخط واحد، فقد تتقدم الآداب مثلاً دون التشريع، وقد تتقدم بعض العلوم دون بعض، فالقول بأن حركة الحضارة تسير وفق خط واحد، وباتجاه واحد، يصعب قبوله، لأن الشواهد لا تساعد على ذلك. والحياة والكون ما يزالان مملوءان بالأسرار، والعلم لم يكشف الكثير من أسرارها، والحماس للعلم قد خف، ولم يكن كالقرون التي مضت، وقد صار العلماء أكثر تواضعًا، وأقل ادعاء.
ثانيًا: حركة النكوص:
المؤمنون بهذا التوجه يشعرون بغلبة الشرور، وتدهور القيم الأخلاقية، وكذلك الجمالية، وفوق ذلك وبعده، الحروب المدمرة، وضياع السلام والاستقرار، وشيوع الفساد والإرهاب، والتكالب على المادة، ويساهم في هذا الاتجاه علماء الدين، ويشاركهم بعض العلماء، الذين يتذمرون من عجز الإنسانية عن التقدم الحقيقي، فهذا (جيته ) الألماني يقول(1): لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعيًا، ولكنه لم يصبح أكثر سعادة، أو أنبل خلقًا). وهي حقيقة موجعة مؤلمة .
أما (توينبي ) فقد تصور أن العالم عقد صفقة مقايضة غريبة، فقال(2): (لقد أغرت فنون الصناعة ضحايا، وجعلتهم يسلمون قياد أنفسهم، وذلك ببيعها المصابيح الجديدة لهم، مقابل المصابيح القديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم، وأخذوا بدلاً عنها (السينما والراديو) ، وكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري، الذي سببته تلك الصفقة، اقفرارًا روحيًا، وصفه أفلاطون بأنه (مجتمع خنازير). هذه الصفقة لم يسلم منها بلد، كما يبدو.
أما (أدوارد كربنتر ) فيعتبر (المدنية ) مرض جميع الأجناس(3). وقد كان الفيلسوف (برنارد شو ) يسخر من المدنية وتقدمها، بل يعلن أن البشرية ستعود إلى وثنية وبدائية يومًا ما، ولا يتوقع أن تحقق الإنسانية تقدمًا أكثر مما عرفت(4).
إن فكرة (التقدم ) لدى أصحاب (النكوص )، تبدو كوهم كاذب، وهم يستعملون مصطلحات (مبهمة ) مثل سيطرة العقل، وحرية الشعوب، والسيطرة على الطبيعة، والسلام الدائم، وهم يتصورون أن البشرية تسير نحو غاية معلومة، ولم يكن ذلك عن طريق البرهان العلمي، ولكن عن طريق الأماني، ومن هنا راحوا يخترعون المصطلحات، وكأنها شيء حقيقي موجود، ولها كيان في الخارج(1).
ولعل خير من يعبر عن هذا الاتجاه (ألبرت شفيتز )، فهو يقول(2): الخاصية المروعة لحضارتنا أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدًا من تقدمها الروحي، وقد اختل توازنها، فجعلت اكتشافات قوى الطبيعة تحت تصرفنا، محدثة ثورة في العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الدول.. زادت معارفنا، فازدادت قوتنا، وصارت أحوالنا المعيشية أفضل، ولكن ممارستنا للتقدم والقوة جعلتنا نتصور الحضارة تصورًا ناقصًا معيبًا، فنحن نغالي في تقدير الإنجازات المادية، ولا نقدر العنصر الروحي حق قدره.
إن الحضارة التي تنمو ماديًا، ولا يواكب ذلك نمو متكافئ روحيًا، تكون كسفينة اختلت قيادتها، فزادت سرعتها، وأوشكت على كارثة. إن جوهر الحضارة لا يتحدد بإنجازاتها المادية فقط، بل باحتفاظ الأفراد بالمثل العليا لكمال الإنسان، وتحسين أحواله كلها، فإذا عمل الأفراد كقوى روحية مؤثرة على ذواتها، عندئذٍ يمكن حل المشاكل، والوصول إلى تقدم جدير بالتقدير من كل ناحية.
إن مصير الحضارة يتوقف على كون (الفكر ) يسيطر على الأحداث أو لا يسيطر.. والقدرة في أسباب الحياة بين الأفراد والشعوب، وهي تساير موكب التقدم في الماديات، تقتضي مطالب أسمى عند الجماعة المتحضرة، في اتجاه حضارة رفيعة. إن زيادة سرعة السفينة تتطلب -فيما تتطلب- زيادة المتانة في جهاز القيادة والتوجيه.
إن الإنجازات المادية للحضارة تجعل الناس غير أحرار، ففلاح الأمس صار مجرد أجير في مصنع، والعمال اليدويون والتجار المستقلون صاروا مجرد مستخدمين، وهكذا يفقدون الحرية، التي كان يتمتع بها الإنسان، الذي يملك منزله، ويتصل مباشرة بالأرض.
إن التقدم الخارجي للحضارة، يوصل إلى هذه النتيجة: إن الأفراد رغم حصولهم على مزايا، يضارون من نواحي مادية وروحية في طاقاتهم، فالإنجازات المادية لا تصبح حضارة، إلا بمقدار ما تستطيع عقلية الشعوب المتمدنة أن توجهها وجهة (كمال الفرد والجماعة ).
لقد تزعزع تركيب العالم والحياة عندنا، فلم يعد الرجل العصري يشعر بدافع قوي للتفكير في المثل العليا للتقدم، بل قد كيّف نفسه، إلى حد بعيد، مع النزعة الواقعية.
إنه أكثر استسلامًا مما يعترف، لكنه يتشاءم، ولم يعد يؤمن بأن التقدم الروحي والأخلاقي هو العنصر الجوهري في الحضارة، وهذا سببه نظرتنا الكونية منذ القرن التاسع عشر(1).
وبودي أن أضيف ملاحظة ذكية للناقد البريطاني (كولن ولسون )(1)(فهو يرى أن حضارة اليوم فيها (صخب شديد)، فلا تدع مجالاً للدعة والتأمل، وهكذا يبدأ الإنسان بفقدان السكينة الداخلية، كما يفقد الهدف الجيد، الذي يجعله أكثر وأكبر من مجرد (خنزير) يحمل كفاءة ). .
وأحسب أن وجود الصخب وفقدان السكينة مما لا جدال فيه.
وأختم بقول الشرقاوي(2): (إن الباحث المنصف لا يملك القول بتحديد مسار معين للحضارات، تقدمًا صاعدًا، أو نكوصًا هابطًا، إذ أن كل حضارة يعرض لها هذا وذاك، فلا يدل ماضيها على مستقبلها، ولا تبشر سيطرتها العقلية على الطبيعة، ضرورة بتقدمها الشامل، في كل حال ).
ثالثاً: دورات التحضر:
هناك من يعتقد أن الحضارة لها دورة، بعضهم مثل ابن خلدون يتصورها مغلقة، وغيره يراها مفتوحة.. البعض يتصورها كطالع الجبل، بينما يرى آخرون أنها أشبه ما تكون بعجلة تدور حول محور ثابت، بينما يتصورها آخرون أشبه ما تكون بعملية نسج القماش والسجاد.. ولأن كل صورة لها من يؤمن بها، لذا سأستعرض بعض هذه الرموز، والطريقة التي يرون بها حركة التحضر. أبدأ بابن خلدون، وفيكو، واشبنجلر، وتوينبي، وأختم بمالك بن نبي.
1- عبد الرحمن بن خلدون:
سأقتصر هنا على رأيه في دورة الحضارة أو التحضر فقط، ثم أعود لدراسته فيما بعد.(9/243)
يرى ابن خلدون أن دورة الحضارة تبتدئ بالبداوة، يعقب ذلك التحضر ثم الترف فالتدهور(1).. وهو يرى أن البداوة تتسم بالخشونة، وتظهر في أهلها الشجاعة والنجدة والبسالة، كما يظهر فيهم الترابط والعصبية، بعد ذلك يأتي دور التحضر والترقي، حتى يسقط الناس في الترف الذي يقود إلى التدهور والسقوط.
ثم نقل الفكرة إلى رئاسة الدولة، فجعلها في أربعة أجيال: باني الدولة، ثم ابنه المقلد لأبيه، ثم الثالث الذي يكون مقتفيًا ومقلداً لمن تقدمه، ثم الرابع المقصر عنهم والمضيع لصفاتهم، ثم تسقط الدولة.
كما حاول أن يرسم ذلك في القبائل والإمارات، وكافة أهل العصبيات(2). ويعتقد ابن خلدون بأن الحضارة هي غاية العمران، وهي من جهة ثانية نهايته، وكل حضارة تصل إلى هذ الحلقة، فإنها لا تلبث أن تبدأ دورة جديدة، لتنتهي بالبداوة، وهكذا.
2- فيكو(1):
عالم اجتماع وتاريخ عاش في إيطاليا في أواخر القرن السابع عشر.. يعتقد (فيكو ) أن المجتمعات البشرية تمر عادة بمراحل معينة من (النمو والتطور والفناء )، فالناس ينتقلون عادة من البربرية إلى المدنية بفضل (العناية الإلهية )، التي تشمل الوجود برعايتها.. والحضارة تقوم على نوع من التناسق بين مكوناتها، فإذا ساد اتجاه فني معين مثلاً، أو مذهب ديني في مجتمع، فإنه تسود معه أنماط معينة من النظم السياسية والاقتصادية والتشريعية وغيرها.
كما يرى أن دورات التحضر يفضي بعضها إلى بعض، ثم تعود، وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، لأنه ليس للتاريخ (عجلة ) تدور حول نفسها، لذا لا يتمكن مفسر التاريخ من التنبؤ بالمستقبل. بل الحركة تكون بشكل (لولبي )، صاعدة متجددة، تشبه حركة (صاعد الجبل )، الذي يدور حوله، ثم يرتفع، حتى يصل إلى قمة الجبل، فكل دورة له تعلو سابقتها، كما تزداد اتساعًا وشمولاً.
وهكذا تمر المجتمعات بمراحل من التطور والنمو، لتنتهي بالبربرية، ثم لتبدأ من جديد دورة جديدة، أعلى من سابقتها، لتنتهي بالانحلال، وهكذا تتشابك حلقات الحركة، في صعود دائم.
وواضح أن (فيكو ) يؤمن بالتقدم والصعود، لكنه لا يتصوره مستقيمًا -كما يراه غيره- وفيكو يرى أن حركة التاريخ مرت بثلاث مراحل متميزة:
أ- مرحلة اللاهوت.
ب- مرحلة البطولة.
جـ- مرحلة الإنسانية.
والمرحلة التالية تكون أعلى من سابقتها، وهو يفيض في شرح هذه المراحل.. وواضح أن هذه المراحل ليست متعاقبة، بل قد تكون متداخلة، وقائمة في المجتمع الواحد.
ويشير أكثر من ناقد إلى تأثر (فيكو ) بالتوراة إلى حد كبير.
3- أزولد اشبنجلر:
صاحب كتاب (تدهور الحضارة )، وهو من المؤمنين بدورة الحضارة، مرة يشبهها بالإنسان في نموه حتى وفاته، ومرة يشبهها بالفصول الأربعة، ويذهب إلى حتمية (السقوط )، ومن هنا جاء الهجوم عليه، خصوصًا وهو يتنبأ بسقوط الحضارة الغربية.
يقول مترجم كتابه الأستاذ أحمد الشيباني(1): يرى اشبنجلر أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل هذه الروح الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية، كما تنفصل الصورة عما ليس بصورة...
ويرى أيضًا أن الحضارة تولد وتنمو في تربة بيئة يمكن تحديدها تحديدًا دقيقًا، وأن الحضارة، ككل كائن، لها (طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها )، وأنها تموت عندما تحقق روحها جميع إمكاناتها الباطنية، على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية، وفنون وعلوم ودول، وهي عندما تحقق ذلك، وتستنزف إمكانات روحها في تجسيد هذه الإمكانات، فإنها تتخشب، وتتحول إلى (مدنية )، وأخيرًا تتجاوز المدنية إلى الانحلال والفناء .
إنه يشبه الحضارة بالإنسان، تنتقل من طور لآخر حتى تشيخ، ثم يعود ليشبهها بفصول العام، فيقول(1): (للحضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، وصيفها الذي تنضج فيها، وخريفها الذي يسوده التحليل العقلي، وشتاؤها الذي تكون فيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتنصرف إلى الاهتمامات المادية، وإلى الفتوح الخارجية، ويكون هذا مقدمة لانحلالها وانهيارها ).
وقد هوجم (اشبنجلر ) على تصوراته هذه، وخصوصًا تشبيه الحضارة بالإنسان، لأن الحضارة قد تفلح في علاج ما يعترضها من مشاكل، فتطيل في عمرها، ولن يستطيع الإنسان ذلك.
وهو يقسم الحضارة إلى ثلاث حقب:
1- الدور السابق للحضارة.
2- دور الحضارة الفعالة، ويقسمه إلى: عهد متقدم، وآخر متأخر.
3- دور الحضارة المستنفذة، المؤدي إلى الانحلال.
وهذا التقسيم النظري سهل ميسور، لكن يصعب عند التطبيق.. فمتى تنتهي المرحلة الأولى مثلاً، ومتى تبدأ الثانية أو الثالثة؟
إن التداخل بين المراحل يمنع من ذلك.. وهذا النقد وُجِّه (لتوينبي ) أيضًا، حين راح يقسم المراحل كذلك.. أشياء كثيرة تبدو جميلة ورائعة نظريًا، وعند التطبيق تبدو ليس كذلك.
مما هوجم فيه أو عليه (اشبنجلر ) قوله: إن حضارة الغرب الحالية قد وصلت إلى دور الانحلال، وهي صائرة إليه (حتمًا )، وعلى أصحابها أن يجابهوا هذا المصير، بوعي وشجاعة(1).
ويرى (اشبنجلر ) أن كل حضارة ستمر بنفس الأدوار التي مرت بها غيرها، كما تظهر إبداعاتها في ذات الأوقات أيضًا.
إنه جزم يصعب قبوله، فبعض الحضارات استنفذت قرونًا حتى نضجت وأبدعت، بينما لم يحتج غيرها لكل ذلك.
كما أن القول بتجدد الدورات الحضارية، لا يستلزم ذات الوقت للإبداع والنضج، بل لا دليل على ذلك، ومن الغرائب أن (اشبنجلر ) لا يرى جدوى من دراسة مصادر الحضارات، والعوامل المؤثرة فيها، وفي تطورها، وحجته في ذلك أنه لا يمكن تفسير حضارة خارج نطاقها، والمتشابه من الحضارات لا يتجاوز (الصور والأوضاع والمظهر الخارجي فقط )(1).
لأن لكل حضارة شخصيتها المستقلة، كما لها لغتها الخاصة.
والسؤال: هل يمنع ذلك من دراسة العوامل المؤثرة، وتطور الحضارة؟
ومن آرائه أن الحضارات لا تنتهي، تقدم منها الكثير، وبقي مثل ذلك، وما الحضارة الغربية إلا واحدة، ولكن أهلها قد استغرقهم حب الذات فتوهموا أنها مركز لكل الحضارات(2).. ولو قالوا وارثة حضارات لما اعترض أحد.
ولعل من المفيد أن أنقل تصور (اشبنجلر ) للحضارة وتعريفه لها إذ يقول(3): (إنها انبعاث روحي لجماعة من الناس، يربطهم مفهوم متقارب للوجود، فينعكس ذلك على ألوان النشاط المختلف لديهم: في الفن والدين والفلسفة والسياسة والاقتصاد والحرب ).
4- أرنولد توينبي:
توينبي يعتقد بدورة الحضارة، لكنه يشبهها بدوران العجلة حول محور ثابت، فتتكرر العملية، وبفضل ذلك تسير العجلة -كما هو الحال في السيارة- وهو يرى أن للحضارة حركة شاملة، ناتجة عن حركة دورية جزئية. ويضرب أمثلة لهذا التناسق بين حركتين: حركة تقدمية كبرى، محمولة على أجنحة حركة صغرى متكررة، وهكذا تتكرر فصول السنة.
لكنه يختار مثالاً آخر، إذ يشبه حركة الحضارة بحركة (مكوك ) الناسج، فهو مستمر في الحركة ذهاباً وعودة، وعلى وتيرة واحدة، وبفضل ذلك يتم النسيج المطلوب، وهكذا تنسج الأيام نسيج التاريخ، من خلال تكرر الأحداث، تكرارًا مستمرًا.
وبذا يجمع توينبي بين حركتين: واحدة متجهة إلى غاية -أمامية أو خلفية- وحركة أخرى تدور حول نفسها، وتعود إلى ما كانت عليه (المكوك )(1).. إن توينبي مات في السبعينيات، ولذا فقد تحامى كل نقد موجه لأسلافه، مثل اشبنجلر، كما ابتلي بمعاداة الصهيونية، وربما أثر كل ذلك على صياغة أفكاره.
5- مالك بن نبي:
يعتقد مالك بن نبي أن حركة الحضارة أو التحضر، تكون بشكل دائري -مثل ابن خلدون واشبنجلر- تبتدئ روحية ثم عقلية، ثم تهيج الغرائز فتسقط الحضارة.(9/244)
يقول مالك يرحمه الله(1): ...والمراحل الثلاث في هذه الدورة، تعبر عن الأدوار الثلاثة، التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، حيث تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)، ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي .
والمرحلة التالية هي التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل ) بخاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية .
أما المرحلة الثالثة، فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز ) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً، ضاربًا بأطنابه في أغوار الفوضى والاضطراب، وهو مانجده في حالة المجتمع الإسلامي بالأندلس، في العصر المشؤوم، المسمى بعصر ملوك الطوائف .
هذا الطرح يشاركه فيه بعض مفكري الغرب أيضًا، لكنه يبدو منتزعًا من الحضارة الإسلامية في الأندلس والمشرق، كما أن التداخل في المراحل قائم.
رابعًا: عدم التزام حركة التحضر خطًا معينًا:
هؤلاء لا يرون في حركة التحضر سنة ظاهرة، ولا شكلاً محددًا، بل أحداثًا تتتابع وتتشابه مرة، وتختلف أخرى، لكنها تبقى فريدة طارئة، لا يجمعها قانون، ولا تتكرر، فالتاريخ لا يعيد نفسه، ولكل واقعة أو حدث خصوصيته. ولذا فإن محاولة استنباط قانون يحكم الحركة، من الصعوبة بمكان. والتحضر وحركة التاريخ من صناعة الإنسان، وهو صاحب فكر وإرادة، ومن الصعب أن تحكمه حتمية جامدة(1).
وقد وجدت الدكتور قسطنطين زريق يعترف بصعوبة الجزم في المسألة، لقلة العلم(2):(ليس بين أيدينا العلم المطلوب في هذا الميدان، الذي يأخذ على عاتقه تنسيق المعلومات المتصلة بالحضارة، والمستمدة من التاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفية، وربطها واستخراج مبادئها وقواعدها، بحيث يتيح لنا أن نتخذ في هذا الموضوع، الواسع المتشابك، مواقف يقينية ثابتة ). تصور جيد للمسألة وأبعادها، يخلو من الادعاء، ويتسم بالتواضع والموضوعية.
خامسًا: الانقطاع التاريخي:
يتحدث البعض عن الانقطاع التاريخي، ويعني ما يصيب حركة التحضر من انقطاع، وإلا فإن التاريخ لا ينقطع، حتى تقوم الساعة.. إن نهر الحياة جار، وسيبقى حتى ينتهي هذا الكون.
وقد وجدت د. رفيق حبيب في كتابه القيم (تفكيك الديموقراطية ) يضع عنوانًا عامًا: (الحداثة.. موت أمة )، ثم يضع عنوانًا أصغر: (التاريخ لا ينقطع )، يقول فيه(1):
(إن مقولة الانقطاع التاريخي، ليست مقولة مادية، لأن التاريخ لا ينقطع، فهو فعل مستمر دائم، يتحرك إلى الأمام ولكننا نصفه بصفات رمزية، فنقول: إنه انقطع، أو إنه يعود إلى الوراء، أو إنه ساكن لا يتحرك ولا يتقدم، وكلها أوصاف لحالة الأمة، وموقفها الحضاري، وليست وصفًا للتاريخ، باعتباره (التسجيل الزمني لحياة الأمم) .
فالانقطاع إذن ليس تاريخيًا في جوهره بل هو حضاري، فحركة الحضارة هي التي أصابها الانقطاع، ويعني ذلك أن المنظومة الحاكمة للحضارة، وجملة المبادئ والقيم الأساسية فيها، قد أصابها الانقطاع فلم تعد سائدة ومؤثرة ومسيطرة، بل تراجعت، وظهر بدلاً منها منظومة أخرى قدر لها أن تحوز قدرًا هامًا من السيادة والسيطرة على مصير الأمة.
ولكن هذا التصور يحتاج لأبعاد أخرى تجعله واقعيًا وتاريخيًا، فليس صحيحًا أن الشعوب تعيش في ظل قيم يمكن أن نضعها أو نخرجها أو نغيرها، فالوقائع العلمية تؤكد أن تركيب الأمم أكثر تعقيدًا من أي فعل مقصود.
ولذلك فإن ما يحدث في أي أمة يتبع قوانين وسننًا، تحدد الممكن والمستحيل، فإذا كانت قيمنا الحضرية قد انقطعت وحلت محلها قيم أخرى، فكيف حدث هذا، وما معناه الحقيقي، في التركيبة الاجتماعية؟!
إن لكل أمة ملامحها الخاصة، التي تشكلت عبر قرون طويلة، وهي بوصفها المميز للأمة، تمثل إفراز الأمة المحقق لتقدمها، وكذلك المحدث لحالة الرضا الداخلي، والقناعة الجمعية. وعبر تاريخ أي أمة يمكن أن نلحظ ما يميزها، وكوامنها الداخلية، وميولها الفطرية، واختياراتها الجمعية، وتفضيلاتها الطبيعية، وكلها تمثل في النهاية الأمة نفسها.
أي أن ملامحها وخصائصها هي ما شاع وساد تلقائيًا، محققًا الاختيار الحر الملائم، الذي تميل له الأمة، فيحقق سعادتها.
ملامح الأمة -بهذا المعنى- هي تلك القسمات البارزة والواضحة والشائعة، فليس صحيحًا أن الأمة -أي أمة- هي سديم متجانس، إلى حد التطابق، ليس فقط بين أفرادها، بل أيضًا بين جماعاتها. وملامح أي أمة، هناك السائد، وهو ما شاع واكتسب عمقًا واستمرارًا، وهناك غير الشائع والنادر، وغير المتكرر، والذي يتميز بأنه غير أصيل، وهناك ملامح هامشية ليس لها نفس الوجود، سواء في قوتها أو انتشارها، وهذه لا تعبر عن الميل الفطري التلقائي للأمة، بل هي بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة، وهي كل ما ظهر دون أن يحوز إقبالاً أو إجماعًا من الأمة، وهذه هي السمات التي لم تحقق نجاحًا في الأمة، ولم تحقق الأمة بها أي ازدهار أو تقدم... )
بعد ذلك يتحدث د. حبيب عن السمات السائدة والمتنحية.. فالسائدة هي الشائعة حتمًا، أما المتنحية فهي غير الشائعة، فما شاع في الأمة يصبح سائدًا، ويتنحى ما لم يشع.
(والأمة في ازدهارها تشحذ قيمها ومبادئها وعوامل نهضتها وتقدمها وازدهارها حضاريًا، أي أنها حققت ما تريده وتفضله وتميل إليه، لذلك فالازدهار يرتبط بالقيم السائدة والأفكار الغالبة، والمقدسات محل اعتراف الجميع، بذلك يرتبط الازدهار -في فهمنا- بالملامح السائدة للأمة، محققًا بذلك التواصل مع الماضي بثوابته وملامحه، ومحققًا أيضًا للتطور التاريخي، المعبر عن كيان الأمة وصعودها، وبهذا المعنى يرتبط التقدم بحالة تحقق قيم الأمة في الواقع المعاش، فتصبح هذه القيم هي نظام الحياة بجوانبه السياسية والأهلية والقانونية والأخلاقية... )(1).
لكن الأمة قد تمر بحالة تدهور، فهنا تفقد القيم قدرتها الوظيفية، وتصاب بعطب وظيفي، فيختل تماسك الأمة، وتضعف قدرتها على الصمود أو تنهار، تضعف عن مواجهة التحديات داخليًا وخارجيًا، وعندها يرتبط وجود الأمة باستمرار السيطرة السياسية والعسكرية.
وبتدهور حالة الأمة تصير غير راضية عن نفسها ولا عن ثقافتها أو لغتها أو آدابها، وهنا يحصل صدام بين الأمة وقيمها، وكأن الأمة أصبحت عدوًا لنفسها، أما القيم الأصلية فتضعف، وأما القيم المتنحية فيصبح ظهورها أقوى، وهنا تزداد الأمة ضعفًا، ويباشر بتوظيف القيم الأصلية توظيفًا سلبيًا، وربما يجري ارتكاب الأخطاء والمفاسد في حق الأمة، باسم الأمة، وقد يفرض عليها حكمًا ظالمًا يفسد حياتها ويسممها.
والانقطاع التاريخي يكون هنا بمعنى دورة طبيعية، حيث يفسد النظام الإيجابي للأمة، ويتم تنحيته لمصلحة نظام هامشي تفرض سلطته اغتصابًا، وهنا يكون الانقطاع عبارة عن انقطاع سيادة قيم الأمة عن الأمة ومصيرها، وتقوم عليه أقلية تنتمي لهذا النمط الهامشي، وتفرض سيطرتها على الأغلبية، وعلى نمط الحياة وقيمها، وشيئًا فشيئًا تفقد الشرعية، وتسوء الحالة يومًا بعد يوم.
حاولت جهد الإمكان التلخيص مع المحافظة على المعلومة، وأنصح بقراءة ودراسة (تفكيك الديموقراطية ).
==============
مع أشهر المفسرين لحركة التحضر
كافة الأفكار والمدارس والمذاهب قامت في أفراد، نادوا بها، وعنهم أخذت ونقلت.
والمهتمون بتفسير حركة التحضر كثير، بعضهم ذهب، والبعض ما زال حيًا، وهؤلاء من الأفضل الانتظار حتى تستقر اجتهاداتهم، لأن الإنسان يمكن أن يغير قناعاته، كما يمكن أن يستفيد من النقد الذي يوجه له، أو لأمثاله.
1- عبد الرحمن بن خلدون:(9/245)
ولد ابن خلدون(1) (732هـ/1332م) في مدينة تونس، وتوفي عام (1406م) من أسرة عربية من حضرموت، تعلم العلوم العربية والإسلامية، وقد تتلمذ على ابن رشد الفيلسوف. وقد قام بكثير من الأسفار، ما بين الأندلس والمغرب ومصر والحجاز والشام وسمرقند.
اشتغل في بداية حياته بالتدريس والخطابة والقضاء، كما اشتغل بالسياسة حتى وصل إلى وظيفة (حاجب )، كما مارس البحث والتأليف، وخاض في بحور السياسة، فتقاذفته أمواجها بين نفي وأسر، وأوشك أن يدفع حياته ثمنًا لذلك. كما قام بمفاوضة التتار، وقد أعجبوا بكفاءته كثيرًا، وبعد أكثر من عقدين من العمل السياسي، صعد خلالها إلى القمة وهبط إلى السجن، بعدها اعتزل السياسة ليتفرغ لكتابة التاريخ، ثم ليحاول الانتقال إلى مفسر له، راصد لحركة التحضر، واضعًا نظرية في علم العمران.
يقول عنه توينبي(1): (إنه في مقدمته التي وضعها لكتابه في التاريخ، بلا ريب أعظم عمل من نوعه ابتكره أي عقل، في أي عصر، في أي بلد ).
وقد وصفه (جمبلوفتش ) وصفًا رائعًا، فقال(2): (لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو ،جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وأن ما كتبه هو ما نسميه اليوم: علم الاجتماع ).
ويعتبره د. قسطنطين زريق(3) أبرز باحث في الحضارة، في اللغة العربية، بل أول من عالج شؤون الحضارة بصورة منظمة، في أي لغة من اللغات، لذا فقد استحق أن يعتبر المؤسس لعلم الحضارات، أو كما دعاه (علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ).
ويصفه د. معن زيادة بأنه جمع بين رجل التاريخ والفكر(4): (كان ابن خلدون، قبل أن يكون مؤرخًا، مفكرًا من مفكري عصره، بل مفكرًا من القلائل، الذين يشعرون بالمسؤولية التاريخية، أمام أحداث عصرهم، وكان إلى جانب ذلك رجلاً من رجال السياسة، من أولئك الذين برزوا إلى الميدان، وجربوا مسؤوليات الحكم وخيبته، في أشد الأوضاع تعقدًا، وفي فترة حاسمة من فترات الحضارة العربية الإسلامية.
لقد أثبت ابن خلدون مقدرة ملحوظة في ميدان العلوم الفلسفية والعقلية عمومًا، كما أثبت كفاءة نادرة ومهارة ما بعدها مهارة في السياسة، وقد وصل إلى أهم المناصب، وبلغ أعلى السلم صعودًا، قبل أن ينسحب انسحابًا منظمًا ليتفرغ لكتابة المقدمة والتاريخ.. لقد وصل إلى التاريخ عن طريقين: طريق التأمل العقلي، وطريق التجربة السياسية الفنية، ولعل الطريق الثانية هي التي قادته إلى الأولى ).
في رحلته الطويلة، وبعد خوض السياسة، توجه إلى الخلوة في (قلعة سلامة ) ليتفرغ إلى كتابة التاريخ وعلم العمران، وقد بقي معتكفًا في القلعة حتى عام (776هـ/1374م) . وقد استخدم تجربته السياسية، مازجًا ذلك بمعارفه الواسعة، ومن الاثنين رسم علم العمران.
وإذا كان كل إنسان تشغله تجاربه الخاصة، فثراء حياة ابن خلدون العلمي واشتغاله بالسياسة جعله يشعر بوجود (فراغ سياسي) ، وأن أمته تدور في حلقة مفرغة من الحروب والفتن، كما شاهد تشرذم الإمارات في الأندلس، وسقوطها الواحدة تلو الأخرى بأيدي الإسبان. ثم تحول إلى الشمال الإفريقي، ليجد فتنة جديدة، حيث وصل بدو بني سليم وبني هلال، فعاثوا في المنطقة فسادًا، وأسقطوا إمارات منها إمارة (بجاية) ، والذي كان ابن خلدون يشغل وظيفة (حاجب) فيها، وهو أعلى منصب بعد الأمير، وقد انتدب لمفاوضة هؤلاء البدو، وأوشك أن يقتل على أيديهم، ومن هنا جاءت نقمته على البدو والأعراب بشكل عام.
فإذا أضفنا لذلك رحلاته وما رأى في العالم الإسلامي، ومفاوضاته للتتار، والذي يبدو لي أن ما رآه حمله أن يبحث له عن تفسير في التاريخ، الذي قاده إلى كتابة (المقدمة) ، التي هي أثمن من التاريخ بكثير.
إن مفكرًا كابن خلدون تتاح له فرصة التجول في العالم الإسلامي، ليرى على الواقع ما وصلت إليه أمور الأمة، لا شك سيدفعه للتفكير الجاد: لماذا يحدث كل هذا، وأين الحل؟
إن خلوة ابن خلدون مدة زادت على أربع سنوات في قلعة (سلامة) ، مكنته من كتابة تاريخ، جعل عنوانه: (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ).
والكتاب لا جديد فيه، لكن الجديد في تلك المقدمة الطويلة، وربما وجد لأول مرة، مقدمة أهم من الكتاب بكثير. فقد بسط كل ما لديه من علم ومعرفة في هذه المقدمة، فجاءت شيئًا ثمينًا، بل متقدمة جدًا على العصر الذي كتبت فيه، وهي تحوي على ستة فصول(1).
ما حوته المقدمة:
1- في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام )، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات.
2- في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفًا أهم خصائصه المميزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه.
3- في الدولة والخلافة والملك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي )، وقد درس قواعد الحكم والنظم الدينية وغيرها.
4- في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري )، وقد شرح كافة الظواهر المتصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضر هو غاية التمدن.
5- في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي )، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع.
6- في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي )، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم.
كما درس الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق. لقد استودع ابن خلدون (مقدمته ) كل خبراته المعرفية والسياسية، ولأن البيئة لم تكن مهيئة، لم يستفد أحد من كل ذلك.
الإنسان والتمدن:
يعتقد ابن خلدون بأن الإنسان مدني بطبعه، ولذا فهو ميال للاجتماع ببني جنسه، يدفعه في ذلك أكثر من دافع(1):
1- الضرورة: ولها جانب اقتصادي ودفاعي، فالإنسان لا يحصل على حاجاته إلا بمعونة من الآخرين، والصراع بين البشر والحيوان يدفع بالإنسان إلى الاحتماء بالآخرين، والتعاون معهم لهذا الغرض.
2- الشعور الفطري: فالإنسان يميل فطريًا للاجتماع بأخيه الإنسان، يأنس به ويسر للقائه.
3- ميل الإنسان لتحقيق فكرة الجمعية وذاك بإرادته.
الإنسان والحكومة:
يرى ابن خلدون أن الإنسان حين وجد العدوان من أخيه عليه، حمله ذلك على اصطناع الحكومة، من أجل كبح العدوان البشري.. ومن إدراكاته الجيدة رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهو يرى أن بينهما نوعًا من (التلازم ) فالدولة تتسم بالقهر والغلبة، وبلون من ألوان الإكراه، والذي هدفه المصلحة العامة.
ويكرر ضرورة الربط بين السياسة والأخلاق، معتبرًا الأخيرة الموجه والهادي إلى السياسة، وأن الأخلاق تكسب الدولة قوة واحترامًا. كما أن الدعوة (الدينية ) تزيد في قوة الدولة.. ويعتبر الحروب ظاهرة اجتماعية قديمة، سببها انتقام بعض الناس من بعض.. ولو عاش ابن خلدون اليوم، لوجد للحروب أسبابًا جديدة، كل الجدة، وربما كانت لتجريب سلاح، أو بيعه، أو للضغط على حاكم أو نظام مكروه مشاكس.
أما أسباب (الانتقام ) في نظره، فهي كثيرة،كالمنافسة أو العدوان، أو غضب لله ودينه، أو غضب الحاكم لنفسه.. عن الكسب والاكتساب يرى أنه يكون بالسعي والقصد والتحصيل. وفي العلم والتعلم يرى تميز الإنسان عن كافة المخلوقات (بالفكر ) الذي نشأت عنه سائر العلوم والصناعات، وهو من هموم البشر.
التاريخ وشروط المؤرخ:(9/246)
تقدم أن ابن خلدون اعتكف في قلعة (سلامة ) فكتب مؤلفه في التاريخ ومقدمته المشهورة، لذا من الطبيعي أن يتحدث عن الشروط الواجب توفرها في كتابة التاريخ، وهي تصور منهج الرجل وفهمه.
يقول في التاريخ(1): (هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيه الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف به الأندية، إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة، كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال... إن في باطن التاريخ نظرًا وتحقيقًا، وتعليلاً للكائنات ومباديها دقيقًا، وعلمًا بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقًا...
إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، والانتقال من حال إلى حال، وكما يكون في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار، سنة الله التي قد خلت في عباده ).
ولولا هذا السجع والذي لم نألفه في كتابات ابن خلدون، لكان الفكر التاريخي غاية في الروعة، ففي التاريخ عبر، نعم، ولم يفرد الله تعالى ثلث كتابه للحديث عن الأمم الماضية، وبيننا وبينها ألوف السنين، إلا للعبرة في ذلك، وإلا لم يحفل القرآن بكل ذلك.
ولعل من الإدراكات الجيدة القول: بأن أحوال العالم في تغير، وهي لا تسير على منهاج واحد، بل الانتقال المتواصل من حال إلى حال، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.
إن عناية ابن خلدون بالتاريخ، ورغبته في الحصول على تفسير جيد لدوراته، لم يجعله يقبل كل خبر مسطر، ولو كان المؤرخ ثقة، لأنه في العادة ينقل عمن تقدمه، وذلك المتقدم قد يكون غافلاً أو كاذبًا أو متحزبًا أو صاحب مصلحة، وكل ذلك يجعل المؤرخ على حذر فيما ينقل.
لقد وجد كتب التاريخ مشحونة بالمبالغات والأغلاط، لذا فقد تطلع إلى وضع منهج جديد يمنع من السقوط، وقد وضع سبع قواعد جيدة، بل رائعة، لعمل المؤرخ(1):
1- تجنب التشيع للآراء والمذاهب، ومعلوم أن التشيع لطرف هو عدو الموضوعية، ولا يتصور اجتماعهما في شخص واحد.
فالتشيع يدعو للقبول أو الرفض دون محاكمة، فإذا كان الإنسان محايدًا أو على حال (الاعتدال في قبول الخبر ) فإنه يعطيه حقه من التمحيص والنظر، كي يتبين صدقه من كذبه، فإن خامر النفس تشيع لرأي أو نحلة، فالإنسان يقبل ما يوافق هواه من الأخبار، حتى يكون ذلك التشيع غطاء على عين بصيرة النفس، فتقع في قبول الكذب ونقله.
2- تمحيص الروايات، وعدم الثقة بالناقلين، وذلك عن طريق البحث والنقد، (فلا يرجع -أي المؤرخ- إلى تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً، فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح ).. وهذا منهج جيد، يبدأ المؤرخ بالخبر وليس براويه.
3- معرفة جيدة بالمقاصد: فالذهول عنها يجعل المؤرخ ينقل الخبر على حسب ظنه وتخمينه، فيقع في الكذب دون أن يعلم ذلك.
4- إن منح الثقة لمؤرخ سابق، يجعل اللاحق يتوهم صدقه فيما نقل، وليس من تلازم بين ثقة المؤرخ وسحب هذه الثقة على كافة نقوله، فثقة المؤرخ بالناقل قد تجعله يتوهم صدق ما نقل، فيقع في الخطأ.
5- ينبغي العمل على كشف الخداع والتلبيس والكذب في الأخبار، فالمؤرخ قد يكون على حال من (الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنيع، فينقل الخبر على غير الحق ).
6- ينبغي للمؤرخ أن يبتعد عن محاولة الكسب، من خلال تقربه لأصحاب السلطة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.
والمشكلة كبيرة، فإذا كتب التاريخ في عهد أصحابه، برزت الحسنات، وضاعت وذابت السيئات، فإذا كتب فيما بعد، وعلى زمن وفترة معادية، برزت السيئات واختفت الحسنات، وما شاهدناه من إعادة كتابة التاريخ بعد سقوط نظام خير دليل على ذلك.
7- ينبغي أن يكون المؤرخ عارفًا بطبيعة الحوادث والأخبار، فإن (الجهل بطبائع الأحوال في العمران، إذ لكل حادث من الحوادث ذاتًا أو فعلاً طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفًا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر، على التمييز بين الصدق والكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه ).
أذكر وأنا أقرأ (التوراة ) أنها تذكر معارك بين اليهود وأهل المنطقة، فتذكر أرقامًا كبيرة جدًا، لا يتصور وجودها قبل ألوف السنين، فتذكر أن طرفًا شارك بـ (600) ألف مقاتل، والطرف الثاني بـ (400) ألف مقاتل، وهذا مستحيل عقلاً، ولذا راحوا يحذفون صفرًا فيصبح العدد (60، 40) ألفًا، ليتحول العدد أخيرًا إلى (6، 4) آلاف فقط.
لقد تنبه ابن خلدون إلى وجود تاريخ للحضارة يتمثل في تقدمها العلمي والعمراني أو تخلفهما، إلى جانب تاريخ سياسي للأمة والحضارة، قد يسيران جنبًالجنب، وقد يفترقان، فيتقدم واحد دون الآخر، كما لم يبالغ في استخلاص النتائج من دراساته التاريخية، كما يفعل بعض القائلين بـ (الحتميات) ، كما لم يسقط في الفروض والتخمينات، ولكن تأثر إلى حد كبير بما رآه وعاشه، في الأندلس والشمال الإفريقي وسائر البلاد التي زارها.
منهج ابن خلدون في البحث:
يرى د. حسين رشوان أن ابن خلدون يتبع في بحثه (المنهج العضوي) (1) فالدولة في نظره كائن عضوي حي، يولد ويموت، لها بداية ونهاية، تخضع لعوامل النمو والفناء، وقد قدر عمرها بثلاثة أجيال، في حدود (120) سنة. ومعلوم أن هناك دولاً عاشت أضعاف ذلك، مثل العباسية والعثمانية، وغيرهما كثير. ونتيجة لسياحته في العالم الإسلامي، فقد وجد اختلافًا بين المجتمعات، لذا راح يقرر أن أحوال المجتمع لا تسير على وتيرة واحدة، بل تتغير وتتبدل.
عوامل التغيير:
يعزو ابن خلدون عوامل التغيير إلى أكثر من عامل واحد، مثل عدالة الحكم، واتساع رقعة الدولة وسلطانها، والعوامل الاقتصادية.
نظرية ابن خلدون في العمران:
يلخص د. الشكعة نظرية ابن خلدون في العمران كما يلي(1):
1- التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني، أي العمران البشري، لذا يجب تنقيته من الزيف، وتصويب أخطائه، وهذا هو المنطلق الأول لتصور العمران البشري.
2- الملك المنظم ضرورة للعمران، من أجل الحفاظ على المجتمع، وتنظيم شؤونه، وحماية الثغور، وجباية الأموال، ودفع الظلم، وتحقيق العدل، وعمران الأرض، وإسعاد الناس في دنياهم، وتهيئة الأسباب للسعادة في أخراهم، وذلك بحملهم على اتباع الشريعة، وضبط أمورهم.
3- يقوم بنظام الحكم (خليفة ) أو إمام، يحكم وفق الشريعة الإلهية.
4- العلم والتعلم عنصران أساسيان للعمران، فكلما ازدهر العمران صارت سوق العلم نافقة، وتقدم المجتمع، والعكس بالعكس.
5- لا يتم العمران إلا بوجود صنائع، مثل الفلاحة والصناعة والتجارة، فعليها يتوقف رفاه المجتمع وانتعاشه.
6- للدول أعمار مثل الأشخاص، تبدأ قوية بقيادة منشئها، فإذا انتهى الجيل الثالث تشرف على الزوال، أما الازدهار فيقع على الجيل الثاني.
7- العصبية تؤدي للغلبة والقوة، وتتطلع للرئاسة، والرئاسة تتطلع للملك، ولذا فالملك لا يقوم إلا بالعصبية، ويظل قويًا بقوتها، ويضعف بضعفها.
8- البداوة أصل الحضارة، والعمران البدوي أصل الحضري، ولكل عاداته وسلوكه، والمجتمع الحضري أكثر قابلية للتبدل، وتبدله يصل لقمة العمران، ثم يبدأ بالتقلص والانحسار، في حقب زمنية تشبه القانون.
الدولة والتشريع:(9/247)
ينظر ابن خلدون للتشريع كشرط لبقاء الدولة، فالدولة متى خلت من تشريع يستهدف حماية الناس، فإن الأمر لا يستتب لها، كما لا تتم سيطرتها على الأمور، وكل هذا من سنن الله في عباده.
وهذه التشريعات إما أن تكون إلهية المصدر، فتكون سياسة دينية، وإما أن تكون مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وأهل النظر فيها، فهي سياسة عقلية.. إن التشريعات الإلهية تكون نافعة في الدنيا والآخرة، ذلك أن الخلق ليس المقصود دنياهم فقط، لأنها لهو وزينة، وغايتها ونهايتها الموت، والله تعالى يقول: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون } (المؤمنون:115).
فالمقصود إنما هو دينهم، المفضي إلى سعادتهم في آخرتهم، فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك، في جميع أحوالهم، من عبادة ومعاملة، وحتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجْرته على منهاج الدين، ليكون الكل محوطًا بنظر الشارع(1).
إن ابن خلدون يرى نوعين من الحكومة: واحدة تعتمد التشريع الإلهي، وأخرى تعتمد التشريع الوضعي. وهو ينص على وجوب نصب (خليفة ) ليقوم بأمر الدين والدنيا معًا. وقد كتب فصلاً كاملاً في (المقدمة ) تحت عنوان (العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره )، لينتهي إلى ضرورة الاستناد إلى شرع منزل متى وجد.
ابن خلدون والمدرسة الحيوية:
يرى د.حسين رشوان أن ابن خلدون من أنصار المدرسة الحيوية(1)، فقد اعتمد في دراسته للمجتمع على دراسة الفرد، ومن ثم قال بأنه يولد مثل الفرد، ويمر بأطوار الطفولة والشباب والرجولة والشيخوخة، كما أنه يمارس السياسة وكتابة التاريخ، متخذًا من تجاربه الخاصة مادة للكتابة، ويتضح ذلك جليًا من موقفه من البدو، الذين شن عليهم أكبر حملة، لأنهم جاءوا للشمال الإفريقي من مصر، وعاثوا في الأرض فسادًا، وأسقطوا أمير بجاية وابن عمه كذلك.
2- هيجل والتفسير المثالي:
هيجل فيلسوف ألماني عاش ما بين (1770-1831م) ، صاحب اتجاه في (وحدة الوجود )، من المتأثرين بكل من (كانت وفخته وشبلنج )، وقد كان له تأثير كبير على الفكر الألماني، صاغ أفكاره بأسلوب صعب، بحيث يحتمل أكثر من تفسير، وقد ظهر ذلك جليًا في استشهاد تلاميذه -على اختلاف توجهاتهم- بما كتبه، فالمؤمنون منهم والملحدون يجدون لهم شواهد فيما كتبه هيغل، تؤيد دعواهم.
وقد طور الجدل (الديالكتيك ) ليجعل منه طريقة خاصة بالبحث، وأسلوبًا في المناظرة(1): (أصبح طريقة لتفسير الواقع، وقانونًا كونيًا عامًا، ينطبق على مختلف الحقائق، وألوان الوجود، فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة، فما من قضية إلا وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها. وكان هيغل أول من أشاد منطقًا كاملاً على هذا الأساس... لقد أنشأ فلسفته المثالية كلها على أساس هذا (الديالكتيك)، وجعله تفسيرًا كافيًا للمجتمع والتاريخ والدولة، وكل مظاهر الحياة، وقد تبناه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادية في تصميم ديالكتيكي خالص.
فالجدل الجديد -في نظر أصحابه- قانون للفكر والواقع على السواء، فهو طريقة تفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره ).
يتصور هيجل أن التاريخ عبارة عن صراع للمتناقضات(2): (فكل قضية في الكون تعتبر إثباتًا وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف من الإثبات والنفي إثبات جديد، فالمنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم يتضمن ثلاث مراحل، تدعى: الأطروحة والطباق والتركيب.. وفي تعبير آخر: الإثبات والنفي ونفي النفي.. وبحكم هذا المنهج الجدلي، يكون كل شيء مجتمع مع نقيضه، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم في وقت واحد ).
حركة التحضر عند هيجل:
لهيجل تصور خاص في حركة التحضر، فهو يفسرها أو يتصورها، كصراع بين متناقضات، ويطرحها على الوجه التالي، باختصار(1):
1- كل فترة في تاريخ الحضارة، تمثل وحدة مستقلة، وإنَّ ملامحها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والفنية، كلها جوانب (للمجموع الحي )، ومنها جميعًا يتكون كيان متجانس.
2- كل فترة أساسية تنمي فكرتها الرئيسة إلى الحد الأقصى، ثم تولد أضدادها أو نقائضها، ويستمر الصراع هكذا، حتى تتحد المتناقضات في وحدة عليا (الموحد أو الجامع )، فتكون أفضل من الفكرة ونقيضها، ثم ينحل هذا (الجامع ) ليتولد عنه فكرة جديدة ونقيض، وهكذا يستمر الحال، كل فكرة تصارع نقيضها، لتنتج جامعًا، وكل جامع أو موحد يفرز نقيضًا، ويستمر الصراع حتى تصل الفكرة إلى (المطلق ) الذي يخلو من التناقض والصراع(2).
ولتقريب الفكرة، أذكر مثالاً ضربه هيجل:
أ- عهود السلطة المطلقة في الحكم (فكرة ).
ب- يعقبها عهود فوضى (نقيض ).
جـ- منها يأتي عهد دستوري، هو خير من الاثنين.
3- إن جوهر التطور لدى هيجل هو ما يفرزه وينتجه (صراع المتناقضات )، حيث تحمل كل فكرة تناقضًا داخليًا، يدفعها إلى الإمام، ثم لا تلبث أن تتحطم لتتحول إلى شيء جديد، أفضل من الفكرة والنقيض، وهو يحمل التناقض، وبفعل الصراع يكوّن فكرة جديدة ونقيض، وهكذا.
4- تبنى هيجل، وتابعه الماركسيون، أن كل عهد من عهود الحضارة يأتي يكون أرقى وأفضل من سابقه، على اعتبار أن (الجامع أو الموحد ) يكون دومًا أفضل من الفكرة ونقيضها، وهذا يشكل خطوة للإمام، والحضارة اللامعة تكون أفضل من سابقتها كذلك. ولم يقفوا عند هذا الحد، ولكن قالوا: إن الحضارة في رقي دائم، لا سبيل إلى مقاومته(1). وأصل الفكرة نادى بها بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء هيجل ليفسر بها حركة التاريخ، وعنه أخذها الماركسيون.
والإنسان يتمنى حقًا أن تكون الحضارة كذلك، لكن الذي نشاهده أن الحضارة قد تتقدم بعض مكوناتها دون بعض، فهي ليست كائنًا عضويًا، أما أن تتقدم كافة مكوناته أو تتأخر، فالحضارة -كما تقدم- خليط من أفكار ومعتقدات وتشريع وآداب وفنون ومنشآت مادية، جمعت في زمان ومكان، لذا فإن بعضها قد يتقدم والبعض الآخر قد يتوقف، على حين تتأخر مكونات أخرى. ولو كانت الحضارة في تقدم تام، لا سبيل لإيقافه، فكيف تنحل وتسقط؟
5- يطرح هيجل معادلة فيقول: كل ما هو معقول فهو حقيقي، وكل ما هو حقيقي فهو معقول.
والمطلوب أن يحدد لنا هيجل وكذلك تلاميذه، معنى المعقول والحقيقي، لكن الذي وجدناه لدى تلاميذ هيجل غريب، فالمتدين يقول: الدين معقول فهو حقيقي، والتملك معقول فهو حقيقي، بينما يقول تلميذ لهيجل ملحد: إن الدين غير معقول، ولذا فهو غير حقيقي، وهكذا، وهذا ثمن الغموض في الصياغة.
تعقيب ومناقشة:
نسلم أن الصراع بين الميول والاتجاهات المتقاربة حقيقة من حقائق الحياة، وقد نجد أكثر من آية في كتاب الله تشير لذلك، منها: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات } (الحج:40).
وقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } (البقرة:251)، فالتدافع بين البشر حقيقة من حقائق الحياة، وسنة من سننها، قديمًا وحديثًا، على مستوى الأفراد والأنظمة والدول والثقافات والحضارات.
كذلك فإن أي نظام -على مستوى القطر أو الحضارة- يحقق أغراضه، ويستوفي مبررات وجوده، فهو لا يلبث أن ينحل ويسقط، ليقوم نظام جديد مكانه يهدم الأول، ليبني على أنقاضه، وهكذا.
وكل نظام وكل نسق حضاري يريد أن يستمر، ويجاهد في ذلك، لكنه متى ما فسد وتعفن، واستوفى مبررات وجوده، فليس أمامه إلا السقوط. والشجرة إذا ماتت لن ينفعها كثرة الري، بل ستتعفن جذورها، لتسقط في أقرب وقت.(9/248)
ويبدو أن هيجل توسع في قضية (الصراع ) حتى جعله كل شيء، وجاء تلاميذه من الماركسيين ليعلنوا بقوة: أن تاريخ البشرية ما هو إلا صراع بين طبقات المجتمع، من أجل المادة وبسببها.
ولو أمكن أن أعدل في هذا الطرح (الهيجلي ) لقلت: إن الفكرة تحرك نقيضها، لكنها لا تلد ذلك النقيض، هذه قضية، والقضية الثانية أن مصطلح (النقيض ) الذي يستعمله هيجل ليس هو النقيض المعروف لدى علماء المنطق، فهناك تميز ونقيض، وجل أمثلة هيجل من النوع الأول (التميز ) وليس من النقيض.
وهناك أمثلة أخرى يضربها هيجل لا علاقة لها بالتناقض، فهو يقول مثلاً: زهرة الرمان (فكرة ) والكأس (نقيض) ، ومن الاثنين تأتي ثمرة (الرمان ) وهي أفضل من الزهرة والكأس، أقول هذا ليس تناقضًا.
كذلك لا يجد الدارس لما كتبه هيجل عن الفكرة والنقيض فصلاً، بل يجد امتزاجًا أو اشتراكًا، لكنه لا يجد نقيضًا.
القضية الأخيرة لرسم العلاقة بين المعقول والحقيقي غير واضحة، واستعمال تلاميذه لها خير دليل.
ومع ذلك فهل يعتبر هيجل النصر في الحرب هو الحقيقة أو المعقولية؟ إن كان كذلك فقد ينتصر مبطل، وقد ينهزم محق، فليس كل منتصر يمثل الحق، ولا كل منهزم يمثل الباطل، بل القوة لا تنشئ حقًا، ولكنها قد تستعمل في حمايته وحراسته.
3- أزولد اشبنجلر(1):
عرف أزولد اشبنجلر بمؤلفه (تدهور الحضارة )، فقد كان قويًا في طرحه، جريئًا في أفكاره، غير حذر ولامتحفظ، لذا رأينا مفكرًا ومؤرخًا مثل (توينبي ) يصرح بمخالفاته لاشبنجلر ومؤلفاته، فلقد شن عليه هجومًا كبيرًا، وقد استفاد من ذلك كل من جاء بعده.
وقد تقدم إيمانه بدورة الحضارة، وتقسيمها إلى دور سابق، ودور الحضارة الفاعلة، ودور الحضارة المستنفذة.
وهو يكرر في كتابه (تدهور الحضارة ) أن حضارة اليوم وصلت إلى الدور الأخير، وهي سائرة إلى الانحلال، ومن هنا جرى الهجوم الشديد عليه، وعلى رأيه في هذه الحتمية، فصنف بأنه يؤمن بالجبر، وقد راح (توينبي ) يعيد ويكرر أنه لا يشارك اشنبجلر آراءه في الجبر، بل يؤمن بالاختيار. كما هوجم تشبيهه الحضارة بالإنسان على نحو الفصول الأربعة في دورانها، وهوجم كذلك قوله بأن كل الحضارات تظهر وتكتمل وتموت في أوقات معاصرة، وأن كل حضارة تمر بنفس الأدوار، التي مر بها من سبقها، وكذلك اكتمالها وظهور الإبداع فيها. بعض الذين هاجموا اشبنجلر يرون أنه سقط في أخطاء تاريخية كذلك. وكل هذا النقد الشديد أفاد منه من جاء بعده فراح يتبرأ من ذلك.
والذي أعتقده أن الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون كل ما يطرحه خطأ، وإلا فليس بعاقل، ولا يمكن أن يكون كل ما يطرحه صوابًا، لأنه يجب أن يكون معصومًا من الخطأ، ولا معصوم سوى الأنبياء، وفيما يبلغون عن الله تعالى، وخارج هذه الدائرة لا معصومية، ومن يتصورون وجود معصوم -غير نبي- فأدلتهم هزيلة، وتناقضاتهم كثيرة.
4- أرنولد توينبي(1):
مؤرخ إنجليزي ،ولد في لندن، وتخرج في جامعة أكسفورد المعروفة، واشتغل بالتدريس فيها حتى عام 1915م، والتحق بقسم الاستخبارات السياسية، ثم أستاذًا للتاريخ واللغة الإغريقية بجامعة لندن، ثم أستاذًا وباحثًا ومديرًا للدراسات بالمعهد الملكي للشؤون الدولية.. ألف كتابه (تاريخ العالم )، وكان موقفه من اليهود عمومًا والصهيونية شديدًا، لذا شنوا عليه أكبر حملة، واتهموه بالجهل حتى باللغة الإنجليزية(1).
تبنى في منهجه الدراسي أن يدرس الحضارات، وليس الدول القومية، أو الجماعات السياسية. وحين يعدد الحضارات يعد منها: المصرية، السومرية، البابلية، الهلينية، الإيرانية، الهندوكية...إلخ، ويعد الحضارتين البدوية والعثمانية من الحضارات التي توقفت عن النمو.
نشوء الحضارة:
يطرح توينبي سؤالاً يتعلق بالعامل الذي أخرج الإنسان من الدور البدائي ودفعه إلى أجواء التحضر، وهنا يستعرض ما قاله المعنيون وذكروه من عوامل، فيتحفظ على أكثرها.. ثم يسجل أن الحضارات وجدت وقامت في أحواض الأنهر، لكنه يستدرك إذ لا يجد ذلك عامًا، فكم هي كثيرة أحواض الأنهر التي لم تعرف حضارة؟!
وتفسير ذلك سهل، فالإنسان والحيوان والنبات بحاجة للماء، ولذا كان يسكن قريبًا من الأنهار، ليستقي منها ويزرع، وليقيم حضارته أو تحضره، لكن ليس النهر هو السبب الأول، بل هو الإنسان، فوجود النهر عامل مساعد.. وقد يوجد أكثر من نهر، ولا تقوم الحضارة، لكن قيامها قديمًا بعيدًا عن الأنهر يجعلها في غاية الصعوبة.
نظرية التحدي والاستجابة:
يرفض توينبي تفسير التحضر أو حصره بعامل واحد، لذا نراه يقول(1): (ليس السبب في نشوء الحضارات بسيطًا، ولكنه متعدد، وليس وحدة مستقلة، ولكنه علاقة مشتركة ).. وقد طرح نظريته في (التحدي والاستجابة ) معتبرًا ذلك محركًا للإنسان بشروط، فالإنسان يستجيب للتحدي متى كان في حدود قدراته، وإلا عجز.
لذا راح يبحث عن صور التحدي، فحصرها مثلاً بتحدي الإنسان لأخيه، أو تحدي الطبيعة للإنسان. ثم راح يبحث في التراث الإنساني عن شواهد، فذكر ما حدث بين آدم عليه السلام والشيطان، والسيد المسيح عليه السلام والشيطان. وعن تحدي الطبيعة للإنسان، يذكر أن الجفاف الذي أصاب شمال إفريقيا، استجاب له الناس هناك على نوعين: نوع هاجر إلى وادي النيل، ليقيم حضارة هناك، وفريق بقي في مكانه، فبقي بدويًا في عيشه وقيمه.
ثم يذكر عوامل مماثلة، دفعت الإنسان في بلاد الرافدين، دجلة والفرات، ليقيم حضارة مبكرة. ثم يذكر أن حوض النهر الأصفر في الصين، كان يموج بالأدغال والغابات والوحوش والفيضانات والأملاح، فدفع ذلك التحدي الشعب الصيني إلى مكافحة هذه الآفات كلها، ثم ليقيم حضارته في حوض ذلك النهر.
أما تحدي الإنسان للإنسان فيرى:
أ- فئة مسيطرة في مدنية منهارة، تتحداها فئة مستقلة ومنفصلة عنها.
ب- فئة خارجية على حدود المواطن الحضرية، تتحفز لتقويض سيطرة الأولى، فتقوم بتقويض سيطرتها المتداعية، ومن ثم تقيم حضارة جديدة.
ومن هذه النظرة يفسر قيام الحضارة الغربية من الحضارة الهيلينية، بل سائر الحضارات اللاحقة للحضارات السابقة.
شروط التحدي:
يرى توينبي أن التحدي المفيد المنتج ينبغي أن يتوفر فيه:
أ- أن لا يكون صعبًا، بحيث يعجز الإنسان عن التعامل معه، بأن يكون فوق طاقاته وقدراته، فهذا التحدي لا يحرك الإنسان، بل يقعده، ويضرب مثالين لذلك:
مناطق الأسكيمو حيث البرد والثلج، فمثل هذا المناخ لا يمكن الإنسان من أن يقيم حضارة، ويظل كل همه منحصرًا في الكفاح، كي لا يموت من الجوع أو البرد.
وأما المثال الآخر فالمناطق الصحراوية حيث الحرارة المرتفعة، والماء القليل، فالإنسان لا يستطيع إقامة حضارة، بل يكافح ليبقى حيًا.
ب- أن لا يكون التحدي سهلاً، بحيث لا يثير في الإنسان دوافعه للتحضر، ويضرب لذلك أمثلة بالجماعات التي تعيش في المناطق الاستوائية، حيث الشمس والمطر والجو المعتدل، فتلك الجماعات بقيت بدائية ولم تتحضر.
وغني عن القول: إن صعوبة التحدي وسهولته أمر نسبي، فما تعتبره أمة صعبًا قد لا تعتبره أمة أخرى كذلك.
أما تحدي البيئة للإنسان، فقد عد تونبي خمسة دوافع يمكن أن تستثير فاعلية الإنسان وجهده، من ذلك:
دافع الأرض الصعبة.. دافع الأرض البكر.. دافع النكبات.. دافع الضغط.. دافع العقوبات.
هذه الدوافع تستثير الإنسان، فتأتي الاستجابة المناسبة(1). ثم يحاول الإكثار من الأمثلة على التحدي والاستجابة، ولأنه درس تاريخ العالم، فلا يصعب عليه العثور على الأمثلة التي تشهد لنظريته، من ذلك:(9/249)
1- أن الزنوج في أمريكا كانوا يعانون الرق، ومن التفرقة العنصرية، وبعد إلغاء نظام الرق عام (1860م) رسميًا، بقيت التفرقة العنصرية، فكيف استجابوا لهذا التحدي؟ يرى توينبي أن (الأسود ) بعد أن وجد الموازين راجحة ضده في الدنيا، راح يتطلع إلى الآخرة، كما راح يكيف نفسه مع البيئة، وذلك عن طريق استكشاف طائفة من المعاني والقيم الطريفة في المسيحية، بعد أن تجاهلها أهلها، مثل: أن المسيح عليه السلام جاء ليعلي من شأن المستضعفين، وليس ليعزز مركز الأقوياء.
ويرتب توينبي على ذلك: أن يوفق الأفارقة السود، في إشعال النار في رماد المسيحية الخامدة، عساها تنبض بالحياة مرة ثانية، لكن الواقع لا يشجع على هذا الاستنتاج، فالسود راحوا ينفصلون عن البيض كليًا، ويبتعدون عنهم، بعد أن كان الأبيض هو الذي يفعل ذلك.
القضية الأهم: أن الإنسان الأبيض، المعجب بنفسه إلى حد الغرور، لن يقبل من الأسود شيئًا، ولا حتى من الملونين، ولا أبناء العالم الثالث، فكل هؤلاء لا يحترمهم ولا ينظر إليهم بعين الرضا أو التقدير.
أما كيف وصل توينبي لهذا التصور، فهو يقارن بما حصل للعبيد في إيطاليا، حيث اعتنقوا المسيحية، فأقاموا ديانة جديدة حية قامت مقام ديانة لا حياة فيها.. وهذا القياس من الصعوبة قبوله، فإيطاليا الأمس ليس أمريكا اليوم، والظروف اختلفت كليًا.
2- يذكر توينبي أن منطقة (الشرق الأوسط ) تعرضت لتأثيرات حضارية، تنافي طبيعتها، وذلك حين تسربت إشعاعات ثقافية يونانية ورومانية للمنطقة، فشكلت قضية تحد، أما الاستجابة فكانت (اعتناق الإسلام ).
ثم اندفع المسلمون لاسترداد مجد الشرق الأوسط، وترتب على ذلك أن استردوا للشرق الأوسط شخصيته، تلك الشخصية التي أهدرها العدوان الثقافي الهيليني مدة طويلة من الزمن، وهكذا أصبحت المدن الإسلامية مراكز حضارة مزدهرة(1).
إن هذا التفسير للإسلام يتعذر قبوله، فإذا كانت بلاد الشام عرفت الروماني فاتحًا ومستعمرًا، فلم تعرف عنه حامل ثقافة، أو ناقل ثقافة، لقد كان فاتحًا مستعمرًا وكفى.
أما الجزيرة ففيها قلة يهودية، ومثلها قلة نصرانية في اليمن وما حولها، ولم يكن لديها شيء تقدمه أكثر من شرب الخمور. وهؤلاء وأولئك عاشوا مع العرب، دون أن يشعر بهم أحد، ولذا فلم يشكلوا تحديًا لجمهور العرب الوثني، وحين حاربت قريش المسلمين في المدينة، تحالف اليهود معها، ضد المسلمين، الذين تربطهم بهم معاهدة، والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه ورسله.
لذا فتفسير ظهور الإسلام كاستجابة يصعب أو يتعذر قبوله، لكني أوافق بقوة على أن الإسلام رد للشرق الأوسط شخصيته، بل ما زال يملك ذلك، وربما كان الوحيد المالك، فمنذ سقوط الدولة العثمانية وحتى هذ اللحظة ما زال الإسلام هو الأقوى والأقدر على إنقاذ المنطقة ورد العافية إليها، وتجربة ثلاثة أرباع قرن تكفي لبيان ذلك، وعلى الذين يجادلون وينكرون ذلك أن يأتوا بالأدلة والشواهد، وقديمًا قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
3- يعتقد توينبي أن تشتت اليهود كان من التحديات، وأن تجمعهم في فلسطين سيقضي على هذا التحدي، كما أن تجمعهم في فلسطين سيشكل تحديًا لأهلها أولاً، ولأهل المنطقة كلهم، وستكون الاستجابة تشتيتًا جديدًا لليهود.
كما أن احتقارهم لكل الغرباء، واعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، سيثير عليهم العالم(1)، (وذلك باعتبارهم جماعة شاذة، ما انفكت تتعمد عزل نفسها عن بقية الجنس البشري، وإن اقتضاهم ذلك مشقة وعنادًا بالغين، وعرضهم لاضطهاد العالم ونقمته المتواصلة عليهم ).
إن هذا النقد لا يطيق اليهود سماعه من أحد، لذا شنوا على توينبي أكبر حملة، واستخدموا كل ما لديهم من قوة، واتهموه بالتعصب للمسيحية، وأنه يتحدث كنبي، حتى وصل بهم الأمر أن اتهموه بالجهل حتى بلغته الإنجليزية، كما اتهموه بالسذاجة والسطحية وضيق الأفق، ووصفوا منهجه بالتخبط والتعالم والتكاثر بالمراجع، ليخدع القارئ. وزاد من نقمتهم عليه مناصرته للشعب الفلسطيني، ونفي أي حق لليهود، قائلاً: إذا كان الغرب اضطهدهم فليس على الشعب الفلسطيني أن يدفع الثمن. وكل هذا لم يعد أحد في الغرب يجرأ على قوله، وإن كان الكثير يسلم به ويعترف!!!
كيف تنمو الحضارة:
يدرس توينبي كافة النظريات في تفسير نمو الحضارة، فيراها تركز على الكم دون الكيف، فهي تسجل الانتصارات، وعلى رأسها العسكرية، بينما يرى توينبي أن التوسع العسكري قد يحصل مع هبوط الحضارة، وكثير من الدول كانت تلجأ للحروب الخارجية، هربًا من مشاكل داخلية وانقسامات في صف الأمة.. كما يرى أن التقدم العلمي والصناعي قد يحصل دون تقدم الحضارة، وقد يتلازمان.
وأخيرًا فهو يرى أنه ليس من الضروري أن تنمو كل حضارة ناشئة حتى يكتمل نموها، وتصل إلى القمة، فقد تتوقف في مرحلة، بسبب عجزها عن التغلب على تحديات تواجهها، ويعد من الحضارات المتوقفة العثمانية والإسبارطية والبدوية.
من جهة أخرى يرى توينبي أن التغلب على تحد معين لا يكفي، بل لا بد من وجود قدرة على مواصلة الاستجابة للتحديات(1).
من قضايا النمو الحضاري:
ما هي المسائل الأساسية في قضايا النمو الحضاري؟
يستعرض توينبي جملة قضايا يقيس بها نمو الحضارة، منها(2):
1- في مجال نمو الذات:
يرى توينبي أن تطور العلوم والفنون والصناعة، يسير نحو التبسيط، ففي الآلات مثلاً ابتدأ الإنسان بالأدوات البخارية، لينتقل إلى الآلات التي تشتغل بالوقود.. وفي مجال النقل البري، ابتدأ الإنسان بالقاطرات التي تسير على قضبان ثابتة، لينتقل إلى الحافلات والسيارات، التي لا تحتاج إلى قضبان.. وفي الاتصالات ابتدأ الإنسان بالتلغراف لينتهي باللاسلكي، وكل هذا التطور يساير رغبة في نفس الإنسان، كي يتحرر من العوائق.
2- الفرد والمجتمع:
هل المجتمع هو الحقيقة، والفرد ذرة من ذراته فقط، أم أن الفرد هو الحقيقة، والمجتمع هو مجموع تلك الذرات؟
يرفض توينبي النظرتين معًا، ويرى(1) (أن المجتمع هو علاقة بين الأفراد، وهذه العلاقة تقوم على اتفاق في مجالات أعمالهم، اتفاقًا يجمعها على صعيد مشترك، وهو ما نسميه بالمجتمع )، وبناء على ذلك يكون المجتمع مجال عمل مشترك بين مجموعة من الناس، وأما الأفراد فهم ينبوع العمل، والنمو الحضاري أو التحضر يحصل عادة عن طريق المبدعين من الأفراد، وعن طريق الفئة الصغيرة من القادة الملهمين.
ويضرب لذلك مثلاً جيدًا بالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، فكل نبتة لها كيانها المستقل، لها ساقها وأوراقها، وهي تأخذ نصيبها من الغذاء والماء والشمس، ولكن هذا الحقل بمجموعه، يعود لفلاح زرعه للحصول على محصول واحد، فكل نبتة تمثل فردًا، والحقل يمثل المجتمع، وهو تمثيل جيد -وقد تقدم هذا- وهو قريب جدًا من التصور الإسلامي.
3- الاعتكاف والعودة:
عرف عن الفرد إنه قد يعتكف في مكان، مدة من الزمن ثم يعود إلى مجتمعه، وكتب السيرة تذكر أن الرسول كان يعتكف في غار حراء يتعبد، ثم يعود لأهله ومجتمعه، وتقدم أن ابن خلدون اعتكف سنوات في قلعة (سلامة ) يكتب ويؤلف ثم عاد إلى مجتمعه وأهله.
هذه الظاهرة الفردية حاول تونيبي أن ينقلها إلى مجتمع أو دولة، معتقدًا أن الأعمال الرائعة للإنسان تتم بحركة مزدوجة من الاعتكاف والعودة، بهدف تحقيق نوع من الصفاء للذات، واستلهام الحق، وتكون العودة من أجل هداية الأتباع، وتتضح الظاهرة في حياة عدد من الأنبياء.(9/250)
لكن توينبي نقل هذا العمل من ميدان الفرد إلى المجتمع والدولة، فيرى أن إيطاليا فعلت ذلك قبل النهضة، وإنجلترا في العصور الوسطى، ثم عادتا لتساهما في نمو الحضارة الغربية. ويمكن أن أضيف هنا (اليابان )، فقد عاشت زمنًا في عزلة عن جيرانها وكانت سنوات هدوء وسلام، ولم تغز اليابان بلدًا، ولم يغزها أحد، ثم لتنطلق بعد ذلك(1).
4- التنوع داخل الوحدة خلال فترة النمو:
يرى توينبي أن الحضارة النامية تشكل وحدة متماسكة، وحركة منتظمة، إلا أن تجارب الفئات المتعددة ليست متماثلة، إنها تختلف باختلاف الكيفية التي يستجيب بها الفرد أو الأقلية المبدعة أو المجتمع كله للتحديات المتتابعة، ومن هنا وجدت الفروق بين المجتمعات الصغيرة، في الحضارة الواحدة، وهنا تبرز الخصائص المميزة للحضارات المختلفة، فهذه جمالية، وتلك دينية، وهذه علمية، وهكذا. إلا أن ناقديه رفضوا هذا التصنيف، فهم يرون في كل حضارة قدرًا من الجمال، ودينًا تتبعه الأكثرية، وقدرًا من العلم والمعرفة.
كيف تنحل وتسقط الحضارة:
كل متابع لحركة التحضر يراها كصاعد الجبل، يرتقي ويتسلق، حتى إذا وصل القمة -في رحلة تطول أو تقصر- راح يهبط إلى قاعدة الجبل، لم تشذ حضارة عن ذلك، وتتفاوت بطول البقاء وسعة السقوط، فكيف يفسر ذلك المهتمون بحركة التحضر؟
(اشبنجلر ) يرى سقوط الحضارة حتميًا، لم تنج منه حضارة، والدور الآن على الحضارة الغربية.. ابن خلدون يراها دورة كاملة -كما تقدم- فكيف ينظر لها توينبي؟
إنه يرفض الحتميات كلها، وهو يستعرضها على الوجه التالي(1):
1- القول بأن الكون صائر إلى الشيخوخة والزوال، ذلك لا يكون في القريب العاجل، من هنا فتأثيره على سقوط الحضارة بعيد.
2- يرفض تشبيه الحضارة بالكائن الحي، فالحضارة تولد ثم تنمو ثم تشيخ وتموت، هذا لا يسلّم به، ذلك أن المجتمعات ليست كائنات عضوية، والمجتمع يمكن أن يجدد شبابه، أما الإنسان فلا.
3- يرفض فكرة أن الحضارة لها دورة كاملة، كما يقول ابن خلدون، ويرى أن الدولاب الذي يحمل عربة التحضر، يدور على نفسه، وعندها تندفع العربة نحو الغاية الكبرى، في حركة تقدمية مستمرة.
4- إن العجز عن صد الاعتداءات الخارجية على الحضارة، ليست سببًا لسقوطها، بل دليل على وجود انهيار سابق، كشف العدوان الخارجي عنه، ويمثل لذلك بسقوط الحضارة الرومانية، والأندلسية.
5- يرى توينبي أن النقص في الميادين العلمية والتقنية، ليس علة في سقوط الحضارة، ولكنه مجرد عرض لا أكثر.
بعد هذا الاستعراض يذكر توينبي تصوره الخاص بسقوط الحضارة وأسبابه، ويردها إلى ثلاثة أسباب:
1- ضعف القوة المبدعة في القيادة، وتحولها إلى مجرد سلطة متعسفة.
فهذه الأقلية التي كانت نشطة أكبر نشاط في مرحلة النمو، لم تعد قادرة على القيام بالرد على التحديات التي تواجهها، ولعجزها عن ذلك، تنقلب إلى أقلية مسيطرة، تسعى بكل قواها للحفاظ على مركز قيادتها، والذي لم تعد أهلاً له، وهنا يحصل انفصال بين الأكثرية من الشعب والأمة، وبين الأقلية، وهنا يبدأ زمن الاضطرابات والفتن المحلية، أو الحروب داخل المجتمع، ومع المجتمعات المجاورة.. ويمكن أن نمثل له بما حصل في الأندلس، فلكل مدينة أمير، يقاتل أخاه أو ابن عمه، ولا يرى بأسًا بالتحالف مع عدوه وعدو أمته، ثم تتساقط المدن، وتنتهي الحضارة بسقوط مريع، يقذف بالكل خارج أسبانيا.
ويرى توينبي أن قيام الاضطرابات يحفز الأقلية لإحكام السيطرة، واستعمال القوة، وهكذا تزداد الشقة والهوة بين الأقلية والأكثرية.
2- تخلي الأكثرية عن موالاة الأقلية المسيطرة، ثم الكف عن محاكاتها.
ففي زمن النمو تتابع الأكثرية الأقلية المبدعة، وتسير بقناعة خلفها، وبعد تحولها إلى قلة مسيطرة فاقدة للإبداع متحكمة في الأكثرية دون استحقاق، هنا تتخلى الأكثرية عن الأقلية، ثم يعقب ذلك الانشقاق.
3- الانشقاق وضياع الوحدة، حيث تقف الأكثرية ضد الأقلية المسيطرة.. وهكذا تسقط الحضارة.
إن سقوط الحضارة يسبقه، ويقدم له، انحلال الحضارة.. فكيف يتصور توينبي ذلك؟
انحلال الحضارة:
يعرض توينبي نظريته في انحلال الحضارة بشكل واضح، وأستطيع ابتداءً القول: بأنه أقرب ما يكون للتصور الإسلامي، فهو يرى أن انحلال الحضارة يزامنه ويرافقه فساد يدب في أرواح الناس أولاً، وتغير جذري في سلوكهم، وحتى مشاعرهم، وفي كل جوانب حياتهم، فيقوم مكان الصفات الجيدة والقوى المبدعة، التي كانت تفيض بها نفوسهم -في دور النمو- يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف العقيمة والمتناقضة.. وهنا يتعرى الفساد الروحي، ويكشف عن فوضوية تشمل الأخلاق والعادات، وانحطاط يسود الآداب والفنون، مع محاولات عقيمة للتوفيق بين المذاهب والأديان المختلفة. وهنا قد تسعى الأقلية المسيطرة في بعض الحالات إلى فرض فلسفة بالقوة، أو دينًا مختارًا، لكنها تفشل في كل ذلك.
ويذكر استثناء واحدًا -غير سليم- وهو انتشار الإسلام بين الأمم المغلوبة عن طريق القوة أو التساهل.. لقد دخلنا الأندلس بـ (12) ألف مقاتل وخرجنا منها مأزومين مهزومين، وعددنا أكثر من ثلاثة ملايين.. إن خرافة انتشار الإسلام بالقوة خرافة روج لها الاستعمار ورجاله، كي يبرر غزو القارات كلها ونهبها وسلبها، بل واستمرار السلب حتى اليوم، وليسوِّد وجه الإسلام.
وفي الختام أرى من النافع أن أنقل نصًا للدكتور الشرقاوي يلخص نظرية توينبي في الحضارة صعودًا وسقوطًا، فيقول(1): (ذلك هو تصور توينبي للدورات الحضارية، فالتاريخ عنده كأنه تجربة واحدة تمت على مراحل أو دورات، وكل الحضارات التي يدرسها مرت بأطوار متشابهة في النمو واستمرار التقدم، وزيادة القوة، ثم تنشأ بعد ذلك عقبات من الداخل أو الخارج، أمام هذه الحضارات، تمثل ألوانًا من التحدي، قد تعجز الحضارات عن الاستجابة لها بنجاح، فيكون التفكك والانهيار، وقد تنجح في مجابهتها فيكون التقدم والاستمرار إلى حين. على أن انهيار الحضارات في النهاية لا يمثل شرًا مطلقًا، فكل تجارب الحضارات السالفة تتمثل في الحضارات الجديدة، بصورة أو بأخرى، ومن هنا فإن التاريخ لا يعرف حضارة زالت تمامًا، وإنما الذي يحدث -في غالب الأمر- أن الحضارة بعد أن تتم دورتها، على يد أمة أو أمم، تقوم بعد ذلك حضارة أو حضارات جديدة ).
تعقيب ومناقشة:
إذا استثنينا الهجوم اليهودي على توينبي، فإن النقد الموضوعي جاء من د.عفت الشرقاوي، وجاردنر، وسوركن.
وأهم بنود هذ النقد أن توينبي يؤمن نظريًا بحرية الاختيار، لكن نظريته تسير في اتجاه الجبر، وقد شبهه بعض ناقديه بأنه مثل عالم الكلام الإسلامي، الذي يقيم الدليل على الجبر، ولأسباب نفسية يؤمن بالاختيار. كذلك نُقدت نظريته بالنسبة للحضارة الغربية، فهو يصورها وكأنها تجتاز مرحلة عظيمة في التقدم، وهي على حافة الهاوية والانحلال، وفي ذات الوقت لا يريد الاعتراف بهذه النتيجة، والحكم على حضارة اليوم بالزوال، فيتحدث عن احتمال (إرجاء إلهي ) تنجو بفضله الحضارة من هذا المصير.
يرى د. الشرقاوي (1) أن توينبي لديه قلق شخصي بالنسبة لمصير حضارة اليوم. كذلك وجه له نقد حول تقسيمه الأدوار الحضارية، من النشوء إلى الانحلال والسقوط، أساسًا لفلسفته وتفسيره للتحضر، ويرفض أمثال سوركن ذلك لأن هذه النظرية تعني أن هذه الأدوار كيانات حقيقية، لا مجرد تجمع لظواهر اجتماعية وثقافية، جمعها الزمان والمكان، دون أن يكون بينها ترابط سببي موحد.(9/251)
ويستشهد سوركن لافتراضه بأنه(2) (و صح افتراضه أن الحضارات كيانات حقيقية، إذن للزم التغيير في أحد مقوماتها، لزم تغيرًا في مجموع المقومات الأخرى ). وهذا غير واقع ولا حاصل.
كذلك ينتقد سوركن ما يطلق عليه توينبي بأنه وحدة حضارية، فيرى بأنه ليس أكثر من مجال ثقافي، توجد فيه العديد من الأنظمة، والتكتلات الاجتماعية والثقافية، إلى جانب بعضها، وقد تكون منسجمة أو غير منسجمة. ثم يزيد سوركن -وهو ماركسي قديم منشق(3)- (كل ما ليس في أصله بنية حية لا يمكن أن يولد وينمو ويموت ). ومن هذا المنطلق لا يعتبر سوركن تفسير توينبي نظرية في التطور الحضاري، بقدر ما هي نظرات تقويمية لأغراض التقدم أو التأخر الحضاري.
كذلك سجل سوركن أن توينبي قال بأنه يدرس حضارات ولا يدرس دولاً، لكن أغلب شواهده جاء من الدول القومية، علمًا بأنه لا يعتبرها -أي توينبي- وحدات أساسية للدراسة التاريخية، وكان الأولى والأجدر به أن يأخذها من تاريخ الحضارات، إذا صح وجودها كوحدات مستقلة.. ويأخذ عليه الإطالة في كتابة (تاريخ العالم )، الذي جاء بـ (12) جزءًا، وذكر قضايا كثيرة حسمها من سبقه.
ومع ذلك يعترف سوركن بأن توينبي في دراسته للتاريخ جاء بأعظم الآثار الفكرية في هذا المجال.
ولعل من أفضل ما نقد به توينبي أنه -كمؤرخ- راح يأخذ الحوادث من إطارها الحضاري وظروفها التاريخية، ليبرهن بها على صحة نظريته في التحدي والاستجابة، ويفسرها ويوجهها كما يحب، فالعبيد في إيطاليا مثلاً، وعلى عهد الرومان، لا يشبهون السود في أمريكا، وليست ظروفهما واحدة. والاعتكاف للفرد شيء، ونقله لمحيط شعب أو أمة شيء آخر.
وأختم بما كتبه عن اليهود، وسبب عدائهم القاتل له(1):
(.. أما بالنسبة لادعائهم بأنهم أصحاب حق في المطالبة بتعويضات عن الجرائم التي اقترفها الألمان بحقهم، فإن لهذا الادعاء ما يبرره، ولكن ادعاءهم بأن ما اقترفته النازية بحقهم من جرائم تقضي بإعطائهم وطنًا خاصًا بهم، فهو ادعاء مردود من أساسه، وإذا وجد لهذا ما يبرره فإن هذا الوطن الخاص، يجب أن يمنح لهم في الأرض الألمانية، لا في الأرض العربية، التي يملكها أهلها منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا ).
وإذا كان اليهود ما زالوا (يحلبون ) من الألمان ويبتزون، فضحايا دير ياسين، وتلاميذ مدرسة حوض وذبح أهل (قانا ) بلبنان، وضرب المفاعل النووي العراقي، وكهرباء لبنان، وتعويض كل لاجئ فلسطيني مما فقد، وكل أرض صادرتها إسرائيل، وكل بستان نهبته، حتى المقابر التي حولتها إلى فنادق، والمساجد التي حولتها إلى بقالات وحظائر للبهائم... كل ذلك يجب أن يدفع كاملاً، ومن أموال اليهود وليس من أموال العرب أو غيرهم.
5- مالك بن نبي(1):
هو مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي يرحمه الله، ولد في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1323هـ/1905م) .
درس الابتدائية في تبسة، وفي المرحلة المتوسطة انتقل إلى قسنطينة، وهناك تعرف على مجموعة من تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس، والذين كانوا ينافحون عن الإسلام، وكان يحرص على حضور الاجتماعات ليناقش في الموضوعات العلمية والدينية.
عام 1343هـ/1925م تخرج في المدرسة، وصار يبحث عن عمل، وقد سافر إلى فرنسا لكنه لم يفلح في الحصول على عمل، كما لم يحصل على فرصة عمل في الجزائر، مما اضطره للتقدم بطلب عمل، ولو بدون أجر، في محكمة تبسة، فقبل ذلك على أمل أن يتحول إلى موظف، وقد حصل له ذلك في محكمة آفلو.
لكن السفر إلى فرنسا والدراسة هناك كان من أحلامه، وقد وفق لذلك، وسجل في معهد الدراسات الشرقية، بشرط أن يؤدي امتحانًا، ولما أخفق تحول إلى مدرسة اللاسلكي، ثم إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك، لكنه حرم من الشهادة لأسباب استعمارية كما يقول، ودرس المساحة، وإلى جانب ذلك كله كان يشارك بعض الطلبة الجزائريين دراسة خاصة -سرية- في الشعر والبلاغة والأدب.
وعاد إلى الجزائر عام 1932م للزيارة، وقد عزم على الهجرة للسعودية، لكنه لم يوفق، كما حاول الهجرة إلى مصر وأفغانستان وألبانيا، ولم يفلح. وفي عام 1375هـ/1956م، قدم إلى مصر وعاش فيها حتى استقلت الجزائر، فرجع إليها عام 1382هـ/1963م، حتى وافته المنية عام 1393هـ/1973م، في منزله بالجزائر.
مالك وقوس التحضر:
تقدم أن مالكًا يرحمه الله، من القائلين بدورة الحضارة، فهي عنده تمر بثلاثة أطوار(1):
أ- طور الروح (النهضة أو الميلاد )، ويبدأ من الصفر، وهو يتفق مع لحظة وجود أو ظهور دين في المجتمع، وبداية تركيب الحضارة، ويتميز هذ الطور بترويض الغرائز، بحيث تسلك في نظام خاص، يكبح جماحها، فالروح هي المسيطرة في هذا الطور على تطور المجتمع، والمسيرة له.. ويبرز ذلك في القدرة العالية على تكييف الطاقة الحيوية للمجتمع، بحيث يتأهل لأداء وظيفته التاريخية، ويظهر أثرها في إبراز المجتمع إلى عالم الواقع، أو تجسيد المبادئ من خلال المجتمع، وتكامل بنائه، في ضوء المبدأ الجديد. وهذا التكوين تنشأ معه الأسباب التي تؤدي بالمجتمع الوليد إلى الانتقال للطور الثاني من أطوار حضارته، فبقدر إشعاع الدين الجديد في العالم، تنشأ المشكلات المحسوسة لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.
ب- وصول الحضارة إلى هذا الحد، يؤذن بانتقالها إلى الطور الثاني، وهو طور (العقل ).. ودخول الحضارة لهذا الطور يحدث بسبب توسع المجتمع واكتماله، فلكي تستطيع الحضارة تلبية الضرورات المستجدة تسلك منعطفًا جديدًا، وهو منعطف العقل، وهو يختلف عن سابقه، إذ أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع حينئذ في التحرر من قيودها، بحيث تفقد الروح نفوذها على الغرائز تدريجيًا، كما أن المجتمع يكف عن ممارسة ضغطه على الفرد، ومن المسلم به أن الغرائز لا تنطلق دفعة واحدة، وإنما بقدر ما تضعف سلطة الروح.
ومن السمات المميزة لهذا الطور، اتجاه الأفكار لتكييف المادة، أو الناحية التقنية، بدل التوجه لتكييف الطاقة الحيوية، كما هي سمة الطور الأول... فالمجتمع يميل إلى إبطال صفة القداسة في مبادئه، بمقدار تقدمه في الطور الثاني، أي في طور المشكلات التقنية ومشكلات التوسع، بحيث يمكن تفسير هذه الظاهرة بطريقتين، فهي (تقدم ) من وجهة نظر الاقتصاديين، و(تخلف ) من وجهة نظر فلاسفة التاريخ، إذ هي بداية الانحراف أو الشيخوخة للمجتمع.
جـ- وهكذا يبدأ خط الانحراف في سير الحضارة، وما يزال يتسع إلى أن تصل الحضارة إلى الطور الثالث من أطوارها، وهو طور الغريزة (الأفول ).. وحينما يصل المجتمع إلى هذا الطور تكون الغرائز قد بلغت قمة تحررها، وأضحت هي المسيطرة على المجتمع، فتفقد الروح قدرتها على الهيمنة، وبذلك تتم دورة الحضارة، ويصل المجتمع إلى المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، أي مرحلة ما بعد التحضر.
سمات المراحل:
ولكل مرحلة من المراحل سمتها الخاصة، بحيث تتميز عن الأخرى سواء أكانت سابقة لها أم لاحقة، فيختلف وضع المجتمع من حيث التقدم أو التخلف أو التدهور حسب مرحلته التاريخية.
هذا العرض أو الاستعراض يناسب الحضارة الإسلامية، حيث بدأت مع انتشار الإسلام، وكانت قوية في صدر الإسلام، روحية مفعمة بطاقات الروح، حتى إذا وصلت إلى العصر العباسي، وبدأ تدوين العلوم والمعارف والترجمة، صار الطابع الغالب (العقل )، وفي أواخر العهد العباسي تحول المجتمع إلى مجتمع مترف، حيث امتلأت البيوت بالجواري الحسان والغلمان، فانفلتت الغرائز، حتى جاء الاجتياح التتري وسقوط بغداد.(9/252)
ويمكن رصد مثل هذا (الخط ) في الأندلس، حيث وقعت الفاجعة، ورحل من رحل، وأحرقت الكتب في الساحات العامة، وهدمت الحمامات، وأقفرت المدارس والمساجد.
والجديد عند مالك هو ما يتعلق بحضارة اليوم، فكأنه يشارك توينبي أنها سائرة نحو السقوط، ولكنه يبحث عن (إرجاء إلهي ) يمنعها من السقوط.
أما مالك فوجد حلاً آخر -غير الإرجاء الإلهي- فحضارة(1)اليوم صارت حضارة العالم، لكثرة المشاركين فيها من كل أرجاء العالم، فانتقلت من حضارة مجتمع خاص إلى حضارة أوسع، ومن كونها ثمرة عبقرية معينة، إلى نطاق أعم وهكذا، ولذا فهو يرى أن قانون التغيير حدث فيه تعديل.
فالأحداث الحاضرة تدل على تغير طارئ في قانون الحضارة.. فالتطور الطارئ مع الحضارة الغربية، من الناحية الصناعية، وانتشارها من ناحية أخرى بفعل الاستعمار، نقل الحضارة من كونها في إطار مجتمع معين، أو ثمرة عبقرية معينة إلى نطاق عالمي، بحيث أصبحت العبقريات كلها تشارك في صنع الحضارة واستمرارها. وقد أحدث هذا التوسع تحولاً في طبيعتها التاريخية، فلم تعد خاضعة لقانون الدورات، فهي إنما كانت تخضع لهذا القانون حينما كانت في نطاق مجتمع معين، وعبقرية معينة، لا تلبث بعد مدة من الزمن أن تفقد إبداعها، فتأفل حضارتها.. أما في هذا العصر فليس هناك مجال بتوقع الأفول، لأن صنع الحضارة واستمرارها أصبح من شأن الشعوب الإنسانية كلها، فإذا تضاءلت الحضارة في مكان، فإنها تنمو في مكان آخر، وهذا الأمر يؤكد أن نهاية الحضارة الإنسانية -بعد هذالتطور- سيكون بالكسوف الكلي النهائي.
وقد ظهر أثر -هذا الامتداد- في اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته المعنوية أو الحضارية، بعد تحقيق الوحدة من الناحية التقنية المادية، فما لبث العالم يقترب من تحقيق هذه الوحدة، وإن كانت أصول الاتجاه لهذه الوحدة تمتد في أعماق تطور النشاط البشري، فإنها أخذت في التجلي بشكل واضح منذ منتصف القرن العشرين. ومن مظاهرها، في المجال السياسي ظهور هيئة الأمم، وفي مجال المواصلات ظهور البريد العالمي، وفي الثقافة منظمة اليونسكو، إلى غير ذلك من المنظمات والاتحادات التي تظهر اتجاه العالم نحو تحقيق وحدته.
من ناحية أخرى، فهذ التطور يبرز حاجة البشرية إلى منهج رشيد يحقق وحدتها، في عهد حضارتها العالمية.. ومن خلال استقراء الأحداث الحاضرة يلمح مالك بن نبي دور الإسلام، باعتباره المرشح الوحيد القادر على تركيب الحضارة الإنسانية في عهدها العالمي.
نهاية حضارة اليوم:
والذي أتصوره أن الحضارة الإسلامية قد شارك فيها أمم وشعوب مسلمة وغير مسلمة، ولم يمنعها ذلك من السقوط، ولكن يمكنني القول: بأن حضارة اليوم وبفضل النمو الهائل في العلوم والمعارف، صارت قادرة على معالجة ما يواجهها من مشاكل بطرق علمية سليمة ستطيل من عمرها.
لكنها بما حققته من صناعات حربية، ومن أسلحة فتاكة، فمتى ما اشتعلت حرب كونية، كالحرب العالمية الأولى أو الثانية، فإن نهاية هذه الحضارة ستقع، وفي مدة قصيرة جدًا، تتناسب مع فتك الأسلحة الجديدة والصوايخ عابرة القارات وغيرها.
وإن ما حدث في (شارنوبل ) ومفاعلها أكبر تحذير، فهناك أربع مفاعلات، تعطل واحد منها وراح يسرب إشعاعات قاتلة، ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى، ثم الإمكانات الكبرى، لأمكن أن يستمر الإشعاع، وقد يتبعه مفاعل آخر، وهكذا..
ولو حصلت الحرب واستعملت كافة أنواع الأسلحة الفتاكة، فإن الحياة ستنتهي على الأرض خلال ساعات. علماؤنا يقولون: من حرك ساكنًا لزمه، وقد حركت حضارة اليوم مليون ساكن، والويل للعالم إذا تحركت كل السواكن، وتفجرت كل الأسلحة، فهنا يصدق قول الحق: {وإذا البحار سجرت } (التكوير:6).
وتسجير البحار اشتعالها، ولن يشتعل الماء إلا بفعل مادة كيماوية تجعله كذلك، وعلينا أن نتصور اشتعال المياه كافة، فستتحول الأرض إلى جهنم حمراء، فتموت جميع الأحياء، صغيرها وكبيرها، وخلال مدة وجيزة، وقد تكون نهاية عالمنا، وبداية الحياة الثانية.
وقد يكون قول الله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض } (الأنعام:65)، قد تكون صورة قريبة، حيث ينصب العذاب على الرؤوس، وتتفجر الأرض، وقد تنقسم الأمم والشعوب إلى جماعات متناحرة، يضرب بعضها بعضًا، فلا تكون حياة ولا نجاة، ليس للإنسان فقط، ولكن لجميع الأحياء.
إن حضارة زودت إنسانها بكل وسائل الدمار الشامل، التي لا تبقي ولا تذر، والتي لا ترحم إنسانًا ولا حيوانًا ولا نباتًا، لا تترك فيلاً ولا بعوضة.
ويصور الله جلَّ وعلا نهاية الحضارة، فيقول: { حتى إذا الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } (يونس:24).
قد يعترض معترض فيقول: أين علامات الساعة؟
فأسارع للقول: أنا أتحد ث عن نهاية حضارة اليوم، وليس نهاية العالم، فقد يتم تدمير هذه الحضارة بمنجزاتها، فيعود العالم قرونًا إلى الوراء، وهذا ما أقصده وأعنيه.
=============(9/253)
نحن والحضارة والشهود (الجزء الثاني)
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل القرآن شاهدًا على الكتب السماوية السابقة، وجماع رسالاتها، ومحققًا الاكتمال والكمال لتاريخ النبوة، ومؤكدًا لوحدتها، مصوبًا لمسيرتها، ومبينًا علل التدين التي لحقت بأصحابها وكانت سبب سقوطهم، ليكون ذلك يبانًا وهدى وموعظة وتقوى للأمة الخاتمة التي لا يتحقق شهودها ما لم تتعرف على قوانين الحركة التاريخية وسنن السقوط والنهوض الحضاري.
كما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدًا على الأمة المسلمة والأمم السابقة بما نيط به من البيان للهيمنة والشهود القرآني.
وجعل الأمة المسلمة، بما تؤمن به من قيم القرآن والبيان النبوي وتتمثل بهما، شاهدة على الأمم، شهودًا تاريخيًا من خلال عطاء القصص القرآني، وشهودًا واقعيًا من خلال تقويمها للحاضر بقيم القرآن والبيان النبوي، وشهودًا مستقبليًا من خلال بيان معالم طريق النجاة والصراط المستقيم ووضع الضوابط التي تحمي السائر من السقوط حتى لا يضل ولا يشقى.
والصلاة والسلام على النبي الخاتم، الذي جاء بمقومات الشهود التاريخي والمستقبلي، فورث النبوة والكتاب، وتوقف تاريخ النبوة عند بعثته وجُعلت معايير ومقومات الشهود التي جاء بها خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان والأشخاص.. وبعد:
فهذا ( كتاب الآمة ) الحادي والثمانون: (الجزء الثاني ) من كتاب ( نحن والحضارة والشهود )، للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في محاولة لمعاودة إخراج الأمة المسلمة، وإحياء رسالتها الإنسانية، والمساهمة في استرداد الدور المنوط بها من الوعي بذاتها والشهود على نفسها، والوعي ( بالآخر )، محل الشهود والدعوة، والوعي بمعايير ومقومات الشهود، والعودة بالأمة إلى موقع الوسطية بكل مدلولاته وأبعاده الإيجابية غير المنحازة، التي تعيد التوازن وضبط النسب وتحمل ميزان الاعتدال، استجابة لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أُمةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ) (البقرة :143).
فهذا الجعل من الله، أو هذا الموقع الحضاري والثقافي الوسط، وهذه النبوات التاريخية التي توحدت بالرسالة الخاتمة: (وإنَّ هذه أُمتكم أُمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:52)، التي أكدت وتمحورت حول الوحدانية لله عز وجل، التي ألغت الآلهة المزيفة، وأوقفت تسلط الإنسان على الإنسان، منبع الشر والفساد الحضاري…
هذا الجعل الوسط، بكل آفاقه وأبعاده ومقتضياته، هيأ الأمة المسلمة لأهلية تحمل الشهادة على الناس، ـ وأهلية أدائها لهم، ليستقيم أمرهم. ذلك أن النكوص عن هذا التحمل، والقعود عن هذا الأداء، يترتب عليه مسؤوليات جسام، ويكون سبيلاً لإشاعة الفساد في الأرض، والخراب الحضاري، وظهور الآلهة المزيفة والأنبياء الكذبة، وعودة أصول الشر الكامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإهدار إنسانية الإنسان وكرامته، قال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياءُ بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفاق:73).
إن الكفر في حقيقته، هو عدول عن الإيمان بالله والتلقي عنه إلى آلهة أخرى.. فإذا لم يحقق المسلمون الشهود الذاتي بكل مقتضياته، من موالاة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاة للذين آمنوا، ونكلوا عن الحمل، كان ذلك إيذانًا بفتح باب الشر والفساد والسقوط الحضاري (إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفال:73).
ذلك أن درء الفتنة عن الأرض، والحيلولة دون الفساد الكبير، يقتضي بروز قوامة العدل، وشهادة العدل، وأمة العدل، وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها، ووعيها لرسالتها، وأبعاد مستلزمات شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، لتصويب طريقها وتأهيلها للشهادة الإنسانية، ووعيها بالناس الذين كُلفت بالشهادة عليهم، يقول تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شُهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئانٌ قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى واتقوا الله ) (المائدة: 8)، ويقول سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) (النساء :135).
إن أعباء هذا الجعل الوسط ومسؤولياته وما يتطلبه من القوامة المستمرة على حماية قيم الأمن والحق والعدل، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق كرامته، لمجرد كونه إنسانًا مهما كانت عقيدته، استجابة لقوله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء: 70)، والاضطلاع بأعباء هذا الجعل الوسط غير المنحاز عن قيم الحق والعدل، وحسن القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، أو بتعبير آخر: تجسيد قيم النبوة واعتماد معاييرها في التعامل مع الذات و (والآخر )، هو الذي يؤهل الأمة لهذه الوسطية وهذه الشهادة والقيادة والحراسة لتلك القيم الإنسانية.
وقد يكون المطلوب باستمرار تحرير معايير الشهود الحضاري، وإبصار مقوماته، والاجتهاد في وضع البرامج والآليات لحسن ممارسته وفك احتمال تلبسه بالأشخاص والأجناس والأقوام… إلخ، بحيث تبقى هذه المعايير قيمًا مجردة منفتحة على بني الإنسان جميعًا، يمكن التحلي بها والتعامل معها واختيارها من قبل الجميع، لأنها في حقيقة الأمر ليست حكرًا على أحد، وبالتالي تصبح من حق الجميع ابتداءً، ومن واجب الجميع حراستها من الانتحال والانحراف أو التأويل الباطل في نهاية المطاف.
إذ لا يمكن أن نتصور بحال من الأحوال أن يكون الإنسان، بأنشطته المتعددة ورغباته ونزواته وتطور إمكاناته المستمر، وما يعرض له من السقوط والنهوض، هو المعيار والشاهد على نفسه وعلى الآخرين، لأنه بذلك يصبح المعيار وموضوع المعايرة في الوقت نفسه، إضافة إلى أن الله قد خلق الخلق كلهم وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة، متساوين في الحقوق والواجبات الإنسانية، لا يرى أحدهم فضلاً لأحد على آخر.. فكيف يمكن لإنسان أن يقبل وضع القيم المعيارية لسلوكه ونشاطه من قبل إنسان آخر يماثله؟ وما هي الضمانات ألا تكون تلك القيم وسيلة للتسلط والاستبداد؟
فإذا كان الإنسان عاجزًا عن وضع المعايير لنفسه، التي تتقلب في الرغبات والرهبات والنزوات والإمكانات والظروف المحيطة والضغوط المختلفة، الأمر الذي يضطره إلى تغيير أحكامه ومعاييره والحكم بقصورها أحيانًا ونقضها في أحيان أخرى، فأنى له أن يضع معايير لغيره؟
يضاف إلى ذلك أن منبع الشر في التاريخ البشري كان كامنًا في تسلط الإنسان على الإنسان، حيث أخذ هذا التسلط أشكالاً متعددة، من اللون والقوم والطبقة والجنس والدين (رجال الدين في الحكم الثيوقراطي ) والحزب والقبيلة.. إلخ .. وأن هذا التسلط كان ولا يزال هو سبب البلاء والوباء الحضاري، وأن إنسانية الإنسان لا يمكن أن تتحقق وتسترد ما لم يوقف هذا التسلط، وتصبح المعايير الحاكمة والقيم المقومة للسلوك تستمد من جهة أخرى، خارجة عن سيطرته ووضعه أصلاً.
لذلك نقول: بأن عملية الشهود الحضاري على الذات و(الآخر ) تتطلب قيمًا ومبادىء ومعايير مستمدة من مصدر آخر، يتساوى الناس أمامه، ولا يملك أحد الحق فيها دون آخر إلا من يؤمن بها ويعمل لها، والإيمان بها متاح للجميع.. إنها قيم النبوة الخالدة، الثابتة، المستمدة من خالق الإنسان، الذي يعلم خصائصه وطاقاته وغرائزه وحاجاته وما ينفعه وما يضره، قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14).
فالعلم بالإنسان والخبرة به، لا يحيط بها إلا خالق هذا الإنسان، ونصيب الإنسان من هذا العلم لا يؤهله لوضع المعايير.
لذلك نعتقد أن التحقق بهذا الجعل الوسط، الذي يؤهل للشهادة على الذات و(الآخر )، بحاجة دائمًا للتقويم والمراجعة للمحافظة على سلامة المعيار، وعدم تلبسه بالأشخاص، واكتشاف الخلل، وتحديد أسبابه، وتصويب المسار، وهذه هي الشهادة على الذات التي تؤهل للشهادة على (الآخر ).
والمعروف أن الشاهد من حيث الخصائص والصفات، أو أهلية الشهادة المعتمدة، وصفاتها هو كالقاضي، سواءً بسواء.. فالشاهد في بعض أبعاد الشهادة هو قاض، بكل ما يتطلب القضاء من خصائص وصفات في القاضي، وما يتطلب من معرفة بالمعايير القانونية التي تحكم على الحادثة بأنها جريمة وخروج غير مشروع، أو هي تقع ضمن العمل المشروع، فإذا سقطت العدالة أو خرمت الكفاءة سقطت أهلية الشهادة، فأصبح غير مؤهل لتحمل الشهادة ولا لأدائها.
وفي تقديري، أن الأمة المسلمة، باعتبارها أمة الفكرة أو أمة العقيدة، حيث إن كل من يؤمن بهذه العقيدة ويتحقق بهذا الخيار فهو مسلك في الأمة الوسط الشهيدة، مهما كان جنسه أو لونه أو قومه أو جغرافيته، بعيدًا عن الانغلاق والتعصب والتميز، مؤهلة بهذا الاعتبار، وهذا الخيار، وهذه الموازين للكرامة والتأهيل، لحمل الشهادة وأدائها.
نعود إلى التأكيد، أن القيم والمعايير، المستمدة من خالق الإنسان، العالم بكينونته وحاجاته ونزواته وشهواته وأهوائه، المجسدة في سيرة النبوة وبيانها، بعيدًا عن وضع الإنسان وعبث الإنسان، واستغلال الإنسان، مؤهلة لأن تكون معايير الشهود على الذات، و(الآخر ). لذلك فالقيم المستمدة من النبوة لا يمكن إلا أن تكون واقعية، قابلة للتطبيق، حيث تعتبر مناط التكليف هو استطاعة الإنسان وفطرته واستعداداته.(9/254)
إن قيم الشهادة والشهود والتجربة التاريخية، التي تجسدت في حياة الناس، بمختلف أحوالهم وأوضاعهم وأجناسهم، فأنتجت حضارة لبني الإنسان جميعًا، هي قيم ومعايير واقعية غير خيالية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق، لذلك فهي باستمرار مؤهلة للشهود والشهادة على الناس.
فالقيم التي تعتبر الخيار وعدم الإكراه مرادفًا لإنسانية الإنسان وكرامته، هي قيم مؤهلة للحكم والشهادة والقيادة للناس.
والقيم التي استوعبت الحركة الحضارية التاريخية، وقدمت قوانين وأسبابًا وسننًا لسقوطها ونهوضها، وانتهت إليها أصول النبوات السابقة، واستصحبت الصواب من تاريخ الإنسانية وتجاربها، وحددت مواطن الخلل، وحررت المعايير في الانحياز، مؤهلة للشهادة على الذات و (الآخر ).
وحسبنا أن نقول : بأن المساواة والعدالة، وحرية الاختيار، والشورى في اختيار الحاكم وإدارة شؤون الحكم، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإقامة حراسة بإيقاظ الوازع من داخل النفس، ووضع تشريع ملزم من خارج النفس لضبط المسيرة، هي قيم جديرة بالشهادة على الذات و (الآخر ).
من هنا نقول : إن مصدرية هذه القيم وخصائصها، هو الذي مكنها من البقاء والاستمرار والقدرة على الإنتاج في عصور متعددة وشعوب متعددة وجغرافيا متعددة، بحيث لا تستطيع أمة أن تدعي لنفسها هذه القيم إلا بمقدار ما تلتزم بها وتحملها (للآخر ) لإنقاذه من أزماته، واسترداد إنسانيته.
إن من المسلمات التاريخية أن الحضارات والأمم بقيمها وأفكارها القادرة على الإنتاج في كل الظروف والإمكانات، وليست بعالم الأشياء المادية، وأن عالم الأفكار إذا بقي سليمًا معافى ومحفوظًا، يؤهل الأمة التي تحتفظ بتلك القيم باستمرار لإمكانية معاودة النهوض، ولا أدل على ذلك من القيم الإسلامية الحضارية التي استطاعت باستمرار أن تنتشل الأمة، وتحميها من الموت، وتدفعها إلى معاودة النهوض والإقلاع الحضاري.
ولعل من الملفت أن سنن التداول الحضاري، أو الدورات الحضارية، التي حكمت الحضارات جميعًا، سقوطًا، ونهوضًا، وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل: (فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر: 43)، لم تنج منها الحضارة الإسلامية، لأنها قانون الحركة التاريخية، الذي أكده القرآن، كتاب الأمة المسلمة . في شهوده التاريخي.. إلا أن القيم الإسلامية، أو عالم الأفكار المستمدة من النبوة، كانت شاهدة على الأمة المسلمة، فمكنتها من اكتشاف الخلل ومعاودة النهوض حال السقوط، وكانت شاهدة ودافعة للشهادة على (الآخر ).
لقد حقت سنة التداول الحضاري بعالم الأشياء في الأمة المسلمة، كغيرها من الأمم، عندما غابت شهادتها على نفسها، ولكنها لم تصب عالم الأفكار والقيم، لأنها ليست من وضعها، وليست ملكًا لها، وبقي الإمكان الحضاري كامنًا في عالم أفكارها، في قيمها.
وبمجرد أن تتمكن الأمة المسلمة من إعادة التعامل مع عالم أفكارها، وتقويم واقعها بقيم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الخلل وأسبابه، لا تلبث أن تعاود النهوض، الأمر الذي لم يتحقق لسائر الحضارات البشرية التي سادت ثم بادت وتحولت من شاهد إلى مشهود.
والحقيقة التي لا بد من التذكير بها هنا، هي أن الكلام عن القيم وعظمتها وخلودها، وبعدها عن وضع الإنسان وعبثه، واستجابتها لحقائق الحياة والحاجات الإنسانية الأصلية، ومراعاتها للفطرة وعدلها، وما إلى ذلك، لم يدع استزادة لمستزيد في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، وكأن ذلك في بعض مراحله أصبح نوعًا من التعويض والاحتماء، بينما يجب أن يتحول الكلام - في تقديرنا - في معظمه إلى كيفية الشهادة على الذات التي تؤهل للنهوض والشهادة على (الآخر ).
إن تحديد مواطن الخلل، وإعادة تقويم الذات بقيم الإسلام، ووضع البرامج والآليات لذلك، أصبح ضرورة حضارية، ذلك أن عظمة هذه القيم لا تتناسب مع خيبة واقع الأمة التي تُنسب إلى هذه القيم.
إن عدم الشهادة على الذات، وإعادة تقويمها بقيم الإٍسلام، نوع من الخيانة الحضارية للذات و(الآخر )، ومحاصرة للقيم نفسها، وعزلها عن الحضارة والشهود الحضاري.
وقد لا نحتاج إلى التأكيد أن قيم الإسلام بعد هذه الرحلة الحضارية والتجربة التاريخية والإنجاز الحضاري، لم تعد بحاجة إلى شهادتنا عليها، وإنما نحن بحاجة لشهادتها علينا.
إن خيانة الحضارة الإنسانية، فتح للباب أمام الفساد الكبير والفتنة في الأرض، ووقوع في المسؤولية الكبرى، وعطالة حضارية في عدم الاستجابة لقوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ) (الأنفاق : 73).
إن غيبة الشهادة على الذات، التي تقود إلى الشهادة على (الآخر )، تؤدي إلى مسؤولية كبرى.. فإذا كان من خصائص الأمة المسلمة الشهادة على الناس، فإن النكوص والغياب عن هذه الشهادة إضاعة للحق والعدل والأمن، وإيذان بالسقوط الحضاري البشري.
وفي هذا الجزء الثاني من الكتاب، الذي يعتبر استكمالاً للجزء الأول، الذي حاول الباحث فيه أن يعرض لقصة الحضارة والعوامل المؤثرة في التحضر، ويرصد مسارات حركة التحضر، ويقدم نبذًا عن الرؤى المتعددة والرئيسة لدورات التحضر، على المستوى الإسلامي والمستوى العالمي، وأشهر المذاهب والتفسيرات لحركة الحضارة والفعل الاجتماعي، مما يكاد يشكل مسحًا للمكتبة الحضارية إلى حد بعيد، يمكن أن يكون أحيانًا تجاوز فيه الاقتصار على الإحالة إلى المراجع إلى إثبات الكثير من المساحات المقتبسة منها، ولعله أراد بذلك التقدم بخطوات أكثر باتجاه القارىء، حيث قد يُرى أنه لا بد أن يترك لجهده وتفكيره استكمال بعض الجوانب ليكون القارىء شريكًا في العملية الثقافية.
لقد حاول الباحث في هذا الجزء - ما أمكن - الإحاطة بالرؤية الإسلامية، والتوقف عند بعض خصائصها وأبعادها المتفردة، التي أهلتها للشهود الحضاري على الذات و(الآخر ).
ولعل من الأهمية بمكان أن نوضح، أن ملف الشهود الحضاري ملف مفتوح ومستمر استمرار التاريخ على الأرض، بكل ابتلاءاته، وهو محتاج بطبيعته لاستكمال شعبه المعرفية وأدوات بحثه واستصحاب قيم الوحي لهداية العقل.. وسوف لا يغلق، ولا تتوقف الشهادة والمسؤولية الحضارية، حتى تتوقف الحياة، بكل مناشطها وتضاريسها وسقوطها ونهوضها.. وستبقى قيم النبوة الخالدة الثابتة البعيدة عن وضع البشر وعبثهم وأهوائهم، هي الشاهد على البشر جميعًا، سواء في ذلك أمة الاستجابة أم أمة الدعوة.
والحمد لله رب العالمين
=============
الله تعالى، الكون، الإنسان، الشهادة على الناس
أولاً: الله تعالى وصفاته
إذا نظر الإنسان فيما حوله، فماذا سيجد؟ نفسه والكون "الطبيعة " من حوله.. فإذا تساءل: من خلق الكون وما فيه؟
أنا خلقت نفسي وما حولي؟! الكون خلقني وما حولي؟! من نظم الكون، من جعله يسير وفق سنن تضبط حركته، وتمنع خرابه؟ لا يتصور عاقل أنه خلق نفسه ولا غيره ولا الكون.
إذن لا بد أن يكون الخالق "قوة" ثالثة، حية مريدة عاقلة مسيطرة، وهي الله تعالى.
قد يعترض إنسان فيقول: هذه ليست طريقة علمية في الإثبات أو الاستدلال. نعم إن العلوم لا تثبت ولا تنفي العالم الروحي، رغم أنها تعالج وتفسر الكثير من الظواهر، التي تحدث في الطبيعة والكون، والتي تكون مبنية على أساس فلسفي بحت.(9/255)
من هنا علينا أن نلتزم بالجانب العلمي، مع الاستدلال المنطقي الصرف، حيث يكون ما نتوصل إليه سليمًا وصحيحًا، من ناحية الاطمئنان العقلي في المفاهيم اللامرئية. فعندما يكشف لنا العلم بأن هناك عشرات من الحقائق لا تخضع إلى أي تفسير مادي صرف، فالمطلوب هو الاستدلال المنطقي لتلك الحقائق، ونختزل منها:
1- إن سلوك أي جزء في المادة، هو سلوك منتظم دقيق، ولا يمكن أن يكون في تخبط عشوائي قط.
2- جميع الكواكب والنجوم والأجرام الأخرى، موزعة توزيعًا في غاية الدقة، وغاية الانتظام الصارم الجميل، في سائر الكون.
3- محال أن يكون نشوء الخلية من المادة ذاتها، لأن الجزىء البروتيني الواحد يحتوي على (40.000 ) ذرة، وعدد العناصر الكيماوية في الطبيعة هي (92 ) فقط، إذن يتطلب ذلك زمنًا خياليًا، بغية نشوء جزىء بروتيني واحد يكون أكبر من عمر الكون، بملايين المرات.
لذا يتوجب علينا أن نتخذ الاستدلال المنطقي، في التحليل العقلي، لأية محصلة يصل إليها العلم، ومن تلك المحصلات ندرك بأن هناك "خالقًا عظيمًا " قدر كل شيء فأحسن تقديره، وعلينا أن لا نضع رؤوسنا في الرمال، ونتوحل في المادة، تحت رداء علمي، حصيلته النهائية ليست فيه.
إنه يتوجب علينا أيضًا أن نسلم بوجود خالق حكيم، دبر كل شيء، وقبل تسليمنا بحقائق العلم، والاستدلال المنطقي، نكون قد وفقنا بالحفاظ على العلم والفلسفة، وبالتالي لا يوجد هناك تناقض ما في نفي حقيقة ما، بل إن كل الحقائق تشهد على حقيقة الحقائق، ألا وهو الله الخالق.
إن التطور العلمي تجاه الكون، قد برهن بصورة قاطعة وجلية على وجود الله الواحد الخالق (1).
لقد افتتح الروس معهدًا في موسكو، كان يستهدف تصنيع خلية حية، وبعد جهود متواصلة جاوزت نصف قرن، لم يستطع العاملون بالمعهد، سوى شطر خلية إلى نصفين.
كان الإلحاد عملاً فرديًا، لكن الشيوعيين جعلوه هدفًا، وسخروا كافة إمكانات الدولة لذلك، هذا أمر جديد على العالم.. لقد كان الإلحاد موقفًا شخصيًا، فصار موقفًا رسميًا ، تسخر له ميزانية دولة ، بكافة قدراتها.. وبعد ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، انتهى كل ذلك، وتبخر خلال سنوات قليلة (2).
وبينما راحت الأديان السماوية تصف الله تعالى بأنه "أزلي ليست له بداية ، لم يولد من أحد، ولم يستحل أو يتطور من موجود آخر، إنه أبدي ليست له نهاية، لا يموت ولا يفنى مطلقًا، ولا ينقص شيء من إرادته وقدرته، وهو منزه عن المادة، أي إنه فوق مستوى حواسنا القاصرة الفانية، لا تدركه الأبصار، ولا تصل إليه الأيدي، ولا تستطيع حاسة أن تدركه أو تبلغه، ثم إنه منزه عن الزمان والمكان، وهو قادر مطلق، وكل شيء يدخل تحت هذه القدرة والإرادة المطلقة، دون حاجز أو مانع.. وهو يتصف بكل صفات الخير والكمال والجمال، والعلم والعدالة والرحمة…إلخ.
وهذه الذات الإلهية خلقت السماوات والأرض والملائكة أولاً، ثم خلقت النباتات والحيوانات على سطح الأرض… "(3).
هذه الصورة لله تعالى ترسمها الأديان السماوية، فكيف يرسم كهان العلمية، صورة الكون بدون إله؟!
"والحقيقة أن المادية، التي تسمي نفسها بـ (المادية العلمية )، لا تعتقد بوجود الله القادر المطلق، وإنما تقيم مكان هذه العقيدة قوانين الصدفة والسببية " (4).
إن الأديان السماوية - خاصة الإسلام- تعتبر القوانين الطبيعية قوانين إلهية، وضعها الله وفق خطة معينة ، ولغاية محددة، بينما يقول الماديون: إن هذه القوانين لم يضعها أحد، وإنما جاءت نتيجة صدفة، وتأسست من نفسها، دون تدخل من أحد، وكل ما في الكون من موجودات، أساسها مادة أزلية، لا تفنى ولا يمكن أن تُستحدث، وليس لوجودها بداية ولا نهاية، وغير قابلة للفناء، ولكنها في استحالة دائمة، يتغير شكلها باستمرار.
وهذا يسري على الإنسان، وكذلك الحياة، فليس كلها من صنع خالق. وما هذه الحياة إلا وليدة "الصدفة"، قد تكونت بنفسها، دون تدخل من أحد، ثم ارتقت من طور إلى طور.
وهم ينكرون كافة العقائد السماوية، ويصفونها بأنها من العصور الغابرة، وكل من يدعو لدين، فهو يريد رد المجتمع إلى العصور القديمة.
العلم والدين:
يقول بعض هؤلاء: إن الأديان كانت مفيدة في عهود الجهل، وبما أنها لا تستند إلى أي أساس علمي، فإن الأمم بعد أن تستضيء بضياء العلم، سوف تزول منها الأديان في وقت قريب…
والذي يصعب فهمه وقبوله، أن من يقول بأن هذا الكون بما يحويه، هو من صنع عالم مريد، خلقه وفق تصور سابق، يقال له: هذا كلام غير علمي وغير مقبول.
والذي يقول: بأن العالم والحياة وجد بالصدفة، تكون مقولته علمية وفلسفته كذلك!
إن العلم الذي يلوكونه ليل نهار، عاجز عن إثبات أو نفي كثير من قضايا الدين، بسبب اختلاف المنهج والهدف، يقول باشكيل(5): "إن العالم غير المحسوس والعالم اللامادي يبقى خارج إطار العلم، فهو لا يستطيع أن يصدر أي حكم سواء أكان نفيًا أو إيجابًا، إنكارًا أو تصديقًا ، في المسائل التي لا تدخل المختبر، ولا تجري عليها الأقيسة.. إن العلم يستطيع أن يقول شيئًا واحدًا فقط: لا أدري.
إن المواضيع الدينية، كعقيدة الله واليوم الآخر، والمسائل التي تتعلق بهذه العقائد، هي حقائق تعود إلى العالم اللامادي، وإن إصدار أي حكم باسم العلم، وإنكار هذه الحقائق، إنما هو افتراء على العلم، واستغلال أثيم له، لأن هذه العقائد خارجة عن تناول البحث العلمي.. وتجارب الحياة وحدها، هي التي تستطيع أن تبين لنا قيمة هذه العقائد.. فالإنسان كلما سار وتقدم في درب هذه الحياة، اتضح له أن فراغ القلب من الإيمان لا يعوضه ولا يملؤه المنصب ولا الجاه ولا الثروة ولا أي عرض من أعراض هذه الدنيا.
إن المواضيع الخارجة عن نطاق العلم، لا تقتصر على العقائد الدينية وحدها، فكنه المادة والقوة، ومنشأ الشعور والإحساس وحركته، وماهية العقل والإرادة، ومدى حرية هذه الإرادة، كلها من الأمور غير المادية. وكذلك الخير والشر، العدالة والظلم، الفضيلة والرذيلة، وأشباهها من قواعد الأخلاق، كلها تبقى خارج حدود ونطاق العلم، بل إننا نستطيع القول: بأن المواضيع الخارجة عن ساحة العلم، بالنسبة إلى المواضيع الداخلة في ساحته، بمثابة البحر الواسع إلى قطرة ماء، وإن نسبة ما يعلمه الإنسان إلى ما يجهله، كذرة في فلاة مترامية ".
إذن لكل من الدين والعلم مجالات تخصه، ولكل منهجه، فالعلم يصف، والدين يبين الغاية، والعلم يجيب عن كيف؟ والدين يجيب عن لماذا؟
العلم والمرجعية:
يطرح د. برهان غليون سؤالاً هامًا عن مصدر معلوماتنا ومرجعيتها، فيقول(6): ما هو مصدر معلوماتنا الصحيحة، أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن ثم ما الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها؟ ونستطيع أن نطرح الموضوع بطريقة أبسط فنقول: كيف يكون الواقع مطابقًا لذاته؟ أي متسقًا ومن ثم معقولاً ومقبولاً؟
ليس هناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس المعرفة "اليقينية"، وشروط نمو هذه المعرفة، التي هي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده. ومن هذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة؟ وكيف يمكن تجاوز العقبات التي تقف أمام هذا التطور؟
تفترض أيديلوجية "الحداثة " مسبقًا أن الواقع المطابق لذاته هو الواقع الحديث المساير للحداثة، وأن كل مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها، ليست إلا واقعًا "مفوّتًا " لا انسجام فيه، أي ليس له أي قوام حقيقي ولا مبرر.(9/256)
إن وجوده هو مظهر من مظاهر اللاعقلانية والانحطاط، أي هو شذوذ.. "فالحداثة ": هي معيار العقلانية والصحة، ولا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجًا هو الواقع المطابق لذاته، والمتسق في ذاته، أي الواقع الحديث المعاصر. والعلم بوصفه أحد منتجات هذه المعاصرة الكبرى، يشكل إذن بالضرورة، معيار صحة أفكارنا عن الواقع الذي نعيش فيه، فبقدر ما تكون هذه الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية… إن مطابقة أفكارنا للعلم هي إذن قاعدة الموضوعية، والعلم كما هو مجسد في نظم معرفية جاهزة، هو ضامن صحة هذه الأفكار ويقينيتها.. إن هذه المحاكمة تقول عمليًا: إن أصل المعرفة اليقينية - أي العلم - هو العلم نفسه (7)…
وإنما تضفي على المعرفة العلمية صفة الحقيقة المطلقة، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى، وهي لذلك تعجز عن أن تفسر نشأة العلم، وأقل من ذلك، تطوير التجربة العلمية، وتضع نفسها في وضع المترجم الدائم، والناقل للعلوم، أي تخرج من المسعى العلمي، في الوقت الذي تقدس فيه العلم كثمرة وكنتاج جاهز للعقل. إنها تجعل من العلم معرفة "لا هوتية مقدسة " مفصولة عن الواقع الذي استحدث منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له… إنها اكتفت بالاستهلاك العلمي، بدل أن تمارس الإنتاج العلمي الحقيقي… لقد أصبح الموقف السائد: العلم موجود إنه قائم هناك، جاهز ومتطور، وليس علينا إلا أن نأتي به، أن ندخله عندنا، أن نفسح له المجال ونرعاه، وبذلك حرمنا أنفسنا من كل قدرة على مناقشته أو الإضافة إليه.
إن البعض عندنا يهرب من الميتافيزيقية الدينية، ليسقط في ميتافيزيقية علمية، يهرب من حقائق الدين، ليسقط في حقائق العلم، هكذا تبدو العملية (8).
إن أهل الحداثة يرون - باسم العلم ومن أجل اكتسابه - أن علينا التخلي عن كل الثوابث،: "وعندئذ فإن المنطق لا بد أن يؤدي إلى نتيجة واحدة، هي أن شرط اكتسابنا للعلوم والعقل، هو التخلي عن تاريخنا وثقافتنا التي هي أصل الفساد والخطأ، وننهل ما أمكننا من العلم الغربي، دون إدراك أن هذا النهل هو بطبيعته مخالف للعلم، وللمسعى العلمي الصحيح، ولو كان خطوة أولى ضرورية… إن مسعاهم العلمي ليس كما قلنا إلا صبغ مسبقاتهم الأيدلوجية بالصبغة الحديثة "(9). يعود في نهاية البحث للقول: بأن العقلية العلمية لا تطرد الدين من المجتمع، ولا تجعل هذا شرطًا للتقدم العلمي، ويضرب مثلاً بأمريكا وإسرائيل.
والناظر في خارطة العالم اليوم يجد أن التوجه للتصالح وليس للاحتراب، ولكن البعض يعتقد أنه يكون قريبًا من الغرب كلما أعلن عن عداء للإسلام، دون أن يدرك أن ذلك يقطع صلته بشعبه وأمته، حتى لينظر إليه وكأنه غريب كل الغرابة. البعض بدافع التخفف من الالتزامات الإسلامية يعلن إنكار الدين أو معاداة الإسلام تحديدًا، لكن مجرد التمرد والخروج، لا يعني أن صاحبه صار علميًا أو تقدميًا، لكنه صار غريبًا في وطنه.
الإنسان والعلوم:
يمكن القول: بأن ثمة علومًا مصدرها النص، وأخرى الكون، فكل ما يتعلق بالله تعالى وصفاته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وما يحدث فيه، وكل ما يتعلق بالعالم غير المرئي مثل الملائكة، والعبادة وكيف تؤدى، كل ذلك تفضل الله به على العباد، فجلاه تجلية تامة.. وأما علوم الحياة، مثل الزراعة والكيمياء والفيزياء والهندسة والطب والفلك، فقد ترك أمرها للإنسان ليعمل فيها فكرة، وعن طريق التجربة والخطأ كشف الإنسان الكثير من العلوم.
وإذن فهناك دائرتان، والخلط بينهما يوقع الإنسان في مشاكل هو في غنى عنها، فإلإنسان بعقله المجرد لا يمكن أن يعرف ذات الله تعالى ولا صفاته، ولا ما أنزل من كتب وبعث من رسل، ولا ماذا سيحدث بعد الموت، كما لا يعرف كيف يعبد الله تعالى عبادة صحيحة، يرضى عنها الله تعالى، ويأجره على فعلها.. لكنه كشف أو استطاع أن يكشف الكثير من قوانين وسنن الكون.
وقد سقطت الكنيسة الكاثوليكية في خطأ قاتل، حين خلطت بين الدائرتين، فنسبت بعض علوم الحياة لله تعالى، واعتبرت كل من يخالفها مهرطقاً:، وعرضته على محاكم التفتيش السيئة السمعة والصيت، حتى كره الناس الدين وألحدوا.
فقضية مثل "كروية الأرض " من علم الفلك، ولا صلة لها بالدين وعلومه، لكن الكنيسة بقيت قرونًا ترفض كروية الأرض وحركتها.. وليس في نصوص الدين شيء يقول بذلك، وإن وجد فمشكوك بصحته، كما رفضت وجود الجراثيم. وقد ذكرت الكاتبة الألمانية "زغريد هونكه " أمثلة من عقائد الكنيسة، مثل(10): "ملعون من يقتنع أو يقبل تفسيرًا علميًا لحوادث الطبيعة، خارجًا عن طاعة الرب، ومن يشرح أسبابًا طبيعية لبزوغ كوكب أو فيضان نهر، بل لمن يعلل علميًا شفاء قدم مكسور أو إجهاض امرأة، فتلك كلها عقوبات من الله، أو من الشيطان، أو معجزات أكبر من أن ندرك كنهها ".
والأب (ملشوار ) يعلن(11): "إن القول بحركة الأرض أسف من كل ضروب الهرطقة، وأكبرها إثمًا، وأشدها قدحًا في الدين… وأقذعها قذفًا، وإن ثبات الأرض معتقد مقدس!
وإن البرهنة على فناء النفوس الإنسانية، وعدم خلودها، وإنكار وجود الله، وامتناع التجسيد، أشياء يمكن أن يتسامح فيها، قبل أن يتسامح في البرهنة على أن الأرض تتحرك ".
وقد صنع رئيس بلدية في ألمانيا (مصباحًا ) يعمل بغار الاستصباح، فقضت الكنيسة بكفره، محتجة بأن الله تعالى خلق الليل مظلمًا، والنهار منيراً، وهذا المصباح ينير الليل، ويغير في مشيئة الخالق، حيث يحول الليل إلى نهار(12).
إن التعسف والخلط واضح جدًا، ونسبة علوم بشرية لله تعالى، دون وجه حق، كل هذا أشعل صراعًا بين الكنيسة ورجال العلم، انتهى بهزيمة الكنيسة، فقبلت فصل الدين عن الدولة. ومن المفيد القول: بأن ما يعتبره البعض تصادمًا بين النص والعلم، ليس كذلك، وإنما السبب في تعميم نظرية وتحويلها إلى حقيقة علمية مطلقة، أو سوء فهم للنص ليس أكثر. فإن تصادمًا، أخذنا بالقطعي منهما وأولنا الآخر، كما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأخيرًا لقد كان أفلاطون عقلية كبيرة، وصاحب علم متقدم في عصره، ومثله اليوم ملايين، وقد استطاع بعقله وعلمه التوصل إلى وجود الله تعالى، وساق الأدلة على ذلك، لكنه لم يصبح نبيًا، ولا متدينًا.. لم ينقص أفلاطون وأمثاله العقل والعلم، ولكن ينقصه الوحي، لقد غاب عنه النص الصحيح.. وفي مقابل ذلك جاء عربي بكتاب ودين ومعارف، عجز ويعجز فطاحل العلماء عن مثلها.
============
ثانيًا: الكون
وهو ما سوى الله تعالى، خلقه الخالق كما أراد وفق قدر مسبق، ولذا فهو مخلوق "فكري " بالدرجة الأولى، مادي بالدرجة الثانية، وهذا ما توصل إليه علماء الفلك أخيرًا، أمثال "السير أرثر " البريطاني، الذي يكرر أن مادة الكون عقلية.
ومثله "جيمس جنز " الذي يرى بأن الكون كون فكري، ولم يعد يقبل التفسير المادي، في ضوء علم الطبيعة الجديد، وحتى التفسير المادي قد صار أخيرًا "فكرة ذهنية " وينتهي للقول: "وإذا كان الكون كونًا فكريًا، فلا بد أن يكون خلقه كان عملاً فكريًا ". ويشاركهم "ج.و.ن. سوليفان " هذا الاعتقاد (13).
إذن فالإنسان والكون مخلوقان لله تعالى، ولم يتطورا عن شيء، بل خلقا ابتداءً، وفق تصور سابق وقدر قاهر.. أما ضبط حركة الكون، فجاء وفق سنن ونواميس إلهية، يحلو للبعض أن يطلق عليها "قوانين الطبيعة".(9/257)
وقد سخر الله الكون للإنسان، كما سلطه ومكنه من كشف سننه وقوانينه، وذلك عن طريق الملاحظة والتجربة، وقد كشف الإنسان الكثير من هذه القوانين، وما بقي قد يكون أكثر من ذلك.
وقد سقطت الكنيسة الكاثوليكية في وهم قاتل، حين اعتبرت كل كشف وكأنه لإرادة الله، وليس هو كذلك.. فمعرفة قوانين الفلك، وحركة الذرة، وقوانين الفيزياء والكيمياء، ومثل ذلك علم الحيوان والنبات، كل هذه العلوم والمعارف مما يسر الله للبشر الكشف عنها، وكما يقول علماء الكلام: فإن دقة الصنعة تدل على عظمة صانعها، فالكون كتاب مفتوح، المطلوب أن يكون وسيلة للتعرف على خالقه والإيمان به.
وكما أن صانع الآلة يعلم جيدًا مهمة كل قطعة فيها، وهو أفضل من يحسن صيانتها، فكذلك خالق الكون هو الأعلم بما يصلحه.. ولأن دور الإنسان دور المنتفع فعليه أن لا يتجاوز ذلك، فيتصرف وكأنه المالك المطلق اليد، يعبث في الكون ويخرب فيه، فيفسد البيئة، يقطع أشجار الغابات، أو ينشر التلوث، أو يملأ الأرض بالمبيدات الضارة والصناعات القاتلة.
إن فهم الكون اختلط أحيانًا بالأساطير، أو بالربط بين حركة الإنسان والنجوم، فجاء الإسلام يرفض ذلك كله، فمن يتردد على كاهن أن عراف، ثم يؤمن بما يقوله، فقد يوصله ذلك إلى الكفر. وحين مات إبراهيم، ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصادف كسوف الشمس، فربط الناس بين الحدثين، سارع صاحب الرسالة لنفي هذا الربط، معلنًا أن الشمس ومثلها القمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان ولا تكسفان لموت أحد.
كما حرم الإسلام الشعوذة بأنواعها، والدجل بأنواعه، وحرم تعاطي السحر، وجعل عقوبة متعاطيه القتل، بل حرم تعاطي المسكرات لأنها تفسد العقل.
وأختم البحث برأي لعالم الاجتماع الأمريكي "إريل فروم " يتحدث فيه عن أن علاقة الإنسان بالطبيعة، راحت تتسم بالعداء والاحتقار معًا (14): "إن علاقة الإنسان بالطبيعة، اتسمت بالعداء الألد… ظروف وجودنا تجعلنا جزءًا منها، وموهبة العقل تجعلنا نتفوق ونعلو عليها، ومن ثم فقد حاولنا أن نحل معضلة وجودنا بنبذ رؤية الخلاص، المتمثلة في الانسجام بين الجنس البشري والطبيعة، واتجهنا نحو إخضاعها وقهرها، وتحويلها لخدمة أغراضنا، حتى أصبح هذا القهر مرادفًا لتدمير الطبيعة.
إن روح العداء والإخضاع أعمتنا عن حقيقة أن للموارد الطبيعية حدودًا يمكن أن تستنفد، وأنه سيأتي الوقت الذي سترد فيه الطبيعة على جشع الإنسان.
إن المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة، ويحتقر كل ما ليس من صنع الآلة، ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات، فالناس اليوم ينجذبون لكل ما هو ميكانيكي آلي، ولما لا حياة فيه، وينجذبون يومًا بعد يوم للتدمير ".
إن التلويث للبيئة يقوم به الإنسان الأكثر ترفًا، فالفرد الأمريكي يعادل ألف هندي أو أفريقي، في هذا الميدان.
في بلد عربي أراد إقامة مصنع نسيج كبير، فوضعه على حافة نهر صغير، وبعد مدة، ونتيجة لإلقاء المخلفات الصناعية والأصباغ والزيوت، والمواد الكيماوية، تلوث ماء النهر فلم يعد صالحًا لشرب الإنسان أو الحيوان، حتى الأسماك لم يعد بمقدورها العيش، وهكذا يفسد الإنسان الطبيعة! وقد سجل شاعر ذكي مثل هذا الفساد، فقال:
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانًا
ينبت النبات، فيحول الإنسان بعضه إلى أداة قتل، وخلق الله الحديد، وجعل فيه بأسًا، فصنع الإنسان منه الدبابة والمدفع والقنبلة، وكان بإمكانه أن يصنع محراثًا أو آلة للحصاد، أو وسيلة لنقل الماء.
ولعل الأقبح من كل ذلك ما ينشره الإنسان من فساد في الكون وإفساد، ومن عبث، ربما كان الاستنساخ من أواخر نماذجه.
هناك اليوم ملايين من البشر بحاجة إلى الطعام والدواء واللباس، وهناك ملايين الحيوانات تموت جوعًا وعطشًا، على حين ينفق المترفون المليارات على تدخين السجاير، أو حرب النجوم، أو إرسال مركبات فضائية تكلفة الواحدة تكفي لإطعام مليون جائع، وألف مستوصف.
إن ثمن دبابة قاتلة يبني أكثر من مدرسة، ويوفر الطعام والدواء لألوف الجياع، فلماذا يجنح "المترفون " للشر والعبث؟!
لماذا تتصاعد الغازات بهذه الكثرة حتى تحدث ثقبًا في طبقة الأوزون عمرها ملايين السنين؟
الإنسان المترف صار العدو الأول للطبيعة، يعبث فيها عبثًا مخيفًا فالغابات -على سبيل المثال- تعيش مرحلة الفناء التدريجي، ذلك أن ثلث الأشجار التي كانت موجودة عام 1882م، ومساحتها حوالي ملياران من الهكتارات، قد أُزيلت حتى عام 1952م. والإتلاف مستمر وآخذ بالاتساع، كل دقيقة يُتلف الإنسان عشرين هكتارًا من الغابات في العالم.
إن كمية الورق اللازم لعدد "الأحد " من صحيفة نيويورك تايمز، والذي يحتوي على ثمانين بالمائة من الإعلانات الدعائية، يتطلب قطع (15) هكتارًا من الغابات الكندية، كما يتطلب العدد اليومي (6) هكتارات، فاجتثاث الإحراج الجاري بلا روية ولا تبصر من أطراف الهملايا، يحدث اليوم فيضانات مدمرة في بنغلاديش، كما تولد الزراعة الموروثة عن الاستعمار ألوان الجفاف في الساحل" (15).
وأخيرًا: لماذا يصر هذا المترف على القول: بأنه يقهر الطبيعية؟! ألا يكفيه قهر البشر، حتى توجه إلى الطبيعة ليقهرها؟!
وأختم بقول الحق: (أم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرةَ وباطنة ) (لقمان: 20).
وقوله: (ألم ترَ أنَّ الله سَخَّرَ لكم ما في الأرضِ والفُلكَ تجري في البحر بأمره ويُمسكَ السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) (الحج: 65).
=============
ثالثاً: الإنسان
الإنسان مخلوق فريد، صاحب عقل جوال، وإرادة قوية، وقابلية عظيمة للتعلم والارتفاع، والجهل والسقوط، يرتفع إلى مستوى الملائكة، ويهبط إلى مستوى الشيطان، دائم التذبذب، مشبوب العاطفة، يملك روحًا تشده إلى خالقه، وجسمًا وشهوات تهبط به إلى الأرض.. صانع الحضارة، القادر على هدمها وتدميرها.. يولد ولا علم له، ثم لا يموت حتى يكدس جبالاً من العلم والمعرفة.. انتدبه خالقه لعمارة الأرض، وعبادة الخالق.
كرّمه وقدمه على سائر المخلوقات.. حمّله الأمانة، وأمره أن يكون صالحًا مصلحًا، وان لا يفسد في الأرض، وأن لا ينازع الخالق ربوبيته، وأن لا ينصب نفسه معبودًا من دون الله سبحانه.
هذا الإنسان المخلوق الفريد له مكونات يشاركه بها غيره - من المخلوقات - ومكونات ينفرد بها.. فما هي مكوناته؟
1- مكونات الإنسان:
يتكون الإنسان من جسد، وعقل، وروح، وعواطف.. الجسم يتكون من عناصر معروفة، فإذا مات تحلل جسمه.. والجسم السليم ما غُذيَ بالحلال، وأعطى قسطه من النمو السليم الصحيح، والراحة المناسبة.. وقد حرم الإسلام كل ما يؤذي الجسم، كما منع تكلف المشاق، وكل ما يرهق البدن، خادم العقل والروح.
أما الروح فلا نعلم عنها شيئًا، سوى أن الميت يفتقدها، ولا يقول متفلسف: إذا كنا لا نعلم حقيقتها، فكيف نسلم بها؟
في الكون ألوف القضايا نسلم بها، دون أن نعلم حقيقتها - وقد تقدم هذا في مبحث العلم - ومهمة الروح الاتصال بالخالق.
إن مخ المجنون يماثل مخ العاقل، فلماذا يختلفان في العمل مثلاً؟ أما العقل فهو القوة المفكرة والتي يفتقدها المجنون.. وأشبه العقل بالكهرباء في البطارية، فساعة تكون مملوءة، وساعة تكون فارغة من تلك القوة، بينما تكون مكونات البطارية موجودة، من أحماض وكربون ورصاص وغيرها، لكن الشحنة الكهربائية لا توجد.(9/258)
أما الغرائز فيشارك الإنسان فيها الحيوان، فغرائزهما متماثلة، لكن الإنسان يتميز بعواطفه، يحزن ويسر، ويتألم ويستريح، يحب ويكره، دون الحيوان.
والإنسان السوي، هو الذي نمت كافة مكوناته نموًا متوازيًا.. وفي عالم اليوم، نجد من يهتم بالجسم أولاً ، وأخيرًا، ومن يريد أن يجور عليه لتنشط روحه، ويطهر قلبه، ومن يُعنى ويهتم بعقله وتحسين قدراته العقلية، ولا يهمه ما وراء ذلك.
وإذا كان الجسم ينمو بالرياضة والغذاء الحلال، فإن الروح تنشط بفعل الخيرات، وعبادة الله، كما أنها تدل على الخير والشر.
والعواطف تسمو وتهبط، حسب سلوك الإنسان وتوجهاته، فإذا توجه لخدمة الآخرين ومساعدتهم، سيحبهم ويحبونه، وإن عاش أنانيًا نرجسيًا، يعشق نفسه، ويرى سعادتها على حساب الآخرين، فستكون عواطفه سائرة في هذا الاتجاه، تعشق الربح الشخصي، والمنفعة الخاصة، وهو على استعداد لمحاربة الكل، ليظفر بما يريد.
وإذا كان الإنسان السوي من نمت كافة مكوناته نموًا متوازيًا، فالحضارة كذلك لها مكوناتها الروحية والعقلية والعاطفية والمادية، ولا بد من نمو متوازن وإلا جنحت سفينة الحضارة وغرقت.
ختامًا يمكن أن أقول: الجسم وعاء، والروح حارس، والعقل دليل.. الروح تضبط علاقتنا بالله تعالى، والعقل يخبرنا ويدلنا على أن هذا نافع وذاك ضار، لكن الإنسان قد يعمد للضار فيستعمله وإلى النافع فيهمله، وهنا يكون من مهمات الروح منعه من ذلك، فهي الحارس الأمين، لكن الحارس قد يغفل، والروح قد تضعف، فيفقد الإنسان "الرقابة " كلاً أو بعضًا.
2- استخلاف الإنسان:
قال عزوجل: (وإذ قالَ ربُكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفكُ الدماء ونحن نُسبحُ بحمدك ونُقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم أدم الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنت صادقين، قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، قال يا أدمُ أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقُل لكم إني أعلمُ غيبَ السماوات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون ) (البقرة: 30 - 33).
يستوقفني في الآيات الكريمة جملة أمور، منها:
أ- نسبت الملائكة لآدم عليه السلام تهمة عامة هي الإفساد، وفسرتها بسفك الدماء.
ب- إن آدم عليه السلام لم يسبق له سفك دم أحد.
ج- إن الله تعالى لم ينفِ التهمة عن آدم وذريته، بل ألمح إلى قدرات أخرى معينة، هي العلم والاستذكار.
د- طرح الله تعالى "الأسماء " دون تحديد، فهل كانت مسميات الأشياء أم اللغات؟
هـ- من أين جاءت الملائكة بتهمة "الفساد " ؟ هل ذلك لكونها استقرأت حال آدم كمخلوق مختار، فقدرت أنه من كان هذا حاله فإنه يمكن أن يسفك الدماء؟
و- لقد دلل الله تعالى على ما يتمتع به آدم من العلم والاستذكار، بطرح أسماء فاستطاع آدم استذكار تلك الأسماء.
ز- نمط العرض يوحي بأن الاستخلاف يرتبط بما وهبه الله لآدم من القدرات على التعلم والحفظ.
ح- إذن فالاستخلاف يرتبط بهذه القدرات، فمن تعلم ووظف قدراته فقد استحق الاستخلاف، ومن لا يتعلم يخسر ذلك.
بعد هذه الملاحظات أنتقل إلى فارس هذا الميدان "سيد قطب "(16)، يرحمه الله، فهو يرى أن الله تعالى يريد أن يسلم للمخلوق الجديد آدم عليه السلام، زمام هذه الأرض، وإطلاق يده فيها، يبدع فيها عن طريق التكوين والتحليل، والتركيب والتحوير والتبديل، وكشف طاقات وكنوز هذه الأرض، وتسخير كل ذلك في المهمة الملقاة على آدم وذريته.
إن هذا المخلوق، قد وُهب طاقات واستعدادات توازي وتعادل ما في هذه الأرض من طاقات وكنوز وخامات.. إن منزلة الإنسان في الوجود منزلة عظيمة.. والسؤال: من أين علم الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولم يفعل شيئًا بعد؟
ويجيب سيد قطب: ربما كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من الإلهام، ما كشفوا عن شيء من فطرة آدم وذريته، ثم هم بفطرتهم البريئة، التي لا تعرف إلا الخير المطلق، والسلام الشامل، يرون أن التسبيح والتقديس لله تعالى هو الغاية الكلية للوجود، وعلة الخلق، وهذا متحقق بوجودهم، لا بوجود آدم وذريته.
لقد خفيت عليهم الحكمة العليا في عمارة الأرض، وتنمية الحياة وتنويعها، وتطويرها وترقيتها، وكل ذلك يكون على يد من يستخلفه الله تعالى في أرضه، فهو المرشح لذلك، وإن كان يفسد أحيانًا، ويسفك الدماء أحيانًا، فإن خلف هذا الفساد والشر خير كثير أكمل وأشمل، حيث النمو الدائم والرقي المستمر، حث الحركة التي تهدم لتبني، والتطلع الذي لا يقف، ومحاولة التغيير.. وقد جاء الرد ليس بنفي الفساد بل بالقول: (إِني أعلمُ ما لا تعلمونَ ) ( البقرة: 30).
وبعد عرض أسماء الأشياء ، وأعاد آدم عليه السلام المعلومة فنجح بالاختبار، ويعلق سيد قطب على ذلك قائلاً (17): "ها نحن أولاء نشهد طرفًا من ذلك السر الإلهي العظيم، الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة، سر القدرة على الرمز بالأسماء للحسيات، سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها، وهي ألفاظ منطوقة، رموزًا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة، هي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض، (وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا ) ( البقرة: 34).. إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، ولكنه وهبه من الأسرار ما يرفعه على الملائكة.. لقد وهب سر المعرفة، وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته وقدرته على تحكيم إرادته، في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله، بمحاولته الخاصة، إن هذا كله بعض أسرار تكريمه… "
إن الإنسان -وإن كان يفسد ويسفك الدماء- إلا أنه يمتاز بقدرات فائقة على "التعلم والتعليم".. وهذه القدرات على اكتساب المعارف وتنميتها واستثمارها، هي من مرشحات الخلافة في الأرض، لأنه خير من يعمرها ويقيم الحضارة فيها، أما الملائكة فتجيد التسبيح لله تعالى، تحسن وتجيد العبادة، تطيع ولا تعصي، لكن متطلبات التحضر والعمران هي العلم المتطور المتجدد دائمًا، وهذا ما يحسنه الإنسان، ولا تحسنه الملائكة، ومن هنا وقع الاختيار على الإنسان دون الملائكة.
وكل من لا يكسب علمًا، على مستوى الفرد والأمة، فقد أخل بشروط الاستخلاف الأساسية، والله تعالى لا يحابي أمة، ولا يعطيها إلا ما تستحق، فليس للإنسان إلا سعيه وكده.
وأخلص إلى أن الإنسان صاحب مواهب وقدرات، فإذا وضع في شروط مناسبة، ومكان مناسب، وعومل معاملة كريمة، بعيدًا عن التأليه أو التحقير، فإنه يعمر ويتقدم، يقيم حضارة ويرعاها.
أما إذا أُهين واحتقر، وحوصر وخوّف، فَقَد معنى الحياة، وماتت قدراته، وانتهت إبداعاته، وربما تحول إلى أداة هدم وتخريب، يشعل الحروب ويتاجر بالأسلحة الفتاكة والمخدرات، ووسيلة دمار.
وعتاة المستعمرين - قديمًا وحديثًا - ورجال المافيا من كل لون، وفراعنة السلطة، ودهاقين الرشوة والفساد، كل أولئك وأمثالهم أدلة حية على ما يمكن أن يصل إليه الإنسان الشرير الأناني، الفاسد المفسد، ولو كان على رأس القيادة في العالم.
إن من يبحث عن دليل فدونه قول الله سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تَحكُمونَ ) ( القلم: 35-36).
3- تكريم الإنسان:(9/259)
الإنسان مخلوق كرّمه خالقه، صغيرًا كان أم كبيرًا، عالمًا أم جاهلاً، إلا أنه لا يصير مكلفًا حتى يجمع صفتين: العقل والبلوغ، لكنه مكرم قبل التكليف وبعده، حيًا أم ميتًا.
يقول الله تعالى: (ولقد كرّّمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً ) ( الإسراء: 70).
فالتكريم مرتبط بصفته من بني آدم، وقد اتخذ صورًا كثيرة، منها:
أ - اتخاذ الرسل، وهم صفوة الخلق من البشر، وهي مهمة سامية لا تدانيها منزلة ولا وظيفة، وقد عرفت الإنسانية منهم أعدادًا كبيرة، ذكر الله في كتابه منهم مجموعة، لكنه ذكر أيضًا أنه بفضله وعدله لم يترك أمة دون أن يبعث فيها ولها نبي أو رسول.
وإلى جانب الأنبياء وقريبًا منهم الشهداء، فهم الأقرب درجة، والأشبه سلوكًا.
ب - تسخير الكون للإنسان: ( الله الذي سخَّر لكم البحر لتجري الفُلكَ فيه بأمره ولتبتغون من فضله ولعلكم تشكرون ) ( الجاثية: 12)، وقوله: (ألم تَروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) (لقمان: 20). وبفضل هذا التسخير يعيش الإنسان سيدًا في هذا الكون الواسع.
ج- سجود الملائكة: أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام، سجود تقدير واحترام، لا سجود عبادة طبعًا، يقول الحق: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم ) ( الأعراف: 11). وقد استجابت الملائكة فسجدت: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس ) (البقرة: 34).
د- استخلاف آدم في الأرض، يقول الحق: (وإذ قال ربُكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة ً) (البقرة: 30) هذه المهمة الكبيرة نيطت بالإنسان كي يعمر الأرض، وينشر العدل، ويسير فهيا كما أمره من استخلفه، فلا يكون عنصر هدم أو تخريب.
هـ- خلق الإنسان على صورة جميلة، يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) ( التين: 4)، ويقول سبحانه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم ) (الأعراف: 11).
والإنسان بشكل عام جميل الصورة، حسن المنظر، ولا يخرم القاعدة، وجود قلة ليس كذلك، إذ الحكم للأعم وليس للقلة، كما قد تشاركه -في هذه الصفة- مخلوقات أخرى، ولكن تبقى صورة الإنسان جميلة بشكل عام.
و- منع الاعتداء على الإنسان بالهمز أو اللمز أو الإهانة أو الضرب، حتى يسقط في اعتداء على غيره فيقتص منه، فهو برىء حتى تثبت إدانته، ولا يسمح بمعاقبته بأكثر من جرمه.
ز- لقد جعل الله للإنسان عقلاً وإرادة، فهو يفكر ويدبر، ثم يتخذ القرار، فإن كان صوباً فله أجره، وإن كان خطأ فعليه وزره، فإذا كان الفعل غير إرادي فلا مسؤولية ولا عقاب، على حين تتحرك كائنات ومخلوقات أكبر من الإنسان، وفق سنن وقوانين، فلا تملك عشر حرية الإنسان.
إن الإنسان -عن طريق العقل- يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، بين الحقيقة والوهم، وبفضل إرادته يمكنه أن يختار الخير أو الشر، وعن طرق "النطق " ثم الاتصال بين الألوهية والإنسان، وحيًا وبلاغًا من جهة، ودعاء وعبادة من جهة ثانية.
وهكذا يحصل الإنسان من التكريم ما يفوق غيره، فميزه خالقه بالعلم، حيث يولد ولا علم لديه، فلا يموت حتى يجمع جبالاً من العلم.. كما منحه قوة في الفهم، وحرية في التحرك، فليس هو حيوان تتحكم به غرائزه، ولا مخلوقًا مسيرًا في كل شيء، تضبط حركته سنن عامة، وكل ذلك ليؤدي رسالته على هذا الكوكب، فيعبد الله تعالى كما أمر، ويعمر الأرض، ويشيع فيها الخير والعدل والسلام.. ولا يتحقق كل هذا وغيره إلا بالإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإن التزم بهما، وحافظ على مرجعية "الوحي"، فسيظل وفيًا لخالقه، جديرًا بصفة "الخليفة المكرم " وإن ابتعد عن ذلك، وأدار ظهره لخالقه، وأهمل المنهج الذي أهدى له، ترك لحاله، وانتظر حتى يأتي على ربه يوم الحساب، فإما جنة أو نار.
إن الإنسان الرافض لمرجعية الوحي، المتمرد على خالقه، الضارب بأوامره ونواهيه عرض الحائط، سيترك في الدنيا لحاله، ولكن الحساب سيكون هناك، ومن ثم فقد يتقدم هذا "المتمرد " وقد يتسلم قيادة البشرية، لكن ذلك ليس بفضل كفره وتمرده، بل لإجادته التعامل مع الحياة، ومعرفة قوانينها، والتصارع والتدافع بقوة وجدارة، لذا سيتقدم غيره ولو كان مؤمنًا، لأن المؤمن تخلف عن معرفة قوانين التحضر والتقدم، أو عرفها نظريًا، لكنه لم يستعملها بصورة صحيحة.. فالكفر ليس هو سبب التقدم، والدليل أن هناك ملايين البشر لا يعرفون الله تعالى، ولا يعبدونه ولا يطيعونه، وهم في ذيل قافلة التقدم، بل يعيشون عالة على غيرهم، فالكفر ليس آلة للتقدم.. فكما قال "الغزالي" فإن الكافر المتقدم، عرف جيدًا علوم الحياة، واستعملها الاستعمال الجيد، لكنه لا يعرف قوانين الآخرة، وليس له نصيب فيها.
والخير كل الخير، أن يعرف الإنسان قوانين الدنيا، وقواعد التحضر، ثم يعبد الله تعالى كما أمر، وللأسف فهذا النفر اليوم قلة قليلة، أما الكثرة الغامرة، فلا تعرف الله تعالى، ولا علوم الحياة "التحضر".. وهناك قلة تعرف جيدًا علوم الحياة، لكنها لا تعرف الله تعالى حق المعرفة، ولا تعبده كما أمر.
والمطلوب، قديمًا وحديثًا ومستقبلاً، أن يعلم الإنسان علوم الحياة والتحضر، وأن يعبد الله كما أمر ، وهذا ما يُفتقد اليوم.
الحاجة إلى دليل:
قد يكون الإنسان من أكبر علماء الفلك، أو الفيزياء أو الطب أو النبات، لكنه إذا أراد السفر، فقد يحتاج إلى دليل، ليس عنده إلا المعرفة الجيدة بالأرض والطرق.. والإنسان كذلك قد يكون من اكبر العلماء، لكنه يحتاج إلى دليل يدله إلى الله تعالى، وأكبر وأعظم الأدلاء هم الأنبياء، وأكبر وأعظم كتب الهداية ما جاء عن الله تعالى، وحفظه خالقه من العبث والتحريف والضياع.
4- حرية الإنسان واختياره:
يعيش الإنسان في دائرتين، دائرة لا حرية له فيها، وأخرى يملك التحرك فيها بحرية.. والقضية قديمة، فالإنسان يتساءل: هل هو مجبر أو مخير؟ والموضوع على قدمه كثر فيه الخائضون والخابطون، وبدلاً من اتضاح القضية ظل يشوبها الغموض، نظرًا لكثرة الخائضين. فإذا نظر الإنسان إلى ما حوله، فسيجد دائرة هو فيها مجبر غير مخير، فالإنسان يولد لأبوين لا خيار له فيهما، ويولد في بلد لم يكن له في خيار كذلك، كذلك لا خيار له في جماله وقبحه، ولا في كونه عصبيًا أو هادئًا، مريضًا أو معافى، إلى كثير من أمثال ذلك.
وإلى جانب ذلك هناك دائرة أخرى، تخضع لتدبير الإنسان وتفكيره وقراره، وهي واسعة كبيرة.
الدائرة الأولى لا ثواب عليها ولا عقاب، لأن الإنسان لا دخل له في ذلك، والدائرة الثانية يثاب ويعاقب فيها، لأنه حر يختار ما يريد، فإذا فعل الخير جوزي بالثواب، وإذا فعل الشر جوزي بالعقاب، متى كان عاقلاً مختارًا غير مكره.
يقول سبحانه وتعالى: (ولو أن أهل القُرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ( الأعراف: 96)، ويقول: (ذلك بأن الله لم يكُ مُغيرًا نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميعٌ عليم )
(الأنفال: 53)، ويقول تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قُلوبهم ) ( الصف: 5).(9/260)
إن الإنسان يعمل وفق حريته وإرادته، وفي حدود خبراته وقدراته، ثم يرتب الله تعالى نتيجة منسجمة مع طبيعة عمل الإنسان.. ومثل ذلك الأمة، فمن يفعل خيرًا يجز به، والأمة التي تعمل بجد وإخلاص تتقدم - ولو كانت كافرة - والأمة التي تهمل وتتكاسل تتأخر ولو كانت مؤمنة، فالله تعالى لا يُحابي أحدًا، ولا يداري أحدًا، ومن يعتقد انه من شعب الله المختار، فهو في الحقيقة من شعب الله (المختال المخدوع ).
إن الإنسان يملك حرية التخطيط والتنفيذ، كما يملك التصرف بالنتائج، وكذلك الأمة.
لكن هناك سننًا عامة لا يملك الإنسان مغالبتها ولا القفز فوقها، وكذلك الأمم.. ومن هنا يجب معرفة تلك السنن، لأن من يجهلها قد يصطدم معها، وقد يحاول القفز فوقها، فلا يفلح.
وقد طرح (آلبان ) وهو من مفسري التاريخ، موقف القرآن الكريم من الجبر والاختيار، فقال(18): "يدور جدل كثير حول مذهب الاختيار، وهل هو مما يعلمه القرآن أم لا يعلمه.. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أن القرآن كتاب دين، وليس كتابًا يجمع مباحث نظرية فلسفية خاصة، فهو يحتوى على الاعتراف بكل من سيطرة الله، وحرية الاختيار عند البشر، ولكنه لا يبحث بطريقة تأملية: كيف يمكن الجمع فكريًا بين هذين الآمرين؟
فهو يؤكد أن الله تعالى مسيطر على كل شيء، وقد نفخ في الروح سجيتها: (ونفسٍ وما سوَّاها، فألهمها فُجُورها وتقواها ) (الشمس: 7-8).. والقرآن من أوله إلى لآخره يؤكد استخدام "الاختيار "، تأكيدًا كبيرًا، فليس الله بظلام للمذنبين ولكن أنفسهم يظلمون: (وَلتُجزى كلُ نفسٍ بما كسبتْ وُهم لا يُظلمون ) (الجاثية: 22).
والقرآن يشير في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو هلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية التي يعبر عنها القرآن ".
ومعلوم أن وصف عمل ما بأنه خير أو شر، يتوقف على حرية الإنسان في العمل، فإن كان مجبرًا فلا خير ولا شر، هذا مثل ذاك ولا فرق بينهما، بعيدًا عن الحرية.. كذلك يفقد الحساب والعقاب معناه، إذا كان الإنسان مجبرًا، ويفهم جيدًا مع الاختيار.
فالمسؤولية تابعة للحرية، فإذا فُقدت الحرية فلا مسؤولية، وإذا صار الإنسان آلة بيد غيره ثم قام بجناية فالمسؤولية على من أمره ، وليس على المنفذ ، كما يرى الفقهاء.. ومنذ أن استقر الإنسان على كوكب الأرض، راحت الرسل تترى، ومهمتهم جميعًا دعوة البشر، والعمل من أجل هدايتهم، فلو كان الناس مجبرين غير مخيرين، فما جدوى بعث الرسل؟ وما قيمة ما يبذلونه من جهد ووقت؟
من أين يأتي الجبر؟
الله تعالى له علم محيط، كما له إرادة نافذة، علمه لا يخطىء، وإرادته لا ترد، فإذا وصف إنسانًا بأنه "شقي " فلن يعيش سعيدًا.. أما علم الإنسان فمحدود، وكذا إرادته، فإذا قال أستاذ: إن هذا الطالب سينجح، فقد ينجح أو يفشل، وإذا أراد شيئًا فقد يستطيع إنفاذه وقد لا يستطيع.. والإنسان يتحرك في الحياة، وهو لا يعرف علم الله عز وجل ولا إرادته، لكنه مهما تحرك فلن يخرج عنها مطلقًا، والمثال الجيد "الرزق "، فالإنسان لا ينال منه إلا ما كتب له، لا يزيد فيه ولا ينقص منه، ولا يعرف مقداره، كذلك الأجل.
والسؤال الكبير: كيف يعمل الإنسان منسجمًا ومتوافقًا مع إرادة الله عز وجل؟
سيد قطب والمشيئة:
يقول سيد قطب يرحمه الله (19): " الإسلام يثبت المشيئة الإلهية المطلقة ، ويثبت لها الفاعلية، التي لا فاعلية سواها ولا معها ،ـ في الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية، ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها، وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا مختارًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام، مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة، وتفردها بالفاعلية الحقيقة، من وراء الأسباب الظاهرة، وذلك باعتبار أن وجود الإنسان إبتداءًا، وإرادته وحركته ونشاطه، داخل المشيئة الطليقة المحيطة بهذا الوجود، وما فيه ومن فيه، ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (قل لن يُصيبنا إلا ما كَتَبَ الله لنا هُو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (التوبة: 51).
لقد ضربت الفلسفات والعقائد المنحرفة في التيه، في هذه القضية، ولم تعد إلا بالحيرة والتخبط والتخليط.
في التصور الإسلامي ليست هناك مشكلة في الحقيقة، حين يواجه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه. إن قدر الله في الناس هو الذي ينشىء ويخلق كل ما ينشىء، وما يخلق من الأحداث والأشياء والأحياء، وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكفيها، شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله، كل شيء مخلوق فيه بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر، ولكن قدر الله تعالى في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات: (إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتىٍ يُغيّروا ما بأَنفسِهم ) ( الرعد: 11).
إن كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بإرادة خلقه، وإنشائه كلها، ليس بمقدور العقل البشري إدراكها.. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق، مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله، ورحمته وفضله.. فالتفكير البشري المحدود الزماني والمكان، وبالتأثيرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النسب، وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني، إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة. والعلم المطلق الكامل، متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته، وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء ".
الشيخ الكيلاني والقدر:
لقد وجدت آراء جريئة في القدر للشيخ عبد القادر الكيلاني، شيخ الحنابلة والصوفية ببغداد في القرن السادس الهجري، يقول فيها (20): "إن كثيرًا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، وصلت إليه، وفتح لي منه " روزنة "فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر، لا الموافق له ".
ويعلق د. ماجد الكيلاني على فهم الشيخ للقدر قائلاً(21): استهدفت عقيدة القضاء والقدر - كما صاغها الشيخ الكيلاني - أن تكون حافزًا لنصرة الخير، ومقارعة الشر، فإذا عظمت التضحيات، وطال أمد الجهاد، كانت هذه العقيدة سندًا في لحظات اليأس وانسداد أبواب الحيلة، ومانعًا من مهاوي القنوط والانهيار.
وانطلاقًا من هذا الهدف، تحدد مفهوم القضاء والقدر فيما يلي: إن جميع الحوادث، خيرها وشرها، كائنة من الله، ولكن المؤمن مأمور أن يدفع ما يقدر من الشر، بما قدر من الخير، فيزيل الكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، والمرض بالدواء، والجهل بالمعرفة، والعدوان بالجهاد، والفقر بالعمل، وهكذا.
إن من الخطأ أن ينظر الناس للأقدار نظرة جزئية، فإذا رأوا الشر ظنوا وجوب الاستسلام إليه، وعدم الحيلة لدفعه.. ولو أنهم نظروا في الأمر نظرة شاملة، لأدركوا أن الله سبحانه وتعالى يلقي بالخير والشر في ساحة الحياة، ثم يترك للعبد ثلاثة اختيارات:
أن يأخذ الشر.. أن يستسلم للشر.. أن يتناول الخير ليدفع به الشر.
والأخير هو المقصود، وهو الذي امتحنت به إرادة الإنسان…(9/261)
إن لكل حالة من أحوال الحياة، سعادة كانت أم شقاء، زمنًا تحل فيه، وآخر تنتهي عنده، وأزمانها هذه لا تتقدم ولا تتأخر، ولذلك فالمطلوب من الإنسان أن يعالج هذه الأحوال بالوسائل المشروعة، مع الانتظار حتى تسفر الحالة عن ضدها، بمرور زمنها، وانقضاء أجلها، كما ينقضي الشتاء، فيسفر عن الصيف، وينقضي الليل فيسفر عن النهار، فمن طلب ضوء النهار بين العشائين، فلن يحصل عليه، بل إن ظلمة الليل تزاد حتى تبلغ نهايتها، ثم يطلع الفجر، ويحل النهار، ولو طلب إعادة الليل بعد حلول النهار لم تجب دعوته، لأنه طلب الشيء في غير وقته، فيبقى ساخطًا.. ومن شأن هذا القلق والسخط، أن يقضي به إلى سوء الظن بالله تعالى، والتخبط في معالجة الأقدار، وهكذا تفضي الحالة السيئة، إلى ما هو أسوأ ".
طرح جريء قد نجد بعضه لدى الحسن البصري.
وقد وجدت سائلاً يتوجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيسأله رأيه فيما قاله الشيخ الكيلاني في القدر.
رأي شيخ الإسلام فيما ذكره الشيخ الكيلاني:
لقد كتب الشيخ مقدمة ألخصها أولاً، لأنتقل بعدها إلى رأيه الصريح فيما قاله الشيخ الكيلاني.. يرى شيخ الإسلام أن جميع الحوادث هي بقضاء الله وقدره، وقد أمر الله تعالى أن نزيل الشر بالخير، والكفر بالإيمان، والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة، وكل من كفر أو عصى فعليه أن يتوب، وعلى الإنسان عدم ترك السعي فيما ينفعه الله به، متكلاً ومحتجًا بالقدر، كما عليه مدافعة الأعداء وجهادهم ومقاتلتهم.. ثم يقول بعد ذلك(22): "فالذي ذكره الشيخ رحمه الله، هو الذي أمر الله به ورسوله.
والمقصود من ذلك: أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها، فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال، قد يؤدي إلى الكفر والانسلاخ من الدين، فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(23) .
فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضى عليه من المصائب خيرًا له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر، سببًا للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى، كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر - إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله - سببًا لما يحصل له من البر والتقوى، وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات…. "
مفارقة في القدر:
ثمة مفارقة في الموقف، فالإنسان إذا قام بمشروع فنجح يقول: خططت وفعلت وفعلت، فإذا أخفق أو فشل قال: هذا قدري.. وقد لا يكون كذلك، بل نتيجة تخطيط سيء، وتدبير فاشل.
وأقرّب المسألة بمثال: فالطالب الذي تهرّب من الدراسة ولا يذاكر كما ينبغي فإذا فشل في الامتحان فذلك ثمرة سلوكه، لكنه إذا استمر في حضوره، وذاكر أولاً بأول، ثم حدث حادث في الطريق إلى الامتحان جعله يتخلف، فإذا اعتذر بالقدر قُبل ذلك منه.. لكن الإنسان يحب أن ينسب لنفسه كل خير ونجاح، وكل فشل يرميه على القدر، وهنا المفارقة.
5- تحمل الإنسان للأمانة:
يمكن وصف الإنسان بأنه باحث عن الأمانة، فإذا كان فقيرًا جد واجتهد بكل طاقته ليحصل على المال، والمال أمانة، وفيه حقوق، وإذا مرض فعل كل شيء ليسترد عافيته، والصحة والعافية أمانة، وإذا تزوج فلم ينجب أطفالاً، فعل كل ما في وسعه لينجب أطفالاً، والأطفال أمانة، وإذا طلب العلم حاول أن يجمع منه الكثير، والعلم أمانة.
فالإنسان بشكل عام باحث عن الأمانة، وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمانة فقال: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأَبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسانُ إنه كان ظلومًا جهولاً ) (الأحزاب: 72).
وقد نقل ابن كثير عن مقاتل قوله (24): "إن الله تعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فاعتذرت عن حملها وقالت: ليس بنا قوة، ولكنا مطيعون، ولا نعصيك في شيء أمرتنا به، ثم توجه تعالى لآدم، فقال: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: مالي عندك؟ قال يا آدم، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة، فلك عندي الكرامة والفضل، وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك، وأنزلك النار، قال: رضيت يا رب وتحملها ".
سيد قطب والأمانة
تعرض سيد قطب للموضوع وأفاض فيه، يقول :(25) "إن السماوات والأرض والجبال، هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها، أو حيالها، فيبدو شيئًا صغيرًا ضئيلاً، هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة، بلا تردد ولا تدبر ولا واسطة… كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة الله بإدراكه وشعوره، يهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره، ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده، يطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزعاته، ومجاهدة ميوله وشهواته، وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد مدرك، يختار طريقه، وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق، إنها أمانة ضخمة، حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع. "
إنها المخاطرة أن يأخذ الإنسان على عاتقه هذه التبعة الثقيلة، ومن ثم (كَانَ ظَلُومًا ) لنفسه
(جَهُولاً ) لطاقته، هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله، فأما حين ينهض بالتبعة، حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال، في السماوات والأرض والجبال، الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل، ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.
حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد، فإنه يصل حقًا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد، إنها الإرادة والإدراك والمحاولة، وحمل التبعة، وهي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي مناط التكريم، الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يُسْجِد الملائكة لآدم.
وأعلنه تعالى في قرآنه، وهو يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمنا بني أدم ) (الإسراء: 70)، فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. فاختصاص الإنسان بحمل الأمانة، وأخذه على عاتقه أن يعرف نفسه، ويهتدي بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه.. هذا كان ليحتمل عاقبة اختياره، وليكون جزاؤه من عمله، وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات، فيتوب عليهم مما يقعون فيه، تحت ضغط ما ركب فيهم من نقص وضعف، وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم من جواذب وأثقال، فذلك فضل الله وعونه، وهو أقرب إلى المغفرة والرحمة بعباده.. حاولت نقل النص، بهدف نقل الفكرة كاملة.(9/262)
والخلاصة: إن الإنسان حامل أو متحمل أمانة، وهو يطلبها ويشتد في طلبها، ويبقى السؤال: ما هي هذه الأمانة؟
فمن قائل: إنها المسؤولية، ومن قائل: إنها الحرية.. والذي أعتقده وأتصوره أنها كل ما يؤتمن عليه الإنسان من قول أو فعل، وإنها المسؤولية.. فمن يجحد ما وضع عنده فقد خان الأمانة، ومن سمع كلامًا فحرفه فقد خان الأمانة، ومن كان لديه علم فتلاعب به فقد خان الأمانة، ومن نافق لحاكم ظالم فقد خان الأمانة، وكل حاكم أو رئيس يسند منصبًا لغير كفء فقد خان الأمانة، وكل مستشار يداري ويجامل فقد خان الأمانة، وكل مدرس لا يؤدي واجبه فقد خان الأمانة، وكل موظف يتهرب من العمل فقد خان الأمانة، وكل أب أو أم يقصر تجاه تربية أولاده فقد خان الأمانة، وكل تاجر يبيع بضاعة فاسدة أو مغشوشة فقد خان الأمانة، وكل سياسي يداهن في قضايا الأمة فقد خان الأمانة، وكل إعلامي يتلاعب بالخبر، فقد خان الأمانة…إلخ.
ومن هنا يمكن فهم ما ورد في الأثر: إذا فقدت الأمانة فانتظروا الساعة، ومن علاماتها أيضًا ضياع الأمانة.. ومن علامات الساعة: أن تتخذ الأمانة مغنمًا. ومن علامات المنافق: إذا أؤتمن خان.
6. قوة الإنسان وضعفه:
يملك الإنسان قدرات كبيرة للارتفاع بنفسه إلى مصاف الملائكة، كما يملك قدرات مماثلة للهبوط بنفسه إلى درك سحيق، وهو في كل ذلك تتنازعه نوازع للارتفاع والهبوط، فيعيش متذبذبًا لا يقر له قرار، فهو ليس بالقوي أبدًا ولا بالضعيف دائمًا، والشعوب والأمم كذلك.. فهي بين ضعيف يتقوى مع الأيام، وقوي يضعف.. ضعيف ينهزم ويتأخر، وقوي ينتصر ويتقدم، فالقوة ليست أبدية، والضعف ليس سرمديًا، ومن سنن الحضارة التداول: (وَتِلكَ الأيامُ نُداولها بن الناس ) (آل عمران: 140).
لقد سجّل القرآن الكريم هذه الحقيقة مرارًا، يقول الله سبحانه وتعالى: (يُريدُ اللهُ أن يُخففَ عنكم وخُلقَ الإنسانَ ضعيفا ً) (النساء: 28)، ويقول: (إنَّ الإنسانَ خُلقَ هَلوعًا، إذا مَسهُ الشرُ جزوعا، وإذا مسَّهُ الخير منوعًا ) ( المعارج: 19-21).
ثم يبين الحق كيف ينتقل الإنسان من قوة إلى ضعف، وبالعكس: (اللهُ الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جَعَلَ من بعد ضعفٍ قُوةً ثم جعل من بعد قُوةً ضعفًا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) (الروم: 54). والله تعالى يكشف هذه الحقائق للإنسان ليعرف نفسه، فلا يطغى في فترة قوته، وكذلك الأمة، ولا يستكين ويستخذي في فترة ضعفه،' وكذلك الأمة. كما يخبره أن استمرار الحال أبدًا، من المحال.. فالأقوياء لا يبقون ضعفاء أبدًا، ولا الضعفاء يعيشون كذلك أبدًا، بل الحياة رحلة بين القوة والضعف، يستوي في ذلك الفرد والأمة والحضارة، والكافر والمؤمن والمنافق.
إن الإنسان يولد ضعيفاً، وربما كانت طفولته أضعف من سائر الحيوانات، ففرخ الدجاج يستطيع تناول غذائه بعد ساعات من خروجه من البيضة، ومثله الخروف والعجل، أما طفولة الإنسان فهي الأطول، ولو ترك لحاله لمات لضعفه وعجزه.
وكثير من الحيوانات تبلغ خلال عام، ويمكن أن تحمل وتلد، إلا الإنسان فيحتاج مدة تقارب العشرين عامًا.
يقول سيد قطب(26): "… ولكن هذا الإنسان في التصور الإسلامي - كما هو في الحقيقة - على كل ما استودعه الله من أمانة الخلافة الكبرى، على هذا الملك العريض، وعلى كل ما سخر له من القوى والطاقات والأشياء والأحياء، وعلى كل ما أودعه من طاقات المعرفة والاستعداد، لإدراك الجوانب اللازمة له في الخلافة، من النواميس الكونية، على كل هذا هو مخلوق ضعيف، تغلبه شهواته أحيانًا، ويحكمه هواه أحيانًا، ويقعد به ضعفه أحيانًا، ويلازمه جهله بنفسه في كل حين، ومن ثم لم يترك أمر نفسه ومنهجه في الحياة لشهواته وهواه وضعفه وجهله، ولكن أكمل الله عليه نعمته ورعايته، فتولى عنه هذا الجانب، الذي يعلم سبحانه أنه لا يقدر عليه قدرته على المادة، ولا يعلم بمقتضياته علمه بقوانين المادة ".
الله تعالى يعلم طبيعة الإنسان وحبه لنفسه، كما علم أنه لو تركه يشرِّع لسعى جادًا لحفظ مصلحته، على حساب مصالح الآخرين، لذا جعل التشيع حقًا لنفسه تعالى، ومنح الإنسان حق التنظيم فقط، ولكن الإنسان يأبى إلا أن ينتزع هذا الحق انتزاعًا.
وعن تذبذب الإنسان، ارتفاعًا إلى الأعلى، وهبوطًا إلى الأسفل، يقول د. سيد حسين نصر
(27) : "إن الإنسان قادر على الارتفاع فوق مستوى الملائكة، والهبوط حتى يكون بمستوى الشيطان ". ومعلوم أن الأحياء - غير الإنسان - مشدودة إلى مستوى معين من الحياة لا يغير، إلا الإنسان فهو يرتفع حينًا ويهبط حينًا آخر.
وهذه القدرة، أو حرية الاختيار، هي مكمن الخطر، فالإنسان بفضل هذه الحرية يملك أن يعبد الله تعالى ويعمر الأرض، كما هو قادر أن يكون ملحدًا كافرًا، وعنصرًا هادمًا مخربًا.
من هنا وجدنا تاريخ البشرية تدافعًا بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإنسان والشيطان.. وليس صحيحًا أن تاريخ الإنسانية هو مجرد صراع بين طبقات الناس بسبب المادة ومن أجلها فالإنسان أكبر من أن يكون (دابةً ) همها العلف، وقد كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، ليس ليتصارع حول العلف، ولكن لمعاني أكبر من ذلك كثيرًا.. وإن كان الصراع واحدًا من حقائق الحياة.
والدنيا فطرها الله وخلقها لتكون للبشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، وكل يأخذ حقه وقسطه، لا يمنع الكافر من أخذ نصيبه، بسبب كفره، ولا يداري المؤمن لإيمانه، فالله تعالى يعطي المؤمن والكافر، المؤيد والمعارض، وليس كما يفعل بعض الناس، فيمنحون المؤيد ما يريد، ويمنعون المعرض من أي حق يريد. يقول الحق: (كُلاً نُمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء: 20).
7- الإنسان والمجتمع:
ما موقع الفرد من المجتمع؟ هل الفرد ذرة والمجتمع مجموع ذرات، أم الفرد أصل والمجتمع مجموعة أفراد لا غير؟ هل الفرد حقيقة واقعة ينبغي أن تدرك بذاتها، أم أن المجمع هو الحقيقة، كلٌ قائم بذاته، وأن الفرد ليس إلا جزءًا من هذا الكل؟ وأن هذا الجزء لا يفهم له وجود إلا في الكل؟ لكل وجهة نظر، ناصر ومؤيد.
يولي توينبي المسألة عناية خاصة، فيتحدث عن المجتمع قائلاً: (28) " إنه نظام العلاقات بين الكائنات البشرية، ولا تقتصر تلك الكائنات على مجرد كونها أفرادًا، فإنها كذلك حيوانات اجتماعية بمعنى أنها تعجز عن البقاء على الإطلاق إن افتقرت إلى وجود هذه العلاقة بين بعضها بعضًا… وبالتالي فإن المجتمع هو حصيلة العلاقات بين الأفراد، وتبرز هذه العلاقات من بين ثنايا تطابق أفعالهم الشخصية، ويوجد هذا التطابق في الميادين الشخصية، في نطاق أرضية مشتركة، وهذه الأرضية المشتركة هي ما ندعوه بالمجتمع.
إن ارتضينا هذا التعريف انبثقت عنه نتيجة هام، تمتاز بالوضوح: إن المجتمع هو ميدان الفعل، أن مصدر الفعل بأسره، مرجعه الأفراد، الذين يتكون منهم المجتمع… ".
والسؤال المهم: ما طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؟
يعتقد الكثير أنها علاقة صراع، يريد الفرد أن يوسع في دائرة حريته، فلا يسمح له المجتمع بذلك، فيشعر أن مجتمعه يضغط عليه، ويحول أحيانًا دون تحقيق طموحاته، فيسعى لتحطيم القيود التي تفرض عليه.. وقد يحصل أن يعتدي على الفرد، وتصادر بعض حقوقه باسم المجتمع، عندها يكره الفرد مجتمعه، ويعمل ضده.
خارج هذه الدائرة (الصراعية ) تكون العلاقة أفضل وأسلم، فلا يستغني الفرد عن مجتمعه، ولا المجتمع عن الفرد.(9/263)
والإنسان يحمل في نفسه نزعتين: فردية وجماعية، وهو محب لفرديته، يريد أن يستقل، ليحقق لنفسه أموراً كثيرة، وفي ذات الوقت هو محب لبني جنسه، يتطلع للعيش معهم بسلام، والاجتماع بهم.. وهو متذبذب بين النزعتين لا يستقر على واحدة، لكن يوجد أفراد تغلب فرديتهم على جماعيتهم وبالعكس.
والإسلام يمنح الفرد حقوقًا واضحة، ويوجب عليه واجبات تجاه مجتمعه، فالمسؤولية فردية ولا يؤاخذ إنسان بجرم ارتكبه أبوه أو أخوه مثلاً ، وليس من حق أحد أن يعتدي على إنسان، أو يتجسس على خصوصياته.. كما منح الإسلام حرية التملك، ومنع الاعتداء على الأموال، فهي مصونة، وشرط على الفرد أن لا يضر بمجتمعه، إذ "لا ضرر ولا ضرار "، و"الضرر يزال ".. وقد شجع الإسلام على الأخوة ومحبة الآخرين، فـ "خير الناس أنفعهم للناس "(29).
وقد أمن الإسلام للفرد حريته الدينية والمدنية والسياسية، وفي المقابل ألزمه بواجبات، فجعل الكل مسؤولاً عمن استرعاه، ممن هم تحت يده.. ويصور الله تعالى العلاقة الاجتماعية، فيقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعضن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنُكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويُطيعون الله ورسوله ) ( التوبة: 71).
فالعلاقة حميمة، والأمر بالمعروف سلطة منحها الله للمجتمع، ليراقب الفرد، فيمنع اعوجاجه.. والصلاة رابطة اجتماعية، والزكاة كفالة مالية، والكل يتحرك ضمن طاعة الله وطاعة رسوله، فنظامهم واحد، وتوجههم واحد، وتكافلهم واحد،ـ وعبادتهم واحدة.
إن الإسلام يولي عنايته للفرد والمجتمع على حد سواء، فهو يتحدث عن الأنبياء مثلاً، ثم يعقبه بما فعلت الشعوب والأمم.. إنه يذكر الأفراد الجيدين من الأنبياء والصديقين والشهداء، كما يذكر السيئين.. كما يذكر الشعوب وماذا فعلت، لكنه يختلف عن التوراة مثلاً، فلا يذكر القرآن الوقائع التاريخية بتفاصيلها إلا نادرًا، كما لا يذكر أبناء الأنبياء إلا إذا كان لذكرهم مبرر.
أما التوراة فتذكر كل شيء، فهي سرد للتاريخ، تذكر الأنبياء ونساءهم وأولادهم، وعمر كل، فتقع بسبب ذلك بأخطاء قاتلة، فقد نجد في أخبار المعارك أن جيشًا قوامه 600 ألف مقاتل، قاتل جيشًا قوامه 400 ألف، ولأن هذا مستحيل تصوره قديمًا، فقد وجدنا الأرقام صارت (6) آلاف ضد (4) آلاف.. وفي ذكر تاريخ الميلاد، قد وجدنا الابن مولودًا قبل أبيه، وخلاف: هل (س) زوجة النبي أم أمه؟ كما نجد أن نبيًا مثل موسى عليه السلام له أولاد، رواية تذكر أنهم ثلاثة وثانية تجعلهم سبعة، وهكذا.
إن منحى التوراة تاريخي، بينما اتجاه القرآن نحو تفسير التاريخ، وأخذ العبرة، لذا لا نجد في القرآن التفصيلات التي نجدها في التوراة.
في القرآن التركيز الأول نحو نقل الحوار بين الأنبياء وشعوبهم، وماذا حدث حين آمنوا أو لم يؤمنوا.. التوراة تركز على التفاصيل، فتذكر عدد المقاتلين في المعارك، وعدد القتلى، وعدد الغنائم، وإن ذكرت بعض الحوارات قدمت لها بتفاصيل لا يهتم بها أحد اليوم(30).
إن التاريخ صناعة مشتركة بين البطل والأمة، النبي وأنصاره، ولم يبخل القرآن عن ذكر البعض، ولو كان كافرًا، قال الله تعالى: (إنَّ فرعون وهامان وَجُنودهما كانوا خاطئين ) (القصص: 8)، (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون ) (القصص: 39)، (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وأَلَّفَ بين قُلُوبهم )
(الأنفال: 63).
وإذا كان المبدع هو حادي الأمة، فإن الجمهور هو الصانع الفاعل، قائد الجيش يخطط، وجنوده تنفذ، والنصر ليس من فعل وتخطيط القائد فقط، ولا من عمل الجنود فقط، ولكن النصر يتأتى من الخطة الجيدة، والتنفيذ الحسن، فالجنود بحاجة لقيادة جيدة، والقائد بحاجة لجند مطيع وشجاع.. وفي هذا الصدد كتب د. عماد الدين خليل: … وبينما تنحرف المفاهيم الوضعية باتجاه الفردية، حتى تصل بالفرد إلى مرتبة الألوهية، تاركة الجماهير تحت رحمة الطغيان الفردي هذا، أو باتجاه الجماعية حيث تصل بالطبقة إلى مرحلة الألوهية، تاركة الفرد كوحدة ذاتية متميزة مستقلة، تحت رحمة الطغيان الجماعي، نجد الإسلام يحفظ التوازن ويحميه، عبر سلسلة طويلة من التوجيهات والتشريعات والآداب والممارسات الأخلاقية، التي لا مجال لذكرها هنا…
أما القرآن فإنه يتجاوز هذا كله، لكي يعطي الدور لطرفي المسألة، ويعلق المسؤولية الكاملة في صياغة الواقع على الفرد وعلى الجماعة: (تلك أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسئلون عما كانوا يعملون ) (البقرة: 134).
فلا ينفرد الفرد بصناعة التاريخ، ولا يستقل بذلك المجتمع، بل هو نتاج هذا وذاك(31).
وأختم البحث بكلمة(لآلبان)، حيث يقول(32): "… ورعاية الإسلام للفرد واهتمامه به بالقدر الوافي، شيء واضح تمامًا، وهو يصر أيضًا على الاهتمام بالجماعة بوصفها ذاك.
والله تعالى يصدر حكمه على الأمم، ويشير القرآن في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو أهلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية ".
============
رابعًا: المسلم والشهادة على الناس
الإنسان صانع الحضارة برقيه ترقى وتزدهر، وبتأخره تتأخر وتتدهور، والتحضر عمل شاق، يتطلب جهدًا خارقًا، تصميمًا قويًا، كما يتطلب توفر إمكانات، وله شروط ينبغي أن تكون مواتية، لذا لم يعرف العالم حضارة قامت بقرار سياسي، أو سقطت بقرار سياسي، بل لا بد من تجمع أسباب، وتوفر عزم وتصميم، وقد كرم الله تعالى أمتنا فجعلها شاهدة على الأمم، وجعل رسولنا عليه الصلاة والسلام شاهدًا على أمته، يقول الحق: (وفي هذا ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعمً النصير) ( الحج: 78).
يقول سيد قطب يرحمه الله 33: "فالرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على هذه الأمة، ويحدد منهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس، بموازين شريعتها وتربيتها، وفكرتها عن الكون والحياة، ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق، المتصل الوشائج، المختار من الله تعالى.
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشر، طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع، في ذيل القافلة، ولا تزال كذلك حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله عز وجل.
وهذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد، ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله… بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصية على البشرية، التي اجتباها لها الله، وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات، التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض. والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها، بل يدعو إلى إعدادها، ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفذ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله، فيوجهوه به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء.. إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدمًا إلى الكمال المقرر لها في هذه الأرض، ولا تكتفي بأن تقودها اللذائذ والمتاع وحدهما، كما تقاد الأنعام.
إن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية، لكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى، وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة المستقيمة على منهج الله تعالى".
مستلزمات الشهادة:(9/264)
إن هذه الشهادة شيء كبير، وشرف عظيم، لذا فهي تتطلب شروطًا لا تتحقق بالكسل أو التخلف.
فالشهادة والريادة، في عالم اليوم، تتطلب عقيدة سليمة، وثقافة حية، والتزامًا صارمًا بمنهج الله تعالى، لذا جاء الأمر في الآية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله. وقد ظلت أمتنا قرونًا كثيرة، تقوم بهذه الريادة والشهادة ثم بدأ "العد التنازلي"، فتركت القيادة لتصبح في ذيل القافلة.
إن الشهادة والريادة ليسا مما تورث، وقيادة العالم اليوم هي للغرب الصناعي، وعلى من يتطلع لدور حضاري أن يكون لديه شيء يقدمه، فإن كان حافيًا خليًا فمكانه في المؤخرة، وليس في القيادة، أو الريادة، وإذا كان بعض "الحالمين" يغالط نفسه بادعاء أن الله تعالى اختاره وفضله على كل البشر، وأنه يرث ذلك عن أجداده، فتلك أسطورة عفا عليها الزمن، وتنكرها سائر الأمم.
ونحن - بحمد الله - لا نعيش على أوهام أو أساطير، ونحن نقرأ صباح مساء قول الحق: (وأن ليسَ للإنسان إلا ما سعى، وأنَّ سعيهُ سوفَ يُرى، ثُمَّ يجزاه الجزاءَ الأوفى)
(النجم: 39 - 41).
إن الغرب يمسك بقيادة العالم فكريًا وسياسيًا وصناعيًا وإعلاميًا، ولن نستطيع مزاحمته في أكثر هذه الميادين، لكننا نملك عقيدة وفكرًا، لا يملكها الغرب، ونملك آخر الأديان السماوية ولدينا كتاب رباني هو آخر الكتب السماوية، وقد تعهد الله بحفظه، ولدينا سنة تردفه، وتبين ما في هذا الكتاب، فإذا التزمنا شريعة الله، وأحسنا عرضها، وصدقنا في التطبيق، فبإمكاننا أن نقدم للعالم شيئًا يحتاجه، لكننا لا نغالط أنفسنا، ولا نعيش على وهم كاذب، بأن تكون لنا صناعة، في القريب العاجل ، أفضل من صناعة الغرب، ولا زراعة أفضل مما لدى الغرب ولا إعلام…إلخ.
بضاعتنا الوحيدة بضاعة ربانية، تكفل السعادة للإنسان في دنياه وآخرته، جربناها قرونًا، ونعمل جاهدين للعودة إليها بصدق وإخلاص موضوعية، وأملنا أن يمدنا الله بقوته، ويسدد خطانا، وسندنا في ذلك قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).
إن شهادتنا على العالم شهادة علم ومعرفة وهداية، وحين سقطنا في الجهل ذهبت أهلية تلك الشهادة، بل صرنا مشهودًا علينا، وإن صارت شهادة "زور" ، وعوملنا - وما نزال - أسوأ معاملة. كل حسن لدينا فهو مأخوذ من (الغير)، وكل قبيح يشنع به علينا.
القنابل تنفجر، والسيارات المفخخة تنفجر في إيرلندا أسبوعيًا، ومنذ نصف قرن تقريبًا، لكن لا أحد يقول هذا إرهاب كاثوليكي أو بروتستانتي.. فإذا استعمل السلاح فرد مسلم غير منضبط، صرخ الإعلام: إرهابي مسلم، وإذا قام طبيب يستعمل سلاحًا حكوميًا، ورش الناس وهم يصلون في الخليل، وهم في حالة سجود يقال لنا هذا رجل "مختل"!
لقد صار الإرهاب حكرًا على المسلم، في الإعلام الغربي، وحيثما أطلقت رصاصة، يسند الفعل لمسلم، قبل أن يعرف الفاعل، إنها شهادة مزورة تتعالى منها رائحة العنصرية النتنة!
إن الشهادة على الناس في حقيقتها، إظهار للحق، وتبيينه وتبليغه للناس(34). وطبيعي أن تقوم على معرفة الحق، الذي يراد بيانه وتبليغه، ومعرفة الحق "العلم"، وإذن فينبغي أن تكون الشهادة قائمة في أصلها وأساسها على "العلم"، فشهادة العلم هي الشهادة المطلوبة.. وبهذه المناسبة أجد من المفيد أن أستطرد، بهدف إيضاح قضية، قد يكون فيها نوع من الغموض، فالعلم متى كان وصفًا موضوعيًا، وجوابًا عن "كيف"، فلا اعتراض، ولكن الاعتراض على فلسفة العلم فقط، وهذا يشاركهم فيه بعض علماء الغرب مثل "يهوم ومل".
يقول د. الموصلي(35): "من الواضح أن الأصوليين لا يرفضون العلوم بحد ذاتها، بل فلسفتها، فالعلوم عندهم وسيلة وأداة، وهذا مشابه لما دعا إليه "ستيورت مل" في قوله: إن العلم هو وصف وظائفي لحقائق ناتجة عن الملاحة والتجربة.
فآراء الأصوليين كآراء (مل وهيوم) وهي ضد هذا التنظير الفكري، لأنها تشك في قدرة الإنسان على التوصل للحقيقية، سواء أكان ذلك عن طريق الفلسفة أم العلوم، أم فلسفة العلوم".
إن فلسفة العلوم قد تحولت إلى دين، لكنه ليس دينًا جديدًا فقط، بل فوق الأديان كلها.
وصار البعض يعتقد أن العلم قد اكتشف أسرار الكون، وهو قادر على حل كل المشاكل، وكل قضية لا يحلها العلم، فهي مشكلة "ميتافيزيقية" زائفة، وهنا مكمن الخطر، ومن هنا يأتي الاعتراض على "كهنة العلم".
شهادة المعرفة:
إن الشهادة تتطلب معرفة، ولا تقبل شهادة من غير معرفة، وإذا شك الشاهد في شهادته سقطت، فكيف إذا لم يكن له علم ولا معرفة؟!
ولكن السؤال: هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى، فما المقصود بالمعرفة هنا؟
"تعنى شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أن تكون هذه الأمة قائمة في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق، وتأسيس الحياة عليها، بعيدًا عن كل منزع خرافي أو وهمي أو أسطوري، في تصور "الوجود والحياة"، وذلك ما يفسر تلك الدعوة الدؤوب إلى العلم، التي جاءت مبثوثة في تعاليم الدين، بشكل لا يوجد له نظير في أي دين آخر، حتى جاءت قيمة العلم في المذهبية الإسلامية، تتبوأ الدرجة الأولى في سلم القيم، وتنبني عليها كل القيم الأخرى" (36).
واستذكر ما سبق نقله عن حجة الإسلام الغزالي، بأن ثمة تلازمًا قويًا بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فمن تعلم علمًا واحدًا فلا يكفي. من تعلم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة، ومن تعلم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصًا.. وإذن فلا بد من العلمين معًا.
كما لا بد أن يكون العلم شاملاً كي تصل الأمة الإسلامية إلى موقع تشع فيه على البشرية الخير، وهنا لا بد من معرفة جيدة بالتحضر، والكيفية المناسبة له، وهذا يتطلب معرفة جيدة بالدين، والكون والبشر، وبدون هذه المعرفة الشاملة ستتعذر الشهادة، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولن يجني من الشوك العنب.
2- المعرفة بالدين:
منطلق المسلم دينه، فمعرفته جيدة سليمة، تسهل الانطلاق.. والإسلام دين سهل، يخلو من التعقيد، ولذا كان الصحابي يدركه بيسر وسهولة، كما يدرك أهدافه وأبعاده.
لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه لليمن لجمع الزكاة، فطلب إلى أهل اليمن أن يعطوه قماشًا بدلاً من الزكاة العينية، وعلل ذلك بقوله (37): "إنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة".. وحين فتحت العراق على عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، رفض توزيع الأرض على المجاهدين، وبقي ستة أشهر يناقش كبار الصحابة، وكانت حجته أنه يريدها موردًا لبيت المال أولاً، وكي لا يتحول المجاهدون إلى مزارعين، ويتركوا الجهاد.
وروي أن على بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: "غيّروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" فقال: إنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك والدين قُلّ - أي المسلمون قلة - فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه، فأمرؤ وما اختار (38).. والشواهد كثيرة.
إن الإسلام نصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والأخذ منها مباشرة سهل ميسور، متى علم الإنسان العربية، مفردات ودلالات وعلم أسباب النزول وكليات الشريعة.
إذن ليس المقصود بالعلم بالدين، العلم المتخصص، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة، ولكن المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة، تشتمل على أصول العقيدة، ومتطلبات العبادة الصحيحة، والأخلاق الإسلامية، بعيدًا عن التأويلات الباطنية، والتي ترفضها اللغة.(9/265)
وأيضًا فليس المطلوب علمًا نظريًا، لا يكون له في السلوك نصيب، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر، واستذكر هنا أن اليابان حين عزمت على النهوض، توجهت إلى الصناعة وعلومها، ولم تتوجه للدراسات النظرية، وما زال هذا التوجه حتى اليوم، وكافة البعثات التي أرسلتها إلى الغرب، لم تجعل من أهدافها دراسة الفلسفة أو علم الاجتماع أو القانون، على حين كان العربي المبتعث يغلب على دراسته العلوم النظرية والآداب والقانون، ولم يعدَّل التوجه إلا خيرًا.
وحين انشغل المسلمون بالفلسفة وعلم الكلام، واشتغل الفقهاء بالفقه الافتراضي، صار العلم يعالج قضايا لا وجود لها في المجتمع على حساب قضايا موجودة، لا تجد من يعالجها.. والذين هاجموا علم الكلام، من علماء الأمة، كانوا يرون فيه (ترفًا فكريًاً) يخترع المتكلم مشكلة، أو يطرح إشكالاً، ثم يحاول حله، وقد يفلح أو لا يفلح.. من هنا رأينا عالمًا مثل الشاطبي، كان همه الأول التعرف والتعريف بمقاصد الشريعة، يقول (39): "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعًا".
والعلم حين يشيع في الأمة، يتنافس في الحصول عليه الكل، وبهذا نفسر انتشار المدارس والكتب في العالم الإسلامي، حتى قال "ديورنت" في كتابه الرائع "قصة الحضارة": إن مكتبة الصاحب ابن عباد الشخصية، كانت تحوي من الكتب أكثر مما تحويه كافة المكتبات العامة في أوروبا كلها.
كذلك فإن الإسلام انتشر في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا عن طريق التجار، الذين لفتوا الانتباه بجودة سلوكهم، فكانوا دعاة للإسلام بالفعل لا بالقول، واليوم يسجل الطلبة المبتعثون، والدارسون في الغرب، نجاحًا في الدعوة رغم قلة العلم، ولكن حسن السلوك هو "الجاذب" الأكبر.
من السهل أن يكون الإنسان "منظرً"، ولكن الأنفع أن تكون حياته وسلوكه صورة لما يؤمن به، ويدعو له.
إن الإسلام يواجه اليوم أكبر حملة إعلامية ظالمة ضده، ومع ذلك فهو يسجل الانتصار بعد الانتصار، وإذا كان البعض يكسب بعض الفقراء لتقديمه المال والطعام، فالإسلام يكسب من رجال الفكر والعلم.. والغريب أن أكبر حملة ضده في الغرب تتركز حول المرأة، ثم نجد الإسلام ينتصر وينتصر في صفوف النساء.. إنه دين يشق الطريق بقوته وليس بفضل الأموال التي تنفق، ولا الكنائس الفخمة التي تشاد، ثم لا تجد من يزورها.. وقد صدق من قال: النصرانية دعوة بلا دين، والإسلام دين بلا دعوة.
إن العالم الإسلامي يشهد صحوة لم يعرفها منذ زمن بعيد، ومعرفة المسلم بدينه تزداد يوميًا، والالتزام به يكبر يوميًا، رضي الأعداء أم سخطوا، اتهموا المسلمين بالإرهاب أم لم يتهموا، فقد وعد الله تعالى بنصر دينه حيث قال: (سَنُريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يَكفِ بربكَ أنه على كل شيء شهيد) (فصلت: 53).
3- المعرفة بالكون:
سبق في بداية هذا الكتاب، أن تحدثت عن الكون، وموقف المسلم منه، وأريد هنا التركيز على الجانب المعرفي للكون، فهو كتاب مفتوح، وأثر عظيم من آثار الله تعالى المنظورة والمحسوسة.. أما الوحي فهو الكتاب المقروء والمعجز، ولذا فلدينا كتابان: منظور مشاهد، ومتلو مبارك.
والدارس لكتاب الله يكسب العلم بالدين، والمتأمل في الكون يتحصل على علم عظيم، فدقة صنع الكون وعظمته، تدل على عظمة خالقه، وهو من آيات "الآفاق"، ودراسته ومعرفة السنن التي تضبط حركته توصل إلى الإيمان العميق بالله، وعظيم قدرته.
إن الكون توصل إلى الإيمان وسخره للإنسان، قال تعالى: (ألم ترواْ أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة) (لقمان: 20).
وهذا التسخير كي يكون على الوجه الأكمل، فلا بد من معرفة جيدة بالكون وسننه، والقوانين التي تضبطه، لينتقل الإنسان من العلم بأوجه التطبيق والترابط، إلى النواميس التي تحكم الكون، كي يستثمره الاستثمار الأفضل والأنفع، وكي تتقى المضار والأخطار والكوارث الطبيعية، وكذلك تنمية الثروات الكونية على الأرض والبحار والجو، وإيقاف الاستنزاف لتلك الثروات.
إن الغرب يقف من الكون موقفًا معاديًا، وعبارة قهر الطبيعة تتردد كثيرًا، وكذلك فإن الاحترام للصناعة وأهلها، وكل ما هو غير صناعي فلا يستحق الاحترام، وقد تقدم هذا في بحث الكون، وما قاله عالم الاجتماع أريك فروم.
ولعل من الثمار المرة لهذه النظرة تلوث البيئة، وحصول ثقب الأوزون، وارتفاع حرارة الأرض والمحيطات، وربما سنكتشف أن رش المبيدات هو المسبب للكثير من أمراض السرطان، وربما كان للتفجيرات النووية وأمثالها، التأثير الكبير على ثوران البراكين، أو كثرة الزلازل.
إن الإنسان في الغرب يلوث البيئة، ويستهلك خيراتها، بأضعاف ما يفعله الإنسان في الهند مثلاً.
وقد وجدت الشيخ سعيد النورسي يرحمه الله، يتحدث عن الطبيعة، فيصفها بأوصاف جميلة، حتى كأنه شاعر صوفي (40): "الطبيعة صنعة إلهية وليست بصانع، كتاب رباني وليست بكاتب، نقش ولا يمكن أن يكون نقاشًا، دفتر وليست (دفتردار) قانون وليست قدرة".
يعود مرة أخرى للطبيعة، فيقول(41): "إن الطبيعة ليست طابعًا بل مطبعة، وليست نقاشًا بل نقشًا، وليست فاعلة بل قابلة، وليس مصدرًا بل قانونًا، إن الطبيعة شريعة إلهية"، الطبيعة شريعة إلهية، تدل على خالقها، هذا صنع الله فأروني ماذا صنع الذين كفروا؟
معرفة البشر:
5- لكي يكون الإنسان أهلاً للشهادة على غيره، يجب أن يعرف ذلك (الغير)، معرفة دقيقة جيدة، وإلا فليس أهلاً للشهادة.. والملاحظ أن علوم الحياة تتقدم بخطى ثابتة، بل تقفز قفزات كبيرة، ربما لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل.
لكن علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ما زالت تحبو، وخط سيرها متعرج، وجل أمورها ظني تخميني، وما تثبته مدرسة تنقضه أخرى وتهدمه.
ومن عجب أن الإنسان يسير المركبات ، لمعرفة الكواكب القريبة والبعيدة، وهو لم يكشف نفسه.
نعم إن رجال التربية والاجتماع والنفس، ما زالوا يبذلون جهودًا لفهم الإنسان، ومحاولة معرفة كل ما لديه، ولكن يمكن القول: بأنهم ما زالوا في بداية الطريق.
إن الطريق ذلك المخلوق المكرم، المعتز بنفسه، يملك شخصية فذة، هي نسيج عجيب معقد، فيه موروثات نفسية وبدنية، وثقافة عامة يكسبها من بيئته ومحيطه، وعلم ومعرفة يتلقاها ويكتسبها، ظروف اجتماعية تحيط به، وتؤثر على سلوكه ونفسيته، إضافة إلى عوامل أخرى تعمل متشابكة متداخلة لتكون شخصية متميزة.
إن علوم الإنسان ما زال جلها "فرضيات"، لم تمحص ولم تصل حد النظريات، ولا الحقائق العلمية المقطوع بها، لا فرق في ذلك بين علم التربية وعلم النفس والاجتماع والفلسفة.
والإنسان يتساءل: لماذا يفلح الإنسان في كافة ميادين العلم والمعرفة والتقنية، ثم يفشل في فهم ذاته؟
وفي الإجابة يمكن القول: بأن كل علم ومعرفة له "مرجعية"، أي إطار توجيهي، أو لنقل قواعد أساسية تمنحه بعض الخطوط العريضة، أو الكليات التي مهمتها أن تعصم من يأخذ بها من الوقوع في التيه أو التخبط.
وقد كان كل ذلك متوفرًا في "الوحي" وما جاء به الأنبياء، وآخرهم نبينا عليه السلام، فلما ابتعد الغرب عن الله وهديه، تخبط الإنسان وما زال يتخبط.(9/266)
إن الإنسان جسم وعقل وروح وعواطف وأشواق، فإذا جرت العناية بالجسم فقط حصلنا على مصارع أو ملاكم أو عداء مثلاً، وإذا جرى اهتمامنا بالعقل فقط حصلنا على فلاسفة وعلماء، وقد تكون نهاية العالم على أيديهم، فيما يخترعون ويصنعون.
فإذا اهتممنا بالروح فقط فيمكن أن نحصل على جيش من الرهبان، وإذا اهتممنا بالعواطف والأشواق فقط فقد نحصل على شعراء أو فنانين.
فإذا اهتممنا بكل مكونات الإنسان، وبشكل متوازن، حصلنا على إنسان سليم متوازن، ومن ثم حصلنا على حضارة متوازنة تخلو من الانحراف.
إن الذي يصعب جحوده، هو ما قام به الغرب من جهود جادة لدراسة الإنسان وفهمه، ولكن العلة - في نظري - كانت متمثلة في فقدان المرجعية.. فالكل يبحث كما يشاء ليصل إلى ما يشاء، ثم ليناقض الكل الكل، ويهدم عالم الاجتماع وما يقوله عالم النفس وبالعكس.. أما المسلمون ولديهم المرجعية والمقدمات الأساسية لفهم الإنسان، فقد أهملوا ذلك، كما أهملوا الاشتغال بعمارة الأرض، وإقامة الحضارة، مع أن ذلك هو واجبهم، بعد عبادة الله تعالى.
وحتى لا نتهم بنكران الجميل، فإن الذين اشتغلوا بعلوم الإنسان وعلوم الحضارة كانوا في معظمهم ممن يقتنع بالمنهج الغربي، ويتولونه، ويثقون به تمام الثقة، وهم بذلك من الغرب وإليه، وإن كانوا منا دينًا ولغة ووطنية.
وبالمثل، فإن اليهودي والنصراني والمجوسي، الذي كان يكتب ويبحث - أيام كانت حضارتنا سائدة - كانوا أجزاء منها، لأنهم كانوا يخدمونها، وهي تخدمهم بما تقدم لهم من وسائل.. وكذلك - يمكنني الادعاء - بأن العربي والمسلم، الذي يشتغل باحثًا ومؤلفًا ومخترعًا في الغرب، هو جزء من حضارة الغرب وليس جزءًا منا.
إنه يستعمل المنهج الغربي، والعلم والتقنية الغربية، وحتى اللغة، ويعمل - وهذا المهم - لحل المشكلات التي تواجه المجتمع الغربي، وإن درس مشكلة من مشاكلنا فيدرسها منهجًا واستثمارًا للغرب، لا أقول هذا بهدف اللوم، ولكن تقريرًا للواقع، كما يظهر لي على الأقل.
وختامًا، أدعو للتمسك بالمرجعية في فهم الإنسان، والتعامل معه، وأريد أن تكون دراستنا مؤطرة بذلك كي نفهم الإنسان المسلم أولاً، ونستطيع النهوض به ثانيًا، فإذا تركنا هذه المرجعية فأي مرجعية نعتمد (42).
إن فهم الناس عمومًا يتطلب معرفة بتاريخهم وجغرافيتهم وتركيبتهم السكانية، والمشاكل التي يعانون منها، وبدون ذلك فإن التعامل لن يكون ناجحًا.
في إفريقيا، حيث الفقر يضرب القارة السوداء ضربًا مخيفًا، تجعل الإفريقي يقدم أولاده إلى كوبا لتأخذهم وتعلمهم الماركسية وحرب العصابات، كما كان يقدم أولاده للدراسة في جامعة الكادحين في روسيا، دون معرفة بالنتائج ولا ما يدرس ولده.
في اليابان البلد الصناعي الفني، إذا قدمت كتابًا لشخص يحرص على دفع ثمنه، ولا يفهم سببًا لكون الكتاب بلا ثمن، ويرفض ذلك.
وإذا جَرّبْتَ مخاطبة الياباني باسم المشرق والعادات الشرقية، يقبل عليك، ولو طلبت منه أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا مانع لديه، ولكن الإنسان الغربي يرفض ذلك بنوع من التعالي، ويقول: إنه نصراني.
===============
خامسا: الإنسان بين التقدم والتخلف
اعتادت بعض الأنظمة أن تصنف العالم إلى متقدمين ومتخلفين، وطبعًا اختارت لنفسها التقدم، ودمغت غيرها بالتخلف، وكان أبطال هذا التصنيف من أصحاب النظم الشمولية، ومن يقلدها في المشرق العربي.. ومعلوم أن الأنظمة الشمولية هي الأسوأ في العالم، قديمًا وحديثًا، وقد قدرت المصادر الغربية وأيدتها المصادر الشيوعية أن "ستالين" تسبب في معاناة خمسين مليونًا من شعبه بين قتيل وسجين ومشرد ومهجر.. وهذا العدد الهائل لم يعرفه العالم خلال قرون، ومع ذلك صنفت الشيوعية كنظام تقدمي، وصنفت جميع الأديان بأنها مورفين الشعوب.
في حوار مع أستاذ غربي يعمل في جامعة خليجية، قيل له: لقد دخلنا الأندلس باثني عشر ألف مقاتل، وخرجنا بثلاثة ملايين، وبعد أن أقمنا حضارة كانت ملء السمع والبصر، وبعد إقامة دامت سبعة قرون، ثم قمتم بحملة بربرية قتلتم الألوف ونصرَّتم بالقوة ألوفًا، وحين حاول السلطان العثماني سليم القانوني إجبار النصارى على الإسلام أو الرحيل، وقف الفقهاء في وجهه، ومنعوه من ذلك.
وحدث حين دخلتم القدس، وضعتم السيف في رقاب المسلمين حتى سالت القدس بالدماء، وحملتم من جماجم المسلمين الألوف وأرسلتموها "هدية"، فلما استرجع صلاح الدين القدس سمح لكم بالخروج ومعكم الأموال، فكيف تفسر ذلك؟
الجواب:
كل هذا صحيح لا جدال فيه، أما تفسيري فبسيط للغاية، فالإسلام يختلف عن النصرانية، وسلوك المسلمين يختلف بالتالي عن سلوك النصارى، ومن هنا جاء الاختلال، ولا بد من عودة للوراء، فحين راحت النصرانية تنتشر، وقف الرومان منها موقفًا معاديًا.. مدة ثلاثة قرون وربع، كانت العلاقة بين الدولة الرومانية والنصرانية في غاية التوتر، فكثر القتل والمطاردة والسجن. وفي عام (325م) حدث أن والدة الإمبراطور قسطنطين راحت تحثه ليتنصر وينصِّر الدولة، وقد باشر ذلك، فتوقفت عمليات القتل والمطاردة للنصارى، وشيئًا فشيئًا راحت الدولة تطلى بالنصرانية، لكن شيئًا لم يتغير من سياسة الدولة أو التشريع.
فقد جاء "الدين" متأخرًا جدًا، وكان يطلب الشرعية من الدولة، ولما حدث الصراع مع الكنيسة وانتصرت الدولة، طرحت العلمانية كحل وسط.. هذا من حيث التاريخ، أما التشريع فالإسلام عقيدة وشريعة، دين ودولة، ولم تكن النصرانية كذلك، فهي عقيدة وعبادة بدون شريعة.
الأمر الآخر جدًا، أن الإسلام كدين، سابق ومتقدم على الدولة، وقد أقام الدولة كما يريد، ولذا فالشرعية للدولة تطلب من الإسلام، وشرعية النصرانية تطلب من الدولة.
الحاكم فوق الكنيسة، والحاكم المسلم هو خليفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس أكثر، ولذا فهو شرعي ما رضي عنه الإسلام، فإن ابتعد سقطت شرعيته. الدولة في الإسلام خادمة للدين وليس العكس.
تبقى قضية النزاع في المجتمعات النصرانية، فقد كان ضد الكنيسة وتجاوزات رجالها، وأما النزاع في المجتمعات المسلمة، فضد الدولة وتجاوزاتها.. الدولة في الإسلام مدنية، محكومة بشريعة الإسلام، وفي النصرانية الأولى كانت كهنوتية، تستمد السلطة من الله، ولا يوجد من يحاسبها إلا الله.
ونظرًا لكل ما تقدم، وبعد إقامة في بعض الدول العربي قاربت عشر سنوات، خلصت إلى نتيجة: إن كثيرًا من سلوكيات المسلم، لا يرضى عنها الإسلام أولاً، وأن أقصر طريق لتقدم المسلمين هو الأخذ بالإسلام عقيدة وشريعة، وبطريقة جادة بعيدة عن الشكليات والطقوس الخارجية.
أما عن سبب اختلاف النصارى والمسلمين قديمًا، فقد كان يعود لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وكان الفرد المسلم حريصًا لدرجة عالية علا الالتزام بأوامر الإسلام، أما النصراني فليس لديه شريعة، وما عنده من أوامر تتعلق بالمحبة والتسامح فلا وجود لها في ميدان التطبيق، لذا كثرت الحروب بين النصارى، وكل فريق تمكن من آخر سامه سوء العذاب، وما زالت المطاحنات في إيرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت تذكرنا بانعدام التسامح وفقدان المحبة، مع ذكرهما في كل صلاة تقريبًا.(9/267)
يدرس د. برهان غليون الفارق بين استناد الأخلاق للوحي وانفصالها عنه، فيقول(43): لقد أدى إسناد القيم الاجتماعية إلى الوحي - بعد أن كانت تستند إلى سلطة أرضية ملكية مقدسة - إلى تطور كبير لمفاهيم الإنسانية والعدالة والكرامة والمساواة والحرية، بينما أثار انفصالها عن الدين، في مرحلة لاحقة… مخاوف وشكوكًا متعددة، وقد أتاح هذا الانفصال أيضًا تمييزًا أفضل لحقل الأخلاق عن حق القانون، وفي الحالتين، أدى تبدل الإطار المرجعي إلى ثورة حقيقية جديدة في ميدان الأخلاق.
ففي الحالة الأولى، أصبحت قدسية النفس الإنسانية، وكرامتها جزءًا من القدسية الإلهية، واستقلت عن أهواء السلطة لتصبح أساسًا للمساواة في الإنسانية، إذ أصبح جميع الناس أبناء الله، وأصبحت عبودية الجميع له شرطًا لمساواتهم أمامه، وبذلك ضمنت الأخلاق لنفسها القوة والديمومة، وصار من الممكن للاجتماع البشري أن يتجاوز الممالك الصغيرة إلى الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي طبعت تاريخ آسيا والشرق جميعًا بطابعها المنفتح والإنساني والتعددي، وشكلت من جميع الوجوه ثورة في مفهوم الإنسان ونظرته إلى نفسه وإلى رسالته.
ومع ما أصاب هذه الأخلاق الدينية من تراجع وضعف مع تطور الحضارة ونفاد الجذوة الأولى الروحية، دعت الحاجة إلى إعادة بناء هذه القيم الإنسانية على أسس جديدة، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، جعلت من العقل السند الأساس لها، باعتباره ملكة مشتركة للحكم عند جميع الناس، وخلف حدود الأديان والأجناس، وقد ترافقت هذه الثورة العقلية في مجال الأخلاق بنمو مفهوم الإنسان كعضو في مجتمع، وبنمو مفهوم الجماعة القائمة على تعاون الأعضاء، من أجل سعادتهم، وتدبير شؤونهم، ومضاعفة قدراتهم وحرياتهم، وهو مفهوم جديد بالمقارنة مع ما كان سائدًا من تمحور كيان الجماعة حول زعيم ملهم أو مقدس، أو فكرة مقدسة رسالية.
وما حصل في هذه الثورة التي بدأت تختمر في المجتمعات الغربية، منذ نهاية القرون الوسطى، وبسبب ما شهدته هذه القرون من عسف وتفريط بالقيم الدينية، لمن يكن يعني إلغاء الأخلاق بقدر ما هو تحقيق الفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقًا مدنية.. ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة الواجب، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني "كنت" لم تلغ المبادىء القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش…إلخ.
ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنًا إلا إذا استند على اقتناع عقلي، ولمن يكن هذا التطور في الواقع إلا أحد مظاهر حركة "العقلنة" العامة، التي شهدها المجتمع الغربي في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع، الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة.
أزمة من أزماتنا:
يتحدث د. غليون (44) عن أزمة يعيشها المجتمع العربي، تتمثل في عجز "التحديث" عن تقديم مشروع لأخلاق عقلية، على حين يقوم "التحديث" بتدمير الارتباط بين الأخلاق والدين، فلم نبقِ على الارتباط القديم، ولا أفلحنا بإنشاء ارتباط جديد. وهذا نموذج محزن لهدم وفشل في البناء شمل أكثر من قضية.
يتحول غليون بعد ذلك لنجاح الإسلام في أن يوحد ما بين الدين - كمصدر لأخلاق فردية - وبين الشريعة كمصدر لنظام اجتماعي سياسي مدني: "إن مضمون التجربة الإسلامية الأساسي هو نجاح الإسلام إلى وقت قريب في التوفيق بين مقتضيات الدين والدنيا، أي تطوير المسائل الأخلاقية والسياسية والقانونية، التي تواجه الجماعة المدنيةـ على قاعدة من السند الديني، ولم يضطر من أجل حفاظه على الدنيا، وتحقيق مكتسباته المدنية إلى التخلص من الدين، أو شن حرب شاملة عليه، كما حصل في المجتمع الأوروبي، ولهذا لم تظهر العلمانية كمطلب أساسي في أيدلوجية التقدم الحديث الأولى، بل بالعكس، فقد اعتبر المسلمون الأوائل أن تدعيم الشعور الديني وتنقيته، هو الوسيلة الأساسية لتدعيم الشعور الأخلاقي، وتقوية الشعور بالواجب، والالتزام بقضايا الجماعة والتضحية في سبيله" (45).
واليوم تشتعل معركة حامية بين الإسلاميين والعلمانيين، وسيكون من نتائجها التي تشبه لعبة شد الحبل، عدم تطور المجتمع، والانشغال بالحرب الكلامية، ثم الوقوف عندها وعدم تجاوزها.
1- الإيمان بالله تقدم:
الدين عقيدة ينبثق عنها سلوك وتصور معرفي، وقد يكون ثمة تشريع أو لا يكون.. وبهذا المعنى، فكل عقيدة هي دين، فالشيوعي دينه الشيوعية، والعلماني دينه العلمانية، والوجودي دينه الوجودية، وهكذا… وهناك اليوم ملايين من المسلمين والنصارى مثلاً، لا يعرف من الدين سوى أنهم مسلم أو نصراني، لأنه ولد كذلك، لكنه لم يدخل مسجدًا أو كنيسة، ولا صلى ولا صام، ولا كف عن المحرمات، ولا فعل شيئًا من الواجبات.
ويوجد إلى جانبه التزام صارم بالماركسية أو العلمانية، حتى ليمتنع عن قراءة كتاب، لأنه مخالف لعقيدته.. وأستذكر هنا مقولة "سارتر": بأن كل من يعادي الشيوعية فهو كلب، وأنه يعلن تمسكه بها. وأيام الثورة الثقافية في الصين، حفلت الصين بكل أنواع التعدي والإرهاب لكل من لا يؤمن بالشيوعية الماوية.
إن الأديان عمومًا والسماوية على وجه الخصوص لا تعترف بعبودية إلا الله تعالى، ومن ثم فهي تحرر الإنسان من عبودية الزعيم الأوحد، أو الحزب الطليعي الأوحد، وحتى الشهوات…
وحين طلب الإمبراطور الفارسي من المسلمين أن يقابله أحد، جاء ربعي بن عامر رضي الله عنه، فلما سأله: ما الذي أخرجكم من بلادكم؟ قال ربعي: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ومن هنا وجدنا كافة الفراعنة قديمًا وحديثًا تحارب الدين، لأنه يمنع البشر أن يكونوا عبيدًا لأحد سوى الخالق.
وكافة الفضائل يأمر بها الدين، فهو يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، ويمنع كل أنواع العدوان، ويأمر بكل خير، وينهى عن كل شر، يحترم الإنسان ويعتبره المستخلف في الأرض، ويكرمه بكل صور التكريم، حتى ليمنع كل ما يؤذيه من همز أو لمز أو لقب قبيح يكرهه.. يحافظ على حقوقه، ويمنع عن الاعتداء عليها، في نفسه ومشاعره، وأمواله وأولاده وعرضه، وكل محبوب لديه.
الدين بشكل عام عدو للعنصرية، عدو للمستبدين المتفرعنين، عدو للظالمين، عدو للفاسدين المفسدين.. الحضارة تحتاج إلى دين يضبط حركة أهلها، ويكون هاديًا وموجهًا لها، حتى ليقول الفيلسوف "برناردشو" (46) إنه يعرف جيدًا أن الحضارة بحاجة إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك.
أما الناقد البريطاني "كولن ولسن" فيقول (47): "الإنسان ليس كاملاً بدون دين، فإذا أرادت الحياة أن تتقدم خطوات أخرى أسمى من القرد، أو من الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال، يتمثل في الشهية الدينية… إن الدين مقياس البطولة ورمز حاجة الإنسان في الكفاح… وفشل الدين والحروب العالمية، أمران متلازمان حتمًا".
جاء في كتاب القبائل: (48)(9/268)
"لقد سيطرت النظرية المتطلعة إلى بشرية متحررة من الضوابط الدينية والقبلية، وعالم بلا قبائل عالمية، على خيال مفكرين من ماركس إلى أوغست كومتي، إلى إتش جي ويلز، وحسب مفهوم "العلمنة" الذي رافق تطوير العلوم الاجتماعية في القرن العشرين، فإن عملية التصنيع والتحديث ستتغلب في النهاية على الدين وعلى الهوية العرقية في الدول المتقدمة. وقد أصر عالم الاجتماع المعاصر "دانيال بل" على ان الانهيار المتواصل للهوية العربية والدينية مسألة حتمية".
والسؤال: هل صدقت النبوءات؟
وختامًا، إن الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، ليحرر الإنسان من عبادة الزعماء أو الأحزاب، أو الشهوات والغرائز، أو السقوط في العنصرية واحتقار الآخرين، أو التطهير العرقي، أو سلب ونهب الشعوب وخيراتها، او إشعال الحروب واستعباد الأمم.
تبقى قضية مهمة، إن الدين نصوص يفهمها الإنسان، وإن الإيمان بالله عقيدة معرفية، فالإنسان قد يفهم النص فهمًا غير سليم، وقد يفسره ويسوقه لهدف لم يوضع له، وإن الإيمان بالله تعالى قد يبرد، فيصبح مجرد معرفة لا علاقة لها بالسلوك، ومن ثم فاللوم ينبغي أن يوجه للإنسان، وليس للدين والإيمان.
وكم من نصوص يلوكها الإنسان بلسانه، ويخرج عليها بسلوكه.. كم من نصراني يقرأ في الأناجيل: "من يلطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".. ثم هو يمارس اللطم ليل نهار، ويشعل الحروب، وهو يتحدث عن "المحبة ودين المحبة".
وكم من مسلم يتحدث ليل نهار عن التوحيد الخالص، وهو يعتقد أن "البشر" هو الضار النافع فينافق له، وكم من مسلم يتحدث عن "الأخوة" وهو يترفع على كل الخلق، مسلمهم وكافرهم، ويحتقرهم، ويعاملهم أسوأ معاملة.
العيب لي في الدين ولا في الإيمان بالله، ولكن العيب في الإنسان، الذي لا رابط بين عقيدته وسلوكه. وهذا الأمر ليس خاصًا بأهل الدين، فالكل اليوم سواء، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.
ولنقرأ هذه الشهادة للدكتور برهان غليون: (49)
"إن بين الرافعين لشعارات القومية، عتاة الانفصالية والقُطرية، وبين المتحدثين بالعلمانية حماة العشائرية والطائفية"!
فالانفصال بين القول والعمل، بين المعتقد والسلوك، بات اليوم ظاهرة عامة كبيرة، بل طامة كبرى!
إن الإنسان وهو يجاهد في الحياة ويصارع، بحاجة إلى قوة كبيرة تمده بالعون، وتقول له: بأن تضحياته محفوظة ولن تضيع، ومقدرة ولن تبخس، وكل ذلك يجده عند الإيمان بالله ربًا.. فالإيمان بالله كان وما يزال يمثل قمة التقدم، بشرط أن يكون حارًا لا باردًا كليالي الشتاء: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين) (العنكبوت: 69).. هذا تعهد عظيم من الخالق بهداية المجاهدين، وهو مع المتقين يسدد خطاهم، ويقمع عدوه وعدوهم، وفي الآخرة يرفعهم إلى مصاف النبيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
إن وصف الأديان بأنها رجعية جاء من قبل سدنة المادة، وعبيد الدنيا، وتجار بضاعة الشمولية الفاسدة، وتعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم، وتعس وخاب عبيد الدنيا والشهوات.
يقول سيد قطب (50): "الإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، ولا يضطرب، ولا تهمس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق عنه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب، في واقع الحياة في دنيا الناس، وهو يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه، من حقيقة الإيمان وما يحيط به في ظاهرة من مجريات الأمور وواقع الحياة…".
التحرر تقدم:
الإنسان دون سائر الأحياء، له حاجات كثيرة بدنية وعقلية وقلبية، عاطفية وروحية، وكلما كبر كبرت حاجاته.. الطفل الصغير تهديه لعبة صغيرة فيفرح لها أعظم الفرح، وتعطيه الدرهم أو الريال، فكأنما ملك الدنيا كلها، فإذا كبر كبرت حاجاته. فالشاب لا يقبل بالدرهم والدينار، لا يرضى إلا بالسيارة الفارهة، والملبس الجيد الجديد، والمدرسة الراقية، فإذا أنهى الدراسة تطلع للوظيفة الجيدة والراتب الكبير، وبعد مدة يطالب بالزواج والبيت الجيد وهكذا، كلما كبر كبرت حاجاته وتعاظمت حتى: "لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب، أحب أن له واديًا آخر، ولا يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على ما تاب" (51).. فإذا سار في هذا الاتجاه صار عبدًا لحاجاته.
وساعد على هذا التوجه أن حضارة اليوم مادية حتى النخاع، وسويداء القلب، ويستوقفني في ذلك شعار "آدم سميث"(52): "اجمعوا واجمعوا تلك هي الشريعة والأنبياء"، أي اجمعوا المال، فمتى حصل ذلك فهو كل شيء، هو الدين والدنيا معًا.
وقد علق الفيلسوف "نيتشه" على ما تقدم قائلاً (53):
(على قاعدة هذه الشريعة، يتحول النقد –المال- إلى إرادة من نوع آخر، إرادة رأس المال، التي لا تلغي الإنسان مباشرة، ولكنهما تعطيه الشعور بالقوة الأكثر علوا، والعي الأفضل).
ويعلق د. علي الشامي على ما تقدم قائلا (54):
"لقد أعمى المال بصيرة الغرب، ولم تعد الحياة بالنسبة إليه أكثر من مجرد مسعى حثيث لإغراقها في مادية لا نهاية لها، ولم يعد "رأس المال" مجرد حالة عابرة أو خاصة، فقد طبع كل شيء بطابعه، وصار هناك رأس مال للفرد والطبقة والدولة… وبات كل شيء رهين إرادته، وأصبحت هذه - وفق هذا التحليل - الرأسمالية نقطة ارتكاز في مسيرة الغرب نحو الخارج.. فهي لم تكتف بأن أفلتت النمو الداخلي، وأوصلته إلى أزمة عبرت عن نفسها بزيادة الإنتاج على الحاجات، وبعجز تطويع هذه الأخيرة لصالح السلعة، بل تعدت ذلك إلى نشر رغباتها في بلاد الآخرين، كحل مؤقت لأزمتها، وكإصرار على عدم تجاوز منطقها الاقتصادي نحو الأفضل، لها ولغيرها، لذا لم تتردد "إرادة رأس المال" في تبرير الاستعمار، ومكنت الإنسان الغربي، الذي سرعان ما وجد نفسه مندفعًا نحو الخارج، ليمارس هذا التنافس والقتل والنهب والسيطرة، أثناء بحثه عن أرباح اقتنع بأنها وسعادته شيء واحد، كما ترسخ في وعيه اعتبار "زيادة الأرباح" زيادة في السعادة والرفاهية".
إن الغرب جعل حضارته مادية أولاً وقبل كل شيء، وهو اليوم بفضل العولمة والشركات الكبرى، متعددة الجنسية، يقتل المنافسة، ويحول العالم - على سعته - إلى سوبر ماركت غربي، تغمره الدول الصناعية بفائض صناعي وزراعي، تزيد في ثمن البضائع، على حين تهبط كافة السلع في دول الجنوب الفقيرة، ومن غير حرج ولا حياء يقف رئيس أغنى دولة يصرح بأنه لن يسمح بارتفاع أثمان البترول، ليطالب بخفضها، لأنه غني قوي، وليضمن الرفاه لشعبه، وليمت غيرهم جوعًا، ثم لا يجد من يقول له: لا!
إنها شريعة الغاب، للقوي كل شيء ولا شيء للضعيف! وقد أجاد "نيتشه" وصف هذه الحالة قائلاً(55): "امتلاك، قمع، إخضاع كل ما هو غريب وضعيف، ظلم، قساوة، فرض لأشكاله الخاصة، دمج، وعلى الأقل: استغلال".
إن حضارة الغرب بتركيزها على الجانب المادي للحياة، وتهميشها واستبعادها لكل ما هو غير مادي، قد تخلت عن الحد الأدنى من الروحانية النصرانية، وتخلت عن كافة الحلول الإلهية، وأطلقت العنان لشهوات الإنسان كلها، وصاغت نظامًا أخلاقيًا يتمحور حول الفردية والأنانية والحيوانية، بحيث يغدو "الشوق إلى الرفاهية والدعة أقوى بكثير من السعي وراء تحقيق حاجات الروح، وبحيث يصبح الفرد الغربي من أجل ذلك أكثر استعدادًا لممارسة العنف ضد الذات، وضد الآخر…"(56).(9/269)
أليس من المطلوب سريعًا أن يتحرر الإنسان الغربي من كثير من مسلماته الحضارية أولاً، وأن يكف عن إرهاب الآخرين بحجة أنهم يعادون حضارة اليوم؟
في الزيارة الأولى لوفد رئاسي أمريكي للصين، لفت انتباه الكل وفرة وكثرة استعمال الدراجة، فطرحوا أكثر من تفسير لذلك، ولكن الرئيس الصيني رفض كافة التفسيرات ليقول: اخترنا هذه الآلة البسيطة كي لا نحتاج سياراتكم، ولا قطع الغيار لها.
إن العالم بحاجة إلى ثورة ترده إلى البساطة، وتحجزه من هذا الهجوم على الترف، والغرق فيه، وإنعاش الروح قبل أن يختنق.
إن حضارة اليوم تدرب انسانها على مزيد من الأنانية، والمزيد من التنافس، والغرق في الشهوات، ونتيجة كل هذا الغرق في حروب محلية وعالمية، لا تبقي ولا تذر، وقد تحرف كوكبنا الجميل، أو ترد البشرية إلى بدائية قاتلة.. إن حضارة اليوم التي رفعت شعار إسعاد الإنسان، تساهم اليوم بشقائه، وتسببت وما تزال بالكثير من أمراضه، وقد أفقدته الهدوء والسكينة، وحولته إلى آلة تدور؛ والأنكى من كل ذلك أنها تخونه وتستبعده باسم الرفاهية.
"هذه الحضارة التي أرادت لنفسها "إنسانية" تؤدي إلى نظام يحتقر الإنسان ويخونه في نفس الوقت، لكي تدمره في آخر الأمر، إنها تحتقره لأنها تختزله في الوظائف المادية والكمية للمنتج البسيط والمستهلك، وتخونه لأنها جعلته يصدق أنه بفضل التقدم والتكور للعلم، وبنظام اجتماعي أفضل، ومتحرر من آخر الأحكام السابقة، وأشكال القهر الموروثة عن الماضي، يستطيع أن يبلغ السعادة وينتصر على الألم، والتي هي غالبًا ملازمة للوضع البشري، وأخيرًا تدمره بإفساده وتحطيمه وحرمانه حياته من المعنى والأمل، كما يقول باسكيه في كتابه (انتشار الإسلام)" (57).
ألا تؤمن أخي، بأن التحرر مما تقدم هو عين؟! ألا تؤمن بأن الهرولة وراء الأهداف تستعبد الإنسان في النهاية، وتجعل منه دابة "متقدمة" همها العلف وقضاء الشهوة؟ ألا تعتقد بأن حضارة اليوم أسرفت في الماديات على حساب الروح والعواطف الخيرة؟ ألا تحتاج البشرية إلى ثورة تحررها قبل أن تدمر كل ما صنعت؟
3- التقدم الصناعي:
عاش الإنسان ألوف السنين معتمدًا على الزراعة، تمده وحيواناته ونباتاته بالغذاء ثم راحت بعض المجتمعات تتحول إلى الصناعة، وكان الهدف الأول التغلب على الصعوبات، وجعل الحياة أكثر يسرًا.
كان الإنسان يعاني من الفيضانات وصعوبة الحركة، وعدم الحرية في نقل البضائع، فلما اخترع العجلة سهلت له حركته، فلما عرف البخار كان ثورة كبيرة، فلما عرف الكهرباء كانت ثورة أكبر وأعظم، فلما استعمل النفط كان ثورة جديدة، لذا نراه يعمل جهده لتيسير حياته على الأرض فيهتم أكبر اهتمام بالمواصلات، حتى قفز من الحيوانات إلى العربات ومنها إلى الآلات التي تسير بالبخار، ثم البترول، ثم الطاقة النووية، وهكذا.
ولا يجادل أحد أن حياة الإنسان اليوم أيسر، وأن حركته أسرع، وأن سيطرته على الكوارث الطبيعية تتحسن، ولكنه لم يقف عند هذا لحد، بل راح يصنع ما فيه الدمار الشامل للطبيعة، وما فيها، ولنتصور أن حربًا كونية حصلت، واستعمل الكل مخزنه الجهنمي من السلاح، فماذا سيكون مصير العالم؟ إن الإنسان يصنع ما يحتاج وما لا يحتاج، ما فيه خيره ورفاهه وما فيه قتله ودماره.
وإذا كانت الزراعة قد أنتجت - فيما أنتجت- الإقطاع ونظامه، فإن الصناعة قد أنتجت - فيما أنتجت - الرأسمالية التي راحت تبحث عن أسواق داخلية وخارجية، لتصريف منتجاتها.. من هنا جاء الاستعمار ليضمن الهيمنة والأسواق الواسعة.. لقد اعتمدت الصناعة وما زالت على العلم، الذي أنتج الآلة، وبفضلهما نشأ رأس المال الوافر، فإذا حاول الإنسان رسم العلاقة بين العلم ورأس المال والاستعمار، فلن يجدها مجرد تولد عفوي "إنها لم تكن تولدات منطقية بقدر ما كانت إرادة وضع غايات معينة للعلم، انحصرت بشكل أساسي في الاقتصاد والسيطرة، وبالتالي لا يجوز الاكتفاء باعتبار العلم الغربي "سلاحًا حضاريًا" رغم قفزاته النوعية، بل ينبغي وضعه في سياق مسار عام، حدد للغرب رؤية ذاتية، للعالم والطبيعة والإنسان والإلهي، كما أمده بعناصر القوة التي تخدمه في تحقيق مصالحه الاستراتيجية.. وبذلك ينتج العلم الحديث نسقًا حضاريًا وتقنية للسيطرة، وكل ما عدا هذا ليس سوى اهتمامات هامشية.. بمعنى آخر، فقد أسس العلم انتماءً ماديًا للإنسان الغربي، عملت الرأسمالية على تحويله إلى ضرورة وجودية، وبنية حضارية، فألغت بعملها هذا بعدًا مهمًا من أبعاد الإنسان، وأعني بذلك انتماءه الروحي وعلاقته بالإلهي، التي تستطيع وحدها أن تعطي للعلم غاية أكثر سموًا وإنسانيةً.. وبينما يعطي العلم نزعة السيطرة أدوات هائلة جعلته يتحول بشكل مذهل إلى أهم وسيلة للسيطرة على الشعوب، وبغياب الحضور الإلهي عن مسار الحضارة التي قامت جوهريًا على العلم، لا يبقى شيء أمام العلم كي يمنعه من أن يتحول إلى علم تدمير رفيع المستوى…"
(58).
وحتى لا يقوم متغرب فيتهمني بمعاداة الغرب وحضارته، والحقد على الغرب وتسلطه، مع إيماني الجازم بأن من استثير فلم يتحرك فهو مشكوك في آدميته أو لنقل في كرامته، فهذا "نيتشه": ابن الحضارة الغربية، ومع ذلك فهو يقول (59) : "إن ما أقصه عليكم الآن هو تاريخ القرنين التاليين، فأنا أصف ما هو آتٍ وما لا يكن إلا أن يأتي، وأعني به ظهور العدمية، ويمكن أن أقص هذا التاريخ منذ الآن، لأن الضرورة نفسها، تفرض ذلك، وهذا المستقبل يتحدث عن نفسه في مئات من الدلائل والعلامات، وهذا المصير يعلن عن نفسه في كل مكان، وكل الآذان قد أصبحت مرهفة السمع، لموسيقى المستقبل هذه، إن حضارتنا الأوروبية كلها تتحرك منذ وقت طويل في انتظار "معذب" ينمو من خمسية (60) إلى أخرى، ويؤدي إلى مأساة قلقة عنيفة لاهثة، إنها نهر يريد الوصول إلى منتهاه، إنها لم تعد تفكر إطلاقًا، بل إنها تخاف من التفكير".
صورة مظلمة لمستقبل الحضارة يرسمه "نيتشه"، ويشاركه آخرون مثل اسبنجلر وولسون، ويتحاشى توينبي أن يصرح به بوضوح.
المهم أن التقدم الصناعي كان ثورة كبرى، سهلت على الإنسان أمورًا لا حصر لها، لكن ككل الثورات لن تكون مأمونة العواقب أو النتائج، وتحتاج إلى ناقد شجاع يميز الخطأ من الصواب، وما هو في مصلحة الإنسانية حقًا، وما هو بعيد عن ذلك.
كذلك لا يكفي أن تخدم قلة بشرية على حساب كثرة ما زالت تكافح من أجل لقمة الطعام وعلبة الدواء، أليس من العيب أن يعيش ثلث العالم دون خط الفقر؟
أليس من العيب القاتال أن يستولى 20% على ثروة العالم، ويديرونها كما يشاءون ويتمتع الباقون بنعمة التفرج؟ أليس من العار أن تدفع دولة غنية مثل أمريكا مساعدات للفلاحين كي يكفوا عن زراعة المزيد من الحبوب، من أجل أن لا تهبط أسعارها؟
وأخيرًا، أليس من العار أن تشعل الدول الصناعة حروبًا محلية لتجربة أسلحتها، أو لتأديب الخارجين على بيت الطاعة؟
كتب محمد عابد الجابري (61): أن تقريرًا لمنظمة العمل العربية قدر الأرباح المتوقعة من اتفاقية "الجات" بـ (200) مليار دولار، نصيب العرب كلهم 1%، أي مليارين فقط، بينما يبلغ نصيب المجموعة الأوروبية (32.6) مليار دولار، والولايات المتحدة وحدها ستحصل على
(36) مليارًا، وروسيا وتوابعها (31) مليارًا، وتحصل اليابان على (27) مليارًا.. وما تبقى تتقاسمه دول العالم، أي (73.4) مليارًا، فأي عدل هذا ؟!
الالتزام الخلقي:(9/270)
أود ابتداءً طرح عدة أسئلة منها: هل يوجد إنسان عديم الأخلاق؟ هل هناك شعب قديمًا أو حديثًا ليس له نظام خلقي؟ هل توجد أمة لا تلتزم نظامًا خلقيًا؟ وأخيرًا: هل توجد حضارة دون أي نظام خلقي؟ وما هي الأخلاق لغة واصطلاحًا؟
الأخلاق لغة: الخُلْق: العادة والسجية والطبع والمروءة والدين (62).
واصطلاحًا: ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة ويسر، من غير تقدم فكر وروية وتكلف(63).. ويعرفه الفيروزأبادي (64) بأنه: بذل الجميل وكف القبيح، أو التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.. وعدّّ له أربعة أركان: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
وهنا الحديث عن السلوك، ويطلق عليه بعض العلماء "علم السلوك".. أما الأخلاق كعلم، فيعرف بأنه: (65) "علم يبحث في الأحكام العملية التي تعرف بها الفضائل لتقتنى، والرذائل لتجتنب، بهدف تزكية النفس".
وقد تحدث المصلح الديني "مارتن لوثر" عن أثر الأخلاق في الأمم فقال (66): "ما سعادة الأمم بكثرة أموالها ولا بقوة استحكاماتها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بأبنائها الذين تثقفت عقولهم، وبرجالها الذين حسنت تربيتهم واستنارت بصائرهم، واستقامت أخلاقهم، في هؤلاء سعادتها الحقة، وهم قوتها وعظمتها الجوهرية".
ماهية الأخلاق ومركزها:
هل الأخلاق هي مكارم القيم، وأصول السلوك الحسن، والبعد عن السلوك السيىء؟ أم الأخلاق هي مجموع القيم، والمبادىء الموجهة للسلوك، والمساعدة على تكوين اختيارات عامة، تؤدي إلى تكوين صورة عن المدنية؟
يفضل د. برهان غليون الطرح الثاني (67)، لأنه يضم كافة الخصال التي تشجع على احترامها حضارة ما، أو تستند إليها في إلهام الناس وحثهم على الممارسة.
أما مركز الأخلاق فيظهر من سلوك البشر، وتضارب المصالح، وتناقضها أحيانًا، مما لا يستطيع الفرد أو الأفراد تحقيقها معًا، هنا يقوم الإنسان بتنظيم سلوكه ليتوجه نحو الأهداف والغايات.
ومهمة الأخلاق تبني هذه الغايات أولاً، ثم تحديد القيم التي تساعد الفرد على القيام من نفسه بالاختيار بين المصالح والرغبات.
والنظام الأخلاقي من مهماته الأساسية تحديد الغايات الكبرى أولاً، والوسائل الموصلة لذلك.
ولولا ذلك لضاع الفرد، لأنه لا مقياس لديه، فيخضع للواقع، مهما كان، وقد يتخلى عن إرادته الشخصية، فيصير مجرد آلة بيد من هو أقوى منه، بل قد يفقد حريته كليًا أو جزئيًا بسبب ذلك.
وهنا تبرز قاعدة معروفة: إن القيم الكبرى لا يضحي بها من أجل قيم أقل، وكذا يعتبر دفع المفسدة مقدمًا على جلب المصلحة، والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة.
وهذا التحديد تقوم به الثقافة، فهي الحاكم.. فمتى كانت حية قوية فاعلة، سلم لا الكل، فإذا ضعف نظام القيم والأخلاق، وذبلت الثقافة، يصير قاعدة السلوك هو "تحقيق الرغبات الشخصية"، دون اعتبار للجماعة وسلامتها، بل دون مراعاة للمستقبل.
إن كل مجتمع مدني سليم يتطلع عادة للانخراط في مشروع جماعي، ويتطلب عادة نوعًا من التضحية ونكران الذات، وهنا نستذكر مقولة "مالك بن نبي": إن قوس الحضارة يبدأ روحيًا قويًا، يعمل الأفراد بقوة وتضحية، يعقب ذلك مرحلة تتسم بالنشاط العقل، تفلسف الأولى، وفي المرحلة الثالثة، تهيج الغرائز، فتنحل الحضارة وتسقط، لأن "الأنا" تكون هي الصوت العالي، بل الأعلى.
إن النظام الخلقي يقوم على وسيلة ضبط لسلوك الفرد داخليًا، كما يكون الخضوع للقيم إراديًا دون إكراه، وهكذا تساهم القيم الخلقية بقيام نوع من الاستقرار الاجتماعي، فإذا ضعف الالتزام الخلقي، بدأت القلاقل والمتاعب، وبدأ الشك بالقيم والثقافة المحلية كذلك.. عند ذلك يصبح تحقيق الذات وحيازة الاعتراف الاجتماعي متعارضين مع احترام القواعد الأخلاقية السائرة، وعندها يكون تأثير القيم والضبط الاجتماعي قد ضعفا كثيرًا، ومن ثم لم يعد ضبط سلوك الأفراد هينًا بل عسيرًا.
وهذا ما نشكو منه، فالأخلاق والقيم الإسلامية، التي كانت تتوجه نحو الجنة والسعادة في الآخرة، لم تعد تصلح في نظر البعض، لتحقيق التقدم ومواكبة حضارة اليوم.. وهكذا شكل التحرر عندنا ثورة ضد القيم والنظام الأخلاقي، وضد
التقاليد، كل التقاليد، وجرى تصوير الماضي بكل ما فيه وكأنه العقبة الكبرى ضد التقدم، وبالمثل وحّد هذا "البعض" بين المستقبل والعلم|، واعتقد أن الماضي قيد بكل ما يحمل، وبذا وصم بالرجعية والظلامية، فصار التقدم والحرية ثورة ضد الأخلاق والقيم.
وقد كانت المحصلة هدمًا للقيم دون بناء جديد، ويذكرنا هذا بما حصل "للغراب" فقد أعجبته مشية الحمامة ورشاقتها، ولما رأى خفة حركة العصفور وقفزاته الجميلة، أراد تقليد الاثنين معًا، فجاء بأقبح مشية.
إن الحداثة اصطدمت بالقيم والأخلاق، وأرادت اقتلاعها من جذورها فلم تفلح، ولم تسلم لنا القيم، ولا استطاعت زرع قيم جديدة، فكانت مشية الغراب، لا جديد جيد ولا قديم قائم.
الحداثة والعلم:
إن الحداثة ادعت أنها تبني نشاطها ووجودها على العلم، وكل ما لا يعترف به العلم فلا وجنود له، وكل قضية يحلها العلم، فإن لم تحل فهي قضية "ميتافيزيقية" زائفة.. لقد صورت الحداثة وكأنها انعتاق من كل القيم والأخلاق، واستسلام للعلم ومعطياته.
واستشهد رجال الحداثة بالغرب، وحياة الإنسان هناك، فهو يحقق رغباته دون قيد، كما صورت الحرية الفردية وكأنها تعني - فيما تعنيه - سقوط الضوابط الاجتماعية. واندفع البعض للقول: بأن تقدم الغرب جاء ثمرة لتخليه عن القيم والنظم الخلقية، وهذا يشبه القول: بأن الغرب ألحد فتقدم، وما كان الإلحاد هو السبب، ولكن كانت هناك أسباب للتقدم، جرى الأخذ بها، وإلا لوجب أن يتقدم كل الملحدين في العالم، وأن يتأخر كل المتدينين.
أين تقع قضية المرأة؟
ويمكن وضع قضية المرأة عندنا في هذا المربع، فالبعض يرى في تحررها الجنسي وتعريها، واختلاطها ودفعها الرجال بالمناكب، يرى في ذلك أعظم تحرر، بل رمزًا لتحدي القيم والأخلاق، والغرب اليوم يدفع بكل قوة في هذا الاتجاه المشبوه.
ومطلوب من كل عاشق للشهرة وثائر، أن يدعي الحرص على قضية المرأة، وأنه رمز من رموز الدفاع عنها.. ومن مستلزمات النجومية أن يهاجم الإسلام وعقائده، والمسلمين وأصوليتهم، وأن يهاجم المحرمات ويتجاوز المقدسات، وصار كل من يؤمن بالأخلاق والقيم متهمًا وعدوًا للتحضر، يُكفّر وطنيًا، ويُهمّش بحجة أن نياته غير سليمة، ويجري التحريض ضده على مختلف المستويات، وقد تكون كل جريمته أنه يؤمن بالقيم، ويتمسك بها، ويدعو لها.
وكما يستأسد البعض، كذلك يفعل بعض أصحاب السلطان، فهم يبيحون لأنفسهم كل ما ينكروه على غيرهم، ويستعملون القوة ويفرطون فيها - من غير حاجة أحيانًا - يخرقون القانون، على حين يطالبون الكل باحترامه!
إن الكثير من الدول تمارس العنف والضغط والإكراه بكل ما تمتلك من قوة، في ذات الوقت الذي تتهم جماعات بفعل ذلك "إن جوهر العدمية الأخلاقية - أي مضمونها - واحد في الدولة والمجتمع، إنه إلغاء لفكرة الواجب، وهو المبدأ الذي يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية، ليعكس تسامي الإنسان، أو قدرته على الالتزام تجاه "الغير" والتضحية في سبيلهم، وما الشعور بالواجب إلا ثمرة للشعور بشرف الانتماء إلى الجماعة وبالرغبة في التماهي معها فإذا عجز الإنسان عن الالتزام الجماعي أباح لنفسه كل ما استطاع أن يحرمه على غيره، ولا شك أن المجتمع القائم على المصالح والأنانية، لا يمكن أن يعرف الواجب والمسؤولية والتضحية"
(68).(9/271)
فإذا سقط الواجب والتضحية فلا بد أن يسود المجتمع شريعة الغاب، حيث الحق للقوة، ولا مكان للضعيف، وحيث لا يشعر المنتصر القوي بأي حرج من السيطرة على الثروة، وحرمان الآخرين.
إذا فقدت القيم:
هنا يجأر النسا بالشكوى من غياب الأخلاق وفقدان القيم، فينفجر النزاع ويتصاعد العنف فيتشقق المجتمع، وتفقد الحياة معناها وطعمها، وإذن "لا يمكن للمجتمع المدني أن يقوم بدون نظام أخلاقي لكن ما هو أصل ومصدر الفكرة المترسخة في الوعي العربي الحديث، حول نسخ العلم والحضارة العلمية عامة للأخلاق، كمنظومة اجتماعية؟
كيف جرت عقلنة هذا النسخ حتى أصبح انعدام الأخلاق يعني التقدم؟
في اعتقادنا أن مصدر هذه الفكرة، هي الفلسفة الوضعية والسوقية، التي ترى في العلم هدفًا لكل تقدم، وأنه النمط الأعلى، أو المرحلة الأخيرة لتطور الوعي البشري، وأن هذا التطور قد قضى على كل أشكال الوعي الأخرى، أو حل محلها، فأصبح في الوقت نفسه علمًا وأخلاقًا وأدبًا، فكل ما ليس بعلمي أو لا يمت إلى العلم بصلة، فهو من بقايا الماضي، ومن مخلفات الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي والأيدلوجي والفلسفي، ولذا لا بد أن يزول لأنه رمز التخلف وعقبة أمام انتصار الإنسانية النهائي، فالعلم قد جب ما قبله، ولذا فإنه من المنطقي أن تصبح إزالة الأخلاق رمزًا للتقدم" (69).
إن الحكم على زوال الأخلاق بجرة قلم تشبه إلى حد موقف اليهود حين اكتشفت القارة الأمريكية، فقد سارعوا للقول: لا توجد قارة جديدة، لأن التوراة تنفي ذلك!
إن العقلية العربية "الحداثية" تبدو معجبة حتى العظم بهذا التوجه، ومسرورة له أعظم السرور.. "لقد جذبت هذه الفكرة بقوة الوعي العربي، لأنها كانت تقدم له - في الحقيقة - مبررًا وحجة عقلية مقبولة، للاندفاع في تدمير المدنية العربية، التي أصبحت غريبة على التاريخ الحديث، وذلك بهدف الاندماح في الحضارة، وليس هذا التدمير إلا استجابة تلقائية لنظام "الغلبة الصاعد"، وتأكيدًا على توسع نفوذه" (70).
وأحسب أن تطور العلم والمعرفة، لا يلغي حاجة المجتمع لنظام القيم والأخلاق، بل يستدعيها ويطلبها، لتضبط حركته ولا تسمح بالتفكك والتشرذم.
مسيرتنا الحضارية:
حين بدأنا مسيرتنا في التحضر، حتى صرنا قادة العالم، سارت خطانا في مسارين: الأول التمسك بما عندنا من قيم وأخلاق، والمسار الثاني كان الاغتراف من معارف الأمم السابقة ثم هضمه وانتاج معارف جديدة، وقد بقينا أوفياء حتى ضربنا الاستعمار الحديث، فهز قناعاتنا هزًا عنيفًا، فتخلى بعض أبنائنا عن عقائدنا وقيمنا وهرول خلف العدو الزاحف، معتقدًا أنه سيلحق به، إذا أخذ ما عنده! يذكرني ذلك بالسلطان العثماني الذي كان يسمع عن تقدم الغرب وتخلف بلاده، فأراد أن يذهب للغرب بنفسه ليكشف السبب، ذهب وعاد ليقول: وجدتها! إن الغرب يحلق لحاه ولا يلبس الطربوش ونحن لا نفعل ذلك، ونساؤهم تعيش مختلطة متكشفة، ونساؤنا ليس كذلك، والكل قد ابتعد عن الدين تقريبًا، ونحن لسنا كذلك.. وأشهد أن جل أهل الحداثة لا يختلفون عن السلطان العثماني، وهذا الشاعر ضياء ألب التركي يصرخ بأعلى صوته: نريد أن نقتبس كل ما لدى الغرب، حتى الجراثيم التي في بطونهم؟
درس من إفريقيا:
لقد أتيحت لي فرصة التجول في غربي وشرقي وجنوبي إفريقية، فلم أرَ من الحضارة الغربية سوى الحانات تزدحم بشاربي الخمور، ومرضى الإيدز يملئون المستشفيات، ورأيت شوارع بعض العواصم تجري فيها المياه القذرة، في سواقي غير مغطاة، ورأيت الشوارع الفرعية دون سفلتة ولا كهرباء.
وقد استعمرت فرنسا جزر القمر (160) سنة، فلما رحل الاستعمار لم يخلف مستشفى ولا مدرسة ولا جهازًا لتوليد الكهرباء، وهناك من يحن للاستعمار، ويعتبره من أنعم الله التي لا تجحد! إن الإنسان يمكن أن يمسخ بحيث يصبح عدو نفسه ودينه، ووطنه وأمته، لأن لوثة عقلية أصابته.
إلى كافة المتغربة:
يموج العالم بملايين متغربة تعيش أجسامها في مكان، وتحوم أرواحها وتتجه أبصارها صوب الغرب، فإلى هؤلاء - وفيهم الكثير من أبنائنا - أسوق شهادة لرجل تعلم في الغرب واستقر هناك، ويعمل في إحدى الجامعات، فقد كتب يقول(71): "إن ازدهار الوعي والإنتاج الديني والفلسفي والأدبي والفني، وقيم التواصل عمومًا، لم يكن في أية حقبة ماضية أعظم مما هو عليه اليوم في "المجتمع الغربي"، مجتمع الإبداع العلمي والروحي معًا، دون منازع، والنمو الأخلاقي يتماشى دائمًا مع النمة الحضاري، ولا يتنافى معه، لأن الحضارة تخلق فائضًا في الوعي، لا تعبر عنه القيم النفعية والتبادلية، ولا تستوعبه، وما الانحطاط والبربرية إلا تقلص النشاطات الفكرية المتعددة والمتنوعة.. إن الأخلاق المدنية من فضيلة التضحية والمجانية والكرم، وإن أخلاق البربربة تقوم على المنفعة المباشرة، التي تستجيب إلى الصراع الذين لا يرحم، من أجل البقاء، وتستخدم الدين والعلم كوسيلة لهذا الصراع".
إن الفرق بين الإنسان والحيوان، وجود قيم وأخلاق لدى الإنسان وخلو الحيوان منها، فالأسد متى جاع يفترس أي حيوان يجده أمامه، فإذا تجرد الإنسان من القيم والأخلاق فسيكون حيوانًا يمشي على رجلين، يستعمل عقله وذكاءه للإيقاع بفريسته وان يفعل بها ما يشاء، وكلما تقدم الإنسان صار "وحشًا كبيرًا"، الحق عنده القوة، لذا من حقه أن يسلب الفقير الجائع لقمة طعامه.. لذلك فإن الأخلاق والقيم، ضرورية للمجتمع البشري، المتقدم منه والمتخلف، والسؤال: ما مصدر هذه القيم أولاً؟ وكيف يكتسبها المجتمع؟
مصدرية القيم وكيف تكتسب:
لا يوجد مجتمع بلا ثقافة، ولا مجتمع بدون قيم، فالقيم يتوارثها أفراد المجتمع، وهي نابعة من خبرة المجتمع الطويلة.. أصول القيم تعود للدين والعقيدة، وبعضها يعود للعادات، وبفضل التربية يتكون الشعور الأخلاقي.
لقد ساهمت الأديان بشكل عام، والسماوية بوجه خاص، في تطوير المفاهيم الكبرى، مثل الأخوة، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، وحتى الحيوان، لكن المجتمعات الوضعية باشرت بوضع قيم جديدة، ومع مرور الزمن جرى التحرر من القيم القديمة، وهكذا تبدل الإطار المرجعي للأخلاق والقيم.
حين كانت الأديان هي المرجع صار جميع الناس لآدم، كلهم عباد الله، مؤمنهم وكافرهم، وصارت العبودية لله وحده، ليس لأحد سواه، وصار الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأفضل هو الأتقى، وهكذا تجاوز الإنسان حدود الدولة، فقامت بفضل الأديان إمبراطوريات كبيرة، وقُبل التعدد العرقي والديني كحقيقة واقعة، وهكذا قامت ثورة في مفهوم الإنسان لنفسه ولغيره، وفي معنى الحياة والهدف منها، ورسم العلاقة الاجتماعية والإنسانية بعناية ووضوح.(9/272)
ورغم ما أصاب القيم الأخلاقية من ضعف، بسبب ضعف الحماس الديني، فإن الحاجة ظلت تدعو لإعادة بناء هذه القيم، بناءً جديدًا، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، تحاول جعل العقل والعلم هما السند الأساسي للأخلاق، ونظرًا للتفريط الذي حصل في الغرب بالنسبة للقيم الدينية وغيرها، فإن الغرب "لم يكن يعني إلغاء الأخلاق، بقدر ما هو تحقيق للفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقًا مدنية، ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة "الواجب"، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني "كانت" لم تلغ القيم القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش..إلخ، ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنًا، إلا إذا استند امتناع عقلي، ولم يكن هذا التصور في الواقع إلا أحد مظهر حركة العقلنة العامة، التي شهدها "المجتمع الغربي" في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة"(72).
لقد عبر هذا التطور قيام مفهوم جديد لسيادة الفرد، وهو دليل على المساواة الأخلاقية، وهي انعكاس لسيادة المجتمع، وهكذا صارت (حرية الفرد) مصدرًا لحرية الأمة وسيادتها، وبالمثل صارت سيادة الأمة وحريتها، هي الضمان لحرية الفرد وسيادته، ومع مرور الزمن راح يستقر في نفس الإنسان، الذي يعيش وفق هذه القيم، ويتأثر بها، أن التحرر من الدين وقيمه يؤدي لتحرر الإنسان.
من جهة أخرى، راح تعميق الحرية وتوسعها يصبح الأساس للشعور بالالتزام الخلقي، فإذا خمد هذا الشعور أو فسد فإن الشعور الأخلاقي، أو الالتزام الأخلاقي، سيفتح الباب للعودة القوية للأخلاق الدينية، باعتبارها السند والمرجع للمجتمع، وهذا ما نشاهده اليوم. فثمة أصولية دينية هندوسية، وأخرى أكثر عنفًا وتطرفًا، يهودية، ونصرانية، ومسلمة.. والمجتمع الأمريكي مثلاً، يموج بعشرات الألوف لجماعات متطرفة، لها مليشيات تبلغ أكثر من (360) ألفًا، كما ذكر الرئيس ""كلينتون".. والانتحارات الجماعية خير شاهد ودليل.
من أزمتنا: تدمير القديم.. ولا جديد:
إذا كان المجتمع قادرًا على هدم القديم، أي قديم، وبناء جديد مكانه، فتلك سنة الحياة، أن يتنحى القديم ليوسع للجديد، ولكن أن تهدم شيئًا ثم تعجز عن بناء جديد مكانه، فذلك فشل، بل نكبة.
يقول د. غلبون (73): "إن فهم الأزمة الأخلاقية التي يعيشها المجتمع العربي، والتي تتجسد بنظرنا في عجز التحديث عن تقديم إمكانية لنشوء "أخلاق عقلية"، في الوقت الذي يدمر فيه بانتظام السند الديني للأخلاق، يرجع ذلك إلى أسباب نابعة من طبيعة الحداثة نفسها، وإلى أسباب أخرى نابعة من الثقافة العربية ومن العلاقة الخاصة التي تربط بين الدين والمجتمع.
فبعكس ما حصل في الغرب، فقد نجح الإسلام منذ أيامه الأولى، في أن يوحد بين الدين كمصدر لأخلاق فردية خاصة، وبين الشريعة كمصدر لنظام اجتماعي سياسي مدني، ولعل ذلك راجع إلى أن الإسلام استطاع منذ البداية أن يوفق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، ولم يضطر إلى إحداث القطيعة بينهما، وهكذا تطورت وبشكل مواز، ودون تناقض يذكر، النزعات الروحية والصوفية مع المنظومة الفقهية التي حاولت أن تستوعب التغييرات الاجتماعية وتفتح باب التأويل والتفسير، والاجتهاد العقلي.
وباختيار، لم يحصل في هذه التجربة ما يدعو للفصل العميق، بين الجهد العقلي الإنساني الروحي والوحي الإلهي، بل اعتبر هذا الجهد، متممًا للآخر، وموافقًا له، ون هنا استنتج المسلمون إن الإسلام "دين ودنيا".
والواقع أن الأديان لا تختلف فيما بينها حول اهتمامها بالروحي والمادي، بالفردي والعام معًا، ولكن مضمون التجربة الإسلامية الأساس، هو نجاح الإسلام إلى وقت قريب، في التوفيق بين مقتضيات الدين والدنيا، أي في تطوير المسائل الأخلاقية والسياسية والقانونية التي تواجه الجماعة المدنية، على قاعدة من السند الديني، ولم يضطر من أجل حفاظه على الدنيا، وتحقيق مكتسباته المدنية، إلى التخلص من الدين، أو شن حرب شاملة عليه، كما حصل في المجتمع الأوروبي، ولهذا لم تظهر العلمانية كمطلب أساسي في إيديولوجية التقدم الحديث الأولى…".
وينبغي التذكر جيدًا أن حداثتنا العقلية تتلمذت على الغرب، لكنها جاءت مسخًا، بل نسخة مزورة، فحداثة الغرب ثورة روحية عقلية،ـ وحداثتنا ثورة على الإسلامي تحديدًا، وهروب من الأخلاقي إلى المحرم، ومصارعة "دونكتشيه" ينقصها المبرر.. خاض الغرب معركة شرسة ضد الكنيسة، أما نحن فليس لدينا كنيسة ولا معركة معها.. فما طبيعة معركتنا، وطبيعة معركة الغرب؟
معركتنا ومعركة الغرب:
في الغرب تجسدت النصرانية - وهي عقيدة بلا شريعة - بالكنيسة، ومع تقدم الأيام أصيبت الكنيسة بالتيبس والجمود، فحين اخترع شخص ألماني مصباحًا يعمل بالكاز، حكمت الكنيسة بكفره، لأنه خالف إرادة الرب، بجعل الليل المظلم منورًا.. وحين قال العلماء بكروية الأرض ثارت الكنيسة وعرضتهم على محاكم التفتيش الدينية، التي راحت تحكم بقتلهم، وقدر عدد من عرض على هذه المحاكم السيئة أكثر من (350) ألف إنسان بينهم الكثير من مسلمي الأندلس، وهنا حصلت ثورة ضد الكنيسة انتهت بهزيمتها، وكان من أسوأ مفرزاتها إلحاد العلماء، ورفع شعار: "العالم لا يكون متدينًا، والمتدين لا يكون عالمًا".
الإسلام ليس لديه كنيسة ولا رجال دين، ولا معصوم - كما هو حال البابا - والفقهاء رجال علم، قيمة ما يقولون يتأتى من قوة الدليل وصحته، وليس من مركز "المعصومية" التي لا تخطىء.. وحين أراد الخليفة الراشد عمر منع المغالات في المهور، تصدت له امرأة - على رؤوس الأشهاد - وساقت الدليل الشرعي، فلم يزد الخليفة على أن قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
وقال له صحابي يومًا وهو على المنبر: لو نعلم فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا.. فلم يزد أن قال: الحمد لله أن وُجدَ في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوّم اعوجاج عمر.
أما معركتنا فكانت ضد الدولة، التي جاء بها الإسلام، ونظم حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم.
إن المجتمع الشرقي عمومًا، والإسلامي على وجه الخصوص، يتخذ من الدين والقيم الدينية ملاذه، بل مصدر قوته، وهو يصارع الدولة، التي تحلم بالتوسع دائمًا، وبالغلبة أبدًا، وأن يكون الولاء لها أولاً وآخرًا.. إن معركتنا الأولى ضد الدولة التي لا تخضع لسوى قانون القوة، والتي تنتج القوة.
والمطلوب من الدين لجم سلطة القوة، وإخضاعها لمبادىء الشريعة وأحكامها، من هنا كان الإسلام وما زال قريبًا من المجتمع، وكانت الكنيسة ضد المجتمع، وضد العلم تحديدًا.
إن شرعية الدين في الغرب بيد الدولة، فهي التي تعترف بالكنيسة أو لا تعترف.. أما شرعية الدولة - عندنا - فهي بيد الإسلام، فالدولة التي لا يرضى عنها الإسلام لا شرعية لها.
إلى أن المسير؟
تحديث الدولة هدف الإنسان، وكذا النظام السياسي، في عالمنا العربي والإسلامي، وكان الأمل أن يتم ذلك دون خسائر ولكن الذي حدث أننا فرطنا بالقيم الإسلامية، والتحديث لم يأتِ كما يرادـ فلم تصبح الدولة عقلانية، ولا تقلص استبدادها، بل صارت غولاً يخيف الناس.. لقد "ظهرت العقلنة العربية كوسيلة لاستبعاد الجماعة عن السلطة، وأداة لتحديث وتقنية الدولة الاستبدادية، وقتل الروح الجماعية، والتفريط بالقيم الروحية والإنسانية.(9/273)
وبقدر ما أصبحت الدولة عقلانية، وتمكنت من فرض التبعية المطلقة على الجماعة، جعلت من سيادتها محصلة لفقدان جميع الأفراد سيادتهم وحريتهم، لذا بدل أن يحصل هنا تقدم باتجاه استقلال الأخلاق عن الدين، واستنادها للعقل، حصل في الواقع انتكاس، من نموذج الأخلاق الدينية إلى نموذج الأخلاق البدائية التي تتجسد من خلال التماهي مع زعيم قائد ملهم، يشكل الولاء له، والإيمان به، مصدر كل سيادة، ومنبع الحق والأخلاق، كما أصبح صنع القائد المقدس، الذي يملأ على الناس حياتهم، وينيرها بكل الشموس، هو محور الفعل الأخلاقي وجوهره.
باختصار لم تعن العقلنة عندنا تجديد ميتافيزيقيا الأخلاق وإحياءها بقدر ما عنت التضحية بها لصالح ما اتفق على أنه التقدم العلمي، وما ظهر فيما بعد على أنه السلطة الجديدة.. ولعل هذا ما يفسر المصير المأساوي الذي لاقته فكرة العلمانية ذاتها، فبعد أن كانت تقضي بالفصل بين الدولة والكنيسة، وتحرير السلطة من العقيدة التي تحرمها من ممارسة العدالة والمساواة، تجاه جميع أعضاء الجماعة، أصبحت العلمانية تعني تمسك الدولة بالسلطة بدين أو بمذهب سياسي، وحرمان المجتمع من أي دين…"(74).
أراد البعض عندنا أن يهرب من الدين وقيمه ومحرماته، فسقط في أحضان الظلم والطغيان.
الإسلام.. جبل النجاة أم سبب التخلف؟
في مجلس جمع بعض المثقفين وأساتذة في إحدى الجامعات العربية، وبعد أن شرّق الحديث وغرّب، جاءوا على ذكر نظام عربي، فقال بعضهم: إنه إسلامي أكثر من اللازم، ومتزمت أكثر من المعقول، وجاء الرد، بل هو إسلامي "قشرًا" وغير مقبول فعلاً.. هذه المفارقة في وصف نظام معين، بأنه إسلامي أكثر من اللازم، وأنه في نظر آخرين ليس إسلاميًا بما فيه الكفاية، يذكرني بانقسام بعض مجتمعاتنا انقسامًا عموديًا حادًا. منذ سنوات قامت شركة خليجية بشراء قطعة أرض كبيرة لبناء مساكن أساتذة جامعيين بناء على طلب من الأساتذة، وبعد الشراء وتقسيم الأرض، رفض أساتذة إحدى الجامعات أن يسكنوا قريبًا من الأساتذة الآخرين، وانتهى المشروع كليًا إلى الفشل، وعرضت الأرض للبيع.
هذه صورة أخرى لانقسام داخل مجتمعنا، لا يبشر بخير، ولن يتحرك مجتمعنا، والبعض ضد الآخر بهذه الصورة.. "ولعل هذا ما يفسر الموقف الانفعالي للعرب مع الإسلام، وانقسامهم بين التمسك بكل ما يمت إليه بصلة حتى لو لم يكن من صلب الدين، وبين الوقوف ضد كل ما يشير إليه دون تمييز! والأصل في ذلك أنه مازال المصدر الأول للأخلاق، في الوقت الذي تتحول فيه الأخلاق إلى الملجأ الأخير لإنسانية عربية، خانها التاريخ، وانحدرت بها المؤسسات القانونية والسياسية والاقتصادية.. فهو بالنسبة للبعض " خشبة الخلاص الوحيدة"، وهو بالنسبة للبعض الآخر العائق الرئيس، أمام الانعتاق والتحرر من كل قيد، ومن كل التزام جماعي.
ويعكس الموقف الانفعالي أزمة التربية العربية ومأزقها، ويطرح سؤالاً أساسًا وخطيرًا: من أين يأتي الإطار المرجعي لمنظومة القيم التي تنظم سلوك الناس، وتحدد ولاءهم في مجتمع معين؟ وهل من الممكن اختيار هذا المرجع، او هل هو مسألة اختيار، أم هو ثمرة لتطور موضوعي وتاريخي للثقافة القومية ذاتها، وأحد إبداعاتها؟ هل يكفي مثلاً أن ينادي مسؤول أو مثقف بأهمية هذه القيمة الفكرية والاجتماعية أو تلك، حتى تصبح مقدسة؟ وهل يمكن إسناد المنظومة الأخلاقية إلى إرادة حاكم أو مشرع، أو إلى الإرادة بشكل عام؟
إن ما يحصل في المجتمعات النامية من تبديد في الأرواح والثروات، واختلاس وتلاعب بالمصالح العامة، وبحصر الجماعات وحياتها|، يبين إلى أي حد يؤدي انحلال السند الروحي للأخلاق إلى فقدان الرادع الذاتي"(75).
الولاء والشعور الأخلاقي:
ومن المعروف أن الشعور الأخلاقي مثل الولاء، لا يمنح عن طريق الأوامر، ولا عن طريق استعمال القوة، وإنما هو يتطور مع الزمن، ويعكس علاقات الأخوة والتضامن والتوادد، والدين هنا يعتبر أكبر عامل ومنبع للأخلاق، ولكن ذلك ليس تلقائيًا، إذ لا بد من وجود عقيدة جامعة تجمع الكل، وإطار للتعاون والتضامن، فإذا صار الدين عقيدة باردة وصارت الأخوة مجرد كلام تلوكه الألسن، كما يحدث اليوم ببعض البلاد العربية والإسلامية، وصار التضامن مجرد عواطف، فإن الشعور الأخلاقي يمكن أن ينحدر وينام.
من الأمور المنغرسة في فطرة الإنسان، ميله لأخيه الإنسان، وحبه للتعرف عليه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعوبًا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).. وإذا خلق الله الشعوب مختلفة لتتعارف، فإن النظم الاستبدادية جعلتها تتعارك وتتصارع، وبعض الدول تعجز عن إطعام شعبها وتطلب المعونات، وفي ذات الوقت تنفق الملايين على حروب طاحنة لا تبقي ولا تذر، متوخمة أن ذلك يحقق المجد الشخصي لها.
إن النظام الاجتماعي قد يعمل على تنمية العلاقات والشعور الأخلاقي، لكنه قد يفعل العكس، فيغتال ذلك، حين يكون النفخ في فئة أو جماعة، فتشعر أنها شعب الله المختار، وأن من سواها ليسوا أكثر من بهائم أو أنجاس، إن هذا النفخ وهو اليوم قائم بأكثر من بلد وشعب يقتل الشعور الأخلاقي، ويغطي على التضامن والمحبة، ويؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات متصارعة، فتغتال المواطنة، كما يقتل الولاء.. إن منابع ومصادر الأخلاق في الأمم يستحيل تغييرها متى نشاء، وكما نشاء، لأنه يجب أن يتبدل بنياننا الثقافي، وهذا صعب للغاية.. الإنسان يبدل ملابسه بسهولة، ويغير بيته وأثاثه، وحتى جنسيته، لكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه بنفس السهولة، وعلى تجار الحداثة أن يعلموا ذلك جيدًا، ليكفوا علن وهم قلع الأمة من جذورها، ونقلها إلى ثقافة أخرى، وخلق جديد، وقيم جديدة.. إن قلع الجبال أيسر من تحويل ولاء الإنسان، وأيسر من تغيير قناعاته الأخلاقية، والتنازل عن قيمه الأساسة.
شبابنا والفراغ الروحي:
في أحاديثي مع طلبتي في الجامعة، أشكو من قلة الاهتمام بالحضور، ومن قلة الاهتمام بالدراسة، حتى المذكرات والكبت أراها متروكة في الأرض، فلماذا كل ذلك؟
يرد الطلبة: نحن ندرس ونسهر الليالي في الثانوية كي نحصل على درجات تؤهلنا لدخول الجامعات، فإذا نجحنا وجدنا الألوف تتزاحم على بضع مئات من المقاعد، ومن قُبل فهو يعلم سلفًا أن لا توظيف فعد التخرج، ومن كان أهله أغنياء، تزوج وشق طريقه في الحياة، ومن كان فقيرًا فعليه الانتظار.
الخلاصة، نخشى أن يصبح الشباب بدون أمل ولا عمل.. فمن أين تتوفر لديه الرغبة في الحضور والمذاكرة؟
تعرفت على طالب في بدل عربي، فأخبرني أنه نجح في امتحان الثانوية العام، لكن معدله كان ضعيفًا، فراح يعيد الامتحان على مدى أربع سنوات متوالية، ليحصل على مقعد في الجامعة، في الوقت الذي تخرج فيه زملاؤه.(9/274)
هذه نماذج لمعاناة شبابنا، ولك ذلك يصيبهم بنوع من الإحباط واللامبالاة وفقدان السند الأخلاقي والفراغ الروحي، ويكّون صورة مظلمة للمستقبل "ولعل نظرة سريعة على حياة الأجيال الجديدة، في بلاد العالم الثالث، تلك الأجيال التي فقدت سندها الأخلاقي، كافية لرؤية الفراغ الروحي، الذي تعيش فيه، وانعدام الأفق والأمل والإيمان بشيء ، سوى المشاركة الوهمية والسرابية بحضارة استهلاكية ليس لهم منها سوى القشور، ولا يخفف من شعورهم بالحرمان إلا قناعتهم بالدونية والسقوط، وغربتهم في عالم لا يعرفونه ولا سلطة لهم عليه.. وهكذا تظهر الحداثة كانخلاع للإنسان من كل إطار اجتماعي ومعنوي، وإنتاج موسع لحشود من المشردين الذين ينظرون على أبواب المجتمع الاستهلاكي، في حضارة الصوت والصورة، المصبوغتين بالعنف والدم.. ضد هذا الانخلاع والتشريد، وضد هذا المصير الحزين، تستجمع بعض الجماعات قواها المعنوية ومنابع قيمها التاريخية، في حركة بائسة لحفظ مدنيتها
المهد…" (76).
إن هذا الشباب سيظل يبحث لأزمته عن مخرج، إما بالهرب والهرولة نحو الغرب ليعمل خادمًا في مطعم، وليتعلم غسل الصحون، وهي مهنة حضارية عظيمة! أو ينعطف نحو الدين وقيمه، وليتحول إلى مجاهد مستعد للقتال ولو بأظافره، أو يشتغل في المخدرات، مروجًا أو متعاطيًا، أو كليهما، أو يكّون عصابات لسرقة السيارات أو البيوت.. كل هذا وارد وعلى من يعنيهم الأمر أن لا يعولوا على "العصا" فقط.. فالشباب المحبط الذي لا يجد له مقعدًا للدراسة، والمتخرج الذي لا يجد فرصة كسب وعمل، تمكنه من الزواج، لا تخيفه العصا، وربما صارت عقيدته: من يغلق الأبواب بوجهي فهو عدوي، وعلىّ أن أحطمه.. وويلٌ لمن يقف في وجه شاب ثائر يعيش بلا حلم ولا أمل ولا عمل.
قبل قرون صرح ابن حزم، فقيه الأندلس الكبير: عجبت لمن لا يجد طعام يومه كيف لا يخرج حاملاً سيفه! وأقول: عجبت لمن لا يجد مقعدًا دراسيًا، ولا وظيفة، ولا فرصة عمل، ألا يصير ثوريًا ويقاتل حتى ظله!
مفارقة:
كان أمل أهل الحداثة إقصاء الدين والثقافة الدينية والأخلاق المستندة للدين، وتحديث البلاد والعباد، ولكنهم وبعد عشرات السنين، ما زادوا أن صاروا سدنة للاستبداد السياسي والعمالة الثقافية، وأعداء الداء لكل تغيير لأنهم الكاسب الكبر من الأوضاع المعوجة، والحليف لأي سلطة، مهما كانت، ومن أي نوع كانت.
على حين صارت "الثقافة التقليدية" هي التربة الخصبة لازدهار القيم الحديثة والدفاع عنها، قيم الحرية والعزة الوطنية، والاستقلال السياسي، والكرامة الإنسانية والعدل الشامل.. فالدين والثقافة التقليدية هي التي تغذي المقاومة ضد السيطرة الأجنبية، والتصدي لكل اعوجاج، وهي التي تحفظ للجماعة الحد الأدنى من التوازن، وتمنح الأمل، وتخفف ضغوط الحياة المادية، وتصد أو تمنع تحكيم البنية الاجتماعية، وهي التي صارت تمتص الكثير من مفرزات الفشل في شتى الميادين.
إنها اليوم تحيي التكافل وتحرم التبذير، وتدعو للعيش وفق نمط استهلاكي غير مكلف، إنها ما زالت تشكل الرأسمال الاجتماعي، وربما المعنوي الذي تعيش منه وعليه الجماعة القومي، وتقي نفسها به من السقوط في الوحشية البربرية (77).
لقد كانت الحداثة حتى الأمس القريب تصف الدين والأخلاق الدينية بأنهما مسكنان مخدران، ثم فجأة راحت تصفهما بالثورة والتحريض.
بينما صار الحداثي المنتفع الأول من الفساد، مدافعًا عن أي نظام ولو كان نقيض طروحاته وما يدعيه من قيم.. لقد تحول إلى مسوق ومروج للسلطان، مهما كان ومهما كانت طبيعته، إنه اليوم يشعر بأكبر قدر من الحسد والغيرة، ولذا صار همه الأول أن يستعدي السلطان ضد أخيه، بل يستعدي الأجنبي ضد بلده ومواطنيه. إنها مفارقة كبيرة، وما أكثر المفارقات هذه الأيام؟!
صورة المجتمع:
سأرسم صورة المجتمع كفر بالأخلاق الدينية، فالناس فيه، أو لنقل جلهم، يتعاطى الكذب، ويمارس الغش، ويتجسس على أخيه ووطنه، يسرق الأموال والأعراض، يعتبر الرشوة من الحقوق المكتسبة، والسلب والنهب شجاعة، يهجم على المحرمات دون خوف ولا حياء، يرفع شعار (الحلال ما حل باليد)، يجوّد ويحسّن في مظهره، بينما باطنه خراب في خراب، يقتل بالأجرة، ويشهد كذبًا وزورًا، ينافق للقوي، ويستأسد على الضعيف، ثقافته كلمات يلوكها، وعلمه يدور كله حول المنفعة، وأخلاقه كلها تدور حول خدمة نفسه، إنه بذلك يتحول إلى مجتمع "خنازيري" متقدم جدًا جدًا!
وأختم هذه الصورة بقول الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهمو الجود يفقر والإقدام قتال
فإذا كانت الأخلاق تقوم على المنفعة، فإن "الأنا" ستكون كل شيء، وستصير الحياة أكثر صعوبة ومشقة، ويشتد الصراع ويعظم، فلا يكون للفقير ولا للضعيف مكان.
إن الأديان تعلم الناس الإحسان، كما تعلمهم العطف، حتى على الحيوان، وكلما ضعف الدين قوي الإنسان واستأسد، وحل السلطان محل الله تعالى، وأراد من الناس السمع والطاعة وكفى.
فاللهم سدد خطانا، وألهمنا الصبر والصواب، ومحبة الخلق، وعشق الحق، وكره الظلم والظالمين، والاستبداد والمستبدين، والنفاق والمنافقين، والكذب والكذابين، والزور والمزورين.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين، ولا تجعلنا ضالين مضلين، يا رب العالمين..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
==============(9/275)
البعد الحضاري لهجرة الكفاءات
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه »
الحمد لله الذي شرع الهجرة وجعلها مجاهدة وجهاداً لتغيير الواقع، وتحقيق الهدف، وتجاوز حالة الضعف والركود، والاستنقاع الحضاري، والركون إلى الذين ظلموا، فهي وسيلة لمراغمة الأعداء والمتربصين بالخير وأهله، المتحكمين بالعباد والبلاد، وتفويت أغراضهم؛ كما جعلها سبيلاً للخلاص من حالة الضعف والعطالة، واسترداد الفاعلية، لمعاودة الإقلاع من جديد، فقال تعالى: (( الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97).
والصلاة والسلام على الرسول المهاجر، الذي كانت هجرته وما تحقق بها ولها من النتائج الإيجابية ومراغمة الأعداء أنموذجاً يحتذى، الذي أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة لكسر الحصار وتجاوز الضعف والتحكم من الكافرين.. واختيار الحبشة كمهجر أول جاء لعدة اعتبارات لا مجال لاستقصائها، لكن كان في مقدمتها أن فيها ملكاً لا يظلم الناس عنده، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما طلب إليهم الهجرة إليها: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، فكان من نتائجها -إلى جانب حماية بعض أجنة الإسلام الأولى- أن أسلم النجاشي، ملك الحبشة، وفاضت عيناه من الدمع عندما سمع شيئاً من القرآن، ونزل في إسلامه قرآن خالد مجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، ما يزال يتلى ليؤكد في كل الأحوال المعاني الكبيرة والأهداف الممكنة، التي يمكن أن تتحقق من الهجرة في كل زمان ومكان، إضافة إلى ما فيها من السعة في الرزق والأمن ومراغمة العدو وتوفير إمكانية الانتصار عليه.
ولعل هذا المعنى، أو هذه المعاني جميعاً، تجلت وتجسدت بكل أبعادها في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة المنورة، بعد ثلاثة عشر عاماً من الصبر والتحمل والمعاناة والمقاطعة، بعد أن استعصت أرض مكة في تلك الظروف والأحوال، لأمر يريده الله، عن الاستجابة وقبول الخير العام، على الرغم من أنها تاريخياً مكان البيت الأول للتوحيد، الذي وضع للناس، قال تعالى: (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً )) (آل عمران:96-97)، وقال: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) (الحج:26)، وموطن ومهجر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ((رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) (إبراهيم:37).
ومع ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، معقل يهود ومحل سيطرتهم وتحكمهم، فرجاً ومخرجاً، فمن ذا الذي كان يظن أن المهجر المدينة، وليس الموطن مكة، يمكن أن يكون مكان الانطلاق للدولة والأمة والمجتمع الإسلامي وحمل الخير إلى مكة نفسها والعالم، إضافة إلى ما حصل بسبب الهجرة من سعة الرزق ونعمة الأمن وإرغام أنوف كفار مكة الذين آذوا المسلمين أذى شديداً.
لذلك اعتبرت الهجرة في بعض أحوالها وأزمانها جهاداً، بل من أعلى أنواع الجهاد، واعتبر التقاعس عنها سقوطاً في حالة التربص والانتظار والخذلان وفقدان الإرادة ومدعاة لسخط الله ومجلبة للعذاب، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )) (التوبة:24).
والناظر في الهجرة بكل أبعادها الشرعية وتطبيقاتها العملية في عصر النبوة وخير القرون، يبصر أنها ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية انهزامية وتولٍ عن الزحف وخروج من المعركة، وإنما هي حركة إيجابية قاصدة، وخطة محكمة، وعمل محكوم بنيَّة واضحة الأهداف، وهي أشبه ما تكون بتحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة، للخروج من حالة الذل والعطالة، لاكتساب الفاعلية وتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية.
من هنا نقول: إنَّ الأعمال تَشْرُفُ بشرف مقاصدها، وإخلاص أهلها، وقدرتهم على تحقيق تلك المقاصد بصواب التخطيط لها، وإبصار تداعياتها، وتقدير عواقبها؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «...فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري)، وهو الحديث الذي تبدأ فيه معظم كتب العلم والثقافة عندنا.. فالنيَّة، إلى جانب ما تحمله من ركيزة الإخلاص والتنقية والاستعداد والتطهر النفسي من كل الدوافع لغير الله، هي إبصار كامل للحركة، وأهدافها، وتداعياتها، ومتطلباتها، وأهمية تصويب وسائلها لتحقق الهدف وتثبيت الأجر.
لذلك؛ فالمتأمل في أبعاد نيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة المنورة، وما سبقها من إعداد واستعداد، من بيعة العقبة الأولى والثانية، وما أعد لها من الوسائل والخطط والاحتياطات في كل جزئية من حركتها يكاد يتوهم وكأن الذي يتخذ كل هذا التحوط ويستوفي كل هذه الأسباب لا علاقة له بالسماء؛ والمتأمل فيما كان من التوكل على الله والاطمئنان لنصره والالتجاء إليه في أحلك الظروف يكاد يتوهم وكأن صاحبها لا صلة له بالأرض وتعاطى الأسباب؛ وهذا هو الفهم الإسلامي السليم.
فالهجرة الإسلامية أنموذج للإيجابية والإحياء واسترداد الفاعلية والمجاهدة وحسن التعامل مع سنة التدافع البشري، وقبل ذلك وبعده إلغاء للثنائية التي كانت سبباً في تمزيق الإنسان وتشطير شخصيته بين تعاطي الأسباب والتوكل على الله؛ ذلك أن تعاطي الأسباب في الرؤية الإسلامية من لوازم التوكل، والتوكل من لوازم تفعيل الأسباب وتجاوز حالات القلق واليأس ومحاولات الإحباط والتضييق لأرض الله الواسعة، والانحباس ضمن دوائر يزيدية محكمة، نرسمها بأيدينا وندعي بأن الشيطان حبسنا فيها، وما هي في الحقيقة إلا من صنع الإنسان، وتسويغ وتبرير لحالة الذل والاستسلام والهوان.
وللهجرة والهَجْر بعد تربوي عظيم لو أمكن إدراكه واستخدامه ضمن سياقه، والتزم به ضمن المساحة المشروعة والمؤثرة، وهو توظيف الهجرة كعامل فاعل من عوامل الضبط الاجتماعي، وهجر أصحاب الفجور والمعاصي والمقصرين، لحملهم على العود إلى طريق الاستقامة والصلاح والفاعلية على أن يكون هذا الهجر مدروساً وبالنسب المحددة.
ذلك أن هجر أصحاب المعاصي من أقوى الأسباب العملية للضبط الاجتماعي.
ولعل التأمل في قصة الثلاثة الذين تخلفوا، من الصحابة رضي الله عنهم، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها قرآناً يتلى على الزمن، فقال تعالى: (( وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (التوبة: 118)، وما كان من تعامل المجتمع الإسلامي معهم، وهجرهم حتى من قِبَل زوجاتهم وأقاربهم، والتعرف إلى أسباب نزول الآية بدقة - فأسباب النزول تشكل وسائل الإيضاح المعينة على كيفية تنزيل النص على الواقع، وكل واقع مماثل، في كل زمان ومكان، كما تلقي الضوء على كيفية توظيف الهجرة بالأقدار المحددة والمشروعة- يمكن أن يحقق الكثير من الضبط الاجتماعي والعطاء التربوي لبناء السلوك البشري القويم بالنسبة لمن وقع في الخطأ والتقصير، كما يحقق العبرة والعظة والتقوى للمجتمع المسلم بشكل عام، أفراداً وجماعات.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع والثمانون : « البعد الحضاري لهجرة الكفاءات» لمجموعة من الباحثين، في سلسلة «كتاب الأمة»، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة تشكيل العقل المسلم في ضوء مرجعية معرفة الوحي، في الكتاب والسنة وتطبيقات مرحلة السيرة النبوية، التي تجلت فيها هذه المعرفة ونضحت عطاءها في شعب الحياة جميعاً، وتجسدت في حياة الناس، في الفكر والدعوة والحركة، كمرحلة اقتداء معصومة برعاية النبوة وتسديد وتأييد الوحي السماوي، إضافة إلى المقاربة مع ما تمتع به خير القرون من الخصائص والصفات المهمة في ترشيد المسلم المعاصر.(9/276)
إن التحقق بامتلاك الأدوات المناسبة لاكتشاف مواطن الخلل التي أدت بالأمة المسلمة، والفرد المسلم قبل ذلك، إلى هذا التراجع والتقهقر والتخلف على غاية من الأهمية، وهو شرط لا مندوحة عنه في محاولتنا الخروج من غرف وحالات الانتظار، وماتورثه من تواكل وذل وعجز وخذلان، إلى أرض الله الواسعة، وإعادة التقويم للإمكانات والاستطاعات، والتفكير بكيفيات توظيفها، والخروج بها إلى الموقع المجدي، وإحياء وإشاعة ثقافة السنن والقوانين التي تحكم حركة الحياة والأحياء، واكتشافها، وحسن التعامل معها، ومدافعة قدر بقدر.
إن عدم توفر الأدوات، بسبب غياب التخصصات العلمية بشعب المعرفة جميعاً، أدى إلى الكثير من سوء التقدير للأمور وكيفية التعامل معها، ودفع إلى الكثير من الهياج والغوغائية ودفقات الحماس، أو ومضات الحماس، والتحرك الأعشى تحت رايات عُمِّيَّة، التبس أمرها وقرئت بأبجديات مغلوطة، فكانت سبباً في هدر الإمكانات وبذل التضحيات الكبيرة في المعارك الخطأ، التي ما نزال نُستدعى إليها لتصفية الحسابات بدمائنا، دون أن يكون لنا أي نصيب - إلا أن نُحاسب على نوايانا- هذا إضافة إلى ما يكون بعدها من التجريم والمطاردة والملاحقة وانكشاف المواقع؛ وقد يستوي في ذلك المهاجر من الوطن والمهاجر في الوطن.
وفي تقديرنا، أننا ما نزال نمارس الكثير من الهجرة الخطأ (بالمفهوم العام للهجرة) في حياتنا وحركتنا، وتوظيف إمكاناتنا، وتوجيه طاقتنا، سواء كان ذلك في الوطن، بالمفهوم الجغرافي، أو في الهجرة إلى خارج الوطن (والدنيا كلها وطن للمسلم)، ومع ذلك نتطلع إلى نتائج الهجرة وثوابها.
إن التعرف على السنن التي تحكم الحياة والأحياء - بحيث تأتي الهجرة حركةً منسلكة ضمن منظومتها- لا يمكن أن تتحقق ما لم تتم النفرة أو الهجرة لاستكمال شعب المعرفة جميعاً وتوفير الاختصاصات العلمية والتجارب العملية التي تتطلبها الحياة؛ لأن هذه الاختصاصات هي بمثابة الحواس المتنوعة المطلوبة لتشكيل العقل المسلم المعاصر.
فكما أن الذوق واللمس والشم والسمع والبصر كلها حواس ونوافذ للعقل يطل منها على العالم الخارجي، ومصادر للمعرفة تمكِّن العقل من بناء القرار والتزام السلوك في الحركة وإبصار الأهداف والهجرة إليها، فكذلك الحال بالنسبة إلى الاختصاصات في شعب المعرفة المختلفة، وأهميتها بالنسبة للتعامل مع الحياة، والارتحال المبصر إلى أنشطتها، واستكمال وظائف المجتمع ومتطلباته، وإحياء فروض الكفاية، بعيداً عن الارتجال والارتحال الغلط، أو الهجرات العُمِّيَّة التي تمارس في كثير من جوانب الحياة الإسلامية اليوم.
ولعل الأمر المفزع والمنذر بسوء النتائج والمزيد من التقهقر والتخلف، أن الكثير ممن أفنوا أعمارهم في تحصيل بعض تلك الاختصاصات العلمية والمعرفية وتأهلوا وهاجروا إليها ليكونوا في خدمة أمتهم ومجتمعاتهم الإسلامية في استيفاء وظائف المجتمع، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحيلولة دون هجرة (الآخر) إلينا لملء الفراغات، وما يحمله ذلك (الآخر) من التأثير الثقافي والفتن العقدية والسلوك المنحرف، إذا بهم يهجرون اختصاصاتهم، ويعجزون عن وضعها في خدمة عقيدتهم وأمتهم، وحسن توظيفها منابر فاعلة مؤثرة في المجتمع، يهجرونها إلى منابر الوعظ والإرشاد وصناعة المشيخة، ليكون الناس في خدمتهم، ويقدمون على أعمال لا يمتلكون أبسط أدواتها ولا مقوماتها.
وقد يدلل هؤلاء بذلك على أن المجتمع المسلم هو مجتمع فوضى واضطراب وعبث، وأن الإسلام محصور بمساحات جغرافية وثقافية محدودة، ولا مانع عند الكثير منهم أن يدعو من على أعلى المنابر أن الإسلام دين ودنيا، إيمان وعلم، أخلاق وتربية، شريعة وعقيدة، مسجد ومعمل، جامع وجامعة... وكأن هذا الكلام أصبح مادة للخطب والاستهلاك الجماهيري وليس للتمثل والالتزام... وهكذا يشيع فينا القول السائر: «اقرأ تفرح، جرب تحزن»... ويستمر الخلل في الهجرات في مراحل التخلف، وفهم التخلف للنصوص، وكأن حديث الهجرة إنما جاء لغير المسلمين(!) فحديث الهجرة وغيره من الأحاديث والآيات لمن يفيد منها ويحسن التعامل معها، وليس تميمة تعلق على المنابر، وبعيداً عن واقع الأمة ومتطلباتها.
إن العجز عن فهم آفاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعجز عن تمثلها وتجسيدها في كل المواقع، وتقديم الأنموذج الذي يثير الاقتداء في جميع أنشطة الحياة وتخصصاتها، وامتلاك القدرة على توليد رؤى إسلامية متميزة في المجالات المتعددة، والاستمرار في محاصرة أنفسنا بالضخ الكلامي والتحشيد الحماسي والوعظ والخطب والإرشاد، بعيداً عن تنزيل ذلك في ميادين الحياة المختلفة، لتتحول الحياة والتخصصات إلى حياة إسلامية متميزة تثير الاقتداء، بحيث ندعو الناس بسلوكنا وتصرفنا وتخصصنا، ونحسن جعل العمل والتخصص في خدمة الدعوة، فسوف ينتهي بنا إلى الخلل في معادلة الهجرة الشرعية.
إن الخلل في إدراك ثقافة الهجرة وفقهها -إن صح التعبير- سوف يؤدي إلى نوع من الحركة العبث بحيث تهاجر الطاقات إلى غير مواقعها ومواطنها، سواء في ذلك الهجرة في الوطن أو الهجرة إلى خارج الوطن؛ لأن ثقافة الهجرة وإدراك أبعادها ما تزال غير نضيجة في رؤيتنا للحياة، وإمكانية القدرة على التوليد والإنبات في كل الظروف والأحوال والمواقع.
فالهجرة في أبسط مفهوماتها هي إخلاص القلب، وعزيمته على فعل مستقبلي، برؤية واضحة المعالم وفقه كامل للتداعيات: «...فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).
نعود إلى القول: إن الهجرة حركة إيجابية، وخطة استراتيجية، ورؤية مستقبلية، واختيار للموقع الفاعل، وتحول إلى الفعل المجدي، وتجاوز لحالات الحصار والعطالة والعقم؛ فهي حركة دعوية، وعمل جهادي قد يرقى إلى مستوى التضحية بالروابط الأسرية أو القبلية أو الوطنية، ولو بشكل مؤقت؛ وهي تحرف لقتال، وتحيز إلى فئة، وليست هروباً من المعركة وتولٍ عن الزحف؛ لأن فيها مراغمة للأعداء، وتعالٍ عن جميع الروابط القسرية، والارتقاء إلى الروابط الاختيارية، التي تتحقق بها إنسانية الإنسان وكرامته وانعتاقه من العبودية لغير الله.
والمسلم بشكل خاص لا يعاني من أزمة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض كلها لله، يورثها من يشاء من عباده، وأن من السنن الماضية في هذه الحياة ما ورد في قوله تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ)) (الأنبياء:105)، فالوراثة الحضارية والأحقية في الأرض منوطة بامتلاك صفات وخصائص ومؤهلات الصلاح، إضافة إلى أن المسلم يحمل رسالة ذات خطاب عالمي، رسالته عالمية، وأن من مسؤوليته إيصال هذه الرسالة إلى أنحاء الأرض كافة، إيصالاً للخير للعالمين، استجابة لقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).(9/277)
فالهجرة هي نوع من الامتداد بالرسالة الإسلامية بغية إيصالها للناس جميعاً، استجابة لخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أنه: لا تقوم الساعة حتى يصل الإسلام إلى كل بيت من حجر ووبر، بعز عزيز أو بذل ذليل: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» (أخرجه أحمد)، وأن هذا الوصول سوف لا يتحقق إلا بعزمات البشر وفعلهم وانتقالهم صوب (الآخر) لإيصال الخير إليه.
يضاف إلى ذلك أن الهجرة هي تعال عن الواقع، وتجاوز للظروف، وفك للقيد، وخروج على حالة الاستضعاف والذل، والاستضعاف الذي يمارسه الطغاة، لذلك اعتُبر المستكين للذل، المستسلم للظلم، ظالماً لنفسه، فاقداً للحيلة والفاعلية؛ لأن أرض الله واسعة، والهجرة هي المخرج، لأنها تحول من العجز والتخاذل إلى الفاعلية والعطاء وحرية العقيدة والعبادة، قال تعالى: (( ياعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ)) (العنكبوت:56).
وهذه المعاني، التي أشرنا إلى بعضها، ليست نظرية أو مجردة عن الواقع، فالتاريخ، وهو المختبر الإنساني الحقيقي لفعل السنن الاجتماعية والتدليل على اطرادها، يشهد ويؤكد أن الهجرة حققت نشر الرسالة، وتحصيل القوة، ومراغمة الأعداء، والخلوص من حالة الركود والاستنقاع، والخروج من حالة الاستضعاف والضيم، وأن جيل الصحابة انطلق في الأرض بمختلف تضاريسها ومناخاتها لنشر الإسلام وإيصاله للناس، حتى أننا لنرى اليوم أن أكثر من أربعة أخماس العالم الإسلامي إنما تحقق له الإسلام بوساطة الهجرات، بل إن بعض المناطق في إفريقيا لم يستقر الإسلام فيها ويستمر فتحاً، وإنما كان لابد لاستقراره واستمراره من الهجرة والإقامة والتزاوج، وبذلك استقر واستمر، وما الواقع الإسلامي على خارطة العالم اليوم إلا مصداق ذلك.
وتبقى مرحلة السيرة، فترة معصومة في تاريخنا، تشكِّل مصدراً للتشريع والثقافة والخلود، الذي يعني التجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، تبقى دليلاً خالداً على أن الهجرة إلى المدينة، الأنموذج المحتذى، كانت إيذاناً بقيام الدولة وتشكيل الأمة وبناء المجتمع، وكانت أعلى أنواع الجهاد، وأن الهجرة إلى الحبشة كانت عبرة وسبباً في إيمان ملكها حتى فاضت عيناه من الدمع عندما سمع ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرف من الحق.. ويبقى ذلك قرآناً يتلى، وبصيرة للمسلم، وعبرة للحاضر والمستقبل معاً.
وإذا كانت الهجرة جهاداً، بل قد تكون -كما أسلفنا- من أعلى أنواع الجهاد، وأن القصور عنها خروج عن الطاعة ومدعاة لغضب الله ووعيده وإنزال عقابه: (( فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) (التوبة:24)، وأنها معركة بكل معنى الكلمة، تقتضي امتلاك شوكتها، والتخطيط الكامل لها من التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، وأن القعود عنها عند الحاجة إليها أشبه بالتولي يوم الزحف، فإن التفكير والتخطيط والاختيار والموازنة، واتخاذ الأسباب، ودراسة الظروف، وتقدير التداعيات، واختيار الزمان والمكان، وإبصار البعد المستقبلي كاملاً، يعتبر من مقتضيات الهجرة؛ لأنها ليست حركة انتقال عشوائي، وإنما هي أمر شرعي تكليفي: «... فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).
وما حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ونهيه عن الهجرة، والدعوة إلى البقاء أو التثبت في الأرض، والتحمل، والمجاهدة، إلا دليلاً على أن الهجرة بظروفها وأحكامها رؤية رسالية مبصرة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة» (أخرجه البخاري).. فكثيرة هي الهجرات المعاصرة، التي جاءت في الزمان والمكان الخطأ، حيث تم ترك الأرض وإخلاؤها للعدو، فكانت من الكوارث؛ وكثيرة هي الهجرات التي حققت الإنجاز والتجاوز لحالة الركود والاستضعاف وكانت سبباً في السعة وإرغام العدو الذي كان يمارس الظلم: (( وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً )) (النساء:100).
من هنا نقول : لابد من إعادة النظر في أحكام الهجرة، أو بتعبير أدق: في فقه الهجرة، وطبيعة الظروف المحيطة، وطبيعة الظلم، كما لابد من إعادة النظر فيما يسمى «الفقه السياسي التاريخي»، الذي كان يشكل نقطة الارتكاز للهجرة، بشكل خاص، وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام، كأمر جغرافي واقعي، وخطورة الاستمرار في حفظ الأحكام الفقهية ونقلها دون التبصر بمحالها وظروفها وشروط تنزيلها، والذي من مقتضياته أن ترك دار الإسلام والهجرة إلى دار الكفر والعيش فيها لا يجوز(!) فأين دار الإسلام بكل شروطها المطلوبة لتُحدد على أساسها دار الكفر؟ وأين العدل والحرية المتميزة وتطبيق الأحكام الشرعية في كثير من بلاد المسلمين لنطلق الأحكام بعدم جواز الهجرة؟
إن الإنسان المسلم كثيراً ما يتمتع بأقدار من الحرية والحق الإنساني والقدرة على تحصيل العلم والمعرفة، وتتاح له مجالات الحوار الفكري والدعوة إلى الله في ما يسمى (دار الكفر) بما لا يتمتع به في ما يسمونه (دار الإسلام): «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده ...».. وهذا ليس حدثاً تاريخياً انتهى في زمانه بل سنَّة هجرة ممتدة، أو قانون هجرة ممتد، خالد خلود الإسلام ورسالته، فقد يستطيع الإنسان أن يقول في الشارع أحياناً فيما يسمى دار الكفر ما لا يستطيع قول بعضه في بعض بلاد المسلمين اليوم.
لذلك نقول: لابد من إعادة النظر في فقه الهجرة، والنظر في أبعاد الحالة من كل الوجوه .. ولو افترضنا أن هذه الأحكام صماء جامدة فاقدة للحكمة والمرونة وشرائط التنزيل، فكيف يصل الإسلام إلى (الآخر) ويستقر في تلك البلاد ويستمر عطاؤه؟ هذا إضافة إلى أن الأمر في عصر القرية الإعلامية لم تعد تحكمه الجغرافيا، بكل معنى الكلمة، فلم يعد هناك دار متمحضة للكفر وإنما أصبح الوجود الإسلامي قائماً ومتميزاً في أكثر بلدان الدنيا، وأصبح له مراكز ومؤسسات، ولم يعد طارئاً أو عارضاً وإنما مستقراً ومستمراً.
وهذه القضية تقتضي تفكيراً في كيفية التعامل مع الظروف والملابسات، واختيار وسائل الدعوة المناسبة (للآخر) الذي اعتبره بعض الفقهاء يمثل أمة الدعوة، بينما يمثل المسلمون أمة الإجابة، بعيداً عن التقسيمات الجغرافية الأرضية والتحول إلى الجغرافيا الثقافية، إن صح التعبير.
وليس من قبيل التكرار أن نؤكد أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن وطن المسلم عقيدته، وجنسيته ثقافته، وهويته قيمه وأفكاره، وأن الإسلام ليس حكراً على أرض أو قوم أو لون أو جنس، وبذلك فإن المسلم الملتزم بقيم الإسلام وأخلاقه وتسامحه وإنسانيته لا يشكل استفزازاً في مهجره، لونياً أو عنصرياً أو قومياً، بل يمتلك الكثير من أدوات التواصل والانسجام والاندماج والوسائل المقنعة في دعوة (الآخر)، الذي لا يلبث أن يصبح من أمة الإسلام ويساهم بمستلزمات أخوة الإيمان.(9/278)
من هنا نقول: إن المسلمين في المهجر ليسوا جسماً غريباً أو جزراً منفصلة؛ لأن الكثير من أبناء البلاد الأصليين اعتنقوا الإسلام؛ ولأن الإسلام يمثل سقفاً عالمياً يظل الجميع، ومشتركاً إنسانياً يستوعب عطاء الجميع، وليس عقيدة مقفلة متعصبة على جنس أو لون أو فئة أو طائفة أو قوم.. لذلك نجد الكثير من المقدمات الفكرية الخاطئة تؤدي إلى نتائج وأحكام خاطئة.
فالإسلام لا يقابل الغرب، ففي الغرب إسلام وفي الغربيين مسلمين، والإسلام لا يقابل الرجل الأبيض أو الأسود أو المرأة أو الأغنياء أو الفقراء، ففي الإسلام الأبيض والأسود والمرأة والرجل والغني والفقير، والإسلام ليس حكراً على المهاجرين من دون الآخرين، وإنما هو مجتمع مفتوح للجميع .
من هنا ندرك أهمية البعد الرسالي للهجرة، وندرك مدى إمكانية التكيف والقدرة على إجهاض النزعات العنصرية المتطرفة والمغلقة ضد الإسلام والمسلمين، فالهجرة من أهم وسائل الدعوة والحركة والنصرة والعطاء وإيصال هذا الدين إلى كل بيت حجر أو وبر ليعود أهله مسلمين، لذلك فالهجرة جهاد بلا شوكة، بل هي من أعلى أنواع الجهاد، فإذا كانت ساحة الجهاد العسكري ميدان معركة محدودة بأرض وعدو وزمن، فإن ميدان الجهاد بالهجرة هو الحياة بكل آفاقها وأمدائها.
والهجرة محكومة بمصلحة الدعوة إلى الله وحمل الخير للعالم، فهي في مرحلة لابد أن تعلو على جميع روابط النسب والأرض والعلاقات الاجتماعية واللذائذ الدنيوية وحظوظ النفس، وأن عدم الاستجابة لها محل لسخط الله وتهديده ووعيده، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)) (التوبة:24)، لكنها في حالة أخرى، بعد الفتح، منهي عنها، وممارستها مخالفة لأمر الله؛ لأن مصلحة الدعوة هي في التثبت في الأرض والدفاع عنها وعدم إخلائها للعدو، وهي عندي أشبه بالمعركة ذات الشوكة التي يحكمها قوله تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَار (15)وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ)) (الأنفال:15-16).
فأحكام الهجرة، كما أسلفنا، ليست جامدة مغلقة، وإنما هي محكومة بالمصلحة الإسلامية، محكومة بعلتها، ومحكومة بتوافر الشروط لتنزيلها على الواقع. لذلك فتعميم الأحكام على كل الحالات هو نوع من العامية الذي يقود إلى عمى الألوان وعدم التمييز . فقد تكون فرضاً مأموراً به، وقد تكون أمراً منهياً عنه، ويبقى السير في الأرض واستيعاب العالم وتجاربه وتاريخه وحاضره وفهم واقعه سبيلاً لتحقيق عالمية الدعوة، وتوصيل الخير إلى جنبات الأرض، لذلك فالنظر لموضوع الهجرة من خلال البعد السلبي الذي يعني الهروب والانسحاب والانجذاب (للآخر) وجعل ثرواتنا وطاقتنا في خدمته وخدمة حضارته، هو نظر كليل ساذج لظاهرة الهجرة، وخروج بها عن أبعادها ومقاصدها.
ونحن هنا لا نقلل من خطورة الظواهر السلبية للهجرة والأسباب التي أدت إلى طرد الكفاءات من عالم المسلمين، من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، وانعدام الحرية وتكافؤ الفرص، وتقديم أهل الثقة وطرد أهل الخبرة، والنزف الكبير العشوائي وغير المخطط أو المبرمج، الذي ترتب على الهجرات إلى (الآخر)، وكيف استطاع (الآخر) الإفادة منها، لكننا نقول: إن هذه الهجرات، أو هذا الرصيد من السواعد والكفاءات، أو الأدمغة والتخصصات العلمية، بقدر ما يشكل ظواهر سلبية أفرزتها حالات التخلف والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي بقدر ما يشكل رصيداً حضارياً، ومخزوناً علمياً تخصصياً، وإمكاناً ثقافياً، وثقلاً بشرياً، ووزناً سياسياً، لو أعاد قراءة ذاته وأدرك رسالته الإنسانية وقدرتها على العطاء، واستلهم قيمه وتجربته التاريخية، لتحول إلى مواقع قوة وتأثير وعطاء لموطنه ولمهاجره على حد سواء.
وفي ضوء ذلك وبعض تداعياته:
أليس من الممكن اليوم اعتبار خروج بعض الأصوات الجديدة في أوروبا عامة لنصرة القضايا العربية والإسلامية العادلة، والتفهم الصحيح للمشكلة الفلسطينية والمقاومة المشروعة، هي بعض بشائر معطيات الوجود العربي الإسلامي في الغرب؟
فالهجرة تبقى محكومة في نهاية المطاف بثقافة الإنسان وفاعليته واستشعاره بمسؤوليته وتحقيق هدفه، فالإنسان «الكَلْ» هو وسيلة استهلاك (للآخر)، والإنسان «العَدْل» هو وسيلة إنتاج قادرة على الإنبات في كل المواقع، سواء هاجر من الوطن أو هاجر داخل الوطن، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
إن هذا الرصيد الثقافي والحضاري للمهاجرين، وما تحقق له من الانتشار بين أبناء المهجر أنفسهم، والاستقرار والاستمرار، مؤهل لتوهين عصا الظلم، منسأة الاستبداد، التي يتكئ عليها الطغاة، ومعالجة أزمة الحضارة بقيم الإسلام، دين الإنسان.. فالهجرة سعة وتحرر وتجاوز لحالة الضعف والذل، وسير في الأرض، واستيعاب للعالم والسنن الاجتماعية، والتعرف على كيفية توصيل الخير إلى الآخرين، ولعل من أبرز أهدافها أو نتائجها هي مراغمة الأعداء المتربصين بالأمة وقيمها ونشر الخير في العالم، وإيقاف عمليات الإكراه والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وإلغاء إنسانيته تحت شعار: ((وَالْفِتْنَةُ (الإكراه) أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )) (البقرة:191)، لأنه لا قيمة للإنسان بلا خيار.. فهل يكون المهاجر رسولاً لهذه القيم؟
ونقول: إنه لمن المؤسف حقاً - ولعل هذا من ثمرات التخلف أو القراءة المتخلفة للظواهر الاجتماعية- أن لا نرى من الهجرة إلاّ الوجه السلبي، ونرصد ظواهرها، ونتألم لآثارها على بلادها، دون أن نبصر أسبابها الحقيقية، وأبعادها الإيجابية، ونتائجها الممكنة، ورسالتها الحضارية، ومردودها على بلدها ومهجرها، وكيفية تحويلها من نقمة عند من لا يرى إلا الوجه المظلم إلى نعمة، بما تمتلك من رصيد علمي ومعرفي وتخصصي وخبراتي، ذلك أن التحركات البشرية وموجات الهجرة من سنن الاجتماع.
إن فقه الهجرة وكيفية تنزيل أحكامها على واقع الناس، والوعي بظروفها وتداعياتها، ووضوح البعد الرسالي للمهاجر في وطنه وفي بلد المهجر على سواء، ليس بالأمر الهين، وقرارها ليس بالأمر السهل. وقد أتينا على أنموذجين من السيرة، في الأول توعد ووعيد للمتخلفين عن الهجرة، واعتبار ذلك مدعاة لسخط الله وعذابه: ((فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ))؛ لأن في الهجرة جهاد ونصرة وسعة ومراغمة للعدو، وفي الثاني نهي عن الهجرة، واعتبار البقاء والمجاهدة والبناء والمدافعة جهاد: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، وفي كلا الأمرين كان التأكيد على النيَّة، التي تمثل البعد الرسالي، واضحاً وحائلاً دون الحركة العشوائية أو ذات المنفعة القريبة.(9/279)
ذلك أنه في كثير من الأحيان قد تكون الهجرة هي نوع من الجذب والاستدعاء من (الآخر) ومحاولة لاحتياز جميع الخبرات والكفاءات في إطار النزوع صوب التفوق والتحكم في لعبة الصراع الحضاري، وبذلك تفتح المجالات وتمنح العطاءات الكبيرة والحقوق الكثيرة، وتقتصر على اختيار المهاجرين من أصحاب المواهب والكفاءات والاختصاصات والشهادات العليا المتميزة وحرمان بلادهم منهم، التي أنفقت عليهم الملايين الكثيرة، لتبقى بلادهم متخلفة وفي إطار التسول والتلقي الحضاري والثقافي.
وقد تكون الإشكالية هنا مركبة ومعقدة من بعض الوجوه، ذلك أن اليد التي تستدعي وتجذب وتتيح الفرص وتمنح الحرية والعطاء، وتراعي حقوق الإنسان في بلادها، هي اليد نفسها التي تساهم بقيام أنظمة الاستبداد السياسي، التي تكرس التخلف بطبيعتها، وتخنق الحريات، وتعدم تكافؤ الفرص، وتهدر كرامة الإنسان، وتطارد الكفاءات، وتتوهم أنها تشكل خطورة على هذا النوع من الأنظمة الشمولية الإرهابية، فلا يبقى مناص من الهجرة، سواء داخل الوطن أو من الوطن صوب (الآخر).
وقد يكون من المفيد ونحن في إطار الحديث عن الخلل في هذه المعادلة الحضارية وغياب البعد الرسالي للهجرات، أن نأتي على بعض الإحصاءات لنرى هول النزف وحجم الخسارة وسبب التخلف، والإمكان الحضاري والثقافي لهذه الكفاءات المهاجرة؛ فالعلماء والخبراء والكفاءات هم خلاصة رحلة التفوق والمنافسة وممارسة الغلبة الحضارية وما يبذل فيها من الجهد والوقت والمال.
ففي عام 1228 كان المطّلع على حالة الناس في أوربا يرى مشهداً غريباً، حيث شكل هذا العام منعطفاً تاريخياً إلى حد بعيد.
فقد حزم معظم علماء جامعة باريس أمتعتهم وغادروا إلى إنجلترا بلا رجعة، في هجرة جماعية، وكان يقف وراء هذه الهجرة الملك هنري الثالث ملك إنجلترا، الذي أدرك في ذلك الوقت المبكر مكمن القوة الحقيقي.
لقد كان هذا الملك هو مركز الجذب المغناطيسي لهؤلاء العلماء الذين تربوا في باريس وأثمروا في أكسفورد، وهكذا تاريخياً تمتص الدول الواعية والذكية الخبرات أينما كانت، وتجتذبها وتمنحها امتيازات خاصة.. والتي لم تستطع احتيازها وضمان هجرتها إليها توظفها من مواقعها وأوطانها.
لقد فتحت أمريكا، على سبيل المثال، بصدور قانون الهجرة عام 1965م، الأبواب بكل إمكاناتها لعناصر التفوق في العالم، الأمر الذي أدى إلى تضاعف قوتها العلمية والبحثية، ومن ثم قوتها الاقتصادية والعسكرية.. ولقد كان هذا القانون الجديد للهجرة من أذكى القوانين، فقد استند إلى إكساب الجنسية على أساس المهارات وإتقانها بدلاً من الجلود وألوانها (مجلة المعرفة السعودية، مارس 2002م)، ذلك أن المعلومة والمهارة هي قوة المستقبل، هي القوة المرنة والسلاح الأمضى في المعركة الحضارية .
لقد كشفت بعض الإحصاءات التي توفرت في السنوات الأخيرة أن عدد المصريين المهاجرين للخارج بلغوا 3 ملايين و418 ألفاً. هذا ماكشفه رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي في مصر الدكتور علي حبيش، واعتبر أن ذلك يمثل خسارة فادحة للاقتصاد، وأن 450 ألفاً من بين هؤلاء من حملة المؤهلات العلمية العالية كالماجستير والدكتوراه، حيث استقر معظم هؤلاء في البلاد المتقدمة: الولايات المتحدة، وإنكلترا، وكندا، وأستراليا، رغم ما تتحمله الدولة من نفقات لبناء هذه المؤهلات قد تصل إلى 100 ألف دولار على الفرد.. فمصر وحدها تخسر 50 مليار دولار بسبب هجرة كفاءاتها (صحيفة الشرق الأوسط، 1/9/1994م).
وأنموذج آخر من هجرة الكفاءات:
«لقد بلغ الأمر خلال النصف الأول من السبعينيات في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أن الأطباء والجراحين القادمين من الدول النامية يمثلون 50%، والمهندسين 26%، وأن ثلاثاً من دول الشمال، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، تستأثر بـ75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة» (الشرق الأوسط، 1/8/1989م).
وهناك دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تشير إلى وجود 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية (جريدة الندوة السعودية، 25/2/1993م).
ولعل قراءة الوجه المقابل للإشكالية قد يعلل بعض الأسباب:
فقد «أظهر تقرير نشر حديثاً أن الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية حوالي 600 دولار.. وجاء في التقرير أن كل مليون عربي يقابلهم 318 باحثاً علمياً، بينما النسبة تصل في العالم الغربي إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.. ويكشف التقرير أن 8% من مجموع القوة العاملة العربية هاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هم الآن خارج المنطقة، وأن 25% من المهندسين يعملون في بلدان أجنبية، وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من الطلاب بقوا حيث هم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم إلى أوربا وأمريكا عام 1980، وأن هذا الرقم وصل إلى 32 ألف عام 2000» (جريدة الوطن القطرية، 18/3/2002م) .
هذه الإحصاءات غير المستقصية تمثل رصيداً حضارياً وعلمياً هائلاً لو أدركت البعد الرسالي للهجرة، والمهمة الحضارية للمهاجرين كطلائع في داخل (الآخر).
وليس أقل خطراً وخسارة من ذلك ما يلاحظ من ممارسة الضغط والتضييق للتخلص من الخصوم واضطرارهم للهجرة، على مستوى السياسة والثقافة، وذلك بفتح منافذ الخروج، وقد يحدث ذلك بالتفاهم المشترك مع (الآخر) الذي يستقبل المهجرين.. لذلك فأمر الهجرة والنظر في تداعياتها وإبصار النتائج ووضوح الرسالة من الأمور المهمة، فعمليات الطرد والإخلاء والإغراء بالخروج خطط مدبرة، ليتمكن العدو من الاحتلال والاستيطان والتخلص من السكان الأصليين، تنتهي بالهجرة إلى نوع من الشتات والتقطيع في الأرض أمماً: (( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا... )) (الأعراف:168)، ونوع من التيه والضياع بدون رؤية أو هدف أو رسالة، وبذلك تتحول الهجرة إلى نوع من الخروج من المعركة بشكل أو بآخر، وما الواقع في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين عنا ببعيد.
لذلك، فالتبسيط وإنزال الأحكام بدون وعي لكل هذه الظروف قد يحدث كوارث سياسية وثقافية واجتماعية ويحوِّل النعم إلى نقم.
ولعل من الهجرات الأخطر، تلك الهجرات الفاقدة للرسالة والثقافة، وهي الهجرة داخل الوطن، الهجرة إلى ثقافة وحضارة (الآخر)، والافتتان بها، وممارسة العمالة الثقافية أو الخيانة الثقافية للتاريخ والحضارة والأمة، أو الهجرة إلى معاهده ومؤسساته الثقافية دون مرجعية ومعايير سليمة، وبذلك يصبح الإنسان غريباً في وطنه أو مسكوناً بثقافة (الآخر) ومن المهاجرين إليها، ولو كان ساكناً في بلده، فليست العبرة بالمكان بقدر ما هي بالإنسان.
وما يحمله عقد العولمة، أو حقبة العولمة، من (الإكراه) الثقافي والتنميط الاجتماعي والهجرة الحضارية القسرية، وما يترافق مع ذلك من الهجرات إلى (الآخر)، يتطلب المزيد من الوعي الكامل لكيفية التعامل، وإبراز البعد الرسالي للهجرة في الوطن، والهجرة إلى خارج الوطن.(9/280)
واليوم في حقبة العولمة وثورة المعلومات، حيث أصبحت الكرة الأرضية قرية واحدة بما انتهت إليه التطورات الهائلة في وسائل الاتصال، حيث اختزل الزمان وطوي المكان وتقاربت المسافات، يمكن النظر إلى الطاقات المهاجرة من وجه مختلف، حيث أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة وليس في غرف متجاورة، وفكرة التكديس البشري أصبحت إلى حد بعيد نوعاً من التخلف والبدائية، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية من مواقعها وكأنها في الوطن، في كل المجالات، إضافة إلى ما تمتلك من مخزون ثقافي وتجربة حضارية وقيم إنسانية تمكنها أن تحسن اغتنام مواقعها، لتقديم نماذج تثير الاقتداء وتغري بالاعتناق لهذا الدين والعيش في رحاب رحماته، بعيداً عن التعصب والغلو والعنصرية، التي بدأت تجتاح العالم من خلال تجديد النظرة إلى الأغيار وتشييع فكرة العلو العرقي أو الشعب المختار، هذا إضافة إلى ما يمكن أن تعطيه لمواطنها الأصلية.
ونعود إلى القول: إنه بعد حقبة العولمة وثورة المعلومات وهذا التطور السريع في وسائل الاتصال، حيث أصبح الإنسان يرى العالم ويحاكيه من وراء مكتبه أو من بيته ودائرته ومختبره ومستشفاه، حتى من غرف العمليات الجراحية، لا بد من إعادة النظر والتقويم والمراجعة لظاهرة الهجرة وهذا الرصيد المهاجر من السواعد والأدمغة، الذي يعيش في إطار (الآخر)، وإعادة التفكير في كيفية استرداد دوره الرسالي؛ لأن التكنولوجيا الحديثة قضت على أسباب وآثار الاغتراب، وأمكنها تحقيق الكثير من الارتكاز الحضاري والتواصل الثقافي وحمل الهم الوطني، لا أقول عن بُعْدٍ، حيث لم يبق بعداً.
فإلى أي مدى يمكن الإفادة من هذه الثروات، أو هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات، في الارتقاء بالواقع الإسلامي على المستويات جميعاً، واعتبار تلك المواقع العلمية والعملية هناك ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نواتجها في العالم الإسلامي، وتساهم بنهضته، وتحقق حضوراً عملياً واستشارياً ومعلوماتياً في عالمها؟
فالسؤال المطروح اليوم: كيف نستفيد من هذا الكفاءات ونوظفها من مواقعها؟
وكيف لها أن تمنحنا بعداً حوارياً ثقافياً وحضارياً ووسائل دعوة بين الإسلام والمسلمين و(الآخر)؟
وكيف يمكن من خلال التواصل والتثاقف أن تشكل طلائع متقدمة للأنموذج الإسلامي الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع؟
وكيف يمكنها تصويب الصور المشوهة، واستلال الأحقاد التاريخية، والانتصار لقضايا الحق والعدل؟
إن المهاجرين هم الجسر الحضاري ووسائل الاتصال أو طرق المواصلات لحمل الإسلام وتجسيده في واقع الحضارات والثقافات الأخرى بعيداً عن المواجهة والاستفزاز، حتى تكون الهجرة لله ورسوله، وتتحقق بالبعد الرسالي وتتحول من ظواهر نزيف سلبية إلى فعل إيجابي يحمل الخير لبلدها الأصلي، بلدها الأم، وموطنها المختار المهجر، وتضيف بعداً غائباً بأن الهجرة جهاد بلا شوكة سلاح، فهي ليست جهاد عضلة وساعد وإنما جهاد فكرة ومعرفة ومعلومة، التي سوف تشكل قوة المستقبل -كما أسلفنا- وأن مراغمة الأعداء ليست بالانتصار العضلي عليهم وإنما بمنافستهم في ميدان السبق العلمي والمعرفي والالتزام الخلقي والسلوكي، الذي يحمي مسيرة العلم من البغي والفساد والتسلط، تبصراً بالعواقب والمآلات البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد يجول فيها الباطل جولة.
وبعد:
فهذا الكتاب يشكل محاولة جادة لإعادة طرح ظاهرة هجرة الكفاءات وتداعياتها السلبية، على مستوى الذات، وما تشكله من خسارات مادية ونزيف يساهم في إنهاك مواطنها الأصلية وتكريس التراجع والتخلف فيها، في الوقت الذي تعتبر إحدى المكونات والمقومات المهمة في حضارة (الآخر) وتأهيله للغلبة الحضارية، الأمر الذي شكل هماً لكثير من المفكرين والباحثين الذين استشعروا الخطر وأدركوا النتائج.
وقد حاول الكتاب إعادة فتح ملف الهجرة، على كثرة ما كتب فيه وما قدم من معالجات ورؤى، لينظر إليها من وجه مختلف، أو من الوجه الآخر، الوجه الثقافي، أو ما ارتأينا أن يكون عنوانه: «البعد الحضاري لظاهرة الهجرة»، على اعتبار أن الهجرة ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية، وإن تضمنت بعض الهجرات شيئاً من هذا، وإنما هي حركة إيجابية ذات أهداف رسالية ووسيلة دعوية متميزة لإلحاق الرحمة بالعالمين.
فالهجرة إلى المدينة هي سبب ولادة الأمة والمجتمع والدولة، والهجرة إلى الحبشة كانت السبب في نقل الإسلام وإيمان ملكها، ومراغمة الأعداء، وإنهاء لحالة الذل والمحاصرة والاستضعاف والركود والاستنقاع الحضاري.. والهجرات هي التي نقلت القيم الإسلامية إلى العالم.
فالهجرة فعل حضاري له أبعاده ورسالته وأحكامه وشروطه، فقد تكون جهاداً من أعلى أنواع الجهاد، والترفع عن الروابط القسرية، والقعود عنها مدعاة لوعيد الله، وقد تكون منهياً عنها إذا كانت تفريغاً للموقع وسبيلاً لاستيطان (الآخر) وامتداده: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».
والذي نريد أن نؤكده أن ما قدمناه في هذا الكتاب من رؤى بَصُر أصحابها المهجر، وأدركوا الرسالة المنوطة بالمسلم بشكل عام، والمسلم المهاجر بشكل خاص، لا ندعي له، أو نزعم، أنه الرؤية الشاملة لجوانب الموضوع، وإنما هي نوافذ تستدعي الاستمرار في فتح الملف والنظرات الاجتهادية الفكرية في أبعاده وتداعياته، وعلى الأخص في هذا الوقت بالذات، حيث يتحول العالم إلى وطن واحد، تلغى فيه الحدود والسدود، وتختزل المسافات والأزمنة، وتفرض فيه الأنماط الثقافية والاقتصادية والاستهلاكية والاجتماعية للدول الأقوى، ويترافق مع ذلك استيقاظ النزعات العنصرية الهمجية البدائية لما يسمى باليمين المتطرف، التي تنطلق من عقدة الشعب المختار، التي وزعت على العالم بأقدار ثقافية متعددة..
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
=============
الكفاءات المهاجرة طلائع لحضارة الإسلام
د. محمد الغمقي
إنّ هجرة العقول المسلمة ليست بمعزل عن واقع أوطان الهجرة. وإذا كان «البعض» قد اختار الهجرة للتحصيل العلمي، فإنّ هجرته في حقيقة الأمر اضطرارية، لأنها تعبّر عن عدم ارتقاء هذه الأوطان إلى اكتفاء ذاتي على مستوى البحث العلمي، والحال أنها تنتمي إلى أمة نزلت فيها كلمة ((اقْرَأْ)) ([1])، كما تعبّر عن ضعف حركة التعاون العلمي وتبادل الكفاءات العلمية بين هذه الأوطان المنتمية للمنظومة الحضارية نفسها رغم ما لهذا التبادل من أهمية، والحاجة إليه في ظل وجود نسبة من خريجي الجامعات في البطالة، فتضطر هذه العقول إلى الهجرة إلى بلاد تنتمي إلى منظومة حضارية أخرى.
وكثيراً ما تُواجَه الكفاءات التي \"اختارت\" الهجرة بانتقادات مثل أنّها ضعيفة أمام الإغراءات المادية في بلاد الغرب..لكن المسألة أكثر تعقيداً من مجرّد الحصول على امتيازات مادية في مستوى الجهود العلمية المبذولة. فهناك عوامل نفسية عميقة لدى الباحث منها الرغبة في التجديد والاكتشاف، خاصة ونحن في عصر العولمة وفي زمن العالم-القرية وتقارب الشعوب والثقافات. فلا يمكن حصر الكفاءات في رقعة صغيرة ومنعها من السير في الأرض لتوسيع آفاقها، وهذه سنّة التدافع الحضاري.(9/281)
إذ «يعد حراك الطلبة وتنقلهم فيما بين البلدان عنصراً من عناصر التدويل المتزايد لكافة أنواع العلاقات بين الشعوب. وحركة الطلبة عبر المناطق والبلدان هي في جانب منها استجابة النشء لوعيهم المتنامي بما يجري من تطورات عبر العالم ولمصلحتهم في تهيئة أنفسهم للحياة في عالم متكافل. وفي الوقت نفسه، تدرك الحكومات وأرباب العمل أنه إذا أريد ضمان الرخاء الإقليمي والفردي، فسيجب أن تتألف القوى العاملة في المستقبل من أناس أجيد تدريبهم ونما وعيهم بما يدور في العالم من حولهم»([2]).
والأهمّ من ذلك- وهنا جوهر المشكل-أنّ هذه الكفاءات تبحث عن الفضاء الذي تجد فيه أقداراً من الاحترام لعلمها وضمان كرامتها والاعتراف بجميلها. وهو ما يصعب توفّره في أوطان المهجر، حيث يشعر أصحاب هذه الكفاءات في كثير من الحالات بالغربة داخل الوطن، وهو شعور أشدّ على النفس من وقع الحسام، ولسان حالهم يقول:
«هل سيتمّ الاكتفاء بالشعارات البرّاقة حول الدولة الحديثة مع تشغيل فئات دون المستوى اللائق أو الممكن؟ أم ستشرّع الأبواب على مصراعيها لاستضافة \"الخبراء الأجانب\" بكلفتهم الباهظة وافتقارهم إلى قيم الولاء للأمة أو روح التضحية والمثابرة من أجلها..زيادة على احتمالية عدم تمتّعهم بالفهم المتكامل لاحتياجات الأمة وظروفها؟..وهل التخلّص من نير التخلف الحضاري الذي يلفّ أمتنا سيكون ممكناً مع الرضى بحالات العزلة القسرية التي يجد المبدعون المسلمون فيها ذواتهم؟»([3]).
وتتطوّر هذه الغربة من أزمة شعورية إلى قطيعة في حال تأزّم العلاقة بين السلطة والمثقفين الرافضين، في حال وجود استبداد سياسي.
لكن هناك إشكال يتمثّل في التركيز على الجوانب السلبية والخسارة التي تلحق العالم العربي والإسلامي جرّاء هجرة هذه الكفاءات واستقرار نسبة منها في بلاد المهجر. ولا شك أنَّ كل نزيف في العقول له وجه سلبي، بالنظر إلى نوعية هذه الهجرة التي تأخذ معها طاقات إبداعية يستفيد منها المجتمع الأم.
ولكن إذا أمعنّا النظر، فإنّ هذه الهجرة لها أوجه إيجابية إذا نظرنا إليها من جانب الدور الحضاري الذي تقوم به هذه الكفاءات، والذي ترجع فوائده على الأقليات المسلمة، بل على كل من العالم الغربي والعالم الإسلامي.
أولاً: إيجابيات الهجرة في الفضاء الغربي
فلقد صاحبت هجرة اليد العاملة من البلاد المسلمة إلى البلاد الغربية هجرة من صنف آخر، تتمثل في هجرة العقول أو ما يسمّى بالكفاءات العلمية والفكرية. وفيهم نسبة من المهاجرين لأسباب سياسية. ويُلاحظ أن الهجرة إلى العالم اللاتيني الجرماني (فرنسا وألمانيا خصوصاً) يغلب عليها الطابع الاقتصادي، وأنّ الهجرة إلى العالم الأنجلوساكسوني (بريطانيا والولايات المتحدة وكندا) يغلب عليها الطابع العلمي. أما الهجرة السياسية فهي منشرة في كل البلاد الغربية، بقدر تأزّم وضع حقوق الإنسان في البلاد العربية-الإسلامية.
والمتأمل في الهجرة السياسية من بلاد المشرق والمغرب يجد أنّها وفّرت كفاءات متمرسة في العمل النضالي الاجتماعي والنقابي والسياسي في البلاد المضيفة، مع الإشارة إلى التحوّل الأيديولوجي الذي شهدته هذه العقول من التيار العلماني اليساري والقومي إلى التيار الإسلامي، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، بعد الحملة على الإسلاميين في بلاد مغاربية ومشرقية.
ومن فوائد الهجرة السياسية أيضاً نموّ فكرة العمل \"الجبهوي\"، أي في إطار جبهة واحدة، بين التيارات العلمانية والإسلامية، التي كانت تعيش في أجواء الصراع بل الصدام أحياناً في البلاد العربية والإسلامية. وبوجودها وتلاقيها في أجواء جديدة من الحريات، اضطرت إلى إيجاد أقدار من العمل السياسي والحقوقي المشترك بينها حول معارضة كل أشكال الاستبداد في بلادها، والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
ومن الانعكاسات الإيجابية على التيارات الإسلامية المهاجرة، قيامها بعملية نقد ذاتي ومراجعة مسارها الفكري والسياسي، بما يؤهلها لدور حضاري لا تستفيد منه الجاليات المسلمة فحسب، بل تتعداه إلى المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية والبشرية جمعاء.
فكما هو معلوم، فإنّ هذه التيارات صحبت معها تجاربها في العمل والنضال من زوايا فكرية وعملية مختلفة، رغم الاتفاق العام حول المرجعية الدينية الإسلامية. وسُجلت خلافات بين العاملين في الحقل الإسلامي بقيت آثارها إلى اليوم، والتي تُلمس في الحساسيات القائمة بين المؤسسات الإسلامية التي يشرف عليها قدماء النشطين الإسلاميين.
ولكن بعد تلاقح التجربتين المغاربية والمشرقية في بلاد الغرب، وتحت ضغط التحوّلات في تركيبة الجاليات المسلمة وتطور اهتماماتها من الحفاظ على الهوية إلى المواطنة، حصلت الكثير من المراجعات وعمليات التقييم أو التقويم الداخلي على المستوى الفكري والسياسي نحو مزيد من الواقعية في التعامل مع الواقع المحلّي والعالمي.
ومن أهمّ القضايا التي حصل حولها حوار ونقاش مسألة التغيير وأساليبه ومقتضياته. وبناء عليه، تمّ السعي إلى التقريب بين مختلف الحساسيات، ومحاولة تجاوز العقلية الحزبية التي كانت مسيطرة لسنوات عدّة. وانطلقت الجهود نحو تجميع الكفاءات السياسية والعلمية المهاجرة من أجل البناء المستقبلي والنهوض الحضاري، وترسّخت القناعة أنّ مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب مرتبط بدور الكفاءات الإسلامية المهاجرة، تضاف إليها طاقات جديدة.
البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة:
يتجلى البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة في ثلاث توجّهات: توجّه تصحيحي لمفاهيم وتصوّرات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، ودفاعي عن قضاياهم وحقوقهم؛ وتوجّه ثان ترشيدي تأطيري لأبناء الجاليات المسلمة؛ وتوجّه ثالث دعوي رسالي ينفتح على بقية المجتمع.
التوجه الأول: التوجّه التصحيحي والدفاعي:
إنّ الحديث عن عملية تصحيح مفاهيم وتصوّرات ينطلق من اعتبار الإشكال في جوهره ثقافياً، ويتعلق بالعقليات وبالتحديد بالتصورات وبالنظرة للإسلام والمسلمين. ولا شك أنّ هذه النظرة محمّلة بمخلفات تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم النصراني التي تأرجحت بين التفاهم والصراع. ولكن العقل الغربي يختزل هذه العلاقة في الصراع والصدام، أيام الحروب الصليبية والاستعمار، ويغفل عن الصفحات المشرقة في هذه العلاقة أو ما يمكن التعبير عنه بالعلاقات العادية التي لا ترقى بالضرورة لتكون ودّية. وتوارثت مختلف الأجيال، أباً عن جَدّ، هذه الصورة السلبية التي تم تلقينها منذ الصغر وكرّستها مناهج التعليم، التي امتدّت إلى أيامنا بسبب عوامل جديدة.
فمع وجود المسلمين واستقرارهم في أوروبا والبلاد الغربية عموماً، بدأت تطفو على السطح مظاهر العنصرية والخوف من الإسلام وكراهية المسلمين، أو ما يطلق عليه مصطلح «إسلاموفوبيا»، التي يمكن تفسيرها بمحاولة تحميل المسلمين مسؤولية أزمات الحاضر من البطالة وانتشار العنف والجريمة.. من ناحية، والتخوّف من ناحية ثانية من تحوّل جذري في هوية المجتمعات الغربية في اتجاه الأسلمة المتدرّجة بالكلمة والسلوك، بالنظر إلى ما تمتلك الفكرة الإسلامية من جاذبية، وما يمتلك المسلمون من مقومات حضارية وقوة كامنة للفعل والتأثير، إضافة إلى العامل الديمغرافي الذي يسير في صالحهم، بحكم اتجاه المجتمعات الغربية نحو الشيخوخة، والمسلمون بصدد المساهمة في تجدّد هذه المجتمعات.(9/282)
ويرى د. زكي بدوي رئيس منتدى ضد «الإسلاموفوبيا» والعنصرية «FAIR» في بريطانيا، أنّ من أسباب كراهية الإسلام في الغرب وجود «عدد من المهاجرين ينتمون إلى ثقافة ودين مختلفين عما هو سائد في البلاد الغربية، بل إلى دين يُنظر له بشيء من العداوة.. واعتبر أن هناك خوفاً حقيقياً من الطرفين (خوف المسلمين من الغرب، وخوف الغربيين من الإسلام، خاصة عندما كان في أوج قوّته)، وهناك خوف مَرَضي، وهو ما يعبّر عنه بالإسلاموفوبيا، ويظهر من خلال بعض المواقف والتصريحات لجهات إعلامية أو شخصيات سياسية معروفة، والتي تتمحور حول اعتبار الإسلام دخيلاً على المجتمعات الغربية، والمسلمين ليست لهم قابلية الاندماج في هذه المجتمعات»([4]).
من هنا تأتي الحاجة إلى الكفاءات لتغيير الصورة السلبية عن الإسلام، والتذكير بالعطاء الحضاري للإسلام تاريخياً، وإقامة حوار حضاري مع النخبة المثقفة، والطبقة السياسية، والجهات الإعلامية، والجهات الدينية. ويمكن التوقف عند كل فئة لمعرفة خطورة دور العقول والكفاءات المهاجرة في الحوار الحضاري المنشود.
1- محاورة المثقفين.. صانعي الأفكار:
النخبة المثقفة يقصد بها هنا المفكرون والجامعيون والباحثون المستقلون أو العاملون في مراكز الدراسات والبحوث. ومعلوم أن العديد من هذه المراكز هي عبارة عن مخابر لصنع الأفكار وإعداد التقارير التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اتخاذ قرارهم. وينظم القائمون على هذه المراكز ندوات ومحاضرات ويدعون إليها مختصين في هذا المجال أو ذاك. ويلاحظ تزايد الندوات التي تتناول القضايا المتعلقة بالإسلام والمسلمين وبالجاليات المسلمة.
وهي إحدى المداخل المهمة لربط العلاقة مع الباحثين الغربيين ومحاولة إقناعهم بوجهة نظر الإسلام في العديد من المسائل. كما يمكن أن تساهم الكفاءات المهاجرة في إصدارات هذه المراكز. وتزداد أهمية هذا البعد خاصة في ظل المتغيرات والأحداث الطارئة، التي وضعت جهود سنوات طويلة من الحوار ومحاولة تصحيح الرؤى والتصورات في الميزان.
ويتصل بالنخبة المثقفة عموم المثقفين الذين يقدّمون للآخرين علماً وفكراً وتصورات، مثل الأساتذة والمعلّمين الذين هم باتصال دائم بالتلامذة والطلبة وأجيال الغد الذين سيقودون سفينة مجتمعاتهم إما إلى النجاة أو إلى الغرق. وصناعة الفكر والتصورات تبدأ من الصغر في البيت وفي المدرسة.
وهناك ظاهرة جديدة جديرة بالاهتمام تتمثل في وجود عدد من المعلّمين والأساتذة من أصول إسلامية في المدارس والمعاهد الغربية، بالنظر إلى النقص في الكوادر التعليمية من أصول غربية، بسبب تراجع نسبة الولادات في هذه المجتمعات. ومثل هذا الوجود ضمن الطاقم التعليمي الغربي مدخل مهمّ لتصحيح عدّة تصوّرات ومفاهيم بشرط أن تكون هذه الكفاءات مستوعبة للتصوّر الإسلامي. فكما هو معلوم، فإنّ العلوم، سواء ما يتعلّق منها بالإنسان أو بالطبيعة، بقيت حبيسة التصوّرات الوضعية المهيمنة التي تبعدها عن هذه الروح التكاملية بين السّماء والأرض، والتي تشربّتها أجيال وأجيال، وظهرت نتائجها السلبية، بل أخطارها، في الواقع اليومي المعيش.
وهنا يأتي دور المثقفين المسلمين في السعي إلى وضع قطار الأفكار والرؤى والتصورات على سكته الصحيحة. ويتمثّل دورهم أيضاً في الدفع نحو إعادة النظر أو على الأقل مراجعة البرامج التعليمية التي تقدمّ الإسلام والمسلمين بنظرة احتقارية وسلبية، أو التي تتضمّن تحريفاً وتشويهاً للحقائق، خاصة في مادة التاريخ.
2- محاورة الإعلاميين.. مصادر التأثير:
إنّ الإعلام سلاح ذو حدين، وأداة مهمّة للتأثير في الرأي العام. ولأهميته، فإنّ التوجّه إلى الجهات الإعلامية لتصحيح نظرتها عن الإسلام والمسلمين يتطلّب معرفة بخصوصيات السّاحة الإعلامية الغربية. فلو أخذنا على سبيل المثال الساحة الإعلامية الأوروبية، فإنها تقوم من حيث الهيكلية على عمل مؤسسي متطور، وعلى تكتلات لمواجهة المنافسة الأمريكية والآسيوية.
وتستمدّ مصادرها من وكالات أنباء قوية مثل الوكالة الفرنسية للأنباء، ورويتر...؛ ومن صانعي القرار في العالم، باعتبار أوروبا الغربية مركزاً مهماً للحركة الدبلوماسية، حيث إنّ أغلب هؤلاء، أو من يمثّلهم، يمرّون عبر باريس ولندن وبرلين في طريقهم إلى الولايات المتحدة؛ وكذلك من عشرات الندوات والملتقيات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية المنعقدة في أوروبا؛ ومن عشرات المنظمات الإقليمية والدولية في أوروبا (الحلف الأطلسي، اليونسكو..)؛ ومن مئات المنظمات والجمعيات الأهلية في أوروبا الممثلة لمكوّنات الطيف الاجتماعي والعرقي والديني في شكل نموذج مصغّر لما يوجد في العالم.
ويتضح من خلال هذا الزخم الإعلامي مدى اتساع وتنوّع اهتمامات الساحة الإعلامية الأوروبية. ويفترض أنّ كل ما يطرح في وسائل الإعلام الأوروبية يهمّ المسلمين، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين. ويمكن التركيز على بعض القضايا الحساسة لتكون المدخل للحوار مع الإعلاميين، مثل قضية الشرق الأوسط، بأبعادها الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، والموقف من السياسة الأمريكية بخلفياتها وتعقيداتها، والجدل بشأن العولمة والخصوصية الأوروبية، والصحوة الإسلامية في البلاد الإسلامية التي تعالج عادة من منظور سلبي (\"الإرهاب\"، \"الأصولية\"..)، ويتم ربطها بما يجري في المناطق الأوروبية ذات الأغلبية المسلمة (البلقان مثلاً) أو الانحرافات السّلوكية لدى شباب ينتمي إلى مسلمي أوروبا.
والمتحاور مع الإعلاميين حول هذه القضايا يجب أن يكون مستوعباً للعوامل الفكرية التي أثّرت وتؤثّر في الإعلامي الغربي وهو يصنع الخبر أو التحليل المتعلّق بالإسلام، مثل الثقافة التي تلقاها في حياته الدراسية، والعقلية الغربية المتأثرة بالتصورات الفكرية والأيديولوجية المسيحية أساساً، والعلمانية، والرصيد التاريخي، ومخلفات ثقافة الاستشراق، والصّورة السلبية الناتجة عن الانحرافات السلوكية والفكرية لبعض المسلمين.
3- الدفاع عن حقوق المسلمين لدى السياسيين:
إذا كان الاتصال بالإعلام، الذي يوصف بالسلطة الرابعة، يكتسي أهمية كبرى، فإنه من المهمّ أيضاً التدخل لدى أصحاب القرار للدفاع عن حقوق المسلمين الذين يتحوّلون تدريجياً إلى جزء من كيان المجتمعات الغربية، ومحاولة إقناع السياسيين بضرورة ضمان تساوي الفرص كشرط لتحقيق المواطنة، وذلك على المستوى الاجتماعي بإيجاد الظروف الضامنة للكرامة الإنسانية، خاصة في مجالات العمل والسكن والتعليم، وتجنّب كلّ أشكال الإقصاء في العمل بسبب الانتماء إلى أصل أجنبي، ومظاهر حشر المسلمين في أحياء سكنية غير لائقة، كما حصل للمسلمين في فرنسا خلال الستينيات، مما فاقم ظاهرة العنف في ضواحي المدن الكبرى.
وعلى المستوى الثقافي، يتطلب تساوي الفرص احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، والتصدي للعقليات المثيرة للنعرات العرقية والعنصرية، وظاهرة «الإسلاموفوبيا» في وسائل الإعلام ودوائر صناعة الفكر والقرار، وإعطاء حق الرد على تشويه صورة الإسلام والمسلمين.(9/283)
وعلى المستوى السياسي، تطرح مسألة المساعدة على المواطنة الإيجابية، عن طريق المشاركة السياسية، وفتح باب الترشح في وجه المواطنين من أصل أجنبي، وباب الانتخاب للجميع، على الأقل في الانتخابات البلدية، باعتبار أن تحقيق المساواة في الفرص والحصول على حقوق المواطنة كاملة من شأنه أن يجعل من مسلمي أوروبا والغرب عموماً جسراً حضارياً بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.
4- مجادلة أهل الكتاب:
منذ أن بدأت مؤشرات تحوّل الأقليات المسلمة من الهجرة إلى الاستقرار في المجتمعات الغربية، ارتفعت بعض الأصوات التي تؤكد أنّ هذه المجتمعات ذات انتماء مسيحي- يهودي، بقصد إقصاء الوجود الإسلامي في هذه الديار، أو على الأقل تهميشه حتى لا يكون فاعلاً. ولم يمنع ذلك من عقد ندوات واجتماعات بين المسلمين واتباع الديانة المسيحية فيما يسمّى بالحوار الإسلامي المسيحي الذي بقي يراوح مكانه. لكنّ أحداث سبتمبر وتداعياتها دفعت مسؤولي المؤسسات الدينية إلى إعادة التفكير في ضرورة التقارب والحوار من جديد، من أجل رفع الكثير من سوء التفاهم، ومنع الفكر المتشدد لدى الجانبين من هدم جسور التواصل. فقد تبيّن من خلال تجارب حوارية سابقة أنّ هناك فضاءً كبيراً للالتقاء حول اهتمامات ومشاغل مشتركة، مثل التصدّي للتسيّب الخلقي، ولفرض النمط العلماني الإلحادي، وللأفكار الداعية إلى صدام الحضارات...
وهنا أيضاً ينتظر الكفاءات الإسلامية دور هامّ في مجادلة أهل الكتاب بالتي أحسن، وبالخطاب الذي يفهمونه. ولا يخفى ما للتبشير المسيحي من دور في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في مختلف أنحاء العالم، حيث تنطلق معظم البعثات التبشيرية من أوروبا والغرب عموماً. وهذا الأمر يذكّرنا بالحملات التبشيرية التي مهّدت للاستعمار في البلاد الإسلامية.
وبدون شك، فإنّ كلّ نجاح يسجّل في التقارب بين الأديان ونزع فتيلة الكراهية والعداء ستكون له انعكاساته الإيجابية المباشرة وغير المباشرة على العلاقات بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. بل إنّ فوائده تتعداه إلى الأقليات الإسلامية في الغرب، وذلك بالحدّ من ظاهرة تصيّد نقاط الضعف لدى المسلمين وتوظيفها بطرق ملتوية لأغراض خاصة، حيث تستغلّ مؤسسات تبشيرية - تعمل تحت غطاء اجتماعي إنساني - ثغرات في سلوكيات بعض أبناء وبنات الجاليات المسلمة وفي ثقافتهم الاجتماعية والدينية لاحتضانهم ومحاولة تنصيرهم.
فقد يلجأ بعض الأولياء إلى طرد أبنائهم المتمرّدين عليهم نتيجة الإدمان على المخدرات والخمر أو الجنس، أو بسبب إصرار البنت المسلمة على الزواج من شاب غير مسلم، فتكون القطيعة مع الوالدين والأسرة والسقوط في أيدي المتربّصين.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ مثل هذه المسائل يتحمّل المسلمون مسؤوليتها بالدرجة الأولى. وبناء عليه، فإنّ الكفاءات الإسلامية في خط المواجهة لرفع هذه التحديات، وهذا يقودنا إلى أهمية العمل التأطيري والترشيدي في صفوف الأقليات المسلمة.
التوجه الثاني: العمل الترشيدي التأطيري:
يُقصد به تأطير الأجيال المسلمة الصاعدة عن طريق بث روح الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي لدى الجاليات العربية المسلمة المقيمة في الغرب، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للمجتمعات الغربية.
وبالنّظر إلى التراكمات الثقافية التي صحبها المهاجرون معهم من بلادهم الأصلية، فإنّه من الواضح أن عملية التأهيل هذه معقّدة وتحتاج إلى طول نفس. وهي أكثر تعقيداً في الفضاء الغربي خارج الدائرة الأنجلوساكسونية، حيث الهجرة الاقتصادية هي السائدة في صفوف الأقليات المسلمة التي تغلب عليها محدودية الثقافة الاجتماعية والدينية.
ويتطلّب هذا المعطى من أصحاب الكفاءات وضع استراتيجية تتضمّن أولويات تأخذ بالاعتبار التحوّلات الداخلية في تركيبة أبناء الجاليات وفي تصوّراتهم وعقلياتهم، وتراعي حاجيات مختلف الأجيال من الأجداد إلى الأحفاد. فهناك العديد من القضايا الملحّة المطروحة على الأقليات المسلمة، التي لا يمكن أن يتصدّى لها إلا الفاهمون والمستوعبون للواقع الذي يتحرّكون فيه، الذين يحملون ثقافة تؤهلهم لرفع التحديات الكثيرة. والخطورة أن يتصدّى لهذه المهام من يتبنّون فكراً على طرفي نقيض من طبيعة الفكر الإسلامي الوسطي والواقعي والمعتدل.
فهناك من يتبنى خطاباً وتصورات علمانية تعامل الدين الإسلامي بالنظرة نفسها للدين السائدة في الغرب، وهناك أصحاب الفكر المتشدد أو القراءات السطحية للواقع الغربي. والإشكال ليس في التعدد ولكن في إحداث اضطراب في الرؤية لدى الطرف الغربي المقابل إزاء خطاب مزدوج لدى فئة العقول المهاجرة المنتمية للمنظومة الدينية نفسها.
وإذا كان يسهل محاجّة أصحاب الفكر العلماني من المسلمين، بحكم المفارقات بين المنظومتين الفكريتين العلمانية والإسلامية، فإنّ الفكر المتشدد داخل الصف الإسلامي من شأنه أن «يشوّش، بل يضرّ بالإسلام وأهله، ويجهض عقوداً من الجهود التي بذلها مسلمون مخلصون داخل العالم الإسلامي، وفي البلاد الغربية من أجل توضيح خصائص الإسلام القائمة على الاعتدال والواقعية بما يتماشى والفطرة الإنسانية، بالإضافة إلى إجهاض جهود التواصل والحوار مع العديد من رجال الفكر والسياسة الغربيين الذين يوجد من بينهم المنصفون في حكمهم على الإسلام وسلوك المسلمين، من خلال معايشتهم للحضور الإسلامي في الغرب».
وتزداد خطورة المسألة «عندما يتعلق الأمر بالشريحة الأساس في بناء المجتمعات ألا وهي الشباب، ذلك أن حاملي هذا الفكر المتشدد أغلبهم من الشباب الذين وجدوا في هذا الفكر ملجأ للتعبير عن رفضهم للمادية السائدة، وعن سخطهم على سلسلة الإهانات التي تعيشها الأمة الإسلامية على كل المستويات، واعتمدوا على اجتهادات ينقصها العمق في فهم النصوص والواقع، وتبنّوا منهجاً في التغيير يقوم على التشددّ، بَلْ يصل أحياناً إلى العنف. ويرتبط بتداعيات هذا الفكر المتشدد محاولة تقديم الإسلام من منظور أحادي في الفهم والتصوّر، والتشكيك بل تكفير مبدأ التعددية والمعارضة وحرية الفكر من داخل المنظومة الإسلامية»([5]).
ولكل هذه الأسباب، يتعيّن على الكفاءات الإسلامية الواعية أن ترشّد فكر الأجيال الصاعدة، وتجتهد في إقناعهم بوسطية الإسلام، وذلك باعتماد خطاب يفهمه هؤلاء الشباب، ويتماشى مع عقليتهم، ويأخذ بالاعتبار مؤثرات البيئة التي يعيشون فيها. ويتطلّب هذا الأمر من المتصدّي لهذه المهمّة معرفة دقيقة بلغة البلد الأوروبي- الغربي وثقافته، وبنفسية الشاب أو الفتاة، بالإضافة إلى فهم مقاصد الإسلام وطبيعته ومنهجه في التعامل مع الآخر، من أجل كسب ثقة من سيقوم على كاهلهم بناء مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب.
فقد أثبتت التجربة أنّ وجود خلل في أحد هذه الشروط يترتب عليه فشل العملية التربوية والتأهيلية عموماً. إذ لا يغني حثّ الشباب المسلم على الاهتمام بلغة القرآن - قراءة وحفظاً وكتابة- عن التحدث إليهم بلغة بلدهم الحاملين لجنسيته والمقيمين فيه بصفة دائمة، حيث يعسر عليهم في مراحل التكوين الأولى استيعاب معاني اللغة العربية الفصحى عندما يتعلّق الأمر بالمواضيع التي تتطلب شرحاً وتحليلاً ونقداً، ومن ثم يكون من الأفضل تبليغ هذه المعاني بلغة البلد التي تساعد على الفهم وسرعة الاستيعاب.(9/284)
وليس في هذا الأمر -كما يرى بعضهم- خطراً على مستقبل لغة القرآن لدى الأقليات المسلمة في الغرب، حيث يُلاحظ إقبال الشباب المسلم على المساجد التي تقدّم خطبة الجمعة باللغتين العربية والمحلية. ولنا أن نقارن حجم الإفادة من هذا اللقاء الأسبوعي بين أن تكون الخطبة بالعربية فحسب وأن تكون باللغتين، خاصة إذا نجح الإمام الكفء في تبليغ رسالة الإسلام بمنهجه الوسطي.
ويدعو هذا الأمر إلى تأهيل كوادر الأئمة والدعاة، وتطوير العملية التربوية والتعليمية، من خلال تطوير مناهج تعليم العربية والقرآن والدين الإسلامي في المدارس الخاصة أو في الجمعيات الإسلامية المنتشرة، بعقلية منفتحة على المجتمع.
ولكي يكون البناء التربوي الديني صلباً، فإنّ المطلوب هو التفكير في عملية بناء تصاعدية للفرد في كل مراحل حياته، منذ أن يكون طفلاً إلى الشيخوخة؛ على عكس ما حصل في تاريخ وجود الجاليات المسلمة في الغرب، حيث تم الاهتمام بالحفاظ على هوية الجيل الأول ببناء المساجد، ثم التفكير في المدارس لتعليم العربية والإسلام للجيل الثاني من الشباب، الذين لم يسعفهم الحظ في تلقي تكوين إسلامي محْكم منذ الصغر، فكانت النتيجة أن تركت هذه الثغرة بصمات على سلوكهم وتصوراتهم. وبوجود الجيل الثالث والرابع، بدأ التفكير في الطفولة، مثل تكوين رياض إسلامية للأطفال، وقصص وبرامج على الكمبيوتر في مستوى الطفل.
والمطلوب أيضاً دمج التأهيل التربوي الديني بالتأهيل الثقافي الفكري السياسي، من أجل الحفاظ على التوازن في بناء الفرد والمجموعة. فتعليم الأجيال الصاعدة اللغة العربية ومبادئ الإسلام لا يكفي لذاته إذا لم تصحبه متابعة ملف موضوع بالغ الأهمية يتعلّق بتمثيل المسلمين لدى السلطات، والذي يحتاج إلى الكفاءات العارفة بمتطلبات هذا الملف.. وملفا التعليم والتمثيل لا يُغنيا بدورهما عن الدور السياسي.
وفي هذا الصدد، يوجد اتجاهان متناقضان لدى أبناء الاقليات المسلمة في التعامل مع الملف السياسي. فمن ناحية، يُلاحظ نوع من الزهد في ممارسة حقهم الانتخابي الذي يمرّ عبر الترسم في القوائم الانتخابية في البلديات من أجل الحصول على البطاقة الانتخابية. ويفسّر هذا الزهد بأسباب عديدة منها ما يعود إلى الفهم الخاطئ في تأويل مصادر التشريع الإسلامي بدون علم بفقه الواقع، وربط الانتخاب بمسألة الولاء الديني والحديث عن عدم جواز ترشيح أو اختيار غير المسلمين، إلى جانب ضعف الثقافة السياسية لدى الأجيال الأولى؛ ومنها ما يعود إلى ظاهرة عدم الاكتراث بالحياة السياسية لدى نسبة من الرأي العام الغربي.
ويتأكد دور المثقفين في مثل هذه المواقف في حث هؤلاء الشباب على عدم التساهل في هذا الحق، لما له من فوائد وإيجابيات على الوجود العربي الإسلامي في الغرب. وشهدت السنوات الأخيرة اهتمام المسؤولين السياسيين والحزبيين ورؤساء البلديات والمرشحين في القوائم الانتخابية بالعرب والمسلمين في البلاد الغربية، من أجل كسب تعاطفهم وأصواتهم، مع اقتراب كل موعد انتخابي، وذلك لأن الصّوت العربي المسلم أصبح يُحسب له ألف حساب. ويعتبر المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تقدماً في هذا الشأن مقارنة بالبلاد الأوروبية.
في المقابل، نلاحظ قيام تجمّعات شبابية مسلمة تسعى إلى الإسراع بتشكيل لوبي إسلامي«Lobbying» بخلفيات سياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. والفكرة جيّدة في حدّ ذاتها، ولكن هل تمت دراسة مقتضياتها ومآلاتها ومراحلها؟ أم هي مجرّد ردّ فعل على حالة التهميش التي يعيشها الشباب المسلم المقيم في الغرب عموماً وفي البلاد الأوروبية على وجه الخصوص؟ وهل ستكون ذات طابع شبابي أم ستتمّ الاستعانة بذوي الخبرة من الجيل الأول وإشراك\"أهل الحلّ والعقد\" كما يقال؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأمل وتفكير ودراسة عميقة وفقهٍ بمتطلبات الواقع، والدمج بين \"حماس الشباب وتجربة الكبار\". وهذه المسألة الأخيرة جدّ مهمّة في مسألة التأهيل عموماً، وفي اتخاذ المواقف الحساسة مثل النشاط السياسي، لأنّ واقع الأقليات يطغى عليه نوع من الانفصام بين الطرفين.
وترتبط عملية التأهيل أيضاً بترشيد عملية بناء المؤسسات الإسلامية، للقيام بمشاريع تربوية وثقافية وفكرية ودينية وسياسية وإعلامية واقتصادية. وقد اقترن الحضور الإسلامي في الغرب بقيام مؤسسات لتنظيم هذا الحضور ورعايته والارتقاء بدوره. وتكتسي هذه المؤسسات أهمية خاصة من حيث وظيفتها الإسلامية في الحفاظ على هوية الأقليات المسلمة بكلّ شرائحها، وفي كل القطاعات والمجالات، خاصة مع اتساع الحاجة من الاجتماعي التربوي إلى قضايا التوطين وما يرتبط بها من هموم المشاركة السياسية والانخراط في الحياة اليومية ومقتضياتها.
وبدون شك، فإنّ المؤسسات الإسلامية أصبحت المحضن الذي يستأنس به مسلمو الغرب في جميع أحوالهم، ومصدر مرجعيتهم الدينية والشرعية في التفاعل مع البيئة غير الإسلامية. ولكن العمل المؤسسي الإسلامي في حاجة إلى عملية تقويمية من حيث توفّر الإمكانات المادية والبشرية الضرورية، وذلك بعد تعثّر عدد من المؤسسات بسبب الانطلاقة غير المدروسة، ومن حيث ترتيب الأولويات، والحال أنّ جلّ الجهود تصبّ في إقامة المؤسسات الدينية مثل المساجد، والمؤسسات التعليمية مثل المدارس، على حساب مؤسسات أخرى ذات تأثير كبير مثل المؤسسات الإعلامية والبحثية والفقهية التأصيلية.
ومن الحلول التي توصّل إليها القائمون على مؤسسات إسلامية بالاستعانة بالخبراء المسلمين، إنشاء وقف خاص بها من أجل تجاوز العائق المالي الذي يعترض الكثير من المشاريع الإسلامية. كما لا تخفى أهمية عامل الاستثمار في النهوض بواقع الأقليات المسلمة. وتكفي المقارنة بين الوجود العربي الإسلامي في بريطانيا والواقع الاقتصادي. وهذا البعد لا يستهان به ولا يقل أهمية عن البعد الثقافي والفكري. فإقامة مشاريع تجارية ومؤسسات استثمارية مدخل مهمّ لاقتحام الدورة الاقتصادية الغربية وفهم آليات عملها والقوى المؤثرة فيها، وأهمّ من ذلك تكوين جماعة ضغط «لوبي» اقتصادي مالي ضروري لضمان حقوق الجاليات العربية المسلمة.
وبفضل قيام «كوادر» إسلامية متخصصة بتقديم دورات تدريبية في التسيير والاتصال، بدأ يشهد العمل المؤسسي الإسلامي عملية تطوير في وسائله وأهدافه، حيث ترسّخت القناعة بضرورة انفتاح المؤسسات الإسلامية على الواقع الغربي بخلفية رسالية دعوية، في إطار معادلة مدروسة بين التأثرّ والتأثير، خاصة أن الهدف المنشود هو الانتقال من «المواطنة» إلى التوطين.
التوجه الثالث: توجّه دعوي رسالي:
فإلى جانب التوجّهين الأولين، هناك توجّه آخر لا يقلّ أهميّة عنهما، ويتطلب من العقول الإسلامية جهوداً كبيرة في اتجاه دعوي رسالي منفتح على المجتمعات الغربية، وذلك من خلال المشاركة بأطروحاتهم وآرائهم في القضايا التي تهم العالم ومصير المجتمعات الغربية التي يقيم بها المسلمون، وتوضيح قدرة الإسلام على معالجة قضايا العصر.(9/285)
ومن أهمّ القضايا: العلاقة بين العلم والإيمان، وربط هذا الأمر بالمسألة الخلقية «Ethic» بتصوّر يختلف عن الدعوة إلى «أخلاقية» بالمفهوم العلماني. ويمكن في هذا الصدد تقديم التصوّر الإسلامي ذي البعد الإنساني للمعرفة والعلم، من خلال مقاربات إسلامية للعلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، وتصحيح المسار الذي تسير فيه البشرية، وخاصة الغرب، في مجال سباق التسلّح، والتسيب الخلقي، وغياب الهدفية في الحياة، واختلال التوازن البيئي، وفرض نمط من السلوك والتفكير والتعامل باسم العولمة.
فبفضل ما يمتلك الباحثون ذوو الالتزام الديني من تصوّرات وثقافة ذات طابع ديني، يمكنهم المساهمة بأقدار كبيرة في قضايا حيوية مثل الحفاظ على البيئة، وهذه قضية جدّ خطيرة، يدل على ذلك بروز أحزاب في البلاد الغربية تسمى بالخُضْر، تزداد شعبيتها يوماً بعد يوم في ظلّ الأخطار التي أصبحت تحدق بحياة الإنسان ومحيطه جرّاء انتشار العقلية الربحية القائمة على الاحتكار والأنانية.
ويمكن للطرح الإسلامي -إذا حسن تقديمه- أن يساهم في دعم الوعي البيئي المتزايد لدى الرأي العام الغربي، بما يساهم في كبح جشع المؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف المحتكرة للثروات الطبيعية. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ)) (الروم:41)، بما يتماشى وفلسفة الإسلام للإنسان والكون والطبيعة، والتناغم بين الإنسان ومحيطه، بالنظر إلى وحدة الخَلق وتسخير الكون للإنسان، ذي المهمّة الاستخلافية في هذه الأرض التي عليه تعميرها وليس تخريبها.
أما على المستوى الاقتصادي، فيمكن الانطلاق مما توصل إليه الناقدون الغربيون أنفسهم من نقد للأبعاد الاقتصادية لكل من الاشتراكية والليبرالية، والنتائج المترتّبة على تطبيق مثل هذه المبادئ في الواقع. ومن بين السلبيات التي تم التركيز عليها انتشار العقلية الاحتكارية الربحية الجشعة التي تكون تارة سمة السلطة المركزية ومؤسساتها في الاشتراكية، وأخرى سمة الشركات الرأسمالية الكبرى في الأنظمة الليبرالية. ولعل مرض \"جنون البقر\" صورة من هذه الصور البشعة لهذه العقلية، حيث ثبت علمياً أن السبب الرئيس لهذا المرض يعود إلى تقديم دقيق الحيوانات الميتة المطحون كطعام للبقر الذي يصاب فيما بعد بالجنون.
ويكفي هذا المثال للدلالة على أنّ النجاح الاقتصادي لا يتوقف على حسن التخطيط والتسيير والإمكانات المادية والبشرية فحسب، وإنما هو مرهون أيضاً بالمنظومة الخلقية التي تُبنى عليها العملية الاقتصادية.
وعلى الكفاءات الإسلامية المتخصصة في المجال الاقتصادي أن تبرهن على سموّ التصوّر الاقتصادي في الإسلام، الذي يأمر بالقسط والعدل دون أن يكون ذلك على حساب الملكية الفردية، اعتماداً على مبدأ «كل حسب جهده وبلائه وحاجته»، والتأكيد على قيمة العمل وكراهية العبد البطال، وعلى الروح التضامنية، من خلال اعتبار المال أمانة في أيدينا، للفقير والمحتاج حق فيها عن طريق الزكاة والصدقة، وهذا ما يقودنا إلى البعد الاجتماعي المهم.
وعلى المستوى الاجتماعي، ينتظرُ المثقفين المسلمين دورٌ كبير فيما يتعلقّ بموضوع الأسرة، والتعامل بين مختلف الأجيال، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موضوع بالغ الأهمية لما له من تأثير في بقاء المجتمع وسلامته. وليس خافياً على أحد ما وصلت إليه هذه العلاقات من انسداد وتأزّم بسبب غياب المرجعية الدينية أو فتورها، وطغيان المادية والفردية، وأزمة القيم، إلى حدّ أن الإنسان في الغرب لم يعد يشعر بالسعادة رغم ما يمتلك من أموال وثروات ووسائل ترفيهية وتقدّم عمراني، الأمر الذي يفسّر ارتفاع نسبة الجريمة ولجوء عدد من الشباب في ريعان العمر إما إلى الإدمان على المخدرات والخمر هروباً من الواقع، أو إلى الانتحار لوضع حدّ لحياتهم التي لم يعد لها أي هدف، وهو ما يعدّ خسارة كبرى لطاقات وموارد بشرية تمثلّ عدّة الغد للمجتمعات الغربية.
وانطلاقاً من أن الدين الإسلامي رحمة للعالمين، فإنّ الواجب الديني-الإنساني يقتضي المساهمة، قدر المستطاع، في إرجاع الثقة والأمل إلى نفوس الناس، وخاصة إلى الشريحة الشبابية التي يتأثر بها أبناء المسلمين. ذلك أنّ الخلفية التي يجب أن تصاحب المسلم الداعية وهو يرشد الناس إلى الخير، تُبنى على النظرة المشفقة على البشر وليس على رغبة في الانتقام والتشفّي.
وبهذه النفسية، يكون الدخول من الباب نفسه الذي ينفذون منه عادة للتهجم على الإسلام، وهو موضوع المرأة، وذلك عبر شرح وتحليل وتفكيك وضع المرأة الغربية الذي لا تحسد عليه، بهدف إجلاء حقيقة الفخّ الذي نُصب لها بتخطيط محكم حتى تتحوّل إلى بضاعة للإغراء، وإعادة الاعتبار للمرأة الإنسان التي كرّمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وهي بنت وزوجة وأمّ وعجوز.
وإذا نجحت الكفاءات الإسلامية في توجيه الرأي العام الغربي نحو هذا الهدف الأخير فحسب، تكون قد قدمت خدمة حضارية عظيمة للبشرية وللفكرة الإسلامية، ذلك أنّ تصحيح وضع المرأة يعني إنقاذ المجتمع بأسره، لأنه كما هو معلوم، تمثّل المرأة نصف كلّ مجتمع، ويتربّى النصف الآخر على يديها. وهذه المسألة من التحديات الكبرى التي تطرحها العولمة الثقافية ذات النمط الغربي (الأوروبي-الأمريكي) السائد، أمام العقول الإسلامية.
ويرتبط بموضوع المرأة قضية التفكك الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، وتقلّص قيمة قدسيّة الحياة الزوجية. وبدون شكّ فإنّ الطرح الإسلامي الذي يؤمن بقدسية الحياة الزوجية المبنية على عنصري المودّة والرحمة، وما يعني ذلك من غرس قيم الحبّ والتواصل والاحترام في نفوس الأجيال الصاعدة، يمكنه أن يعالج أزمة القيم فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وتقديم حلول لقضايا المجتمع المرتبطة أساساً بالمفهوم الشائع الخاطئ للحرية. ويبرز ذلك في معضلتين تعاني منهما المجتمعات الغربية والمجتمعات المقلّدة لنمط الحياة الغربية:
المعضلة الأولى: ظاهرة تزايد الجريمة والعنف. وبحجة عدم التعدّي على حرّية الفرد ومراعاة الظروف القصوى النفسية وغيرها للمجرم، أصبح بإمكان هذا الأخير التعدي على حقوق المجتمع، لأنه يعلم أنّ العقاب الذي ينتظره لا يتجاوز السجن ولو لفترة طويلة. فانشرت ظاهرة المجرمين الذين اعتادوا على الجريمة، لأنّهم اعتادوا على السجن. بل إنّ من المعضلات الاجتماعية في الغرب اليوم، قضية الاعتداء الجنسي على الفتيات والأطفال، المصحوب أحياناً بالقتل العمد الذي لا يمكن وضع حدّ له إلا بالحزم. وقد ارتفعت أصوات عديدة تطالب بإعدام مرتكبي هذه الجرائم، والجدل قائم حول مفهوم القصاص وعلاقته بحرية الفرد.
والتصوّر الإسلامي واضح في هذه المسألة: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ)) (البقرة:179)، واعتبار ذلك شرطاً لاستقرار المجتمع وأمنه: (( الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ)) (قريش:4). والمسلمون بإمكانهم المساهمة في معالجة الانحراف الذي شاب مفهوم القصاص، عن طريق تصحيح مبدأ الحرية، المرتبط في جوهره بالمسألة العقائدية الإيمانية واستشعار الرقابة الدائمة من القوّة المتصرّفة في هذا الكون.(9/286)
المعضلة الثانية: تتمثل في انتشار ظاهرة الإباحية والفوضى الجنسية، وفي الوقت نفسه العمل على تطبيع المجتمعات الغربية مع الشذوذ والزواج بين الشواذ، حيث لم يكتف هؤلاء بالمطالبة بحقوقهم والاعتراف بهم مثل المتزوجين العاديين، بل إنّهم ينظمون المظاهرات الاحتجاجية على محاكمة الشواذ في البلاد العربية - الإسلامية مثلما حصل في مصر. ويبدو من خلال العديد من المؤشرات أنّ التيار المحافظ السائد لدى الرأي العام الغربي مستاء من ظاهرة الشذوذ.
ويمكن للمسلمين المقيمين في الغرب التحالف مع هذا التيار بهدف غرس القيم التي تتفق والفطرة البشرية، والإقناع أنّ ظاهرة الشذوذ مرتبطة بالانحراف في فهم مبدأ الحرية وحدودها. ذلك أنّ التعريف المتداول هو أنّ حدود الحرية شعارها: «حريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين». وهذا الشعار يتضمّن معنى مطاطياً قابلاً للتأويل، كلّ حسب هواه.
وبناء عليه، ظهر في هذه المجتمعات من يدعو إلى الإباحية باسم الحرّية، فيقول : «أنا حرّ في بدني أتصرّف فيه كيف أشاء». فانتشرت الفوضى الجنسية، وظهرت أمراض جديدة مثل (السيدا بالفرنسية/ الأيدز بالإنجليزية)، الأمر الذي يتطلّب تصحيحاً مفهومياً لمبدأ الحرية، وضبطاً للحقوق والواجبات والحدود، علماً بأنّ القوانين الوضعية نفسها تعطي الحق للدولة أو السلطة التي تمثلها للتدخّل من أجل منع الفرد من التصرّف بالشكل الذي يكون خطراً على نفسه وعلى المجموعة.
والمسلمون قادرون - من خلال مفكريهم وباحثيهم ومؤسساتهم- أن يدعموا ما يتماشى من القوانين الصادرة عن البرلمانات الغربية مع فلسفة الإسلام في احترام كيان الفرد وحفظ المجتمع وبثّ قيم الخير والعدل. ويسجل في حالات عديدة مصادقة نواب برلمان هذا البلد الغربي أو ذاك على قانون مثل منع شرب الخمر عند السياقة، أو منع ضرب النساء من طرف أزواجهن، والتحرّش الجنسي في العمل، أو احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات... وغيرها من القوانين والإجراءات التي تخدم الفكرة الإسلامية بصورة غير مباشرة، وتلتقي مع التصوّر الإسلامي للكون والإنسان والحياة.
ومما ييسّر هذا التفاعل طبيعة هذا الدين وخصائصه، والتي من بينها الواقعية والشمولية والإنسانية.
وفي المقابل، يمكن أن يشكل المسلمون عنصر ضغط لمنع الإجراءات والقوانين الوضعية عندما تكون خاضعة للأهواء ولموازين قوى سياسية وأيديولوجية، والتي تستهدف القيم الإنسانية، بالتعاون مع الأطراف الجادّة الدينية والمثقفة.
وعلى المستوى الثقافي، فإن المجتمعات الغربية تعطي أهمية كبيرة للناحية الفنية الجمالية والتعبير عنها بأساليب وفنون عدّة مثل المسرح والسينما والموسيقى والأدب..وفي غياب وضوح الرؤية والمرجعية الفكرية المحدّدة، اتسمت بعض المحتويات المقدّمة بسطحية في الموضوع وفي منهجية تقديمه عبر إثارة الغرائز الحيوانية أو العدوانية لدى الإنسان، مثل النعرات العرقية- العنصرية، وكراهية (الآخر)، واستعمال وسائل الصخب والتهريج للتعويض عن الخواء الروحي، وتفشت ظاهرة «النجومية» التي تتعلّق بها الأجيال الصاعدة إلى حدّ التقديس، خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى.
والباب مفتوح أمام المسلمين لتقديم بدائل في المجال الفنّي تساهم في الارتقاء بوعي الإنسان، وترسيخ قيم الخير والاستقامة لدى الفرد والمجتمع. وليس بالضرورة أن تحمل كل هذه البدائل لافتة إسلامية، والأهمّ هو التعبير عن الفكرة الإسلامية والقيم الإنسانية التي تتضمّنها، والخروج من النّظرة الضيقة التي تحصر المجال الفني الجمالي في دائرة الحرام والحلال.
فقد بقي الخلاف قائماً إلى يومنا بين المسلمين حول هذا الموضوع، واستغلت التيارات العلمانية الحاقدة على مشروع النهوض الإسلامي هذا الفراغ، فقامت بتسريب سمومها إلى الشباب، ووجدت الدعم من جهات غربية حريصة على انتشار هذا الصنف من الفنّ في صفوف أبناء المهاجرين، بل إن صداها وصل إلى البلاد الإسلامية.
و ما تزال المحاولات الفنية الإسلامية في حاجة إلى تطوير بترشيد فقهي تأصيلي، حتى تكون في مستوى تطلّعات الأجيال الجديدة التي تهوى الفنون بجميع أشكالها ( القصة، الرواية، السينما، المسرح، الموسيقى..).
وبفضل ما يملك المسلمون من تراث فني عريق (خاصة في المجال المعماري كما تشهد على ذلك الأندلس، والخط العربي الذي يجد اهتماماً عالمياً)، يمكن أن تطوّر الكفاءات المسلمة العطاء الفني الإسلامي ذي البعد الإنساني العالمي، من خلال استراتيجية واضحة تقوم على نظافة الغاية ونظافة الوسيلة.
أما على المستوى السياسي، فإن الكثير من المحللين يتّفق على أنّ الديمقراطية على الطريقة الغربية ليست النظام السياسي المثالي لكل البشر. فقد تكون صالحة للمجتمعات الغربية ولكنّها ليست بالضرورة صالحة لمجتمعات أخرى؛ لأنّها ثمرة تفاعلات وصراعات وفلسفات من رحم المجتمع الغربي بخصوصياته. ثمّ إنّ الواقع أثبت وجود العديد من الثغرات والسلبيات في تطبيق هذا النظام في البيئة التي نشأ فيها، خاصة في المسائل المتعلّقة بالتمثيل النسبي واحترام حقوق الإنسان والأقليات، والأخلاقية السياسية والنظام الحزبي.
وبناء عليه، فإنّ الطرح الإسلامي يقدّم تصوّرات بإمكانها أن تُخرج الديمقراطية على الطريقة الغربية من السلبيات التي تتسبّب في إعاقة النشاط السياسي، وزهد نسبة من الرأي العام الغربي في الحياة السياسية. «فإنّ علاقة الحاكم بالرعية يحكمها في الإسلام مبدأ الشورى، ولا تخضع لأية علاقة بالمعنى الثيوقراطي، أي أن الحاكم ظل الله في الأرض، وغيرها من التصورات التي لا يقرّ بها الإسلام. والشورى ليست شعاراً يُرفع، وإنما مبدأ للتطبيق على أرض الواقع، بما يعنيه من حق الاختلاف في الرأي والمعارضة وواجب الالتزام برأي الجماعة أو الأغلبية، دون أن تُنتهك حقوق الأقلية. أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس فيه نص واضح، ومتروك للاجتهاد لترجيح ما يلائم كل عصر»([6]). ويحتاج مبدأ الشورى إلى مزيد من التوضيح والتعميق والتأصيل ليكون مقبولاً من المجتمعات الغربية.
ثمّ إنّه يلاحظ تزايد دور المجتمع المدني في المجتمعات الغربية من جمعيات ومنظمات ونقابات تهتمّ بالشأن العام خارج المؤسسة السياسية الرسمية. والتراث السياسي الإسلامي يزخر بهذا الدور نفسه فيما يسمّى بـ\"المجتمع الأهلي\".
كما أنّ العلاقات الدولية تحتكم في التصوّر الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعددّ الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها: (( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات:13).
من خلال ما تقدّم، يتأكّد ما قاله بعض الملاحظين الغربيين: إنَّ الإسلام من حظه أن يتفاعل مع الفضاء الغربي، ومن حظّ الغرب أن يوجد فيه الإسلام لكي يكون باباً للخير، بما يوفّره من قيم ورسالة حضارية؛ وإن الكفاءات المسلمة هي كالغيث النافع، حيث يمكنها أن تكون مفتاحاً للخير حيثما كانت.
ثانياً: فوائد الهجرة في الفضاء الإسلامي(9/287)
فكل هذه التصوّرات المستقبلية للعطاء الحضاري الإسلامي في مجالات شتى، التي تساهم في بلورتها وتقديمها كفاءات إسلامية مهاجرة، من شأنها أن تكون باباً للدعوة لرسالة الإسلام في كل مناطق العالم التي توجد بها أقليات مسلمة، وإضافة نوعية لمجهودات العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي من أجل تحقيق مشروع النهضة الإسلامية.
ومعلوم أن هذا المشروع يحتاج إلى اجتهاد وفهم دقيق للواقع الذي يتنزّل فيه. وحتى يكون هذا الفهم دقيقاً وشاملاً، فإنّ الكفاءات المسلمة المهاجرة يمكنها أن تساهم في تجديد الفكر الإسلامي، وفي تقديم قراءة عميقة للتراث الإسلامي، وفي النهضة العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، بفضل ما استفادت من خلاصة التجربة الغربية الحديثة القائمة على ثقافة التعددية، التي تختلف عن ثقافة الأحادية السائدة في كثير من البلاد الإسلامية، وبفضل ما تمتلكه من قدرة على دمج الأدوات المنهجية الإسلامية والغربية في البحث بعد تمحيصها ونقدها.
من جانب آخر، إذا علمنا أنّ تحقيق التقارب الثقافي والحوار الحضاري بين العالمين الإسلامي والغربي يعتبر من مقومات النهضة الحضارية العالمية حالياً وفي المستقبل، فإنّ الطليعة المسلمة المثقفة تمثّل جسر علاقة العالم العربي الإسلامي بالعالم الغربي، والمحرّك الأوّل الدافع إلى التصالح بين الثقافتين والحضارتين، والعامل الأساس في نزع فتيل الصراع الحضاري، الذي تتمناه العديد من الدوائر السياسية والفكرية، وتسعى إلى تحقّقه بكل ما أوتيت من جهد. ويكون ذلك بالاجتهاد في مساعدة الأقليات المسلمة في الغرب على أن تكون في مستوى رسالة الإسلام الإنسانية العالمية، وتقليص أسباب التوتّر وسوء التفاهم بين العالمين الإسلامي والغربي.
ولا يشك أحد في أنّ عملية تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين لدى الغرب ستكون لها انعكاسات جدّ إيجابية على العالم الإسلامي، من حيث المساهمة في كسر جدار الخوف من \"الغول الإسلامي\"، ودفع الغرب نحو التعامل بندّية مع سدس سكان المعمورة.
وبقدر ما تُلقى المسؤولية على الكفاءات المسلمة في الغرب من أجل تصحيح صورة الإسلام والمسلمين هناك، بقدر ما تكون مهمّتها ومسؤوليتها كبيرة في تحسيس الطرف الإسلامي بضرورة مراجعة موقفه من الغرب عبر تقديم فهم أعمق للفكر والواقع الغربيين. فالنظرة السائدة في العالم الإسلامي أن الغرب شرّ كلّه، والخطاب يسوده التهجّم والعقلية الصدامية، والحال أنّ المسلمين جزء من هذا الغرب الذي يلعنه مسلمون آخرون صباح مساء، والمواطنة تقتضي وحدة الهموم والمصير.
ولا يمكن تحقيق تقارب بين العالمَين في ظل خطاب مزدوج من طرف المسلمين بين لاعن ومادح، وبين قادح للغرب والغربيين جملة وتفصيلاً داخل العالم الإسلامي وداع إلى التوطين والمواطنة في الغرب. فهذا الموضوع الدقيق يحتاج إلى معالجة حكيمة وإلى مراجعات عميقة بهدف التوصّل إلى تقارب بين المسلمين في النظرة للغرب، وتجنّب التعميم، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه؛ لأنّ ديننا الحنيف يدعونا إلى القسط: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (المائدة:8) وذلك من خلال التفريق بين مواقف أصحاب القرار ومواقف الشعوب، والتمييز بين المعادي والمنصف، وبين من يكنّ العداء الدفين للمسلمين وبين من هو ضحية حملات تشويهية لصورة الإسلام والمسلمين.
فليس كل الغربيين مورّطين في استعمار الشعوب، ونهب ثرواتها، واستغلال طاقاتها، وفرض أنظمة متسلطة على بعضها.. وليس كل الغربيين مشاركين في إقامة دولة إسرائيلية على أرض فلسطين، وفي دعم هذا الكيان بكل الوسائل لكسر شوكة الانتفاضة، وليس كل الغربيين عنصريين.. الخ.
وبهذه الرؤية العادلة، تتمّ محاصرة الدعاة إلى حتمية الصراع الحضاري بين الطرفين.
ويجدر التنبيه إلى أن الدور الحضاري المنشود للعقول المسلمة المهاجرة يحتاج -إلى جانب الكفاءات البشرية- إلى آليات ووسائل في مستوى التحديات المطروحة، ومن بينها الوسائل الإعلامية التقليدية (مثل الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزيون) والمعاصرة (مثل الإنترنت والفضائيات) ومراكز البحوث والدراسات، ودُور النشر. وإلى جانب قيامها بالأدوار المشار إليها أعلاه، يمكن أن تكون هذه المؤسسات محضناً لهذه الكفاءات، بتجميعها وتشجيعها على الانخراط في النهوض الحضاري، الذي تستفيد منه البشرية جمعاء.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) جاء في وثيقة عمل بعنوان\"عرض إحصائي لأوضاع التعليم العالي في العالم: 1980-1995 \" (ص10) نوقشت في المؤتمر العالمي للتعليم العالي بمنظمة اليونسكو بباريس 5-9 أكتوبر /تشرين الأول 1998م حول \"التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين، الرؤية والعمل\"، أنّ مستوى المشاركة في التعليم العالي في المناطق \"النامية\" التي تشمل حسب الوثيقة الدول العربية ومعها أمريكا اللاتينية والكاراييب يبلغ 1000 طالب لكل 100.000 من السكان، مقارنة بـ\"بلدان المرحلة الانتقالية \" التي تتألف من بلدان أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق (2602 من الطلبة لكل 100.000 من السكان )، والمناطق الأكثر تقدماً -أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق أسيا، حيث يبلغ المتوسط العام فيها 4110 طلبة لكل 100.000 من السكان.
([2]) المرجع نفسه، ص 28.
([3]) حسام شاكر: \"متطلبات أساسية للنهضة الحضارية\"، سلسلة رسائل الأمة 1، آفاق، الطبعة الأولى 1998م، ص 24.
([4]) مداخلة د. زكي بدوي في ندوة بعنوان \"الإسلام والإسلاموفوبيا\"، نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب فرنسا، يوم 11 /5/2001م بباريس.
([5]) د. محمد الغمقي: \"مصداقية الدعوة الغربية إلى النقد الذاتي داخل المسلمين\"، مجلّة رؤى، العدد13، خريف 2001م، ص43-44.
([6]) نفس المصدر.
=============
البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب
أ.د. عبد المجيد النجار
1- تمهيد:
هجرة الإنسان من موقع إلى موقع على وجه الأرض، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى ظاهرة فردية وجماعية عرفت في التاريخ القديم والحديث، وستظلّ ظاهرة سارية ما وُجد الإنسان؛ وذلك بما هي سنّة من سنن الاجتماع البشري، وقانون من قوانينه لا يتخلّف مهما تغايرت الأسباب وتعدّدت الدوافع، بل لعلّها بما هي ظاهرة مندرجة ضمن قانون كوني عامّ يتمثّل في الحركة الدائبة التي تشمل كلّ ما في الكون، فتنتقل بها الموجودات باطّراد من مواقعها حتى لتبدو أنّها على غير قرار ثابت.(9/288)
وبالنسبة إلى الإنسان ذي الإلف والحساسية، قد يبدو في هجرته الفردية أو الجماعية ضرب من المعاناة متمثّلة في آلام الفرقة ومشاكل الاغتراب، سواء بالنسبة إلى البيئة الطبيعية أو بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية، وهو ما حفلت بتصاويره وأوصافه آداب الشعوب وفنونها على مرّ الزمن، إلاّ أنّ الهجرة مع ذلك لعلّها تعتبر أحد العوامل الهامّة في التقدّم الإنساني العامّ، وفي التطوّر الحضاري بمختلف وجوهه؛ ذلك أنّها تمثّل عاملاً مهمّاً من عوامل التلاقح الفكري بين الناس، وسبيلاً من سبل تفاعل الخبرات والتجارب بينهم، وهو أحد أهمّ أسباب النموّ في الحضارة الإنسانية بوجه عامّ.
وللهجرة في التاريخ الإسلامي معنى خاصّ وآثار متميّزة، بحيث اتّخذت فيه وضعاً لم يكن لها في أيّ دين أو مذهب آخر، فقد جاءت النصوص الدينية تبارك الهجرة في سبيل الدين، وتحثّ عليها، وتعتبرها إحدى وسائل النضال من أجله، والجهاد في سبيله، ومن ذلك قوله تعالى: (( قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97)، وكانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة عاملاً حاسماً في انتصار الإسلام ورسوخ قدمه، كما كانت بعد ذلك هجرات المسلمين إلى أصقاع الأرض سبباً في انتشاره بين الناس، وسبباً في تلاقح حضاري اعتبر أحد الأسباب المهمّة في نشأة الحضارة الغربية الراهنة.
ومن هذا الوضع المتميّز للهجرة في الإسلام وتاريخه أصبح في المخزون الثقافي للمسلمين ما يمكن أن يسمّى بثقافة الهجرة، وهي ثقافة أصبح بها المسلم يعتبر أنّ الهجرة لئن كان فيها من الشدّة والمعاناة ما يلقاه عموم الناس منها إلاّ أنّها بالنسبة إليه تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الدين، وضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله، فاكتست بذلك في نفس المسلم بعداً رسالياً اختلفت به عن موقعها في نفوس غير المسلمين من سائر أهل المذاهب والأديان الأخرى.
وإذا كان هذا البعد الرسالي للهجرة المترسّب في ثقافة المسلم قد يخفت أحياناً في نفوس بعض الأفراد أو الجماعات في ظروف معيّنة، أو في أحقاب زمنية محدّدة، لسبب أو لآخر من الأسباب، إلاّ أنّ التأصّل العميق لثقافة الهجرة في النفسية الإسلامية يظلّ محافظاً على ذلك البعد الرسالي فيها مهما أتى عليه من عوامل الخفوت، وهو ما يبدو فيما يلحظ من استفاقة ذلك البعد وفعاليته بأقلّ جهود تبذل في إحيائه واستنهاضه، وذلك ما يعتبر رصيداً بالغ الأهمّية من أرصدة الدعوة التي يمكن استثمارها في سبيل التعريف بالإسلام ونشره بين الناس.
وقد شهد نصف القرن الأخير هجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى العالم الغربي لأسباب متعدّدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أصبح عدد المهاجرين فيه يعدّ بالملايين، ولئن كان البعد الرسالي في هذه الهجرة خافتاً عند أكثر المهاجرين، لأسباب يعود بعضها إليهم متعلّقة بضعف وعيهم الثقافي العامّ، ويعود بعضها إلى المناخ الحضاري الذي هاجروا إليه متمثّلة في السطوة الحضارية الغالبة في الحضارة الغربية، إلاّ أنّ التطوّرات التي حدثت في نوعية المسلمين المهاجرين وفي مجمل الوجود الإسلامي بالديار الغربية، مضافاً إليه ذلك الرصيد من البعد الرسالي المخزون مستكنّاً في النفسية الإسلامية يمكن أن يكونا عاملين مهمّين من العوامل التي يمكن استثمارها في الدفع بالهجرة الإسلامية إلى الديار الغربية إلى آفاق رسالية واسعة يمكن أن تكون لها آثار نوعية في الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الإطار يتنزّل ما يثار اليوم من حجاج واسع في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى الديار الغربية، فقد كثرت حول هذه الهجرة التساؤلات فيما إذا كانت تمثّل عاملاً سلبياً بالنسبة إلى المسلمين يضعف من أسباب نهضتهم وتقدّمهم، أو هي تنطوي على عناصر من القوّة بالنسبة لمجمل الوضع الإسلامي العامّ في جانبه الدعوي على وجه الخصوص، وكيف يمكن لتلك العناصر، من القوّة، إذا ثبتت أن تفعّل لتحدث آثارها المطلوبة فيربو ما تنطوي عليه من خير على ما يمكن أن تكون منطوية عليه من ضرر؟
وسنحاول فيما يلي المشاركة في الإجابة على هذه التساؤلات، متّخذين منطلقاً لهذه المشاركة ما رسمناه آنفاً من إطار لموقع الهجرة في الثقافة الإسلامية، وما ينطوي عليه ذلك الموقع من بعد رسالي أثبتته النصوص الدينية عقدياً، ورسّخته التجربة التاريخية على مدى زمن طويل، فهل في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى ديار الغرب ما يمكن أن يعتبر خيراً للإسلام والمسلمين، أم هي ظاهرة سلبية محض؟ وإذا كانت تنطوي على خير ففيم تبدو عناصر ذلك الخير؟ وكيف يمكن تفعيلها لتؤتي ثمارها في خدمة الإسلام والمسلمين؟
2- هجرة العقول المسلمة بين السلب والإيجاب:
منذ بعض العقود تكثّفت هجرة أعداد كبيرة من العلماء والمفكّرين المسلمين من بلادهم بالمشرق إلى أوروبا وأمريكا حتى أصبح عددهم اليوم يقدّر بعشرات الآلآف إن لم يكن بالمئات، ومنهم من بلغ في الريادة العلمية الدرجة الأولى من بين علماء العالم ومفكّريه، وهم يساهمون إسهاماً فاعلاً في تقدّم الحركة الحضارية في جميع وجوهها. وبقطع النظر عن الأسباب التي أدّت إلى تفشّي هذه الظاهرة وتناميها بمرور الزمن، والتي ليس هذا محلّ بحثها، فإنّها ظاهرة ذات تأثير بالغ على كلّ من طرفي البلاد، المهاجر منها والمهاجر إليها، على حدّ سواء، إلاّ أنّه تأثير يختلف في طبيعته بعض الاختلاف بين الطرفين.
أمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر إليها، فإنّ هذه العقول المهاجرة تعتبر رصيداً إضافياً في مجال الريادة العلمية والفكرية، تساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي، وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، وهو أمر مشهود به من قبل أهل تلك البلاد أنفسهم، كما يدلّ عليه حصول بعض العلماء المسلمين المهاجرين على جائزة نوبل، وهي الشهادة العالمية العليا على الريادة والعطاء في المناشط العلمية على اختلافها.
وأمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر منها، فإنّ تأثير هجرة العقول يبدو في طرفه القريب تأثيراً سلبياً عليها، إذ هجرة العقول منها يعتبر نقصاناً من رصيدها الذي به تتحرّك نحو نهضتها، وذلك بما ينقص بتلك الهجرة من إمكانيات الابتكارات والكشوف العلمية والفكرية التي من شأنها أن تطوّر الحياة وتنمّيها، وإن كان بعض الباحثين يشكّك في أن يكون لتلك العقول المهاجرة تأثير إيجابي في البلاد التي هاجرت منها فيما لو بقيت فيها، إذ هي حينئذ سيكون مآلها الانكماش والعطالة كالعقول التي لم تهاجر، وذلك بحسبان أنّ المناخ العامّ في تلك البلاد غير مساعد على الانطلاق في سبيل الريادة والابتكار والعطاء، وهو ما كان أحد أسباب هجرتها إلى بلاد يتوفّر فيها ذلك المناخ.
ولكن قد نظفر بنتائج أخرى لظاهرة هجرة العقول الإسلامية مخالفة للنتائج الآنفة البيان لو وسّعنا زاوية النظر إليها، بحيث تتجاوز في التقدير حدود الربح والخسارة، بميزان التنمية المادّية، لتمتدّ إلى مساحات تشمل مستقبل الدعوة الإسلامية فيما يمكن أن يكون لها من انتشار بتلك الهجرة في ديار الغرب من شأنه أن يثمر من النتائج ما يعود بنفع حضاري عامّ، مادّي ومعنوي، لكلّ من طرفي الهجرة، المهاجر منه والمهاجر إليه، على حدّ سواء، ونحن نعني هنا ما أشرنا إليه آنفاً من البعد الرسالي في هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب.(9/289)
إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي من صميم الأمّة فيما ترسّب في مخزونها الثقافي من بعد رسالي ظلّ ثابتاً فيه مهما أتت عليه من أحوال النشاط والخفوت، بل إنّ هذه العقول بما هي من صفوة الأمّة في قدراتها العقلية وفي درجاتها العلمية وفي مستوياتها الفكرية لعلّ ذلك البعد الرسالي المترسّب في ثقافتها يكون أقوى عندها منه عند غيرها من سائر أفراد الأمّة وجماعاتها، وهي قوّة ربّما ظهرت عند بعضهم في حال نشاط فاعل، وربّما كانت عند بعضهم الآخر في حال كمون، لكنّها لا تلبث عند الأكثرين منهم أن تنهض إلى حال النشاط إذا توفّرت لها العوامل المناسبة.
وإذا ما استُنهض هذا البعد الرسالي في العقول الإسلامية المهاجرة ليصبح نشيطاً فاعلاً فإنّه سيمتدّ بالدعوة الإسلامية بما تتضمّنه من قيم إيمانية وخُلقية واجتماعية إلى بلاد المهجر الغربي، وستتكوّن من ذلك حركة تفاعل حضارية بالغة الأهمّية تتلاقح فيها تلك القيم الإسلامية ذات البعد الإنساني بما يتوفّر عليه الغرب من كسوب العلوم الكونية والأنظمة الإدارية، وتكون تلك العقول المهاجرة واسطة تبليغ إيجابي تنقل الحسنات من كلّ طرف إلى الآخر، فإذا التقدّم المادّي بالبلاد الغربية يتعزّز بالقيم الإسلامية في أبعادها الإنسانية، وإذا بتلك القيم عند المسلمين تتعزّز بكسوب الغرب من العلم الكوني وأنظمة الإدارة، وإذا بذلك كلّه يفضي إلى مدخل مهمّ من مداخل التلاقح الحضاري الذي يبلّغ فيه خير الإسلام إلى الناس، ويستفيد فيه المسلمون ممّا عند هؤلاء الناس.
يتبيّن إذن أنّ ظاهرة هجرة العقول المسلمة إلى الغرب هي ظاهرة تنطوي من مكوّنات الخير والمنفعة للأمّة الإسلامية وللإنسانية عامّة على ما يمكن أن يذهب بما قدّر فيها من الوجوه السلبية، ممّا أشرنا إليه آنفاً، وذلك حينما ينظر إليها من زاوية أرحب تجعل البعد الرسالي وما ينجرّ عنه من تفاعل حضاري مثمر المحور الأساس في التقدير، والمحور الأساس في معالجة هذه الظاهرة وتوجيهها.
وحينما يكون النظر إلى هجرة العقول المسلمة على النحو الذي وصفنا فإنّ ما يثور اليوم في محافل الحجاج في هذه القضية من لجاجة تنحو في تيّارها العامّ منحى تشاؤمياً، جرّاء الاقتصار في تقدير الظاهرة على جوانبها السلبية، يمكن أن ينعدل بما يتّجه إليه البحث فيها من تقدير شامل تكون تلك الجوانب عنصراً من عناصره فحسب، وتكون الجوانب الإيجابية متمحورة على البعد الرسالي فيها، العنصر الأكبر في ذلك التقدير، فيحظى بمزيد من البحث والتحليل والتوجيه، وذلك ما يستلزم بالأخصّ البحث العميق في ثلاثة من جوانب ذلك العنصر: محتوى البعد الرسالي في ظاهرة هجرة العقول المسلمة، والمؤهّلات الرسالية في ذلك البعد، وسبل استنهاضه ودفعه للفاعلية والعطاء.
3- محتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة:
الإسلام دين عالمي، على معنى أنّه موجّه للناس كافّة، والمسلمون جماعة مكلّفون بتبليغه في كلّ زمان ومكان، وكلّ فرد من أفراد المسلمين مكلّف أيضاً بهذا التبليغ على قدر طاقته، وهو مدلول قوله تعالى: ((قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى)) (يوسف:108)، وكلّما توفّرت إمكانيات التبليغ المادّية والمعنوية بأقدار أكبر أصبح واجب الدعوة آكد وأثقل، سواء بالنسبة إلى مجموع الأمّة أو بالنسبة إلى أفراد المسلمين على حدّ سواء.
والمسلمون في مقابل ذلك التبليغ وفي سبيل إتقانه وإحسانه أيضاً مدعوّون بحكم الدين إلى أن يتحرّوا الحقّ أينما كان، وأن يأخذوا به ويتّبعوه ويعملوا وفقه.. وإذا كان الحقّ في شرح أحوال الوجود وفي توجيه الحياة يجدونه في دينهم تامّاً غير منقوص، فإنّه في الشؤون الكونية المادّية، وفي الشؤون التقنية والإدارية المدبّرة للحياة، قد يجدونه في الكسب الإنساني العامّ، فيكونون مدعوّين ديناً إلى أن يطلبوه من ذلك الكسب، وفقاً في ذلك للمأثور الإسلامي من أنّ «الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها»([1]).. وقد كانت التجربة الحضارية الإسلامية في ذلك تجربة ثريّة غنية، حيث استفاد المسلمون في بناء حضارتهم استفادة كبيرة من حضارات الأوائل وعلومهم الكونية كما هو معلوم.
من هذا المنطلق ذي الوجهين: عالمية الدين المقتضية للتبليغ، وواجب الاستفادة من الحقّ الذي يتضمّنه الكسب الإنساني العامّ، يمكن أن ترتسم الملامح الأساسية لمحتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب، إذ يكون هو أيضاً محتوى ذا اتّجاهين متكاملين: ينحو في الأوّل منحى العطاء بتبليغ الإسلام إلى أهل الغرب، وينحو في الثاني منحى طلب الحقيقة من كسوبهم العلمية الكونية والتقنية والإدارية لإفادة الإسلام والمسلمين بها، فتكون إذن رسالة مزدوجة النفع: عطاء لما هو موجود من حقائق الإسلام وقيمه، وأخذ لما هو مفقود من حقائق العلم الكوني والتقني والإداري.
أ- رسالة التبليغ:
تعني هذه الرسالة تبليغ الدين لأهل الغرب، وهو تبليغ لرسالة إيمانية حضارية شاملة، تتعلّق بالمعتقد المفسّر للوجود وللكون وللحياة، كما تتعلّق بالقيم الخُلقية والإنسانية العامّة، وبالقوانين المنظّمة للحياة في جميع وجوهها، توخّياً في ذلك كلّه لسبل مختلفة متعدّدة، تلتقي جميعها عند الحسنى في طريقة التبليغ، وتفترق بعد ذلك من حيث الكيفية، بحسب أحوال المخاطبين بالدعوة، وبحسب الظروف المحيطة بها.
والعقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي عقول تنتمي إلى الإسلام وأهله، معتقداً وحضارة وتاريخاً، وهي وإن كان بعضها لا يلتزم بالإسلام التزام دعوة وتبليغ أو التزام تطبيق شامل لمقتضياته، فإنّها جميعها أو معظمها تحمل رؤيته العقدية الفلسفية المفسّرة للوجود، كما تحمل قيمه الإنسانية والحضارية العامّة، وهي لذلك تعتبر بهجرتها إلى ديار الغرب نقلة لأنموذج ثقافي حضاري من مناخه الإسلامي إلى مناخ غربي ذي ثقافة وحضارة مغايرة، وذلك ما يوفّر فرصة لدور رسالي يمكن أن تقوم به هذه العقول في مهجرها الجديد. ويتمثّل هذا الدور الرسالي بمجمله في تبليغ الإسلام إلى أهل الغرب تبليغاً يشمل جوانبه المختلفة، ويتمّ بأساليب متنوّعة بحسب المقامات والأوضاع.
ومن هذا التبليغ تبليغ عقدي، يتمثّل في عرض دعوي للإسلام في تفسيره للوجود وفي تنظيمه للحياة، وفق ما تسمح به الظروف والمقامات، وذلك على اعتبار أنّه رؤية أخرى غير الرؤية السائدة عند الناس في بلاد الغرب، وعلى اعتبار أنّ تلك الرؤية تحمل من الحقّ والخير للإنسانيّة ما تكون به حلاًّ لما تعانيه من المشاكل المختلفة الوجوه، بحيث تكتسب في عقول المخاطبين مصداقية تجعلها جديرة بالاهتمام والنظر والتأمّل. وهذا الضرب من التبليغ ينحو المنحى النظري، وساحته في الغالب هي ساحة الحوار الفكري والتدافع الفلسفي بين المفاهيم والنظريات والمذاهب.
ومنه تبليغ قيمي، يتمثّل في عرض دعوي أيضاً للقيم الإسلامية ذات الطابع الخُلقي والإنساني منها على وجه الخصوص، وهو عرض لمنظومة من القيم المتكاملة التي تحدّد المبادئ الكبرى الحاكمة للعلاقات بين بني الإنسان سواء على المستوى الإنسانيّ العامّ، أو على مستوى الجماعات والفرق، أو على مستوى الأسر، أو على مستوى الأفراد.(9/290)
وإذا كان هذا التبليغ القيمي يمكن أن يكون عرضاً نظرياً حوارياً، فإنّ الجانب الأهمّ فيه هو العرض الفعلي العملي متمثّلاً في التحلّي بتلك القيم في التعامل مع الآخرين على جميع مستويات التعامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً، بحيث تقدّم تلك المنظومة القيمية للناس أنموذجاً عملياً يعيشها أهل الغرب واقعاً في تعاملهم مع العقول المهاجرة، ويشاهدونها أنموذجاً تطبيقياً في حياتهم.
ومنه تبليغ حضاري تعميري، يتمثّل في عرض الأنموذج الإسلامي من جهة التعمير في الأرض، وذلك فيما يتعلّق على سبيل المثال بالاهتمام بالعلم الكوني والجدّ فيه بالبحث والابتكار، والاهتمام بالتكنولوجيا والجدّ فيها بالاختراعات والتصنيع، والعناية بالعمل كلّه والإتقان فيه، والإحسان في التعامل البيئي في كلّ اتّجاهاته ومستوياته، والإنتاج الفنّي المميّز في المجال المعماري خصوصاً وفي غيره من المجالات عموماً، والنحو في ذلك كلّه نحواً ثقافياً إسلامياً يبدو في مختلف تلك التصرّفات، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يرتبط في ذهن المتعامل معها والراصد لها ظاهرها المشهود بخلفيتها المرجعية الثقافية الإسلامية.
ومن البيّن أنّ هذا العرض الدعوي الحضاري هو بالأساس عرض عملي تطبيقي، وإن كان فيه من دورٍ للمناظرة والحوار فهو دور تابع للتطبيق والعمل.
ب- رسالة الانتفاع:
لا شكّ أنّ البلاد الغربية حقّقت أقداراً كبيرة من التقدّم في العلوم الكونية وتطبيقاتها التكنولوجية، وفي التنظيم الإداري والسياسي للحياة الاجتماعية.. والعقول الإسلامية المهاجرة، بما تنطوي عليه من قوّة، قادرة على أن تستوعب ذلك التقدّم بكفاءة عالية، بل هي قادرة على أن تساهم فيه بالإنتاج كما أثبتت ذلك التجربة الواقعية متمثّلة في تحقيق الكثير منها لإنجازات اختراعية معتبرة وصلت بها إلى أعلى مراتب الجوائز العالمية.
وبما أنّ هذه العقول المهاجرة، وإن كانت قد انتقلت من بلادها الإسلامية إلى البلاد الغربية، فإنّ ذلك لا يعني انبتاتها عن البلاد التي هاجرت منها، بل هي حتى وإن هاجرت الهجرة الدائمة فتكون بالمعنى السياسي منتمية إلى مهاجرها، فإنّها تبقى باعتبارها مسلمة منتمية إلى دائرة الأمّة الإسلامية، بالمعنى العقدي والثقافي والحضاري، وهذا الانتماء يقتضي منها أن تقوم بدور رسالي تجاه الأمّة التي تنتمي إليها، ولكنّه دور رسالي في اتّجاه معاكس للدور السابق، إذ هو يتّجه من بلاد المهجر نحو البلاد الإسلامية.
ويتمثّل هذا الدور في إفادة البلاد الإسلامية بما يتيسّر الإفادة به ممّا توصّلت إليه الحضارة الغربية من العلوم الكونية والاختراعات التقنية والنظم الإدارية، وذلك بنقل تلك المكاسب إلى المسلمين، وتيسير سبل استفادتهم منها، وإدخالها إلى حركة الحياة، ويمكن أن يشتمل هذا الدور على عدّة عناصر مختلفة ولكنّها متكاملة.
ومن تلك العناصر: تمثّل مكاسب الحضارة الغربية تمثّلاً صحيحاً، سواء تعلّق ذلك بالعلوم الكونية أو بالعلوم الإنسانية، بحيث تكون العقول المهاجرة مستوعبة لتلك المكاسب على حقيقتها كما هي عند أهلها دون تأويل لما يقبل منها التأويل، استيعاباً يشمل مفردات العلوم كما يشمل منازلها في الشبكة المعرفية العامّة، عمودياً في التاريخ، وأفقياً في المشهد المعرفي الشامل، فيكون علمهم فيها لا يقلّ عن علم مخترعيها بها، تحصيلاً للموجود المتراكم، ومتابعة للحادث الجديد، وذلك على نحو ما كان من صنيع الإمام الغزالي حينما درس، الفلسفة اليونانية فاستوعبها بدقّة فاقت أحياناً علم أهلها بها، كما يبدو فيما دوّنه في كتابه الشهير «مقاصد الفلاسفة».
ومنها تبيّن الخلفيات الثقافية والأسس المرجعية لكلّ ما يقع استيعابه من تلك العلوم، سواء ما كان منها كونياً أو تكنولوجياً أو إنسانياً، فإنّه لا شيء منها إلاّ وهو ناشئ في منشأ ثقافي فلسفي ذي صفات خاصّة، فيكون متأثّراً بذلك المنشأ، إن قليلاً أو كثيراً، وإن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون استيعاب العقول المهاجرة لتلك المكاسب العلمية استيعاباً لذاتها، واستيعاباً أيضاً لعللها وأسبابها، ومراجعها وموجّهاتها، وأهدافها ونهاياتها، بحيث يكون العلم بها غير مقتصر على صورها، وإنّما يكون شاملاً لأبعادها المختلفة، فنّية وثقافية وفلسفية، مهما بدا في بعضها من تمحّض فنّي مثل بعض العلوم الكونية والتكنولوجية.
ومنها العمل على نشر تلك المكاسب العلمية في أوساط الأمّة الإسلامية وترويجها فيها، وذلك بتيسير وصولها إليها في مؤلّفات توجّه بحيث تناسب أوضاعها، أو بالتعليم المباشر في مؤسّساتها حينما تسنح الفرصة لذلك، أو بمساعدة مؤسّساتها العلمية بأيّ وجه من وجوه المساعدة على الحصول عليها ونشرها ضمن برامجها، أو بمساعدة أبناء الأمّة من البعثات الدراسية العلمية على استيعاب أكبر الأقدار منها، أو بأيّ وجه آخر من الوجوه الميسّرة لانتقال تلك المكاسب العلمية المختلفة الوجوه إلى الأمّة الإسلامية.
ومنها تهيّئة المكاسب الحضارية الغربية في وجوهها التطبيقية، بحيث تتلاءم مع الوضع الثقافي للأمّة الإسلامية، وتسهم في تنميتها من خلال تلك الثقافة، لتنحو في وجهتها الحضارية وجهة متميّزة تتلافى فيها النواقص والمنزلقات التي وقعت فيها الحضارة الغربية، وتنسجم مع المقاصد التي يحدّدها دينها الذي هو منبع ثقافتها ومرشد مسيرتها، وذلك بما يكون من ملحظ في التعامل معها لمناشئها الثقافية ومرجعياتها الفلسفية التي تؤثّر فيها صياغة وغاية وتطبيقاً، فيفصل فيها ما هو حقائق مجرّدة عمّا هو مستصحبات ثقافية فلسفية، وتقدّم من قبل العقول المهاجرة للأمّة على هيئة من ذلك الفصل، وعلى تنبيهات إلى تلك المستصحبات، لتكون ملائمة لوضعها الثقافي ومقاصدها الدينية.
إنّ هذا المحتوى للبعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة، في طرفي الأخذ والعطاء، من شأنه أن يغيّر طبيعة تلك الهجرة من مجرّد حركة انتقال آلي تحوّلت به تلك العقول من ضفّة حضارية إلى أخرى، ومن نمط اجتماعي إلى آخر، عابرة ما بينهما من هوّة في سبيل تحقيق مآرب فردية ضيّقة، مثل العيش في رفاهية من الحياة، أو الاطمئنان بالأمن، أو إشباع الطموح العلمي، مع بقاء تلك الهوّة الفاصلة على حالها، إلى انتقال يحمل معه مخزوناً ثقافياً قيمياً حضارياً يبلّغه إلى أهل الغرب، ويشارك به في حركة الحوار الحضاري من أجل المصلحة الإنسانية العامّة.
ومن شأن ذلك أن يغيّر من طبيعة تلك الهجرة لتكون هجرة واصلة بين حضارتين، تحمل من كلّ منهما إلى الأخرى ما هي في حاجة إليه من الحقّ النظري والعملي، لينمو الخير فيها وتضيق مساحة القصور، فتضيق إذن تلك الهوّة الفاصلة، وتقترب الأمّة الإسلامية من أمم الغرب بما تقدّم إليهم من القيم الخُلقية والدينية، وبما تأخذ من الكسوب المادّية والإدارية، وفي ذلك خير الإنسانية، وفيه على وجه الخصوص خير الإسلام والمسلمين.. وإنّ العقول الإسلامية المهاجرة لمَؤهّلة للقيام بهذا الدور الرسالي في هجرتها.
4- مؤهّلات العقول المهاجرة للدور الرسالي:(9/291)
إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على مؤهّلات كثيرة للقيام في هجرتها بالدور الرسالي الذي شرحنا محتواه، سواء في طرف العطاء أو في طرف الأخذ، وهو ما يمكّنها من القيام بذلك الدور على وجه فاعل لو قدّرت تلك المؤهّلات التقدير الصحيح ثمّ استثمرت الاستثمار الأمثل ضمن خطّة متكاملة واعية. وتبدو تلك المؤهّلات في مؤهّلات ذاتية تتعلّق بإمكانيات تلك العقول وقدراتها، وفي مؤهّلات موضوعية تتعلّق بالوضع الذي هي عليه، والمناخ الثقافي والاجتماعي العامّ الذي تعيش فيه.
أ- المؤهّلات الذاتية :
لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة هي من صفوة عقول الأمّة في قدراتها الذاتية: ذكاء وقدرة على التحصيل والاستيعاب والتحليل، فأغلب تلك العقول ذهبت إلى الغرب ضمن بعثات علمية يُتخيّر فيها الأفضل فالأفضل من الخرّيجين، وكثير منها هاجر به طموحه إلى الأعلى في سلّم العلم، وهو ما يكون ناشئاً في الغالب عن استشعار لقدرات التحصيل المعرفي، وقد يكون هو بدوره منمّياً لتلك القدرات إلى أعلى المستويات، وبذلك يتوفّر في تلك العقول شرط أساس هو الكفاءة العقلية للقيام بالأدوار المهمّة مثل هذا الدور الرسالي الذي نحن بصدد الحديث عنه.
وقد تعزّزت في العقول المهاجرة تلك القدرات الذاتية بالمحصول العلمي الذي تحقّقت به خلال ممارستها العلمية في بلاد الغرب، إذ هي عقول في أغلبها ممارسة للعلم النظري أو التطبيقي، بالغة فيه درجات عالية، كما يتبيّن من حصول بعضها على أعلى الجوائز العالمية، وذلك ما يعتبر رصيداً مهمّاً في مؤهّلاتها الذاتية، حيث تفتح الحصيلة العلمية للعقل آفاقاً بعيدة في النظر، وتنقله من ضيق الذاتية، شخصيّة وعرقية وإقليمية، إلى رحابة الإنسانية في أبعادها المختلفة، إذ العلم على اختلاف فروعه هو إنتاج متراكم للإنسانية، فالتحقّق به يفتح الأبواب على أفق الإنسانية، ويكون معواناً على السعي في الحوار والتفاعل الإيجابي، نفعاً وانتفاعاً، وهو ما يقتضيه الدور الرسالي، كما تقدّم بيانه.
ومن المؤهّلات الذاتية لهذه العقول الإسلامية المهاجرة أيضاً: ما توفّرت عليه من اطّلاع واسع على الأوضاع الواقعية للعالم الغربي، في أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي بالإضافة إلى قدراتها العقلية ومحصولها العلمي الممكّنة من الاستنتاج النظري تمارس العيش في تلك الأوضاع، وتقف على مكوّناتها الظاهرة والخفيّة، وهو ما يمكّنها من فهم أعمق للواقع الغربي بفهم أسبابه وعوامله وخلفياته، إضافة إلى فهم ظواهره وأحداثه، وذلك أمر مهمّ في التعامل معه تعامل حوار فاعل مثمر.. ومن أهمّ المؤهّلات الرّسالية في أيّة علاقة دعوية فهم الواقع مناط الدعوة، الفهم الصحيح العميق.
ويضاف إلى تلك المؤهّلات الذاتية ما تتوفّر عليه العقول المهاجرة من تحقّق بالثقافة الإسلامية، إن لم يكن على مستوى الالتزام الفعلي فعلى مستوى الوجود بالقوّة، إذ هي عقول نشأت في أغلبها في بيئات إسلامية تشرّبت منها القيم العامّة التي تقوم عليها تلك الثقافة، فهي إن لم تكن ملتزمة بالفعل بثقافة أمّتها فإنّها تحمل استعداداً للالتزام بها. وإذا ما أُضيف ذلك التحقّق بالثقافة الإسلامية، فعلاً أو استعداداً، إلى الفهم العميق للواقع الثقافي الغربي حصل من هذا التحقّق المزدوج مؤهّل مهمّ للوساطة الحوارية بين الطرفين، ممّا يفضي إلى قدرة على القيام بالدور الرسالي الذي نحن بصدد بحثه.
بمجموع هذه المؤهّلات الذاتية للعقول المهاجرة، ما كان منها فطرياً وما كان مكتسباً بالسعي أو مكتسباً بالمناخ المعيش، يمكن أن تتمكّن هذه العقول من القيام بدور رسالي في هجرتها إلى البلاد الغربية، إذ هي بتلك المؤهّلات تكون منطوية على قابلية كبيرة للوعي بذلك الدور، وهو أولى المراحل اللازمة فيه، كما تكون بها قادرة على المضيّ في إنجازه حينما تستثار تلك المؤهّلات وتوظّف التوظيف الأمثل لأجل ذلك الإنجاز، خاصّة وأنّ تلك المؤهّلات الذاتية تجد لها تعزيزاً في مؤهّلات أخرى موضوعية من واقع المناخ الحضاري الذي تعيش فيه العقول المهاجرة.
ب- المؤهّلات الموضوعية:
بالإضافة إلى تلك المؤهّلات الذاتية المتحقّقة في العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدورها الرسالي، فإنّها تتوفّر أيضاً على مؤهّلات للقيام بهذا الدور من حيث البيئة الغربية التي هي مسرح وجودها ونشاطها.. فهذه البيئة بالرغم من كونها بيئة مغايرة في جذورها الفلسفية وفي تشكيلها الثقافي للرسالة الإسلامية إلى حدّ التعارض في كثير من العناصر، إلاّ أنّها تنطوي على جملة مهمّة من المعطيات المؤهّلة لدور رسالي تقوم به العقول الإسلامية المهاجرة، وذلك سواء بالنظر إلى المناخ الروحي النفسي الذي يسود تلك البيئة، أو بالنظر إلى الوسائل المتاحة للحوار والتبليغ.
فالمجتمع الغربي يعاني معاناة مضنية من الإرهاق المادّي جرّاء المذاهب الفلسفية المادّية التي صاغت حياته فأفضت به إلى فقر روحي مدقع، ظهر في مستوى المشاعر الفردية وفي مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية على حدّ سواء، وأفضى إلى جملة من المشاكل النفسية والاجتماعية من مثل الاكتئاب والإجرام والمخدّرات والاضطراب الأسري.
وبما أنّ هذا الوضع نشأ من خلل في الفلسفة التي بنيت عليها الحياة، إذ هي فلسفة تعتدي على الفطرة الإنسانية ذات البعدين المادّي والروحي، بإفراطها في الأوّل وإجحافها في حقّ الثاني، فقد ظهرت بوادر كثيرة فردية وجماعية تعبّر عن الرّفض لهذا الاعتداء على الفطرة الإنسانية المزدوجة، وباتت تطلب تعديل الميزان بالبحث عن مذاهب ذات بعد روحي تجد فيها النفوس تحقيق أشواقها الروحية، وهو ما بدا في انتماء الكثيرين من أهل الغرب إلى أديان ونحل شرقية روحانية، وسقوط أخرى في ضروب من التهويمات والأساطير ذات الطابع الروحي، فما ذلك إلاّ تعبير عن الحاجة إلى مذهب جديد يحقّق الفطرة التي تعرّضت إلى الإجحاف.
ولو عرض الإسلام في هذا المناخ المتعطّش للروحانية عرضاً رشيداً لكان رسالة تتلقّاها نفوس أهل الغرب المرهقة بالمادّة لما تجد فيه من توازن تشبع فيه أشواق الروح وتلبّى مطالب الجسم، إذ هي مؤهّلة بحكم الوضع الذي آلت إليه لتلقّي تلك الرسالة.
وبما أنّ أهل الغرب بصفة عامّة قد قامت حياتهم على احترام العلم والعلماء، واحتلّ التميّز والرّيادة والمتميّزون والروّاد في سلّم قيمهم درجات عالية، فإنّ ذلك سيحدّد موقفهم النفسي والفكري من العقول الإسلامية المهاجرة، وقد اتّصفت في أكثرها بالتميّز والجدّية والريادة، لتحتلّ هذه العقول في نفوسهم وعقولهم مكانة عالية من الاحترام والتقدير لتميّزها وريادتها.
وحينما يمارس أصحاب هذه العقول مهمّة رسالية بما يبلّغون من قيم حضارية، تبليغاً قولياً أو فعلياً، وبما يرغبون فيه من الفوائد العلمية لتمثّلها أو تبليغها لمن وراءهم من أهل أوطانهم الأصلية، فإنّ ذلك يقوم مقام الاقتران الشرطي مع ما وقر في النفوس من الاحترام والتقدير، فتنفتح تلك النفوس للتفاعل الإيجابي، وتستعدّ للاستجابة بتقبّل الرسالة في اتّجاهي العطاء والأخذ، وهو ما يعتبر مؤهّلاً موضوعياً من المؤهّلات الرسالية للعقول المهاجرة.(9/292)
ويضاف إلى ذلك من المؤهّلات الموضوعية ما تتوفّر عليه الحياة في الغرب من المناخات الميسّرة للتواصل، ومن الوسائل المساعدة عليه. فالحرّية التي هي شرط أساس من شروط التبليغ قائمة السوق في تلك الديار بأقدار كبيرة، وهو ما يمكّن من استحداث مختلف القنوات التنظيمية والإجرائية للاتّصال بمختلف فصائل الناس، والتحاور معهم في مختلف الشؤون، وتبليغ الرسالة إليهم.. والوسائل التقنية الميسّرة للاتّصال، والمقرّبة للمسافات، والعابرة للحواجز، هي أيضاً سوقها قائمة، ممّا يمكّن من التعريف الواسع بما يراد التعريف به من القيم الثقافية والحضارية الإسلامية.. كما يمكّن أيضاً من يسر الحصول على المستجدّات من العلوم والمخترعات، وتبليغها في الإبّان، ليستفيد منها العالم الإسلامي الاستفادة المثلى.
وبإضافة هذه المؤهّلات إلى بعضها، الذاتية منها والموضوعية، يتبيّن أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على قدر من المؤهّلات للتبليغ الرسالي لا تتوفّر على كثير من عناصره العقول الإسلامية التي تعيش داخل العالم الإسلامي، وهو ما يقوّي من واجب الالتفات إلى هذه العقول، وتوجيهها إلى أن تقوم بدورها الرسالي الذي هيّأها القدر لتقوم به، وهيّأ شروطه ومستلزماته، لتتحوّل تلك الصورة السلبية لهجرة هذه العقول، باعتبارها نزيفاً من رصيد الأمّة لصالح غيرها، فيُرى منها أيضاً وجه آخر إيجابي، بل هو على قدر كبير من الإيجابية، وليقع العمل على تشخيص ذلك الوجه وتوضيحه، ثمّ على تفعيله ليصير نفعه واقعاً ملموساً، وليأخذ طريقه في الإثمار.
5- تفعيل البعد الرسالي لهجرة العقول المسلمة:
إذا كان في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب ذلك البعد الرسالي، وإذا كانت تلك العقول مؤهّلة على النحو الذي وصفنا للقيام بدور رسالي، فهل هي قائمة فعلاً بذلك الدور؟ وإذا لم تكن قائمة به فما السبيل إلى القيام به لتؤتي تلك الهجرة ثمرتها الإيجابية، وتعوّض ما خسرته الأمّة من تميّزها وريادتها بنزوحها عنها، وذلك بما تؤدّيه من عمل بعيد المدى في التفاعل الحضاري المنتج بين ديار الإسلام وديار الغرب؟
لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب قامت وتقوم ببعض الأعمال الرسالية منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن، وهو ما يتمثّل بالأخصّ في ذلك النشاط الدعوي الإسلامي الذي لا يخلو منه بلد من البلاد الغربية، مهما يكن قويّاً أو ضعيفاً، والذي تشارك فيه بعض العقول المهاجرة وإن لم تكن هي المحرّك الأساس فيه في بعض الأحوال.. كما يتمثّل في بعض ما يقام من الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وبين أهل الغرب، عبر بوادر فردية أو عن طريق مؤسّسات ثقافية فكرية.
ولكنّ ذلك كلّه لا يرقى إلى ما هو دور رسالي مأمول من هذه الهجرة للعقول الإسلامية، لا من حيث الحجم ولا من حيث الكيف، وهو ما يستلزم بذل جهود تفعيلية من أجل استنهاض تلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها العقول المهاجرة، وتوجيهها نحو القيام بالدور الرسالي على النحو الذي وصفنا آنفاً.
ولعلّ من أهمّ وسائل التفعيل الذي يمكن أن يثمر الثمرة المرجوّة ما يلي:
أ- استكشاف العقول المهاجرة وحصرها:
إذا كانت العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب معلومة في جملتها، وتتردّد إحصائيّات تقريبية في شأنها بين الحين والحين، فإنّ حقيقتها الكاملة غير محدّدة ولا معلومة، وهو ما يستلزم في سبيل تفعيل دورها الرسالي أن تُعلم أوّلاً بأكثر ما يمكن من وجوه العلم، وأن تتّضح صورتها الجملية والتفصيلية؛ وذلك لينطلق العمل التفعيلي من منطلق معلوم، ويمارس نشاطه على أرض بيّنة المعالم، وهو ما يندرج ضمن القاعدة الأساسية التي تفرض في سبيل الجدوى أن يكون تفعيل أيّ مادّة مبنياً على العلم بطبيعتها.
ويمكن أن يقوم بهذا العمل الإحصائي الممهّد للتفعيل رابطةٌ عالمية تتأسّس لهذا الغرض، فتجمع العقول المهاجرة في العالم الغربي، وتقيم لها فروعاً في المراكز الكبرى من ذلك العالم، ثمّ تقوم بعمل إحصائي شامل لتلك العقول على وجوه عدّة.
ومن تلك الوجوه الإحصائيّة: حصر أعداد هذه العقول بأكبر قدر ممكن، وحصر تنوّعها في توزّعها الجغرافي، وفي اختصاصاتها العلمية، وفي توجّهاتها الثقافية، وفي مكانتها الريادية، وفي مقاماتها الوظيفية، وفي استعداداتها المختلفة للعطاء، ليقع الانتهاء من كلّ ذلك إلى صورة متكاملة عن العقول الإسلامية المهاجرة من حيث ذات الأفراد بأكبر قدر ممكن، ومن حيث الهيئة الجماعية التي تتكوّن من أولئك الأفراد، فإذا خارطة العقول المهاجرة التي ستكون مسرح الحركة التفعيلية لدورها الرسالي واضحة المسالك، بيّنة المواقع.
ب- التوعية بالهدف الرسالي:
مهما يكن من وجود أعداد من العقول المهاجرة تتمثّل دورها الرسالي من هجرتها بمفهوم مّا من المفاهيم، فإنّ الأكثر منها ليست على وعي كاف بهذا الدور، أو ليست على أيّ وعي به أصلاً؛ فالذين هاجروا إلى الغرب من أصحاب هذه العقول كانت هجرتهم لأسباب أخرى غير السبب الرسالي، وقد أخذت هذه الأسباب معظمهم لتزجّ بهم في زحام مشاهد أخرى من مشاهد الحياة انشغلوا به فغفلوا عن المشهد الرسالي، وذلك ما يستدعي أن تقوم في أوساط هذه العقول المهاجرة حركة توعية بالبعد الرسالي في هجرتها ليكون ذلك أساساً للانطلاق في إحياء ذلك البعد وتفعيله.
وقد يسهّل هذه التوعية الرسالية ما أشرنا إليه آنفاً من بعد دعوي مستكنّ في ضمائر المسلمين عموماً وفي ضمائر النخبة المثقّفة منهم خصوصاً؛ فالخلفية الثقافية للمسلم تحمل معاني التفاعل بين المسلمين وبين بني الإنسان عامّة، في طرفي العطاء والأخذ لما هو حقّ وخير، وهو ما ترسّب في المخزون المرجعي للمسلم جرّاء تعاليم الدين وجرّاء مسيرة التاريخ، وخاصّة فيما يتعلّق بهما من أمر الهجرة وآدابها.
فهذا الرصيد المخزون سواء كان مشعوراً به أو غير مشعور، يمكن استثماره في حركة التوعية بالمهمّة الرسالية للهجرة في أوساط العقول المهاجرة، إذ من الميسور أن يُستدعى ذلك المخزون الثقافي، ويُستنهض في سبيل إحداث وعي عامّ في تلك العقول بأنّ هجرتها ينبغي أن تكون هجرة هادفة على غرار هجرة الأنبياء والمصلحين التي كانت غايتها، التي لا تعلو عليها غاية، تبليغ الخير للناس مهما يكن في طريق تلك الغاية العليا من غايات مرحلية.
ولعلّ من أهمّ ما يُستنهض به هذا المخزون الثقافي تعهّد مفهوم الانتماء للأمّة الإسلامية والولاء لها لدى العقول المهاجرة بالتجلية والتصحيح والتقوية، وذلك ليأخذ وضعه الحقيقي في المنظومة العقدية، حيث يحتلّ هذا العنصر فيها موقعاً أساسياً؛ فهذا المفهوم ربّما اعترته بعض الغشاوات عند بعض تلك العقول، وذلك بسبب بعد الشقّة بينها وبين أمّتها، أو بسبب انخراط بعضها في الولاء الوطني للبلاد التي تقيم فيها.
فتجلية هذا المفهوم وتقويته، وإزالة ما يمكن أن يكون اعتراه من اضطراب جرّاء مزاحمة الولاء الوطني له، وتبيين الحدود بين الطرفين من شأنه كلّه أن يهيّئ العقول المهاجرة للوعي العميق بالدور الرسالي الذي تقتضيه هجرتها إلى بلاد الغرب كأساس من أسس التفعيل لذلك الدور.
ج- البناء المؤسّسي:(9/293)
إنّ المهمّة الرسالية للعقول المهاجرة، كما شرحناها آنفاً، لا يمكن أن يقوم بها أفراد بصفاتهم الفردية؛ ذلك لأنّها مهمّة ذات طبيعة جماعية باعتبار أعبائها الثقيلة التي ينوء بها الأفراد، ولأنّها من جهة أخرى تمارس على مسرحٍ المنهجُ الغالب على الأعمال فيه هو المنهج الجماعي، والتفاعل بالاستجابة يتمّ فيه على مقتضى ذلك المنهج الغالب، وذلك كلّه يقتضي أن يكون تفعيل المهمّة الرسالية آخذاً بعين الاعتبار هذه الخاصّية الجماعية في طبيعة المهمّة وفي مسرح حركتها.
ومن أظهر المقتضيات في هذا الشأن العمل على بناء مؤسّسات متعدّدة المظاهر ومختلفة الأنواع تتحمّل القيام بهذه المهمّة الرسالية، وذلك من مثل المراكز البحثية، والمنظّمات العلمية، والجمعيات الدعوية، والمؤسّسات التعليمية، وما شابهها من التشكيلات الجماعية ذات الطبيعة المؤسّسية.
فهذه التشكيلات المؤسّسية ذات الطبيعة الجماعية تنخرط فيها العقول المهاجرة بحسب تخصّصاتها واهتماماتها لتكون محضناً للحوار في العمل الرسالي بوجوهه المتعدّدة، وفيها تضبط الخطط والمشاريع في هذا الشأن، ومنها ينطلق الأفراد في الممارسة العملية للمهمّة الرسالية.
إنّ هذه المحاضن المؤسّسية لمن شأنها أن تفعّل الدور الرسالي للعقول المهاجرة؛ إذ هي بالإضافة إلى كونها محضناً لتجميع الجهود وتوجيهها الوجهة الصحيحة، فهي تعتبر عاملاً من عوامل التحشيد النفسي والإرادي للعزم على تحمّل الرسالة الحضارية المنوطة بعهدة تلك العقول، كما تعتبر أيضاً عاملاً من عوامل الصيانة للولاء للأمّة والانتماء إليها، إذ هي صورة مصغّرة منها، والولاء للجزء مرحلة ممهّدة للولاء للكلّ.
كما تكتسب هذه المحاضن المؤسسية من المصداقية في عيون أهل الغرب وفي نفوسهم وعقولهم، وتكتسب من المكانة لديهم في مخاطبتهم والتعامل معهم ما لا تكتسبه العقول المهاجرة فرادى، وذلك من طبيعة ما بُني عليه المجتمع الغربي من القواعد في التعامل، فينبغي أخذه بعين الاعتبار في تفعيل الدور الرسالي لهجرة العقول.
د - التوجيه العملي:
إنّ ذلك المحتوى في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، كما بيّناه آنفاً، وتلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها للقيام بذلك الدور ليس من شأنها جميعاً أن تثمر الثمرة المرجوّة منها إذا ما وقع تفعيلها إلاّ إذا واكبها تفعيل للأساليب التي يقع بها القيام بذلك الدور في كلّ من اتّجاهي الأخذ والعطاء؛ ذلك لأنّ أساليب التبليغ هي من أكثر ما يجب فيها التفعيل لتطلّبها التعهّد بالتعديل والتغيير المستمرّين تناسباً مع تغيّر أحوال المتلقّين في طرائق تقبّلهم للخطاب واقتناعهم به واستفادتهم منه.
وقد كانت العقول المهاجرة، التي قامت ببعض من المهامّ الرسالية في مراحل سابقة، تعتمد في خطابها التبليغي لأهل الغرب على الأساليب ذاتها التي يمارس بها التبليغ في العالم الإسلامي، أو على ما هو شبيه بها، وكانت أيضاً تعتمد في خطابها للعالم الإسلامي بتجربتها في الهجرة على الخطاب الصوري الذي يكتفي بنقل مشاهد التجربة دون جهود توظيفيّة لها بما يناسب المخاطبين من المسلمين، وكلّ من هذا وذاك قد لا يكون ملائماً للدّور الرسالي المطلوب من هذه العقول في المرحلة المقبلة، وهو ما يستدعي تفعيلاً جديداً يتمثّل في توجيه المناشط الرسالية التي تقوم بها العقول المهاجرة توجيهاً عملياً.
والمقصود بالتوجيه العملي لتلك المناشط أن يتحرّى تبليغ المضمون الحضاري الإسلامي إلى الغرب، وكذلك المضمون الحضاري الغربي إلى المسلمين، منحى البيان العملي الذي يقدّم ذلك المضمون في الاتّجاهين بمواصفات واقعية مهيّأة للقبول بحسب ما تقتضيه الحاجة الواقعية في كلا الطرفين، وبحسب ما تستجيب له البنية الثقافية العامّة في مكوّناتها الفعلية في كلّ منهما.
إنّ أهل الغرب على وجه العموم بُنيت ثقافتهم بناءً عملياً واقعياً، وذلك جرّاء ما ترسّخ فيهم من نزعة ذرائعيّة زرعتها فيهم الفلسفة النفعية، ورعاها ونمّاها حبّ المتعة المادّية الذي طبع الحياة الغربية بصفة عامّة.. فبتلك النزعة أصبح أهل الغرب لا يتفاعلون على وجه العموم إلاّ مع الخطاب الذي يمسّ بصفة مباشرة حياتهم العملية، ويجعلهم ينتظرون من ورائه نفعاً ناجزاً يتمثّل في حلّ لمشكلة من مشاكل حياتهم الفردية أو الاجتماعية، أو في سبب من أسباب الرّفاه المادّي، أو في مسلك من مسالك الأمن النفسي أو الجماعي، وأمّا ما عدا ذلك ممّا طابعه نظري صوري بحت فإنّ التفاعل معه يكون محدوداً في كمّه من حيث عدد المتفاعلين، وفي كيفه من حيث درجة قبوله والاقتناع به.
واعتباراً لهذه النزعة العملية لدى أهل الغرب، فإنّ تفعيل الدور الرسالي للعقول المهاجرة إلى الغرب لا بدّ ليكون ناجعاً أن يوجّه الخطاب فيه هذه الوجهة العملية ليواطئ عقولاً تتقبّله وتقتنع به، إذ يلبّي مطلبها في تحقيق النفع العملي.
ويمكن أن يكون ذلك التفعيل العملي سالكاً أحد مسلكين:
المسلك الأوّل: أن يكون الخطاب الإسلامي سالكاً مسلك الأنموذج العملي، بحيث تظهر القيم الإسلامية، فردية وأسرية واجتماعية، في الممارسة العملية للحياة على اختلاف وجوهها، وخاصّة ما يتعلّق منها بما فيه علاقة مباشرة بالمجتمع، إذ ذلك هو الأظهر للعيان، والأقرب للملاحظة، وإن كان الشأن الشخصي أو الأسري ملحوظاً هو أيضاً للناس، قائماً لديهم مقام الشهادة المؤثّرة في النفوس، فهذا الضّرب من الخطاب العملي المجسّم للقيم الإسلامية الجماعية والفردية يعتبر حجّة بالغة التأثير في نفوس أهل الغرب وعقولهم، لما يرون فيها من حلول واقعية لبعض ما يعانون من المشاكل النفسية والأسرية الاجتماعية، فتسري إليهم القيم الدينية من خلالها، ويكون ذلك تهيئة لقبول ما بعدها من الحقائق الإيمانية العليا.
المسلك الثاني: أن يكون ذلك الخطاب سالكاً مسلك التهيئة العملية في بيانه للناس وشرحه لهم وتبليغه إليهم، على معنى أن ترتبط في ذلك الخطاب كلّ قيمة نظرية ببيان مغازيها العملية، وآثارها النفعية في الحياة مهما كانت درجتها من التجريد النظري، وأن تُبيّن الطرق والأساليب العملية التي يمكن بها أن تأخذ تلك القيم طريقها للتطبيق الواقعي المنتج لتلك المنفعة العملية، دون أن يُكتفى في التبليغ بالبيان النظري، المجرّد الذي قد يبقى في الأذهان ذات الثقافة العملية عصيّاً عن الفهم، أو غير مثير للاهتمام، فلا تتحرّك العقول لتقبّله واستيعابه والتكيّف به جرّاء تلك الثقافة العملية.
وكما يكون هذا التفعيل في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، بأسلوبيه، صالحاً في طرف العطاء من طرفي ذلك الدور، كما بيّنّا، فإنّه يكون صالحاً في طرف الانتفاع منه أيضاً.(9/294)
فحينما تعمد تلك العقول إلى نقل بعض القيم الحضارية والحقائق العلمية والتكنولوجية من البلاد الغربية إلى البلاد الإسلامية، فإنّ ذلك قد لا يكون فاعلاً إلاّ إذا وقعت صياغته صياغة عملية متمثّلة في إقامة نماذج عملية تجسّم تلك القيم كالمؤسّسات البحثية، والمنشآت الإدارية، والمشاريع الصناعية، التي تقوم جميعاً على قيم الدقّة والنظام والكفاءة الإدارية والمداولة الشورية وما إليها من القيم، ومتمثّلة أيضاً في تقديم بيانات وشروح لمكتسبات أهل الغرب من التحضّر موجّهة توجيهاً عملياً نفعياً بما يتلاءم مع الواقع الإسلامي ثقافياً واجتماعياً لتثمر فيه المنفعة العملية، إذ نقل تلك المكتسبات على الوجه الذي هي عليه في الغرب قد لا تحصل به منفعة في العالم الإسلامي، لاختلاف في المناخ بين الطرفين يفضي إلى اختلاف في أسلوب الانتفاع بينهما، فإذا لم يؤخذ ذلك بعين الاعتبار كان سبباً في تعطيل قسم مهمّ من الدور الرسالي للعقول المهاجرة.
----------
([1]) أخرجه الترمذي.
================
الخطاب المستقبلي للهجرة الإسلامية
د. محمد المستيري
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
(( لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) (النساء:95-100).
في فلسفة الهجرة القرآنية والتاريخية:
لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط في قوله: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً )) (الفرقان:30)، فالهجرة هي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين. من هنا يصبح المهاجر مرادفاً للمجاهد، والمعنى العكسي للقاعد والمتخاذل في أداء الرسالة، تصديقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ .. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ (أي جرح) يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ»([1]).
إن وصل الهجرة بالجهاد يتنزل ضمن فلسفة الإسلام لمسؤولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعاً وحمل أمانة القيمة وخلافة النبوة في الأرض. فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنزيل الدين. وقد يهاجر المرء مستضعفاً، ولكن لا يهاجر ضعيفاً؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتاً في المبدأ. لقد مثلت الهجرة دائماً نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أو سقوطها.
فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين، وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن، بمثل ما آلت إليه هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة، الذي أصبح له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقاً، أو هجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة القهرية للحبشة، التي قادت إلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام، أو كذلك هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، التي أرّخت لأول دولة ومجتمع إسلاميين، ولأصول العلاقات ضمنهما.
وليست أشكال الفتح الإسلامي المتعددة، التي رسخت انتشار الإسلام في أرجاء الأرض كلها سوى نمط من الهجرة الإسلامية، التي اقتضتها بداية نشر الدعوة ومرجعية الخاتمية لرسالتها ولزوم العموم في نشرها، حتى لا تنحصر في قومية وإثنية معينة.
لقد كان الخطاب الإسلامي يفيض دوافع وحوافز في اتجاه تعلم لغات الشعوب والاستفادة من علومها وحكمتها وتجربتها، ولَّد ذلك أنماطاً من الهجرة الثقافية والفكرية ساهمت في تأسيس المدارس الإسلامية في الفلسفة والكلام والتربية والعمران والطب والرياضيات وغيرها، وجعلت من هذا التاريخ منارة للبشرية على مدار الأزمنة التي تلته، وخاصة منذ أن دخل الإفرنج في الاستفادة من معارف المسلمين، من العصر الوسيط نحو عصر الأنوار وإلى زماننا المعاصر.
إن اكتشاف الرجل الأوروبي لأمريكا، وقبلها اكتشافه لعلوم وفلسفات وفنون العالم الإسلامي في الفترة الوسيطة، شكَّل بداية الهيمنة الغربية على مقدرات العالم. فالمجتمع الأمريكي المعاصر هو أنموذج حي للهجرة، لا يأبه كثيراً بالأصول بقدر ما يقوم الانتماء إليه على أساس الإنتاج. إنه انتصار لهجرة الأوروبيين الأولى، وإن كانت المنافسة السياسية والاقتصادية، هي التي تطبع العلاقة اليوم بين الأمريكيين والأوروبيين ضمن رغبة « الرجل الأبيض» في تقاسم النفوذ على العالم.
ولئن رافق تهجير السود نحو أوروبا، وخاصة أمريكا، جميع أشكال الاستعباد والقهر، إلا أنه تحول إلى هجرة إيجابية بعد كفاح طويل ومستمر من أجل إلغاء قوانين العبودية وفرض مبدأ المساواة العرقي، والنجاح في الارتقاء بصورة الرجل الأسود من القابلية للعبودية إلى القدرة الكاملة على الإنتاج الحر والمنافسة.
في هجرة الغرب الحديثة:(9/295)
تأسست أنماط الاكتساح الغربي على مقدرات الجنوب عامة والعالم الإسلامي خاصة، على فكرة الهجرة من خلال فرض استراتيجيات الاستعمار والتبعية وسلطة الصهيونية ونمطية العولمة. فاستوطن الغرب في العالم الإسلامي عبر مؤسساته الاستثمارية، وآلته العسكرية والمخابراتية، وأجهزته الإعلامية، ومراكز مراقبته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونجح بذلك في فرض نمط من الهجرة القهرية على العالم الإسلامي، وسيكون التحدي المستقبلي له مواجهة مطلب الشعوب في التحرر وفي حق الاعتراف بهويتها الجماعية، بكل ما يميزها من خصوصيات ثقافية ودينية. لقد هاجرت إلى العالم الإسلامي قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان وتحرير المرأة، ولكن هاجرت معها بنيتها الأساسية القائمة على تحرير المجتمع من قيمه الأصيلة، وتحرير السياسة من وحدة قرارها، وتحرير الاقتصاد من موازين الرقابة والعدل، وتجذير نسق العلمانية القطائعي في علاقة سلطة الدين بسلطة السياسة.
لقد مثلت فلسفة التغريب الثقافي والفكري منذ القرن التاسع عشر أساس هجرة النفوذ الغربي إلى العالم الإسلامي، وحاولت ترويج قيم التحضر الغربي المعاصر ضمن وهم صورة التعددية، غير أنه منذ بداية التسعينيات بدأت مقولة العولمة في وجهها الثقافي تكشف عن حقيقة نمطية «التعددية» الغربية. وبدت العولمة تستعيض عن التغريب، لتتجاوز فكرة ضرورة إلحاق العالم الإسلامي بالغرب، نحو الفكرة القائلة بحتمية وحدة النمط الذي يسود العالم، وحتمية أن تذاب جميع الخصوصيات الثقافية فيه، وهو منطق العولمة.
وليس هذا المنطق وليد التسعينيات، وإن كان مصطلح العولمة يؤرخ له بهذه الفترة، فهو المسكوت عنه في رؤية الغرب للعالم منذ أن بدأ هجرته الأولى نحو أمريكا سنة 1492م.
إن نمطية الهجرة الغربية إلى العالم الإسلامي من خلال فرض توجه أحادي في فهم الحداثة والتحضر يتأسس على مبدأي العلمانية والليبرالية، رغم تعارضهما مع كثير من مقومات المجتمع الإسلامي، إنما فشلت في تصدير قيم التعددية والحرية والتسامح وفرضت على نماذجها التي أقامتها في أنحاء من العالم الإسلامي مشروطية التبعية الكاملة، فحولت أنساقها وأنظمتها إلى نماذج من العنف المقنن. فليس العنف نتيجة لغياب الديموقراطية، كما يتوهم كثيرون، وإنما نتيجة عنف نمطية الديموقراطية التي حاولت الهجرة الغربية إخضاع العالم الإسلامي لها.
إن قيمة التعددية المشروطة بفلسفة تحرير الإنسان من سلطة الغيب والأخلاق إنما أنتجتها الحداثة الغربية لمجتمعاتها، ونجحت إلى حد كبير في ترويض هيئاتها المدنية الثقافية والأخلاقية وحتى الدينية على وتيرتها. إنه الدين المدني الجديد بتعبير «روسو» الذي حلَّ محل الدين السماوي، ولكنه دين استعصى إدماجه ضمن ثقافة مجتمعاتنا؛ لأنه كان مصادماً لهويتها، حيث لا انفصال بين الروحي والعقلاني، وبين السماوي والأرضي، فالقيمة وحدة مقدسة، ومن حرمات الوجود البشري.
إن مشروع التعددية الذي استهلكته مجتمعات الحداثة الغربية داخل مؤسساتها الديموقراطية هو غير مشروع التعددية الذي هاجر إلى العالم الإسلامي. فالتعددية الغربية المصدرة «لإنتاج» العالم الإسلامي تقصي عن ديموقراطيتها سلفاً أعداء الديموقراطية الغربية، أي من لا يخضع كلياً لمشروطية الحداثة مرجعاً ومنهجاً في التفكير ومن يتخذ من الهوية الإسلامية منطلقاً في الوجود أو التعبير.
لقد مثلت هجرة المسلمين إلى الأندلس العصر الذهبي للفكر الصوفي اليهودي والفلسفة اليهودية التي من أبرز أعلامها «ابن ميمون»، كما عرفت الفلسفة المسيحية أوجها من خلال مثال «توما الأكويني». واستطاع العصر الذهبي للإسلام أن يشع بعلومه ومعارفه على تاريخ التقدم البشري من خلال الأنوار والنهضة الصناعية والعلوم الحديثة. لم تكن قطبية الإبداع الإسلامي مهيمنة وقاهرة ونافية للاختلاف بمثل ما آلت إليه قطبية الحضارة الغربية المعاصرة. فبين هجرة «الفتح» المحررة للطاقات من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهجرة «التغريب» المكرِّسة لهيمنة الفكر المادي وسلطة الرجل الأبيض، يكمن الفارق المعياري الكبير بين حضارة الإسلام والغرب في تصور إنسانية الإنسان واحترام وجوده المختلف.
ففي حين يستند التصور الإسلامي إلى مبدأ أن الاختلاف أصل في الوجود: (( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ)) (الحجرات:13)، بل وحكمةٌ في علم الغيب: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)) (هود:118 )، ثم وفضلٌ في الارتقاء بالحياة الإنسانية: ((وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) (المطففين:26)، ينتهي أرقى التصور الغربي في إدارة الاختلاف إلى مبدأ التسامح، الذي لا يعني في جوهره إيماناً بوحدة الاختلاف، إنما تساهلاً ظرفياً ونسبياً في قبول وجود الطرف المخالف، على أساس قابلية هذا الطرف للانصهار ضمن الأنموذج الغربي الواحدي. فهو مبدأ هلامي وزئبقي يصعب تعيين حدوده، لا يرتقي إلى الاعتراف بهوية المخالف الفرد فضلاً عن الاعتراف بهوية الجماعة المخالفة.
إن هجرة الهيمنة والاكتساح، التي رسخها الغرب في علاقته بالحضارات والأمم التي رافقت نهضته الحديثة، صنعت فاصلاً وبوناً شاسعاً بين العالم الأوروأمريكي، الذي لا يتجاوز سكنياً عشرين بالمائة وينفرد بأكثر من ثمانين بالمائة من مدخرات العالم، وبين عالم الجنوب الذي يرزح تحت ويلات الفقر والظلم والمديونية.
لقد استهلكت أمريكا لوحدها من مدخرات الأرض خلال القرن الذي مضى ما يعادل ما استهلكته البشرية طيلة تاريخها الطويل. لقد قوض الغرب من إيجابية ماهية هجرة القوي نحو الضعيف، وأقام نسقاً من العلاقة احتكارياً شاملاً تحت نظام العولمة، بسط فيه نفوذه على جميع سلط القرار التي تضمن له الانفراد بالقوة. فلم تعد الهيمنة الاقتصادية ولا السياسية ولا الثقافية بكافية لضمان شمولية هذا النفوذ، بل تدخل المُعْطى المعلوماتي والإعلامي، الذي بوساطته يُصنع الرأي العام المحدد في توجيه الشعوب كما في اتخاذ القرارات. فأوروبا وأمريكا تنفردان لوحدهما بحوالي 85 % من مدخرات البنوك المعلوماتية الدولية، في حين لا يملك العالم الثالث بأكمله أكثر من 1 %. ثم إن «جايت» «وموردوش» و«تورنر» «وكونراد» و«لجارديار»، من أقطاب رؤوس الأموال الغربية في الاتصال، يحتكرون مجمل دور النشر الكبرى ودور الإذاعة والتلفزيون العالمية. ومن يملك المعلومات وسبل الاتصال السريع إنما يملك مفاتيح تغيير العقول وتوجيه الأذواق بل وتربية الأجيال.
في النمط الجديد للهجرة نحو الغرب:
إن الاختلال الكامل في التوازن بين عالم الجنوب والشمال أعطى لهجرة الجنوب نحو الشمال صورة دونية، دافعها الأساس ليس البحث عن الحقيقة بقدر ما هو البحث عن خلاص معيشي من خطر البطالة والفقر والجوع الذي يتهدد أهلها.(9/296)
إن صورة الهجرة الإسلامية لدى الإعلام والرأي العام الدولي يغلب عليها معنى هجرة الهامش من اليد العاملة غير المتخصصة، والكوادر العاطلة، والعقول الحرة المهجرة اليائسة. وهي صورة تقترب من حقيقة الحال ولكنها تندرج ضمن خطة الغرب في التحجيم من القيمة المستقبلية للهجرة الإسلامية، وتحويل وجهتها الاستراتيجية البنائية والتوطينية نحو إدارة أزمات الوجود اليومي في الغرب، داخل دوامة الاعتراف وضمان الشغل والسكن والأمن تجاه أخطار الاتجاهات النازية الحديثة المتنامية. إن الغرب وهو يعمق مصاعب إمكانات الوجود الاستراتيجي الفاعل للمسلمين في دياره، رغم شعاراته التمويهية عن الاندماج والمواطنة المتعددة الثقافات، التي يخدم بها غاياته الانتخابية المؤقتة وغاياته الاقتصادية الدائمة، إنما يزيد في ترسيخ سياسات هجرته العولمية المهيمنة على أوطاننا.
إن الغرب يدرك القيمة الحضارية للهجرة، وحتمية أن تنهض أمة الإسلام من جديد بطريق الهجرة، من خلال دراستها ونقدها لتجربته وتهيئتها للمخزون الروحي والثقافي والحضاري لعالم الإسلام، وهو منهج الاستيعاب والتجاوز الإسلامي، الذي لا يتبنى الثورة ولا المسايرة، وإنما الإصلاح البناء المتوكل على الله في كل أمره: ((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ)) (هود:88).
وكثيراً ما ترفع عناوين الحوار الحضاري والتقارب بين الشعوب وعولمة الثقافة ليست لغايات تحرير الأمم المغلوبة من قبضة الغرب الغالب، إنما لتعميق صهر إراداتها ضمن نمطية الغرب، وشل قواها عن الإبداع. فهو منهج يقوم على امتصاص طاقات المقاومة لتيار التغريب داخل الأمم المغلوبة وإفراغ مخيلتها ومخزونها الثقافي من الإيمان بذاتها والاعتزاز بهويتها ومقوماتها الحضارية.
إن ظاهرة تنامي مجتمعات الهجرة والتعدد العرقي والديني تسير ضد تيار نمطية العولمة، التي عملت على طمس الهويات الجمعية وإذابتها ضمن الهوية الغربية الواحدة ادعاءً بنهاية زمن الأمم وبداية وحدة الهوية العالمية تحت خيمة رأس المال وسلطة اقتصاد السوق. ليست هذه الظاهرة إذاً نتيجة إرادية ومدروسة، لا من قبل الغرب ولا من قبل باقي الأمم والثقافات المعاصرة. ولا تعبر هذه الظاهرة عن وحدة مجتمعية أو أنموذج في التعددية الثقافية، إنما هي عبارة عن تداخل وتراكم عرقي وثقافي فرضه تطور الحاجة إلى التبادل بين الأمم، حاجة إلى التوسع وبسط النفوذ من جهة الغرب، وحاجة إلى اللجوء إلى الأمن والكفاف من جهة باقي شعوب العالم.
إن غياب الفكرة الموجهة أو القادرة على استيعاب هذه الظاهرة وتحويلها إلى أنموذج في الاعتراف بالهويات الجماعية الأقلية، أمام مصادمة الغرب لهذا المطلب الجديد الذي يعم أرجاء العالم وليس عالمه فحسب، يجعل منها ظاهرة حساسة قابلة للاستعمال المصلحي من الغرب أو التصدع في مواجهة أبسط الاختبارات في تقنين التعايش بين الجماعات المختلفة.
فعلى الرغم من أن تطور الهجرة الفردية إلى الغرب نحو تشكل وحدات جماعية عرقية وثقافية بل وحتى دينية، يمثل إكراهاً جديداً وتحدياً خطيراً على الحداثة الغربية الأحادية، غير أن طبيعتها القهرية غير الإرادية تجعلها سهلة الاستعمال من الغرب ذاته، لحجب نمطيته وتنميق صورته التعددية في العالم، التي باسمها وباسم وحدة شعوب العالم يستزيد ويضاعف من إمكاناته على التحكم في مقدرات العالم. كما أنه ليس من قبيل المفارقة أن يرافق هذا التنامي لمطلب الاعتراف بالهجرة الجماعية تنامي في ظاهرة التطهير العرقي والديني، أو نزعات الاستعلاء العنصري سواء داخل الغرب أو خارجه.
فتعدد الهويات الجماعية ليس وليد تطور فكري، وبلوغ نضج إنساني، وقد يكون أحياناً من مصلحة الغرب ذاته تغذية انحرافاته وتفجراته لتيسير ترويج أسلحته وتجربة نجاعتها، أو للبرهنة على ضرورة الالتفاف حوله لإنقاذ مصير العالم من الدمار. ثم إن الفراغ الكبير في التداول الفكري لقضية الاعتراف بالهوية الجماعية للهجرة بين المؤمنين بها لا يساعد في بلورة المناهج والنظريات المستقبلية البديلة عن نظم الحداثة المعرفية والمؤسسية الغربية العاجزة عن استيعاب مثل هذا التطور في نمط الهجرة.
«إن نمط التعايش السلمي في أزمة»([2])، هكذا عبر الفيلسوف الأمريكي «فالزير» عن مخاوف المفكر الغربي تجاه مستقبل مبدأ التسامح بين الشعوب الذي تعتبره الحداثة الغربية «الإطار الأنسب لنمو التعددية الدينية والعرقية»([3]).. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة سيكون – كما يرى الفيلسوف الإنجليزي لوك - مجتمع الاعتراف بالفرد فقط، فما هو فردي هو إنساني. والعالم سيكون تجمعاً للغرباء، حيث لا هوية حتى للفرد، حسب استشراف الفيلسوف وعالم السياسة الكندي «تايلور»([4]).
لا نتصور في واقع الأمر أن هناك أزمة في التعايش بين الشعوب ومؤسسات مجتمعاتها المدنية، فموجات مناهضة تغول أجهزة عولمة السوق من أجل كبح جماح أولوية الرأسمال الاقتصادي على الرأسمال البشري، تحمل إجماعاً داخل الشعوب يتخطى جميع الفوارق المرجعية الثقافية والدينية. إن أنظمة الربح التي تقود مصير العالم اليوم هي التي تواجه مأزقاً حقيقياً في قبول تطور المجتمعات الإنسانية من مجتمعات الهوية القومية الواحدة إلى مجتمعات الهوية المتعددة الثقافات، هوية مجتمعات الهجرة المتنامية داخل الغرب وفي أرجاء كثيرة أخرى من العالم.
إن غاية أنظمة العولمة من وراء خرق الحدود والتحجيم من المسافات والتسهيل في الاتصال لم تكن وحدة الشعوب والتقريب بين مطالبها والاتساق في طموحاتها، إنما عكس ذلك تماماً. فالرأسمال البشري كان وما يزال أداة لتحقيق الربح المادي وليس غاية ولا معيارية في تصور القيمة.. وتسهيل التواصل داخل الرأسمال البشري غاياته سهولة تناقل السلع وليس القيم.
لقد شكلت المثل الإنسانية في الديموقراطية وحقوق الإنسان التي نصبها الغرب على مدخل مدينته للمهاجرين من أطراف العالم المتعددة، مجرد آليات تضمن نمطية النموذج الغربي في تحرير القيم والاقتصاد، بهدف فرض هذا الأنموذج على العالم كله. فكلما ارتفع صوت معارض أو مشكك في صلاحية الأنموذج الغربي إلا وقوبل بالإقصاء باسم «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية»، و«مقاومة الإرهاب»، و«معركة العالم المتحضر ضد العالم الهمجي».
وتحت هذه اللافتات قامت «أنوار» الثورة الفرنسية على الإبادة الجماعية لرجال الدين؛ ومن وراء حجاب التسامح خطت الحملات الصليبية مآثر مجازرها في العالم الإسلامي؛ ومن تحت مظلة الغفران تمرر المشروع الصهيوني في القدس الشريف؛ وباسم التقدم واللحاق بركب الحضارة فرضت مناهج التغريب على الوافدين من بلدان الجنوب والمتطلعين إلى دراسة الحضارة الغربية، وأحكمت قبضة التبعية على أنساق مجتمعاتهم الأصلية.
فحضارة الغرب المعاصرة غير مهيأة فكرياً واستراتيجياً لاستقبال ظاهرة مجتمعات الهجرة الخارجية داخلها، فهي حضارة قامت أساساً في وجهيها الأمريكي والأوروبي على الهجرة الداخلية الغربية/الغربية، وفرضت على الهجرة من خارجها، الإسلامية والإفريقية والآسيوية، ضوابط مرجعيتها من خلال آليات قوانينها ومؤسساتها «الديموقراطية».. ولكنها الديموقراطية التي لا تكفل سوى حقوق الفرد داخل نمط المجتمع الواحد، وليس من مشمولاتها ضمان حق الجماعات التي تستند إلى مرجعيات مختلفة وربما متناقضة حيال مرجعية الغرب في فهم التعدد والحرية.(9/297)
من ثم فإن مشكلة التعايش بين الجماعات المهاجرة داخل الغرب، وحتى خارجه - إذا اعتبرنا العالم قرية صغيرة بمنظور العولمة الغربية، يسودها نظام عالمي غربي واحد - ليست مشكلة تواصل بين الشعوب يمكن أن تعالج بوضع آليات للحوار بين الأديان أو بين الثقافات، بل هي مشكلة عجز عن إنتاج فكر إنساني تعددي جديد يجيب عن تحديات مجتمعات ما بعد الحداثة، المتعددة الثقافات.
فالحوار ليس مجرد آلية في التواصل، بل هو ذهنية حضارية شاملة تعبر عن وعي وحس وتقاليد مشتركة بين أطراف الحوار. ولا تكفي في إنجازه العزائم الصادقة، أو يتوقف على اتخاذ القرار الحاسم، فهو مرحلة من الوعي الجمعي بقيمة اختلاف الهويات الثقافية في كينونة الحضارة وصيرورتها، بلغها الإنسان مع أوج الحضارة الإسلامية، في حين يقف الغرب اليوم وهو يتخذ منعرجاً خطيراً في تاريخ حداثته، مرتعش اليدين، مذهولاً أمام سؤال موت الإنسان ونهاية التاريخ.
فلا معنى لحوار حضاري دون مضمون لهذا الحوار، ودون أطراف متوازنة داخله، وإلا تحول إلى مسرحية تكرر زمن وهم القيمة الغربية الواحدة وعلو حضارتها. ولا وجود فعلي ضمن هذه الصورة لا لحالة حوار، ولا لحالة صراع بين عالم الغرب وعالم الهجرة إليه، للانفصال الكامل في طبيعة عالميهما رغم انتسابهما لوهم القرية الكونية؛ ولأن الغرب ما يزال مصراً على الهيمنة الكاملة التي تقضي على أي هامش للاختلاف الذي هو قاعدة الحوار أو الصراع.
في هجرة العقول الإسلامية:
يسود الخطاب الإسلامي في تقييم الهجرة عامة وهجرة العقول الإسلامية خاصة نزعة رثائية، تحوم حول فكرة ضياع هذه الطاقات عن خدمة المسلمين، والتساؤل عن تدارك هذه الخسارة من خلال مد الجسور بينها وبين العالم الإسلامي. وهو خطاب يحمل الهجرة محملاً ضعيفاً ولا ينظر إلى أبعادها الحضارية، فضلاً عن كونه لا يستند إلى مرجعية إسلامية واضحة في تحديد مفهوم الانتساب للأمة الإسلامية، الذي يتجاوز حسب منطوق هذا الخطاب، الحدود التي وضعها الفكر السياسي الغربي لمصطلح العالم الإسلامي الجغراسياسي.
إن عالم الإسلام لا تضيقه الحدود المصطنعة، فـ ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ))، و«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (حديث قدسي). ومقتضى التكليف الإنساني هو عمارة الأرض كلها، شهادة على الناس وخلافة لله. وأمة الإسلام هي أمة دين الفطرة، أي أمة الإنسانية جمعاء. ومن ثم كانت خيريتها مشروطة بخروجها للناس ودعوتها فيهم، قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) (آل عمران:110).فهي أمة خارجة، أي تحمل الخصائص الإنسانية الجامعة، وليست أمة قومية محدودة جغرافياً وسياسياً، ولا حتى فكرياً، بالمعنى المتداول في الفكر الغربي. إن رابطة الأمة في المرجعية الإسلامية هي العقيدة، إيماناً بعلوية القيم الإلهية وبمسؤولية الإنسان الكونية، فهي رابطة واعية لا تخشى الذوبان أو التصدع، ولا تلجأ إلى التحوط بنصرة العامل القومي والمصلحي.
إن مأزق الغرب في الاعتراف بالهويات الجماعية مرجعه حدود رابطته الضيقة وغير الواعية. فهي تقوم على الانتساب إلى الأرض ونظم تحقيق المصلحة التي تعبر عنها المؤسسات والقوانين والأعراف. من هنا كان تقسيمه للعالم ولخارطة الحلفاء والأعداء، وعلى هذه الخلفية الفلسفية ظهرت مصطلحات الدولة القومية، ودولة القانون، إلى بروز دولة العولمة التي لا تترجم عن مشروع عالمي منفتح بل تكرس خضوع رابطة الدولة لرغبات السوق. فهي دولة الانفتاح على السوق لا على الشعوب.
إن المعادلة الصعبة في تضمين الهجرة الإسلامية أصولها وفلسفتها المتميزة هي في تحويل هجرة السوق التي صممها الغرب الحديث إلى هجرة الرسالة المستنبطة من التصور الإسلامي لمستلزمات الرابطة الإنسانية، وفي الانتقال من هجرة/تهجير الفقر والظلم إلى هجرة الإرادة والدعوة، دون أن يمس هذا التحول من مشروعية الهجرة الحديثة ويفضي إلى قطيعة مع الغرب وثقافته، أو يجنح بالتصور الإسلامي إلى عالم المثل الذي لا قابلية له بالتحقق.
إن تحرير السؤال عن كيفية استفادة العالم الإسلامي من عقوله المهاجرة، من خلفيات ضيق الانتماء لهذا العالم وهيمنته، إلى سعة الانتساب لأمة الدعوة والرسالة، يقود إلى الوعي بأن ديار الغرب بالمفهوم الجغراسياسي هي نقطة مركزية في توجيه مستقبل للنهوض لأمة الإسلام، بالنظر إلى احتكارها لأدوات التحكم، وبالنظر كذلك لتنامي الوجود الإسلامي، كماً وكيفاً، في هذه الديار.
لقد نجح الغرب في استقطاب الطاقات الفكرية للعالم كله. فهو يشرف بعلومه ومناهجه ومؤسساته على تكوين وتأطير وتوجيه أغلب طاقات دول الجنوب، داخل فضاء البلدان الأكثر تصنيعاً. فحوالي90% من العقول المهاجرة في العالم تختار الغرب وجهة للاستقرار.
وتمثل هجرة العقول الإسلامية أضخم هجرة متأتية من دول الجنوب. فعلى صعيد العالم، تأتي هجرة الطلبة من المغرب في المرتبة الثانية بعد الصين، وفي فرنسا مثلا يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب. وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد كتلة الغرب الليبرالي بالموارد البشرية النوعية في العالم([5]).
وضمن اقتسام مناطق النفوذ، تتجه أمريكا إلى استيعاب الطلبة والباحثين القادمين من آسيا والشرق الأوسط، في حين تواجه فرنسا بدرجة أكبر خصوصيات القادمين من العالم العربي وخاصة بلدان المغرب العربي وسوريا ولبنان، وتكاد تنفرد ألمانيا بالتعامل مع العقول الإسلامية التركية إضافة إلى مناطق عديدة من أوروبا الشرقية.
وقد يتوقع أن يكون في المستقبل أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب من أصل مناطق الجنوب، على الرغم من أنه مع دخول أوروبا تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وفتح حدودها الجمركية بينها، بدأ الاهتمام يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بينها، ومعادلة الشهادات والتنسيق في المقررات بين جامعاتها ومؤسساتها التعليمية العليا.
قد تحمل العقول الإسلامية المهاجرة معها خلفية حضارية شاملة ولكنها تتكبد ثقل مسؤوليتين، الأولى تجاه أوطانها الأصلية وتجاه مستقبل نهضة أمتها الإسلامية، والثانية تجاه الوجود الإسلامي في الغرب. تضاف إلى ذلك عوائق الاندماج في المؤسسات الغربية، التي تعود في معظمها إلى إرادة هذه المؤسسات في فرض مشروطية من جنس ثقافي تصادم بها الهوية الإسلامية، وربما تصادر بعض تجلياتها التي يمكن أن تربك مبادئ العلمانية الغربية من مثل أداء الصلاة وارتداء الحجاب وصوم رمضان. إن توزع معركة المثقف المسلم في الغرب بين هذه الجبهات الثلاث: تخلف عالم الإسلام، وهامشية الوجود الإسلامي في الغرب، والضغوطات التي يواجهها من قبل مؤسسات الغرب، يفرض عليه عدم التوقف عند امتلاك الخلفية الإسلامية فحسب، فهي تستلزم مشروعاً حضارياً شاملاً ورؤية استراتيجية عميقة لأولويات النهوض الحضاري للأمة، ولدور الوجود الإسلامي في هذا النهوض، وإسهام المثقف فيه.(9/298)
ولعل نمو سرعة وسائل الاتصال ودقتها، مع زمن العولمة المعلوماتية سيمهد السبيل أكثر أمام العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدور الناقل الوسيط لأوطانها، ولفرض توجهات حقوقية وتنموية أكثر قسطاً ونجاعة في العالم الإسلامي. كما سيسمح لها باتساع أفق أكبر في الاستفادة من التجربة الغربية وفي تعميق منهج المقارنة في تصور مدارس الغرب ومحصولاته.
إن وزن أمة ما إنما يقاس بصفاء عقيدتها، وعمق عقلانيتها، وشمول مشروعها في الوجود. وإن المخزون البشري العلمي هو منطلق التجلي الحضاري لهذا الوزن، فمن غير الوعي بقيمة دوره الريادي لن يتحقق للهجرة تقدم نوعي.
إن وتيرة جفاء مستمرة تحكم علاقة نخبة الوجود الإسلامي في الغرب بقاعدته، شبيهة بصورة الفراق والتوتر السلبي الذي يقود مجمل علاقة هذه النخبة بأنظمة أوطانها الأصلية وأنساقها. ولئن بدا لنا الميل إلى تفسير ذلك بضعف في الوعي العام بأهمية الاستفادة من العقول المهاجرة وضعف في وعي هذه النخبة بجدوى الإفادة من معارفها وتجربتها، فإن المستفيد الوحيد من هذه العلاقة المرضية هو الغرب ومؤسساته التغريبية التي من مهامها الأساسية ملاحقة ضعف حس الانتماء للهوية لدى العقول المهاجرة الإسلامية، قصد التأثير على إرادتها في الانخراط في قضايا الأمة وعلى مناهج تفكيرها وتصورها للقيمة.
إن المسؤولية كبيرة في تحويل الزخم الهائل من الطاقات العلمية والفكرية الإسلامية في الغرب إلى مؤسسات متخصصة، بالمعنى الجديد للتخصص المتعدد المقاربات، وفي إيجاد المؤسسات البحثية الوسيطة لخدمة المؤسسات التنموية الإسلامية العامة، سواء داخل ديار الغرب أو في أوطاننا الإسلامية الأصلية.
لقد تطورت رؤية الغرب لدور المثقف، من موقع الفيلسوف المنظِّر من وحي صورة فلاسفة الأنوار، والعالم المخبري من وحي نماذج النهضة العلمية والتقنية مثل «باستور» و«اينشتاين»، إلى المثقف العضوي «لغرامشي» من خلال دور جماعات الضغط ومراكز التفكير (Think Tanks). ولعلها المفارقة أن يتواصل السؤال داخل المجتمع الإسلامي حول مشروعية دور المثقف، ونحن ننتمي لأمة العلم، عقيدة وتاريخاً، وكان لنا شأن كبير في ترسيخ تقاليد السفر والترحال العلمي بين شعوب العالم، بكل أديانه وطوائفه، في ظل القرون الطويلة من إشراقة نهضة المسلمين على العالم.
لقد اعتاد الخطاب الإسلامي مناشدة نهضة عامة المسلمين، دون الالتفات الكبير إلى خاصتهم، على اعتبار أنها المعنية بريادة هذه النهضة والأكثر تأهلاً لها، ولكن هذا الفهم هو عكس منطق الأشياء؛ لأن مشكلات تشتت طاقات الأمة تعود بالأساس إلى طبيعة عقولها المفكرة، التي يفترض أن تقود تربية الأجيال وتغيير نمط التفكير ونسق الحياة الباليين. إن الوعي بخطورة وحساسية العقول الإسلامية المهاجرة في ترشيد الساحة الفكرية الإسلامية، هو بداية إسهام حضاري فعلي للمفكر المسلم في معركة التغيير.
من الهجرة إلى المواطنة:
انتقال هجرة المسلمين نحو الغرب إلى مواطنة، وعلاقة هذه المواطنة الجديدة بمشاعر الوطنية تجاه العالم الإسلامي، وعلاقتها بالهوية، وتداخل وضع المواطنتين، كل هذه زوبعة من نماذج لأسئلة حساسة تمر بها تجربة توطين الهجرة الإسلامية في الغرب، وتطبع خطابها وخياراتها. هناك إجماع لدى المحللين والدارسين حول تصاعد الخط البياني للمهاجرين المسلمين الحاصلين على الجنسيات الأوروأمريكية. ففي فرنسا مثلاً حوالي 40 % من الجالية المغاربية يحصلون على الجنسية سنوياً، في حين يفوق الذين هم دون سن الرابع عشر من هذه الجالية 40 %، وذلك يعني أن مستقبل المواطنة الفرنسية من أصول إسلامية واعد، رغم ما يمكن أن يوحي به تصاعد النزعات العنصرية من ضعف الوجود الإسلامي وتراجع ميزان قواه.
لقد تطورت هجرة المسلمين إلى الغرب من هجرة مؤقتة إلى هجرة دائمة، ثم إلى مواطنة، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى إرادة ذاتية فحسب، فتهاوي نسبة النمو السكاني من الغربيين الأصليين دفعت نحو سياسة تسهيل عملية التوطين. كما لا يمكن أن تحجب معاينة هذا الاتجاه التوطيني عمق الهواجس النفسية والفكرية التي تعتمل جوارح المسلمين بالغرب، والتي تدور في فلك السؤال عن التعايش بين هويتي المواطنة الأصلية والغربية. فليس مبعث الحرج الذي أخر الكثيرين عن التوطين هو خيال المجازر الدامية التي صمم لها الحضور الغربي الاستعماري ونفذها في ديار الإسلام فحسب، بل هي مشكلة فكرية حضارية شاملة تتصل بمفهوم الانتماء والمواطنة والوطنية، التي ساهمت كثيراً في غياب تصور استراتيجي لتوطين الإسلام في الغرب.
لقد واجه التصور الإسلامي المعاصر إشكالية المعادلة بين الانتماء لعالمية الإسلام والولاء المطلق له، وبين العصبية أو الحمية القومية التي نطلق عليها وطنية، بالمصطلح المعاصر. فحين عرف أبو الأعلى المودودي مهمة المسلمين المعاصرة بأنها «مهمة عالمية، خلاصتها العمل بكافة الطاقات الأخلاقية والذهنية والمادية لتنفيذ قانون الفكر والعمل، الذي أسنده الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام»([6])، كان لسيد قطب فهماً إطلاقياً لها، فهدف الإسلام في تصوره «لم يكن تحقيق القومية العربية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، ولو كان الأمر كذلك لحققه الله في طرفة عين، ولكن الهدف هو إقامة مجتمع الإسلام الذي تطبق فيه أحكام القرآن تطبيقاً حرفياً، وأول هذه الأحكام أن يكون الحكم نفسه لله»([7]).
إن مثل هذه المنطلقات المثالية في تصور الولاء لله ورسوله، التي تصادر في مدلولها ضمناً الولاء لعشيرة وأهل وموطن، إنما صنعت منهجاً صدامياً بين الانتساب للأمة والانتساب للوطن، أدخل تجربة الإصلاح الإسلامي المعاصر في معارك وهمية وجدل عقيم أخرجها من سنن التاريخ لفترات طويلة. فلقد فهمت المعركة الحضارية الإسلامية المعاصرة منذ فكر النهضة فهماً شمولياً، إذ تحرير الأمة من تخلفها يقتضي تحرير أوطانها من هيمنة المستعمر وقبضة تبعيته.
غير أن تنامي مقولات القومية العربية بالمعنى الشعوبي، والقوميات \\\"القطرية\\\" و\\\"الإقليمية\\\"، وحتى العرقية الضيقة التي تعتمد في معظمها العلمانية الغربية مرجعية وإطاراً للتفكير، والتي يفترض مصادمتها لثوابت الدين في وجوه مختلفة، كل ذلك أدخل مجالاً متمدداً في الفكر الإسلامي في جدل «العالمي» و«الوطني» ألهاه كثيراً عن إدراك تطور وتعقد مهمة التغيير الحضاري في أرجاء أوطاننا أمام تغول العالمية الفعلية للغرب. فمن قبيل المفارقة مواجهة عالمية التحكم الغربي بعالمية الأماني التي سادت الخطاب الإسلامي.
إن بسط النفوذ العالمي للغرب هو مرحلة متقدمة بعد مرحلة البناء الداخلي الوطني الذي رسخه من خلال إقامة أنظمته الديموقراطية وإنجاز تجاربه العلمية والتكنولوجية وتهيئة اقتصادياته المحلية للاضطلاع بدور دولي. لقد أدرك جمال الدين الأفغاني قيمة المعادلة الوطنية لمواجهة التغريب، «فلا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم. وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسطه الوطن، وغايته الوطن»([8]).(9/299)
إن الفهم الإسلامي للوطنية يقوم على رابطة روحية عميقة، عنوانها العقيدة، وفلسفتها الاستخلاف، فتطبيقاته سواء ضمن جغرافية الغرب أو جغرافية العالم الإسلامي تتنزل ضمن مرجعية واحدة للجغرافية، وهي أن الأرض كلها لله. من هذا المنطلق تحرر تيار «الوطنية الإسلامية» الذي ساد فكر النهضة من عقدة الخوف من الروابط القومية «فواجب أن يعمل الإنسان لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.. وواجب أن نعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها..باعتبارها الثانية في النهوض..وواجب أن نعمل للجامعة الإسلامية، باعتبارها السيادة للوطن الإسلامي العام..ولا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، كل منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها»([9]).
حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أن «يا رسول الله : أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟، أجاب: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم»([10]). فليست العصبية منبوذة بذاتها، وإنما هي مشروطة بصلاحها وعدلها وخيريتها الإسلامية، بل وقد تصبح بهذه المعيارية من صفات الأفاضل الأخيار استناداً إلى الحديث الشريف : «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم»([11]). إن ارتباط المسلم المهاجر بالمواطنة الغربية قد تحركه دوافع الغيرة على حقوق جماعته المسلمة، ولكنه لن يكون له وزن وتأثير ما لم يرتكز على البعد الإنساني للهوية الإسلامية: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب.....»([12]).
فخلفية رباط الأخوة الإنسانية هي التي يجب أن تقود الرغبة في تقديم الأنموذج الإسلامي الرائد في أخلاق المواطنة، فهي خلفية الدعوة إلى الإسلام، دين الفطرة وخطاب التوحيد الذي أجمعت عليه دعوات الرسل: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ )) (النحل:36).
إن رسالة مواطنة المسلم في الغرب هي رسالة عالمية الإسلام وإنسانيته. ففي عقد المواطنة الذي يصله بالغرب صورة حية وعميقة لعالمية رسالة الإسلام، التي لا تؤمن بغير حدود الله وضوابطه في التعامل مع الحدود العرقية والثقافية والجغرافية المصطنعة، التي وضعها الإنسان.
ولا تعارض بين أن يذود المسلم عن حرمات موطنه الأصلي ووطنه الجديد طالما في فعله نية في الصلاح وفكرة في الإصلاح الإنساني، تنبني على فهم حضاري إنساني للانتماء الوطني. إن حالة التمزق التي يمكن أن تعتري الهجرة الإسلامية في الغرب بين الالتزام بمشكلات العالم الإسلامي، والإسهام بالأنموذج الإسلامي، والنهوض والارتقاء بمكانة الإسلام في الحياة الغربية، يعود إلى خلل في تصور وحدة الانتماء لحضارة الإسلام.
فالانتماء لدائرة الإسلام في لحظة تاريخية معينة، ليس هو انتماءً بسيطاً وسطحياً لدائرة جماعة فرقية أو قومية شعوبية وعرقية، أو حتى جزء جغرافي من العالم اصطلح عليه الغرب بعالم الإسلام أو العالم الإسلامي، إنما هو انتماء لدائرة الأمة المركبة، أمة الرسالة، أي أمة المسلمين، وأمة الدعوة، أي باقي الإنسانية التي ندعوها إلى الإسلام، والتي نعتقد في سلامة فطرتها وجبلتها الإسلامية. فالهجرة هي مرحلة ضرورية في الدعوة من أجل أن يتسع أفق أمة المسلمين نحو أمة الإسلام، أمة البشرية جمعاء.
نحو خطاب حضاري بديل : ملاحظات ختامية
لم تكن دوافع الهجرة الإسلامية نحو الغرب ومنطلقاتها اختيارية في عمومها ، فهي وليدة إكراهات عدة محلية ودولية، بحثاً عن الرزق والأمن والرفاهية، وتلبية لحاجات الغرب في دعم موارده البشرية وتغطية عجز نموه السكاني. أما الوجه الاختياري في هذه الهجرة فمدخله الأساس ومقتضاه هو السنة التاريخية، التي أشار إليها «ابن خلدون» في مقدمته حول ولع المغلوب في الاقتداء بالغالب، وهو ولع يتنزل في عالمنا اليوم ضمن حضارة الغرب، طلباً للمعرفة والعلم، أو استفادة من التجربة التقنية والمؤسسية، أو انبهاراً بالتجليات الشكلية في العادات والذوق.
والوجه الإرادي في مشهد الاختيار هذا ضعيف، لكونه يفتقر إلى رؤية ذاتية في تصور الهجرة تحصنه من مزالق الذوبان والانصياع لإرادة الغالب. فبمثل ما هاجر إلينا الغرب «مستشرقاً»، دارساً لحكمة تراثنا الإسلامي، فإن عالم الإسلام اليوم يمتلك الطاقات البشرية الكاملة للهجرة العلمية الدراسية للغرب، ضمن مناهج يستنبطها في نقد العلوم الاجتماعية، أو النقد التاريخي، أو الأدبي، أو الأديان المقارنة، أو ضمن إطار ما يعرف «بالاستغراب» في مقابل «الاستشراق».
قد لا يكون مجدياً مقابلة استغراب \\\"إسلامي\\\" باستشراق \\\"غربي\\\"، لاختلاف المنطلقات الفلسفية والأخلاقية الإسلامية عن الغربية، وإلا فسنحدث نمطاً تغريبياً جديداً في دراسة الغرب. ولن تكون محاولاتنا في نقد الغرب سوى إنتاجاً لنسق تقليدي جديد، فضلاً عن أن منهج الاستشراق، المزيج بين التاريخي والإنثروبولوجي والثيولوجي، لم يعد يفي بحاجة مناهج البحث الحديثة التي تعتمد الدقة في المقاربة، وتتبنى مناهج العلوم الاجتماعية في دراسة تراث الإسلام، وهو ما يفسر تنامي علماء الاجتماعيات المتخصصين في دراسة الإسلام، من مثل «بورجا» و«آتيان» و«سيزاري» وغيرهم.
وليس الغرب كوماً من الأيديولوجيات والمواقف يسهل دحضها بتصورات فكرية بديلة، فهو معنى حضاري يحوي فلسفات وعلوم وأنساق من التفكير مركبة، لا يمكن أن يُواجَه إلا بمشروع حضاري متكامل ومركب كذلك، ينظر إلى الأبعاد المختلفة في تأسيس الحضارة، النفسية والعقلية والروحية، ويجعل الهدف الأسمى له بناء الأجيال قبل بناء الأبطال، وبناء المدنية في أوسع وأدق مؤسساتها قبل النماذج المثالية التجريبية المصغرة، التي برعت الحركات الإصلاحية المعاصرة في الترجمة لها.
إن البشرية وهي تمر بمنعرج مقولات \\\"موت الإنسان\\\" و\\\"نهاية التاريخ\\\" لفي أمس الحاجة إلى بديل حضاري قابل للدراسة بلغة العصر، وقابل للفهم بمناهجه وأدواته، يستطيع أن يوازن بين حاجات الروح وإبداع العقل ومتطلبات الواقع. وإن الفكر الإسلامي بما يمتلكه من ميراث ومحصول حضاريين هائلين قادر أن يتطور من فكر جماعي ومذهبي وفرقي ضيق نحو فكر يخاطب الإنسانية جمعاء، يتجاوز عقد الخوف من الغرب ومن حداثته، أو عقد التعالي عليه والتحقير من شأنه، نحو إدماج قضاياه ضمن القضايا الرئيسة التي تستلزم ردوداً عميقة. فالخطاب الإسلامي لا يزال يتكبد وقع الصدمة الحضارية التي خلفها الاكتساح الغربي الشامل، التي ألزمته مراوحة ذاته طيلة القرون الثلاث الأخيرة لنهضة الغرب الحديثة.
ثم لا بد أن ندرك أن لا سبيل لخطاب دعوي معاصر فاعل داخل الحدود الجغرافية للغرب أو خارجها لا يستطيع أن يكون حجاجياً ومجادلاً بالتي هي أحسن، بالمعنى القرآني، إن هو لم يجب عن تحديات الحداثة ولم ينخرط في تساؤلات ما بعد الحداثة. فالجمهور الإسلامي والغربي على حد السواء لا يمكن أن يقنع مستقبلاً بخطاب الطمأنة المتداول بكون الإسلام يمتلك الحل، كل الحل، وأن الحضارة الغربية هي حضارة \\\"المسيح الدجال\\\"، وهي تنذر بعلامات اقتراب الساعة واقتراب أفولها. لقد تأسست جميع مدارس الفكر الأصولي والكلامي والفلسفي والتربوي والعمراني على مناهج المحاججة، التي تفترض صلاحية الفكر الإسلامي للجميع، ولزوم أن يكون خطابه عالمياً مقنعاً، لدى المسلم وغير المسلم، فيكون حينئذ تعبيراً عن فكر ناقد لمذاهب ونحل العصر، ومقارن لها، ومنافح عن الدين ضد أخطارها.(9/300)
إن زمن العولمة يفرض أكثر من أي زمن غربي مضى تحديات خطيرة على وحدة هوية الخطاب الإسلامي. فالغرب يدرك أن هوية الخطاب الإسلامي الحضاري المتوازن والإنساني قادر على إحراج مقولات حضارته المنهكة قيمياً. ولم تكن نظرية «هنتنغتون» في ترشيح الإسلام لمواجهة مستقبلية مع الغرب ضمن مستقبل التوازنات الحضارية الدولية، مجرد زلة لسان أو افتراض مجنون، بل هو يعبر به عن مخاوف الغرب الحقيقية في أن يحل «شرق» عالم الإسلام محل «شرق» عالم الشيوعية لإحداث مستقبل المعادلة معه، رغم ما يبدو على عالم المسلمين اليوم من وهن تاريخي كامل.
إن زمن العولمة وهو يبسط نفوذه الكامل على جميع أنظمة وشعوب العالم المستهلك والأقل إنتاجاً، ويشل تدريجياً من وحدة مرجعياته الثقافية والدينية، إنما يستهدف أساساً الإسلام؛ لأنه الأقدر على الثبات في وجه تحديات ومحاولات الإذابة والانصهار، وعلى الاستفادة من الضربات، حتى في أقسى تعبيراتها.
فقد يكون الفكر الإسلامي هو المستفيد الأكبر من تحول نمط المجتمع القومي الواحد إلى نمط المجتمع المتعدد الثقافات، باعتبار أن هذا النمط الجديد يتسق تماماً مع فلسفة الاجتماع الإنساني في الإسلام، وييسر مهمة الدعوة ونشر الرسالة، كما أنه الإطار الأمثل لبلورة التصور الإسلامي الحضاري. ولئن كانت غاية عولمة الاتصال هي تسهيل تنقل الرأسمال المادي وتبادله، فإن نتائجه من جهة الشعوب أفضت إلى مزيد من التقارب وتبادل المعلومات والمعارف بينها. فالرأسمال البشري ينافس الرأسمال المادي في احتكار المعلومة، وهذا يمثل خطراً كبيراً على أنظمة العولمة لما نعلمه عن القيمة الاستراتيجية لبنوك المعلومات الدولية التي تحتكرها.
إن فكرة المواجهة بين عولمة الشعوب وعولمة رأس المال إنما تؤكد كذلك مصداقية المقاربة الإسلامية في الإيمان بأولوية أمانة الإنسان الأخلاقية على اعتبار المصلحة المادية ومراعاة مستحقيها والمستفيدين منها. فالقسط بين الناس هو ميزان أخلاقي سماوي، لا غنى عنه في ضبط الحقوق المالية بين الناس.
وكلما اتسع أمام الخطاب الإسلامي المستقبلي أفق الدراسة المقارنة للغرب، اتسع فضاء الثقة بالذات ومستوى القدرة على التعامل مع التراث وإمكانات استشراف غد رائد لأمة الإسلام. فإذا كانت الهجرة الإسلامية المعاصرة قد سبقت الوعي بقيمة «خطاب الهجرة» الضابط لفلسفتها وحكمتها، فإن معركة المواطنة التي تخوضها داخل الغرب تفرض عليها التسلح بالفكر وبعد النظر لانتزاع الحقوق وشرح الأنموذج الإسلامي الجديد، الذي قد تشرق شمسه على العالم كله وعلى عالم الشرق الإسلامي من داخل ديار الغرب.
--------------------------------------------------------------------------------
([1])أخرجه مسلم.
(1) . Michael Walzer, Traité sur la tolérance, Ed. Gallimard, 1998,p.240
(2)Taylor Charles, Multicultiralisme: Différence et démocratie, Ed Flammarion , 1997, p. 130.
(3) المصدر نفسه، 16.
([5]) انظر كتاب \\\"مهجري المعرفة\\\"
Les exilés du savoir, Charles Halary, Ed. L'Harmattan, Paris, 1994
([6]) أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، ديوان المطبوعات، الجزائر،1986م، ص311.
([7]) سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، 1982م، ص188.
([8]) جمال الدين الأفغاني، العربية لسان الإسلام والمسلمين، مجلة الحوار،ع2، فيينا، ص187.
([9]) حسن البنا، مجموعة الرسائل، القاهرة، دار الشهاب، بدون تاريخ، ص88.
([10]) أخرجه ابن ماجه وأحمد.
([11]) أخرجه أبو داود.
([12]) أخرجه الترمذي.
=================(9/301)
الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري **أنموذج مالك بن نبي
تقديم عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل الفهم والمعرفة للأمور، وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد، والتقدير للعواقب، من بشائر الخيرية وسبل النهوض والارتقاء، وجعل النفرة للفقه في الدين واكتساب المعرفة الميدانية، واكتشاف السنن الفاعلة في الحياة والأحياء، وتوعية المجتمع بقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية، مصدر العبرة والعظة وتحقيق الحذر والوقاية الحضارية، فقال تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذر ون ) (التوبة:122).
والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي بيّن أن مناط خيرية الإنسان عند الله الفقه في الدين، فقال: (من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين ) (متفق عليه)، ذلك أن الفقه في الدين كسب من الإنسان وتوفيق واصطفاء من الله.
وكان من دعائه المأثور واللافت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل ) (حديث صحيح، أخرجه أحمد)، فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها، وأحد منارات فقه الصحابة العظيم.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثاني والسبعون: (تكوين الملكة الفقهية)، للأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والوقاية الثقافية، ومحاولة إخراج الأمة المسلمة من جديد، اهتداءً بظروف وشروط الميلاد الأول، لأن نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراجه منوط إلى حدٍ بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، والتدليل على أن سبب التخلف والسقوط الحضاري إنما أصاب عالم المسلمين بسبب الانسلاخ عن القيم الإسلامية وانكماش الفقه في الدين، لا بسبب الاستمساك بها.
والشاهد التاريخي قائم على أن فترات التألق والإنجاز كانت مترافقة مع الالتزام بشريعة هذا الدين والإيمان بعقيدته التوحيدية والانتماء إلى الأمة المسلمة، وأن الإشكالية الثقافية والحضارية اليوم بالنسبة لعالم المسلمين هي في محاولات دراسة الواقع الإسلامي وما لحق به من إصاباتٍ في ضوء أصول وقيم ومسيرة تاريخية حضارية غريبة عنه، أو بتعبير آخر عن هذا الخلل: قياس واقع مجتمع بأصول وقيم حضارة مجتمع آخر، علمًا بأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، ذلك أن القطيعة الثقافية والتاريخية مع معرفة الوحي، وعدم القدرة على تجريد القيم الإسلامية من قيد التاريخ والجغرافيا، أو من قيد الزمان والمكان، وتوليدها في كل زمان ومكان، هي الإشكالية الحقيقية، وهي سبب المعاناة.
ولعل الفقه الحقيقي هو في امتلاك القدرة على تحقيق المناط -بالمصطلح الفقهي- أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم، واستشرافه لمستقبلهم، فقد باتت قولة الإمام مالك رحمه الله المبكرة: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )، بعد رحلة التجربة المرة، تكاد تكون مسلمة حضارية.
لكن يبقى السؤال الكبير، الذي ما يزال مطروحًا على مدارس الإصلاح ومناهج المصلحين: لماذا تراجعنا ? وكيف نحقق النهوض ونتحقق بالوراثة الحضارية ? ذلك أننا جميعًا أصبحنا نعبر عن قناعتنا من على منابر متعددة أن الإشكالية هي في الانسلاخ عن الإسلام، فلماذا كان الانسلاخ ? وكيف نضع منهج العودة، ونترسم سبيل الخروج أو الإخراج من جديد؟
أما أن سبب التراجع والسقوط هو في الانسلاخ عن القيم الإسلامية، وأن سبيل الخروج هو في العودة إلى الالتزام بالإسلام، فهو شعار ما يزال يتولى طرحه الخطباء والوعاظ من على منابرهم، فإذا نزلوا عن المنابر عاد كثير منهم مع الأمة إلى مألوفهم ومعروفهم، وكأنهم بطرح هذا الشعار خرجوا من عهدة التكليف.
أما بيان كيفية العودة للالتزام بقيم الدين ورسم الطريق، ووضع المنهج، والاجتهاد في فهم الواقع واستطاعاته، وتحديد موقعه بدقة من مسيرة النبوة وقيام المجتمع الأول المشهود له بالخيرية، والتعرف إلى الأسباب والسنن التي كانت تحكمه، والتبصر بآلية السقوط والنهوض، والاجتهاد في محل تنزيل النص، ومدى توفر الإمكانية المطلوبة لتنزيله وحصول التكليف به، والنظر في المقاصد والمآلات والعواقب والتداعيات لتحقيق الخير في الحاضر، وحسن العاقبة في المستقبل، استجابة لقوله تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا ً) (النساء:59)، فيبقى مهمة الفقهاء الخبراء والمفكرين والمستبصرين المتمكنين من معارف الوحي ومدارك العقل.
ولعل في بعض الآثار الواردة عن حال تخلف الأمة عندما يكثر الخطباء ويقل الفقهاء، يفسر الكثير من الحال التي نحن عليها اليوم.. فلا أعتقد أن أية أمة تمتلك من المنابر والمحاريب والجمهور المتلقي عن طواعية واختيار، والذي يمكن اعتباره من أعلى درجات الإمكان الحضاري، ما تمتلكه الأمة المسلمة.. لكن تبقى النتائج محزنة، وما ذلك -في رأينا- إلا بسبب غياب الفقهاء والحكماء والمفكرين والباحثين الدارسين القادرين على تحديد مواطن الخلل، ومن ثم وضع منهج الخروج، في ضوء النصوص المعصومة من معارف الوحي.
فالخطيب قد يلهب المشاعر ويثير الحماس ويهيئ الأمة، وذلك قد يكون مطلوبًا في بعض الحالات للتعبئة، لكن الفقيه هو الذي يقوم بدور المعلم الذي يربي العقل ويبصر بالطريق، ويضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، في ضوء الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، ويمتلك دقة النظر في محل تنزيل النص على الواقع.
وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأنه يصعب علينا في كثير من الأحيان، إذا تجاوزنا تاريخ الزمان وجغرافية المكان، أن نحدد زمان ومكان الكثير من الخطب وأهدافها وجدواها! إضافة إلى أن قضايا الأمة ومشكلاتها لا تعالج بالحماس وارتفاع المنابر فقط، وإنما تعالج بفقه الأسباب ومعرفة السنن، وإدراك علل السقوط والنهوض. واستيعاب الحاضر وتحديد موقعه من مسيرة النبوة لتحقيق الاقتداء الصحيح، وذلك باستشراف الماضي وعبرته، واستبصار المستقبل واحتمالاته وتداعياته.. فليس الفقه الذي نقصده هنا هو في حفظ كتاب وسرعة استذكار مسائل، مع استمرار العجز عن توليد مثال غير مثال الأقدمين، الذي ما يزال يتداول وينقل من كتاب إلى آخر مع تغيير الطباعة ونوعية الورق، وقد يكون هذا متوفرًا للكثير من حملة الفقه اليوم.
لذلك فقد تتحول بعض الخطب والحالة هذه، من تقديم حلٍ إلى صناعة مشكلة، لأنها قد تعبئ الشباب وتجمع الجمهور وتوجههم صوب أهداف كبرى، ومن ثم يغيب الفقهاء عن وضع الأوعية الشرعية والمشروعة لحركة الأمة، وإيجاد المناهج والبرامج والخطط لمسيرتها، فيتحرك جمهور الشباب المتحمس على غير بصيرة وبمجازفات تقودهم إلى تقديم التضحيات الكبيرة التي لا تتناسب مع الإنجازات الهزيلة، أو الهزائم الموقعة في إحباطات قد تؤدي في كثير من الأحيان، وغالبًا عند الذين لا يستطيعون التفريق بين الصورة والحقيقة، إلى شكوك في جدوى القيم الإسلامية وقدرتها على انتشال الأمة، لذلك قد يسهل على أعداء الإسلام استخدامهم كرصيد جاهز للتضحية لتصفية الحسابات بدمائهم، في ذات الوقت الذي قد يتحول فيه الكثير من الخطباء لطرح قضايا جديدة تجمع الأمة وتلهب المشاعر، دون أن نفكر في دراسة أسباب الفشل وعدم بلوغ النتائج لمحاولة استدراكها في مستقبل الأمة.. ويبقى هذا هو عمل الفقيه أو الفقه الغائب.
ولعل من القضايا المهمة والجديرة بالطرح والاستدعاء والمناقشة وتوسيع دائرة الرأي حولها، هي في وضوح أو إيضاح الأهداف التي لا بد أن يُؤهل الفقيه القادر على تحقيقها، وطبيعة المعادلات الاجتماعية الإقليمية والدولية التي لا بد من استيعابها، وما هي الشروط والمناهج المطلوبة للإعداد ? ذلك أن الإنتاج الحالي فيما يلاحظ عليه من تكرار الأنماط الواحدة التي قد لا تخرج في عمومها عن أن تكون نسخًا متحركة من الكتب المتوفرة في المكتبة، أو هي على أحسن الأحوال طبعات جديدة لكتب قديمة، بل لعل الكتب القديمة أكثر حفظًا ودقة نظر.
ونحن هنا لا نرمي هنا إلى وضع الخطباء في مقابل الفقهاء الخبراء، إنما ندعو إلى تكامل الأداء الإسلامي، حيث لا يغني جانب عن آخر، ذلك أن المشكلة كل المشكلة في متحمسين لا فقه لهم ولا خبرة لديهم، وأن الكثير منهم يعيش في عزلة عن واقع الحياة ومعاناة الناس، وقد يعاني من تعطيل الطاقات، أو هو خارج المجتمع.
ولو أدركنا أبعاد العمل الإسلامي المتكامل بشكل سليم ومتوازن، لأبصرنا مواقع الخطباء ودورهم في التحفيز والتحضير، ومجالات الفقهاء ومهامهم في قيادة رشيدة لجماهير الأمة.
وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها والتوقف عندها بما يسمح به المجال، وهي أن من الأمور التي تكاد تكون محسومة على مستوى الفكر والعقيدة والفعل والممارسة، أن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، وأن تشريعه ومنهجه ينتظم الحياة جميعًا، فهو نظام للحياة بكل مجالاتها، هذا على الأقل عند المؤمنين به، وأصحاب النظرة الموضوعية ممن لا يؤمنون به، قال تعالى: (...ما فرطنا في الكتاب من شيء ... )(الأنعام:38)، الأمر الذي يقتضي أن يوجد الاجتهاد ويتولد الفقه الذي ينير الطريق ويبين حكم الله ورؤية الإسلام في شعب المعرفة جميعًا، وفي التطبيقات العملية والفعل البشري، وعدم الاقتصار على الفقه التشريعي القانوني، إن صح التعبير.
ذلك أن غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الإسلامي الشامل عن أي موقع وعدم امتداده يعني وجود الفراغ الذي يسمح بدخول (الآخر)، أو يؤذن باستدعاء (الآخر) ليصنع للناس رؤيتهم، ويضع لهم أوعية ومناهج لحركتهم، وفلسفات لمعارفهم، في مجال التربية والتعليم والاجتماع والنفس والاقتصاد وسائر المعارف الإنسانية. وهذا لا يعني، ولا يجوز أن يعني، خروج الفقه التشريعي من دائرة العلوم الإنسانية، لأنه يقع في الصميم منها، لكنه يبقى' يغطي بعض جوانب نظام الحياة لا كلها.
لذلك نرى أنه لابد من إعادة طرح مفهوم الفقه من جديد والخروج به عن المعنى الاصطلاحي أو المدلول الاصطلاحي، والعودة به إلى مفهومه الشامل، إلى مدلول الفقه الحضاري، الذي يشمل الأبعاد الحضارية بكل فضاءاتها، فيكون هناك مناهج استنباط، أو علوم أصول فقه: تربوي، ومجتمعي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي، ومعرفي بشكل عام، ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.
وعليه يمكن القول: إن آيات القرآن الكريم كلها آيات أحكام، أحكام تربوية، وأحكام اجتماعية، وأحكام سياسية وتشريعية، وأحكام أخلاقية، وليس آيات الأحكام في الحقيقة مقتصرة على ما يستنبط منها الحكم التشريعي.(9/302)
وبالإمكان القول: إن نمو الفقه التشريعي، والتبحر فيه، وإنتاج هذه الثروة الضخمة التي تفتقدها الأمم الأخرى، وما حققه من الحماية والمناعة التشريعية والعطاء القانوني، يعتبر من المفاخر الثقافية والتشريعية والقانونية والاجتهادية، وأنه إنما جاء وامتد وتولد كثمرة للوجود الواقعي الإسلامي، وأن الدولة والأمة المسلمة في عصورها الزاهرة كانت تتوفر في ظل الإسلام واستقرار نظامه وأحكامه على وظائف المعارف الأخرى عمليًا في المجالات جميعًا ولو لم تفرد بتعاريف ومصطلحات ، لأن وظيفة هذه المصطلحات كانت متوفرة وقائمة، حيث كان المسلمون في موضع العطاء، لذلك لم تكن الحاجة قائمة لفقه مؤسس في المجالات الأخرى.
فوظيفة المصطلح ومدلوله موجودة، وإن غاب المصطلح نفسه. ولعل الإشكالية أصبحت اليوم بوجود المصطلح والجدل حول مفهومه في الحضارة المعاصرة على حساب مدلوله ووجوده العملي.
والحقيقة العملية التي لا بد من تسجيلها أن الفقه التشريعي الذي أنتجه المسلمون من نصوص الوحي، شكَّل ولا يزال الترسانة القانونية والتشريعية أمام الفكر القانوني الوافد المؤيد بالقوة والسطوة والطغيان، ولم يمكن تجاهله في الأنشطة القانونية المختلفة على الرغم من ضعف الأمة المسلمة وتقهقرها، بل نستطيع القول: بأنه كان من أهم مرتكزات الحماية والمناعة الحضارية للأمة.
لذلك نرى اليوم، على الرغم من محاولات تغييب الشريعة عن واقع الأمة، لأسباب وذرائع واهية، من عدم تحضير المجتمع وتوفر مؤهلاته، فإن الفقه التشريعي ما يزال يفرض وجوده وعطاءه واستمراره بقوته الذاتية.
وفي تقديرنا أن دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فأصبح ببركة دعائه صلى الله عليه و سلم وتوجيهه حبر الأمة وفقيه الصحابة، ليكون ذلك قدوة ووجهة لكل مسلم. فإن الفقه في الدين، فيما نلمحه من هذا الدعاء، يعني الفقه الشامل لكل جوانب الحياة شمول الدين نفسه، وأن الجزء الثاني من الدعاء: (وعلمه التأويل)، ليس المقصود بالتأويل هنا التفسير والبيان والاستنباط فقط، وإنما الفقه الاجتماعي والحضاري الذي يدرك السنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانون الحركة الاجتماعية والتاريخية، ويبصر بالمآلات والعواقب والنتائج، التي توصل إليها المقدمات: (وعلمه التأويل).
فالحياة ليست عبثًا، وإنما هي خاضعة لسنن لا بد من إدراكها ومعرفة مدى إمكانية الإنسان المداخلة فيها، ومدافعة سنة بسنة.. والذي لا يدرك السنن ولا يقدر التداعيات ولا يبصر العواقب والتأويل (المآل)، فمن أين له الفقه، ولو حفظ جميع المتون، فإنه لا يخرج عن أن يكون أحد الكتب أو الموسوعات، أو (الكاسيتات) بالتعبير المعاصر.
إن العلم بالعواقب والمآلات وتقدير التداعيات واستيعاب السنن الفاعلة، هو الفقه الحقيقي الغائب اليوم بالأقدار المطلوبة عن حياة المسلمين الفكرية والثقافية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالفقه الحضاري أو الفكر الاستراتيجي.
إن اقتصار مفهوم الفقه على المدلول الاصطلاحي (الفقه التشريعي)، أدى إلى اختزال آيات القرآن والاقتصار على آيات وأحاديث الأحكام، دون سواها من سائر القرآن، وكأن بقية الآيات إنما تنزلت للتبرك ولا أحكام فيها، وبذلك غابت الكثير من الجوانب الحياتية عن مجال الفقه، أو غاب الفقه عنها، ومن أخطرها الفقه الاجتماعي والتربوي، أو فقه السقوط والنهوض، أو ما يمكن نطلق عليه: فقه السنن.
لذلك نرى غلبة المدلول الاصطلاحي على الاستدلال في بعض الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون واضحة الدلالة والسياق في المجال الاجتماعي، مثل قوله تعالى: (...فاعتبروا يا أولي الأبصار )(الحشر:2). فقد وردت الآية لتحكي قصة يهود بني النضير في سورة الحشر، وأن ما حل بهم من الإخراج والتشريد كان بسبب ما فعلوه، وخاطب الله المؤمنين بقوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار )، ليكون المسلمون على حذر وعبرة، فلا تنتقل إليهم علل الأمم السابقة، فيحل بهم ما حل بها. ومع ذلك اقتصر الاجتهاد في هذه الآية على استنباط دليل الفقه التشريعي، فكانت أحد أدلة القياس عند علماء أصول الفقه، علمًا بأن دليل القياس التشريعي يعتبر أحد مدلولاتها وليس غاية مقصدها.. فالقضية واضحة أشد الوضوح في أنها دليل أو أصل في الفقه الاجتماعي والسياسي والحضاري، ومع ذلك نجد أن الاستدلال بها ذهب إلى مجال الفقه التشريعي!
ولعل في الإطار نفسه يمكن أن ننظر إلى قوله تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )(التوبة:122)، فالفقه في الدين بعمومه وشموله لا يقتصر على الفقه التشريعي، وإنما له شموليته التي يقتضيها شمول مفهوم الدين في الإسلام، وهو ما أطلقنا عليه مصطلح: الفقه الحضاري.. والفقه التشريعي كيان من كياناته.. والتعبير بالنفرة والتعبير بالحذر: (لعلهم يحذرون ) قد يكون أقرب للفقه الميداني والاجتماعي والسياسي والحياتي، الذي يحقق المعرفة من دراسة الواقع وينذر من العواقب ويحذر منها، منه إلى الاقتصار على حفظ النصوص الذي سوف يؤدي إلى فقه الكتب والأوراق، إذا لم يترافق مع النفرة الميدانية الواقعية، خاصة إذا علمنا أن مصطلح النفرة غالبًا ما يستعمل للدلالة على سرعة الاستجابة لداعي الجهاد ودخول الميدان.
كما أن الآية في بعض أبعادها تدعو إلى النفرة للتخصص، والتفقه بكل شعب المعرفة، وربط الإيمان بالعالم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة )، وربط الإخلاص والإيمان بالاختصاص والخبرة، فكل مؤمن عليم وخبير بتخصص من المعرفة هو فقيه ومستنفر لتحقيق الكفاية للمسلمين، وتأمين الحذر لأمته، والتبصير للمسلمين من التخلف والسقوط والوقوع في علل تدين الأمم السابقة التي أدت إلى هلاكها وانقراضها.
وفي ضوء هذا المفهوم الشامل لمصطلح الفقه في الدين -والفقه بالمعنى الاصطلاحي جزء منه- لا بد من إعادة النظر بمناهجنا المدرسية، وكلياتنا الشرعية، وموضوعات رسائلنا الجامعية، وأنظمتنا التعليمية، ومعاهدنا الشرعية، والشروط المطلوب توفرها، والمعارف المطلوبة لتكوين الملكة الفقهية القادرة على إنتاج الفكر والفقه الحضاري، أو العقلية الفقهية، والتقدم صوب شعب المعرفة جميعًا بأصول فقهية معرفية إسلامية في المجالات جميعًا، القادرة على تنزيل معرفة الوحي على واقع الناس، وتقويم هذا الواقع بها، المستبصرة للمستقبل في ضوء المنهج السنني، فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي ماضية في الأمم والأزمان والأماكن جميعًا -حيث لا يخرج الماضي عن أن يكون مقدمة لنتائج وعواقب في المستقبل- فالتأثير في المستقبل وصناعته رهين بكيفية تقويم الحاضر والتعامل معه، ومدافعة قدر بقدر أحب إلى الله.. فالذي لا يفقه السنن لا يتمكن من المداخلة وحسن التقدير المستقبلي.
وليس من قبيل المصادفة -ولا مكان للمصادفة والعبثية في هذا الكون- أن يطلق مصطلح السنة، التي تعني الطريقة المطردة والقانون الناظم الذي يحكم الحياة والأحياء، على ما ورد عن الرسول صلى الله عليه و سلم من قول أوفعل أو تقرير، فالسنة منهج حياة كامل.. لذلك فإن فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة يتطلب إدراك السنة أوالمنهج السنني، فلكل شيء سنة، ومن ثم القدرة على وضع الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة السنة (السيرة النبوية) للاهتداء إلى كيفية التعامل معه في ضوء هدايات الوحي.(9/303)
وهذا الإدراك المطلوب لفضاء مصطلح الفقه هو الذي يعيد للحياة انسجامها وتوازنها وضبط نسبها، وللمعرفة تكاملها، ولمعرفة الوحي مكانتها في هداية العقل، ويعيد الوئام بين الدين والعلم، ويحول دون الانشطار الثقافي والمعرفي بين العلم الديني والعلم المدني.
هذا الانشطار الثقافي أوالتعليمي أوالمعرفي -إن صح التعبير- هو الذي حوّل الأوهام والظنون والخيالات وردود الفعل في بعض صور التدين إلى حقائق، فحاصر العقل وعطله، باسم الانتصار للوحي أولمعرفة الوحي، دون إدراك أن العقل مناط التكليف ووسيلة فهم الوحي، وآلية الوحي في الاجتهاد والامتداد والتنزيل.. وهو الذي أخرج معرفة الوحي اليقينية المعصومة بالمقابل من دائرة العلم، فأدى ذلك إلى ضلال العقل وتعطيل عطاء الوحي.
لذلك نرى أن من أبجديات الفقه والاجتهاد إيقاظ العقل مناط التكليف والنظر، واسترداد عقلية الاجتهاد، والتحقق بفقه الوحي وضوابطه، وإدراك مكانته وموقعه من العقل بدقة.
ولعل من الأمور المطلوب التأكيد عليها باستمرار، لتبقى حاضرة في الذهنية الإسلامية، لتمثل الجذوة المتقدة، والهاجس الدائم، الباعث على النمو والارتقاء، ومسوغ التقويم والمراجعة والتصويب، ومحرك التجديد والاجتهاد والتأهيل لحمل أمانة المسؤولية، ما يكاد يعتبر مسلمة من المسلمات المحسومة على مستوى الوحي، مصدر المعرفة المعصومة والعقل معًا، هي أن الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية، يقول تعالى: (ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين... )(الأحزاب:40)، وهذه السمة (الخاتمية)، التي تعني فيما تعني توقف خطاب السماء إلى البشر، يترتب على استيعابها والإيمان بها عدة قضايا، تأتي في مقدمتها قضية فقه الخطاب الإلهي -الوحي في الكتاب والسنة- والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس المستمر، وتقويم هذا الواقع بقيمه، والامتداد به، لأن النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى، فالاجتهاد والامتداد والاستمرارية من لوازم الخاتمية.
كما أن من مقتضيات الخاتمية وتوقف التصويب والتقويم لمسيرة الحياة من السماء، أن يتم التجديد والعودة إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء من التقاليد والبدع والمنكرات، وإعادة معايرة الواقع بمعايير الوحي -وهو من عمل العقل المجتهد الذي يتحمل مسؤولية التجديد والتصويب والمعايرة- وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، والقدرة على تجريد النص من حدود الزمان والمكان وتوليده للأحكام في كل زمان ومكان.. وتحديد هذه المهمة والمسؤولية وتحملها ليس اجتهادًا وإنما نصًا يحمل إخبارًا وتكليفًا معًا.
فقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )(أخرجه أبو داود في الملاحم)، يحمل في طياته الإخبار بالحماية وامتداد العطاء السليم للخطاب الإلهي، حيث لا يصح عقلاً ولا شرعًا مخاطبة الناس وتكليفهم بنصوص منحولة وغير صحيحة، ومن ثم محاسبتهم على ذلك، لأنه من مقتضى المسؤولية سلامة التكليف وضمان حفظه.. كما يقتضي تكليفًا بمداومة التقويم، والمراجعة، والفحص، والاختبار للواقع، ومعايرته بالقيم المحفوظة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون )(الحجر:9)، والتطبيق المعصوم بتصويب وتسديد الوحي -فترة النبوة (القدوة)- حتى لا تحل التقاليد الاجتماعية والعادات محل التعاليم والقيم الشرعية.
وهذا التكليف يقتضي استشعار مسؤولية التجديد والاجتهاد، كما يقتضي استشعار مسؤولية التأهيل لممارسة الاجتهاد والتجديد بصفة دائمة، حتى لا يكون التوقف والاستنقاع الثقافي والحضاري.
ومن مقتضيات الخاتمية أيضًا ولوازمها الخلود.. والخلود -يعني فيما يعني- أن الرسالة الإسلامية خالدة مجردة عن قيود الزمان والمكان، وتمتلك إمكانية الهداية والإصلاح لكل زمان ومكان وإنسان.
وبعبارة أخرى: الخلود يعني أن الرسالة الإسلامية قادرة على إنتاج النماذج القائمة على الحق في المجالات المتعددة، المجسدة لقيم الوحي على مختلف المستويات، القادرة على تقديم الحلول والأحكام الشرعية لكل المشكلات الإنسانية، ورسم المسار السليم في كل زمان ومكان لحركة الإنسان، فردًا كان أو جماعة.. وتحقيق هذا الخلود والامتداد وتوليد الأحكام للحوادث والمشكلات المستجدة، لا يكون إلا بالاجتهاد، الذي يعني إعمال العقل في نصوص الوحي لاستنباط الأحكام، لذلك يمكن القول: بأن التوقف عن الاجتهاد والعطاء وتوليد الأحكام يعني محاصرة الخلود، وتعطيل الشريعة، والسماح بامتداد (الآخر) لمعالجة مشكلاتنا، والحكم بتاريخية الرسالة الإسلامية وعدم خاتميتها وخلودها.
لذلك نرى أن توقف الاجتهاد، أو قفل باب الاجتهاد، على الرغم من أنه اجتهاد غير ملزم، فإنه مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها وتجديد فهمها في ضوء معطيات العصر، وتخاذل عن حمل أمانة المسؤولية، والمساهمة السلبية بفصلها عن الحياة من حيث الواقع، مهما كانت دعاوانا عريضة بأن الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، على مستوى الشعارات، لأننا عمليًا بإغلاقنا باب الاجتهاد مهدنا للوقوع في شرك أعداء الإسلام، وحكمنا بتاريخية الإسلام، وأنه إنما جاء لمعالجة مشكلات عصر معين، انقضى ذلك العصر وانقضت معه الحلول ووسائل العلاج التي لم تعد تصلح، وأن الحياة المعاصرة تقتضي علاجًا آخر مناسبًا لها.
وأعتقد أن مسوغات إغلاق باب الاجتهاد عند من اجتهد في ذلك، سدًا للذرائع بحجة فساد الزمان وانعدام الأهلية، والخوف من دخول الساحة من يحسن ومن لا يحسن، ومن يملك المؤهل والشروط ومن لا يملكها، هو فوق كونه اجتهادًا يلغي اجتهادًا، فإنه محل نظر من الناحية الشرعية، وحكم مسبق على الأمة المعصومة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق أنها لا تجتمع على خطأ، بالعقم والعجز، وتعطيل للخلود -كما أسلفنا- وإلغاء للشريعة من مواقع متعددة، وكأن الله الذي أنزل الشريعة الخاتمة الخالدة، وجعل الاجتهاد من مصادر تشريعها ومن لوازم خاتميتها وخصائص خلودها، لا يعرف تقلب الزمان والمكان وفساد العصور -والعياذ بالله!!- وكأننا هنا بإغلاق باب الاجتهاد نساهم بشكل سلبي في إلغاء الخاتمية ومحاصرة الخلود باجتهاد ظني، وقد قال تعالى: (وخاتم النبيين )، ونوقف عمليات التجديد والتصويب، ونؤذن بعودة الجاهلية، ودخلوها الساحة من جديد بخروجنا منها، بذرائع غير مقنعة وحالات استثنائية نعممها على الزمان والمكان.
أما ذريعة أن فتح باب الاجتهاد سوف يسمح بممارسة الاجتهاد لمن يحسنه ومن لا يحسنه -وهذا أمر طبيعي في كل المجالات- فالقضية محل نظر، حيث لا يستطيع أحد أن يملك توقيف عقول الناس وحجرها ومنعها من النظر والاجتهاد الفقهي والفكري ،لأن العقل سوف يواجه مشكلات لا بد أن يتعامل معها بصورة من صور التعامل.
ومن ناحية أخرى، فإن إغلاق باب الاجتهاد منعًا لذريعة الفساد والعبث، لم يمنع من الاجتهاد وتوليد الأحكام وخاصة في مجال الفتاوى السياسية، أو فقه السلطان، وتفصيلها على الأحوال السياسية المتناقضة والرغبات والأهواء المتقلبة، حتى أصبحت أشبه بما يسمى: (فتاوى تحت الطلب)، بحيث أصبح الكثير ممن يمارس مثل هذا النوع من الاجتهاد والفتوى، يحاول أن يتعرف قبل أن يتورط عن رغبة السلطان، ليتم تفصيل الفتوى على المقاس المطلوب.. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.(9/304)
إن مجال الاجتهاد مثل سائر المجالات يدخله الغث والسمين، والمؤهل ومدعي التأهيل، لكن الكثير من الاجتهادات سوف تطرد من الساحة ولا يكتب لها الصمود والبقاء والتطبيق لتهافتها وسقوطها.. فوعي الأمة وعصمتها كفيل بإسقاط كل فتوى واجتهاد لا تصيب الصواب ولا يتحقق صاحبها بالعلم والصلاح.. ولا تتلقى الأمة إلا عن أهل الثقة والخبرة، فكم من العبث تاريخيًا مورس على الأحكام الإسلامية ولم يكتب له الحياة والاستمرار.. فالله يحمي دينه ويحفظه، ويهيئ من يدفع عنه، ويوفق ويكتب القبول لمن ينصره.
لذلك أعتقد أن الخوف من دخول ساحة الاجتهاد من لا يحسن ذلك مبالغ فيه جدًا، ولا يجوز أن ينتهي إلى الحكم بإغلاق باب الاجتهاد، لأن الحق والصواب قادر على هزيمة الباطل.. والشر من لوازم الخير.. والتدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة.. ولا يصح إلا الصحيح.
فليجتهد الناس بحسب إمكاناتهم.. وإذا كان الإنسان غير مؤهل للنظر والاجتهاد فسوف يكون مرفوضًا من أهل العلم والخبرة والمجتمع بعامة، لأنه يحمل عملة رديئة مزيفة لا تشتري شيئًا.. فوعي الأمة كفيل بمحاصرة الخروج والانحراف.
والإسلام دين حياة كامل.. والمسلم معرض بقدر علمه واستطاعته لقدر من النظر في الحل والحرمة لممارساته، بعيدًا عن الكهانات الدينية، فالقضية قضية علم يحاصر الجهل مهما ادعى الجاهل أنه عالم. ونحن هنا لا ندعو لأن يدخل الساحة من يحسن ومن لا يحسن، وإنما نقول: بأن الذي لا يحسن سوف يخرج عمليًا من الساحة لأن بضاعته مزجاة.. وبعض ما يمكن أن يترب على دخوله من مخاطر وإصابات، قد تكون مطلوبة ليأخذ الناس حذرهم، وهذه الإصابات لا يمكن أن تعادل المفاسد والإصابات الكبرى التي تترتب على إقفال باب الاجتهاد.
وناحية أخرى لا بد من التوقف عندها في هذا المجال، وهي ما تواضع عليه العلماء من أدوات الاجتهاد وشروطه المطلوب توافرها فيمن يقدم على عملية الاجتهاد.
وفي ضوء أن هذه الشروط في معظمها اجتهادية، شأنها شأن الكثير من القواعد الأصولية، وحيث إنه لم يتوفر لها إجماع يمنحها قدرًا من القطعية، لذلك تبقى باستمرار محلاً للنظر والاجتهاد، حيثما تطورت أدوات البحث.. ذلك أن بعض الشروط التي قد تبدو ضرورية في عصر له أدواته العلمية والمعرفية، قد تتراجع أهميتها وقيمتها في عصر آخر، إضافة إلى أن الأمة جميعها مخاطبة ببذل الجهد والاجتهاد لإقامة الأحكام الشرعية والتعبد لله، كل بقدر استطاعته العلمية والجسمية والمالية، وأن التشاور والحوار والمناقشة والمثاقفة والمجادلة كفيلة إلى حدٍ بعيد بتصفية الاجتهادات الواهية والمغرضة والمنحازة والمذهبية والطائفية، وهكذا، وسوف لا يمكث في الأرض إلا الصالح الذي ينفع الناس.
ونحن هنا لا نقول بإطلاق الحبل على الغارب، وإشاعة الفوضى، وإلغاء قيمة التخصص التي نلح دائمًا على توفرها، وإنما نرى أن فتح المجال للفكر والاجتهاد المحكوم بقيم الكتاب والسنة، وعصمة عموم الأمة وغيرتها وحرصها على دينها، ومدافعة العلماء العاملين مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) (أخرجه البيهقي، وصححه الإمام أحمد والعلائي)، يشكل سدًا أمام العابثين، وسوف لا يحمل من المخاطر ما يحمله إغلاق باب الاجتهاد، حيث لم يغلق عمليًا إلا على أهل التقوى والصلاح والخوف، أما أولئك الذين احترفوا كسر الحواجز وتوهين القيم والعبث بتراث الأمة، وتحريف الكلم عن مواضعه والتأويل الفاسد، فلم يمنعهم شيء من علم أو دين. والواقع شاهد على ذلك، وقد تكون المشكلة أننا نرفض الكهانات في الإسلام ويمارسها بعضنا عمليًا.
ولسنا بحاجة إلى معاودة القول: بأن إغلاق باب الاجتهاد يلغي عقل الأمة ويحد من مسيرتها، ويحاصر خلود الشريعة من الامتداد بأحكامها، ويفسح المجال لامتداد (الآخر)، ويشيع من الرعب الفكري ما يشل الحركة الذهنية بشكل عام، علمًا بأن إغلاق الباب أيضًا لم يحل دون التحريف والانحراف، الذي ما كان ليكون لو ملئت الساحة بالخير والصواب، فتغييب الخير يعني الإيذان بحضور الشر.
وقد يكون من المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وقد حصل من التقدم في مجال الاتصالات ووسائلها ما لم يخطر على البال حتى في عصر الخيال العلمي، لدرجة أن الإنسان أصبح يرى ويسمع العالم من مكانه، كما حصلت ثورة معلوماتية هائلة وتطور في أدوات ووسائل الحصول على المعلومة وحفظها واسترجاعها، إضافة إلى عمليات التصنيف والأرشفة التي تجعل الإنسان في الصورة المحيطة لكل ما يريد، قد يكون المطلوب إعادة النظر في شروط الاجتهاد، التي اجتهد العلماء في وضعها في عصور معينة في ضوء رؤيتهم، وظروف عصرهم، وأدواتهم المعرفية، ودرجة تدوين العلوم، ووسائلهم في الحفظ، وما كان من أهمية الاعتماد على الذاكرة.
وأعتقد أن الوضع قد يكون تغير كليًا اليوم، فاللغة مدونة بمفرداتها ومعانيها ومجازاتها وقواعدها، فمعاجمها ومصطلحاتها موجودة ومسهلة لدرجة كبيرة، وأية مسألة من مسائلها ومفردة من مفرداتها يمكن الحصول عليها والوصول إليها بسهولة، والقرآن محفوظ بالصدور والسطور، وأشكال الحفظ والاستدعاء لا تحصى، وهي ما تزال تتطور يوميًا، ومؤلفات الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، وما إلى ذلك من العلوم كلها متوفرة أمام الباحث، لدرجة أنها أصبحت مكشوفة وميسرة لعموم المتعلمين، والحديث استقر ومُيّز صحيحه من ضعيفه وموضوعه; وحسنه ومتواتره، والبحوث في هذا المجال استوفت التوثيق من حيث الرواية ودرجة الحديث، وبالإمكان اليوم بضغطة (زر) الحصول على نص الحديث ودرجة صحته ومصدره في الكتب المعتمدة (كتب الصحاح)، وما على الباحث إلا النظر والدراية، وهكذا الكثير من الشروط الاجتهادية المطلوبة للاجتهاد، أفلا يقتضي ذلك كله إعادة النظر بهذه الشروط التاريخية، التي جاءت ثمرة لرؤية خاصة، في عصر معين له أدواته المعرفية وظروفه الفكرية ؟!
وبالإمكان القول: إن هذه الشروط التي تكاد تكون مستحيلة التوفر، وإن بدا أنها تسدد الطريق إلى الصواب، فإنها ساهمت بغلق باب الاجتهاد، ولم تؤد إلى تذليل طريقه، فهي أقرب للاستحالة، والحكم على عقل الأمة بالعطالة والإلغاء منها إلى المساعدة على النمو والامتداد.
ويمكن أن نقول: بأن الإسلام أصيب ولا يزال على يد أبنائه والمنتسبين إليه أكثر من إصابته من الخارج أو من (الآخر)، بل لعلنا نحن الذين ساهمنا بسذاجة بتقوية أعداء الإسلام وتقويض الكيان الإسلامي، وحال المخلصين منا شبيه بحال الأم التي تحول بين الطبيب وابنها المريض حتى لا يتألم من تناول الدواء، فيؤدي الأمر إلى موته أو إلى استمرار مرضه.
وقضية أخرى في هذا السياق; وهي: أن التشعب المعرفي حتى في المجال والموضوع الواحد، وشيوع الاختصاص الذي أصبح سمة العصر، لم يعد يسمح، ولا يمكن معه لأي إنسان بالغًا من الذكاء ما بلغ، بالغًا من العمر ما بلغ، أن يدعي الإحاطة بكل شيء، والإجابة عن كل شيء، والاجتهاد في كل شيء.. والذي يدعي معرفة كل شيء والإجابة عن كل شيء نخشى أن نقول: (لا يعرف شيئًا)! والذي لم يؤدبه الإسلام فلتؤدبه المعرفة وأخلاقها، حتى لا يقفو ما ليس له به علم.(9/305)
لذلك فإن قضية المجتهد المطلق والرجل الملحمة ولى عهدهما، وبالتالي لا بد من إعادة النظر بالشروط العامة، والتحول إلى الشروط الخاصة والمطلوبة لكل شعبة من شعب العلوم والمعارف. إضافة إلى أن إمكانية النظر الفردي تبقى' قاصرة وغير محيطة; حيث لا بد من الاجتهاد الجماعي الذي يجتمع له الخبراء المتخصصون والفقهاء المتمرسون بمعرفة الوحي، ويغيب عنه المتحمسون غير المتخصصين، لأن مجالهم آخر.
وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية -إن صح التعبير- أن بعض الذين يدافعون عن شروط الاجتهاد التعجيزية، ويصرون على عدم إعادة النظر فيها، بالرغم من تطور أدوات الاجتهاد، هم أنفسهم يرضون لأنفسهم أن يتطاولوا على قضايا ليست من اختصاصهم ولا حتى من اهتمامهم، ولا تتوفر فيهم أدنى شروطها، بل لعل الكثير منهم يغادر اختصاصه النوعي، من طب وصيدلة وهندسة وعلوم، الذي يمكن أن يكون في خدمة الفقه -بالمعنى العام- ليتحول إلى واعظ أو باحث أو خطيب متحمس في قضايا قد لا يختلف فيها كثيرًا عن المتلقين، الأمر الذي أثمر العجز والتخاذل والمراوحة في الموقع الواحد، والاجترار والإعادة للقضايا لأكثر من نصف قرن دون أي قدرة على المراجعة وا لتقويم، وحتى الإفادة من التجربة الذاتية.
وبالإمكان القول: إن الفقه التشريعي والفقه العبادي وكل ما يتعلق بقضايا الحلال والحرام قد استبحر وأُنْضج وقُورن وَرُجِّح وأصِّل، حتى إنه لم يدع استزادة لمستزيد، وأنه استقر واستمر.. وهذا الفقه التشريعي والعبادي هو الذي يشكل المحور الأساس للتدين والسلوك، أما فيما وراء ذلك من الفقه التربوي والسياسي والاجتماعي والدولي فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، أو المعرفي بشكل عام، فهو أقرب إلى الفقه الفكري أو الرؤية الفكرية التي تكاد تتطور يوميًا بإيقاع سريع في ضوء المعطيات المعاصرة والمشكلات الاجتماعية والتربوية وإلغاء الحدود وكمية التبادل المعرفي الذي يرتكز على التجارب الميدانية التي تتعاظم وتتسع فيها معارف العقل المستهدي بالوحي، فلا نعتقد أنها بحاجة للضوابط والشروط الاجتهادية نفسها.
لذلك ففتح باب الاجتهاد على مصراعيه اليوم، بات لا يشكل خطورة على قيم الشرع، وإنما يساهم بإطلاق العقل من قيوده الموهومة باتجاه تحقيق الرؤية الإسلامية في العلوم الاجتماعية، واستشعار أهمية التخصصات في شعب المعرفة جميعًا، وأن تحصيل هذه التخصصات التي تعتبر من الفروض الكفائية الغائبة هو دين واجتهاد فكري مثاب عليه صاحبه، وبذلك يعود الارتباط المفقود بين العلم والدين، وتنضبط المسيرة العلمية بضوابط الوحي وأهدافه، ويقبل المسلم على اكتساب المعارف، والاجتهاد في توليد الرؤى الشرعية بدافع الثواب ووازع العقيدة والدين، ويصبح خطابه في مجال اختصاصه مقنعًا ومسموعًا.
في ضوء هذه الرؤية لقضية الاجتهاد، ومجالاته، وأبعاده، وأهدافه التي تقتضي إعادة النظر في الشروط الاجتهادية والأدوات المطلوبة، التي قدمها العلم للمجتهد، يمكن إعادة النظر أيضًا في مناهج وشروط بناء الملكة الفقهية، أو ملكة الاجتهاد، حيث لا بد أن يسبق الفكرُ الفعلَ، والنيةُ العملَ. فما هي المجالات التي سوف نرتادها ونجتهد فيها، وما هي الأهداف التي نريد تحقيقها، وما هي الكيفية التي نتوصل بها إلى تحقيق الأهداف، وما الشروط والمعارف المطلوب توفيرها للفقيه المفكر في كل اختصاص، إلى جانب الشروط العامة المطلوبة لشعب المعرفة جميعًا ؟؟
ذلك أنه من المؤلم والمحزن حقًا أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تخرج حفظة وحملة فقه في الأعم الغالب، ولا تخرج فقهاء.. تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير.. تخرج من لا يستطيعون تجاوز المثال الذي أتى به الأقدمون، إلى تنزيل القاعدة على واقع جديد، أو توليد حتى مثال معاصر غير القديم.
وليست الدراسات العليا في معظمها -والأصل فيها أنها قائمة على البحث والدراسة والمقارنة والتقويم والترجيح- بأحسن حالاً، لأنها امتداد لعقلية النقل والشحن والتفريغ، بعيدًا عن الإبداع والتفكير والابتكار.
فالناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراة في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام، يجد أطنانًا من الورق، يعظم كمها ويتضاءل كيفها، لم تحرك ساكنًا، ولم تحقق رؤية تغير من واقع الأمة، وإن كانت ترتقي بالمواقع المادية وأحيانًا الاجتماعية لأصحابها، الذين أصبحوا حملة الألقاب العلمية! هذا إن لم تكن في بعض الأحيان وسيلة توبيخ مستمرة لحملتها.. ويكفي استعراض الكثير من العناوين والمضامين لهذه الرسائل التي قد تبلغ عشرات الألوف للدلالة على عقل الأمة وحالها.. فإذا كنا لا نستطيع تجاوز المثال بعد، ولا نمتلك إمكانية التقويم الثقافي والفقهي، فكيف تبني مؤسساتنا ومناهجنا ملكات فقهية ?! وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود إبداعات أو إضاءات وفتاوى أنارت للأمة الطريق واحتفظت بالأمل.
لذلك فمشكلة المعاهد الشرعية، ودورها في تخريج الفقهاء والعلماء، والمساهمة في تنمية وبناء الملكة الفقهية، ذات أبعاد متعددة ومثيرة ليس أقلها ما تعانيه من غربة الزمان والمكان، وذلك على أهمية دورها التاريخي في حفظ العلم الشرعي ونقله، والحفاظ على الهوية والأصالة، بكل مقوماتها، والاحتفاظ بالأمة، والآمال المعقودة عليها.
فقد انتهت إلى حالة لم تستطع معها أن تفكر في تطوير مناهجها وخططها لتواكب مستجدات العصر، بحيث تستطيع أن تؤهل الطالب للتعامل والاجتهاد في قضايا عصره، من خلال رؤىة ومرجعية شرعية متينة، بل بقيت مقتصرة على الطريقة القديمة ذاتها بمناهجها وموادها التعليمية، وقد تستهلك وقت الطالب وعقله في شرح المختصرات واختصار الشروح والمطولات، وحفظ الأراجيز، وبذل الجهد الذهني الكبير في فك رموز العبارات ومستغلقاتها، وصرف الجهود على قضايا لم تبق لها سوى القيمة التاريخية إن بقيت، وعدم ملاحظة -أثناء العملية التعليمية- نمو مدارك الطالب وتطور ملكاته وتوافق المعلومة مع إمكاناته العقلية وحاجاته العملية، واعتماد طريق التلقين والتلقي بعيدًا عن التفكير والمشاركة، بل لعل المنافسة والمشاركة والمقارنة الفقهية تشكل سببًا في نبذ الطالب وتأنيبه.
وعلى العموم، فقد بقيت طرائق التعليم وأساليبه ومعلوماته تدور في هوامش عقل المؤلف أو الشيخ، ونظراته الفقهية ومذهبه، أي أن الحركة التعليمية كل مدارها عقل آخر لا يجوز أن يُخرج عنه، لذلك فهي في أحسن الأحوال تنتج نسخًا مكررة مقلدة يمكن أن تغني عنها النسخ الأصلية.. وغالبًا ما يسود العملية التعليمية في معاهد التعليم الشرعي الاستغراق في الفروع والمسائل الجزئية، بعيدًا عن تكوين المنهج وتشكيل النظرة الكلية وبناء الملكة الفقهية القادرة على النظر، على الرغم من أن بعض أسماء هذه المعاهد: (كليات)، لكنها تفتقر إلى النظرة الكلية والرؤية المنهجية.(9/306)
إضافة إلى أن بعض الدارسين في هذه المعاهد يعاني من غربة المكان، فأقل ما يمكن أن يقال: إنه لم يؤهل لعصره، ولم يسلم مفاتيح التعامل مع الواقع من الناحية الشرعية.. فقد يحمل الفقه المكتوب ويحفظ متونه، لكنه لا يفقه شيئًا عن الواقع، فهو خارج المجتمع الذي يعيش فيه.. وجهله لمشكلاته وقضاياه ومداخله وثقافته قد يجعل مداخلته ساذجة وسطحية في كثير من الأحيان، ويجعل خطابه (صيحة في واد).. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشكل الرؤية المطلوبة ودليل العمل للوصول إلى الأمة وتوصيل رسالة الإسلام لها، قد لا تشعر بعض المعاهد بأهميتها! ذلك أن أمر استيعابها وتدريسها قد يحتاج إلى جهود، وترافقه احتمالات الخطأ، وهذه مشكلات لا تحتاجها عمليات التعليم القائمة على الشحن من كتب السابقين والتفريغ على رؤوس المعاصرين.
وقد أدت هذه الغربة عمليًا إلى لون من الانشطار الثقافي، وخروج بعض معاهد العلم الشرعي من قلب المجتمعات لتعيش على هوامشها غير الفاعلة، وساهم إلى حدٍ بعيد بتدعيم مؤسسات التعليم الذي يصطلح على تسميته بالتعليم المدني، الذي أبصر المجتمع وخطط لاحتلاله، وهيأ الطالب لوظائفه ومسؤولياته، الأمر الذي انعكس بدوره أيضًا على مدخلات المعاهد الشرعية، حيث أصبح لا يُقبِل عليها في غالب الحال إلا أصحاب المعدلات المتدنية، الذين لم يجدوا مكانًا لهم في مؤسسات التعليم المدني، إلا من رحم الله من المتميزين القادرين على اجتياز العقبة وإدراك أهمية الفقه في الدين، وإبصار عاقبة الأمور، على الرغم من أنه قد يصاب هؤلاء مع الأسف ببعض النماذج من القائمين على أمر التعليم الشرعي دون مؤهلات صحيحة فيسيئون إلى تطلعاتهم، ويحبطون عقولهم، ويقتلون طموحهم، ويساهمون بعجزهم وتفتيت معارفهم، وبعثرة قدراتهم، والقضاء على ملكاتهم. وبذلك تصبح مخرجات المعاهد الشرعية (ضغثًا على إباله)، كما يقول المثل.
وهذا الكتاب، يتناول موضوعًا، أو يطرح قضية على غاية من الأهمية، ويفتح ملفها، ويستدعيها للبحث والمناقشة والدرس بعد أن كادت تغيب عن الذهنية الإسلامية المعاصرة بشكل عام، ومعاهد التعليم الشرعي الإسلامي -محاضنها الطبيعية- بشكل خاص، في هذه الحقبة الثقافية التي بدأ يكثر فيها المتحمسون ويقل فيها الفقهاء والخبراء المتخصصون.
وهو محاولة، استعرضت وجهات النظر المتعددة، منهجيًا ومذهبيًا، ولغويًا واصطلاحيًا، في تعريف الملكة الفقهية، وكيفية تنميتها، ورعايتها، وإعادة بنائها.. ولعل الإشكالية أنه على الرغم من الانفجار المعرفي والثورة المعلوماتية، وتدفق المعلومة وسرعة الحصول عليها وحفظها واسترجاعها، والتقدم بأدوات ومناهج البحث، فإن استقراء الواقع العلمي والعملي لا يشير إلى أن الإنتاج الفقهي والظهور كان بمستوى تلك الأدوات ولا بموازاتها، الأمر الذي يشكل إدانة لوسائلنا ومؤسساتنا التعليمية، ويؤكد الخلل في مناهجنا وطرائقنا التربوية.
لذلك فإن هذه القضية التي أعاد الباحث -جزاه الله خيرًا- فتح ملفها، ما تزال تستدعي مزيدًا من التوسع والنظر والنقد والتقويم لشروط الاجتهاد وأدواته، بعد هذا التطور الرهيب في تصنيف العلوم بحسب موضوعاتها، وتقدم وسائل الحفظ والاسترجاع، لإحياء قدرات الأمة وشحذ فاعليتها وبعث روح التفكير والاجتهاد، والتدريب عليه، ليصبح مناخًا ثقافيًا يعيد حراك الأمة، وينفخ فيها روح الحياة، ويحقق المعاصرة لمؤسساتها، ويسترد العطاء العلمي الإسلامي، الذي يطلق العقل للاجتهاد والنظر في ضوء هدايات ومعارف الوحي، ويفك قيود العزلة، ويلغي حواجز الاغتراب، ويعيد للفقه مفهومه الشمولي لشعب المعرفة جميعًا، ويساهم في بناء الملكة القادرة على النظر في العواقب والمآلات، استجابة لدعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لابن عباس الذي يشكل حافزًا لكل مسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (أخرجه أحمد)، ونزوعًا إلى استرداد خيرية الأمة التي تكتسبها بسبب فقهها في الدين: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ) (أخرجه البخاري)، واستنفارها لتحصيل الاختصاص، وإشاعة إحياء الفروض الكفائية، وربط مسيرة العلم وضبط وجهته بالإيمان، لتقلع الأمة من جديد.
والله المستعان.
=============
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد;
فلقد مثلت العلاقة بالغرب في خطاب التجديد الإسلامي محورًا مهمًا، ويكاد الغرب يكون عاملاً حاضرًا في كل الخطابات الإسلامية منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وكانت الدراسات الإسلامية (للظاهرة الغربية ) لم تتجاوز في أغلبها النظرة الحدية التي اتسمت بها ثقافة رجل ما بعد الموحدين(1)، فالغرب إما طاهر مقدس، وإما دنس حقير. كما لم تتجاوز في معظمها خطاب التحذير والتعبئة.. وتناول كثير من المفكرين الظواهر المصاحبة للهيمنة الغربية على العالم بشيء من الاجتزاء والقصور.
غير أن هناك بعض المحاولات المبكرة في الفكر الإسلامي المعاصر، حاولت أن تؤسس لخطاب علمي يتجه إلى البحث في عمق الظاهرة، وتتبع جذورها وصيرورتها، وآثارها وانعكاساتها على الواقع الإسلامي، كما اتجهت إلى دراسة التجربة الحضارية الغربية في خصائصها، ومدى إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وآثارها عليها، مما أفرز توجهات ومؤسسات أكاديمية إسلامية كثيرة، تحاول أن تجعل من دراسة الغرب في حضارته وثقافته حقلاً معرفيًا، تدرس من خلاله التطور التاريخي للحضارة الغربية، وكيفية تشكل المفاهيم الغربية في ارتباطها مع الوعي الغربي، وانضوائها في نسق معرفي وحضاري عام للحضارة الغربية، وذلك من منظور حضاري إسلامي يحيط بالمشكلة ويحللها ويدرسها، ثم يقدم التصورات والحلول العلمية والعملية لمسألة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي، باعتبار غياب الحضارة الإسلامية الفاعلة هي المشكلة المركزية التي يتخبط فيها العالم الإسلامي.
ومهمة مثل هذه تحتاج إلى تراكم الخبرات المعرفية، سواء عن طريق البحث في جوانب من الظاهرة الحضارية الغربية في صلتها بالمشكلة الإسلامية، أو في نقد الرؤى والتصورات والأطروحات التي قام بها رواد الفكر الإسلامي في هذا المجال، وذلك لضمان التواصل العلمي، وتأسيس تقاليد علمية تتجاوز نطاق التجارب الفردية المعزولة عن بعضها، وتتحول إلى حقل معرفي للدراسات المتخصصة التي تركز بحثها في الغرب، لفهمه، وفهم أنساقه الثقافية والمعرفية، وأنماط حياته، وتقديم خلاصة علمية للاستفادة منها في تحقيق الخروج من حالة التخلف والتراوح والتبطل التي تعاني منها أمتنا الإسلامية.
وفي هذا الإطار نحاول أن ندرس أحد النماذج الإسلامية فيما يتعلق بدراسة الظاهرة الحضارية عمومًا، والظاهرة الغربية بوجه خاص، ومدى صلتها بالوعي الإسلامي، وصلتها بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي.
ولهذا اخترنا (مالك بن نبي ) رحمه الله، باعتباره إحدى العينات التي تعطينا من خلال دراستها مدى التطور الذي بلغه الفكر الإسلامي في معالجة مثل هذه المسائل.. والغاية من ذلك هي تعميق الوعي، وتأسيسه على قواعد بيّنة، وإعطاؤه مداه الواسع، لنتمكن من تحديد موقع الظاهرة الحضارية الغربية في مشروعنا التجديدي، في سبيل تحقيق العودة إلى التاريخ وبناء الحضارة الإسلامية من جديد لتمارس أمتنا دورها في القيادة والشهادة.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
==============(9/307)
الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله
موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله » الفصل الأول المنظور الفكري لمالك بن نبي رحمه الله موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله
يهدف هذا الفصل إلى التعرف على المنظور الفكري لمالك بن نبي، وذلك من خلال البحث في موقع المسألة الحضارية في فكره، وما هي المشكلة الأساس التي شغلت فكره، ثم كيفية دراسته للحضارة الغربية، هل هو منطلق دفاعي، فيه رد فعل، أو من خلاله فكر الرد والنقض، أو فكر التقريب والتركيب، وهذا يدعونا إلى النظر في المنظور الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الحضارة الغربية، والذي أسميناه المنظور الحضاري، حيث نتناول مفهوم الدورة الحضارية الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الغرب، ثم موقفه من العلاقة بالغرب، ومدى الحاجة إلى معرفته.
موقع المسألة الحضارية في فكر مالك بن نبي رحمه الله
إن المتأمل في أعمال (ابن نبي ) الفكرية، يجدها تعالج مسألة واحدة تدور حول محور واحد، هو مشكلة الحضارة، باعتبار أن الحضارة هي الإطار الذي ينظم كل هذه الأجزاء التي نسميها في مكان ما مشكلة سياسية، وفي مكان آخر مشكلة اقتصادية، وفي مكان ثالث مشكلة أخلاقية.
والعالم الإسلامي في بحثه عن صياغة بناء حضاري جديد، عليه أن يبحث أولاً في أسباب الغياب الحضاري الذي دام مدة طويلة كان خلالها خارج التاريخ، كأن لم يكن له هدف(1). ولهذا يعتبر (ابن نبي ) أن العالم الإسلامي أضاع وقتًا طويلاً، وجهدًا كبيرًا، بسبب عدم التحليل المنهجي للمرض، الذي يتألم منه منذ قرون طويلة(2)، فذهب يتلمس الحلول الجزئية، ونظر إلى القضية في صورها التجزيئية، فاختلفت الأطروحات; من الطرح السياسي إلى الطرح الاقتصادي إلى الطرح الأخلاقي... وهكذا.
فهناك من رأى أن الأزمة سياسية تحتاج حلاً سياسيًا، فركز كل جهوده في التغيير والإصلاح السياسي، وانتقاد فساد الحكم، ومحاولة تغيير أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية.
وهناك من رأى أنها أزمة أخلاقية تستلزم حلاً أخلاقيًا، فذهب إلى أن الحل يكمن في الالتزام بالخلق الإسلامي الرفيع، والإقلاع عن المعاصي بمعناها الفقهي فقط(3)، وبالتالي راح يتذمر من الفساد الأخلاقي، واعتبره مكمن الداء.
وهناك من رأى أنها أزمة عقدية تستلزم إصلاح العقيدة، وأن لا حل إلا بتخليص العقيدة من الكلام والفلسفة، وإعادة تعليم الناس عقائد الإسلام، وإقناعهم بأن الله هو الخالق وهو المعبود الحقيقي، وأن الالتزام بعقيدة التوحيد هو الحل، فتوجه إلى صياغة علم العقيدة من جديد بأسلوب آخر.
ولهذا فهو ينتقد كلا الفريقين (التحديثين والإصلاحيين )(4)، بأنهم لم يحددوا بدقة مكمن الأزمة، فاتجه كل إلى عرض من أعراضها، في حين أن الأزمة أعمق من هذه الأعراض كلها، إذ أن المسلم لم يفقد إيمانه بالله في أي لحظة من لحظات التاريخ، حتى مسلم ما بعد الموحدين، كما أن الالتزام بالخلق الإسلامي لم ينعدم بين المسلمين، لكن عقيدته تجردت من فاعليتها(5).
ولهذا أيضًا ينبغي البحث في جوهر الأزمة وحقيقة المرض، وعدم الاكتفاء بمعالجة الأعراض أو المظاهر الجزئية التي تطفو هنا وهناك في صورة أو أخرى.. كما أن كل هذه الأعراض تحتاج إلى إطار من خلاله نرى كل الجوانب المتعلقة بالأزمة، ولا نغيِّب أحدها، وهذا الإطار يكمن في إرجاع الأزمة إلى جوهرها; الذي هو مشكلة غياب حضارة المسلم، وغيابه عن صنع التاريخ، وهو إطار ينبغي أن ينظم كل الجهود الإصلاحية، لنحقق النهضة التي طال العمل لها في العالم الإسلامي(6).
وفي هذا يقول (ابن نبي رحمه الله ): (فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل السياسة، بينما رأي رجل دين(7)كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ.. على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض، بل يتحدث عن أعراضه )(8). وقد نتج عن هذا أننا منذ عقود من الزمن لا نعالج المرض، وإنما نعالج الأعراض(9).
فالمرض كامن في نفس المسلم، وفي ثقافته الموروثة، كما هو كامن في سلوك المسلم وتصرفاته اليومية، وفي قلبه وعقله.. والأزمة تكمن في الأدران العالقة بالمسلم من تراث الانحطاط عبر القرون، أكثر ما هي بسبب خارجي وافد. فالأمر لا يتعلق بنقص في الوسائل حتى نستوردها ونكدسها، بل يتعلق بأزمة في الأفكار(10)، وفي كيفية البحث عن حلول موضوعية لها. ولهذا يرفض تسطيح وتجزيء المشكلة، ويعتبر أن هذا يؤدي إلى استفحال التخلف، في حين الجهود تتجه لمعالجة مظاهره وليس جوهره، هذا الجوهر يكمن في الإمساك بالمشكلة المركزية التي تنتظمه، وهي الارتقاء إلى مستوى أرحب في التحليل، من خلال النظر إلى الأزمة بنظرة شمولية.
ولهذا يقول: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها )(11)، فكانت كل جهوده وأعماله الفكرية تنصب على البحث عن حل مشكلة الحضارة في العالم الإسلامي، ومحاولة البحث عن مدخل منهجي مناسب لإعادة بناء حضارته من جديد.
وهو ما أكّده صراحة بقوله: (أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي مشكلة الحضارة، وكيفية إيجاد الحلول الواقعية لها وإزالة التناقض بين النجاح المادي والتخلف المعنوي، أعني تخلف القيم وإهمالها )(12). ولهذا فمشكلة العقيدة وتصحيحها أو مشكلة الدولة أو الاقتصاد أو غيرها، هي قضايا ينبغي ربطها بالمشكلة المركزية، مشكلة حضارة المسلم.. فالمسلم، حتى مسلم (ما بعد الموحدين )، لم يفقد إيمانه وصلته بالله(13)، كما أن الدولة إفراز اجتماعي لا تصلح إذا كان المجتمع غائبًا عن صنع التاريخ.
فالأزمة في جوهرها -كما يؤكّد (ابن نبي )- أزمة حضارية، ولن نتمكن من القدرة على حلها إلا إذا أمسكنا بقوانينها، ونظرنا إليها بعين التحليل، وبحثنا عن سنة الله فيها(14). كما أن الحضارة تقوم على قانون البناء لا على التكديس، فلكي نبني حضارة لا يكون ذلك بتكديس منتجاتها، وإنما بأن نحل مشكلاتها الأساسية(15). وهذه المشكلات الأساسية هي العناصر الأولية التي نحصل عليها من خلال تحليل أي ناتج حضاري، فكل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:
ناتج حضاري= إنسان + تراب(16) + وقت.
وإذا استخدمنا طريقة الجمع الحسابي، فإننا نصل إلى أن هناك ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية: حضارة= إنسان + تراب + وقت(17). فأزمة الحضارة تنحل إلى هذه المشكلات الأولية الثلاث; مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت. ونحن حينما نحاول التخطيط لحضارة، فليس علينا أن نفكر في منتجاتها وإنما في أشياء ثلاثة، في الإنسان والتراب والوقت. فحينما تحل المشاكل الثلاث حلاً علميًا، ببناء الإنسان المتكامل والاعتناء بالتراب (الإمكانات الطبيعية )، والزمن، لتتفاعل معًا ضمن ما توفره الفكرة الدينية المركِّبة للقيم الاجتماعية من شرارة روحية، فقد تم حل مشكلة الحضارة، التي هي الإطار الذي فيه تتم للفرد سعادته(18).(9/308)
ورجل الفطرة، والتراب، والوقت، ذلك هو الرصيد الذي تضعه العناية الإلهية بين يدي أي مجتمع يريد النهوض(19). ويبقى الإنسان هو الشرط الأساس لكل حضارة، فهو محور الفاعلية في حركة الحضارة، وهو الذي يعطي ويحدد القيمة الاجتماعية لهذه المعادلة-السابقة الذكر- لأن التراب والوقت -إذا اقتصر عليهما فحسب- لا يقومان بأي تحويل اجتماعي(20).
وإذا جئنا إلى الإنسان، فإننا نجده يؤثر في حركة المجتمع بثلاثة مؤثرات: بفكره، وبيده (عمله )، وبماله، ومن هنا فإننا بإزاء ثلاث مسائل متعلقة بالإنسان، هي الحاجة إلى العناية بفكر الإنسان (ثقافته )، والعناية بتوجيه عمله ليحقق الفعالية القصوى، والعناية بماله ليدخل في استثمار اجتماعي منتج(21). فالمجتمع الذي يتمكن من بناء عالم ثقافي منسجم مع سنن الآفاق والأنفس والهداية، ويحسن استثمار إمكاناته البشرية والمادية على ضوء ذلك، يضطرد نموه، وتتضاعف إنتاجيته الحضارية، ويمتلك في نهاية المطاف القدرة على الإشعاع والامتداد في التاريخ(22)، ويستطيع القيام بإنجاز تركيب للحضارة.
==============
منظور دراسة (ابن نبي) رحمه الله للظاهرة الحضارية الغربية
1- الدورة الحضارية:
تشكل نظرية الدورة الحضارية، المدخل الذي يمكِّن من فهم المنظور الذي درس من خلاله (ابن نبي ) الحضارة الغربية.. فالدورة الحضارية، باعتبارها من أهم أدواته التحليلية في دراسة وتحليل الحضارة، ترتكز على المبدأ الذي وضعه (ابن نبي )، ويتلخص في أن الحضارة يحكمها قانون الهجرة أو الدورة، والذي في حقيقته يعني استمرار الحضارة وتنقلها من مكان نفدت فيه عناصرها (شروطها ) الأولية إلى مكان آخر توفرت فيه هذه الشروط، لتنطلق منها في دورة جديدة تواصل به سيرها إلى أن ينتهي التكليف وتنقضي سنة الحضارة والعمران البشري.. فسنة التداول الحضاري نقطة مهمة في فهم المنطلق الذي من خلاله درس (ابن نبي ) الحضارة الغربية، وأفرد لها جانبًا مهمًا في معظم كتاباته، وفي نظريته في البناء الحضاري.
وفي دراسته لـ (الظاهرة الدورية )(1)، يصدر الفصل بقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140)، ليؤسس عليها قانونه في الدورة الحضارية، أو بتعبير آخر قانون التداول الحضاري. فيرى (ابن نبي ) -رحمه الله- أن دراسة التاريخ لها جوانب متعددة; منها الجانب الفردي بالقياس إلى الفرد وبالتالي هو دراسة نفسية، ومنها الجانب الاجتماعي وبالتالي فالتاريخ من هذا الجانب دراسة اجتماعية، إذ يكون دراسة لشرائط نمو مجتمع معين. وهو إذ يعتبر ابن خلدون أول من اكتشف منطق التاريخ، من خلال نظريته في أعمار الدولة، ودور العصبية في تحقيق سنة التداول، فإنه ينتقد ابن خلدون في ضيق مفهومه لدراسة أعمار الدولة، وضيق مفهومه عن العصبية والدولة، على الرغم من أن ابن خلدون أول من اكتشف الظاهرة الدورية التي طورها (ابن نبي ) رحمه الله وجعلها أساس نظريته في دورة الحضارة. وكذلك ينتقد (أرنولد توينبي ) في نظرية المجال الجغرافي(2)، إذ أن (نمو مجتمع معين لا يقوم على حقائق الجنس أو عوامل السياسة، بقدر ما يخضع لخصائصه الأخلاقية والجمالية والصناعية المتوافرة في رقعة تلك الحضارة )(3).
على أن نمو المجتمع المرتبط بتوفر مجموعة من الخصائص في رقعة حضارته، لا يجعله ينعزل عن العالم، بل إن تطوره مشروط ببعض الصلات الضرورية مع بقية المجموعة الإنسانية. فالاكتفاء بـ (مجال الدراسة ) بمفهوم (توينبي )، يعزل الجانب الغيبي (الميتافيزيقي ) للتاريخ، الذي يتطلب التجاوز بالدراسة إلى ما وراء السببية التاريخية، لكي نلم بالظواهر في غايتها، فهناك خلف الأسباب القريبة أسباب بعيدة، تخلع على تفسير التاريخ طابعًا كونيًا(4). فهذه الأبعاد الكونية لحركة التاريخ، ونمو الحضارة، يجعلها (ابن نبي ) مبررًا لكي (ندرس التطور الحديث في العالم الإسلامي، آخذين بعين الاعتبار علاقات هذا التطور القائمة أو الممكنة مع الحركة العامة في التاريخ الإنساني )(5).
وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نحدد ونعرف جذور هذه الحركة بدقة في الزمان والمكان، حيث إن أبعادها التاريخية تتحرك في رقعة غير ثابتة، من خلال التعاقب بين الحضارات، فإننا أمام جانبين جوهريين للحضارة; (الجانب الميتافيزيقي أو الكوني )، وهو جانب ذو هدف وغاية، والجانب (التاريخي ) الاجتماعي، وهو جانب مرتبط بسلسلة من الأسباب)(6). وهذا الأخير، تتمثل فيه الحضارة كأنها مجموعة عددية تتتابع في وحدات متشابهة، ولكنها غير متماثلة، وهكذا تتجلى لأفهامنا حقيقة جوهرية في التاريخ هي: (دورة الحضارة )(7).
فالمجموعات العددية المتتابعة هي الحضارات المتعاقبة، تتشابه في أنها تمثل كلها حلقات متصلة في الملحمة الإنسانية الخالدة، وتختلف عن بعضها من حيث إن (كل دورة محددة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين )(8). فإذا توفرت هذه الشروط كانت حضارة، ثم إنها تهاجر إذا ما اختل تركيبها إلى موطن آخر، لتتحول معه إلى حضارة أخرى، وفق التركيب الخاص للإنسان والتراب والوقت.
ومن هنا فإن (ابن نبي ) ينتقد الذين ينظرون إلى مشكلة العالم الإسلامي بسطحية ومعزل عن التيار العام للإنسانية، والقانون الذي يضبط انتقال الحضارة في شروطها النفسية والاجتماعية، ويقول: (هذه الملاحظات تدفعنا إلى أن ننتقد مسلك بعض الباحثين حين ينظرون إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة (الانحطاط); وإن العالم الإسلامي لفي مسيس الحاجة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة، ولهذا فإن مما يهمنا في المقام الأول أن نتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه )(9).
وفي دراسته لانحطاط العالم الإسلامي، والسبيل إلى تحقيق النهضة، يدعو إلى تأمل دورة التاريخ وتسلسله، لتحقيق إدراك واع (بمكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط، وما ننطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا )(10).
فتحديد المكان الذي نوجد فيه يسهِّل علينا كثيرًا معرفة إمكانياتنا، كما يساهم في تحقيق وعي بأسباب التخلف وعوامل النهوض الكامنة في ذاتنا، وإذا ما غاب هذا التحديد، فإننا قد ننهمك في حل إشكالات ليست حقيقية، أو أن صلتها بأزمتنا الحضارية صلة واهية أو معدومة، إذ من الواضح أن (الفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية )(11). فهناك فرق في الطور بين مشاكل مجتمع يعمل على التخلص من ركام التخلف والدخول في دورة حضارية جديدة، وبين مشاكل مجتمع في قمة حضارته.
ولعل من أعظم ملامح زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ، أننا نجهل النطقة التي منها نبدأ تاريخنا، مما جعلنا نراوح المكان، بين أن نحتمي بالتاريخ، أو نطفر إلى الإمام طفرة عمياء في حركتنا نحو الغرب(12)، ولهذا يؤكد (ابن نبي ) أنه: (لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييعًا للجهد، ومضاعفة للداء، إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار )(13).(9/309)
غير أن هذا لا يدفع إلى الانعزال عن بقية الإنسانية والتعلم من التجارب التي يتم إنجازها، وبخاصة في عالم يشهد انحسار الحدود، وتقريب المسافات بين الشعوب والأمم والحضارات، مما يدفعنا إلى تحديد مكاننا من منطلق واقع اجتماعي معيش.
ومن هذه الرؤية الواقعية ينطلق (ابن نبي )، باعتبار أن العالم يتجه نحو التوحد، ولا يمكن للعالم الإسلامي أن يعيش في عزلة.. وعلى الرغم من أن حلول العالم الإسلامي لا تأتي من خارج حدوده، فإنه مطالب أن يتعلم من التجارب الإنسانية، ومنها التجربة الغربية، التي شهدت إنجازات كبرى كما شهدت إخفاقات كبرى في جوانب أخرى تتصل من قريب أو من بعيد بالمشكلة الإسلامية في بعض جوانبها.
2- الحاجة إلى معرفة الغرب:
يقول (ابن نبي )، وهو يتحدث عن صلة الغرب بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي: (ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية )(14).
وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب، وإنما يتطلب منه أن يعرف التجارب حتى يتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة، فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الأوروبية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أن هذا الأخير لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك.. فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولا يجد فيه المسلم الباحث عن (النظام ) نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوى من أخطاء، بل بسبب ما بها من أخطاء(15).
فالغرب تجربة تعد درسًا خطيرًا لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لبناء الفكر الإسلامي، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في الآية السابقة الذكر(16).
فالتأمل في هذه التجربة التي (صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا )(17).
وحتى تنظم هذه العلاقات، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا. ولهذا ينتقد (ابن نبي ) الطلبة والباحثين المسلمين في صلتهم بأوروبا، بأنها صلة تجارية أو وظيفية، بدل أن تكون صلة تأمل وإدراك لسر حركة التاريخ في أوروبا.. ويقول: (نرى' أن الطالب المسلم لم يجرب حياة أوروبا، بل اكتفى بقراءتها، أي أنه تعلمها دون أن يتذوقها. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه ما زال يجهل تاريخ حضارتها، أدركنا أنه لن يستطيع أن يعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية )(18).
وإذا كان القرن العشرين قد تميز -كما أسلفنا- بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي(19)، إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن (العالمية)(20)، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية(21).
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:
التحديد الأول; هو التحديد السلبي، من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.
والتحديد الثاني; هو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نسهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالمىًا، فمن (المفيد قطعًا أن ننظر إلى مشكلة الثقافة من زاوية عالمية... فإذا ما أدرك المثقف العربي المسلم(22)مشكلة الثقافة من هذه الزاوية، فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في حضارة القرن العشرين )(23).
ولهذا نجد (ابن نبي ) يؤكد على أن هناك وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك(24).
كما نجده يؤكد على فكرة وحدة التاريخ الإنساني -في القرن العشرين- بقوله: (فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين بطريقة لا تدع مجالاً لفكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة، التي تفهم فيها كل وحدة في حدودها; فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكنًا فيها تحديد مجال الدراسة الخاص على طريقة (توينبي). ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته وضعًا منهجيًا في المصطلحات الميتافيزيقية )(25).
كما يولي (ابن نبي ) رحمه الله عناية خاصة بأهمية الرؤية المتوازنة للأشياء، ولذلك نجده ينتقد موقف المثقفين المسلمين من الغرب، الذين يتخذون مواقفهم بشكل حدي مطبوع بطابع ثقافة (ما بعد الموحدين )، التي ترى أن الشيء إما طاهر مقدس وإما دنس حقير. ويرى أن عددًا كبيرًا من المسلمين، لم يرحل في طلب العلم بالغرب، ودراسته في جوهره. فالحركة الحديثة(26) لا تعدو على هذا مستوىً يتخبط فيه مجتمع فقد توازنه التقليدي، إذ هي مكونة في جوهرها من عناصر خالية من المعنى، مأخوذة عن المدرسة الاستعمارية، ثم يضاف إلى هذه العناصر، بعض العناصر الأخرى التي التقطتها اتفاقًا الشبيبة الجامعية، التي نشأت في طبقة متوسطة، وأقامت في أوروبا إقامة قصيرة لم تهدف من خلالها إلى معرفة الحضارة الغربية(27).
ومن ثم وجدنا المسلم يحكم على النظام الأوروبي الذي يحيط به أو الذي يستشعر وجوده في مطالعاته المبتورة، فأفكاره عن الحضارة الأوروبية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية -الوظيفية أو التجارية- بينه وبينها. وهذا مرض متجذر في ذاتنا منذ قرون مضت، حينما صار الفكر الإسلامي عاجزًا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يعد يرى منها سوى قشرتها; وأصبح عاجزًا عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوروبية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وتفهمها، وغاب عن وعيه أنه إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة(28).(9/310)
ومن ثم وجدنا أنفسنا لا نكترث بمعرفة كيف تم إبداع الأشياء، بل نقنع بمعرفة طرق الحصول عليها، فاستحكم فينا ذهان السهولة، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها(29)، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل تحقيقها، فانتشر الغرام بكل ما هو مستحدث(30)، وكان الأولى التفريق بين عمق الحضارة ومظاهرها السطحية.
============
الفصل الثاني المنظور الحضاري المنظور الحضاري.. إطار كلي تفسيري
إذا كانت أزمة كل أمة وكل مجتمع هي في جوهرها -كما يؤكّد ابن نبي (رحمه الله)- أزمة حضارته، وهو إطار يراه أكثر شمولاً من المنظورات الجزئية التي تختصر الأزمة في مظاهرها، فهذا يدعونا إلى التساؤل عن كيفية إرجاع (ابن نبي ) لكل التحليلات التي طرحت للأزمة إلى أمر واحد هو الأزمة الحضارية ؟ ألا يعتبر هذا اختزالاً للأزمة أي اختزالها في طرح ذي مفاهيم كلية تتجاهل القضايا الجزئية ؟
المتأمل في كتابات (مالك بن نبي ) يجده ينفي التناقض، وينزع الشك، فهو يعتبر كل هذه الأزمات، السياسية والأخلاقية والعقدية والاقتصادية، ترجع إلى إطار واحد يجمعها، هو مشكلة أو أزمة الحضارة، التي هي في حقيقتها مجموع كل هذه الأزمات مجتمعة، ومحكومة بقانون واحد هو مشكلة الحضارة وما تخضع له من سنن. أي أن الحضارة على المستوى الكلي يحكمها قانون ينبغي البحث عنه واستخراجه والتعامل معه بمنهجية علمية.. ويؤكد ابن نبي أن هذا القانون يحكم الحضارة في بدايتها وفي سيرها وفي أفولها. أي أن التصدي لبناء حضارة ينبغي أن يتوجه إلى البحث في سنن (شروط ) قيامها وسقوطها، ومثلما هو الحال في الحضارة الإسلامية فإن الأمر يقتضي البحث في كيفية قيامها أول مرة، وأسباب انهيارها، وما هي الشروط الموضوعية لبعثها من جديد بعثًا في إطار التاريخ .
لكن السؤال هو: هل هذا القانون يحكم الظاهرة في أصلها وجذرها فقط أم يتعدى إلى جزئيات المشكلة الحضارية ؟
في منظور ابن نبي، أن المسألة الحضارية ينبغي أن تؤخذ بالتحليل، للوصول إلى البحث في الوحدات الأساسية للمشكلة الكلية، ولهذا فهو ينطلق من الزاوية التحليلية في صيغة أولية مجردة تأخذ العناصر الأولية الأساسية التي تشكل الظاهرة الحضارية. إذ يرى أننا لو أخذنا أي منتوج حضاري مهما كان، وقمنا بتحليله، فإننا نصل إلى المعادلة التالية:
ناتج حضاري = الإنسان + التراب + الوقت.
وهذا يقودنا إلى أن مجموع منتجات الحضارة هي مجموع الأشخاص، ومجموع ضروب التراب (الثروة الطبيعية )، ومجموع الزمن الذي هو اطراد اجتماعي ضروري لإنجاز أي تركيب حضاري.
ونفهم من هذا أن الحضارة هي نتاج لتفاعل عناصرها الأولية (الإنسان، والتراب، والوقت )، ونحن هنا أمام مشكلة كلية هي (مشكلة الحضارة )، وحلها يمر عبر حل المشكلات المتصلة بالعناصر الأولية للحضارة، أي أن حل المشكلة الكلية (مشكلة الحضارة )، يمر حتمًا عبر حل مشكلات هذه العناصر الثلاثة التي تشكل الرأسمال الأولي لأي حضارة، ويتعين حينها مواجهة المشكلات في إطارها الجزئي ارتباطًا مع الإطار الذي ينظمها.. ولهذا فتناول مشكلات الإنسان ومشكلات التراب ومشكلات الوقت، تكون ارتباطًا مع حل المشكلة الكلية التي هي مشكلة الحضارة. يقول ابن نبي: (إن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل المشكلات الثلاث من أساسها )(1).
فالمنظور الحضاري، في رأي ابن نبي هو السنة التي تحكم حركة الحضارة، وتؤطر كل الحلول الجزئية اللازمة.. ولتأكيد هذا المفهوم وتحديده، فإنه يعتمد طريقتي التحليل والتركيب، باعتبارهما آليتين مهمتين تشكلان بعدًا مهمًا في تحديد المنظور الحضاري لتناول مشكلة الحضارة.. فبالتحليل نبحث في المركبات الأولية التي تقوم عليها الحضارة، وبالتالي ما يكتنفها من مشكلات على مستواها الجزئي، وبالتركيب نصل إلى تحديد كيفية تكامل هذه العناصر لتركب الحضارة، وما يصحبها من مشكلات نجملها في الإطار الذي يجمعها وهو مشكلة الحضارة.
فهناك مستويان لتناول مشكلات الحضارة في المنظور الحضاري:
المستوى الأول، هو البحث في الإطار الذي ينظم كل هذه المسائل، أي السنة التي تتحكم في قيام وسقوط الحضارة بشكل كلي تجريدي، وهذا ينبغي البحث من خلاله في سنن الله في التاريخ، التي تجعل من عملية الحضارة قانونًا صارمًا يهدي إليه التحليل ويكشف عن سننيته، ولهذا يقول ابن نبي: (يجب التأمل في سنن التاريخ التي لا تغيير لها، كما أشار إليها القرآن الكريم: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الفتح:23). من أجل هذا رأيت من واجبي أن أعيد دراسة هذه المشكلة (الحضارة )... لا على أنها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كـ (ظاهرة ) يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى (قانونها )، أي سنة الله فيها )(2).
أما المستوى الثاني، فهو معالجة المشكلات الجزئية التي هي مشكلات الرأسمال الأولي للحضارة، أي مشكلات الإنسان، والتراب، والوقت، ارتباطًا بالإطار الكلي والفكرة الجوهرية، حتى لا نؤدي إلى تفكيك المسألة إلى أكثر من مشكلة، وهذا ما انتقده ابن نبي في جهود التجديد في العالم الإسلامي، الذي تاهت به الجزئيات، وأدى به تجزيء المشكلات إلى أن يعالج أعراض المرض دون البحث في سببه الحقيقي، فكان العالم الإسلامي دهرًا طويلاً يخوض معارك وهمية.
ويفرق ابن نبي بين التجزيء وبين معالجة المشكلات الجزئية في إطار كلي ينظمها، فالتجزيء يؤدي إلى خلل في الرؤية، وابتسار في التعامل مع المشكلات، وقصور في التناول، مما يؤدي بالتالي إلى التفكيك وعدم القدرة على ربط المشكلات ببعضها، فتبقى المشكلات معزولة عن بعضها في إطار التاريخ ولا رابط بينها(3). فهناك فرق في نظر ابن نبي بين تجزيء المشكلة، وتحليل المشكلة إلى عناصرها الأولية، لإعطاء بعد منهجي وعملي في البحث عن حلول لها.
وكما سبق القول، فإن ابن نبي يقدم إطاره التحليلي لدراسة الحضارة، مضمنًا إياه جملة من الآليات والأدوات التي تحدد منظوره الحضاري بالمرجعية الأساسية وهي الوحي والنموذج النبوي، ولهذا فهو يؤكد أن من أهم المرتكزات لعلاج مشكلات الحضارة في العالم الإسلامي، الرجوع إلى الإسلام في صورته التي كان عليها على عهد الرسولصلى الله عليه و سلم والصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، باعتبار الإسلام هو الأساس لإعادة بناء حضارتنا(4).. كما أن ابن نبي يعطي أهمية بالغة للفكرة الدينية في قيام الحضارة، ويعتبرها المركب الضروري للقيم الحضارية، الذي بفضله يحصل تركيب العناصر (الشروط ) الأولية للحضارة(5)، ويعتبر أن أي عملية بناء حضاري ينبغي أن تقوم على أساس من تمثل تجربة الجيل القرآني الأول، وفق قاعدة (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )، هذه القاعدة التي اتخذها ابن نبي إطارًا كان يتبناه حتى أيام دراسته في فرنسا عندما كان يرفع لواء الدعوة إلى السلفية والإصلاح(6).(9/311)
ومن خلال تحليله لمشكلات الحضارة إلى: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، يجد المرء أن هذه العناصر الثلاثة يمكن الخروج منها بأبعاد تشكل المنظور الحضاري لمالك بن نبي، وذلك من خلال حديثه عن أن الإنسان هو محور هذه المعادلة، ودون حركة الإنسان فإن التراب والزمن يذهبان هباءً.. فالإنسان يؤثر بفكره وبيده وبماله، أما التراب والزمن فهما المجال الذي يؤثر فيه.. وإذا واصلنا التحليل، فإننا نصل إلى أن الإنسان يمكن أن يؤثر تأثيرًا فاعلاً في التاريخ إذا استطعنا أن نحل مشكلة أفكاره، ومشكلة عمله، ومشكلة ماله، وهذا -خاضع حسب ابن نبي- إلى الثقافة التي تكون المجال الاجتماعي الذي يمارس فيه الإنسان تأثيره، وهذا يقتضي منا تحديد دستورٍ للثقافة التي تجعل الإنسان محركًا لقوى التاريخ.
ويحدد ابن نبي دستور الثقافة بالمبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، والنزوع الجمالي، والصناعة بالتعبير الخلدوني (العلم ). وبعبارة أخرى، فإن مكونات منظوره الحضاري هي: المرجعية الدينية، التي هي الإسلام بالنسبة للمسلم، ثم الفعالية التي هي نتاج للمنطق العملي والنزوع الجمالي والعلم، بالإضافة إلى ما سبق وأن تناولناه بالتحليل وهو السننية.
فالمنظور الحضاري الذي يقدمه ابن نبي يقوم على مبادئ أو أبعاد خمسة هي: السننية، والوحي، والجمال، والفعالية، والعلم. وهو إطار تفسيري يقوم على أساسيات الإسلام، والحقيقة الموضوعية التي بث الله سننها في الآفاق، والأنفس، والتاريخ، والفعالية الاجتماعية، والعلم باعتباره تراكمًا في الخبرة البشرية وتفاعلاً مع الوحي، والذوق الجمالي باعتباره إطارًا لوجهة الحضارة وعنوانًا على اتساقها مع سنة الإحسان. فهو كما قال الدكتور سليمان الخطيب: (يركز على الجوانب الموضوعية في معالجته لمشكلة الحضارة.. هذا مع تأكيده على الدفعة القرآنية الحية، ودور الفكرة الدينية من المسار الحضاري )(7).
==============
مفردات المنظور الحضاري
وتوظيفًا لهذا المنظور الحضاري كإطار للتحليل والتفسير، فإن ابن نبي ضمَّن هذا المنظور أدوات تحليلية متعددة، هي أدوات منهجية، وظفها في كل أعماله، فسّر بها حركة التغيير على مستوى الفرد والمجتمع والحضارة في إطار التاريخ، كما أنه وظفها ضمن نسق متكامل بأدواته التي سبق وأن أشرنا إليها بإيجاز، ونحاول هنا مناقشة اثنين منها لارتباطهما بدراسة الظاهرة الغربية في تكوينها وصيرورتها التاريخية.
1- قانون الدورة الحضارية:
يرى ابن نبي أن الحضارة في حركة دورية مستمرة (تداول مستمر ) في سيرها التاريخي.. وإذا رجعنا إلى الكتب التي تناولت التغيير الاجتماعي وحركة الحضارة، فإننا نجد أن هناك اختلافًا كبيرًا بين فلاسفة الحضارة في شكل مسار الحضارة، فهل هي في تطور مستمر أم هي في حالة تراجع مستمر أم هل هي في تناوب أو تداول مستمر .
فمن بين النظريات التي حاولت تفسير حركة الحضارة: النظرية الدورية التي يعد ابن خلدون رائدها بلا منازع، وتقوم على أساس أن التاريخ هو حركة مستمرة من الصعود والهبوط في العمران البشري في المجتمعات.. وكذلك (توينبي )، و(سوروكين )(1).. كما نجد أيضًا من القائلين بها الفيلسوف الألماني (أزوالد اشبنجلر ). ومضمون هذه النظرية: أن الحضارة تمر بمراحل متعددة، هي الميلاد والتوسع والأفول، ثم تهاجر إلى مكان آخر، وهكذا في هجرتها المستمرة مع الزمن(2).
وابن نبي نفسه من القائلين بالظاهرة الدورية، التي تعتبر أداة أساسية في منظوره الحضاري، يستعملها في تفسير حركة الحضارة، ويبدو الأثر الخلدوني واضحًا في نظريته في الدورة الحضارية، فهو يقول: (من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق... ومن الوجهة الكونية فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ثم متحولة إلى أفق شعب آخر )(3)، هذه الدورة تمر بمراحل ثلاث; هي مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة، ومجموع (المراحل الثلاث في هذه الدورة تعبر عن الأدوار الثلاثة التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)... والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل)... أما المرحلة الثالثة فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، فيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً) (4).
هذا القانون الذي يحكم حركة الحضارة ويجعلها في حالة تداول وتعاقب، يرى ابن نبي أنه قانون يحكم حركة التاريخ، وأن أول من تنبه لذلك هو ابن خلدون عندما اكتشف منطق التاريخ وخضوعه لأسباب تقوده في حركته وتقلبه.
وإذا كان (ابن خلدون ) صاحب أول كشف لهذا القانون، فإنه قسَّم مراحل الحضارة إلى: طور البداوة، وطور التغلب والاستبداد، ثم طور الضعف والترف والتدهور(5). أما (ابن نبي ) فقد قسمها إلى: طور ما قبل الحضارة (الروح )، وطور الحضارة (العقل )، وطور ما بعد الحضارة (الغريزة ).
وكما سيتضح فيما يأتي من صفحات، فإنه يبدو وكأن ابن خلدون يرى في الأطوار التي تتقلب فيها الدولة أنها أطوار خارجية تلبس لبوسها الدول في حالة ميلاد وتوسع ونضج ثم يعقبه فناء ونهاية محتومة، أما ابن نبي فقد رأى الحضارة كأنها كائن إنساني مجرد يتقلب في هذه الأطوار الثلاثة، وقد استعمل للتعبير عن ذلك لغة التحليل النفسي باعتباره الإنسان جوهر العملية الحضارية، فاستعمل مصطلحات (الروح، والعقل، والغريزة )، وهي ذات صلة وطيدة بعلم النفس والتحليل النفسي، تنسجم مع النسق الذي استعمله ابن نبي في التركيز على الشروط النفسية للحضارة، وللإنسان الذي يبنيها.
لكن ما يثير التساؤل في قانون الدورة الذي بنى عليه ابن نبي تحليله وتفسيره لحركة الحضارة في التاريخ، هو أنه مرة يجعل هذا القانون أبديًا وسنة ثابتة تحكم حركة التغيير الحضاري، ومرة أخرى يذكر أن قانون الدورة هذا قد انتهى مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن وجه الاختلاف بين الأمرين ؟ وهل لدى ابن نبي تفسير لهذا الذي يبدو اضطرابًا في موقفه ? أم أن الأمر يتعلق بمستويات مختلفة يقدمها ابن نبي وتحتاج إلى فك الارتباط بينها، حتى لا يقع سوء الفهم لهذا القانون وتطبيقه على كل الأعمال التي يقدمها، مثلما وقع من بعض الكتاب(6).
ولكن إذا نظرنا إلى ما قاله ابن نبي نجد أنه يقول: (ويبدو أن عصرنا عصر التحول الإنساني الكبير، فهو العصر الذي يتحتم على الإنسانية فيه، وقد سبق لها أن اجتازت مع العهد الحجري الجديد المرحلة الأولى في تاريخها، بانتقالها إلى مستوى (الحضارات)، يتحتم عليها الآن أن تجتاز المرحلة الثانية التي تسمو بها إلى مستوى حضارة الرجل العالمي )(7). فالإنسانية التي تجاوزت المرحلة التاريخية الأولى، أي مرحلة ما قبل الحضارة، إلى مرحلة الحضارة، فإنها تسير الآن لتصير حضارة المجتمع العالمي، بدل حضارة الوحدات التاريخية. ولهذا فابن نبي يعتبر أن هذا الذي يحدث كان بسبب عاملين اثنين، على المستوى المعرفي، وعلى المستوى الاجتماعي التاريخي.(9/312)
فأما المستوى المعرفي فكان مع ميلاد الرسالة الخاتمة، رسالة الإسلام مع بعثة النبي صلى الله عليه و سلم، إذ كانت ظاهرة ختم النبوة ميلاد عهد جديد في التاريخ الإنساني، وميلاد القيم العالمية، والمرجعية الممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودليل على أن الإنسانية قد بلغت الرشد، أو بتعبير العلامة محمد إقبال أن: (مولد الإسلام.. هو مولد العقل الاستدلالي )(8). هذا العقل الاستدلالي الذي زُوِّد برسالة عالمية في قيمها ومبادئها، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا )(سبأ:28).
وفي نظر ابن نبي أن الحضارة في التاريخ كانت عملاً من إنجاز اللاشعور(9) (كانت عملاً غير قصدي )، ولم يُنتبه إلى أن الحضارة تخضع لسنن وقوانين تحكم حركتها في التاريخ إلا مع العلامة ابن خلدون، غير أن الحضارة الغربية حققت على المستوى الاجتماعي التاريخي امتداد الحضارة، لتشمل كل النطاق البشري، بغض النظر عن إصدار أحكام قيمية حول هذا الامتداد أكان نافعًا للبشرية أم لا، أو أن الحضارة الغربية ذات قيم عالمية أم لا.
ومن الوجهة الموضوعية، فإن الغرب بتحقيقه لهذا الامتداد للحضارة، بفضل قوته الصناعية، أحدث تحولاً في طبيعتها التاريخية(10)، بعد أن كان الإسلام وميلاد الرسالة الخاتمة قد حققت التحول الحقيقي في طبيعتها المعرفية بفضل تعاليم الوحي. ومن هنا يمكن القول: إن الحضارة على المستوى المعرفي حققت عالمية قانونها مع النبوة(11)، وحققت عالميتها على المستوى التاريخي وعلى المستوى الاجتماعي مع الامتداد الحضاري الغربي المعاصر، الذي امتد ليشمل كل الإنسانية، وتتأثر به من قريب أو من بعيد، سلبًا أو إيجابًا.
ولهذا يرى ابن نبي أن قانون الدورات الذي كان يراه ابن خلدون بحتميته، كما يراه (اشبنجلر ) بحتميته أيضًا، يبدو أنه حدث فيه تغير على ضوء أحداث الحرب العالمية الأولى وما بعدها، وكذا العامل الاستعماري الذي وحد مصير الإنسانية من خلال توحيدها في آلامها(12).
فالغرب في رأي ابن نبي ليس مستثنى من قانون الدورة، وإنما الحضارة الغربية ذاتها كاطراد تاريخي، تأتي كعامل ثانٍ في مقابل قانون ختم النبوة على المستوى المعرفي، واتساقًا مع منطق التاريخ الذي يتوجه سائرًا مع القدر إلى تحقيق اكتمال دلالات عالمية رسالة النبوة، وفق قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله ) (التوبة:33).. فالموجة الأوروبية ليست خلودًا، كما ظن من رأى أن ابن نبي يستثنيها من القانون، وإنما المرحلة العالمية هي في ذاتها قانون يخلف قانونًا آخر كان يعمل ضمن إطار محدد من تطور حركة الحضارة الإنسانية، عندما كانت الحضارة قائمة على نظام الوحدات المستقلة.
وتمشيًا مع منطق التاريخ الذي يقود البشرية نحو المصير المشترك، فإن التاريخ يسجل قانونًا آفاقيًا آخر يجعل من عملية الأفول على مستوى الحضارة أمرًا مستبعدًا، هذا القانون هو قانون المقاصة، أي أنه كلما ظهر هناك ذبول أو ضعف في جانب من جوانب الحضارة فإنه يؤدي إلى تعويضه من قبل جهة أخرى في نطاق حضارة المصير المشترك التي تحتاج إلى إنقاذ(13).
ومما سبق يمكن استنتاج أن ابن نبي يربط انتهاء قانون الدورة بحركة الحضارة، وما وصلت إليه من امتداد في العالم، كنتيجة لاطراد القوة الصناعية الغربية من جهة، ونضج الوعي الإنساني من جهة أخرى بفعل الدفعة التي أعطتها الرسالة الإسلامية، كما أشار إقبال. أي أن المرحلة العالمية كانت منطلقًا للتاريخ، ومصبًا لعمل سنن التاريخ، لتسلم الحضارة إلى سنة أخرى تحكمها في العهد العالمي.
2- الفكرة الدينية المُرَكِّبة:
من الأدوات التحليلية أيضًا التي تميز المنظور الحضاري عند ابن نبي، والتي وظفها في تحليل حركة الحضارة، والتغير الاجتماعي، ما أسماه بـ (الفكرة الدينية ).. والفكرة الدينية في نظره، هي الفكرة المركِّبة، التي تعمل على التفاعل بين العناصر الأساسية (الشروط الأولية ) للحضارة. فابن نبي عندما جاء إلى تعريف الحضارة، طبق عليها آليتين أو منهجين متكاملين:
أولاً: المنهج التحليلي، إذ حلل الحضار إلى عناصرها الأولية التي تعتبر الرأسمال الأولي، وصاغها في شكل معادلة رياضية ذات متغيرات ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت، وقوامها: إنسان+ تراب + وقت = حضارة.
ثانيًا: المنهج التركيبي، الذي من خلاله أراد أن يكتشف القانون الذي تخضع له الحضارة في بنائها، وتحديد المنهج الذي تخضع له الحضارة باعتبارها بناءً، وهو ما أسماه بقانون التفاعل، إذ العناصر الأولية تبقى ساكنة ما لم تتدخل الفكرة المركِّبة، محدثة الشرارة الروحية التي تجعل من العناصر الأولية ديناميكية متحركة في إطار التاريخ.. هذه الفكرة المركبة التي تحدث الشرارة هي الدين، أو الفكرة الدينية.
والملاحظ أن روح البحث عن القانون الذي يحكم الحضارة كظاهرة اجتماعية تاريخية، جعلت من ابن نبي يحاول أن يضبطها في إطار مجرد على شكل معادلة رياضية، ويبدو أثر خلفيته التعليمية بارزًا، في تشبيهه لمعادلة تركيب الحضارة بمعادلة تكوين الماء بالصيغة الكيميائية، رغم إدراكه لصعوبة التحديد في العلوم الاجتماعية، لتعقد الظواهر الاجتماعية وعدم وصول العلم إلى الدقة فيها مثل دقة العلوم الطبيعية، ولم يتم التوصل إلى تحديد مصطلحاتها بعد كما حدث للعلوم الطبيعية(14).
ويبدو ابن نبي مستحضرًا لهذا الوعي من جهة ومستلهمًا دقة العلوم الطبيعية من جهة أخرى، وهو يحاول تحديد دور الفكرة الدينية في تحريك العناصر الأولية للحضارة، وإدخالها في إطار ديناميكية تاريخية، ودون هذا المركب فإنها لا تحدث أثرًا في التاريخ. فالدين هو المفعِّل للشروط الأولية للحضارة، والمكوِّن للدافع النفسي الأساسي الذي يخرج الحضارة إلى مسرح التاريخ.
وقبل مواصلة تحليل الدور الذي يقوم به الدين في بناء الحضارة كما يراه (ابن نبي )، نتساءل أولاً عن مفهوم الدين عمومًا، في التحديد اللغوي والقرآني وفي العرف العلمي عند المسلمين وعند الغربيين، للوصول إلى تحديد مفهوم الفكرة الدينية التي تحدث عنها ابن نبي وأعطاها دورًا مهمًا في بناء الحضارة، ومدى انطباق مفهومه للدين على مختلف الأفكار التي صاغت الحضارات الإنسانية، كما نحدد موقع الدين والإسلام خصوصًا في مفهوم ابن نبي.
ويمكن القول إجمالاً: إن الدين في الوضع اللغوي له عدة إطلاقات تتضمن إلزامًا والتزامًا، وملتزمًا به، أو بعبارة أخرى علاقة بين طرفين تتضمن عهدًا ومبدأ يلتزم به، فالإلزام من قبل المُلزِم يقابله خضوع والتزام، وهي حالة نفسية وعملية، تسمى عملية التدين، ثم المبدأ الملتزم به، وهي الحقيقة الخارجية -بتعبير الشيخ دراز- وهي جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادًا وعملاً(15).
أما في الاستعمال القرآني فيرد مصطلح الدين بمعنيين، معنى المعتقد والمنهج الذي يتخذه الإنسان في هذه الحياة، يفسر به الوجود، ويشكل به نظرة وتصورًا عن الخالق والكون والحياة، وهذا ينظر إليه من ناحيته الإنسانية العملية، أي تلك الممارسة العملية (التدين )، سواء كان هذا الدين إنكارًا أو إقرارًا بوجود الخالق وتحقق وعده أم لا. أما المعنى الثاني فهو بالنظر إلى حقيقة هذا المنهج، وواضعه، وفي هذا يصير هناك دينان فقط; دين الحق ودين الضلالة، أو بعبارة أخرى دين الله الإسلام، وغيره من الاعتقادات التي تخالفه مهما كانت.(9/313)
ونفهم مما سبق أن القرآن يعتبر ما يُتخذ من أفكار أو معتقدات أو خرافات منهجًا للحياة دينًا بالمعنى العام، وإن كانت غير مقبولة عند الله، وذلك أنها تتوفر فيها تلك الجوانب الثلاثة التي أشرنا إليها سلفًا، وهي الخضوع والاعتقاد والمعتقد نفسه.
فهناك إذن جانبان للدين; باعتباره وضعًا إلهيًا، فإنه لا دين غير الإسلام، وباعتبار الواقع الإنساني فإن الدين هو كل منهج يتوفر فيه الجانب النفسي الذي يحمل الناس على التقيد به بما يحمله من وعود وتصورات، وبما يتوفر فيه من تعاليم، هذا إذا نظرنا إلى الدين كمنهج للحياة وتشريع يلتزمه الناس.
غير أن هناك بعدًا آخر ينبغي الالتفات إليه، وهو ما بينته الآية: (فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30)، وهذا يدلنا على أن الدين مكون أساسي من مكونات فطرة الإنسان، فإذا نقص فإن هذه الفطرة ينقص منها بعد أساسي، وهذا ما أشار إليه (باقر الصد ر) عند حديثه عن أنواع السنن التاريخية في القرآن، فالقرآن الكريم يعرض الدين، ليس على أنه تشريع فقط، بل هو سنة موضوعية من سنن التاريخ، وقانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرته، بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا يمكن تبديلها، ولا يمكن أن تنتزع من الإنسان لأنها جزء من أجزائه التي تقومه، فالدين ليس مقولة حضارية مكتسبة يمكن إعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها، فهو لا يمكن أن ينفك عن خلق الله ما دام الإنسان إنسانًا، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان(16).
لكن هذه السنة سنة مفتوحة تقبل التحدي على المدى القصير، لكن على المدى البعيد هي سنة صارمة لا تقبل التحدي، أي أن الدين قد يقع فيه التحريف، والانحراف، والتبديل، ولكن يبقى الدين مستمرًا.. إن جوهر التدين لا يمكن أن يتخلى عنه الإنسان(17)، ولو استعاض عنه ببدائل لا دينية تحل محل الدين، غير أن الأمر في الأخير يؤول إلى الدين الحق، وهذا ما نجد القرآن يؤكده، يقول الله تعالى: (... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) (فاطر:24)، باعتبار أن هذا النذير يأتي للمحافظة على استقامة هذه السنة الكونية، ثم في الأخير يبين القرآن بأن هذه السنة هي التي ستنتصر، يقول الله تعالى: (ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا) (الفتح:28)، فإن هذه السنة ستظهر بالرغم من أنواع التحدي والانحراف التي ظهرت خلال التاريخ، وبالرغم من الصور الزائفة لهذه السنة.
والخلاصة مما سبق، أن الدين يقصد به معنيان، فهو تشريع إلهي وقانون للحياة، كما أنه من جهة أخرى يمثل ظاهرة إنسانية صاحبت الإنسان منذ خلقه، وهي من صميم الوجود الإنساني المتميز بالوعي والإدراك وحرية الاختيار. ولو نظرنا إلى الدين بمفهومه الذي يدرس في العلوم الاجتماعية وتاريخ الأديان، فإننا نجد أنه يقصد به ظاهرة اجتماعية لها جانبان، هما: جانب نفسي (حالة التدين )، وجانب موضوعي خارجي، وهذا يتضمن العادات والشعائر والمباني والمعابد والروايات المأثورة والمعتقدات والمبادئ التي تدين بها أمة أو شعب أو مجتمع ما(18). وهذا يقود إلى محاولة التعرف على المفهوم الغربي للدين وبخاصة من الوجهة السوسيولوجية، باعتبار أن البحث يحاول انتقاد وتقويم مفهوم ابن نبي للدين من الوجهة الاجتماعية أكثر من أي وجهة أخرى، ودوره في بناء الحضارة.
ففي اللغات الأوروبية، فإن الدين Religion يرجع إلى أصله اللاتيني، الذي يتكون من مقطعين Re الذي يفيد الإعادة والتكرار، و ligion الذي أصله Legere ومعناها الجمع والربط(19). فالدين في أصله اللاتيني الذي ترجع إليه اللغات الأوروبية يفيد معنى الربط والجمع المتكرر مرة بعد مرة، وكأن اللغة اللاتينية تشير إلى أن مهمة الدين تكون في تحقيق الربط والجمع بين أتباعه. وسنرى ظلال هذا المعنى اللغوي تخيم على تعريفات العلماء الغربيين، الذين يجنحون إلى التركيز على وظيفة الدين أكثر من التركيز على حقيقة الدين ذاته.
فـ (شيشرون ) يعرف الدين بأنه الرباط الذي يصل الإنسان بالله.. أما (كانت ) فيعرفه بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.. ويعرفه (تايلور ) بأنه الاعتقاد بوجود أرواح.. كما يعرفه (سبنسر ) بأنه الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية.. أما (دور كايم ) فيعرف الدين بأنه مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة (أي المعزولة المحرمة )، اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية(20).. وأما (كرين برينتون ) فإن الدين عنده عبارة عن نسق ميتافيزيقي متكامل سواء كان سماويًا أو عقلانيًا(21).
والملاحظ هنا، أن الغربيين يهتمون بالدين باعتباره معطىً اجتماعيًا، مهما كان مصدره، فالتركيز على الوظيفة الاجتماعية للدين التي هي الربط حول مجموعة من المفاهيم، تشكل نسقًا مقدسًا أو نسقًا غيبيًا يجيب عن التساؤلات الإنسانية
==============
الدين في مفهوم ابن نبي رحمه الله
يرى ابن نبي أننا حينما نتأمل القرآن (يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبيةُ المادةَ، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونًا خاصًا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحِّد إلى أحط الوثنيات البدائية )(1). فهو قانون من قوانين الله عز وجل التي فُطرت عليها النفس الإنسانية.. وهو (فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة، فإنه يتدخل مباشرة في العناصر الشخصية التي تكوِّن الأنا الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تصنعها الغرائز في خدمة هذا الأنا )(2).
ثم يرجع ابن نبي إلى التاريخ باعتباره السجل الأمين للتحولات التي شهدتها البشرية، فيجد التاريخ يشهد أن الدين ثابت من ثوابت الشخصية الإنسانية، ليس هذا فحسب، بل إن الدين كان من وراء كل المنجزات البشرية، ولهذا فابن نبي ينتقد نظرية (توينبي ) في التحدي والاستجابة، لأنها وإن كانت تفسر قيام بعض الحضارات فإنها لا تفسر لنا قيام بعضها الآخر، كما ينتقد ما ذهب إليه (ماركس ) ومدرسة المادية التاريخية، إذ أن من الحضارات ما لا يمكن أن نفسر قيامها بالعامل المادي، مثل الحضارة الإسلامية، وحتى الحضارة الغربية نفسها، كما يتنقد ما ذهب إليه دعاة التفوق العرقي، وقيام الحضارات على أساس العرق، ويقدم الدين بديلاً تفسيريًا لقيام الحضارات ومنجزاتها عبر التاريخ. يقول ابن نبي: (كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو المراحل البدائية، وجد سطورًا من الفكرة الدينية. ولقد أظهر علم الآثار دائمًا -من بين الأطلال التي كشف عنها- بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أيًا كانت تلك الشعائر )(3)، ليس هذا فحسب، بل إن الحضارات ما أشرقت إلا من أمثال الكعبة أو معبد سليمان، ومن هناك كانت تشرق هذه الحضارات لكي تنير العالم. ولهذا يقرر أن (الدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال القرون، يعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، وإذًا فلن نستطيع أن نتناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب )(4).(9/314)
فابن نبي لا يرى الفكرة الدينية نسقًا من الأفكار الغيبية فقط، ولا يقصرها على الدين السماوي فقط، بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أفق أوسع، ويروض الطاقة الحيوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة(5)، وهي في نظره كل فكرة تقدم معبودًا غيبيًا ووعدًا أعلى، ابتداء من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات. ولهذا فهو يعقد فصولاً، خاصة في كتابه (شروط النهضة )، لتحليل دورتين من دورات الحضارة; هما الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية لاستخراج السر الذي دفع بكلتا الحضارتين إلى مسرح التاريخ، وتحديد الموقع الذي يمثله الدين في حركة الحضارة. وهو بتحليله لهذين الدورين ينتهي إلى تأكيد أن السر الكوني الذي يركِّب العناصر الثلاثة الأساسية للحضارة; الإنسان والتراب والوقت، ويبعثها قوة فاعلة في التاريخ هو الدين.
فكلتا الحضارتين تنطلقان (من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية )(6). بل أن ابن نبي يرى أن هذا القانون الدافع للحضارة لا نجده في الحضارتين: الإسلامية والغربية فحسب، بل يتعداه إلى بقية الحضارات التي سجلها تاريخ الإنسانية، كالديانة البوذية في الحضارة البوذية، والبرهمية في الحضارة البرهمية. أي أن كل حضارة في أساسها ذات مبعث ديني. ولا يمكن للحضارة أن تظهر في نظر ابن نبي إلا (في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا، أو هي -على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام )(7).
ومن هنا فالحضارة تبدأ عندما يمتد نظر الإنسان إلى أفق أعلى من يومه وعن حقبته التي يعيشها، ومن هنا ينبغي علينا أن نتتبع تأثير الدين من خلال تركيبه بين العبقرية الإنسانية والشروط الأولية للحضارة، أي تتبع ذلك (الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبعث الحركة والنشاط)(8).
الوظيفة الاجتماعية للدين:
إن الدين في ضوء القرآن له غايتان، فإن قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات:56)، يبين أن الدين غايته أن يربط الأرض بالسماء، وهو حين ينشئ الشبكة الروحية التي تربط الفرد والمجتمع بالله، فإنه في الوقت نفسه يبني شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك، وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض.. فهذا القانون الذي بينته الآية، لم يرد أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقًا أعظم خيرًا ليضطلعوا بعملهم الأرضي(9).
من هذه الوجهة ينظر ابن نبي إلى الدين باعتبار أن له وظيفة الربط بالله عن طريق هذا الوضع الإلهي، كما أن له أن يفتح آفاقًا أوسع للإنسان حينما يربطه بأبعاد السماء، ويرفع بصره إلى ما بعد حياته الأرضية. فهناك غايتان للدين; ربط الصلة بالله، وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تدخل بالمجتمع دائرة الحضارة.
وباعتباره يبحث عن القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي، وينظر في شروط البناء الحضاري، فإن ابن نبي يركز على الوظيفة الاجتماعية للدين، معتمدًا في ذلك على الاعتبارات النفسية الاجتماعية بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية(10)، فهو يختبر هذه الوظيفة من ناحيتين; من ناحية تسجيل الفكرة الدينية في النفوس، ومن ناحية تسجيل الفكرة الدينية في التاريخ، وهو ما بينه في كتابه (شروط النهضة )(11)، وهذا الاختبار لعمل الفكرة الدينية، جعله يختار دراستها في إطار دورتين حضاريتين مختلفتين، هما; دورة الحضارة الإسلامية، ودورة الحضارة الغربية.
فمن الجانب التاريخي، يتتبع ابن نبي كيفية عمل الفكرة الدينية، من خلال الحقائق التاريخية المنقولة، أما من الناحية النفسية الاجتماعية، فإنه يتتبع بالتحليل والتركيب كيفية دخول الفكرة الدينية في بناء الشخصية الإنسانية، وكيفية دخولها في تركيب ثقافي معين، وكيفية إحداثها للتغيير الاجتماعي، ثم كيف تصبغ تجربة معينة من خلال إعطائها المبررات المتمثلة في المثل الأعلى. وما دام الموضوع متعلقًا بالحضارة الغربية، فإن تركيز البحث سيكون حول المسيحية وبديلاتها الدينية واللادينية في الحضارة الغربية.
و لهذا فهو يقرن ميلاد الحضارة الغربية بتسجيل الفكرة المسيحية في النفوس، يقول: (إن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوروبا إلى مسرح التاريخ. ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقًا من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها العالم الإغريقي فتعرفت على (سقراط) باعث الأفكار، و(أفلاطون) المؤرخ لتلك الأفكار، و(أرسطو) مشرعها. غير أن هذا العالم الذي التقت به ثانية وهي تقتفي أثر الحضارة الإسلامية قد اكتسى منذ (توماس الأكويني) صبغة مسيحية )(12).
فالمسيحية تُعتبر في نظر ابن نبي دافعًا أساسيًا في تشكيل أوروبا ككيان حضاري، بالرغم مما أضيف إليها من بعد إغريقي. كما يؤكد ذلك (توينبي ) نفسه، بأن المسيحية كانت مركبًا مهمًا من مركبات الحضارة الغربية، واعتبرها من الأديان الكبرى التي ارتبطت بحضارات تاريخية، فإذا كانت البوذية ارتبطت بالصين والهندوسية بالهند والإسلام بالحضارة الإسلامية، فإن المسيحية ارتبطت بالحضارة الغربية(13). وابن نبي نفسه يحيلنا إلى الغربيين بقوله: (هكذا يجب أن نلتفت نحن إلى مختبر التاريخ ليدلنا على المركب الذي تدخل في تركيب العناصر الثلاثة: الرجل، والتراب، والوقت، كيما يكونها حضارة. ولا أريد هنا إطالة الكلام على تأثير الدين كعامل مركب للحضارة، فمن درس تاريخ الحضارة الغربية، (توينبي) أو (ماسيس)، يرى أثر الفكرة المسيحية في تركيبها )(14).
وهذا (برنال ) في كتابه (العلم في التاريخ ) عندما يتحدث عن حركة الإصلاح البروتستانتي يقول: (كانت الحركات التي قضت على الإقطاع والنفوذ الكنسي هي نفسها التي قضت على العبودية والأنظمة المتخلفة المتوارثة، وكما في السياسة كذلك في العلم حدثت ثورة على التقاليد، التي حررت عقل وإبداع الإنسان وأخرجته من الدائرة الضيقة التي كان مسجونًا فيها )(15)، وهذا هو الدور الذي كان ابن نبي ينظر إليه بقوله: إن (الفكرة المسيحية شكلت أنا الأوروبي أو ذاته، كما صاغت منظر أوروبا الذي نشهده في منتصف هذا القرن )(16).
وبما أن الفكرة الدينية تشكل الأنا، الفردي والجماعي، فإن هذه الفكرة المسيحية كانت المشكِّل الأول للفردية الأوروبية، والأنا المتفوق الذي كان يشعر به الغربي في بداية حملة التوسع الاستعماري الغربي في العالم، يقول (هانتنجتون ): (المسيحية الغربية -الكاثوليكية أولاً ثم البروتستانتية- هي المميز التاريخي الوحيد الأكثر أهمية في الحضارة الغربية. وفي الحقيقة، خلال الألفية الأولى -ما صار يعرف اليوم بالحضارة الغربية- كان يسمى الغربي المسيحي. وهناك شعور مسيحي مشترك بين الغربيين يجعلهم يحسون بروابط بينهم تميزهم عن الترك والبيزنطيين وغيرهم )(17).(9/315)