فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).(8/209)
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض - السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 - 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.
==============
أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية
د. غازي التوبة 15/11/1427
06/12/2006
عرّفت الموسوعات السياسية الأمة فقالت: "أمة (Nation) مجموعة بشرية يكون تآلفها وتجانسها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة، وتاريخ وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي مشترك، والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة، مما يؤدي إلى إحساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية موحدة ومستقلة.
ومع هذا فهذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة؛ فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط، وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز إلى حيّز الوجود كأمم، بل جماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى" (موسوعة السياسة، ج1 ص305).
إذا دققنا في التعريف السابق لنرى مدى مواءمته للأمة الإسلامية، ومدى مناسبته لها لوجدناه منطبقاً عليها، متحققاً فيها، وقد جاء التجانس والاشتراك والوحدة في الثقافة والتراث واللغة والمصالح والتكوين النفسي، جاء كل ذلك من الوحدة الثقافية التي كانت تقوم على الدعامتين الرئيسيتين: القرآن والسنة اللتين أعطتا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسمتا لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع إلى الآخرة وإعمار الدنيا، وحددتا لهم قيماً واحدةً تقوم على التطهّر والتزكّي، وأوجبتا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وملأتا قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبّه، مما أورثهم غنًى نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسّد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، ووجهتا عقولهم إلى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب، والابتعاد عن الأوهام والظنون، مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات: كالفيزياء والكيمياء والميكانيكا والرياضيات والفلك والطب والأدوية والصناعة والزراعة...الخ
إنّ وعْي علماء الأمة وقادتها أهميةَ الوحدة الثقافية في استمرارية وحدة الأمة جعلهم يتوجهون إلى دعامتي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنة، فيحرصون على جمعهما، ويبتكرون العلوم التي تساعد على ضبطهما، ويخترعون الأدوات التي تساعد على توحيد فهم حقائقهما، فكانت علوم المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والنحو والصرف والبلاغة والبديع ومصطلح الحديث، وترجمة الرجال وعلوم الدراية والرواية، وعلم أصول الفقه ومدارس التفسير ومعاجم اللغة... الخ
من هذه الزاوية يمكن أن نقرر أنّ اهتمام علماء الأمة لنصي القرآن والسنة لم يكن لقدسيتهما فقط، ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرارية وجودها.
وإنّ مقارنة وضع الأمة الإسلامية التاريخية بالتعريف الذي ورد في الموسوعة السياسية السابقة نجد أنّ الأمة الإسلامية لم تحقق الوحدة فقط بل حققت آفاقاً أخرى رسمها الإسلام لها وهي:
الأول: أفق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء في قوله سبحانه وتعالى: (كنتم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عنِ المنكرِ) (آل عمران،110). وقد أورث ذلك الأفق الأمة حيوية في مواجهة أمراضها الداخلية، وقد تجسدت تلك الصفة بمؤسسة الحسبة التي كان المقصود منها ضبط السلوك العام للمسلمين، وجعل السلوك المستقيم سجيةً وطبعاً عندهم وليس أمراً خارجياً؛ لأنّ الحدود كان المقصود منها أن تكون رادعة للمسلم، لذلك أناطتها الحكومة الإسلامية بالقاضي، وهي تحتاج إلى إقامة البينة والشهود، وتدرأ عند الشبهات، أما الحسبة فهي تشجيع على الخير وتوجيه وتنبيه وتأديب وزجر وردع، ثم تأتي العقوبات والتعزير، ويجب ألاّ تصل بحال من الأحوال إلى مستوى حد من الحدود، وللمحتسب واجبات متعددة منها: منع التعديات على الشوارع، والحفاظ على قواعد الاحتشام، ومراقبة الأسواق، والاطمئنان على النظافة العامة...الخ
الثاني: أفق الشهادة الذي يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: (وكذلك جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطاً لتكونوا شُهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شَهيداً). [البقرة:143]. وقد تجسدت الشهادة بوعي واقع الآخرين والحرص على هدايتهم، لذلك أصبح المسلم داعياً إلى الله في كل أحواله: حين يتاجر، وحين يسافر، وحين يتعبد، وحين يتعلم... الخ وقد كانت النتيجة انتشار الإسلام عن طريق الدعوة أكثر من انتشاره عن طريق الفتوح. ففي الواقع انتشر الإسلام في إفريقية من الصومال شرقاً إلى السنغال غرباً عن طريق التجارة، فقد قامت شبكة القوافل التي كانت تعبر الصحراء الكبرى بهذا الدور، ولم يكن العرب هم الذين قاموا بالدور الحاسم في غرس الإسلام في هذه المناطق، لكن الفضل الأكبر يعود إلى البربر أصحاب الجمال الذين كانت قوافلهم تجوب دروب الصحراء، وفي الشمال الشرقي من إفريقية لعب الصوماليون دوراً مماثلاً كتجار قوافل في الركن الشمالي من القرن الإفريقي، وكان هناك جماعات محلية أخرى مثل الهوسا وريولا في غرب إفريقية قامت بعد اعتناقها الإسلام بنشر الدين من خلال علاقاتها التجارية الواسعة.
أما شرقي آسيا فوصل الإسلام فيه إلى إندونيسيا وماليزيا والفلبين عن طريق التجار المسلمين في الهند، ووصل إلى سهولها الداخلية عن طريق المتصوفة والمبشرين الدعاة المسلمين، وعندما جاء القرن السادس عشر كانت جميع الشعوب التركية في أوراسيا مسلمة تقريباً، وبهذا يكون الإسلام قد حل مكان الأديان التي كانت منافسة مثل المسيحية والمانوية والبوذية.(8/210)
الثالث: أفق العالمية: وقد تحقق هذا الأفق؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الناس كافة وليس للعرب وحدهم، قال سبحانه وتعالى: (وما أرسلناكَ إلا رَحمةً للعالمين) (الأنبياء،107)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وما أرسلناك إلا كافَةً للناسِ بشيراً ونذيراً) (سبأ،28)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (قُلْ يا أَيُّها الناسُ إني رَسولُ اللهِ إليكم جَميعاً) (الأعراف،158). وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في أحد أحاديثه فقال: "فُضّلت على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون" (رواه مسلم).
وقد تحقق أفق العالمية لأنّ القرآن الكريم كتاب الله إلى الناس جميعاً فقال سبحانه وتعالى: (إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمينَ) [ص:87]، ولأنّ الإسلام أقام الرابطة بين الناس على أساس الإيمان بالله ولم يقمها على جنس أو نسب أو قبيلة فقال سبحانه وتعالى: (إنما المؤمنونَ إخوةٌ) [الحجرات:10]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى".
لذلك مزجت الأمة الإسلامية مختلف الأجناس والأعراق والقبائل والشعوب في بوتقتها، وهذا المزج هو ما حلم به الفيلسوف أرسطو وتلميذه القائد العسكري اسكندر المقدوني، وسعياً إلى تحقيقه بمزج العرقين: اليوناني والفارسي في بابل من خلال زواج اسكندر المقدوني بابنة كسرى ملك الفرس، وزواج كبار ضباطه بشريفات الأسر الفارسية، لكن هذه المحاولة انتهت بوفاة الاسكندر المقدوني.
وقد أثمرت عالمية الأمة الإسلامية حضارة عالمية كان للعرب دور مستقل في بداية ظهور الإسلام ولفترة وجيزة، لكن الشعوب الأخرى شاركتهم بعد ذلك في كل عناصرها العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية...الخ، لذلك نجد أنّ الصرح العلمي في الحضارة الإسلامية بناه علماء من العرب والفرس والهنود...الخ، وأنّ الأرض الإسلامية دافعت عنها قبائل وأسر سلجوقية وزنكية وكردية وتركمانية وشركسية وعثمانية...الخ، وأنّ القيادة السياسية تسلمها العرب والبربر والترك والفرس...الخ
ومما ساعد في تحقيق هذه الحضارة العالمية اعتبار الإسلام الأمة الإسلامية مع أمم الأنبياء السابقين أمة واحدة فقال سبحانه وتعالى: (وإنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكُم فاتَّقونِ) (المؤمنون،52)، وقال سبحانه وتعالى: (إنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدةً وأنا رَبُّكُم فاعْبُدونِ) (الأنبياء،92)، وقد جاء الوصف بالأمة الواحدة في السورتين بعد حديث تفصيلي عن معظم الأنبياء السابقين ومنهم: موسى، وهارون، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل، وذو النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى...الخ
ومما عزز هذه العالمية إفراد مساحة تشريعية خاصة في التعامل مع أهل الكتاب: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام؛ إذ أباح الإسلام أكل ذبائحهم والزواج من نسائهم فقال سبحانه وتعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (سورة المائدة: من الآية 5)
إنّ هذه الآفاق الحضارية التي حققتها الأمة الإسلامية في التاريخ جديرة بأن تكون محل بحث تفصيلي لكي نحسن فهم واقعنا، ونحسن التعامل معه حاضراً ومستقبلاً
==============
كلمات في الفن الإسلامي
أ. د. عماد الدين خليل 9/5/1428
26/05/2007
لم تنفصل الفنون الإسلامية عن العقيدة التي صاغتها، والبيئة التي تخلقت في رحمها، بخلاف العديد من الاستنتاجات الخاطئة التي تشبثت بها بعض الدراسات الحديثة حول
الموضوع، ولذا سنقف عند هذه المسألة بعض الوقت.
إن عقيدة الإسلام، بانقلابها على سائر الجاهليات والوثنيات منحت الفن منظوراً توحيدياً أصيلاً كان في نهاية الأمر بمثابة كسب مهم لمفاهيم التجريد التي لم تبلغها الفنون الأخرى في العالم إلاّ في القرن الأخير.
لقد وضع الإسلام ضوابط ومعايير ألزم بها فنانيه، فدفعهم إلى التخلي عن بعض صيغ التعبير، ولكنه ـ بهذا ـ فتح أمامهم مجالات أخرى لم يسبقه إليها أحد، وشهد عالم الإسلام مهرجاناً خصباً من معطيات فن ينبثق عن رؤية عقديّة متميزة يلتزم بمفرداتها ومطالبها، فيبدع ويتفوق.
إن الطاقة الإبداعية تبحث ـ بالضرورة ـ عن متنفسها.. عن فرصتها للتحقق. ولقد كان الفنان المسلم أهلا لإيجاد البدائل المناسبة، ومن ثم فإن غياب فنون كالنحت والرسم ـ إلى حد كبير ـ قاد بالمقابل إلى حضور فاعل في مجالات أخرى كالخط والزخرفة والمعمار. وكما يقول الباحث الإنكليزي (روم لاندو): "فمن حيث حُرّم على المسلمين الاهتمام بالفن التشبيهي، فقد تعين على مواهبهم الفنية أن تلتمس منافذ لها في اتجاهات أخرى. ومن خلال هذا السعي أحدثوا فناً يستطيع أن يدعي ـ بصرف النظر عن محاسنه أو نقائصه الأخرى ـ أنه واحد من أصفى الفنون التي نعرفها ". وهو ـ أي روم لاندو ـ يضع يديه على بعض مقومات هذا الفن: التجريد الجمالي الخالص، رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقدي، تجاوز الطبقية، والقدرة على الانتشار الجغرافي.
وهو يتحدث عن إبداعية الخط العربي والمساحة الواسعة التي غطاها في الحياة الفنية الإسلامية بتعاشقه مع فن الزخرفة "ذلك النظم المعقد للأشكال الهندسية والعناصر النباتية المكيفة وفقاً لطراز بعينه والخطوط العربية. النظم الذي انتهى إلى أن يصبح بمثابة "دمغة المصوغات" بالنسبة إلى الفن الإسلامي والذي شغل حيزاً هائلا من العبقرية الفنية في الإسلام".
وهو يستنتج أن "العنصرين اللذين يشكلان المحتوى الرئيس لفن الزخرفة العربي ـ النمط والكلمة، الشكل والمعنى ـ يفيدان على التعاقب مبدأ الحقيقة المادية ومبدأ الحياة، وبكلمة أخرى: مبدأ الوجود كما يراه الله.. وهكذا يصبح هذا الفن رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه".
وثمة ملمح آخر يكتشفه (روم لاندو) وهو يتحدث عن فن الزخرفة والخط ذلك الإيقاع المتوحد في حضارة الإسلام بين الفنان والمفكر والعالم، ذلك العشق للتناغم والتناسق، وذلك الولوع بالنظام: "إن الفنان المسلم شارك المفكر والعالم المسلمين ولوعهما بالنظام والجدولة Tabulation والتناغم. فقد التمس الفلاسفة كما نعلم تفسيرات عقلانية لخلق الله الكون، ولم تكن قلوبهم لتطمئن إلاّ إذا أظهرت تفسيراتهم منطق التناغم الكامل. أما الرياضيون وعلماء الفلك فالتمسوا أكمل شكل من أشكال التناغم، أعني المعادلة الرياضية. وبطريقة مماثلة اهتم الفنان المسلم بتنسيق التصاميم والأنماط التي كانت صفتها الهندسية الطاغية تساعد بصورة رائعة على النظم ..".(8/211)
وبصمات الإسلام ورؤيته للكون والعالم تمتد في مجال الفن لكي تشمل التكوين المعماري نفسه، انطلاقاً من المسجد الذي هو البدء والمنتهى، والذي اكتسب ملامحه الأساسية من طبيعة وظيفته التي أُريد له أن يؤديها، وانتهاء بالمدن الإسلامية المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها : بخارى وسمرقند ودلهي وأصفهان وبغداد وأسطنبول ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وأشبيلية، تلك التي وضعت حجارتها الأساسية باسم الله، بدءاً من أعماق تركستان وانتهاء بالحمراء في الأندلس، مروراً بحافات الصحراء حيث أقيمت المدن الأولى بمواجهة تحديات الامتداد والفناء: البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان…
يصف روجيه جارودي في كتابه المعروف (وعود الإسلام) الجامع بأن "حجارته نفسها تكاد تصلي" وأنه "مركز الإشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية، ونقطة الالتقاء لجميع فنونها" وأن "كل الفنون في البلاد الإسلامية تؤدي إلى المسجد، والمسجد إلى الصلاة ".
وجارودي بملاحظاته الدقيقة هذه يؤكد الارتباط الحميم بين الرؤية والمعمار، وهي تذكرنا بما سبق وأن قاله (روم لاندو)، من "أن حافزاً لا إرادياً نحو دمج السماوات دمجاً رمزياً في بيت العبادة، هو الذي قاد المسلمين إلى تبني القبة وإلى إتقانها حتى الكمال. وفي إمكاننا القول بأن المكعب والقبة معا يمثلان رمزاً كاملاً لماهية الإسلام: وحدة العالمين المنظور وغير المنظور، عالمي الأرض والسماء". وبعبارة جاك ريسلر، وهو يرى ويسمع إيقاع العقيدة في المعمار:
"في المسجد ينبض قلب الإسلام.. وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حياً أنه بحضرة الله. الحق أنه لا شيء في المسجد إلاّ البساطة والجمال والتجانس".
وفيما كان بناء المساجد ينتشر شرقاً حتى بلغ الصين، وغربا حتى وصل الأندلس "كان نمط البناء يتأثر بعناصر محلية من غير أن تتبدل خطته الأساسية تبدلاً يُذكر. ولما كان المسجد مكاناً للعبادة فإن بناءه عموماً ظل معبراً عن الإسلام تعبيراً عظيماً. وأما في أثناء تطوره في التاريخ فإنه كان صورة مصغرة لتطور الثقافة الإسلامية، تلك الثقافة التي كان المسجد تعبيراً صحيحاً عنها ـ فيما يتعلق بالأمم المختلفة ـ إذ هو يمثل بصورة ملموسة ذلك التفاعل بين الإسلام و جيرانه".
ليس الجامع وحده، وإنما المعطيات المعمارية كافة كانت تخفق بالنبض نفسه وتعبر عن رؤية إسلامية أصيلة ومتميزة. وعلى أية حال، كما يؤكد مؤرخ الفن المعروف جورج مارسيه فإنه "يكاد لا يوجد في البلاد الإسلامية منشآت عامة أو خاصة لا تحمل طابع الدين، فلقد تغلغل الإسلام في الحياة البيئية، كما دخل حياة المجتمع، وصاغت الطبائع التي نشرها شكل البيوت والنفوس". وهكذا "فإن الإسلام وضع طابعه على إطار الحياة اليومية، وحتى عندما يكون الفن مطبقاً في أمور دنيوية، فإن فن البلاد الإسلامية يبقى فناً مسلماً" بل إن غارودي يذهب إلى أبعد من هذا وهو يعاين ذلك الإيقاع المتصادي العميق المتبادل بين الإسلام وفنونه كافة، فيقول: "لا مندوحة لي من أن أشهد بتجربتي الشخصية: ذلك أنني انطلاقاً من تأمل فنون الإسلام ومساجده إنما شرعت أفهم العقيدة الإسلامية بتأكيدها الجذري على التعالي.."، مشيراً إلى رحلة الصعود للمسلم الفرد وللأمة الإسلامية عبر محطات الإسلام والإيمان والتقوى والإحسان.. إلى حركة الخروج بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها..
و على الرغم من أن المعماريين المسلمين تأثروا بالنماذج الرومانية والفارسية والبيزنطية فإنهم "مع ذلك وُفّقوا دائماً إلى إبداع آثار لا ريب في سمتها الإسلامية الخالصة". وتمكنوا من امتصاص عناصر منبثقة من أشد الينابيع تنافراً لكي يدمجوها في تركيب Synthesis جديد متجانس. ليس هذا فحسب، بل إنهم عادوا لكي يعطوا الأمم الأخرى الكثير من إبداعاتهم المعمارية فيما تحدث عنه الباحثون ومؤرخو الفن فأطالوا الحديث.
باختصار شديد، فإن فن المعمار الإسلامي، ارتبط بشكل حميم، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من مفردات الحضارة الإسلامية، برؤية هذا الدين الأمر الذي دفع (أوليغ غرابار) إلى القول بأنه "نقل بصري لرؤية العقيدة الإسلامية الكونية
============
التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية
محمد الحسن الددو 13/6/1428
28/06/2007
خلق الله الإنسان وسخر له الكون ليكون خليفة الله في الأرض ، قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. }
ومن قديم الزمان انقسم بنو الإنسان إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر، ولم يمنع ذلك من عيشهم على هذا الكوكب ؛ بل وتعاونهم في شؤونهم اليومية في غير أوقات الحروب والنزاعات .
وبحكم الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامهم من خيار غير التعاون في المتفق فيه الذي يفترض أن يتوصل إليه بواسطة حوار بناء أطرافه متكافئة ومتسامحة وبهذا يمكن التعايش بين الناس وإن اختلفت عقائدهم وتعددت مشاربهم وتباينت أهدافهم وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويهلك الحرث والنسل ويأتي على الأخضر واليابس ومحاولة لبيان هذا الموضوع أكثر أورد النقاط التالية :
المحور الأول: من نحن ومن الآخر ؟
أما المقصود بعبارة ( نحن ) فهم من عنتهم الآية الكريمة { يأيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير}
وأي فرد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعمل بمقتضى ذلك ، داخل في هذا التعريف ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر نبي وآخر رسول وكانت أمته آخر أمة أنزل إليها وحي من الله - لما كان ذلك كذلك - اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة متميزة عن غيرها من الأمم وهذا التميز شامل لمناحي الحياة ، عقدية واقتصادية وسياسية واجتماعية .
إذ ليس مقبولا شرعا ولا مستساغا عقلا أن تكون آخر أمة أخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله تابعة لأمة أخرى مهما علا شأنها قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }
أما الآخر فنعني به من لا يعتقد عقيدتنا ولا يؤمن بديننا وهذا التعريف يشمل أتباع الديانات السماوية السابقة يهودا ومسيحيين كما يشمل من يدينون بديانات أخرى ، ومن لا يدينون بشيء مع استحضار واستدراك المكانة الخاصة لأهل الكتاب لدى المسلمين والفروق بين الفريقين (المسلمين وغيرهم)؛ عديدة لكنها لا تصل إلى التضاد والتناقض المطلق، ولا تمنع التعايش ولذا لزم البحث عن أرضية مشتركة يمكن أن يقف عليها الفريقان ليعيشا في سلام وأمان ويعملا لتعمير الأرض وسعادة الإنسان …
المحور الثاني: أرضية التعايش
لا يخفى على دارس تعدد وتنوع واختلاف عقائد وعادات وتقاليد البشرية ، فلكل قوم ملتهم ومذهبهم ونظرتهم إلى الكون وإلى الحياة وهذا التنوع الذي قد أوجد هذا الاختلاف يمكن فهمه والتعايش معه إذا وجد الجميع أرضية صلبة يقفون عليها يرتضونها جميعا .
وللوصول إلى تلك الأرضية أقترح ما يلي :(8/212)
أ. أن ينطلق الجميع من حقيقة لا جدال فيها وهي أن الناس لا يمكن أن يكونوا نسخة مكررة لأن الله لم يفطرهم على ذلك بل جعل الاختلاف سنة فيهم قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ...}الآية 118 و 119 من سورة هود ، أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين مهتدين على ملة الإسلام ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة.
( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى وملل متعددة ما بين يهودي ونصراني ومجوسي إلا ناسا هداهم الله من فضله وهم أهل الحق ( ولذلك خلقهم ) اللام لام العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم مابين شقي وسعيد ، قال الطبري : المعنى للاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ..
ب. احترام المعتقدات والمبادئ الأساسية لكل طرف :
وهذه مسألة بالغة الأهمية ولها أثرها الطيب على العلاقات بين الأمم والمجتمعات فلكل أمة عقيدة أو مبادئ تقدسها وتلتزم بها وتعتبرها أسمى من غيرها ويدخل في هذا أركان الإيمان عند المسلمين ، من إيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .. ولغير المسلمين ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها ، أو مبادئ يعتزون بها .. ومبدأ الاحترام مبدأ قرآني أصيل دل عليه قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ..} الآية 108 من سورة الأنعام .
أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم فيسبوا الله جهلا واعتداء لعدم معرفتهم بعظمة الله ، قال ابن عباس : قال المشركون لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم .
ومعاملة أي من الطرفين للآخر بعدم احترام وخاصة في هذا الجانب لها آثار مأساوية ، وأنصع مثال على ذلك ما اقترفته الصحيفة الدانمركية ورساميها من تعريض وسخرية بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو المكر الشنيع الذي أوقد نارا لا تزال مشتعلة ، وقد أتى حريقها على الأرواح والأموال ... وسبب هذا المنكر الشنيع شرخا يصعب تجاوزه بين المسلمين والغرب مالم يبادر الغرب إلى الاعتذار وتشريع ما يحول دون فعل مماثل .
ج. العمل على إرساء مبدأ التعاون والتشارك بدل الاستعمار والاستغلال والقهر ..
وفي هذا السياق على الغرب أن يقنع أن ثروات المسلمين وبقية العالم الثالث ليست ملكا للغرب ينهبها مباشرة أو عن طريق أعوان يصنعهم على عينه ويتعاهد هم بحمايته ورعايته بل هي ملك للشعوب التي جعلها الله في أرضها وخصها بها ... وليس خافيا أن نهب الدول الغربية لثروات الغير في الماضي والحاضر سبب مجاعات وكوارث لا حصر لها .
د. احترام المبادئ الإنسانية المشتركة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان :
فهذه قيم إنسانية سامية إن لم تتخذ مطية للإساءة إلى الغير والتهجم عليه بحجة حرية التعبير ... ويؤخذ على الغرب ترسيخه لهذه القيم في دوله وتشجيعه للاستبداد والظلم في الدول الأخرى ، وخاصة في بلاد المسلمين وهو أمر له ضرره البين على الجانبين .
هـ. احترام إرادة الشعوب في الاختيار :
اختيارها لدساتيرها وقوانينها ... ومن يحكمها ولا مجال لوصاية أمة على أخرى فكما لا تقبل الدول الأوربية مثلا أن تحكم بشريعة الإسلام ، عليها أن لا تحاول فرض نموذجها العلماني الليبرالي على المسلمين وما الضجة الكبرى التي أعقبت الفوز الساحق لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في فلسطين وما رافقها من تهديد ووعيد إلا دليل صارخ على النفاق والأنانية وحتى العنصرية المتنامية في الدول الغربية .. وقد آن الأوان لاعتراف الرجل الأبيض أنه ليس وحده القاطن في هذا الكوكب .. وليس وحده المؤهل للتفكير والتنظير والتنفيذ أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، فتلك مرحلة في طريقها إلى الانتهاء بعد عودة المسلمين إلى أصالتهم وحضارتهم وبزوغ نجم الصين والهند كدولتين تزداد قوتهما البشرية والاقتصادية.. ليستمر التدافع والتوازن الذي إذا اختفى اختفت الحياة ، قال تعالى:
{ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }
و. إعادة النظر في المؤسسات الدولية القائمة :
كالأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة من مجلس أمن .. إلخ لأن النظام الذي تقوم عليه يخدم الأقوى ولا مصلحة فيه للضعيف ، والعلاقة بين البشر لا يمكن أن تكون قائمة على ذلك ، وقد باتت المؤسسات الدولية تابعة لدولة واحدة هي الولايات المتحدة تغزو بها من تشاء ، وتحاصر من تريد ، وتكافئ من يدور في فلكها .. وهو أمر أفقد المؤسسات الدولية مصداقيتها ومبرر وجودها .
ز. وضع أسس جديدة للاقتصاد العالمي :
بخلاف ما هو قائم من سيطرة البنك وصندوق النقد الدوليين على مقدرات الشعوب المختلفة لتسخيرها لخدمة دول بعينها هي أمريكا وأوروبا ولو هلك بقية الخلق عن بكرة أبيهم .. ولابد أن تكون الأسس الجديدة مبنية على ما يخدم مصلحة الجميع وأن تتيح للأمم المختلفة إبراز مبادئها وخصوصياتها ، وفي هذا السياق ليس من حق النافذين في العالم العربي أن يفرضوا على المسلمين التعامل بالربا ... وهو في دينهم من أعظم المحرمات قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ... } الآية
وفي الصحيحين : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هي يا رسول الله ، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
ح. إتاحة فرص التطور التكنولوجي والاقتصادي والسياسي .. أمام كل الأمم :
فالسياسة الحالية التي يحتكر فيها الغرب الصناعي إبراز العلوم والتقنيات ، والسعي الحثيث بوضع القواعد الصارمة لحرمان المسلمين خاصة من التكنولوجيا المتقدمة .. تنكر لأيادي المسلمين البيضاء وأنانية وعنصرية يتحتم التخلي عنها واستبدالها بنشر أسرار العلوم التجريبية لتعم فائدتها الجميع .
ط. معالجة الأزمات الكبرى : بعدالة تزيل أو تقلل الشعور بالظلم والمهانة السائد بين المسلمين بسبب سلب أرضهم وانتهاك عرضهم ونهب ثرواتهم واستهداف مقدساتهم ... والأمثلة على هذا أوضح من الشمس في رابعة النهار:
ففلسطين مغتصبة والأقصى مدنس والعراق تسيل الدماء فيه كالأنهار وأفغانستان مستباحة والشيشان مستلبة ... والاستمرار في هذا الطريق لا يترك للمسلمين إلا خيارا واحدا هو خيار الجهاد والمقاومة قال تعالى : { ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..... } .
ي. أن لا تكون التكتلات الكبرى حكرا على غير المسلمين
فالولايات المتحد موحدة ، والاتحاد الأوروبي مجتمع ، والصين تجمع شملها ... أما المسلمون فيفرض عليهم التشرذم والتفرق والتجزؤ .... لإبقائهم ضعافا مفككين عاجزين .... رغم أن دينهم لا يقرهم على ذلك ولا يقبله منهم قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .
المحور الثالث: فوائد التعاون
التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة أمر تحتاجه الإنسانية حاجة ماسة ، وقد شرع الإسلام التسامح وأمر بالعدل والرحمة والبر بين البشرية ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الآية 8 من الممتحنة .
وقال : { إن الله يأمر بالعدل ولإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }(8/213)
وقد ضرب المسلمون طيلة تاريخهم أنصع مثال على حسن معاملة غيرهم فلم يفعلوا ما فعلته أوروبا باليهود ، كما لم يقتر فوا الأسبان بالمسلمين .
وامتدت معاملة المسلمين الحسنة لغير المسلمين قرونا عديدة ولا تزال إلى اليوم ويشهد لذلك وجود النصارى وغيرهم بين المسلمين في أماكن كثيرة ...
والتعاون بين بني الإنسان لا غنى عنه وفيه فوائد كثيرة منها :
- انتشار المبادئ والأخلاق الأكثر إقناعا وجاذبية كالمساواة والحرية والديمقراطية والعدالة .. والصدق والأمانة .. والوفاء .
- استفادة كل فريق من خبرات وتجارب الفريق الثاني في كل مناحي الحياة : سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، وإعلامية .
- تنمية وتعزيز القوا سم المشتركة بين الفرقاء جميعا لأن مركبا واحدا يجمعهم وأي خلل فيه سيدفع الجميع ثمنه غاليا .
- ازدهار العلوم والفنون المختلفة بتلاقح الحضارات وإثراء بعضها للبعض الآخر .
- سرعة التطور العلمي والتكنولوجي لما فيه مصلحة الإنسانية .
- تكامل الموارد الاقتصادية بتبادل السلع والخدمات بشكل منصف يكفل للكل العيش الكريم للفرقاء جميعا .
- حرية التنقل والتملك .
- الشعور بالأمان والسلام .
المحور الرابع: أضرار التصادم
التصادم بين الحضارات والأمم عواقبه مدمرة لا تخفى على أحد ولا يسعى إليها عاقل وقد روج العديد من المنظرين الغربيين لصراع الحضارات كالأمريكي هنكتتن وغيره ، والهدف الأول لهم المسلمون والحضارة الإسلامية وإن عدوا معها أحيانا الحضارة الصينية .
ومالم يبادر العقلاء إلى استدراك الأمر والسعي للسير بالبشرية في الطريق الآخر طريق تعاون وتكامل الحضارات فإن الحياة على هذه الأرض لن تكون سعيدة، بل ستكون مليئة بالأحزان والأحقاد التي هي حتمية للظلم والجور والقهر ...
خاتمة :
مرت حتى الآن حقب طويلة على الجنس البشري على هذا الكوكب الأرضي تراوحت العلاقة فيها - بين بني الإنسان - بين التفاهم والتكامل ، والتعاون ... وبين الخلاف والنزاع والشقاق ..
وكانت نتيجة الأولى إيجابية على الجميع ، أما الثانية فكانت سلبية بكل المقاييس ، ولذا من المصلحة بل من المتحتم أن يعمل المخلصون لمبادئهم وأوطانهم .. للوصول إلى قواسم مشتركة يتفق عليها الجميع ويعمل من أجلها لتقل أسباب ودواعي صراع وتصادم الحضارات الذي أباد أمما وشعوبا في الماضي والحاضر، وقد يبيدها في المستقبل - لاقدر الله - مالم يتدارك الموقف..
والمسلمون - من جانبهم - ممثلين في التيار الوسطي العقلاني المعتدل جاهزون للتعاطي إيجابيا مع أي قوم يعاملونهم باحترام ، ويضعون قدراتهم وإمكانياتهم معهم في خدمة الإنسانية
==============
الإنسان والكون
منصور الزغيبي 11/7/1428
25/07/2007
(مدارك البشر ومعارفهم، هي مقربات الرؤية الكاشفة لأبعاد هذا الكون، ويتسع مجال الرؤية لهذه المقربات بقدر اتساع المعارف، ونضج المدارك).
د. راشد المبارك.
إن الكون والإنسان من أعظم المخلوقات الموجودة، ومن أكثر الكائنات الأخرى اتصالاً وارتباطاً بينهما، والعلاقة بينهما جدلية، منها الواضح، ومنها الغامض وهو الأكثر نسبة..!
إن (الكون) كلمة ضخمة تشمل كل ما في الوجود من المخلوقات الحية والجامدة..
وهي لم ترد في القرآن الكريم بهذه الصياغة تماماً، ولكن وردت بأسلوبٍ آخر.. (كن ) من التكوين.. (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [سورة آل عمران:47].
فالكون في التعريف: هو (الفضاء الواسع وهو السماء). وعند اللغويين: (هو كل ما علاك فأظلك). وفي علم الفلك: (هو كل ما يحيط من أجرام ومجرات ونجوم وسدم وكواكب وفراغ بينهما) وعند الجرجاني هو: (عبارة عن وجود العالم). وإن كان البعض من العلماء المتخصصين وغيرهم، يرى أن إطلاق كلمة (كون) في العصر الحديث تختلف عن إطلاقها في الزمن التراثي المتقدم، والفارق هنا، أن المتأخرين من المعاصرين يقصدون بالكون كل ما هو متعلق ومتصل بعلم الفلك، وأما المتقدمون من التراثيين فيطلقونها على كل الموجودات في الكون.
إن العقل البشري يعيش قلقاً فكرياً منذ القدم من أجل اكتشاف هذا العالم الكوني، فمن ضمن الأسئلة التي أشغلته كثيراً: ما هو عمر الكون؟
طبعاً تبقى آراء العلماء مختلفة في التحليل، فمنهم من قدره بحوالي (15-20) مليار عام، وهناك حساب آخر حوالي (12.7) مليار سنة. وهذا من خلال التحليل الدقيق لأقدم نجوم المجرة وقياس عمرها، وهذا النجم الذي يُعرف باسم (31082- csool)، ورأي آخر كذلك على حسب نظرية الانفجار العظيم هو: (7-13) مليار سنة.
ومن ضمن الأسئلة متى وُجد الكون؟
لقد خلق الله هذا الكون من العدم، وبكلمة واحدة (كن) (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس: 82] وكان مدة الخلق في ستة أيام: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)[سورة ق:38] وبالنسبة للأيام المذكورة في الآية مختلف فيها بين العلماء، هل هي مساوية لهذه الأيام التي نعيشها؟ أَتختلف؟! والصحيح من رأي أهل العلم أنها تختلف.. والمقصود بالسموات في هذه الآية من كلام المفسرين كالرازي: أنها أفلاك السيارات السبعة وهي الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل.
والإنسان كذلك مساوٍ لخلق الكون من هذه الناحية السابقة، وهي إيجاده من العدم، قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [سورة الإنسان:1]. وهو في الحقيقة من الطين وروح الله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28- 29].
والإنسان دوره في الأرض عمارتها بالعدل وكل ما فيه رقي يعود له وللطبيعة. وحياته محدودة في الأرض التي هي جزء من الكون: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [سورة البقرة:36]. والإنسان أكثر الكائنات تكريماً من الرب (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [سورة الإسراء:70].
وكان اتصال الإنسان بالكون حسب أدوات بسيطة، كانت العين المجردة هي الأداة الرئيسة التي يتعامل بها مع علامات الكون في تنقّله وترحاله، ومعرفة ظروف تغير المناخ، مع الفارق أساساً في أداة الإنسان (العين) ورموز الكون. مع تقدم الزمن يتطور تفكير الإنسان وتواصل الحضارات اكتشافاتها العلمية التي تكمل بعضها بعضاً، والحضارة الإسلامية استفادت كثيراً من الحضارات الأخرى في دراسة الكون، حتى طُوّرت آلة (الإسطرلاب) وغيرها من الإنجازات التي كانت في ظل الحضارة الإسلامية، والعقلية الغربية اهتمت أكثر من غيرها في اكتشاف وتطوير هذه الآلات المساعدة للإنسان في فهم نظام هذا الكون، لقد اكتشف العالم الفيزيائي الرياضي نيوتن (ت 1727م) التلسكوب العاكس. والفلكي وليم هرشل (ت 1822م) ساهم في تطوير جهاز التلسكوب، والاكتشافات متوالية لكنها تبقى مجهولة، ولم تُعطَ حقها في التعريف، ولو بشكل قريب للأذهان.
إن الإنسان مطالب شرعاً وكوناً بالبحث عن المعرفة التي تجعله يدرك ويفهم نظام الكون: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [سورة طه:114].(8/214)
كان الاعتقاد السائد أن الكرة الأرضية هي مركز الكون، والشمس كالكواكب الأخرى تدور حول الأرض، وبعد اكتشاف العالم الفلكي البولندي نيكولاي كوبر نيكوس (1473-1543م) الذي عكس النظرية، وأصبحت الشمس مركز الكون، والأرض كالكواكب الأخرى في الكون، التي تدور حول الشمس؛ هذا الانفجار العلمي غيّر الكثير من المفاهيم في عالم الفلك.
إن النظام الكوني في حالة توسّع وتغيّر مستمرين، وأول من اكتشف هذا القانون هو الفلكي الأمريكي (أدوين هابل)، والعالم الفيزيائي الرياضي (ألبرت اينشتاين) (1879-1954). أخذ بقانون (هابل).
ومن ضمن الأسئلة التي تواجه العقل البشري كذلك: أيهما أعظم الإنسان أم الكون؟
فعملية الكون أقدم من عملية الإنسان: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة غافر:57].
التعمق في المسائل العلمية الكونية، واكتشاف أسرار الكون وفق القوانين الطبيعية من قبل العلماء في مختلف التخصصات مطلب ديني وحضاري وعلمي، لكن البعض يرفض ذلك بحجج واهية، كدخول الإنسان في عالم الشك والحيرة والتناقض، والحقيقة أن عمليتي البحث والتأمل تغذيان الإيمان والطمأنينة لدى الإنسان:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].
إن المتابع للحركة العلمية المهتمة بعلم الكون يجد أن الفيلسوف أكثر من غيره من المتخصصين في ميادين المعرفة غوصاً واشتغالاً في الأبحاث المرتبطة بالكون والإنسان والحياة والغيبي وغير الغيبي، أمثال فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، وأما الآن فأصحاب التخصصات الأخرى من الفيزيائيين والفلكيين، هم الأكثر بحثاً من غيرهم.
هذا الكون المتكامل والمتناسق في تراكيبه وصوره الرائعة وضوئه الساحر، ينتظر من العلماء والباحثين تقريب جماله وتناسقه وتراكيبه وصوره وسحره إلى العقل البشري أكثر، في الاجتماعات، والقاعات الدراسية، ووسائل الإعلام
=============
محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية
العلم هو وسيلة للمعرفة بهدف الوصول إلى الحقيقة؛ لاستخدامها في مصلحة الإنسان في ظل احترام القيم والكرامة الإنسانية، وفي الحضارة الغربية نجد أن العلم يُعرِض عن الحقيقة الوحيدة التي يدل عليها وجود هذا الكون؛ وهي خالق هذا الكون وفاطره ومبدعه - سبحانه وتعالى، ويعتبر العلماء الغربيون أن الحياة في الأرض إنما نشأت بمحض الصدفة، وتبعاً لذلك فلا يوجد أي هدف محدد للوجود الإنساني في نظر هؤلاء العلماء، والأخلاق الإنسانية ليست مطلقة؛ بل هي خاضعة للمعرفة العلمية، ويعني ذلك إقصاء الدين عن الحياة وعدم الخضوع للأخلاق الإنسانية المبنية على الدين.
والعلماء الغربيون وغيرهم يعتمدون على العقل المجرد والتكنولوجيا التي توصلوا إليها وسيلةً وحيدة للبحث عن أسرار ونشوء هذا الكون وتفسير الوجود الإنساني، ونتج عن ذلك ظهور العديد من النظريات التي تتحدث عن نشوء هذا الكون، مثل نظرية «الانفجار الكبير» (Big Bang Theory)؛ ونظرية «كل شيء» (Everything Theory)؛ وأحدث نظرية كونية وهي نظرية «الأوتار الفائقة» (Superstring Theory)، وكل هذه النظريات تحيد عن حقيقة أن هناك خالق عظيم لهذا الكون، وأنه سبحانه وتعالى واحد لا شريك له وقادر على كل شيء، وأنه لم يَخلق هذا الكون عبثا ولعباً، وإنما خلقه لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى.
ولقد احتارت عقول العلماء الغربيين في تفسير كثير من الأشياء، فالعقل البشري عاجز عن إدراك حقائق الكون، والعلماء - برغم هذا التطور الهائل في التكنولوجيا التي أوصلتهم إلى تحديد الخارطة الجينية للإنسان- يعجزون عن إدراك حقائق جسم الإنسان ونفسه، ويعجزون عن تفسير العديد من الظواهر البسيطة التي يدور رحاها في جسم الإنسان في كل لحظة. والعقل البشري - المحدود - إنما يتحرك ضمن نطاق القوانين الفيزيائية للعالم الذي نعيش فيه والذي استطاع الإنسان أن يتوصل إلى قوانينه بحواسه وبمساعدة التكنولوجيا التي صنعها، وكلما توفرت لدى العلماء أدوات تكنولوجية ومعرفية جديدة تعَّرف هؤلاء العلماء على المزيد من الحقائق المذهلة عن هذا الكون، وكلما أدى ذلك إلى زيادة علامات الاستفهام حول الكثير من الظواهر الكونية، مما يجعل العلماء في تعطش إلى المزيد من المعرفة والدراسة والبحث، وإعادة النظر فيما توصلوا إليه من نظريات علمية.
ولقد توصل العلماء إلى نظرية الانفجار الكبير بعد تحقق قدرتهم على تحليل ألوان الطيف وأشعة جاما، حيث اتضح للعلماء أن كل شيء في هذا الكون يبتعد عن كل شيء، فالكون يتسع باستمرار، وقد يكون هذا مطابقا لما جاء في لقرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (سورة الذاريات: 47)، ولكن لا بد من ملاحظة أن الاسم: «الانفجار الكبير»، الذي اختاره العلماء لهذه النظرية هو اسم مُضلل، وفيه إلحاد بعلم الله وقدرته ودقة صنعه، فالانفجار يكون عشوائيا - هكذا يعتقد العلماء الغربيون - وبذلك فإن وجود ظروف مناسبة للحياة بشكل دقيق جداً جاء من قبيل الصدفة، والأمر الآخر في التضليل هو أن الانفجار لا بد له من زمان ومكان، وحسب ما يقول العلماء فإن المكان والزمان وكل القوانين الفيزيائية هم جميعاً من آثار هذا الانفجار ومقتضياته، لذلك فإن القوانين الفيزيائية تتبدل وتتغير، كما يرى هؤلاء العلماء.
والعجيب أن العلماء المسلمين يستشهدون بنظرية الانفجار الكبير للتدليل على الإعجاز العلمي المتمثل في قوله تعالى: {أَولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء:30)، دون مراعاة لما تقتضيه هذه النظرية من إنكار لوجود الله تعالى، فلماذا لا يضع العلماء المسلمون التصور الإسلامي لنشأة الكون في ضوء ما توصل إليه العلم من حقائق ونظريات؟ وأقل ما يمكن أن يقوم به العلماء المسلمون هو تقييم هذه النظرية وأمثالها تبعاَ للتصور الإسلامي، ويمكن للعلماء المسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا بكثير، فمثلا لو كانت الآية الكريمة المذكورة تتوافق مع نظرية الانفجار الكبير، فالأولى أن يسميها المسلمون «نظرية الرتق» بدلا من نظرية الانفجار الكبير المضللة.
والقوانين الفيزيائية التي عرفها الإنسان لا تستطيع تفسير العالم الذي نعيش فيه، ولكنها تعمل على وصفه، فهناك أسئلة عادية في مظهرها وليس لها معنى فيزيائياً مثل: «ماذا كان يوجد قبل بداية الكون؟» أو «ما هو الحيز الذي ولد فيه الكون؟»، وهذا ما تحاول أن تجيب عليه نظرية «كل شيء» التي تنص على أن كل شيء في هذا الوجود يمكن تفسيره بنظام (أو مجموعة مترابطة) من المعادلات الرياضية التي توحد بين الأشكال المتعددة للطاقة، وهذه النظرية تبحث عن الشرارة الأولى التي أحدثت الانفجار الكبير - على حد زعم العلماء، علما بأن المكان والزمان لم يوجدا قبل المادة، وإنما وجدا بعد خلق هذا الكون.(8/215)
أما نظرية الأوتار الفائقة فقد نجحت في التوحيد بين صور القوى (الطاقات) الأربعة في عالمنا: الجاذبية؛ الكهرومغناطيسية؛ النووية؛ والنووية الضعيفة المتمثلة في الاضمحلال الإشعاعي، ونجحت هذه النظرية في التوفيق بين «نظرية الكم» و «نظرية النسبية العامة» في انسجام عجيب، وبحسب هذه النظرية فإن الكون ما هو إلا سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة، والوتر المتذبذب يجعل الفضاء المكاني الزماني المحيط به يلتوي حوله، وبحسب هذه النظرية فإن الكون له عشرة أبعاد بالإضافة إلى البعد الحادي عشر وهو بعد صغير جدا.
وبحسب نظرية الأوتار الفائقة فإن الكون الذي نعيش فيه ليس وحيدا، وإنما هناك أكوان عديدة متصلة ببعضها البعض كالعنقود، ويرى العلماء أن هذه الأكوان متداخلة ولكل كون قوانينه الخاصة به، بمعنى أن الحيز الواحد في عالمنا قد يكون مشغولاً بأكثر من جسم ولكن من عوالم مختلفة، وقد يكون هذا صحيحا في التصور الإسلامي حيث نؤمن نحن المسلمون بالجن والملائكة الذين لهم طبيعة خاصة بهم تختلف عن طبيعة ما نعرفه في عالمنا المحسوس، ومشكلة هذه النظرية من المنظور الإسلامي أنها تقتضي ضمنياً شركاً وكفراً بوحدانية الله تعالى، على كل حال على العلماء المسلمين والعلماء الشرعيين أن يبينوا للناس وجهة النظر في كل هذه النظريات ذات الطابع الإلحادي المتمثل في الفوضى الكونية، والعشوائية للوجود الإنسانية، وأن الإنسان وباقي الأشياء ما هي إلا أوتار متذبذبة بترددات مختلفة ... الخ.
لذلك فإن الإلحاد المتمثل في الإعراض عن حقيقة الخالق العظيم لهذا الكون؛ والذي هو نتاج التفكير الضيق الذي يعتمد على الإدراك البشري المحدود بما توصل إليه العلم من اكتشافات؛ والذي هو نتاج التفكير العقلي المحدود بقدرة الإنسان على الإدراك، هو سبب التيه والضلال الذي يعاني منه البشر، ولقد ضل العلماء الغربيون وتاهوا بحثاً عن الوهم الإنساني القديم عن الخلود في هذه الأرض بدلاً عن الإيمان بخالق هذا الكون؛ لأن هذه الأرض ليست مكاناً لهذا الخلود ولا محلاً له، ولن تجدي الإنسان محاولة البحث عن حياة أخرى في هذا الكون؛ بسبب حاجزي الزمان والمكان، ولن يصل إلى أي شيء طالما تجاهل حقيقة أن الله وحده هو خالق هذا الكون، يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105)، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، ومن يعرض عن آيات الله فمصيره التيه والضلال.
المحور الأول للإلحاد (نشوء الحياة صدفةً):
اعتقد العلماء طويلا أن الحياة نشأت على الأرض في ظروف خاصة جدا وغير متوقعة، ثم اكتشف العلماء بعد ذلك أن الحمض النووي DNA - الذي لا تنشأ الحياة بدونه – لم يتكون في الأرض وإنما جاء من السماء، وأثبت العلماء وجود هذا الحمض النووي فعلا في السماء، ثم بدأ العلماء البحث عن كيفية وصول هذا الحمض النووي إلى الأرض، وفي العصر الحالي يعتقد العلماء الغربيون أن الشهب التي تأتي من السماء لتسقط على الأرض، هي التي أتت بالكربون والأكسجين والهيدروجين إلى الأرض، ثم كونت هذه المواد فيما بعد البروتين والماء، ثم تحول البروتين إلى الحمض النووي من نوع RNA ثم تحول هذا إلى حمض نووي من نوع آخر وهو DNA، وبحسب ما يقول العلماء الغربيون بدأت الحياة صدفة في لحظة غير متوقعة، حيث ظهرت أول خلية حية، ثم يمضي السيناريو قدما حسب نظرية داروين التي تدعي أن الإنسان إنما هو نتاج تطور الخلايا الأولى التي نشأت بالصدفة.
وهذا هو أسوأ محور للإلحاد في الحضارة الغربية، والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه هؤلاء العلماء، ولا يخفى عليه ما يضعون من نظريات لهذا الكون، إذ يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40)، وأيضا {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51)، والغريب أن المحطات الفضائية العربية لا تكف عن الحديث عن كل هذه النظريات وعن تطور الإنسان، بل وتعتبرها من المسلمات التي يجب أن نؤمن بها، وهنا يكمن الخطر على المثقفين وعلى الأجيال الناشئة الذين لا يعرفون - أو لا يلتزمون - التصور الإسلامي في هذه الأمور، مما يؤدي إلى تشكيكهم في دينهم وعقيدتهم الإسلامية، علماً بأن نظرية التطور غير مسًّلم بها في الأوساط العلمية في العالم.
المحور الثاني للإلحاد (الثورة على السنن الكونية):
تنظر الحضارة الغربية إلى الإنسان على أنه مجرد جسد تدب فيه الحياة، وأن هذه الحياة هي مجرد تفاعلات كيماوية تجري في خلايا الجسم، ويؤمن العلماء الغربيون بأن طريقة تطور الإنسان يمكن أن تأخذ أي شكل آخر غير الشكل الحالي، ولهذا فهم يعتقدون بأن تبادل الأدوار بين المرأة والرجل، أو توزيع هذه الأدوار بطريقة مختلفة هو شيء طبيعي، ومعنى هذا التمرد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعلى السنن الكونية التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، فالغربيون ينظرون إلى السنن الكونية على أساس أنها قوانين الطبيعة التي يمكن أن يفسروها بالقوانين والنظريات الفيزيائية، وبالتالي يمكن أن يثوروا عليها ويغيروها، ولذلك فهم يحاولون التخلص من مقتضيات الفروق البيولوجية بين المرأة والرجل، ليعيدوا توزيع الأدوار بينهما فيما يتعلق بالحمل والولادة والأمومة عند المرأة، وهم - بالفعل - يحاولون الحصول على طرق أخرى للتكاثر مثل أطفال الأنابيب، والاستنساخ، وغير ذلك.
وأخطر توابع هذا الإلحاد هو قيام العلماء الغربيين بإجراء التجارب على البشر بدون أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية، فهم يحاولون - من خلال تعديل الجينات الوراثية - الحصول على كائن بشري ذي خصائص يطمحون في تحققها، ليستخدموا هذا الكائن البشري في الحروب وفي الاقتصاد، وغير ذلك من الأفكار الشيطانية، التي تهدف إلى الهيمنة على العالم، ويحاول العلماء الغربيون في هذا الوقت تخليق الأعضاء البشرية في مختبراتهم ليبيعوها إلى الشركات، ولا ندري كيف سيتم استخدام هذه الأعضاء! أضف إلى ذلك الآثار التخريبية التي تصاحب التجارب التي يقومون بها على البشر، وعلى سبيل المثال هناك من يعزو انتقال مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز» من القرود إلى البشر نتيجة عن محاولة تلقيح بويضة امرأة أمريكية بنطفة قرد أفريقي مصاب بالإيدز، وفي كل هذا يقول الله تعالى عن اتخاذ الغرب الشيطان ولياً لهم من دون الله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (النساء: 119).
المحور الثالث للإلحاد (الفوضى الكونية):(8/216)
وهو الزعم بأن الحياة على هذه الأرض مهددة بسبب فوضى في الكون، مثل الاقتراب من ثقب أسود، أو ارتطام كواكب أخرى بالأرض، أو سقوط شهب محملة بالماء في المحيطات، ... الخ. ويصور العلماء الأمريكيون أنهم قادرون على حماية هذه الأرض من كل ما يحيط بها من تلك المخاطر، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر: 41)، إن ادعاء العلماء الغربيون أن الحياة على الأرض دمرت قبل ملايين السنين، حيث انتهت حقبة الديناصورات على الأرض، هو مجرد ظن لا دليل عليه، وحتى لو حدث هذا، فإنه ما كان قد حدث إلا بأمر الله تعالى وإرادته، ومحاولة العلماء الأمريكيين حفظ الحياة في الأرض هو من قبيل الغرور والكفر بقدرة الله تعالى على حماية الأرض، وعلى إنفاذ أمره إن شاء بتدمير البلاد التي تحتضن محاور الإلحاد، إذاً فالعملية هي تحدٍ لله عز وجل.
المحور الرابع (الكفر بقدرة الله على الرزق):
يدعي الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أن الغذاء غير كافٍ لمليارات البشر الذين يعيشون في الأرض، وهم يطلقون التحذيرات تلو التحذيرات لإجبار الناس على الخوف على مستقبلهم، ولإجبارهم على التسليم بما تمليه عليهم الولايات المتحدة من قوانين للحفاظ على الحياة، والله تعلى يقول {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6)، ويقول تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات: 22)، وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى دور الشمس في إمداد الأرض بالماء والطاقة اللازمة لنمو النبات وتكوين المواد التي يتغذى عليها الإنسان والحيوان، وقد يستطيع الإنسان في المستقبل استغلال الطاقة الشمسية في الحصول على كميات هائلة من الغذاء تكفي للتخلص من الجشع الذي يعاني منه الأمريكيون والأوروبيون الغربيون.
والولايات المتحدة تنظر إلى أن الإنسان - حتى يكون كريما منعما - لا بد له من أن يكون مستهلكا بنفس درجة استهلاك الغربيين والأمريكيين، حيث لا يشعر هذا الإنسان بالشبع إلا بتوفر الفواكه واللحوم وجميع ما يعرفه الإنسان من أغذية بحرية ونباتية وحيوانية على مدار السنة، ولا بد أن يأكل اللحوم ثلاث مرات يوميا على الأقل، بالإضافة إلى الخمور والمخدرات وكل أدوات التلذذ والتمتع، وبالإضافة إلى امتلاك كل شيء من السيارات وأدوات الترفيه والأدوات التكنولوجية التي توفر الراحة لهم وتجعلهم متفرغين لطلب المتع والملذات، بدون أي أخلاق أو هدف.
الخلاصة:
ينظر كثير من مثقفي هذه الأمة إلى الولايات المتحدة على أنها قدوة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي، ويستشهد هؤلاء بإحصائيات تنشرها الولايات المتحدة عن النسب العالية للإنفاق على البحث العلمي، وفي ذلك تضليل للأجيال الناشئة لهذه الأمة، إذ أن معظم الأبحاث العلمية التي تجريها الولايات المتحدة هي لخدمة الأغراض العسكرية التي تهدف إلى الهيمنة، وهي غير مقيدة بأي ضوابط أخلاقية ولا شرعية، وأغلب هذه النفقات تذهب إلى ما يضر الحياة البشرية مثل الأبحاث على الطاقة الهيدروجينية والنووية (التي أدت إلى تلوث البيئة وإحالتها إلى مكان غير مناسب للحياة في البحر وعلى الأرض وفي الجو)، ويجدر النظر إلى كيف أن هذه الدول تقوم بدفن النفايات النووية في مناطق دول العالم الثالث؛ للتدليل على انحطاط الحضارة الغربية، ولا بد من معرفة كيف أن الأغذية المعدلة وراثيا واستخدام المبيدات الحشرية أدى إلى انتشار أمراض السرطان وغيرها من الأمراض التي تفتك بعشرات بل بمئات الألوف من البشر سنويا، وكذلك الإنفاق على حرب النجوم، وعلى أشعة الليزر والبلازما لاستغلالها في الهيمنة على الآخرين، واستغلال ثرواتهم وخيرات بلادهم.
إن هذا الإنفاق الهائل على البحث العلمي يأتي في إطار ضمان امتلاك أسباب القوة والتفوق على الآخرين بعيداً عن أي قيم وأخلاق إنسانية، بل على العكس تماماً؛ يأتي كل ذلك في إطار النظرة المادية إلى الحياة والإنسان الذي تعتبره الحضارة الغربية على أنه آلة، وفي إطار اقتصادي استغلالي لا يرحم الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها.
إن على المثقفين من الأمة العربية والإسلامية أن يوجهوا الأجيال الناشئة - التي هي مستقبل هذه الأمة - لإتباع المنهج الإسلامي في البحث والعلم والتعلم، ويجب أن يصبغ العلماء المسلمون أبحاثهم بالصبغة الإسلامية وأن لا يكونوا مجرد متبعين للعلماء الغربيين؛ ينصهرون في بوتقة الحضارة الغربية الظالمة، ويجب أن يقوموا بنشر التصور الإسلامي عن الكون والإنسان والحياة في الأرض، بهذا يصبح هؤلاء الباحثون والعلماء منتمين إلى الإسلام العظيم.
د. محمد الغزي
كاتب واستاذ جامعي فلسطيني
=============
فاعلية المسلم المعاصر
رؤية فى الواقع والطموح
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .
وأشهد ان لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله.
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران :102]
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [ النساء : 1]
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب :71]
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
تقديم
فهذا الكتاب الاول من سلسلة كتاب الإعتصام التى تنهض بإصدارها جمعية الكتاب والسنة يحمل القائمين عليها توجه صادق ، وأمل واثق فى تقديم ما يمكن ان تكون مضامينه محملة بإضافات حقيقة فى عالم الفكر والمعرفة ، وميادين الدعوة والحركة ، إذ أن كثيراً من الإنتاج التأليفى الإسلامى المعاصر ، يغلب عليه التكرار والاجترار ، فهو فى غالبه لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .
يفترض فيمن يتصدى للكتابة والتأليف ان يتحسس إشكاليات معرفية قائمة ، واضطرابات فكرية سائدة ، ومشاكل عملية مائلة ، فيعالجها معالجة علمية هادئة ، تجيد توظيف آليات البحث العلمى الشرعى مع معرفة مناهج البحث الععلمى المعاصرة ، أما ذاك النمط من الكتابات ( التجارية ) التى يهجم فيها على التأليف ، ويتجرأ على الكتابة من لم يمتلك أدوات البحث ، ولم يتسوعب مادة العلوم ، وما غاب عنه يفوق ما اطلع عليه بأضعاف مضاعفة ، فهو تكريس لجمود العقل المسلم ، وتمكين لواقع الركود الفكرى ، وتثبيت لأركان التخلف فى مجتمعاتنا.(8/217)
إن الكتابة والأعمال التأليفية إن لم تسهما فى توثيق عرى مشاريع النهضة والتغيير فما ثمرتها إذا ؟ هل ثمة حاجة حقيقة لكثير من الرسائل ، والكتب التى تخرج من رحم المطابع تباعاً ؟ إن ساحة العمل الإسلامى تفتقر الى دراسات نوعية ومؤلفات إبداعية ، وهى التى تتطلب طول نفس فى البحث والدرس واطلاعاً واسعاً على المعلومات فى مظانها ، يعجب المرء كثيراً حينما يقرأ أو يسمع ان أحدهم كتب رسالة او كتابا فى ظرف أيام لا تبلغ أيام الأسبوع !
كم هى القضايا والمسائل والإشكالات ، سواء منها القديم ( التراثى ) ، أو الحديث ( المعاصر) التى يقف امامها المسلم المعاصر حائراً ، فما منهجية المعرفة ، أو ما هى ضوابطها ؟ وهل ثمة تعارض بين العقل والنقل ؟ وما هى الحدود التى يسمح للعقل التحرك فيها لدراسة النصوص ؟ لماذا لا نجد عقائد اهل السنة محررة بوضوح وتكامل ، حتى يتسنى للمنتسب لهم ان يتبنى عقائدهم دون كبير عناء وطول بحث وتنقيب ؟ وهل تغنى محاولات بعضهم - فى هذا الصدد - التى تتخذ من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية مرجعية تجيد العزو إليه ، وتحسن النقل منه ، بيد انها تقصر عن استيعابه ، وتمثله ، لافتقارها الى الآليات التى امتكلها ابن تيمية رحمه الله ، لأنه - على سبيل المثال - حينما تصدى للرد عل المنطقين ، واتجه لنقض المنطق ، كان عالماً بالمنطق ، وبمبباحثه وموضوعاته ، ومتمكناً من موضوعات الفلسفة ، ومذاهب الفلاسفة ، فكيف يتسنى لمن يروم والمعرفة ، ومن ثم إبطال عقائد المخالفين المبنية فى كثير من اصولها ، وطرق الاستدلال عليها ، على المنطق اليونانى ، والفلسفة الإغريقية ، وليس له من المعرفة بالمنطق والفلسفة إلا السماع باسميهما ؟ . . . الخ
أين هى الدراسات التاريخية التحليلة والتفسيرية ، التى تقدم احداث التاريخ الإسلامى وفق رؤية منضبطة بأصول اهل السنة ؟ كيف يفهم المسلم المعاصر احداث الفتنة بين الصحابة رضى الله عنهم ؟ وكيف يسلم من مسالك الاتجاهات التى تجنح بعضها الى عصمة علىّ رضى الله عنه ! ويتجه الآخر منها الى تفسيق معاوية رضى الله عنه ! وكيف يقرأ الحركات المعارضة والخارجة على حكم الأمويين والعباسيين ؟ فما هى اسباب المعارضة ؟ وما هى عوامل الخروج ؟ . . .. الخ
أين يقف المسلم المعاصر من إشكالية الأصالة والمعاصرة ؟ فهل تستغرق دراسة ( التراث) ، والعناية به كل اوقاته ، وتستنفد جميع طاقاته ؟ فيعيش واقعه وهو غارق فى الماضى ، فيصدق فيه حينذاك قول الشانئنين من العلمانيين بأنه ينتسب الى فكر( ماضوى) منطقع الصلة بالواقع ، غائب عن همومه المعاصرة ، غير مكثرت بقضاياه الراهنة ، أم يتحرر من تلك الوشائج ، التى تربطه بالماضى ، وتصله بالجذور ، وينعتق من اصوله ، ويتنكر لتراث اجداده وأسلافه ، وتصله بالجذور ، بحق يعيش العصر بروحه ، ويتقن لغته ، ويجيد اساليبه ! !.
إن الأنموذجين السابقين جانحان عن جادة الصواب ، فالذين انغلقوا على الدراسات التراثية ، وتقوقعوا فيها ، وغابوا عن العصر وهمومه ، وانخلعوا من مشاكله وقضاياه ، ليسوا بمنأى عن القصور والتقصير ، كما إن الذى تضيق صدورهم بمطالعة ( الكتب الصفراء) ويعرضوا عن قراءة مؤلفات السلف الاقدمين ، ويحسبون انهم قادرون على مقاطعة التراث ، غارقون فى الخيالات والأوهام ، ذلك أنه ( لا سبيل الى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية ، ولو سعى المرء الى ذلك ما سعى ، لأنها ، وإن بدت فى الظاهر حقيقة بائنة ومنفصلة بحكم ارتباطها بالزمان الماضى ، فهى فى جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة ، تحيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة ، كما أنه لا سبيل الى الإنقطاع عن العمل بالتراث فى واقعنا ، لأن اسبابه مشتغلة على الدوام فينا ، آخذة بأفكارنا وموجهة لأعمالنا ، ومتحكمة فى حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا ، سواء أأقبلنا على التراث إقبال الواعى بآثاره التى تنمحى أم تظاهرنا بالإدبار عنه ، غافيلن عن واقع استيلائه على وجودنا ومداركنا(1)
لقد كتب فى فقه الإختلاف وآدابه كتابات عديدة ، غير ان الرسالة لم تبلغ المعنيين ، فما زالت الحركية الاستعلائية عالية ، كما ان المنطق الدعوى الاحتكارى سائد قائم ، ودعاة الوعى السياسى يشمخون بوعيهم على غيرهم ، أولئك يرون أنهم الجماعة (الأم) ، والآخرون يعتقدون انهم ( الفرقة الناجية والطائفة المنصورة) وثالثتهم يشتط منهم من يرمى الأمة بالضلال المنهجى ، ذلك أنه لم يفهم الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ، فهماً عميقاً صحيحاً ، حتى نهض مؤسس حزبهم فأفقام الأمة على فهم سوى مستقيم !! الكل منهم يدعى انه يمتلك النهج الأصوب ، والطريقة الأكمل ، والعمل الأشمل ، ولو انصفوا وأقاموا موازين القسط والعدال فى الحكم والتقييم والمراجعة ، لأدركوا بلا تردد ، وقرروا من غير تهيب ، أن ما ينقص كل طائفة منهم لا يقل عما حسبوه الأكمل والأصوب والأشمل.
تلك الاختلالات فى التصورات ، والسلبيات فى الممارسات ، ينبغى لكتابات ( النقد الذاتى) أن تتكفل بتصويبها ، مع تعميق المفهومات التى تسعى لتقرير (بشرية) مناهج العمل الإسلامى المعاصر ( وإنسانية ) اجتهادات الإسلاميين ، إذ أنها خاضعة للنقد ، لا تستعلى على الأخذ والرد ، وتكتسب الصواب والحق بموافقتها الأصول المعصومة من الكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة.
تلك موضوعات ورد ذكرها للتقريب والتمثيل ، وثمة قضايا ومسائل أخرى توقع العقل المسلم فى حيرة واضطراب ، ذلك ان مادتها متناثرة هنا وهناك ، كما ان الأقوال فيها متضاربة ، والإجتهادات بشأنها متباينة ، وهذا هو الحقل والميدان الذى يتوجب على حملة الأقلام من المفكرين والعلماء ان يلجوه ، ويقتحموا ساحاتة.
تسعى جمعية الكتاب والسنة من خلال سلسلة كتاب الإعتصام الى تبنى وانتقاء الدراسات والكتابات التى تصب بهذا الاتجاه ، وهى تهيب بالفقهاء والعلماء وطلبة العلم ان يمدوا لها يد العون العلمى ، بتقديم دراساتهم وأبحاثهم الجاهزة او التى يتفق على إعدادها وإنجازها ، لتقوم لجنة البحوث والدراسات الإسلامية فى الجمعية بدراستها ، ومن ثم نشر ما يستوفى شروط ( السلسلة) منها ويحقق مقاصدها.
يتصدى الكتاب الأول من هذه السلسلة ، فاعلية المسلم المعاصر رؤية فى الواقع والطموح للدكتور ابن عيسى باطاهر ، لمعالجة قضية لها ارتباط وثيق بمشاريع النهضة ، وتعلق مباشرة بمناهج التغيير ، ولا أحسب أننا نجانب الحقيقة ، أو نغرب فى القول إذا ما قررنا أن محدودية إنتاجية تلك المشاريع ، وعجز المناهج إياها عن إحداث التغيير المنشود ، يعود الى جملة اسباب وعوامل ، يأتى فى مقدمتها انطفاء فاعلية العاملين فى ساحة العمل الإسلامى ، إذ ثمة ظاهرة بارزة تتمثل فى تراجع الهم الدعوى ، وغلبة الهموم الذاتية والحياتية فى اوساط آلئك العاملين ، كما أن الدوافع الإيمانية الرافعة للهمم ، والحاملة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن.
إن الروح السلبية المستشرية فى أواسط المسلمين ، والتى أنتجت حالة مزرية يتحلل فيها المسلم من أية التزامات تخدم عملية التغيير ، وتسهم فى مشاريع إنهاض الأمة ، جاء بفعل شيوع وتحكم أنماط من التدين طغت فى بلاد المسلمين ، كالفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، والتدين الصوفى.(8/218)
يقوم الفكر الإرجائى فى قاعدته الأساسية على الاعتقاد بانه لا يضر مع الإيمان شئ ، وأن الإيمان إقرار باللسان ، وتصديق بالجان ، مع إخراج العمل مع مسمى الإيمان وقد ساهم هذا الفكر بشكل سئ فى توسيع دائرة التفلت مع الإلتزام الشرعى ، والتحلل من تكاليف الإيمان ، والتغافل عن مقتضيات التوحيد ، وقديما أنكر أئمة السلف على من أخرج العمل من الإيمان إنكاراً شديداً ، وجعلوه من الأقوال المحدثة المردودة على اصحابها ، يقول سفيان الثورى – رحمه الله : (هو رأى محدث أدركنا على غيره )(2) ، يقول الإمام الأوزاعى – رحمه الله : ( وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان(3) ، وقيل لسفيان بن عينية – رحمه الله -: ( إن قوماً يقولون : الإيمان كلام ، فقال : كان هذا قبل ان تنزل الأحكام ، فأمر الناس ان يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا دمائهم وأموالهم ، فلما علم الله صدقهم امرهم بالصلاة ففعلوا ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار (4) . . فذكر الأركان الى ان قال : فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال : ( اليوم اكملت لكم دينكم . . . )(الآية) ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً او مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ، ومن تركها جحوداً كان كافراً(5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز الى عدى بن عدى ( عامله على الجزيرة) : ( إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان . . . (6) ، ويقول ابن تيمية : ( والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه ، ولا ريب ان قولهم بتساوى إيمان الناس من أفحش الخطأ ، بل لا يتساوى الناس فى التصديق ، ولا فى الحب ، ولا فى الخشية ، ولا فى العلم ، بل يتفاضلون من وجوه كثرة(7)
حقاً إن دراسة حياة الصحابة رضى الله عنهم ، والتابعين ؛ توصل الى نتيجة يقينة بأنهم لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل ، بل أن صدق الإيمان وعمق اليقين ، الذين استقرا فى قلوبهم ، اطلقا جوارحهم بالعمل البناء المثمر ، وجعلهم يسطرون بفاعليتهم وحركيتهم صفحات فى ميادين الفضيلة ، ودروب البر والخير.
فما الذى حمل حنظلة (غسيل الملائكة) – رضى الله عنه – على مفارقة فراش زوجه الوثير ، فى ليلة عرسه ؟ وهو القادر لو شاء أن يلتمس من الأعذار ما يعفيه من اللحاق بقافلة المجاهدين ؟ .
وما هى الدوافع التى حملت ألئك الكرام على التسابق فى الإنفاق ، والتنافس فى البذل والعطاء ؟ يقول عمر – رضى الله عنه -: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندى ، فقلت : اليوم اسبق ابا بكر إن سبقتة يوماً ، فجئت بنصف مالى ، وأتى ابو بكر بكل ما عنده ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله(8) .
وما الذى حدا بأبى طلحة حينما وقف على قوله تعالى : ( انفرا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله . . . ) [التوبة : 41] ، أن يقول لأبنائه : أرى ربما استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزونى يا بنى ، فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع ابى بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك ، فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة ايام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها(9) .
وهذا الصحابى عمرو بن الجموح – الأعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين – شباب – يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أحد ، أراد ان يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن بنى هؤلاء يمنعونى أن أخرج معك ، والله إنى لأرجوا ان استشهد ، فأطا بعرجتى هذه الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه ، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد (10)
إن الإيمان قوة دافعة ومحركة ، وحينما يفهم على أنه مصدر إشعاع ، ومفجر للطاقات ، فإن رياحه حينما تهب تأتى بالأعاجيب ، وتغير مجرى التاريخ ، وتحدث انعطافاً حاداً فى مسيرة الزمن ، ( فإذا هبت ريح الإيمان جاءت بالأعاجيب فى العقيدة ، والأعمال ، والأخلاق ، ورأى الناس روائع من الشجاعة واليقين ، والعفة والأمانة ، والإيثار وهضم النفس ، وروح التطوع والإحتساب ، والتواضع فى المظاهر ، وكبر النفس ، وسمو النظر ، ورأوا آيات من العدل والرحمة ، والمحبة والوفاء ، كادوا ينسونها ، ويقطعون منها الرجاء(11) .
وماذا يبقى للإيمان من دور فاعل فى الحياة ، حينما يحصر فى التصديق والإقرار ؟ وهل ثمة إيمان قلبى تام لا يلازم عمل بدنى ظاهر ؟ ثم أليس الإيمان القلبى يستلزم الأعمال الظاهرة ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأصل الإيمان فى القلب وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان فى القلب فلابد ان يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ، ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهى تصديق لما فى القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهى شعبة من مجموع الإيمان المطلق ، وبعض له . . . )(12)
كيف يتحقق الإيمان ؟ وكيف يظهر صدق ذلك ؟ أيتحقق الإيمان بتصديق قلبى مع امتناع الجوارح عن العمل ؟ أم بإقرار لسانى مع مقارفة جميع المنكرات ، وموافقة كافة الموبقات والمهلكات ؟ يقول ابن تيمية : ( والله سبحانه فى غير موضع يبين ان تحقيق الإيمان تصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة ، كقوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . والذين يقيمون الصلاة ووما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً )، قال : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصدقون) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(13).
ويقول رحمه الله : ( فلا يجوز ان يدعى أنه يكون فى القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة ، ولا عمل وهو المطلوب – وذلك التصديق – وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر فى الظاهر ضرورة ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، فالإدارة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور ، فإذا كان فى القلب حب الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أولياته ، ومعاداة أعدائه ، ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) ، ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما أتخذوهم أولياء ) فهذا اللازم أمر ضرورى (14)(8/219)
وفى بيان التلازم بين الإيمان القلبى ، والعمل البدنى ، يقول ابن تيمية : ( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له ، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ، والأعمال الظاهرة ، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ، ودليله ومعلومه ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له ايضا تأثير فيما فى القلب ، فكل منهما يؤثر فى الآخر ، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له ، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه ، كما فى الشجرة التى يضرب بها المثل لكلمة الإيمان ، قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها ) وهى كلمة التوحيد ، والشجرة كلمة قوى أصلها ، وعرق وروى قويت فروعها ، وفروعها ايضا إذا اغتذت بالمطر والريح اثر ذلك فى اصلها(15)
لقد كان لاختلال مفهوم الإيمان وتسرب مقولات الإرجاء الى تصورات المسلمين ، ومن ثم انعكاسها على سلوكهم ، تأثير بالغ وكبير فى انطفاء فاعليتهم ، وجمود حركتهم ، ويقوى ذلك ويزيده استقراراً ورسوخاً ذلك النمط من المفكرين ذوى السوابق غير الإسلامية حينما يتحولون الى دائرة الفكر الإسلامى ، حيث انهم يسلمون فكرياً مع عدم التحرر الكامل من أصولهم الفكرية السابقة ، فيبقى إسلامهم مشوباً بكدورات الماركسية والعلمانية واليبرالية ، أما إسلام العمل والإلتزام فغالبهم فيه من غلاة المرجئة.
مقولات الجبرية : ما دمنا نتحدث عن الإصابات والعلل التى أدت بهذه الامة الى واقع (القصعة) فإن الحاجة تبدو ملحة لإظهار الصلة الوثيقة بين عقيدة الجبر وما ترتب على انتشارها ، وتمكنها من قلوب عامة المسلمين من آثار شنيعة ، دفعت بالأمة الى حالة (اللافاعلية) الأمر الذى أسهم بقوة فى إيصال الأمة الى حالة من الجمود والتراجع ، قد طالت وامتدت الى واقعنا المعاصر .
لقد عرف الشهر ستانى( الجبر) بأنه : ( نفى الفعل حقيقة عن العبد ، وإضافته الى الله (16) فالعبد – عند الجبرية – مجبور فى افعاله ، ويعتقدون انه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ، وأما العباد فإن الفعل ينسب اليهم مجازاً !! وهذا القول أدى فيما أدى إليه الى القول بوحدة الوجود ، الى جانب إلغاء (قانون السببية) ، أى : ربط الأسباب بمسبباتها ، والنتائج بمقدمتها . وهذا الإلغاء هو علة قادحة وسوؤة ظاهرة تنافى عقيدة عقيدة الإسلام القائمة على هذا القانون ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (فليس فى الدنيا والآخرة شئ إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات(17)
وفى توضيح ( قانون السببية) وتوكيده ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والقرآن الكريم مملوء من تريتب الأحكام الكونية والشرعية ، والثواب والعقاب ، على الأسباب بطرق متنوعة ، فيأتى بباء السببية تارة ، كقوله تعالى : (كلوا وشربوا هنيئاً بما اسلفتم فى الأيام الخالية ) ، ويأتى باللآم تارة ، كقوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربهم) ويأتى بذكر الوصف المقتضى للحكم تارة ، كقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) ، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها(18)
إن مذهب (الجبر) الضال الذى ابتدعه الاجهم بن صفوان ، ما كان له أن يستقر فى قلوب عامة المسلمين ، لولا وقوع الأمة زمن الإنحطاط والتخلف فى حماة الفكر الأشعرى ، حين اصبح أئمة المسلمين هم ممن يحمل المنهج الأشعرى ، فاجتمع لهم قوة وسلطان ، والناس على دين ملوكهم ! .
لقد كان لمنهج الأشاعرة أسوأ الأثر فى تشويه حقيقة التوحيد ؛ شرعية : إذ جاء بالإرجاء وقدريه : إذ قال ( بالكسب ) و ( الكسب) ليس سوى (الجبر) وإن ظهر فى اللفظ وكأنه شئ آخر ، فمفهوم (الكسب) عند الأشاعرة مضطرب متباين التعريف بين منظرى الأشاعرة ، إلا أن قاعدته التعريفية العريضة تعنى : احترام وجود إرادة قلبية للإنسان ، لكنها لا تأثر لها ، ولا قيمة لوجودها !؟ إى أنها إرادة غير مؤثرة !
وهنا يظهر التوافق بين جوهر مقالة الجبرية ، ونظرية الكسب الأشعرية ، وإن بدا ان هناك اختلافا صوريا فى اللفظ وتركيب العبارات ، فإن نظرية الكسب بدورها نفت اى قدرة او تأثير للعبد.
ولكشف صورة الاضطراب الملازم لأى بدعة ، نلقى الضوء على واقع الحيرة بين ائمة الاشاعرة ، فى التفريق بين الفعل الاختيارى ، وبين الفعل الاضطراى للإنسان ، فقد ذهب الرازى فى إيضاح الأمر الى القول : ( بأن الإنسان مجبور فى صورة مختار)(19) أما الغزالى فقد انتهى الى : ( أن العبد مضطر فى جميع افعاله ومشيئته ، وإنه مجبور على الاختيار ، وأنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً(20) ثم شبه أفعال المخلوقات بالدمى ، التى يراها الناظر وهى تتحرك فيظن انها تتحرك من تلقاء نفسها (21)
وكأى بدعة ؛ خضعت فكرة (الجبر) و (الكسب) للزيادة والنقصان ، والتعديل والتنميق لتكيف بحسب الواقع الذى توجد فيه ، والحالة التى يراد التطبيق عليها ، ولن يحرم صاحب ضلالة ما يستشهد به على ضلالته !
وقد وفق الله تعالى آئمة الهدى والسنى ، لرد عادية أهل الكلام والهوى ، فقاموا بتنفيذ مزاعمهم الباطلة ، إحقاقاً للحق ، وبقاءاً على العهد ، فإن كان الإنحراف قد طال الأمة ولا زال ، فإن نفراً من الطائفة المنصورة فى كل عهد ، اختصها فى كل عهد ، اختصها الله للذب عن هذا الدين ، بالقلم واللسان والسنان ، ليبقى هذا الدين محفوظاً من الزوال ، قال ابن تيمية – رحمه الله – فى بيان حقيقة القدرة والإرادة البشرية : ( الذى عليه السلف واتباعهم وأئمة اهل السنة وجمهور اهل الإسلام المثبون للقدر، المخالفون للمعتزلة : إثبات الأسباب ، وإن قدرة العبد مع فعله ، لها تأثير كتأثير سائر الأسباب فى مسبباتها ، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات ، بل لابد لها من اسباب أخر تعاونها ، ولها مع ذلك أضداد تمانعها ، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع اسبابه ، ويدفع عنه اضداده المعارضة له ، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات ، فقدرة العبد سبب من الأسباب ، وفعل العبد لا يكون بها وحدها ، بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة ، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره(22) ومن أقوالهم الدالة على أن السبب إنما يستوجب مسببه عند تحقق شروط العمل بهذا السبب ، واستدعاءه لمسببه ، وأنه لابد من انتقاء الموانع المعيقة لهذا العمل ، قول الفقيه الشاطبى : ( وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغى ، ولا استكلمت شرائطها ، ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى ، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره . . وايضا فإن الشارع لم يجعلها اسباباً مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سبباً شرعياً ، سواء علينا أقلنا إن الشروط ، وانتفاء الموانع اجزاء أسباب ام لا ، فالثمرة واحدة (23) ، وقد حث أئمة اهل السنة على مباشرة الأسباب ، وعدم إسقاطها ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والله أمر بالقيام بالأسباب ، فمن رفض ما أمره الله ان يقوم به فقد ضاد الله فى امره ، وكيف يحل المسلم ان يرفض الأسباب كلها ؟(24)(8/220)
وفيما يتصل بالأثر الحاصل نتيجة إسقاط الأسباب والإعراض عنها ، فإنه يمكننا تصوير حالة المسلم المنكوب بهذه العقائد الفاسدة ، بإنسان يعتقد ان من تمام التوكل على الله ، ألا يحمل الزاد فى سفره فيدخل الصحراء بلا زاد ولا ماء !؟ وصورة أخرى تتجلى فى مسلم امتلآ قلبه بحكايات الأولياء ، الذين ساروا على الماء ، وطاروا فى الفضاء ، وبلغوا أعلى الدرجات ، ونالوا الكرامات ، لأنهم ما تدنسوا بمخالطة الناس ، ولأنهم كانوا أحلاس بيوتهم وزواياها !؟ . يتسامران مع الأموتا ، ويقيموا الحضرات بحضرة الأنبياء ! . . . وصورة أخرى لمسلم يتعب نفسه فى طلب شئ من العلم ، يعزل نفسه به ترفعاً عن المجتمع الذى يعيش فيه ، بدعوى ( أن من السياسة ترك السياسة) وأن ( أقم دولة الإسلام فى قلبك تقم على أرضك)!
إن من أسباب تمكين عقيدة (الجبر) السالبة للإنسان قدرته على الفعل والتغيير ، والمجمدة لفاعلية الأمة ، تلك الأفكار ، والدعوات التى ينادى بها علماء ومشايخ ، حيث يقول قائلهم : ( إن مصائر الأمة ومقاليدها صارت الى ايدى أعدائها ، وإنها لذلك لا تملك لنفسها معهم نفعاً ولا ضراً)!!.
أليس مؤدى هذه الأفكار والمقولات هو حمل الأمة بعلمائها ودعاتها ومفكريها ومجموع أبنائها على الاستسلام ، والرضوخ للواقع الآليم ؟ وهل اصبحت مهمة العلماء المعاصرين او غدى واجبهم تنويم الأمة ، وقتل إرادتها ، وشل حركتها ، وتكريس خضوعها لما يريده اعدائها منها ؟!.
إننا أمام هذه الأفكار ، والمقالات ، نستذكر طوداً شامخاً ، وعلماً سامقاً ، من أعلام العلم والفكر ، والحركة والجهاد ، يستحضره المعاصرون فى جزيئات العبادات وفروزع المسائل ، ويغيبونه فى الأصول وجليل المواقف ، وعظيم التضحيات، لقد نشأ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فى عصر علا فيه سلطان التتار الغزاة علاى امصار بلاد الإسلام ، فهل كان موقفه متخاذلاً مثبطاً مرجفاً ؟ ينادى فى الناس ان استكينوا واستسلموا للقضاء والقدر ، فإن مصائركم ومقاليد اموركم صارت الى أيدى أعدائكم ، وأنتم أعجز من أن تملكوا لأنفسكم معهم نفعاً أو ضراً ؟ ! لقد تولى الشيخ مهمة التحريض على القتال ، وحث المسلمين على الثبات ، وعدم الفرار من دمشق امام التتار ، وسافر الى مصر لحث السلطان على المجئ ، وإرسال الجيش ، وقد اثمرت جهوده ، وآتت أكلها ، ونفع الله به وبجهاده وحركته الإسلام والمسلمين ، وأمام كل هذا نتساءل : لماذا يغيب نفس شيخ الإسلام الثائر على الظلم والظالمين ، المستنهض لهمم الحكام والعلماء ، والمحرض لأبناء الأمة للتصدى للأعداء الغازين ، ومجابهتهم بهمم عالية ، ومجاهدتهم بنفوس شامخة ؟
أني جهود علماء الأمة فى مواجهة مقولات الجبر التى تسربلت حديثا فى جبرية معاصرة تروم تسكين الأمة وتخذيلها امام اعدائها وإشاعة روح اللآمبالاة تجاه مظاهر الظلم والإنحراف والتسلط والإستبداد ؟ إن الأمة بأمس الحاجة الى نمط مميز من العلماء والفقهاء ، ينفضون عن واقعها روح اليأس والقنوط ، ويحمونها من تأثير مقولات دعاة الجبرية المعاصرين ، الذين حملهم سوء فهمهم للقدر على الاستكانة والتخاذل.
التدين الصوفى : اختلف الناس كثيراً بشأن الصوفسة والتصوف ، كما أن المكتبة الإسلامية أتخمت بدراسات وكتابات عديدة ، منها ما تمتدح الصوفية وتثنى عليها ، وتجتهد فى دفع شبهات خصومها ، والاتجاه الآخر ؛ رأى فى الصوفية شراً كبيراً ، وخطراً عظيماً ، يتهدد المسلمين فى عقائدهم وعباداتهم ، فكثف خطابه فى مجابهتها ، وكشف زيفها ، وبيان ضلالاتها وشطحات اربابها ، وليس من اهداف هذه المقدمة التعرض لبيان تلك الإنحرافات والشطحات والضلالات ، وما تهدف إليه ينحصر فى تقرير وتوكيد مدى تأثير التدين الصوفى فى إشاعة روح التعبد الذاتى – على ما يصاحبه من بدع وضلالات – والتقوقع فى الزاويا ، والاستغراق فى الأذكار والمداومة على الأوراد ، مع غياب تام عن واقع الأمة.
ان الصوفية فى زماننا تعدت عن كونها ابتداعاً فى الإيمان والعقيدة ، وابتداعاً فى العبادات والنسك الى كونها طريقة حياة ، ومنهج تفكير ، واسلوب عمل ، ولم تعد محصورة فيمن ينتسب الى طريقة او مشيخة صوفية فحسب ، بل قد يقع بعض من يكثر الحديث عن انحرافات التصوف ، وضلال الصوفية ، فى منهج التفكير الصوفى ، فى فهمه للحركة والحياة .
فما هو هذا المنهج ؟ وما هى اركانه ؟ أو كيف كان تأثيره على حركة المسلم فى حياته ؟ والأمة فى مجموعها ؟
لن تكون الإجابة على هذه التساؤلات بمعزل عما قدمنا عند حديثنا عن الفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، إذ أن منهج التفكير الصوفى تكون من تداخل افكار ومناهج زائغة منحرفة ، انتسبت للإسلام زوراً وبهتاناً.
واهم ما توسلت به فى صياغة مناهجها ؛ فكرة الإرجاء المناقضة لتوحيد الشرع ، وعقيجة الجبر المناقضة لتوحيد القدر ، وبذلك تبلور مفهوم هذا المنهج ، واصبح من اليسير تحديد معالمه ، التى تناقض مبادئ الإسلام على الجملة !؟
لقد سعى الصوفى للتحرر من الإرادة البشرية ، كأسمى شئ يحققه فى وجوده ، وجاهد نفسه لينعق من أغلال الطباع الإنسية !؟ كحاجته للمأكل والمشرب ، وحاجته للنكاح . . . الخ . إن سعى الصوفى الدائم للتفلت من إنسانيته ، يعطينا الحق ، فى إطلاق وصف الجنون على كل من تصوف ، وهذا عين ما فعل الإمام الشافعى – رحمه الله – إذ يقول : ما تصوف رجل عاقل قط واتت عليه صلاة العصر إلا وهو مجنون !؟
فالعاقل صاحب إرادة ، وهو مكلف بالتزام الشريعة ، ولا ينقض هذا الإلتزام سوى ذهاب العقل عن المكلف ، وبه يسقط عنه التكليف.
إن منهج التفكير الصوفى ، يفرز الوانا متعددة ، واشكالا مختلفة ، لكنها تعكس حقيقة الصوفية الفكرية ، فإذا كانت الصوفية فيما مضى قد اسلبت المنتسبين لها الفاعلية تحت شعار (اريد ان لا اريد) فإن صوفية هذا الزمان تلتقى مع هذا الشعار ، ولكن بصياغات مختلفة ، لا تأثير لها على جوهر منهج التصوف ، الذى يربأ بالإنسان المتطلع لمرضاة ربه ان يأبه لما يحدث على هذه الأرض ، كيما يذهل عما فوق السماء ، وعما فى باطن الأرض !؟ وللأسف ؛ فإن التدين الصوفى هذا قد استوعب قطاعات كبيرة من الأمة ، وأغرى فئات ممن ينتمون ال الفكر ، ويدعون العلم والوعى ! وليس البسطاء والسذج فقط!
فى ضوء ذلك يمكن ان نفسر قابلية الأمة ، واستمرارها لتحييد شرع الله عن شوؤن الحكم فى مجتمعاتهم ، واستبداله بالقانون الوضعى.
لقد هان على أمة جعلت وظيفة الدين فى الحياة تنحسر لتصبح جزءاً من عبادة فردية ، لا ثمرة لها فى نفس المسلم ، ولا فى مجموع الأمة ، أن ترفع شعارات تقرر العلمانية ، وتعيدنا الى الجاهلية ، من امثال : (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) و ( وقيصر ظل الله فى الأرض ، من اهان سلطان الله ، أهانه الله) ، والقائمة فى هذا تطول.
إن الإسلام جاء ليضع البشرية فى المسار الذى تستقيم معه الحياة ، ولن تستقيم إلا حين تنسجم من السنن الإلهية ، ويحدث التوافق معها ، وعند وقوع تصادم معها فإن ثمة فساد واختلال يؤثر فى المسار سلباً.
وهذا هو قانون الله فى هذا الوجود ، والكل خاضع ومنقاد لهذا القانون ، لا يستطيع منه فكاكاً أو خلاصاً ، وهذا فى حقيقته إذعان وخضوع للملك الجبار ( له اسلم من فى السماوات والأرض طوعاً وكرها وإليه ترجعون) [آل عمران:83](8/221)
ومن السنن الإلهية التى لا تتبدل ولا تتغير ؛ سنة الله فى التدافع بين اصحاب الحق ، واصحاب الباطل ، وانه لابد للباطل من قوة تطغى اهله ، وانه لابد للحق من قوة تحمة ذويه . . ومن سننه تعالى : ان ينصر المؤمنين المستوفين عوامل النصر ، وأن النصر للمؤنين قد يسبقه أذى من العدو وغلبة له . . ومن سننه جل وعلا : ان ترك الجهاد مدعاة الى العذاب ، وأن إعداد القوة من فروض الإسلام . ..
إن منهج التفكير الصوفى قد تجافى عن هذه السنن الإلهية وغيرها ، وولى عنها مدبراً ولم يعقب !؟ الأمر الذى دفع المنتمين الى هذا (المنهج) – وهم كثر – لاعتقاد ان الابتعاد عن شؤون الحياة ، مع القيام ببعض اعمال التعبد ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، الذكر ، وطلب العلم ، . . . الخ بعيداً عن السعى الجاد والحقيقى لاستئناف حياة إسلامية والذى يستوجب مجاهدة الظلمة ، ومقاومة الكفر ، هو غاية التدين وحقيقة الدين !؟ بل تعدى الأمر هذا الاعتقاد الى تبنى أراء جديدة تحرم الاهتمام بشؤون الواقع ، وقضايا السياسة ، بحجة انها تشتت الهمة ، وتفرق القلب ، وتحبب فى الدنيا ، وتصرف الناس عن العلم النافع ، والعمل الصالح !؟ وزاد بعض المخرفين للتدليل على رأيهم الباطل انه لم تكن امور السياسة والواقع ضمن دائرة اهتمام السلف الصالح ، بل انهم كانوا ابعد ما يكونون عن السلطان ، والاشغال بأمور السياسة !! وهذا القول إضافة الى ما فيه من تزوير للحقيقة ، وافتراء وخجاع ، فهو فى غاية القبح والتشويه لمنهج السلف الصالح ، الذين ما فتئوا يبنون للأمة الحق ، ويقودونها فى سبيل إحقاقة.
ولعل من أسوء إفوازات هذا المنهج المنحرف ، ذلك الأنموذج (المأزوم) الذى يتسربل بالعلم – زوراً – ويتبجح باتباع السلف – بهتاناً- فما هو إلا نابتة سوء اغتدت من معين منهج التصوف الفكرى – رغم عدائها الظاهر للمتصوفة التقليديين – فما ظنكم بمن يستدعى أمواتاً ، ومقولات بدعية غائبة منسية ، ماتت بموت أصحابها وقائليها . . ثم يأخذ يناوش ويصارع ويقاتل اشباحاً لا حقيقة لها !؟ والأدهى والأمر ، ان تصل الحماقة بهؤلاء حدا يستنهضون معه الأمة لتلتف حولهم فى خوض معركتهم الكبرى ، فى مقابر التاريخ ، وعلى مشارف او مجاهل الماضى السحيق !؟
إننا اليوم ؛ أمام من ينكر القرآن جملة وتفصيلاً ، ولسنا امام من يقول بخلق القرآن ! ونحن نعيش فتنة فصل الدين عن الحياة، وحبسه تحت قباب المساجد ، وحصره ببعض حصص مادة التربية الإسلامية فى المدارس ، ولسنا فى زمن جود بعض الإنحرافات فى الفكر والسياسة والإقتصاد والإجتماع فحسب !؟
نحن أمة دلفت الى حالة التبعية والخذلان امام كل الأمم والشعوب ، ولسنا فى وقت نبحث فيه عن ضعف الفتوحات ، وقلة الانتصارات !؟
وبعد : فالكتاب الذي بين يديك أيها الأخ الكريم ، يلقى الضوء على مشكلة الفاعلية عن المسلم المعاصر ، بذل فيه الأخ د. ابن عيسى باطاهر ، جهداًُ طيباً ، وارتاد ميداناً قل سالكوه ، وقد جاء بحثه معتمداً فى غالب افكاره ومضامينه على كتابات الأستاذ المفكر / مالك بن نبى – رحمه الله – والذى يعتبر بحق أحد رواد هذا الميدان المبدعين – عفا الله عنه ، وغفر لنا وله – وشكر للمؤلف سعية وجهده.
لجنة البحوث
والدراسات الإسلامية
مقدمة
الحمد لله الذى انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله صحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإن الأمة الإسلامية تعيش الأن أزمة حضارية جعلتها تتخلف عن اداء دور الشهادة على الناس ، ووظيفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كما هيأها الله لذلك فى قوله ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة : 143] وقوله تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران : 110] .
وهناك تحديات كثيرة تحاصر الأمة فى هذا الواقع الجديد ، واسباب مختلفة تقف عائقاً امام استرجاعها لمركز الريادة من جديد ، وتبوئها لمكانة سامقة فى هذا العالم المتغير ، بعد نزعها وخلعها للباس الغثائية الذى التصق بها منذ فترة من الزمن.
وهذه الدراسة تبحث فى أحد الأسباب المساهمة فى صحة الأمة وقوتها ، وهو ما يسمى بالفاعلية Efficancy وهى مبدأ حضارى قل او انعدم من مجتمعاتنا الإسلامية ، فى حين اصبح على راس سلم القيم فى المجتمعات المتحضرة.
وقد قسمت هذه الدراسة الى تمهيد وخمسة فصول ، تناولت فى الفصل الأول مفهوم الفاعلية فى اللغة والاصطلاح . محدداً مفهوماً جديداً لها ، وبسطت الحديث فى الفصل الثانى عن الفاعلية فى التاريخ الإسلامى مركزاً على التفسير الإسلامى للتاريخ ، وقيمة الإنسان فى الإسلام ، وفاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفاعلية صحابته رضوان الله عليهم ثم تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى.
اما الفصل الثالث فقد خصصته لبحث واقع الفاعلية فى امتنا الإسلامية ، وذلك بعرض أبرز المعوقات التى تحول دون تحقيق شروط الفاعلية .
وأما الفصل الرابع فقد تناولت فيه مقومات الفاعلية ، وهى تمثل الطموح الذى نرجوه حتى تعود العافية الى الأمة . وأما الفصل الخامس فقد خصص لبعض التوصيات التى قد تفيد امتنا فى واقعها المعاصر.
لقد تمت هذه الدراسة بعون الله وتوفيقه وهى – باعتبارها جهداً بشرياً – بحاجة الى قدر من التمحيص والنقد حتى تستفيد منها مدارس التغيير التى تسعى لإنهاض الأمة عن طريق الخطاب الإسلامى المتكامل المؤصل اعتماداً على منهج السلف فى تلقى مصدرى الوحى ، الكتاب والسنة ، والتفاعل معهما ، لأعادة بناء الأمة المسلمة ودروها الريادى فى القيادة من خلال إعادة تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى فى الحياة . والله الموفق الى الصواب.
وأنا سعيد الى الإشارة الى تلك الجهود والتوجيهات التى بذلها اخى وزميلى الدكتور (إبراهيم احمد العسعس ) فى إخراج هذه الدراسة فى صورتها النهائية فجزاه الله خير الجزاء .
وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى ان يكون عملى المتواضع هذا خالصاً لوجه الكريم ، وأسأله ان يرزقنا السداد فى القول ، والإخلاص فى العمل ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. ابن عيسى باطاهر
عمان 15 / 8 / 1995م
تمهيد
يقرر المفكر الفرنسى الشهير ألكسيس كاريل Alexis karel أن الحياة جد وعمل ، وأن العضلات والأعضاء والذكاء والإرادة وكل اجزاء الكائن البشرى لا تقوى إلا بالعمل(25) . وحين صنف العالم الأمريكى مايكل هارت Micheal Hart كتابه المشهور (المائة الأوائل) جعل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة صانعى التاريخ فى العصر القديم والحديث ، وقد استحق محمد صلى الله عليه وسلم هذا التقديم لتحقيقه شروط صناعة الحياة ، ومقاييس الريادة على المستوى الدينى والدنيوى ، وكان مقياس الفاعلية فى الحياة هو المقياس الأساسى فى التقويم(26).
والأمة الإسلامية التى مارست دور الشهادة على الناس يوماً ما ، ورثت مقوم الفاعلية عن رسولها صلى الله عليه وسلم ، فكان أن دخلت التاريخ من ابوابه الواسعة ، وكونت حضارة متميزة فى مستوياتها الدينية والدنيوية ، وقد عرفت بتقديرها للعمل ، وحرصها على النفع ، وتوجيهها للطاقات نحو عمل الخير ، فاستحقت بذلك التكريم الإلهى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة :143](8/222)
ومرت الأمة الإسلامية فى دورتها الحضارية ببعض المعوقات التى جعلتها تتخلف عن اتجاهها الروحى ، وتتجه اتجاهاً عقلياً ، ثم انفصلت نهائيا عن دائرة العقل والروح لتهوى فى مكان سحيق سيطرت فيه الغرائز والأهواء ، وتمثل هذه المراحل رحلة الحضارة الإسلامية منذ شروقها الى ان فتر توهجها ، وكاد ينطفئ سراجها ، ولكنها فى كل الأحول خرجت من التاريخ لتترك زمام المبادرة لأمم أخرى عرفت كيف تستفيد من تراثها ، وتراث امتنا الإسلامية على وجه التحديد ، وعرفت كيف توجه سنن الله فى الكون ، وعرفت قدر العمل ، وأهمية الفاعلية فى البناء والتكوين ، فكانت بداية مدنية جيدة لكنها لم تحقق الضمانات الكافية لسعادة الإنسان فى هذه الحياة.
والأمة الإسلامية مع هذا كله مازالت تسعى بشوق وتلهف الى ان تأخذ مكانها الريادى مرة أخرى ، وهى تبذل فى سبيل هذا الهدف جهوداً كبيرة ، وتعمد الى وسائل مختلفة ، ولكن مع هذه النهضة التى عقبت النوم الطويل ما زال الجهد المقدم غير كاف ، وما زال الوهن يحد من الجهود الكثيرة ، ولا زالت ترى كثيرا من الطاقات المعطلة تحتاج الى توجيه وإرشاد.
وإن الدعاة والمفكرين ما فتئوا يشكون من مرض اللافاعلية الذى اصاب أبناء الامة الإسلامية فعطل من طاقاتهم ، وقلل من نشاطهم ، فهذا الشيخ (محمد الغزالى) – رحمه الله تعالى – ينقد حال الأمة قائلاً : ( إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الأجازات العلمية فى الطب او القانون ، وقد يعين فى أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا ، لكن صلته بدينه صفر ، وعلاقته بحنسه هواء ، على حين يكون زميله اليهودى كالإعصار فى خدمة الصهيونية ، وزميله النصرانى أسرع من البرق فى خدمة الاستعمار ، فهل هذا المسلم البارد الشعور ، أو المرتد القلب يجدى على أمته شيئاً . ، أنه كالجندى المرتزق بسلاحة يخدم أى مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته(27)
وهذا مالك بن نبى – رحمه الله – يأسف لواقع الأمة فيقول : (العالم الإسلامى لم يبلغ بعد درجة النشاط ، أو العمل الفنى الذى يعد وحده كفيلاً بتحديد مكانه فى العالم الحديث الذى يحتل مبدأ (الفاعلية) اول درجة فى سلم القيم ، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا)(28)
ويقول ايضا : (ألسنا نشعر مثلاً بأن ديننا وهو أوضح – من حيث الصحة – من شمس النهار ، إنه الى حد ما وبسببنا نحن ، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا فى النهار فقد بعض صلاحيته(29)
ويقول محمد قطب : ( لقد وعت اوروبا ان الإنسان هو القوة العاملة فى الأرض ، وان الطاقة البشرية هى أداة الإصلاح ، من اجل ذلك اتجهت هتمهم لتجنيد هذه الطاقة ، وتوجيهها الى العمل المنتج فى واقع الحياة ، ووصلوا فى ذلك الى درجة معجبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج المعجيب ، ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون وينتظرون وهم قاعدون(30)
ويقول أيضاً : ( إن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة فى رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم ، وتدبروا معنيها ، إن عليهم ان يعملوا دائما ولا يكلو .. . يعملوا جهد طاقتهم ، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل ، يعملوا فى كل ميدان من ميادين العمل : فى ميدان العلم ، وميدان الصناعة ، وميدان التجارة ، وميدان الاقتصاد ، وميدان السياسة ، وميدان الفن ، وميدان الفكر )(31)
وتجمع أغلب الآراء على ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية فى سعيها نحو النهضة والحضارة هو إنعدام الفاعلية وقلة النشاط والعمل ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل مثمر ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب لتحقيق النتائج المرغوبة.
والذى يؤسف له ان وضع الأمة الإسلامية فى قلة فاعليتهما – مقارنة مع غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر – قد عزى الى الإسلام نفسه كما ذهب الى ذلك المفكران الغربيان (رينان) و (لامانس) فقد قالا عن الإسلام : إنه دين الركود والتخلف ، ونسبا الفاعلية للأوروبيين(32) وهذا الرأى ليس غربيا كذلك على دعاة الحداثة والتغريب اليوم ، لأنهم ينظرون الى الإسلام من خلال معطيات الواقع الذى يعيشه المسلمون اليوم ، ومن خلال فهمهم للتفسير الإسلامى للتاريخ ، ونظرته الى الإنسان فالنظرة المتداولة عندهم هى ان التاريخ فى نظر المسلمين هو قضاء وقدر ، وان الإنسان ريشة فى مهب الريح لا يملك من امر نفسه شيئاً ، فكيف يملك صناعة التاريخ ؟!
والمتأمل فى تاريخ الأمة الإسلامية يدرك ان كثيرا من هذه الأفكار القاتلة فد تسربت الى المسلمين منذ زمن بعيد ، وكان أن امتزجت بعقول وقلوب الناس مما ادى بعد فترة من الزمان الى هذا الانحصار الحضارى الذى نعيشه اليوم ، والى الابتعاد عن دور الشهادة على الناس ، وقد كان للاستعمار الذى عرفته الشعوب الإسلامية درو فى بث الأفكار الميتة ، وبعث روح الهزيمة ، ومركبات النقص فى النفوس ، مما ساهم فى نقص الفاعلية عند ابناء الأمة ، غير اننا لا يمكن بأى حال ان نحمل الاستعمار تبعة ما نحن فيه ، لأن قضية الفاعلية قضية نفسية مرتبطة بالبناء النفسى والرؤية الحضارية عند ابناء الأمة ، فهى تقع حقيقة حيث تتحقق مبررات وجودها.
وإذا كانت الأمة الإسلامية قاطبة تتحمل مسئولية هذا العجز ، فإن الصحوة الإسلامية تتحمل جانباُ كبيرا من هذه المسئولية ، لأنها أخذت على عاتقها إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، والعودة بالأمة الإسلامية الى ميدان الصدارة ، والسير من جديد فى ركب الحضارة ، وكان ان تحملت مسئوليات جسام لتغيير الواقع بدءاً من تغيير النفوس ، ولكن عقبات الطريق ، وصعوبة المسلك ، وطبيعة التغيير النفسى ، كل هذه الأمور جعلت المشروع الحضارى الكبير يتأخر لأسباب كثيرة نعد منها قلة الفاعلية فى اداء الواجبات المنوطة بعاتق العاملين للإسلام ، فلم تكن الاعمال الفردية والجماعية فى مستوى الجهد المطلوب الذى ينبغى ان نصل إليه ، ولم تستخدم جميع الوسائل ، ولم تجند كل الطاقات للوصول الى العمل المثمر الناجح وكل ما تحقق ليس كافيا لإقلاع الحضارى ، وكان التخلف عن ادءا دور الشهادة على الناس نتيجة حتمية لعدم انسجامنا مع سنن التغيير المطلوبة ، قال تعالى ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد : 11] وقال ايضا : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اتلله ينصركم ويثبت اقدامكم ) [ محمد :7]
فمبدأ الفاعلية فى الفكر والعمل – الذى اصبح ظاهرة عند الأمم التى دخلت التاريخ الحاضرى – ليس مبدأ مناسباً للإمكانيات المتاحة فى العمل الإسلامى ، فالواقع يشهد بقلة الفاعلية ، والطموح ، فى أن يصبح العمل عندنا قراراً فردياً وجماعياً يصل الى أعلى درجات الحركة والنشاط.
أم المجتامع الإسلامى المعاصر إنما هو الآن فى مرحلة ما قبل التحضر (33) غير انه مجتمع عرف الحضارة فى يوم من الأيام ، وقد ورث تراثاً زاخراً من الأفكار والثقافات ، واصبح مع هذه الظروف لزاماً عليه ان يعيد توجيه ثقافته من جديد ، وبناء قدراته وفق منهج مؤصل يجمع بين الأصالة والتجديد ، ويستفيد من تجارب الأمم المتحضرة التى ركزت على بناء الإنسان وتوجيه فكره وثقافته نحو الأهداف السامية للأمة ، وتعليمة لغة الفاعلية فى التعامل مع الأشياء.(8/223)
إن العقيدة الإسلامية التى يعد بثها من أولويات العمل الإسلامى قد أخذت حيزاً كبيراً فى الأبحاث والدراسات ، مع ان حجمها يسير ، ولكنها للأسف لم تتحول الى قوة دافعة ، وحركة تصنع الأحداث ، ذلك ان التركيز لم يكن منصباً على توضيح رسالة العقيدة بقدر ما انصب على بيان العقيدة فى صورتها التجريدية ، مع ان العقيدة الإسلامية ينبغى لها ان تعرض فى صورتها التجريدية ، وصورتها الحركية ، كى يصبح صاحب العقيدة إنساناً ذا رسالة فعالة فى التاريخ يستطيع من خلالها ان يسعى سعياً دؤوبا نحو تحقيق وظيفة الشهادة على الناس.
والعمل الإسلامى اليوم ينطلق من مبدأ فهم الكتاب والسنة باعتباره المرجع الأساس فى النظرية والتطبيق ، وباعتباره الدواء الحقيقى لجميع الأمراض التى لحقت بالأمة الإسلامية ، ومن هنا كان واجباً عليه ان يستخلص من هذا الفهم طريقة المعالجة التى لا تأتى إلا من خلال العمل الدؤوب ، والفاعلية المتوقدة فى جميع قطاعات الأمة ، وان تربى الناشئة على كيفية استثمار الوسائل المتوفرة لصنع شئ له قيمة فى الحياة ، وكيفية التعامل مع الأفكار النافعة ، والأفكار القاتلة ، وإيجاد الإنسان الذى يفكر ليعمل ، لا ليقول كلاماً عاطفياً لا يقدم ولا يؤخر شيئاً فى عملية البناء والتغيير ، وعليه كذلك ان يربى ابناء الأمة على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التى اتسمت بالفاعلية فى الفكر والعمل منذ اليوم الأول الذى سمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة ( إقرأ ) التى تبعتها كلمة ( قم ) فكان ان مارس القراءة التى تعنى الفهم عن الله طيلة حياته ، وماس القيام يعنى التطبيق لهذا الفهم حتى التحق بالرفيق الأعلى ، يقول الرازى : ( إنه عليه السلام تحمل فى أداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج ولم يطمع فى مال احد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ، ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا ف اصطباره قصور )(34)
وإذا كان الاستاذ مالك بن نبى – رحمه الله – يرى ان نقصان الفاعلية فى العمل الإسلامى ناتج عن مواقفنا تجاه الأشياء فنحن إما ان ننظر إليها على انها سهلة وإما أنها مستحيلة وكلتا النظرتان تنقصان من الحركة والنشاط ، لأن السهولة تقود الى نشاط اعمى ، وأما الاستحالة فتصيب النشاط بالشلل(35) ، فنحن نرى ان نقصان الفاعلية ناتج عن اسباب كثيرة معقدة يتصل بعضها بالنفس البشرية وبالمحيط الذى تربت فيه ، وبالثقافة التى رتعت منها.
والفاعلية تتصل بداية بالبناء النفسى الذى تحتمه مبررات شرعية واجتماعية تجعل من الحركة والنشاط غاية أولى فى السير نحو مثل أعلى تنوى تحقيقه ، ولكن مع صعوبة تدريب النفس على الفاعلية فإن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلاً فى المجتمعات الإسلامية ، وبخاصة ونحن نرى نماذج للفاعلية تستحق الإشادة والتقدير فى جميع الميادين الاجتماعية والعلمية والفكرية وغيرها ، وإن كان
طابع الفردية يغلب عليها ، ولا يمكن بأية حال تحقيق الأهداف الكبرى إلا بتضافر هذه الجهود الفردية لتصبح جهوداً جماعية تصب فى المصلحة الكبرى للعمل الإسلامى.
الفصل الأول
مفهوم الفاعلية
1. الفاعلية فى اللغة :
الأصل اللغوى للفاعلية هو الفعل (فعل) الذى مشتقاته (فاعل) و(فعال) والفاعلية مصدر صناعى ، اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، للدلالة على وصف الفعل بالنشاط والاتقان(36) .
وورد فى القرآن الكريم لفظ : (فعال) فى قوله تعالى ( فعال لما يريد) [البروج : 16] وهو اسم من اسماء الله الحسنى يدل على ان ما يريده تعالى وما يفعله فى غاية الكثرة(37) ، وصيغ من هذا الاسم مصدر آخر هو (الفاعلية) الذى كثيراً ما كان يتسعمله المفكر الإسلامى المعروف (مالك بن نبى) فى كتاباته.
ويبدو أن مصطلح (الفاعلية ) هو الأكثر استخداماً وشيوعاً بين المثقفين ، ولذلك اخترناه على غيره فى هذه الدراسة.
2. الفاعلية فى الاصطلاح:
تقابل كلمة (الفاعلية) العربية كلمة( Efficancy)
فى المعاجم الغربية وهى تتحدد عندهم بكونها وصفاً لكل شئ فعال(38) وجاء فى كتاب البحث التحليلى لأوروبا ان الروح – ويقصد بها الفاعلية – هى ذلك الشعور الفردى فى الإنسان الذى تصدر عنه مخترعاته وتصوراته ، وتبليغه لرسالته ، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء(39)
ويعرف مالك بن نبى الفاعلية بأنها : حركة الإنسان فى نصاعة التاريخ ، قال – رحمه الله – (إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ ، وهذا يضعنى امام مشكلة تتصف تحت عنوان الفاعلية)(40).
والفاعلية عند (مالك) هى جزء من الثقافة التى يتصف بها الفرد والمجتمع ، فعناصر الثقافة اربعة هى : المبدأ الأخلاقى ، والذوق الجمالى ، والمنطق العملى ، والتوجيه الفنى او الصناعة ، وتشكل هذه العناصر السلوك الاجتماعى للفرد فى المجتمع ، والمنطق العملى هو الفاعلية فى مستواها الفردى والجماعى يقول مالك بن نبى: ( لسنا نعنى بالمنطق العملى ذلك الشئ ) الذى دونت اصوله ووضعت قواعده منه ارسطو ، وإنما نعنى به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده ، وذلك حتى لا نستهل او نستصعب شيئاً دون مقياس ، يستمد معايير من الوسط الاجتماعى وما يشتمل من إمكانيات ، وليس من الصعب على الفرد المسلم ان يصوغ مقياساً نظرياً يستخرج به نتائج من مقدمات محددة غير انه من النادر جداً أن يعرف المنطق العملى ، اى اتسخراج ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة ونظرة الى ما حولنا تكفينا لكى نلاحظ ان ضروب نشاطنا غالباً ما تتسم بالشلل وانعدام الفاعلية فى الجانب الخاص والعام(41)
وارتباط الفاعلية بالثقافة هى حقيقة نشاهدها اليوم فى البلاد المتحضرة حيث يوجه الفرد منذ نشاته الأولى الى الاستفادة من وقته ، واستثمار جميع الوسائل لاستخلاص الفائدة من الاشياء التى لها قيمة ، حتى اصبح ذلك سلوكاً اجتماعياً يرتبط بجميع نشاطات الحياة.
ويعرف (جودت سعيد) الفاعلية بقوله : ( هى قدرة الإنسان على استعمال وسائله الآولية واستخراج اقصى ما يمكن ان يستخرج منها من النتائج (42).
فالإنسان الفعال هو القادر على استخدام الوسائل المتوفرة مهما قل شأنها فى صنع شئ له قيمة فى الحياة وهذا مرتبط بالثقافة التى يحملها ، والفكر الذى يتبناه ، ولذلك حرص (جودت سعيد) على اعتبار الإنسان هو المحرك الأول للطاقات ، والإمكانيات التى يملكها ، واستند فى هذا على منهج القرآن الذى فرق بين صنفين من البشر فقال تعالى( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم)[الملك:23] وقال تعالى: ( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما ابكم لا يقدر على شئ وهو كلُّ على مولاه اينما يوجهه لا يأتى بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) [النحل :76]
فكلمة (الكل) هى الكلمة القرآنية المقابلة لمصطلح اللافعالية والسلبية ، بل كلمة القرآن أدل على هذا المعنى بحيث ان كلمة (الكل ) لا تدل على اللافعالية فحسب بل تدل على انه عبء على من يتولاه سواء كان فرداً او مجتمعاً ، كما وأن كلمة (العدل) فى القرآن تقابل مصطلح الفعالية بشكل أدق ، لأن الفعالية لا تشترط دائما ان تكون فيما بل قد يكون المرء فعالاً فيما يضر ، أما كلمة العدل ففعاليته فىالحق دائماً(43)(8/224)
فالفاعلية التى نريد هى الفاعلية التى يتحرك بها الإنسان مع ما لديه من وسائل أولية ليحقق نفعاً خاصاً أو عاماً ، وهذا هو المعنى الذى حرص عليه المنهج القرآنى ، وبيته أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، المذموم فى الشريعة الإسلامية التى من ابرز مقاصدها درء المفاسد وجلب المنافع.
3. الفاعلية فى مفهوم جديد :
إن الفاعلية هو نوع من القوة التى تمنح للإنسان ليتحرك فى الحياة مبلغاً لرسالته ، وصانعاً لتاريخه ، وناشراً لفكره ، ودينه يستفاد هذا من قوله تعالى ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة) [مريم : 21] والقوة المراد بها قوة معنوية ، وهى العزيمة والثبات ، فى العمل بالكتاب وحمل الأمة على اتباعه ، فقد أخذ الوهن يتطرق الى الأمة اليهودية فى العمل بدينها(44) فأمر يحيى – عليه السلام – ونودى ليحمل هذه الأمانة فوة وعزم ، وبمفهومنا الحديث بفاعلية ونشاط حتى يحقق مراد الله تعالى.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القوة فى الحديث المشهور الذى رواه أبو هريرة – رضى الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن القوى خير واحب اللى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن اصابك شئ فلا تقل : لو أنى فعلت كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(45)
قال النووى فى شرح معنى القوة : ( المراد بالقوة عزيمة النفس ، والقريحة فى أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا الوصف اكثر إقداماً على العدو فى الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه ، وذهاباً فى طلبه ، وأشد عزيمة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والصبر على الأذى فى كل ذلك ، واحتمال المشاق فى ذات الله تعالى ، وأرغب فى الصلاة والصوم ، والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ، ومحافظة عليها ، ونحو ذلك)(46) .
والحديث بجملته يتحدث عن فاعلية الؤمن وعلاقة هذه الفاعلية بقضاء الله وقدره وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الفاعلية بأنها الحرص على النفع وترك العجز بعد الاستعانة بالله تعالى ، ومن هنا يتحدد المفهوم النبوى للفاعلية بأنها العمل والحرص على ما ينفع ، وترك الكسل والعجز ، ومن هذا المفهوم تخرج كل المعانى الأخرى للفاعلية التى قد يستخدمها الإنسان فى حركته نحو الفساد والإضرار بنفسه وبالآخرين ، كالفاعلية التى نراها عند يهود للإضرار بالإنسانية ، وعند غيرهم من الأمم والشعوب الكافرة.
ويمكن ان نصل الى مفهوم شامل جديد للفاعلية اعتماداً على هذا الحديث فنقول : إنها قوة فى النفس تستوجب الحرص على النفع وترك العجز.
.:. .:. .:.
الفصل الثانى
الفاعلية فى التاريخ الإسلامى
1. التفسير الإسلامى للتاريخ
إن النظرة الإسلام الى التاريخ قضية ذات اهمية كبيرة فى تحديد الموقف العملى للإنسان المكلف تجاه الأحداث التى يتفاعل معها كل يوم ، سواء أكان صانعاً لها بإرادته ام خاضعاً مستقبلاً لها دون اى تدخل من تلك الإرادة.
وأهمية هذه النظرة تكمن فى ارتباطها بقضايا العقيدة وبخاصة عقيدة القضاء والقدر ، التى تشكل الأساس الفكرى الذى يحدد موقف الإنسان المسلم من العمل فى الحياة الدنيا وتصوره للدائرة التى يمكل حرية التحرك فيها ، والدائرة التى لا يملك فيها اية إرادة للحركة والعمل .
إن عقيدة القضاء والقدر التى اختلف المسلمون – باستثناء سلفنا الصالح – فى فهمها وتفسيرها ، كانت عنصراً من عناصر الخلاف الذى استمر قروناً وما زال مستمراً الى الآن ، تعد من أهم الأسباب الموصلة الى تفسير التاريخ ، وفهم موقع الإنسان فيه ، وبناء تصور عنه يعطى للإنسان مكانة اللائق به كصانع للتاريخ ، ومساهم مساهمة حقيقة فى توجيه الأحداث ، وأن هذا كله لا ينافى الإرادة الإلهية ، وسيرورة قضاء الله وقدره فى هذا الكون .
لم يكن عدم فهم عقيدة القضاء والقدر فهماً سلمياً سبباً فى الخلاف الذى وقع بين المسلمين فحسب ، بل إنه ومع مرور الوقت اصبح يشكل اتجاهاً يبعث السلبية واللافاعلية ، والركون الى التواكل ، والتقليل من قيمة العمل ، وبخاصة ذلك الذى يتعلق بالأمور الحياتية المهمة ، كتلك التى ترتبط بمصير الأمة.
والخلل الذى وقع فى فهم هذه العقيدة انعكست أثاره على الواقع العملى للمسلمين ، فى فترات زمنية معلومة وبخاصة فى العصر الحديث ، الذى عرف أشكالاً جديدة من التحديات الاستعمارية ، وانواعاً من الأخطار والمشكلات الحضارية ، واصبح المسلم مع هذا الفهم الخاطئ ينتظر الخوارق ، ويرنو الى المعجزات ليحل مشكلاته المستعصية ، وذلك بعد تقزيمة للبعد الايمانى ، وتشويهه لمفهوم العبادة ، وتجسد لديه المبدأ الحياتى القائل : ( آكل القوت وانتظر الموت)(47) وأصبح جزءاً من ثقافته.
ما هى النظرة التى يفسر بها الإسلام التاريخ اعتماداً على عقيدة القضاء والقدر ؟ ، هل التاريخ فى نظر الإسلام مجرد أحداث تتعاقب دون ان يكون للإنسان أية مساهمة فى صنع او توجيه هذه الأحداث ؟ أم انه يشارك فى صنعها مشاركة حقيقة ويكون مسؤولاً عنها ؟ وبعبارة أخرى هل التاريخ قضاء وقدر لا يد للإنسان فيه ؟ أم ان الإنسان هو المسؤول الحقيقى عما يجرى فى التاريخ ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تؤدى الى مواقف نظرية فحسب بل الى نتائج عملية تتصل بحركة الإنسان فى هذه الحياة ، لأن التصور العقدى الذى سينبنى على هذه الإجابة سيكون له أكبر الأثر فى تحديد الإرادة البشرية ، ومواقفها امام المشكلات التى تواجهها فى الحياة ، وإن كان كثير من الناس يعتقدون ان هذه القضية هى قضية نظرية فلسفية ليس لها اى بعد اجتماعى ونفسى فى الواقع ، وهى على العكس من ذلك قضية خطيرة لما ينبنى عليها من تصورات تحدد مواقف الإنسان وحركته فى الحياة.
إننا إذا نظرنا الى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب دون ما ربط جدلى بينها ، فإن هذه نظرة تؤدى الى نتائج معينة ليست هى التى تنتج عن نظرنا إليه حينما نعتبره سيراً مضطرداً تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها ، فإن النظرة الأولى تؤدى الى تسجيل ما يضطرد من حوداث فى انفسنا ، وفى مذكراتنا على انه من حكم القضاء والقدر اى من حكم لا يد للإنسان فيه ، ولا يسعه امامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف أو كما يعبر البعض الاستسلام للواقع ، فهذه النظرة تجلعنا نطأطئ الرؤوس امام الأحداث لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدى بنا الى ان نحنى لثقلها ظهورنا ، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا . أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من ان تلقى على اكتافنا ثقل الأحداث ، تجلعنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا ، فبقدر ما ندرك اسبابها ، ونقيسها بالمقياس الصحيح ، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا ، وبقدر ما نكشتف من اسرارها نسيطر عليها ، بدلاً من أن تسيطر علينا ، فنوجهها نحن ، ولا توجهنا هى ، لأننا حينئذ نعلم ان الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من انفسنا(48)
إن الإسلام يفسر التاريخ تفسيراً يتبوأ فيه الإنسان مكانة عظيمة ، باعتباره المنفذ الحقيقى لقضاء الله وقدره فى هذه الأرض ، فالتاريخ هو صناعة بشرية بإرادة الله وعلمه وقدره ، والإنسان المستخلف فى هذه الأرض مكلف بالحركة والنشاط وفق النواميس الإلهية حتى ينسجم مع الكون الذى من حوله ، وحتى يحقق وجوده كإنسان مستحق للتكريم الإلهى.(8/225)
والمنهج القرآنى واضح فى تحديد المسؤولية البشرية فى صناعة التاريخ ، فقد بينت الآيات أن الإنسان خلق ليعمل وفق منهج محدد وضع له ، أما إذا تجاوز ذلك فسيكون مسؤولاً امام الله وامام التاريخ وأمام البشرية كلها لينال جزاء ما فعل قال تعالى: ( ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) [الروم : 41]
فهذا الفساد الذى ظهر على هذه الأرض وشمل برها وبحرها هو من صنع الناس ، لأنهم هم الخلفاء عليها ، وهم اصحاب الإرادات العاملة فيها ،إن كل ما على هذه الأرض من كائنات إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التى اودعها الله سبحانه وتعالى فيها دون ان تخرج عليها ، وقوله تعالى : ( بما كسبت أيدى الناس ) إشارة الى ان هذا الفساد والاعوجاج الذى ظهر على هذه الأرض هو مما كسبته ايدى الناس ، فهو من صنعهم ، ومن فعل إرادتهم الحرة ، ولهذا فهم محاسبون عليه مؤاخذون به)(49)
ويشغل الحديث عن الأمم السابقة حيزاً كبيراً فى القرآن الكريم ، حتى إنه اخذ مساحة كبيرة تمثل الربع تقريباً ، وذلك راجع لأهمية عرض أحداث التاريخ امام البشر لأخذ العبرة وربط النتائج بالأسباب ، والأشباه بالنظائر ، ولتوجيه الإنسان لمعرفة السنن الإلهية المضطردة فى بناء الحضارات وخرابها ، وفى تقدم الأمم وتخلفها ، ولاعطائه الوقود الروحى الكافى كى يتحرك ويأخذ بالأسباب المتاحة ، والوسائل المتوفرة حتى يحقق مهمة الخلافة وعمارة الأرض التى كلف بها.
وكثيراً ما يأتى قوله تعالى : ( تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة :134] فى سياق السرد التاريخى لرسالات الأنبياء التى لم تعرف سوى العمل المتواصل ، والجهد المستمر ، تحقيقاً للنفع ، ودفعاً للضرر ، وربطاً للأرض بالسماء ، والمادة بالروح ، كما فى قوله تعالى : ( وإذ رقع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم ) [البقرة : 127] ، وفى قوله تعالى : ( قل اتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون) [البقرة:139]
وتأتى كلمة الكسب وكلمة العدل وما كان فى معناهما فى سايق حيدث القرآن عن التاريخ لبيان الأهمية الكبرى للجهد البشرى فى صناعة التاريخ ، ولإبعاد فكرة (الجبر) عن الناس حتى لا تأخذ طريقها الى عقولهم وقلوبهم ، فتبعث فيهم السلبية والركون ، وتكبلهم بأغلال العجز والقعود ، قال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعلمون عليم) [ المؤمنون :51] ، وقال تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير )[الشورى : 29 -30] ، وقال تعالى ايضا: ( قالوا أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويتسخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعلمون )[ الأعراف : 129]
فالتاريخ هو عمل وكسب ، وحركة ونشاط ، وهو سلسلة من الأسباب والأحداث التى تصنع بجهد البشر ، (وإن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم ، كما ان الإنسان حين يغفل عن سنن الله ، فإن سنن الله لا تغفل ان تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل ، وحينئذ لن يتمكن الإنسان ان يرى للتاريخ أسباباً وإنما يرى أحداث حتمية ، لا دخل لجهد الإنسان فيها ، فمن هذه النظرة تنشأ (القدرية) ، ويتبين مما قدمنا ان القرىن يؤكد تدخل جهد البشر فى صناعة أحداث التاريخ ، بمقدار وضوح هذه الحقيقة فى آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة للمسلمين(50)
يقول سيد قطب – رحمه الله – فى التفسير الإسلامى للتاريخ : ( هو التفسير الذى جعل ( الإنسان ) – ومن ورائه قدر الله – هو المؤثر الأول فى خط سير التاريخ ، وفى الأطوار التى تنقلب فيها الحياة ، والذى يجعل كل تغيير وكل تطور إنما يبدأ أولاً فى ضمير الإنسان وعقله ، ثم يتخذ طريقه للتحقق فى عالم الواقع ، باعتبار أن الإنسان هو الكائن المستخلف فى هذه الأرض ، الذى ينفذ قدر الله فى الأرض ، وفى الحياة الأرضية من خلال نشاطه الشعورى والحركى . . . والدليل على هذا هو الواقع التاريخى الذى أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم(51)
وقال فى مكان أخر مبينا أهمية الجهد البشرى فى صنع التاريخ : ( هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الدين وطريقة عمله فى حياة البشر ، حقيقة أولية بسيطة مع بساطتها كثيراً ما تنسى ، أو لا تدرك ابتداء . فينشأ عن نسيانها او عدم إدراكها خطأ جسيم فى النظر الى هذا الدين : حقيقة الذاتية وواقعه التاريخى ، حاضره ومستقبله كذلك ، إن البعض ينتظر من هذا الدين مادام منزلاً من عند الله ، إن يعمل فى حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ، ودون اى اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية ، ولواقعهم المادى فى أية مرحلة من مراحل نموهم ، وفى أية بيئة من بيئاتهم ، وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة ، وحين يرون ان الطاقة البشرية المحدودة ، والواقع المادى للحياة الإنسانية ، يتفاعلان معه فيتأثران به – فى فترات – تأثيراً واضحاً ، على حين انهما فى فترات اخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه . . . وحين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة امل لم يكونوا يتوقعونها ، أو يصابون بخلخلة فى ثقتهم بجدية لمنهج الديتى وواقعيته ، او يصابون بالشك فى الدين إطلاقاً، وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد اساسى ، هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته او نسيان هذه الحقيقة البسيطة الأولية(52) .
والقضية المهمة التى يشير إليها سيد قطب فى ثنايا كلامه هى ان تعطيل الطاقة البشرية ، والتقليل من أهمية الجهد البشرى فى صناعة التاريخ من شأنهما ان يساهما فى إنعدام الفاعلية عند الناس وبخاصة أولئك الذين يحملون رسالة تغييرية حضارية لإسعاد البشرية.
إن فهم أحداث التاريخ بهذا التاريخ بهذا الشكل الذى يتدخل فيه جهد البشر ، يساهم مساهمة كبيرة فى إيجاد شرط اساسى من شروط الفعالية ، وذلك لأن ذهه النظرة لا تؤدى الى نتائج نظرية فحسب ، بل تتداخل فى تكييف سلوك الإنسان امام الأحداث ، وتضع الإنسان فى المكان المناسب له فى هذا الكون(53) .
وفى السنة النبوية منهج واضح يبين العلاقة بين التاريخ وحركة الإنسان فيه ، وعلى غرار القرآن الكريم يضع الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان فى مكان يليق به كمستخلف فى هذه الأرض ، ونراه يوجهه نحو العمل وبذل الجهد لصناعة التاريخ الذى يرضى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وينهاه عن الكساد والتواكل ، والركون الى فلسفات العجز التى تفسر القضاء والقدر تفسيراً خاطئاً يجعل الإنسان ريشة فى مهب الريح ، جاء فى صحيح مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم جالساً وفى يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال : ( ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ). وقالوا : يا رسول الله : فلم نعمل ؟ ألا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له )(54)
وفى السنن انه ( قيل : يا رسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى نسترقى بها ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ ، فقال : ( هى من قدر الله) . ولهذا قال العلماء : ( الالتفات الى الأسباب شرك فى التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون اسباباً تغير فى وجه العقل ، والإعراض عن الإسباب بالكلية قدح فى الشرع)(55)(8/226)
إن إنكار الأسباب الذى مؤداه التقليل من قيمة العمل هو قدح فى الشرع كما يقول ابن تيمية – رحمه الله – وهو إضافة الى ذلك جهل الشرع يجلب عجزاً يقيد النشاط ويعطل الحركة ، ويؤدى الى فقد الوجود الاجتماعى ، روى ابو داود فى سننه ان النبى صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه : حسبى الله نعم الوكيل ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإن غلبك امر فقل : حسبى الله ونعم الوكيل)(56)
فهذا الرجل الذى وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم الى الاعتماد على وسائله المتاحة ، والتحرك ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن دائرة أخرى لا يملك فيها سوى التسليم والخضوع لقضاء الله تعالى ، وفى هذا الموقف ينسجم قوله (حسبى الله ونعم الوكيل) مع عمله وفعله.
وروى ابو عبد الرحمن السلمى قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم بجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً(57)
لقد كان العمل عنصرا اساسياً فى التربية النبوية لكونه عاملاً يجسد القيم الى حقائق واقعية ، ولأهميته الأكيدة فى عملية البناء والتكوين الحضارى ، ومن هنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ربط المفاهيم بالعمل ، والعقائد بالسلوك ، وكان هذا كله منبثقاً من فهمه للمنهج القرآنى الذى يرى ان التاريخ صناعة بشرية بقضاء الله وقدره ، وأن الإنسان هو المنفذ الحقيقى للقضاء والقدر ، وأنه يجب عليه ان يعمل بفاعلية مع له لديه من وسائل لتحقيق المنافع ، وجلب المصالح التى يقتضيها الإستخلاف وعمارة الأرض.
2. قيمة الإنسان فى الإسلام :
إن موضوع (قيمة الإنسان فى نظر الإسلام ) له علاقة وطيدة بالموضوع السابق ( التفسير الإسلامى للتاريخ ) لأن صناعة التاريخ تقتضى وجود صانع فعال ، ومحرك رئيس للأحداث ، وهو الإنسان الذى يختلف حضوره الاجتماعى من مجتمع الى مجتمع ، ومن بيئة الى بيئة حسب تكوينه الثقافى ، وحسب التوجيه الذى يخضع له.
فالإنسان باعتباره صانعاً للتاريخ او باعتباره معطلاً له ، هو العنصر والمقوم الحضارى الأول الذى اهتمت به جميع الرسالات الروحية ، والفلسفات المادية قديماً وحديثاً ، فهو البانى للحضارات ، والمؤثر الحقيقى فى سير المدنيات ، وهو ايضا المتسبب الرئيس فى جميع المشكلات التى تواجه الأمم والمجتمعات.
إن مشكلة كل شعب هى فى جوهرها مشكلة الإنسان بالدرجة الأولى ( ولا يمكن لشعب ان يفهم او يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته الى الأحداث الإنسانية ، وما لم يتعمق فى فهم العوامل التى تبنى الحضارات او تهدمها ، وما الحضارات المعاصرة ، والحضارات الضاربة فى ظلام الماضى ، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون الى نهاية الزمن ، فهى حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض الى آخر وريث له فيها ، ويا لها سلسلة من النور ، تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة فى خطواتها المتصلة فى سبيل الرقى والتقدم(58)
وإذا كان الإنسان هو المؤثر الحقيقى فى سير احداث التاريخ ، فقد اختلفت المذاهب والنظريات الدينية والوضعية وغيرها من الفسلفات البشرية فى كيفية التعامل مع هذا الكائن المتميز ، وكيفية توجيهه التوجيه الذى يحقق له قيمته الاجتماعية .
وتميزت النظرة الإسلامية عن غيرها من النظريات والمذاهب الأخرى ، حيث رأت فى الإنسان كائناً مستحقاً للتكريم الإلهى منذ الخلق الأول ، وكائناً له قيمة فى الحياة بما يقوم به من دور اجتماعى بناء يساهم فى البناء الحضارى ، ويحقق السمو للنوع البشرى ، وإذا تخلف هذا الإنسان عن اداء دوره المنوط به فإن الإسلام ينزله من قمة التشريف والتكريم الى اسفل سافلين ، وهذا ما دلت عليه الآيات فى قوله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى احسن تقويم ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير منون) [ التين : 4 -6 ]
فالإنسان فى نظر الإسلام له قيمتان : ( قيمته كإنسان ، وقيمته ككائن اجتماعى ، قيمة توهب له فى طينته بما وضع الله فيها من تكريم ، وليس لظرف من الظروف ، ولا لأحد من الناس ان يغير منها شيئاً كما انه لا يمكن لآى ظرف ان يغير شيئاً من خصائص عينة الزنك ، وقيمة اخرى تعطى له بعمليات اجتماعية معينة ، تماما كما تعطى العمليات الصناعية لعينة من الزنك فيمتها العملية ، وبعبارة أخرى إن الأنسان يمثل معادلتين , معادلة تمثل جوهره كإنسان صنعه من أثقن كل شىء صنعه , ومعادلة ثانية ثمثله ككائن اجتماعى يصنعه المجتمع ؛ ومن الواضح أن هذه المعادلة الأخيرة هى التى تحدد فعالية الإنسان ، كإنسان فى جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شئ ، بل تتغير فعاليته من طور الى طور(59) .
إن القيمة الأولى هبة من الله , لكن ليس لها علاقة بفاعلية الإنسان فى الأرض ، لأنها تمثل تكريماً إلهياً يعطى الإنسان الاستعداد الضرورى لأداء الدور ، ويبقى العمل بفاعلية لأداء هذا الدور منوطاً بالإنسان نفسه ، فقد خلق الإنسان مزوداً بالعقل ، ومسلحاً بالإرادة ، وفوق ذلك كله سخر له الكون ، ومهدت له الأرض ، ووضعت أمامه السنن ، كى يؤدى وظيفته ، قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ) [التين :4] ، وقال تعالى ايضا : ( ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) [الأسراء : 70] ، وقال تعالى ايضاً : ( ولقد مكناكم فى الأرض وجلعنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون) [الأعراف : 10]
أما القيمة الثانية فهى التى تزود الإنسان بالفاعلية والعزم لأداء دوره ووظيفته ، لأنها قيمة تتعلق بالرسالة الاجتماعية التى يقوم بها فى الحياة ، ومن هنا قوم الإسلام الإنسان على أساسها ، وربط مصيره الدنيوى والأخروى بها ، قال تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [ العصر : 1- 3]
إن الإنسان من خلال هذه الأبيتا ليس له قيمة تذكر ، بل هو فى خسر وضلال حتى يؤمن ويعمل صالحاً ويتزود بالأخلاق والقيم المشروعة ، وهذا كله يعبر عنه بالحضور الاجتماعى الذى يحقق مصلحة الإنسان ومصلحة مجتمعه ، فالإنسان مكلف بأداء رسالة فى مجتمع ، وإذا تخلى عن هذه الوظيفة فقد أبرز المقومات فى البناء ولن تفيده شيئاً فى حياته ومسيرته الحضارية .(8/227)
ويأخذ حديث القرآن عن رسالة المسلم الاجتماعية طابع التنوع والإسهاب ، لأهمية هذا المبدأ فى بناء التصور الإسلامى عن الإنسان وعلاقته بالكون الذى من حوله ، فكثيراً ما يعرض الإيمان مقروناص بالعمل ، والعقيدة ممزوجة بالسلوك ، ويرفع فى اثناء ذلك من قيمة العمل الصالح الذى يمثل الوظيفة الاجتماعية ، ويجعله سبباً للنجاح الدنيوى والأخروى ، وأساساً للاستحقاق والرفعة ، قال تعالى : ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ آل عمران : 110] وقال تعالى ايضا : ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون) [ آل عمران : 104]
والمعروف فى أعم صورة ، والمنكر فى اشمل معانية ، يكونان جوهر الأحداث التى تواجه المسلم يومياً كما يكونان لب التاريخ(60)، ومن هنا حرص القرآن على تذكير المسلم برسالته دائماً ، وحثه على اداء هذه الرسالة الاجتماعية بفعالية ليكون عنصراً إيجابياً يحقق الخير والنفع للبشرية فى جميع مستويات الحياة ، قال تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) [ مريم : 12] وقال تعالى ايضا: (فاستبقوا الخيرات) [ البقرة :148] وقال تعالى ايضاً : ( وسارعوا الى مغفرة من ربكم ) [ آل عمران:133] .
وفى السنة النبوية أحاديث كثيرة تبين أهمية البعد الاجتماعى لدور المسلم ورسالته الحضارية ، فكثيراً ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم لأداء وظيفته بتقديم الجهد المطلوب ، والعمل الصائب ، وفضل صلى الله عليه وسلم المسلم الفعال على المسلم غير الفعال ، قال عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن القوى خير واحب الى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)(61) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يتسطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)(62)
وقيمة العمل فى المنهج النبوى – أيضاً – لا تضاهيها قيمة ، لأن العمل هو الحركة فى الحياة ، وهو الذى يجسد الحقائق النظرية فى قوالب تطبيقية تعود بالخير والنفع على الإنسان ومجتمعه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلآ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه ما بعثنى الله به ، فعلم وعمل . . . ومثل من لم يرفع بذلك رأساًًَ)(63)
وهو المنهج الذى تبناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى عن عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – أنه قال : كان الفاضل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة يقرأون القرآن ، منهم الصبى والأعمى ولا يرزقون العمل به )(64)
ويظهر هذا المبدأ بوضوح فى الحديث الذى رواه الإمام احمد فى مسنده قال : ذكر النبى صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : ( وذلك عند ذهاب العلم) قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبنائنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبنائهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل فى المدينة ، أوليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشئ)(65)
إن العجز المقصود فى هذا الحديث هو (عدنم القدرة على الإفادة من المنهج النبوى ، فى مجال التغيير والبناء الحضارى . . . والأزمة الحقيقة التى نعانى منها ، أو الأزمة الفكرية هى أزمة فهم عملى ، وأزمة تعامل مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها الى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية ، أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحى بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوى فى البناء والتغيير )(66).
والإنسان حين يفقد قيمته الإجتماعية يتحول من إنسان فعال ، الى كائن عاجز لا يحسن استثمار الوسائل التى بين يديه فى تحصيل احسن النتائج ، لأنه فقد اساساً حسن التعامل مع السنن الإلهية ، ويصبح حينئذ عالة على المجتمع(67) ، وهذا العجز هو الذى تشير إليه الاية القرآنية : ( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم) [ الملك : 22]
لقد ذكرنا – فيما سبق – أن البعد الاجتماعى فى حياة الإنسان هو الذى يمنحه الفاعلية والتوتر اللازمين للقيام بدوره ورسالته ، فنراه ينقلب من إنسان خارج التاريخ الى إنسان صانع للتاريخ ، ويبقى السؤال الملح ، ما هى الظروف التى تجعل المجتمع يمنح الفرد القيمة التى تبعث فيه الفاعلية ؟
يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن المجتمع يكون احياناً فى حالة ركود وكساد ، ولو أننا قد حللنا فى مثل هذه الحالة الوضع النفسى الذى يكون عليه الفرد فإننا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار ، فلا يحتويه اى قلق ، وبالتالى فإنه لا يبذل أى محاولة لتغيير الوضع من حوله : إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته ، وهنا يصبح التاريخ سيلاً يجرفه الى حيث لا يدرى مستسلماً له الاستلام المطلق ، فإذا ما حدثت فى المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها ، فإن موقف الإنسان هنا يتغير امام الحوداث والأشياء ، وبالتالى يتغير مجرى التاريخ)(68)
وحالة القلق هذه التى يتحدث عنها مالك هى ظاهرة إيجابية ضرورية فى اى إقلاع حضارى ، فهى تشبه التيار الكهربائى الذى ينطلق فى الجهاز السليم فيبعث الحياة فى كامل اجزائه ، اما كيف نصل الى هذا المستوى من القلق الذى سيكون سبباً فى الفاعلية التى تشمل جميع افراد المجتمع ، فهذا ما سنحاول الإجابة عنه فى فصل قادم – إن شاء الله تعالى .
ويبقى ان نشير الى ان السيرة النبوية تمثل نموذجاً لقيمة المسلم الفردية ، وقيمته الاجتماعية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن سوى إنسان ضال ، أى بلا رسالة فى الحياة ( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] ، وأما ما ذكر التاريخ من قيم أخلاقية تجسدت فى شخصه صلى الله عليه وسلم فلم يكن لها سوى بعد فردى ، لقد كان إنساناً خارج التاريخ حتى إن كتب السير والتاريخ حتى ان كتب السير والتاريخ اعطتنا صورة مقتضبة لفترة تقدر بأربعين سنة ، بل انها فى كثير من الأحيان تعجز عن ذكر أية أحداث خلال سنوات كثيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم(69) ولا تحسبن ان هذا يعد نقصاً فى السيرة النبوية ، ولا تقصيراً من الناقلين والمؤرخين ، لأن السنن الإلهية تجعل ميلاد العظماء ساعة يحملون رسالة التغيير والبناء فى الحياة ومن هنا يبدأ التاريخ.
لقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخ ساعة كلف بالرسالة فأصبح بذلك إنساناً آخر يتحرك فى مجتمع ، يربى ويوجه ، ويقوم ويبنى ، ويسعى بكل ما لديه من طاقة فى سبيل تحقيق رسالته فى الحياة ، قال تعالى : ( يا أيها المدثر قم فأنذر) [ المدثر : 1 ، 2] ، وقال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً) [ المزمل : 5]
فالقيام لأداء اعباء الرسالة التى عبر عنها فى الآية الكريمة بالقول الثقيل ، يحتاج الى جهد كبير ، وعمل دؤوب وفاعلية متوقدة ، وهذه هى الأبواب التى يدخل منها الى التاريخ.(8/228)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حمل الرسالة مثالاً رائعاً للإنسان المستخلف ذى القيمة الاجتماعية التى تحقق الخير والنفع للمجتمع ، وللإنسان العامل الفعال الذى يعمل للدنيا والأخرة بثقة وعزم ، واضعاً امام عينية هداية السماء ، وإعانة الله ، وبين يديه اسباب النصر والنجاح ، حتى ترك لنا تاريخاً شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بالفضل والخيرية ، واستحق صلى الله عليه وسلم بذلك تزكية الله له عل مر القرون والأجيال ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب : 21]
3. فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم
يعد الأنموذج الإسلامى الذى مثله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده خير مثال يمكن ان تنطلق منه لتفسير الظروف الاجتماعية والنفسية التى حدثت لتلك الفئة المؤمنة ، فى بيئة لم تكن تملك من مبررات الانطلاق ، وعوامل النهضة ، وشروط التحضر شيئاً ، حتى حدثت تلك ( الثورة) التى هزت المشاعر الجامدة ، وفجرت الطاقات المكبلة ، فانطلقت النفوس مزودة بفاعلية فى الفكر والعمل لتغير مجرى التاريخ ، ولتمد الإنسانية بفيض من القيم المادية والروحية مشكلة الأنموذج الحضارى ، الذى يتطلع إليه كل إنسان سليم القلب والروح.
لقد كانت الفاعلية من أبرز الخصائص الإجتماعية والنفسية للمجتمع الإسلامى فى تلك الفترة ، وكانت توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم هى الوقود الذى يمنح النفوس المؤمنة تلك القوى الانفجارية التى غيرتها فجأة من حال الى حال ، من حال الركود الى حالة الحركة ، ومن حال الجمود والسبات الى حال العمل والنشاط.
وما من ريب أن تأثير القرآن كان له اكبر الأثر فى حدوث التغيير الذى غير مسار التاريخ ، وبخاصة انه اختار الزمان والمكان المناسبين ، ونزل فى بيئة تحترم الكلمة ، وتقدس الأدب ، فكان أن (سحر العرب منذ اللحظة الأولى ، سواء منهم فى ذلك من شرح الله صدره للإسلام ، ومن جعل على بصره منهم غشاوة ، وإذا تجاوز عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحدها هى داعيتهم الى الإيمان فى أول الأمر ، كزوجة خديجة ، وصديقه ابى بكر ، وابن عمه على ، ومولاه زيد وأمثالهم ، فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم أو أحد العوامل الحاسمة فى إيمان من آمنوا أوائل أيام الدعوة(70) قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى الى صراط مستقيم) [ الشورى :52]
وتسمية القرآن بالروح لها دلالات اجتماعية ونفسية ، على اعتبار ان الروح هى التى تمنح الحياة للجسد ،ولا قوام له إلا بها ، وكذلك القرآن الذى يبعث فى النفوس روحاً فيهبها الحياة ويحييها من جديد( أو من كان ميتاًَ فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس)[الأنعام : 122] الى جانب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتماعى كان له دور كبير فى إيمان واستجابة كثير من الناس قال تعالى : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159] وقال ايضا ( محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) [الفتح :29]
لقد كان صلى الله عليه وسلم بتطبيقه العملى لتوجيهات الوحى يعلم ان الرسالة التى كلف بتبليغها ، هى رسالة تحتاج الى جهد وعمل ، وقيام وحركة ، وعلم انه مسؤول عن التلبيغ ومقتضياته ، فلم يلبث ان تسلح بسلاح الفاعلية وانطلق بإيمانه وعقيدته يصنع التاريخ مع الفئة التى آمنت برسالته ، واقتنعت بمبدئه ، كانت الأهداف التى يصبو إليها صعبة المنال – بل مستحيلة فى نظر العيان الساذج – ولكن صدق المبدأ ، وقوة الحرص عليه ، أبعدتا العجز والكسل عن ان يكون لهما طريق الى الحسن والشعور وبهذه الفعالية المكتسبة من تعلميات الوحى استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بتأييد من الله ان يحقق مع الفئة القليلة التى كانت معه النصر تلو النصر ، والنجاح تلو النجاح حتى ظن كثير من الناس ممن يجهل سنن الله فى الكون ان الخوارق والمعجزات تدخلت لتعمل بطريقتها السحرة الخارقة فى صنع الأحداث ، وتوجيه التاريخ ، الذى عرفته تلك الفترة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم سوى الجهد البشرى المطلوب ، ولم يعمل وإلا وفق سنة الله فى التغيير والبناء ، فقد اقتضت هذه السنة أن من يعمل ويجتهد يصل الى شئ ( من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها وهم فيها يبخسون)[هود : 15] . . وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك ان يضيع هذا الشئ فى النهاية ما لم يسر فى الطريق الذى رسمه الله(71)
وقد تحدثنا ـ فيما سبق ـ أن الإسلأم يحرم الإنسان بقيمته الإجتماعية لإنه خليفة الله فى الأرض , فكهذا اقتضت إرادة الله , وهكذا فهم الرسول عن ربه بأن الإنسان هو القوة العاملة فى هذا الوجود , وهو الذى يغير الواقع , وهو الذى ينشىء النظم ويقوم الأوضاع , فهو القوة الإيجابية فى الأرض ذات اللحظة التى يسلم كيانه كله لله , بل من هذا الإسلام الكامل لله , يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها فى الأرض(72) ومن هذا الفهم تكتسب صلى الله عليه وسلم فاعليته التى تجسدت فى عمله الصائب المخلص.
إن المتأمل فى السيرة النبوية فى كل حلقة من حلقاتها يدرك مدى الجهد الذى بذله الرسول صلى الله عليه وسلم فى سبيل انجاح رسالته ، وتجلى ذلك واضحاً فى جميع المستويات الدينية والدنيوية ، قال الرازى : (إنه عليه السلام تحمل فى اداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج البتة ، ولم يطمع فى مال أحد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا فى اصطباره قصور(73).
وهذا هو الجهاد بمعناه الواسع الذى ورد فى قوله تعالى : ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) [الحج :78] ، وهو بمعنى : ( استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعسكرية وغيرها فى أوقات السلم والحرب سواء . . . فهو : ( تكنولوجيا الإسلام) التى توفر العمل والإنتاج فى أوقات السلم ، والمنعة فى أوقات العدوان(74)
فالجهاد ليس مقصوراً على (القتال) فقط – وقد ترسب فى اذهان كثير من المسلمين اليوم ان الجهاد هو القتال بالسيف – بل هو نوع من الفاعلية التى تشمل جميع ميادين الحياة ،وهو الشئ الذى تمثل فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، منذ اليوم الذى كلف فيه بأداء الرسالة ، يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فى هديه صلى الله عليه وسلم فى الجهاد : ( لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل فى الجنة ، كما لهم الرفعة فى الدنيا ، فهم الأعلون فى الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الذروة العليا منه ، واستولى على انواعه كلها ، فجاهد فى الله حق جهاده بالقلب ، والجنان ، والدعوة ، والبيان ، والسيف ، والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ، ولسانه ، ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظم عند الله قدراً(75)
ثم يتحدث ابن القيم عن جهاده صلى الله عليه وسلم خلال مسيرة الدعوة ، ويورد صوراً حية كثيرة تدل كلها على الفاعلية المتوهجة التى كان يتميز بها صلى الله عليه وسلم ومدى صبره وقوة بأسه فى مواجهة المشكلات التى تعترض طريق الرسالة.(8/229)
عن جابر ان النبى صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس فى منازلهم فى المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول : ( من يؤوينى؟ من ينصرنى ، حتى أبلغ رسالات ربى ، وله الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى ان الرجل ليرحل من مضر او اليمن الى ذى رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : ( أحذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشى بين رجالهم ويدعوهم الى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب الى اهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فأتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد فى جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمناه عليه الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخى . ما ادرى ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إنى ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس فى وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة ، فى النشاط والكسل ، وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)(76)
فهذا نموذج واحد من سيرته صلى الله عليه وسلم المليئة بالعطاء والجهد ، والفاعلية والحزم ، وقد اخترناه فى هذا المقام للدلالة على جوانب من جهاده وحرصه على التزام انصاره واتباعه بالقيم والمبادئ التى يتبناها كما هو من ظاهر فى شروط البيعة مع الأنصار ، فقد اشترط عليهم السمع والطاعة والإنفاق لتحقيق الوحدة والتكامل فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، وطلب منهم القيام بواجب الجهاد الذى يتمثل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقول الحق ، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا يمثل جوهر الأحدث اليومية التى تحقق للمجتمع تماسكه واستقراره ، ورضوخه لمنهج الإسلام فى عمارة الأرض ، وإسعاد البشرية.
ونخلص من هذا البحث الى ان فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية نتج عنها أبرز الحضارات التى عرفها التاريخ البشرى ، من حيث تميزها فى جميع المستويات ، ومن حيث ربطها بين المادة والروح ، والدنيا والأخرة، وإعطاء الإنسان المكانة التى يستحقها ، وان الواجب الذى ينتظر ابناء الأمة الإسلامية اليوم هو الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فى هذه القيم التى تبنى الحضارات ، وتصنع التاريخ ، وبخاصة فى مبدأ الفاعلية الذى يعد فى واقعنا المعاصر أحد الأسباب الأساسية فى نهضة أية أمة .
إن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم سينتج عند ابناء الأمة المبررات الكافية للعمل والحركة لأداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة وسيرته صلى الله عليه وسلم ينبغى ان تمتزج بعقولهم وقلوبهم لما فيها من معالم هادية ، يقول محمد عبد الله دراز – رحمه الله -: ( ما ظنك بهذه الحياة النبوية التى تعطيك فى كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها ، فتريك باطنه من ظاهره ، وتريك الصدق والإخلاص ماثلاً فى كل قول من أقواله ، وكل فعل من افعاله ، بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته ، وحسنت فراسته ، يرى اخلاقه العالية تلوح فى محياه ولو لم يتكلم او يعمل (77)
4. فاعلية الجيل الفريد :
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته جيلاً فريداً من البشر اجتمعت فيهم جميع خصائص الخيرية والفضل ، والوسطية والعدل ، وكان قرنهم خير القرون ، وجيلهم من احسن الاجيال التى عرفها التاريخ الإسلامى ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم(78)
وتميز هذا الجيل من الصحابة ، واختصاصهم بالخيرية والفضل فى الزمان والمكان ، امر افرزته اسباب كثيرة لم تتوفر لغيرهم من الأجيال ، نذكر منها وجود النبى صلى الله عليه وسلم بشخصه بينهم ، فقد كان اسوتهم فى كل شئ ، وكانوا يستمدون من حياته وشخصيته كل الصفات والقيم التى تكون شخصية المسلم ، ولعل من ابرز تلك الصفات فاعليته وحرصه الشديد على اداء دوره ورسالته فى هذه الحياة ومن هنا نشأ هذا الجيل وهو يملك رصيداً حياً من مبررات الانطلاق والحركة التى أخذها وتربى عليها فى مدرسة النبى صلى الله عليه وسلم.
وإن اقتناع الصحابة برسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذى نشأ عنه ذلك الانطلاق الحضارى الكبير فى التاريخ الإسلامى ، يعد عاملاً اساسياً فى توفير البناء النفسى الكافى الذى سيعطى النفوس مبررات الحركة لعلم شئ له قيمة فى الحياة.
وهذا البناء النفسى الذى يعد شرطاً ضروياً للفاعلية استمده الصحابة من توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انسجم مع عنصر آخر اكثر أهمية هو الرؤية الحضارية ، الذى يوجه الطاقات نحو ما ينفع البشرية ، ويجعل الفاعلية سبيلاً ايجابياً يحقق الخير والمصلحة للناس.
وبهذه الروية الحضارية انطلق الصحابة – رضى الله عنهم – لتغيير العالم كله ، بعدما ترسخ لديهم ان الرسالة التى يحملونها هى المنقذ الوحيد لهذا العالم ، فهذا ربعى بن عامر – رضى الله عنه – البدوى القادم من الصحراء يخاطب رستم قائد الفرس قائلاً : (الله ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام).
ولكن يبقى السؤال : كيف وصل الصحابة الى هذا المستوى من البناء النفسى والرؤية الحضارية ؟ ولماذا لم يتكرر هذا الوضع باضطراد فى الأجيال التى جاءت بعدهم؟(79) والإجابة تقتضى ان نعرف الظروف الاجتماعية والنفسية التى توفرت لذلك الجيل الفريد.
( إنهم – فى الجيل الأول – لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاضطلاع ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ولا ليضيف الى حصيلته من القضايا العملية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته ، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى امر الله فى خاصة شأنه وشأن الجماعة التى يعيش فيها ، وشأن الحياة التى يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندى فى الميدان ( الأمر اليومى ) ليعمل به فور تلقيه ، ومن ثم لم يكن احدهم ليستكثر منه فى الجلسة الواحدة ، لأن كان يحس انه يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفى بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها . . . هذا الشعور .. . شعور التلقى للتنفيذ . . . كان يفتح لهم من القرآن آفاقاً من المتاع وآفاقاً من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاضطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله فى نفوسهم وفى حياتهم الى منهج واقعى(80)
لقد كان النبع الذى استبقى منه ذلك الجيل صافياً لم تكدره بعد فلسفات وثقافات الأمم الأخرى . من فرس ويونان ويهود ونصارى وغيرهم ، كما حدث فى فترات متأخرة من التاريخ الإسلامى ، إضافة الى ذلك معايشتهم الواقعية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعلمهم منه ربط الفكر بالعمل ، والثقافة بالسلوك ، فقد ذكروا مراراً انهم تعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً(81)(8/230)
والأمثلة على فاعلية الصحابة – رضى الله عنهم – كثيرة متنوعة ، ومن يتأمل فى سيرتهم وجهادهم لا يرى سوى صفحات مشرفة من التاريخ الذى صنعوه بجهدهم وكفاحهم ، وذلك بحصرهم الشديد على اداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة ، مع توفيق الله لهم ، وقد تعتريك الدهشة والإعجاب حين تعلم ان قبور كثير منهم موجودة خارج الجزيرة العربية.
وسنختار لك مثالاً واحداً لصاحبى جليل هو ( أبو ايوب الأنصارى) – رضى الله عنه – الذى كان شعاره الذى يردده دائماً ، فى ليله ونهاره ، فى جهره وإسراره قوله تعالى : ( انفروا خفاقاً وثقالاً) [التوبة : 41]
لم يختلف أبو ايوب عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها ، مهما يكن بعد الشقى ، وفداحة المشقة ، مرة واحدة فقط تخلف عن جيش جعل الخليفة اميره واحداً من شباب المسلمين ، لم يقتنع (ابو ايوب) بإمارته ، ومع هذا فإن الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه طول حياته.
وفى غزوة القسطنطينية لم يكد يبصر ( ابو ايوب) جيش المسلمين يتحرك ، حتى ركب فرسه ، وحمل سيفه ، وراح يبحث عن الشهادة فى سبيل الله مع كبر سنه ، وقلة زاده.
وفى هذه المعركة اصيب ، وذهب قائد الجيش يعوده ، وكانت انفاسه تسابق اشواقه الى لقاء الله ، فسأله القائد ، وكان ( يزيد بن معاوية ) ما حاجتك أبا ايوب؟ ترى ، هل فينا من يستطيع ان يتصور ، او يتخيل ماذا كانت حاجة ابى ايوب؟ لقد طلب من ( يزيد) إذا هو مات ان يحمل جثمانه فوق فرسه ، ويمضى به اطول مسافة ممكنة فى ارض العدو ، وهناك يدفنه ، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق ، حتى يسمع وقع حوافز خيل المسلمين فوق قبره ، فيدرك آنئذ ، أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز !!
وفى قلب القسطنطينية – وهى اليوم اسطانبول – يثوى جثمان هذا الرجل العظيم ، وإنك لتعجب إذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع يقولون : ( وكان الروم يتعاهدون قبره ، ويزورونه ، ويستقون به إذا قحطوا (82)
لقد حقق هذا الصحابى الجليل شروط الفاعلية حيا طيلة حياته ، وحققها وهو ميت يرنو الى انتصار الإسلام ، وعزة المسلمين وإسعاد البشرية بالدين الجديد ، وسيبقى التاريخ شاهداً على هذه النماذج البشرية الحية التى لم تكن تعرف فى حياتها سوى الحركة والجهاد والفاعلية.
5. تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى :
بلغت الفاعلية فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضى الله عنهم – أقصى درجات التوهج ، واستمر هذا الوضع بعد ذلك فى جيل التابعين ومن تبعهم بإحسان ، ولكن مع مرور الوقت ، ولأسباب سياسية واجتماعية ونفسية كثيرة بدأت الفكرة الدينية تفقد وظيفتها الاجتماعية شيئاً فشيئاً ، وبدأ مرض الكساد ينتشر فى جسم الامة.
إن الظروف التى اوصلت الأمة الإسلامية الى تفضيل جانب الغريزة على جانب الروح ، أدت الى نتائج خطيرة كان من ابرزها انقسام العالم الإسلامى الى دويلات ، وانفكاك القاعدة الاجتماعية للأمة ، حتى سقطت بغداد فى ايدى المغول ، وبدأت مشكلات السقوط الحضارى تظهر فى الآفاق ، واصبحت التحديات والأخطار تحاصر المجتمع الإسلامى من كل الجهات.
حين تفقد الفكرة الدينية وظيفتها الاجتماعية تبدأ القيم الروحية بالانحسار لتترك المجال مفتوحاً للغرائز والشهوات التى تقوم بدور المخدر الذى يدخل الجسم السليم فيسلبه كل طاقاته الايجابية ويحوله من جسم فعال متحرك الى جسم عاجز عن أداء أية حركة ، وهو الشئ الذى حدث للمجتمع الإسلامى فى فترة سقوطه الحضارى.
يقول ابن الأثير ( 630هـ) واصفاً حالة المجتمع الإسلامى زمن الحروب الصليبية : ( كانوا كجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً (83)
وكنا نجد من يقول متذمراً :
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم .:. .:. .:. ضيعوا الحزم فيه اى ضياع
فمطاع الكلام غير سديد .:. .:. .:. وسديد المقال غير مطاع
وعلى الرغم من هذه الأسباب المعطلة للطاقات ، المكبلة للقدرات التى عرفها التاريخ الإسلامى ، كنا نشهد من فترة الى اخرى تجدد الفاعلية بين ابناء الأمة لمواجهة المشكلات الصعبة التى تعترض طريقهم ، وبخاصة حيث يحسون ان الأخطار التى تهدد الأمة تمس كيانهم الدينى الذى يحفظ وجودهم ، كما حدث فى عصر الحروب الصليبية ، وما تبعه من حروب ضد الهجمة المغولية وما حدث فى العصر من ثورات ضد الاستعمار الغربى.
فإذا أخذنا مثلاً ما حدث فى فترة الحروب الصليبية نجد أن الفاعلية قد انتشرت بين ابناء الأمة كلها ، كانتشار الدم فى الجسم ليغذى جميع اجزائه ، وهذه الفاعلية الجماعية هى التى تبنى التحضر ولا مناص لمن يبتغيها ان يستخدم كل وسائل التوجيه للوصول إليها وهو ما فعله ( نور الدين زكى ) وصلاح الدين الأيوبى من بعده.
ولعل مما ساهم فى زيادة الفاعلية بين افراد الأمة فى تلك الفترة ، التزام القائمين على الأمور من الحكام والأمراء بمبادئ الرسالة التى يحملونها ، وحرصهم على ان يكونوا قدوة الناس فى الجهاد والعمل والصبر ، مما حفز الناس على زيادة العطاء والجهد.
فهذا ( نور الدين زنكى) يعيد للأمة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته فى تطبيقاته العملية ، حتى عدة المؤرخون سادس الخلفاء الراشدين ، يقول ابن الأثير : ( قد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم ار فيها بعد الخلفاء الراشدين ، وعمر بن عبد العزيز ، سيرة احسن من سيرته ، ولا أكبر تحرياً منه العدل . . . . وقد اتسع ملكه فشمل الشام وديار الجزيرة ومصر ، وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن ، وأبلى فى حروبه للفرنج ، وأسر بنفسه فى بعض الغزوات بعض ملوكهم ، وكان يعظم الشريعة ، ويقف عند حدودها ، وأنشأ من المدارس والجوامع والطرق ، والجسور ، ودور المرضى ، والبائسين ، والخانات ، والحصون ما لم يسبق الى مثله (84)
وفى فترة ( نور الدين زنكى) نجد ان سياسة الدولة اتجهت الى الأمور التالية كى تعيد الفاعلية للأمة: (85)
أولاً : إعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافة من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر.
ثانيا : صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية ، وإشاعة العدل والتكافل الاجتماعى
ثالثاً: نبذ الخصومات المذهبية ، وتعبئة القوى الإسلامية ، وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد ، وقيادة متكاملة متعارفة .
رابعاً: ازدهار الحياة الاقتصادية ، وإقامة المنشآت والمرافق العامة
خامساً: بناء القوة العسكرية ، والعناية بالصناعات الحربية
سادساً: القضاء على الدويلات المتناثرة فى بلاد الشام ، وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية .
لقد ركزت السياسة فى زمن ( نور الدين) على الإنسان المسلم باعتباره اسسا النهضة ، ودعامة البناء فى الأمة المسلمة، ولذلك الإعداد والجاهزية لمواجهة التحديات ، ( وفى هذه الخطة تكاملت المؤسسات والهيئات ، فاشتملت على التعليم الذى ركز بالدرجة الأولى على الأجيال الناشئة ، واشتلمت على التوجيه والإرشاد الذى استهدف توجيه جماهير العامة ، واشتملت على الإعداد العسكرى الذى استهدف تعبئة قوى الأمة تعبئة عامة لمواجهة الأخطار والتحديات القائمة(86).(8/231)
إن الإهتمام بالجوانب الفكرية عند ابناء الأمة – وهو ما يسمى بتوجيه الثقافة – من شأنه ان يعيد الروح فى طاقات الأمة التى كبلها العجز والتواكل ، كما حدث فى زمن الدين زنكى ، ومن بعده صلاح الدين الأيوبى ، فكان ان تجددت الفاعلية ، وعادت العافية الى الأمة لكى تواجه الأخطار التى هددت هويتها ووجودها.
وتجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى القديم والحديث دلالة عل ان الأمة المسلمة قد تعرف المرض والوهن ، ولكنها لا تعرف الفناء والذوبان ، وهى خصيصة تعود الى الإسلام العظيم الذى سيبقى فى حلبة الصراع مع الباطل الى يوم الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من امتى ظاهرين حتى يأتيهم امر الله وهم ظاهرون.)(87)
الفصل الثالث
معوقات الفاعلية ( الواقع )
لقد قررنا فى بداية هذه الدراسة ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية اليوم فى سعيها نحو المشروع الحضارى الكبير هو قلة الفاعلية فى العمل ، وعدم تقديم الجهد المطلوب ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل صائب ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب.
وإن من يعقد مقارنة بسيطة بين حال الأمة الإسلامية ، وحال غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرم مدى الفرق الواضح فى هذا المقوم الحضارى بين ما هو عندنا ، وما هو عند غيرنا ، فالفرد المسلم عندنا ما زال لا يحسن التعامل مع الأشياء بفاعلية – باستثنار حالات فردية خاصة – أما فى تلك المجتمعات فإنه يقدم اعلى درجات الفاعلية ، حتى إننا نسمع عن موت الأفراد عندهم من كثرة العمل كما هو الحال فى المجتمع اليابانى.
والذى يؤسف له ان كثيراً من المسلمين يعزون قلة الفاعلية فى الأمة الى قلة الوسائل المتاحة ، والإمكانيات الموجودة بين أيديهم ، ويرون ان الإنطلاق الحضارى لابد له من وسائل كبيرة للتغلب على مشكلات الحياة كالفقر ، والأمية ، والبطالة والكساد ، وغيرها من المشكلات ، ويجلهون ان تلك المجتمعات المتحضرة لم تكن تملك ساعة انطلاقها سوى الأشياء الآولية الضرورية لأى إقلاع حضارى، وينسون بذلك سنن الله فى التغيير التى تبدأ من الإنسان نفسه ، حين يعرف كيف يستثمر المعطيات الموجودة عنده لحيقق بها احسن النتائج فى ميدان الحضارة والبناء .
وبعضهم يعلل هذا العجز بالقضاء والقدر كما هو الحال عند اكثر العزام الحيارى ، وهو ما جعل الأمير شكيب أرسلان يصرخ قائلا:
( المسلم الجامد لا يدرى انه بهذا المشرب يسعى الى بوار ملته وحطها عن درجة الأمم الأخرى ، ولا يتنبه لشئ من المصائب التى جرها على قومه اهمالهم للعلوم الكونية حتى اصبحوا بهذا الفقر الذى هم فيه وصاروا عيالاً على اعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ، فهو إذا نظر الى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأى ، وهذا شأن جميع الكسالى فى الدنيا يحيلون على الأقدار(88)
لابد ان نعلم ان الوهن الذى اصاب المسلمين اليوم هو ما كسبت ايديهم ، وهو نتيجة حتمية لتقاعسهم عن اداء رسالتهم فى الحياة ، ومهما كانت اسباب هذا الوهن ، فهو مرض مزمن يحتاج الى علاج فعال ، يقضى عليه من جذوره.
إن هناك اسباباً نفسية واجتماعية كثيرة تقف عائقاً امام تحقيق شروط الفاعلية عند المسلمين ، وهى اسباب موضوعية منسجمة مع سنن الله فى التغيير ، اى ان توفير الظروف المناسبة ، وتوجيه المسلمين التوجيه الصحيح ، مع شأنهما ان يبعثا الحركة والحياة فى النفوس الجامدة ، ويعطيها المبررات الكافية للانطلاق من جديد .
وهذه الدراسة تحاول ان تكشف عن بعض المعوقات التى وقفت فى طريق الفاعلية عند المسلمين ، وهى معوقات كثيرة لها علاقة مباشرة بالنواحى النفسة والاجتماعية وحسبنا ان نشير الى بعض تلك المعوقات التى نراها اكثر تأثيراً فى النفوس من غيرها.
1. الخلل فى فهم العبادة :
العبادة هى حركة المسلم فى الحياة وفق النواميس الإلهية ، وهى تعنى الاعتراف لله بحق من حقوقه على العباد ( ألا له الخلق والأمر) [الأعراف : 54] وهى فى المنهج القرآنى السبب الذى قام عليه الخلق كله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [ الذاريات : 56] ، قال انب تيمية – رحمه الله -: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة(89)
ومن أهم خصائص العبادة فى الإسلام الشمول ، اى انها تتسع للحياة كلها ، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج ، بل تشمل كل حركة ، وكل عمل ترتقى به الحياة ويسعد به الناس(90)
إن كل نشاط يقوم به المسلم يدخل فى باب العبادة إذا تحقق فيه شرطا الأخلاص والصواب ، قال الفضيل بن عياض : ( لا يقبل الله عملاً حتى يكون مخلصاً صواباً )(91)
ومن هنا يتسع مفهوم العبادة ليشمل كل حركة يقوم بها المسلم ، سواء أكانت شعائر تعبدية محضة ، أم أعمالاً يومية فى مجالات الحياة المختلفة ، المهم ان تتحقق فيها النية الصادقة ، والمنهج الصائب ، وهذا هو معنى الإحسان الذى أشار إليه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(92)
وحين يدرك المسلم هذا البعد الكبير للعبادة ، وأن حركته فى الحياة كلها عبادة ، فإن هذا الفهم يمنحه تصوراً إيجابيا عن الحياة ، يصبح به شديد الحرص على تقويم اعماله وتوجيهها نحو أهداف نبيلة تحقق الخير والنفع له ولمجتمعه ، وتتسم حركته بفاعلية اكثر لوجود الحوافز المادية والمعنوية التى وضعها الشرع للعبادة.
أما حين لا يصبح للعبادة هذا المعنى الشمولى فى حياة المسلم ، تصبح العبادة فى نظره مجرد شعائر وطقوس يقوم بها يومياً ، وهى تأخذ من وقته جانباً ضئيلاً ، فإن سلوكه الاجتماعى فى الحياة سيختلف ، لأن مفهوم العبادة تقزم عنده ، فالحياة التى يعيشها كل يوم ، والنشاطات الحيوية التى يمارسها فى كل حين ، وتأخذ جانبا كبيراً من وقته ليس لها اى وزن فى مقاييس الدين عنده ، ومن هنا بدأ الخلل يتسرب الى الفكر ، وينعكس على الفاعلية.
إن الخلل فى فهم العبادة الذى تسرب الى المسلمين جعلهم يفصلون بين عمل الدنيا وعمل الآخرة ، ويقيمون جداراً فاصلاً بينهما ، ويجعلون العمل الآخروى فى مرتبة عليا لا يرتقى إليها بأية حال العمل الدنيوى من حيث القيمة المعنوية والأجر الأخروى ، وترتب على هذا الخلل فى الفهم عدم الاهتمام بقضايا الدنيا الهامة التى لها علاقة مباشرة بواقعهم الاجتماعى المعاش ، ومن هنا قل نشاطهم ، وتراجعت فاعليتهم اعتماداً على هذا التصور الخاطئ.
إن غياب الأبعاد الحقيقة لمفهوم فروض الكفاية ، وموقعها كواجبات اجتماعية ، تساهم بتماسك نسيج الأمة الاجتماعى ، وتشعر بالمسؤولية التضامنية ، وتنتهى بها الى مرحلة الاكتفاء الذاتى ، على مختلف الأصعدة ، لقد همشت فروض الكفاية ، حتى كادت تقتصر على قضايا المصير وكل ما يتعلق بحالات الوفاة ولوازمها من التغسيل والتكفين ، وحمل الجنازة ودفنها ، بعيداً عن إبراز دورها فى آفاق الحياة المتعددة فى كل ماله علاقة بمهمة الاستخلاف الانسانى والتعمير الحضارى ، واهمية تقديمها على الفروض الفردية ، وإدراك دورها فى حياة الأمة(93)(8/232)
لقد ظل المسلمون قروناً طويلة يزهدون فى فروض الكفاية التى تتصل اتصالا مباشرا بالقضايا الحياتية الهامة مثل الواجبات اليومية ، والأعمال المنوطة بعاتق كل فرد ، والزهد فى الشئ والتقليل من شأنه يورث نوعاً من التقاعس فى أدائه ، ولهذا السبب لم يعمل المسلمون بفاعلية تامة فى هذه الميادين الخطيرة ، لفقدهم الحوافز المعنوية اللازمة التى يملكونها حيث يمارسون بعض الاعمال التعبدية المحضة.
فالخلل فى فهم العبادة بمفهومها الشامل قلل من فاعلية المسلمين فى هذا العصر ، على العكس فهم سلفنا الصالح للعبادة الذى جمع بين البعد الدنيوى والآخروى ، هو المستفاد من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان اتقى الناس فى ربطه بين الدنيا والآخرة ، وهو القائل : ( إن قامت الساعة وبيد احدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقو حتى يغرسها ، فليغرسها فله بذلك أجر)(94)
إنه طريق واحد أوله فى الدنيا واخره فى الآخرة ، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما شئ واحد فى نظر الإسلام ، وكلاهما يسير جنباً الى جنب فى هذا الطريق الواحد الذى لا طريق سواه .. . وتوكيد قيمة العمل وإبرازه والحض عليه فكرة واضحة شديدة الوضوح فى مفهوم الإسلام ولكن الذى يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب ، وإنما هو إبرازه على انه الطريق الى الآخرة الذى لا طريق سواه(95)
إن الفكرة تحتاج الى فاعليو لتأخذ مكانها فى الواقع ، ولا سبيل امام المسلمين اليوم إلا الربط بين الفكر والعمل ، والعبادة والفاعلية ، ليتنبوؤا مكاناً لائقاً بين الأمم التى سلكت سبيل التحضر .
2. فقدان المبررات :
المبررات هى الأسباب والدوافع القريبة والبعيدة التى تدفع الى إيجاد نشاط فعال فى المجتمع ، فهى إذن شروط الفاعلية لأن الإنسان حين يملك المبررات يحدث عنده شعور خاص يحس من خلاله بأن لديه شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، فحدوث هذا الشعور عنده يكون سبباً لفعاليته ونشاطه(96)
والمبررات عنصر ضرورى لقيام أية حضارة لأنها توجد العمل والفاعلية ، وتحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن المبررات هى التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتوجهها الى مستوى أعلى من مستوى الحيوان الذى يحيا حياة فردية ، وهى التى تدفعها اتلى مستوى مصلحة الأخرين ، فإن فكرة الفاعلية او التوتر تمس الواقع الاجتماعى فى كل الظروف ، بحيث يضعها كل مجتمع او لا يضعها وراء اعماله وسلوكه ، فالتوتر حالة اجتماعية دل التاريخ على انها تنشأ فى ظروف معينة ثم تزول فى ظروف أخرى ، وان المبررات هى التى تكون الدوافع الإنسانية التى يدفع النشاط الى اعلى قمة(97)
وحين يفقد المجتمع مبرراته فإنه يفقد وجوده الاجتماعى وينقلب من مجتمع متحرك فعال الى مجتمع جامد ، لأن كل فرد فيه يصبح عاجزاً عن تقديم اى شئ للأخرين ، بل إنه قد يفقد الرغبة فى الحياة ويفضل الاستقالة منها عن طريق الانتحار ، سواء أكان هذا الانتحار مادياً ، كما هو الحال فى بعض الدول الغربية – أم روحياً كاتباع طريق العزلة والتصوف وفك الروابط التى تربطه بالمجتمع كما هو حال بعض ( الدراويش) فى مجتمعاتنا الإسلامية ، ومن هنا فإن فقدان المبررات فى اى مجتمع يعنى السقوط فى هاوية العجز والوهن ، وبداية الدخول فى ليل التاريخ.
وهناط ظروف اجتماعية ، واسباب دينية – فى غالب الأحيان – وراء بروز المبررات فجأة فى مجتمع من المجتمعات ، فينطلق افراده بدوافع نفسية قوية لأداء رسالة فى التاريخ ، وهذا الحال ينطبق على جميع المجتمعات التى عرفت الحضارة ، فإذا أخذنا مثلا المجتمع الإسلامى فى بداية رحلته الحضارية نجد ان المسلمين اكتسبوا من المبررات ما جعلهم ينطلقون بفاعلية كبيرة لم يشهد التاريخ مثلها ، لأنهم اقتنعوا بأنهم يملكون شيئاً فيه الخير والنفع للإنسانية ، فكان الواحد منهم يشعر بأن لديه رسالة عظيمة فى التاريخ لا يجوز ان يقوم بها احد غيره ، انها رسالة تخرج الناس وتحررهم من قيود العبودية للبشر الى عز العبودية لرب البشر.
لقد حدث فى المجتمع الإسلامى الأول انفجار للطاقات الاجتماعية التى توجهت كلها نحو العمل ، كخلية النحل ، تعمل بدقة ونظام ، كل واحد من عناصرها يقوم بعمله ووظيفته ، وتجتمع كل هذه الطاقات لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الخلية ، لقد كنت ترى المسلم يندفع بقوة وعزم ليجسد فكره فى عمل مثمر فى ميادين الحياة المختلفة ، وتراه يتسفرغ طاقته كلها ليحصل على اجر الجهاد فى سبيل الله ، وحب الجهاد عنده جعله يسأل بتوتر منقطع النظير عن الشئ الذى يعدله او يفوقه حتى يعمل به ، فعن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال : قيل يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين او ثلاثتً ، كل ذلك يقول: لا تستيطعونه ثم قال : مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم لا يفتر من صلاة وصيام ، حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله(98)
ومن هذا الفهم للعبادة ، ولرسالة الجهاد يبدو لنا الجهد الكبير فى موقف الصحابى الجليل ( عمار بن ياسر) الذى حمل حملين بدل حمل واحد كما كان يعل كل صحابى فى مشروع بناء المسجد النبوى(99) ، وهذا مثال واحد من فيض كثير من المواقف البطولية التى سجلها التاريخ للمسلمين الأوائل.
لقد كان للمبررات التى جاء بها الإسلام دور كبير فى إحداث التوتر الاجتماعى الذى يدفع الى العمل والحركة بقوى وفاعلية ، ولهذا السبب كون ابناء الإسلام حضارة متميزة خلال فترة قصيرة من الزمان.
ولكن – مع الأسف – ومع مرور الزمن بدأ الفتور يمتد الى عزائم المسلمين وبدأت نفوسهم تفقد شيئاً فشيئاً توهج الروح ، كل ذلك نتج عن فقدان المبررات ، حتى وصل بهم الأمر الى الخروج من دائرة التحضر ، وقديماً حاول العلماء المجددون إعادة المبررات النفقودة الى المجتمع الإسلامى ، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحديثاً حاول ويحاول رجال الإصلاح وحركات الصحوة الإسلامية إعادة تلك المبررات الى ابناء الأمة ، وتوجيه الطاقات نحو بناء المشروع الإسلامى من جديد.
إن توفر عنصر المبررات فى الأمة الإسلامية يعنى حياة جديدة لها ( يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال : 24] لأن المبررات هى بمثابة الوقود الذى يبعث الحياة فى الأجسام الخاملة، وهى السبب فى ارتفاع درجة الفاعلية التى تشيع فى جميع افراد الأمة من صغيرها الى كبيرها ، ومن رجالها الى نسائها فإن هذه المفاهيم كالغيث إبان الربيع يساهم فى تحريك النباتات والبراعم فى كل مكان(100)
ونخلص الى ان فقدان المبررات هو أحد المعوقتا الأساسية التى جعلت المسلم فى هذا العصر يشعر أنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين مما ساهم فى تقليل نشاطه ، وتفتير عزائمه ، وجعله مسلماً عاجزاً لا يقدر على جلب احترام الاخرين له.
3. ضعف الإيمان :
الإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ، وهو الذى يبث إشعاع الروح فى الضمائر والنفوس فينقلها من عالم الموت الى عالم الحياة ، وقد قرر بعض علماء الاجتماع ( أن الحضارة تولد مرتين: أما الأولى : فميلاد الفكرة الدينية ، وأما الثانية : فهى تسجيل هذه الفكرة فى الأنفس (الإيمان) اى دخولها فى أحداث التاريخ(101)(8/233)
فأية حضارة فى طور النشوء لابد ان تنبنى على فكرة دينية يؤمن بها اناس بدائيون ، وهذا الإيمان يمنحهم من المبررات ما يجعهم بنطلقون بحرارة وقوة لتحقيق رسالتهم الحضارية ، وينطبق هذا على جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، ومن هنا كان الإيمان مقوماً حضارياً ، وليس فلسفة نظرية ليست لها أية أبعاد اجتماعية.
وإذا أخذنا الحضارة الإسلامية – مثلاً – نجد ان الإيمان بالفكرة الجديدة قلب هؤلاء العرب البسطاء من أجلاف متناحرين ، الى دعاة اسلاميين تتمثل فيهم رسالة الإسلام بما فيها من قيم حضارية ، ومبادئ اخلاقية تنفذ الإنسان من ضيق الأرض وترفعه الى سعة السماء ، لأنهم اقتنعوا بأن ايمانهم يجعل منهم اصحاب رسالة خالدة ، وليس مجرد إيمان بارد ليس له أية رسالة فى الحياة.
إن الإيمان رسالة فى الحياة ، وليس مجرد فلسفة نظرية – كما هو الحال عند كثير من الناس – وبما انه رسالة فى الحياة فإن له ابعاداً اجتماعية كثيرة لعل ابرزها توفير المبررات اللازمة للإنطلاق الجماعى نحو التحضر ، ومنح المسلم الفاعلية الكافية لتغيير الواقع الفاسد ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [ آل عمران :110]
أما حين يصبح الإيمان إيماناً جذبياً – اى مادياً – دون إشعاع ، أعنى نزعة فردية ،فإن رسالته التاريخية تنتهى على الأرض إذ يصبح عاجزاً عن دقع الحضارة وتحريكها , إنه يصبح إيمان رهبان , يقطعون صلاتهم بالحياة , ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم(102)
فالإيمان قوة روحية تدفع المجتمع بكامله نحو أداء رسالته الحضارية ، وذلك بدينهم ، فهم بلا شك مقتنعون – على الأقل من الناحية النظرية – بأن دينهم حق ، ومن يحاول ان يقنع المسلمين فى هذا الجانب فإنما يضيع وقته ، ولكن الذى ينقصهم هو الاقتناع بأن لهم رسالة يقتضيها ويتطلبها هذا الإيمان ، وبذلك اصبح الإيمان عندهم مجرد عقيدة باردة ليس لها اى بعد اجتماعى.
ومن هنا ينبغى لنا ألا نخلط بين الايمان كعقيدة فردية تطلب النجاة فى الأخرة ، والإيمان كرسالة اجتماعية تسعى نحو النجاح فى الدنيا والآخرة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن الإيمان لم يفقد مطلقاً سيطرته فى العالم الإسلامى ، حتى فى عهود الانحطاط ، بل ان هذه الملاحظة تصبح جوهرية حين يكون الأمر امر تقويم أخروى للقيم الروحية ، أما حين نتناول المشكلة من الوجهة التاريخية والاجتماعية فينبغى ألا نخلط بين نجاة المرء فى عاقبة امره ، بتطور المجتمعات(103)
إن المسلمين اليوم فقدوا الرغبة فى العمل والعطاء ، وتسرب إليهم الوهن والعز لضعف إيمانهم ، وفتور هممهم، فالقوة الإيمانية التى دفعت اسلافهم نحو البناء الحضارى ، لم تعد تملك الوقود اللازم الذى يتمثل فى شرارة الروح ، ووضوح الفكرة ، وبذلك اصبح المسلمون عاجزين عن اداء رسالتهم الحضارية ، لأن من يفقد قوة الدفع اللازمة ، سيبقى ثابتاً فى مكانه يدور حول نفسه.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديث القصعة المشهور حالة الأمة حين تفقد رسالتها الإيمانية فيقول : ( يوشك ان تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة الى قصعتها) قالوا : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل : ولينزعن الله فى صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن فى قلوبكم الوهن ، قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت(104)
إن هذا الحديث يقدم تفسيراً واضحاً للأزمة الحضارية التى تمر بها الأمة الإسلامية فى هذا العصر ، مع ما لديها من كثرة فى العدد ، ووفرة فى الوسائل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف الأمة بالغثائية ، وهى تعنى فقدان الفكر والمنهج ، لأن السبيل المتدافع ليس له هدف يسير إليه ، وهو فى سيره يحمل ركاماً من الأشياء التى ليس لها اية قيمة فى نظر الإنسان ، وهذه الغثائية التى تتجلى فى فقدان الفكر والمنهج هى نتيجة حتمية للوهن او اللافاعلية ( وليقذفن فى قلوبكم الوهن) ، أما الظروف الكامنة وراء وصول الأمة الى حالة الغثائية فهى بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حب الدنيا وكراهية الموت) وبتعبيرنا نحن ( ضعف الإيمان) او فقدان الرسالة الاجتماعية.
إن حب الدنيا وكراهية الموت يعنى التخلى عن رسالة الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهى الرسالة الاجتماعية التى يقتضيها الإيمان بالله تعالى ، ومن هنا كان ( ضعف الإيمان) أحد المعوقات الأساسية امام المسلمين فى هذا العصر ، فقد دب فيهم مرض الوهن ، وتسرب إليهم العجز ، واصبحوا يشعرون بأن رسالتهم فى هذا الزمان محدودة ، وأنهم لا يملكون شيئاً يمكن ان يقدموه للأخرين ، وهذا العجز اطمع الأمم الأخرى فيهم ، لأن الضعف – كما يقول المثل – يغرى بالعدوان .
4. التقليد :
التقليد هو الصورة المضادة للاجتهاد ، وهو يعنى اخذ القول دون دليل او برهان ، قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: ( التقليد ثلاثة انواع ، احدها : الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء ، الثانى : تقليد من لا يعلم المقلد انه اهل لأن يؤخذ بقوله ، الثالث : التقليد بعد قيام الحجة ، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد(105)
والتقليد مذموم فى الشريعة الإسلامية لأنه من الظواهر السلبية فى الحياة الفكرية للأمة – وقد ذمه القرآن الكريم وعبر عنه بالآبائية التى تعنى اتباع الآباء ، أو من لهم رأى أو سلطة دون دليل او برهان ، قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) [ البقرة : 170] ، وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) [ المائدة:104]
أما الإجتهاد فقد عبر عنه القرآن الكريم ( بالبرهانية) أى الدعوة الى اتباع الدليل والبرهان للوصول الى الحقيقة ، وترك التقليد المذموم الذى يقود الى الجهل والعصبية ، قال تعالى : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [ البقرة : 111]
إن التقليد عامل طارئ على العالم الإسلامى ، فلم يكن معروفاً فى القرنين الأول والثانى ، وقد توافرت جملة من الأسباب النفسية والاجتماعية التى أدت الى ظهوره فى العصور المتأخرة ولعل أبرز هذه الأسباب قصور الهمم عن الاجتهاد بعد ان بدأ المجتمع الإسلامى يفقد شيئاً فشيئاً مبرراته الاجتماعية(106)
لقد كان علماء السلف يحذرون من خطر التقليد حتى انتشرت بينهم المقولة الشائعة : ( لا تقلدنى ولا تقلد مالكاً ولا الشافعى ، ولا الاوزاعى ، ولا الثورى ، وخذ من حيث اخذوا)(107)
وحين اصبح التقليد يهدد ثقافة الأمة قامت صيحات كثيرة تدعو الى الاجتهاد وترك التقليد ، كما حدث مع ( ابن حزم الظاهرى) الذى صرخ بأعلى صوته ( التقليد حرام)(108) ، لأنه شعر بأن التقليد المذهبى قيد الكثير من الطاقات الفكرية ، وجعلها تدور فى دائرة ضيقة لا تخرج عنها ، وكما حدث مع ابن تيمية – رحمه الله – الذى كثيراً ما ذم التقليد واتباعه ، وهو الذى يقول ( لا يجب على احد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء فى كل ما يقول ، ولا يجب على احد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما يوجبه ويخبره به ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم(109)(8/234)
وقد حذر كثير من العلماء فى عصرنا الحديث من خطر التقليد الذى اضعف القاعدة الفكرية للأمة ، منهم محمد رشيد رضا – رحمه الله – الذى يقول : ( إن فى تحريم التقليد) وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ، ولا يعذر صاحبه به فى الآخرة لتأكيداً شديداً لإيجاب العلماء الاستقلالى الاستدلالى فىالدين(110) ، وقال مالك بن نبى – رحمه الله -: ( ان التقليد الخلفى يقتضى التخلى عن الجهد الفكرى حتماً ، أى عن الأجتهاد الذى كان الوجهة الاساسية للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى(111)
إن التقليد هو مرض من الأمراض الفكرية التى أثرت بشكل مباشر فى مسيرة الأمة الإسلامية ، وكانت من العوامل المساهمة فى اقولها ، وإن من يستقرئ تاريخ الاجتهاد فى حياة الأمة الإسلامية ( يلاحظ ان هناك علاقة عنصرية بين ازدهار هذا الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وإن ضعف الأمة وتخلفها كان من وراء تخلف الاجتهاد وضعفه ، وهذا يعنى ان الاجتهاد مناط القوة والتقدم للأمة الإسلامية ، لأن مدلوله لا ينصرف الى استنباط الأحكام العلمية فحسب ، ولكنه يشمل كل مجالات الحياة المختلفة من حيث إنه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين(112).
وإذا كان الاجتهاد قوة محركة للطاقات الفكرية نحو العمل والفاعلية ، فإن التقليد عامل يصيب الأمم بالسلبية والكساد ، ويؤثر تأثيراً سلبياً فى التفاعل الحضارى وتقدمه ، وإن من يتأمل فى حال بعض الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرك أنها تخلصت من الافكار الميتة الموروثة ، وجددت قاعدتها الفكرية والثقافة بتوفير كل الظروف للاجتهاد والبحث العلمى الجاد حتى يبقى المجتمع متجدداً فى فكره وفاعليته ، وهو ما حدث (لليابان) حين اتخذ موقفاً تاريخياً من الأفكار الموروثة من عهد ( الشوغون)(113)
وفى الواقع المعاصر ما زال التقليد منتشراً بين الكثير من ابناء الأمة الإسلامية حتى على مستوى المذاهب الفقهية ، ومع حداثة الوسائل فى نشر ( التراث) ، وتحقيق المصادر القديمة ، وطبع المراجع الحديثة ، ما زالت الهمم مقيدة بحبل التقليد والتبعية ، وباستثناء بعض الأنماذج الفردية التى تسير فى طريق الاجتهاد – ما زال العمل الاجتهادى بعيداً عن اداء رسالته الحضارية الجماعية .
ونخلص الى نتيجة مهمة وهى ان التقليد بمظاهره المختلفة هو احد الاسباب المعطلة للفاعلية فى الأمة ، وإنه لا سبيل الى التحضر إلا بنبذه وبث روح الاجتهاد والبحث العلمى الجاد بين جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم.
5. التعصب المذهبى والحزبى :
إن وحدة الأمة الإسلامية فى العلم والمنهج ، والثوابت والأهداف هى الركن الأساس الذى قامت عليه الدعوة الإسلامية الموجهة الى الناس اجمعين ، ولقد استجاب لها المسلمون فى اول عهدهم فاكسبتهم قوة وغلبة عزت بها الدينية فانتشرت ، وانتصرت وصدت من عارضها ، ففتحت امامها الطرق ، واتسع لها الأفق ، واصبحت عنواناً للإسلام ومصدراً لتفجير الطاقات المعلطة ، ووسيلة لتوجيه النفوس المكبلة.
ولقد دعا القرآن الكريم الى اجتماع الأمة كلها على منهج واحد ، وعدم الاختلاف والتفرق فيه قال تعالى : ( إن هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) [ الأنبياء :92] ، وقال ايضاً : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخواناً) [ آل عمران :103] وقال ايضا : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيات) [ آل عمران:105]
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد(114)، ولم يكن شئ ابغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ، ولو فى الأمورالعادية والاختلاف الذى ذمه صلى الله عليه وسلم ليس ذلك الاختلاف الطبيعى الذى جبل عليه الناس ، وإنما ما كان داعياً الى الخصومة والنزاع ، يقول محمد رشيد رضا – رحمه الله -: ( لما كان الاختلاف فى الفهم والرأى من طباع البشر ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )[هود : 118 – 119] خص الاختلاف المذموم فى الإسلام بما كان عن تفرق او سبباً للتفرق ، وجرى على ذلك السلف الصالح ، فحظروا فتح باب الآراء فى العقائد واصول الدين ، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور من غير تأويل ، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية ، ولا سيما المعاملات ، وكان بعضهم يعذر كل من خلفه فى المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته فى فهمه(115)
لقد جاء التوكيد فى مصادر الوحى على أن ملة الإسلام هى ملة واحدة ، وان المستحق للعبادة والخضوع هو الله وحده ، وعلى اساس هذه القاعدة يجب الاجتماع والوحدة ولكن الذى أحدثه المسلمون – بعد القرنين الأول والثانى – هو تمزيق هذه الوحدة الجامعة ، حيث جعلوا دينهم مجموعة من المذاهب والأحزاب و ( كل حزب بما لديهم فرحون) [ المؤمنون :53] ، وكان هذا التفرق سبباً رئيساً فى تردى الأمة وضعفها ، وأدى الى مشكلات حضارية وفكرية ما زالت تعانى منها الأمة الإسلامية حتى الان .
إن هناك اسباباً اجتماعية وفكرية وسياسية كثيرة كانت وراء ظهور المذهبية والحزبية فى تاريخ الأمة الإسلامية لعل ابرزها الاختلاف فى نظرية المعرفة بتن المسلمين , مما أدى إلى ذلك الخلل فى فهم مراد الله , وهذا أدى بدوره إلى تفكيك القاعدة الفكرية , وتجزئة التصور الإسلامى , حتى وصل الأمر بالمسلمين إلى تكفير القاعدة والإصل , وانتشر بينهم الحديث الموضوع :" اختلاف أمتى رحمة "(116) الذى كان له دور سلبى فى
ضعف الأمة , وزعزعة تماسكها الداخلى 0
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :" إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله , وهو عبادة الله وحده لا شريك له , كما أمر به باطناً وظاهراً , وسبب الفرقة ترك حظ ما أمر العبد به , والبغى بينهم , ونتيجة الجناعة رحنة الله ورضوانه وصلواته , وسعادة الدنيا والأخرة , وبياض الوجوه , ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه "(117) 0
فسبب الانسجام والوحده بين المسلمين ـ كما يرى ابن تيمية ـ هو الولاء المطلق لله ولرسوله وللمؤمنين الذين ينتمون إلى المبدأ نفسه لأن هذا الولاء من شأنه أن يؤسس شبكة العلاقات الاجتماعية التى تجتمع لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الدين والأمة 0
وإذا كانت المذهبية الفكرية سبباً أساسياً فى الفرقة بين المسلمين قديماً , فإن الحزبية التى اتخذت أشكالاً سياسية ودينية وعرقية وغيرها 000 هى من أهم عناصر الاختلاف فى هذا العصر , حتى إنك تجد الخلاف عميقاً ضمن الاتجاه الواحد , وقد يصل أحياناً إلى المجابهة المادية (118) , مما أوهن قوى الأمة الإسلامية ، وقلل من احترامها امام الأمم الأخرى التى تتربص بها الدوائر.
إن التجمع الحزبى هو فى حقيقتهخ وسيلة من الوسائل التى يلجأ إليها لتحقيق اهداف كبرى ، والمتأمل فى تاريخ الأحزاب عامة يجد ان اى حزب منها هو فى الغالب ثمرة فكر رجل واحد تجلت لديه بعض القدرات الاجتهادية ، ثم يتجمعه حوله مجموعة من الأتباع يتخذون من تجمعهم وسيلة لتحقيق غايات زعيمهم النظرية ، ولكن الذى يحدث مع مرور الزمن – وبخاصة بعد وفاة الزعيم – هو تقليد الأتباع لزعيمهم ودورائهم فى فلك افكاره ، ويحدث عن هذا التقليد نوع من التعصب للأفكار يصبح بعدها الحزب غاية فى حد ذاته ، الأفكار التى تخالف مبدأه ، ويصبح لسان حاله وقاله يقول: لن أبنى نفسى إلا إذا هدمت غيرى !.(8/235)
وإذا كانت الأحزاب فى بعض الدول المتحضرة أدوات فعالة تتاسبق كلها لخدمة المجتمع ، فإنها فى بلادنا الإسلامية عاجزة عن توجيه الطاقات – باستثناء بعض النماذج الإسلامية – وهى فى اغلبها بؤر لتجميد تلك الطاقات ، حيث انها تقيدهم بقيود الحزبية ولا تعطيهم مجالاً للتحرك خارج إطارها ، حتى وإن كان ذلك إبداعاً أو إجتهاداً او نقداً ذاتياً بناء.
إن توجيه العمل والفاعلية فى مرحلة التكوين الاجتماعى عامة يعنى سير الجهود الجماعية كلها فى اتجاه واحد(119) ، ومع وجود التعصب الحزبى والمذهبى لا يمكن تحقيق الوحدة الفكرية والثقافية بين المسلمين.
6. فقدان الحرية ( القهر ) :
يعد مصطلح (الحرية) من اكثر المصطلحات شيوعاً فى هذا العصر ، ومن اكثرها دوراناً على الألسنة ، واستخداماً بين الناس ، فما من مذهب دينى او علمانى او لاهوتى ، وما من زعيم مخلص أو مقهور او مخادع . إلا وتجده داعياً الى مبدأ الحرية ، واضعاً إياه على رأس قائمة الأولويات ، وذلك لما لكلمة (الحرية) من سحر وجذب وسيطرة على النفوس ، ولا شك أن توجيه الجماعات فى هذا العصر اصبح يعتمد على تلك الوعود بتوفير الحرية ، وكسر قيود العبودية والأذلال.
ولقد ظلت ( الحرية) على مدار التاريخ عرضة لعلميات ( تحجيم) ماكرة يراد منها ان تخدم مصالح بعض اصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون اصلاًَ بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من (سلطات) إضافية ، تضاف الى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت(120) ، ولم تعرف البشرية معنى (الحرية) الحقة إلا فى ظل الإسلام الذى جعل العبودية لله طريقاً لتحرير الإنسان ، كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب - ، يقول جوستاف لوبون : ( تشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض ، وفى هذه السهولة سر قوة الإسلام ، والإسلام وإدراكه سهل ، خال مما نراه فى الأديان الأخرى ، ويأباه الذوق السليم ، خالياً من التناقضات والغوامض ، ولا شئ اكثر وضوحاً وأقل غموضاً من اصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد ، وبمساواة جميع الناس امام الله)(121)
ومبدأ مساواة الناس جميعاً امام الله هو اساس التحرر البشرى من عبودية الإنسان ، هذه العبودية التى تتخذ ألواناً شتى ، وإن من أشدها خطراً ، وأبعدها أثراً من خضوع الإنسان لإنسان مثله ، يحل له ما شاء متى شاء ، ويحرم عليه ما شاء كيف شاء ، ويأمره بما اراد ، فيأتمر ، وينهاه كما يريد فينتهى ، وبعبارة اخرى يضع له ( نظام حياة )(122)
لقد جاء الإسلام ليعلن تحرير الإنسان من عبودية البشر ، قال تعالى : ( يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننل وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضا أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران:64] ، وهذا هو المفهوم الإسلامى للحرية ، المفهوم الذى يجعل الإنسان حراً كلما خضع فى تصوراته ومناهجه لله ، وإن هناك فرقاً كبيراً بين هذا المفهوم ، ومفهوم الفلسفة الغربية الحديثة التى تجعل الإنسان حراً فى كل شئ ، ولا توجد قيود تقيده ما دام هو واضع المناهج والتصورات ، وقد قادت هذه الحرية التى التناقض والاختلاف ، والى سيطرة الأهواء البشرية والشهوات الإنسانية وما زال الإنسان عبداً للإنسان.
إن شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كان يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسهخ كان يعيطه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لانقاذ البشر المكبلين بحبال العبودية ، وقد كان قولهم : ( جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد) رصيداً حضارياً يجوبون به الأفاق ، ويحررون به البشر.
لم تكن ( الحرية) عند المسلمين شعاراً براقاً ليس له أية علاقة بالواقع العملى ، ولم تكن أكذوبة يضحكون بها على الناس ، كما تفعل القوى الكبرى اليوم مع الشعوب المقهورة ، وكما هو الحال فى مبادئ حقوق الإنسان التى خلفتها الثورة الفرنسية ، التى أثبت الواقع العملى انها فكرة تجسد سيطرة الإنسان القوى على الإنسان الضعيف.
إن الحرية تربى وتطلق الطاقات(123) ، وهى وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وحين تفقد (الحرية) يحل محلها القهر والاستعباد وتتراجع النفوس عن أداء دورها ورسالتها الحضارية.
وإن نظرة فاحصة الى واقع ( الحريات) فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة تقودنا الى تسجيل بعض الملاحظات منها:
أولاً: كان لخروج الاستعمار من البلاد الإسلامية إيجابيات كثيرة منها : عودة الشعور بالحرية ، وعودة الأمل عند المسلمين لبناء حياة جديدة يسودها الخير والعدل والمساواة ، ولكن لم يكتمل الشعور ، ولم يتحقق الأمل لوجود عقبات أخرى انشأتها الظروف الجديدة.
ثانياً: الأنظمة المختلفة التى قامت بعد الاستعمار وعدت المسلمين بالحرية شريطة الرضا بالأوضاع القائمة حتى وإن كان فيها مخالفة واضحة للإسلام ، وحين قامت قوى الرفض تطالب بتصحيح الاوضاع قوبلت بالقهر المادى والمعنوى ، ودفنت الحرية فى ليل الزفاف بثوبها.
ثالثاً : أصبح المسلم يشعر بنوع من القهر الاجتماعى يقيد حركته ويعطل نشاطه وبخاصة حين يحمل فكرة تغييرية فى المجتمع ، بحيث يمارس المجتمع ضده نوعاً من القهر ، ليجعله فى نظر الناس إنساناً شاذاً يعيق حركة المجتمع نحو التقدم والتطور ، ومن هنا استطاعت بعض الأنظمة والأوضاع ان تقيم حاجزاً بين الناس وبين الدعاة العاملين.
رابعاً: كان القهر الاجتماعى والسياسى سبباً فى هجرة كثيرة من المسلمين الى بلد تشيع فيها بعض الحريات مما أعطاهم دوافع جيدة للفاعلية والإبداع ، فى مجالات مختلفة من الحياة ، وتسبب هذا فى تفريغ بلاد المسلمين من طاقاتها العاملة .
ويبقى أن نشير الى أن فقدان الحرية هو أحد معوقات الفاعلية الأساسية التى تعيق الحركة ، وتقلل النشاط ، وتكبل الطاقات.
7. حالات نفسية سلبية :
ذكرنا فيما سبق ان البناء النفسى هو من اهم مقومات الفاعلية ونقصد بالبناء النفسى جاهزية النفس من حيث توفر المبرر ، ووجود الوقود لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة.
وعملية البناء النفسى هذه ليست بالعملية السهلة ، لأن النفس البشرية هى ذات تركيب معقد ، ويتطلب بناؤها وتغييرها شروطاً كثيرة ، ولكنها شروط موضوعية تخضع للسنن الاجتماعية التى بينها الله سبحانه فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )[الرعد:11]
وقد تشترك اسباب وظروف اجتماعية كثيرة فى نشأة بعض الحالات النفسية السلبية التى تقف عائقاً امام الشروط اللازمة لبناء نفسى متكامل، ولعل أخطر هذه الحالات تأثيراً فى النفوس حالة اليأس والقنوط التى تسبب السلبية ، وتفقد مبررات العمل ، وتقلل من الفاعلية ، وقد تقود احياناً الى العزلة والتصوف ، أو الى الانتحار والاستقالة من الحياة.(8/236)
وحلاة اليأس والقنوط تقود كذلك الى فقد الثقة بالنفس ، والرضا بالواقع بما فيه من سلبيات وعيوب ، ولخطر هذه الحالة على الأمة الإسلامية لا زال كثير من العلماء والدعاة يحذرون منها ، ويدعون الى القضاء على اسبابها ، يقول الأمير شكيب ارسلان: ( قد انضم الى الجبن والهلع اللذين اصابا المسلمين اليأس والقنوط من رحمة الله ، فمنهم فئات قد وقر فى انفسهم ان الإفرمج هم الأعلون على كل حال ، وإنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه ، وإن كان مقاومة عبث ، وإن كل مناهضة خرق فى الرأى ، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر فى صدور المسلمين امام الأوروبيين الى ان صار هؤلاء ينصرون بالرعب ، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين(124)
ويقول محمد احمد الراشد : ( وفى المسلمين اليوم إحباط وتراجع وانسحابية ونفسية انهزامية لا يعالجها إلا وجود مثل هؤلاء القدوات الذين يتركون الخنادق والمعتزلات وينزلون الى مخالطة الناس_(125)
إن هذه الحالات النفسية السلبية التى أصابت المسلمين فى هذا العصر ، هى نتيجة حتمية لفقد المبررات ، فأصبح المسلم مع هذا الفقدان يشعر بأنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين ، وبدل ان يبحث عن مبررات جديدة راح يلعن الواقع ، ويفرغ سخطه على الإعداء ، مما اكسبه نفسية انهزامية وافقده الرغبة فى الحركة نحو التغيير.
وإن من أخطر النتائج المترتبة على حالات اليأس والقنوط التى اصابت بعض المسلمين فقدان الثقة بالإسلام نفسه . ونسب العجز له لا لأتباعه ، وترتب على ذلك نشوء جماعة من أبناء المسلمين يدعون جهاراً الى الحداثة والتغريب ، وهم يرمون من وراء الدعوة الى الحداثة والتجديد ، الاستغناء عن قيم الإسلام التى يرونها لا تتناسب مع العصر ، وانه لا سبيل الى الحضارة إلا بالسير على منهج ( الغرب) ، واقتفاء اثرهم فى كل شئ ، وإن هذه الدعوة الخطيرة هى فى حقيقتها محاولة لإيجاد مبررات جديدة ، ولكن بمنهج خاطئ.
إن الإسلام لا يمكن ان يكون سبباً فيما اصاب المسلمين من تخلف وتراجع وانهزامية ، بل إنه قوة دافعة ، وعامل محرك ، يحارب العجز ، ويمقت التواكل ، وينبذ القنوط ( قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) [ الزمر :53] ، (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) [ يوسف :87] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ فى إصباحه وإمسائه من الهم والحزن ، والعجز والكسل(126) ، ولحرصه الشديد على نفسية المسلمين الإيجابية ، كان يستعمل كل وسائل التربية والتوجيه حتى تبقى النفوس مؤمنة فعالة ، يقول عبد الله بن سمعود – رضى الله عنه : ( كان رسول صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة خشية السآمة )(127)
هذا فى مستوى الوعظ الذى كان يراعى فيه صلى الله عليه وسلم مقامات النفوس ، شخية ان تتسرب إليها السآمة والملل واليأس ، وحتى لا تفقد الوقود الروحى الذى يمنحها الدوام والاستمرارية والفاعلية .
ونخلص الى ان اليأس والقنوط والانهزامية هى رحالات نفسية نتجت عن فقدان المبررات فى المجتمع ، فالمسلم مع ابتعاده عن حرارة الايمان ، وإشعاع الروح ، اصبح يشعر انه إنسان لم يخلق لأداء رسالة فى الحياة ، وان الواقع الذى يعيشه ناقم عليه ، ولم يجدد سبيلاً للخروج من هذا المأزق سوى اللعن والقنوط ، ونسى انه يدل ان يلعن الظلام فليوقد شمعة.
إن الفاعلية تتعلق أساساً بقضايا نفسية معقدة ، وقد حاولنا فى هذا الفصل ان نذكر بعض المعوقات التى رأينا أنها اكثر تأثيراً فى نفوس المسلمين من غيرها ، ولا شك ان هناك عوامل أخرى تساهم فى قلة الفاعلية او إنعدامها ، تتعلق بالبيئة والمحيط الاجتماعى ، وبالثقافات السائدة ، والثقافات المستوردة ، وبالأفكار الميتة ، والأفكار القائلة ، وبنظرة المسلم عامة ، وبمركزه فى الحضارة الحديثة.
الفصل الرابع
مقومات الفاعلية ( الطموح )
1. الإقتناع أولاً:
الفاعلية حركة ، والحركة تحتاج الى وقود يعطى النفوس دفعاً الى الأمام ، وقوة نحو العمل والإنتاج ، وبما أن الإرتفاع الى مستوى الشهادة لا يكون إلا بفاعلية – اى بمساهمة كل فرد فى المجتمع بنصيبه فى البناء – فإن البحث عن الوقود الضرورى لها هو من اهم الغايات التى تسعى نحوها جميع الحركات السائرة فى طريق التحضر.
وإذا بحثنا عن هذا الوقود الضرورى للفاعلية فى جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، فإننا سنجده فى ذلك الإشعاع الروحى الذى يدخل النفوس فسيحولها من نفوس حائرة كاسدة ، الى نفوس مؤمنة متحركة ، تعرف طريقها ، وتسعى بوعى لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة .
والحضارة الإسلامية انموذج واضح لدور القيم الايمانية فى تغيير النفوس ، وبناء الحضارات ، فحين مست شرارة الروح أولئك العرب البسطاء حولتهم من بدو متناحرين الى دعاة اسلاميين ، يحملون رسالة الخير والعدل لإنقاذ البشرية الضالة ، وقد استطاعوا فى فترة قصيرة ان يكونوا حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى.
ولم يكن الإيمان فى حس المسلمين الأوائل الذين صنعوا الحضارة فكرة نظرية ، او عقيدة لاهوتية ، او دعوة انعزالية ، او ثقافة ترفية - بل كان رسالة تغييرية ، وفكرة واقعية ، ودعوة حضارية لها دور تريد تجسيده فى الواقع ، وبهذا الفهم يصنع التاريخ ، وتبنى الحضارات ، وهو فهم غائب عن كثير من المسلمين فى واقعنا المعاصر.
لقد قمنا – فى فصل سابق – إن المسلمين اليوم لا ينقصهم منطق الإيمان كعقيدة فردية ليس لها اى بعد اجتماعى ، ولكن ينقصهم الحياة ، والحركة اى ان يتحول هذا الإيمان الى رسالة تغييرية فى الحياة ، ويمكننا ان نقول ان شروط الإقناع لم تتحقق بكاملها عندهم ، اى ان هناك خللاً فى عملية الإقناع بالرسالة الاجتماعية للإيمان لدى الغالبية العظمى منهم.
إننا نرى ان المسلمين اليوم لم يحققوا شروط الإقناع الكامل برسالة الإيمان الاجتماعية والحضارية ، لأن الاقتناع عملية نفسية تشارك فيها جميع قوى النفس ، ولا يمكن فى هذه العملية ان نفصل بين العقل والعاطفة ، لأن إرضاء أحدهما لا يعنى بالضرورة رضا الأخر ، فقد يميل العقل الى حجة او برهان فى حين تجد العاطفة مضطربة غير مطمئنة لذلك الموقف(128)
فالمسلمون يدركون بالعقل ان الايمان ضرورة حياتية ، ولكنهم فى الوقت نفسه يشبعوا جانب العاطفة والضمير بفكرة ان الايمان رسالة اجتماعية ، وذلك راجع الى سيطرة الغرائز على الأفكار ، ومن هنا لم يتحول اقتناعهم الناقص الى إرادة وعمل ، ويمكننا فى هذه الحال ان نشبههم بحالة الإنسان المدخن الذى تجده مقتنعاً بعقله بضرر التدخين ، ومع ذلك لا يستطيع تركه والإقلاع عنه لسيطرة قوى العاطفة عليه بتسجيلها الإحساس باللذة ، ولهذا كانت عملية الإقناع ناقصة لوجود الموانع كالشهوة وغيرها.
إن الإقتناع هو امتزاج الأمر الشرعى بالعقول والقلوب ، بحيث يتحول هذا الاقتناع مباشرة الى إرادة وعمل ، واى خلل فى هذه العملية سيعطل الإرادة ، ويفقد العمل ، وهذا الاقتناع ضرورى للمسلمين فى هذا العصر ، لأن فاقد الشئ لا يعيطه ، ولأن الفكرة الكامنة فى النفوس إذا لم تتحول الى رسالة متحركة فى الحياة ، فهى كالماء المخزون فى سنام البعير .
كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
ويقول مالك بن نبى – رحمه الله – إن المسلم لا يستطيع ان يقوم برسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين إلا إذا حقق كمنطق خاص لرسالته كل شروط الإقتناع ، وكل شروط الأقناع(129)(8/237)
وهو يقصد بشروط الاقتناع ، ان يقتنع المسلم بأنه له رسالة يجب ان يقدمها للآخرين ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير فى داخله ، وفى أغوار نفسه ، وحوله فى محيطه الخاص او فى محيطه العالمى(130)
وإن المسلم الذى يكره الموت ويحب الدنيا – كما جاء فى حديث القصعة – وهو مسلم انحرف عن مسار الرسالة التى خلق من اجلها ، وهو عاجز عن اداء دوره الاجتماعى ، واستحق بذلك وصف ( الغقائية) ووصم ( الوهن) .
وإنه لا سبيل الى الحياة عاملة نشيطة إلا بعودة الشعور الحركى للمسلم ، الشعور الذى يرفعه من مستوى (الأنا) الى مستوى (النحن) ، والذى يمنحه الوقود اللازم للانطلاق نحو كسب احترام الاخرين له بما يؤدى من عمل ، وبما يزرع من خير ، وبما يقدم من جهد ، وهذا هو دورالشهادة على الناس الذى ينتظره منه كل الناس .
إن المسلم اليوم فى حاجة ماسة الى الاقتناع برسالته وبدوره الحضارى ، وهذا الاقتناع الذى سيمنحه وقوداً لأداء وظيفته بفاعلية وثبات ، وسيكون بذلك واراثاً للنبوة ، وداعياً الى الوسيطية والعدل ، ومنقذاً للبشرية التائهة ، ومنفذاً لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم قوماً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)(131)
2. المبررات والبناء النفسى :
المبررات هى الدوافع التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتدفعها الى اعلى مستوى من النشاط والفاعلية ، وهى أحد العوامل الأساسية فى البناء النفسى لأى شعب يريد التحضر ، وهى مثل الكريات الحمراء فى الدم إذا فقدت لسبب من الأسباب ، أصيب الجسم كله بمرض (فقر الدم) الذى يكسب الجسم ضعفاً ووهناً .
والإسلام هو مجموعة من المبادئ والقيم الروحية التى جاءت لتزود البشرية بمبررات جديدة ، لتحيا حياة حقيقة وفق منهج إلهى شامل ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [ الأنفال : 24] ( وكذلك اوحينا إليك روحاً من آمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا) [الشورى :52] ، فهذه الروح الموحى بها والتى لا قوام للجسد إلا بها ، ما هى إلا تلك المبررات التى تعطى للإنسان قيمته الاجتماعية ، وتحوله من إنسان ضال الى إنسان يسير على هدى وبصيرة( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] .
والمتأمل فى القرآن الكريم يدرك انه دعوة عالمية محدودة التكاليف يسيرة الرسالة ، وإنما كثرت سوره ، واستبحرت اياته لكى يتسنى عرض الحقائق الدينية فى اسلوب عامر بالإقناع ، فياض بالأدلة (132) ، ولأنه يريد ان يهدم الأسس الفكرية للمناهج الباطلة ، ويبنى النفوس بناءاً نفسياً قائماً على مبررات جديدة ، فيها كل مقومات العمل الايجابية.
وكذلك جاءت السنة النبوية لتزود المسلم بمبررات وجوده ولتذكره دائما بدوره ورسالته فى الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة : ( لئن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)(133)
ويقول محمد المبارك : ( إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد ، والشرك والجهل والتغيير ، بل محاربة هذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها ، وما يصاب به الإنسان من مرض او هلاك نفس او مال ، عليه ان يدفعه عن نفسه(134) وهذه المفاهيم الإسلامية هى التى تحدد مركز المسلم فى هذا العالم المتصارع ، كشاهد على الناس فى فكرة وسلوكه ، بما لديه من قيم حضارية ، فيها الخير والسعادة للاخرين.
ومرت الأمة الإسلامية – بعد عصرها الذهبى – بظروف اجتماعية وسياسية ونفسية سيطرت فيها الغرائز والإهواء ، وسادت فسيها العصبية والشحناء ، حتى تكالبت عليها الأمم ، وطمع فيها الأعداء ، وظهر هذا الإنحراف بشكل واضح فى طبقة القائمين على امور المسلمين ، حتى قال فيهم ابن الأثير قولته المشهورة : ( كانوا كالجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً)(135)
وهذا الوضع الذى وصلت إليه الأمة بعد فقدها للمبررات التى كانت تمنحها الحركة ، والحياة فى اول امرها ، جعل الدعاة المصلحين والمجددين ينهضون بعزم وثبات لأعادة الأمة الى وضعها الطبيعى ، ولتغيير تلك المبررات المفقودة بأخرى جديدة ، مثلما يجدد العود حياته بعد يبسه ، ومثلما يغير الفجر ثوبه بعد غسله.
وما الصحوة الإسلامية التى شهدها العالم الإسلامى كله إلا ثورة لأعادة تلك المبررات المفقودة الى الأمة ، وبناء الجيل الجديد بناءاً نفسياً يتجاوز كل العقبات والمعوقات للسعى نحو إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، واستئناف الحياة الإسلامية من جديد ، وما زالت الجهود المقدمة لا تصل الى مستوى الطموح الذى تسعى إليه الصحوة ، وهو ان يحمل كل مسلم هم تبليغ رسالته ، والإرتفاع بسلوكه الى مستوى الحضارة.
إن على المسلم اليوم ان يشعر بأنه يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، وبخاصة فى هذا العصر ، الذى تتصارع فيه الأفكار والثقافات ، واصبح لزاماً على كل شعب ان يقدم ما يملك من امكانيات حتى يعلم حظه بين الشعوب(136)
ودور المسلم يتمثل فى تحقيق الممارسة التطبيقة والسلوك العملى للآية الكريمة ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [ آل عمران: 104] ، فإذا ما تحقق هذا المبدأ فى سلوكه فإنه سيوفر لرسالته شروط الفاعلية والنشاط ، وسيجلب احترام الاخرين له بما لديه من قيم شرعية.
إن الفاعلية تكون اقوى فى الوسط الذى ينتج اقوى الدوافع ، وأقوم التوجيهات ، وأنشط الحركات(137) وهى نتيجة طبيعية للمبررات التى تدفع المسلم نحو العمل ، وتحرره من القيود التى تشل تفكيره وحركته ، وإنه لا سبيل امام المسلم اليوم إذا أراد ان يمارس دور الشهادة على الناس ، فى هذا العصر الى تتهاوى فيه القيم والأخلاق ، إلا العودة الى ينابيع الوحى ليغرف منها مادة الحياة ، ويمزجها بشعوره وفكره ، ثم ينطلق الى الواقع ليعمل بيده ، وقلبه ، وفكره ، ليصنع تاريخاً مشرفاً فيه ارضاء لله ورسوله ، وللأجيال القادمة من بعده.
ومسؤولية هذه الأزمة الحضارية التى تعانى منها الأمة الإسلامية اليوم تقع عل عاتق كل مسلم يؤمن برسالته فى الحياة ، وبخاصة ذلك المسلم الذى تهيأ نفسياً وعملياً لقيادة الأمة ، وتوجيه الطاقات ، وتفجير القدرات ، وهو الدور الغائب فى واقعنا المعاصر .
3. النظرة الإيجابية:
النظرة الايجابية فى الحياة هى التى تحدد موقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى التى تحدد ايضا مكانته وقيمته الاجتماعية فى الحياة ، لأنها سبب فى العمل والحكرة ، وعامل فى الفاعلية والعزم ، وهى فى حقيقتها تجسيداً لمبدأ التوكل على الله الذى يربط فيه المسلم بين الثقة بقدر الله ، وبين الأخذ بالأسباب التى نصبها الله لعباده .
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : ( من تمام التوكل استعمال الأسباب التى نصبها الله لمسبباتها قدراً وشرعاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه اكمل الخلق توكلاً ، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة والبيضة على رأسه ، وقد انزل الله عليه ( والله يعصمك من الناس) [المائدة :67] (138)(8/238)
والمسلم اليوم ؛ إما انه يخطئ فى فهم التوكل على الله ، فيركن إلى التواكل ، ويترك العمل بالأسباب ، وإما انه يعمل بالأسباب ولكن يمنهج خاطئ ، وذلك حي? ينظر الى الأشياء بنظرة فيها تساهل وغباء مما يقود مالك بن نبى – رحمه الله : ( نحن ننظر الى الأشياء على انها (سهلة) وهو قائد ولا شك الى نشاط اعمى ، وإما ان يأخذ النظرة إليها على انها ( مستحيلة) فيصاب النشاط بالشلل(139)
فالنظرة الى الاشياء عند المسلم ينبغى ان تتسم بالإيجابية التى لا تعرف إفراطاً ولا تفريطاً ، ومثل هذه النظرة المعتدلة ستمكنه من التفاعل مع الواقع بثقة وحزم ، وفاعلية وعزم ، وأن عليه تقديم العمل الصائب ليحصل على أحسن النتائج ، أما إذا تخلفت النتائج فسيكون مطمئناً راضياً بقضاء الله وقدره.
ولنا فى القرآن الكريم انماذج حية لمواقف المؤمنين الإيجابية تجاه الأشياء ، فمن ذلك قصة ( ذى القرنين) ذلك الرجل الذى طاف مشارق الأرض ومغاربها ناشراً للعدل والفضيلة ، قامعاً للظلم والرذيلة وهو يمثل انموذجاً رائعاً للمسلم الفعال الذى لا يعرف عجزاً ولا جبناً ، وانظر معى الى موقفه الايجابى تجاه المشكلات التى واجهته ، قال تعالى : ( ثم اتبع سبباً . حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض فهل نجعل لك خرجاً على ان تجعل بيننا وبينهم سداً . قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً . آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال أتونى افرغ عليه قطراً . فما استطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقباً . قال هذا رحمة من ربى فإذا جاء وعد ربى جعله دكاً وكان وعد ربى حقا) [ الكهف: 81 – 89]
إن موقف ( ذى القرنين ) متسم – كما هو ملاحظ – بالايجابية فى التعامل مع هذه المشكلة وتظهر الايجابية اولاً فى التوكل على الله ( قال ما مكنى فيه ربى خيرا) ثم فى الأخذ بالأسباب ( آتونى زبر الحديد) ، ثم فى الاستعانة بالسنن ( ثم اتبع سبباً) ، وهذا الموقف الايجابى هو الذى حقق تلك النتائج العظيمة ، التى لم يحققها فاتح فى تاريخ البشرية.
إننا لم نلاحظ فى موقف هذا العبد الصالح اى نوع من انواع التبرير او السلبية او العجز ، فهو لم يلجأ الى الدعاء مثلاً لتبرير عجزه ، ولتخليص هؤلاء الكسالى من بغى يأجوج ومأجوج ، وهو ايضا لم يعتمد على منطق الاستحالة لرد عدوان هؤلاء المفسدين ، بل انطلق لحل الأزمة معتمداً على الله ثم على ما بين يديه من وسائل بشرية.
وهناك قضية اخرى تتعلق بموقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى ان بعض المسلمين يعتقدون ان العمل الناجح لا يؤدى بالضرورة الى النتائج المرجوة ، وهذه النظرة قد تؤدى بهم الى تقديم العمل دون فاعلية كافية لأنهم لا ينتظرون نتيجة إيجابية لجهدهم المقدم.
يقول جودت سعيد : ( إن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعى الصالح هو من اشد المعوقات التى تمنع المسلمين من مراجعة اعمالهم ونقدها ، لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ بل يفرضون انها كانت صائبة ولكن لم تأت النتيجة لأمر اراده الله(140)
ولا ينبغى ان نخلط هنا بين من يعتقد بأنه يملك العمل ولا يملك النتائج ، وبين من يعمل اى عمل دون مراعاة شروط الصواب ، ثم يقول: إن النتائج بيد الله ، ويحمله تعالى تبعة اخطائه.
إن على المسلمين اليوم إذا ارادوا ان يزيلوا عنهم وصف الغثاثية – وهم بهذا الكم الهائل- ان ينطلقوا الى الحياة بأفق حضارى واسع ، ويخلعوا عنهم لباس الوهن ، وينظروا الى الواقع نظرة إيجابية تبعد كل دواعى اليأس والقنوط ثم ليوقنوا بأن نصر الله لن يتخلف عنهم إذا هم حققوا النصر على انفسهم و ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11]
وهذه النظرة الإيجابية من شأنها تزويد المسلمين بالطاقة والفاعلية ، لأنها جزء من الإيمان ، ( هذا الايمان الذى لا يمس قلب شخص إلا ويكون أول اعماله تقديم ماله وروحه فى سبيل الايمان ، لا يراعى فى ذلك عذراً ولا تعله ، وكل اعتذار فى القعود عن نصرة الله فهو اية النفاق ، وعلامة البعد عن الله )(141)
4. التوتر والحماس الذاتى :
التوتر هو نوع من الحيوية الدافعة التى تميز اى مجتمع فى بداية حضارته ، وتستمر معه هذه الحالة طيلة رحلته الحضارية ، وهو ايضا حماس ذاتى يدب فى المجتمع فينطلق جميع افراده لانقاذ انفسهم ، وتحقيق وجودهم ، وتطوير مجتمعهم .
ويرى مالك بن نبى – رحمه الله – ان التوتر الذى يمد المجتمع بالفاعلية ما هو إلا حالة نفسية يمكن ان نسميها قلق ، وليس المقصود هنا الحالة النفسية المرضية ، وإنما هو حالة صحية لأنه علامة الحياة الأولى ، وعلامة الولادة الجديدة ، فإن الطفل يستبشر أهله بولادته ولادة سليمة حينما يبكى ، يقول – رحمه الله - : ( نحن إذ يعترينا القلق فى حياتنا نشعر بأنا قد ولدنا ولادة جديدة ، فقد عشنا قرونا طويلة لا نشعر فيها بأى قلق ، فحياة جدى رحمه الله كان يحتويها جو من الطمأنينة فقد كان رجلاً فاضلاً مؤمنا يقوم بواجباته كمسلم ، ولكنه لا يشعر فى يوم من الأيام بوجود المشكلات تواجهه رويداً رويداً وبدأ يشعر شيئاً ما بالقلق ، ثم أتى جيلنا فتعلقت على رأسه الاف من المشكلات ، ونقط الاستفهام ملحة للجواب عليها ، ملحة لدارستها لأنها تتصل بجوهر الحياة كيانناً(142)
ولكن كيف يحدث هذا الشعور بالقلق ، وما هى الظروف التى تنشئ حالة التوتر التى تبعث الحياة فى المجتمع.
إن الشعور بالخطر هو السبب الذى يضع الإنسان امام تحدى مشكلاته ، ويشكل عنده ما يسمى بحالة ( إنقاذ) وأول ما يكون من اثر هذه الحالة فى فنسه أنها تحرمه الشعور بالإستقرار بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع ، بتغيير الأشياء بالوقوف امام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة فى شعور الفرد ، سواء اكان الواقع يؤيد هذا الشعور أو لا يؤيده(143)
والشعور بالخطر ليس باعثاً دائماً لحالة القلق التى تدعو الى الحركة نحو التغيير ، إلا إذا صاحب هذا الشعور دافع ايمانى قوى ، لأن كثيراً من الأمم والشعوب تحاصرها المشكلات ، وتهددها الأخطار ، ولا تجد عندها اى شعور بالقلق يدفعها الى تغيير وضعها ، وذلك لفقدها الطاقة الايمانية الضرورية فى مثل هذه الظروف.
وقد ظهرت حالة التوتر بشكل واضح فى بداية الإنطلاقة الإسلامية ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، أول إنسان مسته شرارة الروح ، فكان ان شعر بالقلق بعد نزول الوحى عليه ، هذا القلق الذى سيكون من اقوى الدوافع لديه نحو الحركة ، والتغيير وقد سجل القرآن الكريم والسنة النبوية هذه الظاهرة التى حدثت للرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) [ الكهف :6] ، وقال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) [ فاطر : 8] ، فسلوك النبى صلى الله عليه وسلم هنا ناتج عن حرصه الشديد على إنقاذ أمته ، وقلقه المستمر على تغيير الوضع الجاهلى السائد ، ولذلك وصف فى القرآن بأنه ( حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) [ التوبة : 128](8/239)
وتسجل كتب السيرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم عانى من القلق فى نفسه فى بداية امره ، هذا القلق الذى سيقوده الى مواجهة المشكلات التى يعانى منها مجتمعه وسيظهر صلى الله عليه وسلم عبقرية ذات رحابة لا مثيل لها ، مستهدياً بالوحى الذى يجئ حاملاً دائماً الشعاع العلوى ، والكلمة الأخيرة، وسيكشف الرجل عن ذكاء عجيب ، وعن حكم على قيم الأشياء ، وعلى نفسية الرجال ، منزه تقريباً عن الخطأ ، كما يكشف عن إرادة لا يعتريها الوهن (145)
إن هذه الإرادة التى لا يعتريها الوهن ، وهذا الحماس والحيوية والتوتر الذى تجسد فى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون أحد مقومات الفاعلية فى الأمة الإسلامية التى ورثت كل صفات الكمال عن نبيها صلى الله عليه وسلم ويبقى وقوداً دائماً لها لمينحها الحياة المتجددة.
وإذا كانت حالة التوتر والحماس لأداء الرسالة الحضارية قد قلت او انعدامت فى الأمة الإسلامية اليوم ، فإنها فى امم اخرى اكثر حرارة وتوقداً ، ومثال ذلك ما يشهده شعب يهود من فاعلية وتوتر وحماس لتحقيق اهدافه الكبرى ، فهو قد استمد هذه المقومات الأساسية من طبيعة الديانة اليهودية ، وواقعها التاريخ ، واستوحى العديد من التعاليم والعقائد الدينية التى تداخلت فى نسيج الحركة الصهيونية الرامية الى الاستيلاء على فلسطين ، وجعلها قاعدة انطلاق لاستعمار يهود فى العصر الحديث(146) يقول: (هرتزل) مؤسس دولة يهود : ( نحن نشعر برابطتنا التاريخية فقط عن طريق إيمان الأباء والأجداد . .. فالإيمان يوحد فميا بيننا ، والمعرفة تمنحنا الحرية(147) وهو يقصد أن إيمان بالعقيدة اليهودية سيبقى المحرك للطاقات ، والموحد للصفوف عند جميع يهود.
وهناك شعب أخر ما زال يحقق التفوق تلو التفوق فى ميادين الحضارة وهو الشعب اليابانى الذى عرف منذ انظلاقه فى القرن الماضى ( سنة 1868) توتراً وفاعلية وحماساً بين جميع افراده ، وحقق بذلك انتصارات كبيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، وجلب احترام الأمم والشعوب له ، ,اصبح عندهم أنموذجاً يقتدى به.
إن التوتر والحماس الذاتى هما شرطان أساسيان للفاعلية المرجوة عند المسلمين فى هذا العصر ، ولن يحصل ذلك إلا بالإيمان والإرادة ، وكما يقول الأمير شكيب ارسلان – رحمه الله : ( إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وجدت الإرادة وجد الشئ المراد(148)
5. المحيط الاجتماعى ( الثقافة) :
المحيط الاجتماعى هو الثقافة التى تعكس حضارة معينة ، وكل مجتمع له ثقافته التى تميزه عن بقية المجتمعات ، من حيث العادات والتقاليد والقيم ، ومن حيث – وهذا هو المهم – السلوك الحضارى ، والذوق الجمالى ، والعمل الحركى.
فالثقافة التى تيمز الحضارات ليست مجموعة من المعارف النظرية التى يتعملها الإنسان – كما يعتقد كثير من الناس – ولكنها سلوك عملى فى المجتمع يحدد مستواه الفكرى وقيمته الاجتماعية ، ومن هنا كان المبدأ الاخلاقى والذوق الجمالى من العناصر الأساسية فى الثقافة ، لأنهما ينتجان الفاعلية ، أو ما يسميه مالك بن نبى ( بالمنطق العملى ) .
إن كل ثقافة تتضمن علاقة ( مبدأ اخلاقى – ذوق جمالى ) تكون ذات دلالة عن نوع عبقرية مجتمع معين ، وهى ليست تطبع إنتاجه الأدبى بطابع خاص فحسب ، وإنما تحدد اتجاهه فى التاريخ ايضا(149) لأن المبدأ الأخلاقى هو الذى يكون شبكة العلاقات الاجتماعية التى تتجه كلها فى اتجاه واحد نحو البناء والتكوين الحضارى ، أما الذوق الجمالى فهو الذى تنبع منه الأفكار ، وتتجه نحوه الأعمال.
وإذا كان للثقافة هذا البعد الاجتماعى ، فينبغى ان نوضح الخلاف الجوهرى بين الثقافة التى تتضمن كشرط اولى تحديد الصلات بين الأفراد ، وبين العلم الذى لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء ( فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة غير انه لا يجد فى نفسه الدوافع التى تجعله يتصورها كعمل ، فى حين ان الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقى الذى يكون أساس ثقافته الى عمليتين : عملية هى مجرد علم ، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل(150)
إن من أبرز الملاحظات فى القرن العشرين ان الفرد اصبح يؤثر بثلاثة مؤثرات هى : الثقافة ، والعمل ، والمال ، وتعد الثقافة احد الأسلحة الفعالة المستخدمة فى قضية الصراع الفكرى بين الشرق والغرب ، بل إننا نشهد صراعاً ثقافياً بين المجتمعات الغربية نفسها.
وإن أمام المسلم فى هذا القرن تحديات حضارية كبيرة منها التحدى الثقافى الذى يفرض عليه منطق الفاعلية ان ينتصر فيه ، لأنه كى يتمكن من مجابهة الثقافات الخاصة بمجتمعات اليوم المتحركة يجب عليه ان يعيد الفاعلية للدين الإسلامى لتأخذ مكانها بين الأفكار التى تبنى الحضارة وتصنع التاريخ.
ومع ان المحيط الاجتماعى الذى يتربى فيه المسلم اليوم اكسبه بعض العادات السيئة كحب الراحة والسكون ، وتفضيل العجز والتواكل نظراً للخلل الموجود فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، إلا أن التحديات الحضارية تفرض عليه توجيه ثقافته وسلوكه نحو العمل الذى وحده يخط مصير الأشياء فى الإطار الاجتماعى ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير نفسه اولاً ، والارتفاع بها الى مستوى الحضارة.
لابد للمسلم اليوم ان يعرف ان المعرفة التى يملكها لا قيمة لها إذا لم تتحول الى ثقافة متحركة ، وقوة دافعة ، وإذا لم تساهم فى توحيد العلاقات الاجتماعية ، واجتماع الجهود الفردية والجماعية لتصب كلها فى خدمة الأمة الإسلامية ، والعمل على إخراجها من الأزمة الحضارية التى تعانى منها.
6. الاجتهاد وروح المبادرة:
لقد تحدثنا فى مبحث سابق عن العلاقة العضويى بين ازدهار الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وان ضعف الأمة وتخلفها كان من ورائه تخلف الاجتهاد وضعفه ، وذلك باتباع ( التقليد) الذى اصاب القاعدة الفكرية للأمة بالسلبية والكساد.
والاجتهاد عملية عقلية وفق ضوابط خاصة تتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، فالمجتهد ينظر فى الأدلة النصية كالقرآن والسنة ، او يستهدى روح الشريعة ومقاصدها ويبذل جهده فى سبيل التعرف على الحكم الشرعى (151)
وهو عملية تتطلب أقصى الجهد فى معرفة الحقيقة سواء أكانت شرعية ام اجتماعية ام ثقافية ام سياسة وغيرها ، اى انه نشاط فكرى يشمل جوانب الحياة المختلفة ، من حيث انه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين.
لقد كان الاجتهاد سمة بارزة للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى ، وكان قوة دافعة نحو الفاعلية والعمل فى كل الفترات التى عرفت نهضة وازدهاراً فى التاريخ الإسلامى ، وقد دلت التجارب الاجتماعية ان الاجتهاد بالنسبة للأمة الإسلامية لا يعدو كونه جامعاً بين الفكر والواقع فحسب ، بل هو روح تبعث الحياة المتجددة فى الأمة ، وترقى بها الى مستوى الأمم التى تصنع التاريخ.(8/240)
وفى هذا القرن وقعت الأمة الإسلامية فى خطأ كبير من حيث لا تدرى ، فقد اعتقدت ان طريق التطور والاجتهاد يكمن فى تقليد الغرب ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( حينما استيقظت الشعوب العربية الإسلامية على خطر الاستعمار ، فقد كانت يقظتنا الفجائية دافعاً من دوافع الحياة ، وفى الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ ، فكان مثلنا كنائم استيقظ فجأة فوجد النار فى غرفته ، ودون اى تفكير ألقى بنفسه من نافذة الغرفة التى هى فى الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار ، فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد فى هوة التقليد حتى ننجو من الاستعمار ، اننا لم نفكر فى الخلاص تفكيراً معقداً ، وإنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليد حضارة الاستعمار حتى نعصم انفسنا منه(152)
إن التقليد – سواء أكان للغربيين ام لغيرهم – قد جمد الكثير من الطاقات الفكرية المتعطشة الى الإبداع وتقديم الجهد الفكرى الذى يجسد شخصية الأمة وطابعها الحضارية ، وما على الأمة الإسلامية اليوم ان هى أرادت الخروج من ازمتها الحضارية إلا إعادة روح الاجتهاد الى ابنائها ، وذلك بتشجيع روح المبادرة ، وتوفير ظروف الابداع ، واطلاق الحريات ، وإعطاء الحوافز المادية والمعنوية ، فكل هذه الأسباب من شأنها ان تعيد للأمة حيويتها وفاعليتها.
فالاجتهاد المطلوب اليوم هو ذلك سيعيد للأمة عافيتها فى جميع مجالات الحياة ، وينبغى ان يهتم بالجوانب التالية:
اولاً: تصفية الأفكار الميتة ( وهى بعض الأفكار الموروثة التى ليس لها اى سند شرعى ، أو بعد حضارى )
ثانياً : تنقية الأفكار القاتلة ( وهى بعض الافكار المستوردة التى فيها نوع من التهور وليس التطور)(154)
ثالثاً: تشجيع موهبة النقد الذاتى – وبخاصة فى ميدان العمل الإسلامى – حتى تقوم الأعمال ، وتصحح الأخطاء.
7. الحافز والحرية :
إن الحرية تربى وتفجر الطاقات ، وهو وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وقد ذكر فى مبحث سابق ان شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كما يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسه كان يعطيه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لإنقاذ البشر المكبلين بحبال القهر والعبودية.
أما فى واقعنا المعاصر فإن المسلم اصبح يشعر بنوع من القهر ، ولم يعد يملك الحرية الكافية للحركة والعمل ، وذلك للقيود التى وضعها الواقع الاجتماعى والسياسى فى المجتمعات الإسلامية بعد خروج الاستعمار منها ، وإن المتتبع لمسيرة الصحوة الإسلامية يدرك مدى القيود والعقبات التى وضعت فى طريقها من قبل اعدائها فى الداخل والخارج حتى تشل حركتها ، وتقيد حريتها ، وتجهضها فى مهدها.
ومع هذه الظروف كلها مازال المسلم يطمح فى ان يحال بينه وبين الواقع ، وان ترفع عنه تلك القيود التى تكبله ، وانه لينظر احترام الى تلك المجتمعات التى حققت لأفرادها بعض الضمانات الاجتماعية مثل العدل والحرية ، ويرجو ان تعود الفاعلية الى الأمة الإسلامية بعودة الحس الإيمانى وقيم الخير والعدل والحرية.
والى جانب اهمية الحرية فى تفجير الطاقات ، وتوجيهها نحو العمل المبدع ، والنشاط المتقن ، لابد من توفير عنصر آخر ضرورى لتحقيق شروط الفاعلية وهو الحافز المادى والمعنوى الذى يساهم فى خلق المبررات التى تحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة.
إن الحافز المعنوى يأتى فى الدرجة الأولى من حيث الأهمية ، فهو الباعث للشعور الذى يدفع الإنسان نحو الحركة والعمل ، وهو عامل اساس فى إيجاد الإرادة ، وتوجيه الثقافة ، ومن هنا يلاحظ فى الشريعة الإسلامية ذلك الربط القوى بين المبادئ والحوافز المعنوية لمنح الإنسان جملة من الدوافع المؤدية الى العمل ، ومن هذا الجانب يفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى مبايعة الأنصار حديث قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه انفسكم وازواجكم وابناءكم ولكم الجنة )(155) والوعد بالجنة حافز كرره الرسول صلى الله عليه وسلم مع كثير من الوفود التى قدمت لمبايعته ونصرته.
أما الحافز المادى الذى يقلل كثير من المسلمين من اهميته ، فهو على درجة كبيرة من الأهمية فى رفع مستوى الفاعلية ، لأن له ابعاداً اجتماعية كثيرة منها توفير الأمن الاجتماعى والإطمئنان النفسى ، وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمال خديجة حتى يستطيع تأدية رسالته قال تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى) [ الضحى : 8] ، ويأتى وعد الله للمؤمنين بالتأييد المادى فى ساعات الشدة كما فى قوله تعالى : ( وإن خفتم عليه فسوف يغنيكم الله من فضله)[التوبة: 28] ، وقوله تعالى فى مقام الإمتنان : ( وإن خفتم إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فئاواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)( [الأنفال :26]
إن الإسلام دين واقعى يراعى حالات النفوس ، ويلبى حاجات الناس الفطرية ، وما اهتمامه بتوفير الحافز المادى للنفس البشرية إلا دليل على واقعيته ووسطيته ، وإنا نظن ان كثيراً من المسلمين حين فقدوا الحوافز المادية لسبب من الأسباب قل نشاطهم ، وخف تحمسهم للعمل ، مع العمل ان الواحد منهم حين يتوفر لديه هذا الحافز فى اى ظرف من الظروف تجده يقدم اقصى الجهد ، ويعمل ليلاً ونهاراً كى يحقق شيئاً فى حياته ، وإن كثيراً من العقول المهاجرة ترفض الرجوع الى بلادها الإسلامية لجملة من الأسباب لعل ابرزها فقدان الحوافز المادية ، ومن هنا فقد العالم الإسلامى كثيراً من طاقاته الإبداعية لهذا السبب.
ونخلص الى ان توفير الحافز والحرية يساعد فى رفع مستوى الفاعلية عند المسلمين ، وإنه لا سبيل الى تحسين المسلم إلا بتوجيهه نحو العمل ، وإقداره على ان يتجاوز وضعه المألوف.
8. الوقت وسنة التغيير:
الوقت بالنسبة للإنسان المتحضر عملة نادرة لا يضاهيها الذهب ولا الفضة ، لأنه يعلم انه الحياة التى يحيا ، والواقع الذى يعيش ، وهو يعرف ان قيمته الاجتماعية ، ودوره الحضارى مرتبطان بالساعات اليومية التى يقدم فيها عملاً ، ويبذل فيها جهداً.
لقد عد الوقت من العناصر الأساسية التى تكون الحضارات ، فما من شعب يستيقظ ليبدأ رحلة التحضر إلا ويصبح للوقت عنده قيمة لا تقدر بثمن ، ولا تقوم بمال ، وتستمر قيمة الزمن ، لأنه يتحول الى عدم ، وقد اقتضت سنة التغيير الاجتماعى ان يكون الوقت احد الوسائل الهامة فى قلب الأحوال ، وتغيير الظروف ، ومن هنا كان لزاما على الإنسان الراغب فى تغيير نفسه ان يصبح الوقت لديه اغلى شئ فى الحياة.
إن الشعوب التى دخلت التاريخ المعاصر قد عرفت الفاعلية فى مجالات الحياة المختلفة بسبب تقديرها لقيمة الوقت ، وأهميته فى اللحظات الحاسمة التى تخطط مصير المجتمعات ، وإننا لنشهد الأن صراعات حضارية يعد الوقت فيها احد مقومات الرقى والتحضر لكونه يخط مصير الأشياء ويرتبط بمستقبل اية امة تطمح الى صناعة التاريخ.
وإننا لنعجب مثلاً للشعب اليابانى الذى بدأ نهضته فى القرن الماضى ، وجلب احترام الأمم والشعوب له بما حقق من مكاسب وانتصارات فى ميادين العلم والتحضر ، كل ذلك كان نتيجة قراره التاريخى بالتوجيه نحو الحضارة والاستفادة من الوقت ، ومنح الإنسان اليابانى جميع الضمانات كى يحقق وجوده.(8/241)
أما العالم الإسلامى اليوم فإن الوقت لديه شكل ثقباً فى مشروعة الحضارى ( فحظ الشعب العربى والإسلامى من الساعات كحظ اى شعب متحضر ، ولكن . . . عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والاطفال الى مجالات العمل فى البلاد المتحضرة .. . اين يذهب الشعب الإسلامى ؟ تلكم هى المسألة المؤلمة . . . فنحن فى العالم الإسلامى نعرف شيئاً يسمى ( الوقت) ولكنه الوقت الذى ينتهى الى عدم ، لأننا لم ندرك معناته ولا تجزئته الفنية ، لأننا لا ندرك قيمة اجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف الى الأن فكرة ( الزمن ) الذى يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ(156)
إذن لم يتحدد مفهوم الوقت عند المسلم من حيث دخوله فى الفكرة والنشاط ، مع ان شعائر الإسلام كلها تؤكد قيمة الوقت(157) ولهذا كان واجب الإنسان المسلم نحو وقته ان يحافظ عليه كما يحافظ على ماله ، بل اكثر منه ، وان يحرص على الاستفادة من وقته كله ، فيما ينفعه فى دينه ودنياه ، وما يعود على أمته بالخير والسعادة ، والنماء الروحى والمادى ، وقد كان السلف – رضى الله عنهم – أحرص ما يكونون على اوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها ، يقول الحسن البصرى : أدركت أقواماً كانوا على اوقاتهم اشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم(158)
ويقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( نحن فى حاجة ملحة الى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكى نعوض تأخرنا(159) وإن الفاعلية التى نرجو ان يتصف بها المسلم فى واقعنا المعاصر لا يمكن ان تكتمل شروطها إلا بنظرة جديدة تعيد الوقت قيمته فى الحياة.
الفصل الخامس
توصيات
1. دور العلماء :
العلماء هم ورثة الأنبياء – كما ورد فى الحديث الصحيح(160) ووراثة النبوة تعنى استمرار الوظيفة النبوية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وذلك بقيام العلماء بالدور نفسه الذى أداه طيلة حياته الجهادية ، وهو دور حمل الرسالة ثم تبليغها ، قال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاًَ تقيلاً) [المزمل :5] وقال ايضا : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة :67]
ومن هذا الواجب الثقيل اصبح العالم مكانة عظيمة فى الإسلام باعبتاره وراثاً للنبوة ، وقائداً وموجهاً للأمة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الأمر منكم ) [المائدة : 67]
وأولى الأمر الذين تجب طاعتهم هم العلماء العاملون ، وهو تفسير جمهور السلف – رضى الله عنهم (161)
وقبل الحديث عن الدور الذى ينتظر العلماء لابد من توضيح أمرين :
أولاً : تحديد صفة العالم الذى يريده الإسلام ، لأن نظرة كثير من المسلمين اليوم الى العالم قد شابها كثيراً من الخطأ ، وعدم الوضوح ، فكثيراً ما يخلطون بين العالم وغير العالم ، ويترتب على ذلك مواقف فى غاية الخطورة ، فالعالم الذى يريده الإسلام هو العالم العامل – بتعبير الأقدمين – وهو المهيأ نفسياً وعلمياًَ لقيادة الأمة – بتعبيرنا الحديث – وبدون صفة العمل التى تجعل منه وريثاً للنبوة ، لا يمكن بأية حال اعتباره من علماء الأمة الموثوق بهم.
ثانياً : إزالة تلك المفهومات الخاطئة التى ترسبت فى عقول كثير من المسلمين عن العلماء ، وذلك بربطهم بين العلم والكم المعرفى ، أو ما يمكن ان نسميه ( بالبنكية ) فى المعرفة ، اى كثرة المعلومات ددون ان يكون لها أية وظيفة حياتية ، يقول سيد قطب – رحمه الله -: ( اليوم لا قيمة للمعرفة التى لا تتحول لتوها الى حركة ، لا قيمة للدراسات الإسلامية فى شتى مناهجها وشتى معاهدها ، لا قيمة لاكتظاظ رفوف المكتبات بالكتب الدينية ولا باكتظاظ الأدمغة بمضومنات هذه الكتب ، إذ ليس هذا هو الإسلام ، وليس هذا هو العلم الدينى ، العلم شئ يزاول فى الحياة ، ويطبق فى المجتمع ، ويعيش فى الواقع ، ويتمثل فى نظام(162)
فالعلم الذى تحتاج إليه الأمة وهى تعيش أزمتها الحضارية هو ذلك العلم الذى يزاول حياة المسلمين ، ويحدد مصير الأشياء عندهم ، ويوجه سلوكهم نحو العمل والفاعلية ، أما إذا اصبح العلم ترفاً فكرياً أو وسيلة للانتفاع والتنافس الفردى فإنه لن يقدم للأمة شيئاً ، بل سيكون عاملاً سلبياً يساهم فى ترسيخ العجز والضعف.
إن الدور المنتظر من العلماء هو تحريك الأمة والارتفاع بها الى مستوى الشهادة وذلك بالتركيز على جانبين :
أولاً: البناء النفسى : وهو ربط المسلمين بدينهم ربطاً نفسياً يجعل منهم اصحاب رسالة تغييرية فى الحياة ، ويحفزهم نحو العمل بفاعلية وحزم لتحقيق اهداف دعوتهم.
ثانياً : الرؤية الحضارية : وهى إقتناع المسلمين بأنهم دعاة حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى ، وانهم يملكون وسائل النجاة والسعادة للبشرية كافة.
ولو أدى العلماء هذا الدور الكبير لارتفع مستوى الأمة الفكرى ، ولأصبحت تنافس الأمم الأخرى فى قيم الحضارة ، يقول الشيخ محمد عبده – رحمه الله : ( لو قام العلماء الاتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأحيوا روح القرآن ، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة ، واستلفتوهم الى عهد الله الذى لا يخلف لرأيت الحق يسمو ، والباطل يسفل ، ولرأيت نوراً يبهر الأبصار ، وأعمالاً تحار فيها الأفكار(163)
ولكن فى واقعنا المعاصر يلاحظ ان هناك عجزاً واضحاً للعلماء ، وهذا العجز افقد الكثير من المسلمين الرؤية الصافية ، والتوجه الصادق نحو الإسلام ، لأن من يفقد المرجعية يعطل طاقاته الإبداعية ويسير على غير هدى ، ورحم الله الشهيد عن القادر عودة ( الذين بين هذا العجز فى كتابة المشهور بين الجهل أبنائه وعجز علمائه) حيث قال : ( علماء الإسلام يحملون وزر ما نحن فيه ، وإثم ما اصيب به الإسلام . . . يحملون اوزار المستعمرين الغافلين عن الإسلام والخارجين عليه . .. وعلماء الإسلام أغمضوا أعينهم وأطبقوا افواههم ، ووضعوا اصابعهم فى آذانهم ، وناموا عن الإسلام ، ولما يستيقظوا من عدة قرون ، فنام وراءهم المسلمون ، وهم يعتقدون ان الإسلام فى آمان ، وإلا ما نام عنه علماؤه الأعلام . إن علماء الإسلام ناموا عن الإسلام زمناً طويلاً فما هاجموا وضعاً من الأوضاع المخالفة للإسلام ، ولا حاولوا إيقاف امر او حكم مخالف لأحكام الإسلام ، وما اجتمعوا مرة يطالبون بالرجوع الى احكام الإسلام(165)
إن العلماء هم القدرة والمرجع للأمة ، فينبغى ان يحققوا فى انفسهم أولاً كل صفات الفضل ، وقيم الحضارة ، كالفاعلية والحزم والثبات ، ثم ينطلقوا لقيادة الأمة نحو الريادة والشهادة على الناس ، وبذلك كله سيكونون اهلاً لوراثة النبوة.
2. الواجبات قبل الحقوق :
إذا كان العلماء هم قادة الأمة وقدوتها ، فإن الأمة الإسلامية بأبنائها المخلصين هى القاعدة الأساسية التى ينطلق منها اى إقلاع حضارى ، لأنها منبع الطاقات ، ومستودع القوى ، ولا يمكن بأية حال ان نتوقع السلامة من المرض فى اى جسم بشرى إلا إذا تعافت جميع الأجزاء المكونة له ، وأدى كل جزء دوره اللائق به.(8/242)
وإن الاستخلاف يبدأ فى حقيقته من مرحلة الواجبات التى يقوم بها كل فرد من افراد الأمة ، هذه الواجبات التى تجتمع كلها لتشكل الجسم السليم والمعافى والنشيط ، الذى يؤدى رسالته الحضارية بثقة ووعى ، وحزم وثبات . يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق ، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة فى ابسطة معنى الكلمة ، الواجبات الخاصة بكل يوم ، بكل دقيقة ، لا فى معناها كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومى بكلمات جوفاء ، وشعارات كاذبة ، يعطلون بها التاريخ ، بدعوى انهم ينتظرون الساعات الخطيرة ، والمعجزات الكبيرة(166)
إن المتأمل فى الشريعة الإسلامية يدرك انها تؤكد على تقوية روح المسؤولية فى المسلم ، وهى تحفزه دائما الى ضرورة ربط الفكر بالعمل ، والواجب بالسلوك وتنبهه الى اهمية القيام بواجبه الدينى والدنيوى ، وأن يعمل بجد حتى لا يكونم كلاً على الآخرين ، وعالة على المجتمع ، قال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون) [ التوبة: 105] وقال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتى بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ، خير له من ان يسأل الناس اعطوه او منعوه)(167)
قال ابن حجر العسقلانى – رحمه الله – فى شرح هذا الحديث : ( فيه الحص على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ، ولو امتهن المرء نفسه فى طلب الرزق ، وارتكب المشقة فى ذلك(168) ، وفيه ايضا دعوة صريحة الى القيام بالواجب ، وبذل الجهد ، والشعور بالمسؤولية الاجتماعية ، حتى يكون المسلم فعالاً نشيطاً ، نابذاً للعجز والكساد.
والمسلم العاجز هم اداء دوره فى هذا العصر يتطلع الى مستقبل مشرق يستعيد فيه وظيفة الشهادة على الناس ، ولكنه لا يقوم بواجبه بشكل سليم ، وكما يقتضيه الواقع المتسارع من حوله ، بل إنه فى كثير من الأحيان يطالب بحقوقه الحياتية دون ان يبادر الى تقديم الى جهد يستحق الإشادة والتقدير ، وهناك فكرة خاطئة ترسخت عنده، وعند الكثير من ابناء الأمة ، وهى المطالبة بالحقوق ، وانتظار المعجزات ، وكأن المشكلات لا تحل لديه إلا بطريقة سحرية تحول الواقع من سئ الى احسن ، ونسى ان الواجبات هى اللبنات الأولى فى بناء أية حضارة متفوقة.
إن الأهتمام بالواجبات اليومية – حتى فى ابسط صورها – كفيل بأن يعيد الفاعلية الى مستويات عليا عند المسلم ، ويصبح بذلك مهيمناًُ حقيقياً لأبناء الحضارات الأخرى التى تسود الآن ، التى اتخذت من العمل وروح المبادرة والفاعلية سبيلاً نحو إثبات الذات ، وتحقيق الوجود الحضارى.
وطموح المسلمين جميعهم الآن من ان تعود شرارة الروح إليهم ، وأن يعودوا الى مركزهم الريادى ، ولا سبيل الى ذلك إلا بالجهاد ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله -: ( فلننفض غبار اليأس ، ولنتقدم الى الأمام ، ولنعلم أننا بالغوا كل امنية بالعمل والدأب والأقدام ، وتحقيق شروط الإيمان التى فى القرآن ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) [ العنكبوت :69)(169)
3. التغيير النفسى المطلوب :
إن تغيير الحال التى نحن عليها اليوم من العجز والضعف واللافاعلية لا يمكن ان يتم إلا بتغيير نفسى شامل وفق السنة الاجتماعية التى قررها الله سبحانه وتعالى فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [ الرعد : 11] . إن تغيير ما بأنفسنا يعنى إقدارها على أن تتجاوز الوضع المألوف ، وهو كما يقول مالك بن نبى – رحمه الله – علم تجديد الصلة بالله (170) أى أن يعود الوقود الروحى الى النفوس من جديد فيغيرها من حال الى حال ، من حال الكسل والخمول الى حال الحركة والتوتر ، وهذا هو التغيير النفسى المطلوب ، الذى هو بعبارة أخرى فكرة دافعة للنفوس والمجتمعات.
ويرى مالك ان هذه الفكرة الدافعة لا يمكن تعليمها بنظرية ولا بأى شكل تعليمى ، ولا يدعى العلم أنه يصنعها فى النفوس (171) غير أن سيرة الأنبياء والوقائع التاريخية المختلفة وحوادث التاريخ المعاصر تثبت غير هذا ، ويكفى ان نشير الى ما صنعه كتابات ( ابن تيمية) و ( سيد قطب ) فى تاريخنا القديم والحديث ، وما فعلته المدرسة النظامية فى زمن الحروب الصليبية ، ويكفى ان نشير ايضا الى ما فعلته كتابات ( جان جاك روسو) و ( فولتير ) وغيرها فى قيام الثورة الفرنسية ، وما فعله بعض الزعماء المعاصرين فى تحريك روح الجماعات.
ومن أهم شروط التغيير النفسى ان يكون جماعياً لا فردياً وهو ما أشارات إليه الآية الكريمة فى كلمة ( ما بقوم) و ( حتى يغيروا) يقول جودت سعيد : ( إن مجال التغيير الذى يحدثه الله ، هو ما بالقوم والتغيير الذى اسنده الله الى القوم ، مجاله ما بأنفس القوم . . . ما بقوم (يشمل الكثير ، ويشمل اول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من اوصاف المجتمع ، من الغنى والفقر ، والعزة والذلة ، والصحة والسقم ، وينبغى ان نتذكر هنا ان القصد ليس الفرد ، كل فرد بذاته ، وإنما المجتمع العام ، وأن التغيير الذى يحدثه الله من الصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والعزة والذلة إنما يعود الى القوم بمجموعهم لا الى فرد محدد)(172)
ومن شروط التغيير النفسى المطلوب تجديد الصلة بالله ، ويعنى اقتناع المسلم برسالته الاجتماعية ، ودروه فى الحياة وهذا هو الكفيل وحده باسترجاع المبررات المفقودة التى تمنح للمسلم ولادة جديدة يشعر فيها ان البشرية كلها فى حاجة إليه ، وأن لديه ما يقدمه لها.
ومن الشروط ايضا التى تساهم فى تغيير النفوس توحيد شبكة العلاقات الاجتماعية ، وذلك ببث الفكر الإسلامى بعد تأصيله وربطه بالفاعلية ، ونبذ الاختلاف المذموم ، والاجتماع على الدين والاعتصام بحبل الله ، وتوحيد الثوابت والأهداف.
ولعل من الشروط الضرورية لتغيير النفوس إدراك المسلم للبعد الايمانى للعمل ، وقيمته الكبيرة فى حياته ، وبدون هذا الإدراك سيبقى هذا المسلم عاجزاً عن صنع تاريخه ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله - : ( كيف ترى فى أمة ينصرها الله بدون عمل ، ويفيض عليها الخيرات التى كان يفيضها على آبائها ، وهى قد قعدت عن جميع العزائم التى قد كان يقوم بها آباؤها ، وذلك يكون ايضا مخالفاً للحمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم)(173)
فلن نستطيع إنقاذ انفسنا وذريتنا المتعطشة افق حضارى متميز إلا بالعمل الشاق المتقن الذى نقوم به فى كل يوم ، وفى كل ساعة ، وفى كل دقيقة ، وعندها فقط سنستحق عناية الله وتوفيقه وتأييده.
4. التضحية:
التضحية مصطلح حديث يعنى بذل اقصى الجهد لتحقيق شئ ما فى الحياة ، وهو مبدأ ضرورى فى حياة كل من يسعى الى السيادة والعز والسلطان ، يقول (ألكسيس كاريل) : ( من المستحيل ان نوفق بين انفسنا ونظام العالم دون تضحية ، فالتضحية احد قوانين الحياة، فإنجاب الأطفال يفرض على المرأة سلسلة لا نهاية لها من التضحيات ، وعلى المرء ان يخضع نفسه لزهد قاس ليصبح بطلاً رياضياً ، أو فناناً او عالماً ، ولا يحصل الإنسان على الصحة والقوة وطول العمر إلا برفض الاستسلام لبعض الرغبات ، ليس هناك عظمة او جمال او قداسة دون تضحية)(174)(8/243)
ويعبر عن التضحية فى الإسلام بلفظ ( الجهاد) بمعناه الواسع الذى يعنى استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة المختلفة ، قال تعالى( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمعى المحسنين ) [ العنكبوت : 69]
وهذا الجهاد الذى يحقق هداية الله ، وينير الطريق هو ذروة سنام الإسلام كما ورد فى الحديث الصحيح(175) ، ولذلك عد من الواجبات الضرورية ، والفروض العينية التى تلازم المسلم فى حياته كلها ، يقول الأمير شكيب ارسلان : (إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا فى مصاعد الجهد ، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم هو الجهاد بالمال والنفس الذى أمر به الله فى قرآنه مراراً عديدة وهو ما يسمونه اليوم بالتضحية فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقى إلا بالتضحية(176)
إن الأزمة الحضارية التى نعيشها لايوم تقتضى منا نحن المسلمين تضحيات كثيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، ومطلوب من كل مسلم ان يستفرغ جهده وطاقته فى ميدان تخصصه ، وأن يكون نموذجاً للإحسان ، والإتقان والصواب ، وعندما تتحقق هذه الغاية سوف نرى أيى رسالة حضارية نحن منتدبون إليها ، لأننا نكون قد شرعنا فى بناء حياة جديدة ، وإعادة الفاعلية الى الآمة ، وتفجير الطاقات من جديد ، وسنكون وقتئذ جديرين بتحقيق دور الشهادة على الناس الذى خصنا الله به فى كتابه حيث قال: ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143]
.:. .:. .:.
المصادر والمراجع
1. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى – دار الثقافة – قطر
2. الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ط دار الفكر عمان – الاردن
3. الإحكام فى اصول الأحكام – على بن حزم الظاهرى (456هـ) ط دار الافاق الجديدة – بيروت
4. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى كتاب الأمة رق (30)
5. أزمتنا الحضارية فى ضوء سنه الله فى الخلق – احمد محمد كنعنان كتاب الأمة رقم (26)
6. أساليب الإقناع فى القرآن الكريم – ابن عيسى باطاهر – رسالة ماجستير مكتبة الجامعة الاردنية – عمان – الآردن
7. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه – عبد القادر عودة – ط الاتحاد الاسلامى العالمى للمنظمات الطلابية – الكويت .
8. إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن قيم الجوزية ط دار الجيل – بيروت
9. الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ط مطعة زيد بن ثابت الانصارى – سوريا
10. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنعانى (840هـ ) المطبعة السلفية – القاهرة.
11. تأملات – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
12. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) – الكسيس كاريل – ترجمة محمد القصاص – ط مكتبة مصر – القاهرة
13. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
14. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ط الدار التونسية للنشر
15. تفسير الطبرى ( جامع البيان) – ابن جرير الطبرى ( 310هـ) ط دار المعارف – مصر
16. التفسير القرآنى للقرأن – عبد الكريم الخطيب – دار الفكر العربى – مصر
17. تفسير القرطبى ( الجامع لأحكام القرآن ) – محمد بن أحمد القرطبى ( 671هـ ) ط داتر الكتب المصرية 1952
18. تفسير الكشاف – محمود بن عمر الزمخشرى (528هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة
19. تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ط دار المعرفة – بيروت
20. حتى يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع
21. حضارة العرب –جوستاف لوبون – ط مطبعة عيسى الباب الحلبى- القاهرة
22. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى ( 430 هـ) ط دار الكتب العلمية – بيروت
23. الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ط مؤسسة الرسالة – بيروت .
24. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين – مالك بن نبى – ط دار الفكر دمشق .
25. الدولة والدين فى إسرائيل – أسعد رزوق – ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968.
26. رجال حول الرسول – خالد محمد خالد – ط دار الكتاب العربى – بيروت
27. الروضتين فى أخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى (665هـ) ط دار الجيل – بيروت
28. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ابن قيم الجوزية ( 751هـ ) ط مؤسسة الرسالة 1992.
29. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعية – محمد ناصر الدين الألبانى – ط دار المكتب الإسلامى – بيروت.
30. شروط النهضة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
31. صحيح ابى داود – محمد ناصر الدين الألبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1989م
32. صحيح البخارى – محمد بن اسماعيل البخارى ( 256هـ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت
33. صحيح الترمذى – محمد ناصر الدين الالبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1988م
34. صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج القشيرى (261هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت
35. صحيح مسلم بشرح النووى – يحيى بن شرف النووى ( 677هـ ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت
36. صناعة الحياة – محمد احمد الراشد – ط دار المنطلق الإمارات العربية المتحدة.
37. الظاهرة القرآنية – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
38. العبودية – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط دار الكتب العلمية – بغداد
39. العمل قدرة وإرادة جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع 1980م
40. الفتاوى – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد العاصمى وابنه.
41. فتح البارى بشرح صحيح البخارى – ابن حجر العسقلانى (825هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة
42. فى مهب المعركة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
43. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – محمد قطب – ط وزارة المعارف – السعودية 1986م
44. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – الأمير شكيب ارسلان – ط دار البشير – القاهرة
45. المائة الأوائل – مايكل هارت – ترجمة خالد أسعد عيسى – وأحمد غسان سباتو – ط 3 دار قتبية 1984م
46. المسند – الإمام أحمد بن حنبل (241هـ ) ط دار الكتب العلمية – بيروت
47. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
48. مشكلة الثقافة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
49. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – محمد الغزالى – ط دار الأمة – قطر
50. معالم فى الطريق – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
51. مقدمة فى اصول التفسير – لشيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط القرآن الكريم – بيروت 1971م
52. مقومات التصوير الإسلامى – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
53. النبأ العظيم – محمد عبد الله دراز – ط دار القلم – الكويت
54. نظام الإسلام ( الإقتصاد ) – محمد المبارك – ط دار الفكر – بيروت 1980
55. نظرت فى القرآن – محمد الغزالى – ط دار الشهاب – الجزائر
56. هذا الدين – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
57. هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – ماجد عرسان الكيلانى – ط دار السعودية للنشر والتوزيع.
58. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
59. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – محمد رشيد رضا – ط دار المنار – مصر
60. الوقت فى حياة المسلم – يوسف القرضاوى – ط المؤسسة الرسالة - بيروت
المراجع(8/244)
1. تجديد المنهج فى تقويم التراث ، د. طه عبد الرحمن
2. جامع العلوم والحكم : 24
3. جامع العلوم والحكم : 24
4. إذ ما ثمرة إقرار لا يتبعه العمل والإلتزام ؟
5. فتح البارى : 1 – 128
6. المرجع السابق : 60
7. مجموع الفتاوى : 1- 557
8. أبو داود والترمذى ، والحاكم
9. تفسير ابن كثير : 2 – 343
10. المرجع السابق
11. إذا هبت ريح الإيمان ، أبو الحسن الندوى :7
12. مجموع الفتاوى : 7 / 645
13. المرجع السابق
14. مجموع الفتاوى : 7/541 – 542
15. الملل والنحل : 109
16. مجموع الفتاوى : 8 /70
17. انظر : مدارج السالكين : 3/ 478
* من أئمة الأشاعرة
18. معالم اصول الدين : 107
19. إحياء علوم الدين : 4 /4
20. انظر : إحياء علو الدين : 4/96
21. مجموع الفتاوى : 8/478 – 488
22. الموافقات : 1/218
23. مدارج السالكين : 3/478
24. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) ترجمة محمد القصاص ص40ط مكتبة مصر – القاهرة
25. المائة الأوائل – ترجمة خالد أسعد عيسى وأحمد غسان سباتو – ص 19 – 20ط 3/ دار قتيبة 1984م
26. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – ص47 – طبعة دار الأمة –قطر
27. وجهة العالم الإسلامى – ص 166 ط دار الفكر – دمشق
28. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من هذا القرن – ط دار الفكر – دمشق
29. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – ص 58 – ط وزارة المعارف – السعودية 1986
30. المرجع نفسه – ص26
31. ينظر وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص 86
32. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص97
33. البرهان القاطع فى اثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنانعى – ص 30ط المطبعة السلفية – القاهرة
34. وجهة العالم الإسلامى – ص 88
35. اختار مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة (الفاعلية) فى مقابل كلمة Efficancy فى اللغات الاوروبية – ينظر المعجم الوسيط – مادة (فعل) ط دار احياء التراث العربى
36. تفسير الكشاف – للزمخشرى – ج4 ص 733 – ط الريان للتراث
37. ينظر ( Efficace ) Grand Larousse Encyclopeidique
38. ينظر شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 63 ط دار الفكر- دمشق
39. تأملات – ص 125 – 126 ، ط الفكر – دمشق
40. مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – ص 85 ، 86 ط دار الفكر – دمشق
41. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – ص9 – ط مطبعة زيد بن ثابت الأنصارى.
42. ينظر الإنسان حيث يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد ، ص6
43. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ج 16 ص75 ط دار التونسية للنشر .
44. صحيح مسلم – باب القدر – ج4 ص2052 – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت.
45. صحيح مسلم بشرح النووى – ج 16 ص 215 – ط دار إحيار التراث العربى
46. مثل جزائرى انتشر زمن الاستعمار الفرنسى للجزائر بين طائفة من الناس كانت ترى ان الاستعمار قضاء وقدر.
47. تأملات – مالك بن نبى – ص 126
48. التفسير القرانى للقرآن – عبد الكريم الخطيب – ج6- ص529 ، 350 ط دار الفكر العربى.
49. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص38
50. مقومات النصور الإسلامى – ص21 ، 22ط دار الشروق 1986
51. هذا الدين ، ص3 ، 4 ط دار الشروق بيروت
52. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد –ص 41
53. صحيح مسلم – كتاب القدر
54. الفتاوى – ابن تيمية – ج8 ص 138 ، 139
55. رواه أبو داود والبيهقى والطبرانى والإمام أحمد ، وضعفه الشيخ الألبانى وإن كان معناه صحيحاً
56. تفسير الطبرى – ابن جرير الطبرى – ج1 ص80 وانظر مقدمة فى اصول التفسير لابن تيمية – ص36 دار القرآن الكريم بيروت 1971
57. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 21 ، 22
58. تأملات – مالك بن نبى – ص 131
59. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص126
60. رواه مسلم ( باب القدر )
61. رواه مسلم وأحمد واصحاب السنن الأربعة
62. متفق عليه
63. تفسير القرطبى – محمد بن احمد القرطبى – ج1 ص40 ط دار الكتب المصرية 1952
64. رواه احمد فى مسند وابن ماجة فى سننه فى باب ما جاء فى ذهاب العلم
65. انظر مقدمة عمر عبيد حسنه – كتاب الأمة رقم 43
66. انظر كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد ص 141 وما بعدها
67. تأملات – ص 132
68. مثال ذلك فترة ما بعد الخامسة والعشرين من عمره وحتى بعثته صلى الله عليه وسلم
69. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ص11 ط دار الشروق
70. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص59
71. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص49
72. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – لابن الوزير – ص30
73. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى – ص 52( كتاب الأمة رقم30)
74. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ج3 ص5 ط مؤسسة الرسالة سنة 1992
75. المصدر السابق – ج 3 ص 45، 46
76. النبأ العظيم – ص35 ط دار القلم الكويت
77. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى ج2 ص 244)
78. لم يعرف التاريخ الإسلامى جيلاً مثل جيل الصحابة الذى اجتمعت فيه صفات الخيرية كلها.
79. معالم فى الطريق – سيد قطب – ص17 ، 18ط دار الشروق
80. انظر تفسير الطبرى – لابن جرير الطبرى – ج1 ص 80ط دار المعارف – مصر
81. انظر ( رجال حول الرسول) – خالد محمد خالد – ص 511 وما بعدها ط دار الكتاب العربى – بيروت 1987
82. الروضتين فى اخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى – ج1 ص6 ط دار الجيل – بيروت
83. الروضتين فى اخبار الدولتين – ابو شامة المقدسى – ج1 ص4 ،5
84. انظر كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) – ماجد عرسان الكيلانى ص214 ط الدار السعودية للنشر والتوزيع.
85. المرجع السابق – ص 215
86. متفق عليه
87. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – ص103 ط دار البشير القاهرة
88. العبودية – ص 4 ط دار الكتب العلمية بيروت
89. انظر الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ص116 ط مؤسسة الرسالة – بيروت
90. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى – ج8 ص95 ط دار الكتب العلمية – بيروت
91. رواه مسلم ، باب امارات الساعة
92. انظر مقدمة عمر عبيد حسنة – كتاب الأمة رقم (30)
93. رواه احمد فى المسند
94. قبسات من الرسول – محمد قطب – ص16
95. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص42
96. تأملات – ص38
97. رواه الترمذى وقال : حديث حسن
98. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص37
99. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص44
100. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص61
101. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى ص32
102. المرجع نفسه – ص32
103. رواه ابو داود ( انظر صحيح ابى داود – ج3 ص810)
104. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302
105. انظر الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ص147 وما بعدها ط دار الفكر الأردن
106. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302
107. الإحكام فى اصول الأحكام – ج2 ص 793 ومابعدها – ط دار الآفاق الجديدة – بيروت
108. الفتاوى – ج20 ص 209
109. تفسير المنار – ج1 ص114 ط دار المعرفة
110. وجهة العالم الإسلامى – ص86
111. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى –ص 9 دار الثقافة – قطر
112. انظر ( فى مهب المعركة ) مالك بن نبى – ص 134
113. متفق عليه
114. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – ص130 ط دار المنار – مصر(8/245)
115. حديث لا اصل له ، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة - محمد ناصر الدين الألبانى ج1 ص 86ط المكتب الإسلامى.
116. انظر مثلاً ما حدث فى افغانستان بعد انهزام الشيوعيين فيها.
117. انظر شروط النهضة - مالك بن نبى - ص114
118. انظر ( ازمتنا الحضارية فى ضوء سنة الله فى الخلق - احمد محمد كنعان - ص107 ( كتاب الأمة رقم 26)
119. حضارة العرب - ص125ط مطبعة عيسى البابى الحلبى القاهرة
120. انظر ( الخصائص العامة للإسلام - يوسف القرضاوى - ص54
121. صناعة الحياة - محمد احمد الراشد - ص59 ط دار المنطق
122. لماذا تأخر المسلمون - ص77
123. صناعة الحياة - ص66
124. متفق عليه
125. رواه البخارى ( كتاب العلم)
126. انظر ( اساليب الإقنع فى القرآن - ابن عيسى باطاهر (رسالة ماجستير) مكتبة الجامعة الاردنية - عمان - ص5
127. دور المسلم ورسالته فى الثلث الاخير من القرن العشرين - ص53 ط دار الفكر - دمشق
128. المرجع نفسه - ص54
129. رواه احمد فى مسنده
130. انظر ( نظرت فى القرآن ) محمد الغزالى - ص 121 - ط دار الشهاب الجزائر
131. متفق عليه.
132. نظام الإسلام ( الاقتصاد ) - ص130 - ط دار الفكر - بيروت
133. الروضتين - ابو شامة المقدسى - ج1-ص6
134. تأملات - مالك بن نبى - ص203
135. المرجع نفسه - ص34
136. زاد المعاد - ج3ص 480
137. وجهة العالم الإسلامى - ص88
138. العمل قدرة وإرادة - ص92 - 93
139. تفسير المنار - محمد رشيد رضا - ج10 ص46
140. تأملات مالك بن نبى - ص122
141. المرجع نفسه - ص132
142. انظر الطاهرة القرآنية - مالك بن نبى - ص 130 ط دار الفكر - دمشق
143. انظر ( الدولة والدين فى اسرائيل) اسعد رزوق - ص9 ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968
144. المرجع نفسه - ص17
145. لماذا تأخر المسلمون ص 79
146. شروط النهضة - مالك بن نبى - ص110 ، 111
147. تأملات - مالك بن نبى - ص145
148. انظر ( الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية (محمد الدسوقى - ص19)
149. تأملات - ص 211
150. انظر وجهة العالم الإسلامى - مالك بن نبى - ص83
151. زاد المعاد فى هدى خير العباد - ابن قيم الجوزية - ج3 ص46
152. شروط النهضة - مالك بن نبى - ص 146
153. الوقت فى حياة المسلم - يوسف القرضاوى - ص6 ط مؤسسة الرسالة
154. المرجع نفسه ص 12
155. شروط النهضة - ص146
156. رواه البخارى والترمذى وغيرهما
157. انظر الفتاوى لابن تيمية - ج19 ص67
158. مقومات التصور الإسلامى - ص25
159. تفسير المنار - ج10 ص46
160. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه - ص73 - 74 -ص 5 الاتحاد الإسلامى العالمى للمنظمات الطلابية - الكويت
161. فى مهب المعركة - ص 78
162. رواه البخارى ( باب الزكاة)
163. فتح البارى بشرح صحيح البخارى - ج 3 ص 394 - ط دار الريان للتراث - القاهرة
164. لماذا تأخر المسلمون - ص 164
165. وجه العالم الإسلامى - ص54
166. مشكللة الأفكار - ص54
167. حتى يغيروا ما بأنفسهم - ص48
168. لماذا تأخر المسلمون - ص 43
169. تأملات فى سلوك الإنسان - ص 44،45
170. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى) ج2ص 329
171. لماذا تأخر المسلمون - ص164 - ط عيسى البابى الحلبى - مصر
===============
العنصرية والخطاب الإسلامي
السبت 14 ذي الحجة 1426هـ - 14 يناير 2006م
الصفحة الرئيسة
د. محمد يحيى
مفكرة الإسلام: ثارت منذ سنوات قضية تغيير أو تجديد الخطاب الديني الإسلامي بحجة أن هذا أمر ضروري لتحسين صورة الإسلام في الغرب التي شوهها المتطرفون والإرهابيون الإسلاميون المزعومون.
وطرحت القضية بأسرها في إطار يصور الغرب كله وبالذات أوروبا في وضع المجني عليه الذي يتعرض للهجوم والعدوان الإسلامي بينما صور الإسلام والمسلمين في وضع الجاني والمعتدي الذي انتابته لوثة فثار يدمر الحضارة الإنسانية الراقية المتقدمة.
وفي حدود هذا التصور طرحت على المسلمين ومن خلال الحكومات والنخب الثقافية العلمانية قضية ما أسمي بتجديد وتحديث الخطاب الديني ومنها قضايا أخرى تسربت تحت مسمى الاجتهاد الفقهي ومواكبة العصر وترمي كلها إلى إحداث تغيير كبير في بنية الفكر والدعوة الإسلامية وحتى في بنية العقيدة ذاتها بهدف طرح نسخة من الإسلام لا تعادي الحضارة الغربية بل تنسجم وتتسق معها وتندمج في معطياتها وتتمشى مع عملية العولمة التي تمثل أساس الطرح الفكري العالمي لتلك الحضارة في الوقت الراهن.
ولكن بينما شغل العالم الإسلامي عن بكرة أبيه بهم لتعديل وتنقيح الإسلام، بما يرفع عنه تهمة العدوان على الغرب، كانت تدور في العالم الغربي نفسه عملية أخرى جرى لفت الأنظار بعيداً عنها في إعلام البلاد العربية والإسلامية هذه العملية هي تصاعد وتكرّس التيارات العنصرية واليمينية والدينية [الصليبية الكنسية والتنصيرية] في الغرب نفسه والتي انطلقت لتمارس نشاطها ليس في الغرب وحده بل في سائر أنحاء الدنيا ولاسيما في العالم الإسلامي مستغلة العولمة ووسائل الاتصال والمواصلات الحديثة والتحرر العام في التجارة وشتى أنواع التبادل بما فيها الفكري والسياحي والثقافي بطبيعة الحال.
صحيح أن الإعلام في البلاد العربية تحدث عن صعود التيار المحافظ في السياسة الأمريكية لكنه تحدث عنه فقط في إطار النقل عن الإعلام الأمريكي وبدون إبداء أية تحليلات مستقلة وبدون أن يصور الأمر كظاهرة عامة متأصلة سواء في أمريكا نفسها أو على امتداد الساحة الغربية وصولاً إلى روسيا. وتحدث الإعلان عن هذه الظاهرة كتحول سياسي محدود وليس كظاهرة اجتماعية فكرية ثقافية عامة كاسحة عميقة الجذور واسعة التأثير ممتدة الأثر.
وإذا كنا سمعنا الكثير في هذا الصدد عن اليمين الأمريكي والمسيحية الصهيونية في أمريكا فإننا لم نسمع في المقابل الكثير عن تغوّل وتوّسع نشاطات الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية الكبرى وتدخلاتها المتزايدة في دنيا السياسة والمجتمع والثقافة بل والاقتصاد والتنمية والتجارة. ولم نسمع عن تحول الكنائس الأرثوذكسية في شرق أوروبا وبالذات في دول البلقان ثم روسيا إلى كيانات كبيرة متحفزة ونشطة تستوعب الدول والمجتمعات داخلها وتحركها لصالح أهدافها وتتحكم في المجريات المهمة للسياسة بل تصل إلى حد تحديد هويات تلك الدول الواقعة على امتداد شرق أوروبا على أنها هويات مسيحية أرثوذكسية وتندمج الهوية القومية والعرقية داخل الهوية الدينية.
وحتى عندما كان الإعلام العربي والإسلامي ينقل على مدى التسعينات أحداث البلقان في البوسنة وكوسوفو ومقدونيا والصرب وكرواتيا كان يصور الأمر كله على أنه ناتج من الطموحات الشخصية أو التطرف القومي لبعض القادة من الصرب والكروات وليس على أنه تحرك ضد الإسلام والمسلمين في شرق أوروبا من جانب المذهب المسيحي الحاكم في ذلك الجزء من العالم، وعندما سادت اتجاهات دينية [صليبية كنسية] معادية للإسلام بدول أوروبا الغربية في السنوات القليلة الماضية راح الإعلام الغربي يصورها على أنها مجرد أحداث محدودة يحركها حفنة من الساسة العنصريين بل ذهب العلمانيون المسيطرون على هذا الإعلام إلى حد القول والترويج لفكرة أن هذه الأحداث ليست سوى ردود أفعال منطقية ومبررة للإرهاب والتطرف الإسلامي الذي بدأ العدوان على أوروبا.(8/246)
وظل هذا هو الرأي السائد في الإعلام الغربي، حتى والعديد من الحكومات الأوروبية تتحدث الآن صراحة وكجزء من السياسة الثابتة عن ضرورة إدخال تعديلات جذرية على الإسلام بما يشمل عقيدته لكي يخرج في النهاية إسلام أوروبي يخضع للثقافة السائدة هناك وهي ذات الطابع المسيحي العلماني، بل ونسمع الآن ليس فقط عن ضرورة خروج إسلام أوروبي عام متسق مع معايير الغرب بل عن إسلام خاص بكل بلد أوروبي على حدة [إيطالي / فرنسي/ ألماني/ هولندي/ دانمركي/ بريطاني] ونسمع التأكيدات بأن أي إسلام لن يسمح له بالوجود في أوروبا إلا إذا اتسق مع هذه المعايير المفروضة عليه من خارجه بل المفروضة من مخالفيه ورافضيه سواء كانوا ينتمون إلى الدين المسيحي أو إلى الفكر العلماني [اللا ديني].
وبهذا التصور تنكشف الحالة التي سيطرت على البلاد العربية والإسلامية لما يصل إلى العقد من السنين على أنها في الواقع عنصرية مستأصلة ومعتدية أفلحت بفضل السيطرة على وسائل الإعلام في تصوير الواقع على عكس ما هو عليه وأوهمت المسلمين بأنهم المعتدون وهم الذين يجب أن يحدثوا تغييرات في بنيتهم العقيدية والفكرية لكي يتوقفوا عن العدوان على الغرب في الوقت الذي كان فيه هذا الغرب نفسه هو الذي يمارس العدوان والتوسع سواء من خلال العولمة أو غيرها من العمليات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.
ولكن الأحداث الأخيرة في فرنسا حيث انفجر بركان الغضب الشعبي للمواطنين الفرنسيين ذوي الأصول غير البيضاء ضد الممارسات العنصرية البيضاء كشف حقيقة الأمر على امتداد أوروبا كلها وكشف زيف ما يقال عن المبادأة الإسلامية المتطرفة بالعدوان
===============
الفهرس العام
الباب السابع ... 1
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4) ... 1
هويتنا والعولمة كتاب يدعو إلى تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة ... 1
ل ندع الغد يصنع بدوننا؟ ... 4
المسلمون في ألمانيا بين رغبة التعايش والتحديات الداخلية ... 11
نحو صورة وسطية حضارية نقدم بها الإسلام للعالم ... 20
الوقف الخيري يحل المشكلات الاقتصادية في بلاد المسلمين ... 25
الأمريكان وجريمة التخريب الثقافي للعراق ... 31
فقه التغيير .. دراسة جديدة لفكر مالك بن نبي ... 41
خمس مؤامرات كبرى على الإسلام .. أخر ما كتبه أنور الجندي ... 42
مفكرة الإسلام تحاور المفكر د. جعفر شيخ إدريس ... 45
كيف غير الإسلام الطب؟ مقال منشور في مجلة بريطانية ... 54
الأمة الإسلامية والخروج من المأزق ... 56
السقوط الحر ... 61
أسس الحضارة الاسلاميه ... 64
خصائص الحضارة الإسلامية ... 67
الوظيفة العامة في الإسلام... فكر إداري ... 74
انظروا عمَّن تأخذون دينكم ؟! ... 76
المرأة الأمريكية والتاريخ!! ... 91
صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة الإسلامية ... 93
محمد كرد علي ..علامة الشام ومؤسس أول المجامع العربية ... 96
جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية ... 101
كيف يستطيع المسلمون الإفلات من طوق التخلف؟ ... 106
الحرب ضد الإسلام قديمة ولا علاقة لها بأحداث سبتمبر ... 114
د.محمد يحي يتحدث للمفكرة عن المشروع الإسلامي وهموم الصحوة. ... 123
مصطفى صادق الرافعي- أديب كتب تحت راية القرآن ... 129
خصال الشباب المتهمين بالإرهاب ... 134
الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟! ... 137
من سيملأ الأكواب لبنًا..؟؟! ... 149
البرقع مقابل البكيني في سوق المرأة الأمريكية ... 156
تصدير الحضارات على ظهور الدبابات ... 159
قواعد التغيير ... 169
أمريكا والانهيار الحضاري...حقيقة أم وهم؟! ... 172
معوقات وعوامل نهضة الأمة.. قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [1/2] ... 191
التربية طريق التغيير الحضاري ... 222
كيف تصبح شخصية فعالة - أنت مفتاح النهضة ... 226
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... 232
خطابات الظواهري وملامح الطريق الثالث ... 238
أمجادنا ... 243
الفكر الغربي مارس أبشع أنواع الإرهاب تحت قناع الحضارة ... 247
مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها ... 255
الوقت في حياة المسلم ... 267
في التاريخ .. فكرة ومنهاج ... 273
حوار الحضارات الجذور والتاريخ ... 281
تأسيس جيل النصر.. نور الدين زنكي نموذجًا ... 286
كيف تجعل ابنك قائدًا؟ ... 290
نحن والغرب...هل لدينا رؤية صحيحة؟ ... 294
الجالية الإسلامية في الغرب- ومسؤولياتها في المجتمع الغربي ... 300
أسباب تصدع الأسر وتفككها ... 314
ليس 'آلام المسيح' بل جهل المتعالمين ... 318
وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب ... 322
سُكَّانُ القِمَمِ ... 327
الغرب أستاذ الخداع ... 340
حركة التغريب تقود بناتنا للهاوية! ... 346
الخوف من الإسلام القادم ... 361
كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] ... 375
العولمة بين أحلام مشروعة وأوهام ممنوعة ... 378
من روائع الحضارة الإسلامية .. النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية ... 391
الصحة الإيمانية .. وأثرها على واقع الأمة [2] ... 400
وفاة طه حسين - الأكذوبة الكبرى ... 417
صدور الجزء الثامن من كتاب في البناء الحضاري للعالم الإسلامي ... 422
وثيقة المدينة المنورة.. كتاب عن عقد اجتماعي مبكر في تاريخ البشرية ... 424
الإسلام والحضارة الغربية والصدام الحتمي ... 427
الانهيار الحضاري يقع على عاتق حكام وعلماء الأمة ... 430
حدود التعددية التي يسمح بها الإسلام ... 438
الإحسان في الحضارة الإسلامية ... 445
الخيانات العربية... محاولة للتفسير ... 448
مفكرة الإسلام تفند دعاوى الرافضين للحل الإسلامي ... 452
الإصلاح ... ضرورة ... 463
موقف الغرب من الإسلام ... 472
شاهين: أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم ... 475
صراع الحضارات أكذوبة غربية ... 479
العولمة والإسلام ... 485
قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون " ... 502
مركز الثقافة الإسلامية في اسطنبول..شعاع ينبعث من أرض الخلافة الإسلامية ... 508
لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟ ... 514
الصّفقة الخاسرة ... 519
مستقبل الإسلام السياسي ... 525
لا بد من المبادرة ... 532
(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية ... 538
تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة ... 547
مستقبل الإسلام في الغرب !(1/2) ... 554
أسلمة العلوم .. ضرورة يفرضها الواقع الراهن ... 557
تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين ... 560
أخر ماكتبه أنور الجندى ... 563
السلطة السياسية في الفكر الإسلامي ... 566
في المسألة الحضارية .. ... 571
الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري ... 586
الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2) ... 593
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة ... 602
الأبعاد السياسية لحوار الأديان ... 605
أمتنا وبعض إنجازاتها الحضارية ... 613
الطريق الروحي إلى مكة (1/3) ... 618
وقفات في تعاقب السنين ... 637
هل يستهدف الإسلام الغرب (*) ... 644
القضايا النقدية عند المفكر أنور الجندي ... 653
هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟ ... 655
المخاوف الأمريكية من الإسلام السياسي ... 676
التربية على حقوق الإنسان ... 681
لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا ... 689(8/247)
شباب الأمة .. وتحديات المرحلة ! ... 691
بين عقليّتين ونهجَين ... 695
حول قداسة الحكّام في تاريخنا ... 703
كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟ ... 712
شهادة التاريخ..ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟ ... 715
حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا ... 727
محاولة خائبة لجاهليّ معاصر ... 734
الحوار بين الحضارات ... 740
أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية ... 748
كلمات في الفن الإسلامي ... 752
التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية ... 756
الإنسان والكون ... 763
محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية ... 766
فاعلية المسلم المعاصر ... 774
العنصرية والخطاب الإسلامي ... 877(8/248)
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(9)
الباب الثامن
دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثامن
دراسات أصيلة عن الحضارة الإسلامية
المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري
تقديم : بقلم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبعد:
فهذا الكتاب السادس في سلسلة "كتاب الأمة " التي اعتزمت رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية إصدارها مساهمة في تحقيق الوعي الثقافي، والحصانة الفكرية، وإعادة بناء الشخصية المسلمة الفاعلة بعد أن انطفأت فاعليتها أو كادت بسبب من السقوط الحضاري، والانكسار العسكري، والوهن الخلقي، الأمر الذي أفقدها الرؤية الشمولية والتوازن الاجتماعي، واستشعار التحدي الذي يوقظ الحس ويلهب المشاعر ويذكي الروح ويجمِّع الطاقات النفسية والمادية لتبدأ عملية النهوض من جديد، ونقل المسلمين إلى الموقع الذي يجعلهم في مستوى إسلامهم تكليفاً وإرادة، وفي مستوى عصرهم قدرة وعطاء وقيادة.
ولا بد لنا بين يدي التقديم للكتاب، وقد اختار مؤلفه مصطلحاً، يمكن أن يكون جديداً على الساحة الفكرية الإسلامية "المذهبية الإسلامية " من القول: إنه إلى جانب المعارك الكثيرة والمتعددة التي تدور رحاها على الأرض الإسلامية في إطار الاستعمار ومحاولات الاحتواء الثقافي هناك معركة يمكن أن تكون الأخطر في مجال الصراع الحضاري، هي معركة المصطلحات، حيث تُقذف مجتمعاتنا يومياً عن طريق وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بكثير من المصطلحات السياسية والفكرية والجغرافية [الديمقراطية، الوجودية، العلمانية، الماركسية، اليمين واليسار، الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، حوض المتوسط. . . الخ ] البديلة لما ألفنا وعرفنا إلى درجة الإغراق لتخرجنا عن مواقعنا الفكرية، وتستلب شخصيتنا الحضارية، وتطارد مصطلحاتنا وتحدد لها المعاني التي تريدها، حتى أصبح الكثير منا يخاف من طرحها أو من مجرد الانتساب إليها، كمصطلح "السلفية" ومصطلح "التراث " الخ. . . مع العلم أن "السلفية " أول ما تعني الانتساب لجيل القدوة، خير القرون، ((خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس ِ)) بناة الحضارة الإنسانية، ولا تعني بحال من الأحوال التحجر والجمود والانقطاع عن التواصل الحضاري، وعدم استيعاب منجزات العصر من خلال الرؤية الإسلامية السليمة، ذلك أن السلفية الصحيحة دافع للإفادة وليست مانعاً منها.
وكذلك مصطلح "التراث " حيث تفرض علينا مدلولات معينة أرادها أصحاب المذاهب المادية والعلمانية، الأمر الذي أخرجنا عن مدلول القضية وأصلها في المصطلح الإسلامي، يقول تعالى : ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير ُ)) [فاطر:32].
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه :
". . . أنتم هنا، وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يوزع في المسجد ".
فإذا كان مدلول التراث يعني النبوة وعطاءها "الكتاب والسنة " الذي ورثته الأمة، فنحن تراثيون؛ وإذا كان المدلول: فهوم المسلمين غير المعصومة للكتاب والسنة، مما يقع في دائرة الاجتهاد، فهذا أمر قابل للفحص والاختبار، ومن ثم للصواب والخطأ. . . وقد تكون المشكلة أو الكارثة - إن صح التعبير - أن معظم المثقفين في عالمنا الإسلامي اليوم أصبحوا أسرى المصطلحات والأفكار الأوروبية بشكل عام، ينطلقون منها، ويفكرون من خلالها، ومن الصعوبة البالغة التحرر منها لأنها صورة من صور الاحتواء الثقافي نتيجة الإصابة بمركب النقص أمام التحدي الحضاري الغربي، وقد ينتصر بعض البسطاء عاطفياً للإسلام، فيحاول إسقاط المفاهيم والمصطلحات الغربية على المفهومات الإسلامية فتعييهم عملية التوفيق، ولكن كثيراً من الخبثاء يحاولون الالتفاف حول القضية، ويتسللون إلى الشخصية الإسلامية من خلال إسقاط هذه المصطلحات على المفهومات الإسلامية، أو يمارسون الخداع لجماهير المسلمين بادعاء أن هذه المصطلحات ليست غريبة عن طبيعة الإسلام ووجهته ليخفوا بذلك حقيقة أمرهم ودعوتهم في المجتمع الإسلامي، ذلك أنهم أدركوا أن بوابة العالم الإسلامي ستبقى موصدة أمام كل دعوات التغريب ومصطلحاتها بعد التجارب والمحاولات الكثيرة، فكان لا بد لهم من تغيير استراتيجيتهم في ذلك ومحاولة التسلل إلى عالم المسلمين من خلال المعاني الإسلامية نفسها حيث يسقطون عليها مصطلحاتهم، ويوهمون السذج والبسطاء أنهم ليسوا غرباء عن فكر الأمة في ادعاءاتهم، فالديمقراطية هي الشورى، والرأسمالية هي مبدأ إقرار الملكية في الإسلام، والاشتراكية هي العدالة الاجتماعية، والصراع من أجل السيطرة الاقتصادية هو الفتح الإسلامي، والصدام الحتمي بين اليمين الرجعي واليسار التقدمي هو التفسير لبعض المشكلات الداخلية في المجتمع والتاريخ الإسلامي. . .
قد تكون المشكلة عند معظم مثقفينا، جيل ما بعد الاستعمار العسكري، ادعاء العصمة لحضارة الغربية الأوروبية (1) بسبب من التفوق الغربي والتخلف في عالم المسلمين، وجعلها مقياساً لكل حضارة وتقدم، وتطبيق المعايير المادية الأوروبية على الإسلام ومحاكمة تاريخه على ضوء التاريخ الأوروبي، وعدم قياس الحضارة الإسلامية بمقاييسها وردها إلى أصولها، وإنما ردها إلى أصول حضارة غريبة عنها، مادية في أصولها، وهذا بلا شك أوقع الكثيرين في عملية التخليط في النظر إلى أحكام العقل واجتهاده القابل للخطأ والصواب، وأحكام الوحي ونصوصه الثابتة المعصومة. . . وأن مقاييس الفصح والاختبار التي يخضع لها حكم العقل لا يمكن بحال من الأحوال أن تطبق على حكم الوحي، وإنما يقتصر دور العقل في ذلك على التأكد من ثبوت النصوص من حيث السند وسلامة مدلولاتها فقط، لأن الأمر قائم على قاعدة التسليم بالنبوة ابتداءً.
لقد ظهرت على الساحة الفكرية كتابات كثيرة كانت صدىً لمشكلات فكرية إنسانية، وكان أن تناول الحديث في هذه القضايا كتَّاب ومفكرون من اتجاهات مختلفة، ونحن لا بد أن نعترف أننا مسبوقون إلى طرح كثير من القضايا بعد أن توقف المجتمع الإسلامي عن النمو، والعقل الإسلامي عن العطاء، لذلك جاءت أكثر كتاباتنا في إطار ما يسمى "الفكر الدفاعي" بسبب من طرح غيرنا، وهنا انبرى للمواجهة الثقافية من يحسنها ومن لا يحسنها من الذين يفتقدون الثقافة الإسلامية الأصيلة، فوقعوا بمغالطات فكرية واصطلاحية ساهمت بتكريس التخلف والضياع، وأثقلت الذهن الإسلامي وزادت من عجزه. . .
من هنا كان لا بد من التنبيه إلى ضرورة المحافظة على المصطلحات في الأمة، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، إنها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري. .(9/1)
وقد نبه القرآن الكريم لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا ) ونهى عن مصطلح (راعنا ) الذي كان يستعمله يهود ليحققوا فيه أغراضاً في نفوسهم، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [البقرة:104].
إن أهمية المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، أمر ذو أهمية بالغة إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين يفردون صفحات في مؤلفاتهم لمعجم المصطلحات المستعملة والدلالات التي أرادوها من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكرياً وثقافياً حتى يتحقق الوضوح ولا يحمَّل الكلام أكثر مما يحتمل. . .
ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أن قضية المصطلحات أخذت من الأخ المؤلف عناية مشكورة، ومساحة لا بأس بها، وقد كانت مناقشة المصطلح مدخله إلى الكتابة حينما اقترح أن تكون التسمية "المذهبية الإسلامية " بدل "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " وخطَّأ من ذهب إلى اصطلاح "الفكر الإسلامي " و "التصور الإسلامي " لأنه تخوف أن يخلط بسبب ذلك بين إفرازات العقل واجتهاداته وبين الكتاب والسنة كوحي معصوم، ونحن نعتقد أن التنبيه إلى هذا لدفع احتماله ذو أهمية في المجال الفكري الإسلامي، وإن كنا لا نعتقد حصول مثل هذا الالتباس عند أصحاب المصطلحين، وعند الكثير من قرائهم، على كل تبقى وجهة نظر تغني العقل الإسلامي وتسهم بإيضاح الصورة ودفع الالتباس. . . ولا شك أن مصطلح "المذهبية الإسلامية" الذي ارتضاه المؤلف سوف يذهب ببعض الناس سريعاً إلى الساحة الفقهية ويصنع لهم حاجزاً نفسياً، وقد يسرع باتخاذ موقف تجاهه، ولا يستسيغه بتلك السرعة حتى يتحقق من التحديدات والمقارنات التي أوردها المؤلف، ووجهة نظره في الاختيار. . .
نعود إلى القول: إن هذا الكتاب جاء مساهمة طيبة في مجال إنهاء حالة العطالة التي وقع فيها كثير من المسلمين في مواجهة التغيير الاجتماعي بسبب من التصور المحزن، من أن مشيئة الله تعني السلبية وتعطيل الأسباب دون أن يعلموا أن الله هو الذي شرع الأسباب وأمر الناس بالتعامل معها للوصول إلى النتائج، وأن هذه الأسباب هي إرادة الله ومشيئته، وأن عملية الاستخلاف لا تؤدي ولا تتحقق إلا بالتماسها، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، وأن التزام هذا والتعرف عليه هو غاية التكليف، ودور النبوة في ذلك هو الهداية والتدريب ومسئوليتنا حسن التأسي وسلامة الاقتداء.
كما أن الكتاب ساهم وإلى حد بعيد بتحقيق قسمات الذات الحضارية المسلمة ،ذلك أنه على الرغم من الكلام الكثير عن التميز الحضاري الإسلامي وضرورته لنهوض الأمة، لا يزال الأمر في حدود الشعار، بعيداً عن الممارسة، لأن كثيرين من دعاة التميز يعيشون ضمن الأطر الغربية في حياتهم ومعاشهم ووسائلهم. . . ذلك أن ترميم بعض المفاهيم والأفكار من خلال القراءة الجانبية والانتصار العاطفي للإسلام لا يكفي لنقل المثقف المسلم إلى الخط الإسلامي الصحيح والمنظومة الحضارية الإسلامية ومصطلحاتها. . .
والله نسأل أن يسدد الخطا ويجزل مثوبته للأخ الدكتور محسن عبد الحميد أحمد وينفع به، إنه حسبنا ونعم الوكيل.
==============
تحديد المصطلح
إن تحديد المصطلحات التي يستعملها الباحث أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور مع المؤالفين والمخالفين في حلقة مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة نتفق عليها، للوصول إلى حل أي مشكل.
ولقد درج المفكرون والباحثون على استعمال كلمة "الأيديولوجية" بمعنى العقيدة. وهم يقصدون العقائد الإنسانية، أي ما يصل إليه الإنسان بفكره لتأسيس مفاهيمه الأساسية التي تشكل إطاراً فكرياً لنظرته الكلية إلى الوجود.
حاول كثير ن الكتاب الإسلاميين أن يستعملوا "الفكر الإسلامي " (1) أو "الفكرة الإسلامية " بمعنى الإسلام. غير أن هؤلاء مع فضلهم قد وقعوا في خطأ كبير، دون أن يتقصدوا ذلك. إذ كيف يمكن أن يكون الوحي الإلهي مظهراً للفكر الإنساني؟.. فالفكر إفراز عقلي لإدراك ما حوله من وجود. وإذا كان هذا المعنى: "الفكر الإسلامي " يصح على ما أنتجه الفكر المسلم الذي ينطلق من الإسلام في مضامير الحياة كلها، فإنه أبداً لا يجوز أن يُستعمل للدلالة على الوحي الإلهي (للإسلام ) حتى لا يؤدي إلى الخلط بين الوحي والفكر. فالإسلام معصوم كله، بينما الفكر الإسلامي، ليس معصوماً ولا مقدساً، يحتمل الخطأ والصواب والمراجعة في عصره وفي العصور التالية.
وحاول بعض مفكري الإسلام أن يضع بدل "الفكر الإسلامي " مصطلح "التصور الإسلامي " (2) وهذا خطأ مثله. لأن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الصدق والكب كما هو ثابت في علم المنطق، فلا يمكن أن يستعمل التصور بمعنى كليات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل بمعناه الثاني الذي يدل على أنه إفراز للعقل، وليس معصوماً ولا مقدساً.
وذهب عدد من الكتاب الإسلاميين في السنوات الأخيرة إلى استعمال "المذهبية "(3) للدلالة على ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والإنسان، أي القضايا التي تتعلق بالكليات وليست الجزئيات.
والحق أن هذه اللفظة زيادة على أنها دالة على معناها لغة، يمكن أن تتحول إلى اصطلاح يحقق هدف الإسلاميين من إطلاقهم لفظ "الفكر الإسلامي " الذي رفضناه بالمعنى الذي استعمل فيه (الوحي ) كتاباً وسنة. ثم إنه يخصنا بلفظة تميزنا وتحول بيننا وبين استعمال كلمة "الأيديولوجية " الأجنبية بمعنى الأصول والكليات الإسلامية.
وقد يقول قائل: لماذا لا نستعمل "العقيدة الإسلامية" للدلالة على المعنى الذي نريد، حتى نتخلص من المصطلحات الأخرى.
نقول: إن "العقيدة الإسلامية " مصطلح مستعمل منذ القديم، يشمل الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر فقط، بينما نحن نريد مصطلحاً أشمل من هذا. فـ "المذهبية الإسلامية " تشمل العقيدة الإسلامية وتشمل غيرها من الكليات التي ارتضاها الإسلام في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموماً أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هو فرد.
إن علماء الكلام عندما حصروا كليات الإسلام في دائرة الموضوعات الأربعة، وسموها "العقيدة الإسلامية" أو "علم الكلام " أو "التوحيد " انطلقوا من واقع الصراع الفكري في عصرهم، وحددوا مواقف الإسلام ن خلال الكتاب والسنة واجتهاداتهم في فهمها، في القضايا المذكورة، التي كانت مثار النقاش يومئذ مع الفلاسفة ولا هوتيِّي أهل الملل والنحل الأخرى.
أما اليوم فقد تبدلت ظروف الصراع الفكري، فالمذاهب الأخرى تقدم كلياتها في القضايا التي تتعلق بأصول عقائدها وفكرها في إطار الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان.(9/2)
وبما أن الإسلام قد حدد مواقفه التفصيلية من أصول القضايا الكبرى في الحياة والمجتمع والإنسان، فلا بد أن نضيف تلك التفصيلات على الأصول العقائدية الأخرى، حتى تتأصل عندنا "المذهبية الإسلامية " بشمولها، كي تستطيع أن تواجه المذهبيات الأخرى، في كل ما تتعرض له من أصول أفكارها. لأن تلك المذهبيات قد غزتنا في عقر دارنا، فنحن لا نستطيع تجاهلها، ونبقي على الموضوعات المثبتة في علم اللام شكلاً ومضموناً. لأن علم الكلام بشكله القديم لم يعد يفيدنا في صراعنا العصري. زد على ذلك أن علم الكلام القديم قد خلط في تقديم العقيدة الإسلامية بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي في تصور تلك العقيدة. ونحن لا نريد أن نرتكب اليوم هذا الخطأ الكبير، إذ من الضروري جداً في صراعنا الفكري اليوم وفي محاولتنا تغيير وجهة حياتنا الحضارية، أن نفصل بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي، كي لا تتحول الاجتهادات العقلية إلى أصول ثابتة، تحسب على الوحي المعصوم نفسه، فتعيق حركتنا العقلية الحاضرة، وتسلب حرية مراجعتنا لاجتهادات أسلافنا. ثم تحول بيننا وبين الحركة باتجاه تأصيل حياتنا الفكرية في ضوء التغييرات التي تحدث في عالمنا المعاصر.
وقد يقال: إن "المذهبية الإسلامية " قد تلتبس بالمذهبية الفقهية، نقول: لا يحصل هذا الالتباس إن شاء الله، لأن المذهبية الفقهية تستعمل في إطار محدود جداً، ثم لم يصفها أحد إلى الآن بالمذهبية الإسلامية. فإطلاق هذا المصطلح الجديد واضح يشهد عليه سياقه، وتدل عليه الموضوعات التي تعالج ضمن حدوده.
وفي رأيي أن كثرة استعمال مصطلح "المذهبية الإسلامية " ستركزه في الأذهان، وسترفع عنه كل التباس أو غرابة، وستنقذنا من استعمال المصطلح الأجنبي "الأيديولوجية ". وسنضع باستعماله حداً فاصلاً بينه وبين مصطلح "الفكر الإسلامي " أو "التصور الإسلامي " اللذين لهما معنى آخر، هو المعنى الاستنباطي أو الاجتهادي الذي تحدثنا عنه.
إذن فالإسلام دين الله الخالد الثابت وحياً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، و "المذهبية الإسلامية" هي كليات الإسلام في الوجود كله، و "الفكر الإسلامي " هو ما أنتجه المسلمون في ظل الإسلام من فكر بشري في الفلسفة والكلام والفقه وأصوله والتصوف والعلوم الإنسانية منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.
وأما التصور الإسلامي، فيمكن أن يستعمل بمعنى الفكر الإسلامي لأنه مثله عملية عقلية بحتة
=============
المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر
إن منهج التغيير الإسلامي المنبثق أساساً من المذهبية الإسلامية في الوجود، لا بد أن يضع خطاً فاصلاً واضحاً بين ما هو وحي إلهي وبين ما هو جهد بشري، أو فكر بشري أو تصور بشري لمسائل حول الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة.
إن تسمية الوحي وما حوله من فكر، بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير شجع أرباب المذاهب المادية والعلمانيين على الجرأة في تسميتهما معاً بـ "التراث ". فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا هذا التراث، يراجعونه من حيث هو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية، فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي. والحال أن الوحي من حيث هو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له. فهو ليس تاريخاً للبشرية أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم.
وإذا كان من الممكن أن يقول قائل: إن الشرائع التي جاءت قبل الإسلام، كانت مراحل تتصل بالفترات بين الأنبياء والمرسلين. فإن هذا - في عقيدة المسلم - لا يصح أساساً بالنسبة للإسلام، لأن الله تعالى قد ارتضى للبشرية شريعة متكاملة متوازنة لم تختص بمرحلة تاريخية معينة، وإنما هي شريعة خالدة إلى يوم الدين، إذ لا نبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
((مَا كَانَ مُحَمَدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّيين َ)) [الأحزاب:40].
وهذه الشريعة العامل لها جانبان؛ جانب دستوري عبارة عن نصوص قاطعة سواء أكانت في بيان أصول العقائد أو ما يتصل بأسس تنظيم الحياة البشرية في كلياتها وبعض جزئياتها المهمة. وجانب آخر يتعلق بتفاصيل ذلك التنظيم وبجزئياتها المتصلة بتغير الحياة الإنسانية في مظاهرها المتنوعة. وهذا الجانب هو الفقه الإسلامي الذي يمثل اجتهادات العلماء أو أحكام العلماء، وليس بالضرورة أحكام الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم كانوا لا يقبلون قول القائل في المسائل الاجتهادية، هذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هذا ما حكم به "أبو بكر "، وهذا ما قضى به "عمر "، وذلك ما رآه علي رضي الله عنهم أجمعين.
ويتحصل عندنا من هذه المقدمة أمر مهم هو أن الفترة التي أعقبت الوحي المحمدي عليه الصلاة والسلام إلى اليوم وإلى قيام الساعة، ليست فترة معصومة مقدسة، وإنما هي فترة خاصة باجتهاد العقل الإنساني في مناحي الحياة كلها. فتح الإسلام فيها أمام البشرية أبواب الحركة والتغيير والاجتهاد في إطار القوانين الضابطة لحركة الفكر والحضارة التي سماها علماء الإسلام بعلم "أصول الفقه " الذي يُعد بحق المنهج الحقيقي لأصول البحث العلمي والعقلي، والذي يشكل صمام الأمان للاطمئنان على توازن تلك الحركة وعدم خروجها على سنن الخالق التي أودعها في الوجود كله.
وإذن فما يتقوله الذين يريدون أن يعتمدوا على الفلسفات المادية والعلمانية (4) في إحداث التغيير في العالم الإسلامي، لا سيما العربي منه، من أن الإسلاميين تراثيون أو أنهم ينظرون نظرة تراثية يجهلون أو يتجاهلون حقيقتين مهمتين. .
• (أولاهما ) : استقلال الإسلام من حيث هو وحي إلهي عن الزمان والمكان، ومن حيث خلوده لأنه لا دين بعده ولا نسخ لعقائده وأحكامه.
• (وثانيهما ) : جهلهم المركب بحقيقة أن علماء الإسلام ومفكريه وفقهاءه العظام أدركوا تمام الإدراك، أن ما في التاريخ الإسلامي من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، لا يدخل في المفهوم الأول، بل هو تاريخ الاجتهاد المناسب للمراحل الزمنية يمكن تجاوز أية جزئية أو قضية فيه وإخضاعها من جديد إلى المناقشة وعرضها على مدى تحقيقها للمصالح الحاضرة المضبوطة.
ولقد نبه إلى ذلك مفكرو الحركة الإسلامية الحديثة في كل ما كتبوا، ولكن مصيبة التيارات غير الإسلامية، أنها لا تريد أن تقرأ الإسلام وحقائقه، متعمدة ومتجاهلة لجمودها العقائدي، ولعدم طلبها الحق لذاته، فهم إما ملاحدة ما ديون ينكرون أصل الإسلام وجميع الأديان، ويرفضون معه عقيدة الألوهية، ومن هؤلاء من ليست لهم الجرأة لإظهار ذلك الإنكار صراحة، فيلجئون إلى طريقة حشره ضمن مصطلح "التراث " لإعادة النظر فيه ومحاربته جميعاً باعتبار قدمه ومحاربة دوره في الوقت الحاضر. ومن هؤلاء من يتراجعون أمام زحف التيار الإسلامي بمنطقة العقلي العصري، خشية الاصطدام ثم الموت، لأن المجتمع الإسلامي اليوم يرفض الإلحاد رفضاً قاطعاً من خلال منطق العلم ومعرفة حقيقة الإسلام. فداعي الإلحاد لا مكان له اليوم في العالم الإسلامي.(9/3)
ومن هنا فهو يقول: ماذا سأخسر إن قلت: إن الإسلام ديننا وتراثنا، لأن هذا واقع من جهة، ولا يترك أثراً في الحياة الحاضرة من جهة أخرى. فالمذاهب المادية إذا تقدمت في ضوء تلفيقها مع التراث، ستسيطر على المجتمع كله، والتراث عندئذ لا يكون مكانه إلا في كتب التاريخ ومعالجة التراث سهلة عند ذلك، لأنه سيسقط ماديته على التراث كله، بدعوى البحث عن الجوانب المشرقة في التراث، فالنتيجة أن التراث في ظل هذه المعانقة سـ "يتمركس " على سبيل المثال من دون إثارة مشكلة الإلحاد أصلاً في العالم الإسلامي.
وأما العلمانيون فإنهم يحتفظون باسم الإسلام، ولكنهم توجهوا إلى دراسة تلك الفلسفات قبل دراستهم للإسلام فآمنوا بها ودعوا إليها على أساس أنها أنظمة دنيوية لا تصطدم مع إسلامهم، لأن الإسلام يدعو إلى العدل ويرحب بتحقيق كرامة الإنسان وهذه المبادئ تحقق ذلك.
وهؤلاء كلما درسوا الإسلام أكثر اقتربوا منه أكثر، فهم يبدءون من عملية التلفيق والدمج، ثم ينتهون إلى عملية الاستفادة.
أما عملية التلفيق فيقصدون أننا يمكن أن نأخذ الجانب الروحي من الإسلام مع الماركسية من حيث هي منهج علمي للنضال على حد تعبيرهم، ويقولون: إن مشكلة الإلحاد في الماركسية لا تخصنا إنما تخص الصراع الأوروبي بين العلماء والمناضلين وبين الكنيسة، ولكننا نختلف عنهم لكون ذلك الصراع ليست له علاقة بتاريخنا (5).
ولجأ هؤلاء إلى المصادر الإسلامية ليستخرجوا منها الآيات والأحاديث والوقائع التاريخية التي تدعو إلى عدم التمايز والمساواة وإيثار المصلحة العامة وتحقيق العدل الاجتماعي، لكي ينتهوا إلى أن الماركسية لا تقول بأكثر من ذلك فلماذا لا نستفيد منها؟.
وهذا التلفيق والامتزاج بين الإسلام والمبادئ الماركسية مرفوض للأسباب التالية:
- الأول:
لأن الإسلام دين الله الحق الكامل الشامل، له "مذهبية" تفصيلية في الوجود كله، تقوم على الحق والعدل والميزان، تنبثق منه أسس وقواعد أنظمة عدة، مترابطة، يربط بينها منطق داخلي دقيق، بحيث يشكل نظاماً واحداً متشابكاً لا يمكن فصل جزء منه عن جزء، فدعوى أخذ جانب منه مع جانب آخر من الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية إخلال بتوازنه وتفكيك لمنطقة الداخلي الموحِّد، وطعن صريح في كماله، وهذا يعني أن الإسلام بقواعده وأصوله من خلال العقل المسلم لا يستطيع رفد الزمان والمتتابع بما يحتاج إليه من ضوابط التغيير وحلوله وأنظمته التفصيلية. في الوقت الذي يتضح لكل دارس منصف أن الإسلام بمنطقه الداخلي وعن طريق أصوله وقواعده ومن خلال حركة العقل المسلم المدرك لسنن الله في الوجود والعمران، يستطيع إحداث حركة التغيير الجذري الشامل في كل عصر، وتحقيق كل ما يعود إلى الإنسان من خير وصلاح واستقامة وعدل.
ومن المؤسف أن أقول: إن جهل كثير من أبناء الإسلام بهذه الحقائق الإسلامية وعدم طلبهم الحق لذاته من خلال العقد الشعورية واللاشعورية التي أصيبوا بها ضد الإسلام ظاهراً أو ضمناً، ومن أرضية الخضوع لرواسب الثقافات الأجنبية التي صنعت شخصياتهم، يحول بينهم وبين إدراك تلك الحقائق.
وياليتهم فعلوا مثل ما فعل الفيلسوف الفرنسي المسلم (رجاء غارودي ) فلقد كان غارودي من أكابر مثقفي الماركسية في هذا العصر ثم وجد من خلال تجربة فكرية معقدة، وممارسة واقعية قاسية، أن الماركسية لا تمثل أوجه الحقيقة كلها، وإنما تمثل وجهاً واحداً منها، فدعا إلى المبدأ البديل في كتابه (البديل ) واقترح للإنسانية نظاماً على أساس روحية الدين ممزوجاً بتحقيق حرية الإنسان في المذهب الديمقراطي الغربي ملفقاً مع الاقتصاد الماركسي. ثم تقدمت بغارودي الدراسة، فاكتشف أنه من المستحيل أن يتم هذا التلفيق لأننا نأخذ عندئذ جزءاً مترابطاً مع كل في كل قضية، ونريد أن نمزجه مع جزأين آخرين من كلّين مختلفين، فغدت عندنا ثلاث قضايا ملفقة في الظاهر، ولكن تفتقد إلى منطق ذاتي داخلي يربط بينها.
وتقدم غارودي لسنوات طويلة خطوة فخطوة يريد اكتشاف المنطق الموحِّد. من خلال دراسة عميقة للإسلام التي بدأها منذ أيام ماركسيته، وانتهى إلى الاكتشاف العظيم في كتابه "ما يعد به الإسلام ".
فلقد وصل غارودي هذه المرة إلى المذهبية الإسلامية الشاملة، ومنطقها الكوني الذي جمع بين ظواهره بقانون داخلي رابط، يشكل دين الإسلام، فذابت عنده في هذه السبيل، عملية تلفيق المبادئ ودمج المنظومات المختلفة، وأعلن إسلامه بكل وضوح ورآه الطريق الوحيد لإخراج الإنسان من أزمته الحضارية الخانقة في هذا العصر.
لم يتراجع غارودي عن إيمانه بالحرية، ولا بتحقيق كرامة الإنسان، ولم يتخل عن عشقه للعدل الاجتماعي وانحيازه الكامل للمسحوقين والمستضعفين في المجتمعات البشرية، ولكن تراجع وتخلى فقط عن التفسير الإلحادي الماركسي للتاريخ ثم عن المنهج الخاطئ، منهج التلفيق والدمج.
لقد رأى غارودي كل آماله في هذا الدين الخاتم ومذهبيته الكونية الشاملة المترابطة، وأدرك أن طريق النضال الوحيد أمام البشرية هو الإيمان بالإسلام ومبادئه الفطرية المنسقة في الكون والمجتمع والإنسان.
وكذلك يا ليتهم فعلوا مثل ما فعل الكاتب العربي الأستاذ "منير شفيق " فلقد قضى في الماركسية سنوات طويلة، مؤمناً بها مدافعاً عنها، مناضلاً في سبيل تمكينها في المجتمع العربي المسلم، ثم تهيأت له سبل دراسة الإسلام فدرسه دراسة واعية مُنصفة عميقة، فظهرت أمامه الحقيقة واضحة جليَّة. ولم يحاول أن يلفق بين الإسلام والماركسية، لأنه أدرك أن من يحاول أن يأخذ من الإسلام جانباً منه ويترك منظومته المتكاملة سينتهي إلى شيء آخر غير الإسلام. ولذلك فإنه ترك الماركسية إلى غير رجعة وألَّف كتابه النفيس "الإسلام في معركة الحضارة " عرض فيه قضية الإسلام، بعقيدة راسخة ويقين كامل ومنطق سليم في إطار من الفهم الدقيق لمذهبية الإسلام الشاملة ووحدتها الداخلية الرصينة.
- الثاني:
لو جئنا إلى الواقع من خلال استقراء شامل للحياة في العالم الإسلامي لوجدنا أن محاولة التلفيق بين الإسلام وبين الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية، انتهت إلى التضحية بالإسلام، وإخراجه من معظم مجالات الحياة، ويدل على ذلك ما يلي:
(أ) التوجيه العام في تربية الأجيال غدا توجيهاً مقطوعاً عن الإسلام خاضعاً لمناهج الدوائر العلمانية والمادية الغربية في التربية والتعليم بحيث أدى إلى فصل التعليم الديني عن التعليم العلمي والإنساني، مع التقصد المخطط في إهمال التعليم الديني ومؤسساته، تمهيداً لحصر دوره أو القضاء عليه.
(ب) قادت التربية العلمانية والمادية أجهزة الإعلام المتنوعة في طريق التنكر للإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً وحضارة والاكتفاء بعرضه عرضاً لاهوتياً أو "فولكلورياً " تراثياً متحفياً في مناسبات معينة.
(ج) عبرت في ظلها المبادئ الغربية المادية والعلمانية والجنسية الإباحية، فتمكنت من حفر أخاديد واسعة وتيارات كبيرة في المجتمعات الإسلامية، انتهت إلى الفرقة والقلق والحيرة والسلبية في الحياة. وبالمقابل فقد حوصر الإسلام حصاراً يكاد يكون كاملاً، وغدت الدعوة إلى حقائقه ومحاولة تمكينها ولو بالطرق السليمة، ومن خلال جهود جماعية، جريمة كبيرة، يتعرض أصحابها من خلالها إلى الاضطهاد المتنوع، وصل في بعض الأحوال إلى التصفيات الجسدية.(9/4)
(د) ارتبطت تلك الأنظمة العلمانية بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية؛ العلنية منها والسرية، بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة ضد قوة أخرى، وانتهت إلى التمزق بين أجزاء الأمة الإسلامية، لا سيما الأمة العربية الواحدة، وأدت هذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة، عقيدة وحضارة وهدفاً ومصيراً. وتمكّنِ اليهود في فلسطين وضمهِم لأجزائها وما حولها، وتجسدت كارثة الفرقة إلى درجة أن المتخندقين من الفدائيين الفلسطينيين وجه بعضهم إلى بعضهم الآخر فوهات مدافع الدبابات والرشاشات والبنادق. كما أن جيوش الأعداء استدعيت لغزو بلاد إسلامية عدة من قبل حكامها العلمانيين أو الماديين مباشرة أو غير مباشرة.
(هـ) في ظل التلفيق بين الإسلام تراثاً وبين المذاهب المادية والعلمانية عقيدة وحضارة ومنهجاً فرضت على الأمة أنظمة القهر والاستبداد واستعملت خبرة الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقة بطبقة وظلم بظلم أشد. وبقي المظلومون والمستضعفون على حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.
لم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا.
لم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادّعوا.
لم تتحقق وحدة الأمة كما طبلوا لها وزمروا، بل زادوها أوصالاً وتقطيعاً.
لم تتكون العقلية العلمية في الأمة كما أملوا، بل زادت الخرافة والجمود، واستعانوا بها هذه المرة للقضاء على حقائق الإسلام. . فأي تلفيق هذا الذي يريدون، وعن أي مزج هم يتحدثون.
لقد كانت الضحية الوحيدة لهذا التقريب المزعوم هو الإسلام بحقائقه وحضارته وأمجاده وأمته وترابه.
(و) كان من ثمار هذه التربية المادية والعلمانية، انتشار مظاهر الانحراف في حياة المسلمين؛ فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى الخلاعة الجنسية على شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلى تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها، تلك الفضائح الاجتماعية والأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى الأجيال المسلمة.
إن المنهج الذي يدعو إلى التوفيق بين مبادئ الإسلام وبين الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة الحديثة، منهج فيه ثغرة كبرى، لأنه ينطلق من أمرين متضادين، إذ لكل من الإسلام والحضارة الغربية أرضيته الخاصة، ونمطه الحضاري المتميز، فلا يجوز قطع جزء من الإسلام، ودمجه مع جزء معين من مذهب آخر أنتجته حضارة مختلفة، ليخرجا كُلاًّ فيه جزءان متباينان، لأن الكل الجديد عند ذلك يفقد تسلسله المنطقي ووحدته الداخلية واتزانه الحضاري.
وكذلك المنهج الذي يقول: إنني أؤمن بالإسلام ولكنني أستفيد من المبادئ الأخرى في الحضارة الغربية الحديثة وأدخلها في الإسلام إدخالاً لا تفقده ملامحه الخاصة.
وعلى الرغم من أن هذا المنهج هو تعبير آخر عن المنهج التلفيقي، غير أن صحابه - إذا كانوا مسلمين حقاً - لا بد أن يعدلوه، وتعديله يكون بأن أدرس الإسلام دراسة واعية، ولا أنسى أنني أعيش في القرن الخامس عشر الهجري، ولا بد أن أعلم أني محاط بحضارات أخرى هي حصيلة التجارب البشرية غير المعصومة، مع ما بقي فيها من مبادئ الأديان السماوية السابقة على الإسلام. فأدرسها دراسة ناقدة وأهضم ما أريد أن أهضمه منها في داخل ضوابط ومنطلقات وخصائص حضارتي الإسلامية، ثم أبدأ بحل المعضلات التي أواجهها من خلال عقيدتي الواضحة وتجارب الإنسانية الشاملة في عالم الشهادة (المادة )، لأصل في النهاية إلى اقتراح حل ما للمشكلة الاقتصادية، قد يقترب كثيراً أو قليلاً من حلول الأنظمة الأخرى. ولا يمكن أن يعترض عند ذلك عليّ فيقال: أنت نقلت القضية الفلانية من المبدأ الفلاني، لأنني في الواقع لم أنقلها، وإنما توصلت من خلال مذهبيتي المفتوحة إلى حل مشكلة منفردة، هي ظاهرة من ظواهر المجتمعات البشرية كلها، كل منا يدرسها بطريقته الخاصة، ويوجد الحلول المناسبة مسترشداً بإطاره الثقافي، ونمطه العقيدي.
إن القضايا عند ما تفرد؛ كل قضية وحدها وتعالج، عند ذلك تتصل بوجود الإنسان من حيث هو إنسان. إذ أن القضايا الجوهرية التي تتصل به، مشتركة، ولكن كل نمط حضاري ينظر إليها ويتقدم إلى دراستها وحلها من زاويته الخاصة، وقد تتقارب النتائج في النهاية، ولكن كل نتيجة ضمن منظومته الحضارية.
فعلى سبيل المثال: عندما ألقي نظرة على المجتمع الإسلامي وأجد أن التوازن الاقتصادي مفقود فيه، أبدأ بالتفكير من المنطلق الإسلامي لإيجاد حل لهذه المشكلة التي قد تسبب مأساة إنسانية لا يرضى عنها الإسلام، فأقترح حلولاً ضمن مخطط عام للقضاء على تلك المأساة، وقد يقترب بعض ما في حلولي الإسلامية من بعض ما تقرره الماركسية أو النظريات الاشتراكية الأخرى. فلا يمكن أن يدعي امرؤ أنني أطبق هنا مع الإسلام أحد تلك النظم الاقتصادية، لأن منطلقي يختلف تماماً، فأنا أتحرك داخل الإسلام وضوابطه ونظمه الحضارية، والإنسان قد تتشابه مشاكله في ظل الأنظمة المتضادة، ومع ذلك التضاد، فقد تأتي الحلول متقاربة في نتائجها، والسبب جوهر المشاكل الإنسانية، لا تَلَقِّي كل مذهبية تلقياً مباشراً من الأخرى.
ويمكن أن أنتقل من هذا العموم إلى ضرب مثل خاص من الجزئيات الكثيرة المندرجة تحته فأقول:
لو نظر اقتصادي إسلامي وماركسي واشتراكي إلى قرض المصرف العقاري، فانتهى الثلاثة إلى أن كل أسرة لها حق في امتلاك حد أدني من السكنى، حتى لا تعيش في العراء فتتعرض كرامتها الإنسانية إلى المهانة.
ورأى الثلاثة أن الواجب على الدولة التي تمثل الشخصية المعنوية لمجموع أفراد المجتمع أن تؤمن لهم ذلك، ورأوا أن أخذ الفائدة على المبلغ المقترض لتأمين السكنى الضروري ظلم اجتماعي، يحيل عقلية الدولة إلى عقلية تاجر يريد تأمين الربح أولاً، ثم اقترح الثلاثة أن الحل هو في إلغاء الربا في هذا القرض. ولكن مع هذا الاتفاق الظاهري نجد أن المذهبية التي ينطلق منها الثلاثة تختلف مع الأخرى في المقدمة والنتيجة، وسنجد أن نظرة الاقتصادي المسلم تختلف عن نظرة صاحبيه. لأن إلغاء القرض عنده ليس استجابة لرفع ظلم اجتماعي فحسب، وإنما تتقدمه الاستجابة لأمر ربه في تحريم الظلم كقانون كوني ثابت، فقد حرم الظلم على نفسه وحرّمه على عباده، وهذا الحرام لا يتبدل بتبدل الظروف قط كما في الأنظمة الأخرى، لأن الربا قد يعود عند الأزمات الاقتصادية مثلاً في ظل تدابيرها الاقتصادية.
فالقضية هنا تخضع لحسابات مادية، بينما الربا على ذلك القرض لا يمكن أن يعود في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، لحرمته الشرعية، استجابة لأمر الخالق. ولذلك فإن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تعيد هذه الفائدة حتى في الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، بسبب الحرمة أولاً، ولأنها ضمن الإطار الشامل المرن للاقتصاد الإسلامي تستطيع أن تتحرك في اتجاهات كثيرة لسد ذلك النقص في داخل ضوابط الشريعة وقواعدها العامة المرنة.
إن الحلول المتسقة مع المذهبية الإسلامية وخصائصها والتي تظهر إلى عالم الواقع ضمن نظامها العام، تسمى حلولاً إسلامية، وليست حلولاً ماركسية ولا اشتراكية ولا رأسمالية إن كانت القضية تتصل بحرية الإنسان.(9/5)
إن المفكر المسلم هنا كالأديب العربي الذي يقرأ أدبه ويقرأ الآداب الأخرى ويطلع على حياة أصحابها وآرائهم في الوجود من خلالها، ثم يكتب أدباً جديداً، ولكنه أدب عربي أصيل بشكله ومضمونه. فاشتراكه مع أديب إنجليزي أو فرنسي في الأنماط البلاغية والمعالجات الحياتية والنتائج المشابهة لا يسلب عنه الشخصية العربية المستقلة وأسلوب التفكير الخاص.
==============
المذهبية الإسلامية ونمطها الخاص
من البديهيات الثابتة في علم الاجتماع أن المجتمعات البشرية متنوعة في أنماطها الحضارية التي تشكل خلفيتها التاريخية وتؤثر في حياتها حاضراً ومستقبلاً.
إن تلك الأنماط الحضارية، يرسم تفاصيلها التطور التاريخي للأمم في عقائدها وثقافتها ولآدابها وفنونها وأعرافها وتقاليدها، فهي تُكَوِّن منطومتها الحيوية ووحدتها الداخلية. فإذا أردنا أن تحفظ حضارة ما بملامحها ووحدتها، وشخصيتها المستقلة، فلا بد أن يجرى التغيير في إطارها، حتى تكون استمراريتها متوازنة ومتواصلة، كي لا تفقد خصائصها، فتنقطع تماماً عن ماضيها وخصائصها وتذوب في حضارات أمم أخرى، تختلف عنها في ركائزها وتصورها والنتائج التي تترتب عليها.
والمجتمع الإسلامي الذي صاغه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، صياغة حضارية انطلقت من مذهبيته في الكون والحياة والمجتمع والإنسان له خصائص معروفة(6)، شكلت تاريخه وتطوره وحركته وحافظت على وحدته الداخلية بانسجام ووضوح.
ولما كنا نعتقد من حيث كوننا مسلمين، أن الإسلام هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن مذهبيته الكونية هي المذهبية الصحيحة المنسجمة مع فطرة الإنسان، والمحققة لمصالحه، والمحافظة على توازن شخصيته واستقلاليتها، فإن أي تخطيط للتغيير الاجتماعي لا بد أن يجرى في إطار مذهبيته عقيدة وشريعة وسلوكاً، حتى تحافظ الحضارة الإسلامية على أسسها وخصائصها، وحتى لا تنحرف وتسقط أمام حضارات أخرى، مادية في أسسها، مصلحية في غاياتها، تؤله الإنسان وتسحقه في ذات الوقت، ولا تعترف بالعبودية الكاملة لرب العالمين، من حيث هو تعالى الإله المعبود الحق ولا معبود سواه.
والذين ينطلقون من منطلقات حضارية أخرى تتبع مذهبيات تتنافى في أسسها وخصائصها مع مذهبية الإسلام في الله تعالى والعالم والإنسان، يريدون أن يغيروا مجرى التاريخ، ويقطعوا الأمة عن خصائصها الحضارية واستمراريتها التاريخية، حتى تظهر أمة أخرى، غريبة عن ماضيها، تبدأ من الصفر، ولا تمت إلى الإسلام وحضارته الربانية الإنسانية السامية بصلة ما.
ولقد أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، لأن نمطها يختلف عن النمط الحضاري الإسلامي في جذوره وخصائصه وتطوره. وهي لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها، كنتيجة طبيعية لعوامل الإعاقة والتأخر في القرن الأخيرة من حياتها، تلك التي أسلمتها إلى الأعداء المستعمرين الذين خططوا للقضاء على وجودها وخصائصها وتحريفها عن طريقها الحضاري المستقل، زد على ذلك الاحتكاك الطبيعي بين الحضارات الذي هو سُنَّة من السُنن الاجتماعية في المجتمع الإنساني.
ماذا كانت النتيجة؟
لقد كانت النتيجة فادحة، لأن المجتمع الإسلامي، يحاول من جهة المحافظة على وحدته الحضارية الداخلية استجابة لمتطلبات مذهبيته الإسلامية، ومن جهة ثانية، فإن الحضارة الغربية بكل مقوماتها ومغرياتها فتحت مسارات كثيرة نفذت منها لتفجير المجتمع الإسلامي من الداخل وإحداث التغيير الشامل فيه على مقومات مذهبياتها المادية وخصائصها الحضارية، الرومانية، النصرانية، العلمانية.
إن رفض المجتمع الإسلامي للسقوط الحضاري من جهة وضغط الغزو الحضاري الغربي من جهة أخرى، قادنا إلى حالة خطيرة من الضياع والحيرة والانفصام، بحيث لو استمرت، فإن خروجنا السريع من هذه الفوضى الحضارية يكون في حكم المستحيل. وعدم الخروج السريع وعدم الوضوح في التخطيط والتغيير سيلحق بمجتمعاتنا الإسلامية أفدح الأضرار، بل سيدمرها تدميراً شاملاً، وسيتمكن منها الأعداء من كل جانب.
وقد طُرح إلى الآن حلاَّن أساسان، في الساحة الإسلامية للوصول إلى توجيه ناجح لضبط حركة التغيير الحضاري الشامل التي غدت لا مناص منها للخروج من الزمن الماضي الساكن إلى الزمن الحاضر والمستقبل.
أما الحل الأول فيقول:
لا بد أن يحدث التغيير في ضوء المذهبيات المادية والعلمانية التي تسيطر على الحضارة الحاضرة، التي هي في زعم القائلين به قدر البشرية اليوم.
وأما الحل الثاني فيؤمن:
أنه لا بد أن يحدث التغيير في إطار مذهبيتنا الإسلامية الشاملة وبنمطنا الحضاري الخاص الذي ميز أمتنا عن سائر الأمم، مع مراعاة سنن الله في الوجود، وتسخير القوانين المادية لصالح قيام الحضارة من جديد(7).
أما الحل الأول ففيه عزل كامل للإسلام عن مجتمعه من حيث هو دين ومذهبية متكاملة تتفرع منها عقائدنا وشرائعنا وأخلاقياتنا وقيمنا الحضارية وأمجادنا التاريخية. ثم هو قطع للأمة عن ماضيها وتحويل لها عن مجاريها، وإيجاد لأمة أخرى بعقائد جديدة وقيم جديدة وحياة جديدة.
وقد رفضت أمتنا هذا الحل الذي جاء كنتيجة لهيمنة المستعمرين من خلال حكمهم الطويل لبلاد الإسلام عن طريق المناهج التي فرضوها والمؤسسات الثقافية التي أنشئوها والمراكز الإعلامية التي ملئوا بها ساحتنا بأساليبها المتنوعة ووسائلها المغرية.
وهذا الحل في ذاته فاسد، إذ أن تلك الفلسفات المادية والمناهج العلمانية تعبر عن صراعات الأجيال والمؤسسات في تواريخ الأمم الغربية، فيما بينها، فهي من نتاج عقول بشرية في حضارة مادية في أصولها، رومانية في عبادتها للقوة، نصرانية في حقدها التاريخي على الأمة الإسلامية، فبأي حق، تسبغُ على تلك الفلسفات والمناهج العصمة والحتمية والموضوعية، كي تفرض على أمتنا الإسلامية، وهي تمتلك عقيدة ربانية حكيمة تتماشى مع فطرة الكون ومنطق الأشياء، وشريعة حكيمة مفتوحة تنظر إلى الإنسان نظرة شمولية متوازنة مع تكوينه ودوافعه، وحضارة علمية إنسانية ذات أخلاقيات رفيعة، وتاريخاً مجيداً يزخر بالبطولات والأمجاد وروح الفروسية الحقة في كل ناحية من نواحي الحياة.
إذن، لا مناص من الأخذ القاطع بالحل الثاني، الذي هو طريق الإسلام الحق ومذهبيته الشاملة المترابطة التي نبقى في ظلها مسلمين حقاً، ونحافظ على شخصيتنا الحضارية المستقلة، وتكون رؤيتنا واضحة لحاضرنا ومستقبلنا، فنخرج من الفوضى والحيرة والذوبان في منظومات حضارية أخرى.
إن هذا لا يعني الوقوف عند الماضي، لأن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان، فهو ماض وحاضر ومستقبل من دون تحديده، وهو حركة دائمة تدعو إلى التغيير المستمر والتجديد الدائم، لتحقيق الأمانة الكبرى في تحقيق خلافة الله على الأرض، وهي لا يمكن أن تتحقق على الوجه الكامل إلا بتسخير قوانين المادة. وتسخيرها لا يحقق صلاحها إلا في داخل المذهبية الإسلامية، لأنها ترتبط بها وتعبر عنها، فتخرج للناس حضارة متوازنة إنسانية لا حضارة مادية تنكر الإله، وتعبد القوة وترتكب الجرائم الوحشية بحق البشرية من منطلقات المصالح والعنصرية والأحقاد التاريخية.(9/6)
كتب المفكر الفرنسي الكير "رجاء غارودي " قبل أن يدخل في الإسلام، نقده العلمي التاريخي للحضارة الغربية، نلخص هنا ما يتعلق بموضوعنا على الوجه الآتي(8):
• استندت على الإرادة الفردية الغازية المريدة للربح والسيطرة، والتي لا تتردد لحظة واحدة في تدمير القارات والحضارات، من خلال توجيه العلوم والتقنيات.
• اعتمدت النظرة العلمانية الصرفة التي تؤكد أن العقل يحل كل المشاكل وأن كل المشاكل الأخرى هي مشاكل لاهوتية زائفة.
• إن هذه الحضارة، لم تستطع إلى الآن أن تحدد غايات الإنسان الحقيقية، ولا أن تسيطر على الوسائل التي توصله إلى تلك الغايات.
• إذن فهذه الحضارة تحيل الإنسان إلى العمل والاستهلاك، وتحيل الفكر إلى ذكاء آلي، فيتجرد من الإيمان والحب والشعور الفني، وتحيل اللانهائي إلى الكم، ولذلك فإن هذه الحضارة في رأي غارودي، مؤهلة للانتحار.
• إن تقدم الغرب، لم يكن نتيجة عظمة مبادئه، وإنما كان بالضرورة وليد نهب قارات ثلاث، ونقلها إلى أوروبة وأمريكا الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفاً. . ويثبت غارودي ذلك من خلال عرض تاريخي قائم على أساس إحصاءات دقيقة.
• إن هذه الحضارة أدخلت الرق طرازاً إنتاجياً لأول مرة في تاريخ أفريقيا.
• وهي أبادت الهنود الحمر في أمريكا، وأدخلت الأمراض الجنسية كالزهري لأول مرة بين الباقين.
• ولما قضوا على الهنود الحمر احتاجوا إلى الأيدي العاملة، فبدأ خطف السكان الأصليين في أفريقيا طوال ثلاثة قرون، واسترقاقهم ودفنهم في العمل بالمناجم الأمريكية في مأساة إنسانية تاريخية كبرى قضى فيها تسعون مليوناً من المختطفين الأفريقيين نحبهم ووصل عشرة ملايين تحت ظروف قاسية إلى مواقع العمل في أمريكا.
• يقول "غارودي ": (بل إننا لا نستطيع أن نقارنها بالمذابح التي أتاحت لـ (جنكيزخان ) بناء أهرام من بضعة آلاف من الجماجم البشرية، إن عمله عمل صانع يدوي إذا قسناه بالجريمة التاريخية الأعظم التي اقترفها الغرب ) ويقول: (إنني أذكر كيف شعرت فجأة بعار الإنسان الأبيض وكأنه حمل ثقيل مذل على كتفي، عندما زرت في جزيرة (كورة) بمقابل "دكار" الحجيرات التي كان الأسرى يكدسون فيها قبل الإقلاع. ولا تزال آثار الدهان الأسود، مرسومة على الجدار وهي تشير حتى الآن إلى المكان الذي كان النخاسون يحددونه لكل إنسان في ذاك الجحيم (9). ويقول: جلي إذن بالرغم من ضروب تقريظ الغرب المنافق أن مسؤولية الرق لا تقع على عاتق الأفريقيين أولاً، لأن الرقم لم يكن البتة طراز إنتاج في أفريقية قبل وصول الأوروبيين، وثانياً لأن مؤسسة تجارة العبيد اصطدمت بمقاومة الأفريقيين. وأخيراً لأن طلب اليد العاملة الخاضعة للأوروبيين لم يحدث هذه التجارة بعد إبادة هنود أمريكا إبادة جماعية وحسب، بل عمل على توسيعها وتنشيطها ) (10).
• يثبت "غارودي " أن الحضارة الغربية لم تلغ الرق قط لأسباب إنسانية وإنما لأسباب اقتصادية، يثبت ذلك من خلال استقراء كامل لطبيعة تطور المشروع الرأسمالي.
• ظهرت النظرة العرقية بأبشع ما تكون في ظل الحضارة، بحيث تعالى الإنسان الأبيض ونظر إلى الشعوب المستعمرة نظرة فوقية استغلالية من خلال مقولات عنصرية بحتة.
• وبالنسبة للعالم الإسلامي ينتهي "غارودي" إلى أن الاستعمار الإنجليزي والإسباني والفرنسي نتيجة للدور الذي قاموا به في أرض الإسلام خلال أكثر من قرن، زيفوا الحقائق، وافتروا منهجاً من أجل إساءة سمعة إسهام الحضارة العربية في الحضارة الإنسانية.
• وبجانب هذا لقد ارتكب الغرب مجازر تاريخية رهيبة في البلاد الإسلامية، ويعرض غارودي وثائق وإحصاءات تاريخية تثبت فظاعة ووحشية وبربرية الغرب في العالم الإسلامي، لا سيما في شمالي أفريقيا (11).
• يستنتج غارودي من دراسته بأن الغرب حادث عرض، ولكنه أخطر عرض طرأ في تاريخ الكرة الأرضية، والذي قد يقود اليوم إلى فنائها(12).
• وينتهي إلى أن نمط التطور الذي تمارسه المجتمعات الصناعية يقود البشرية إلى درب مسدود. (انتهى كلام "غارودي" مختصراً ).
فإذا كان اتباع التنمية الحضارية الغربية في ظل المذهبيات المادية العلمانية يقود إلى الطريق المسدود في رأي غارودي وكثير من فلاسفة الغرب ومفكريه وعلمائه، فلا بد إذن بعد تجربة قرن كامل من الزمان في العالم الإسلامي، أن يكون اتباع المذهبية الإسلامية الشاملة، المرنة الحية، الحركة التي تنشد التغيير والبناء والتقدم دائماً، هو الطريق السليم للخروج في العالم الإسلامي، من الطريق المسدود الذي يجد نفسه في اليوم(13).
والمذهبية الإسلامية هذه ليست مذهبية سلفية بالمعنى الذي يريد أعداء الإسلام من أرباب المادية والمذاهب العلمانية أن يصموها بها، حتى يظهروها أمام الجيل الجديد بأنها دعوة إلى الجمود والالتصاق بالماضي والتمسك التراثي بالتراث.
ولقد دلس هؤلاء على كثير من أبناء جيلنا الحاضر في هذه القضية، لأنهم عرضوا "السلفية " وكأنها إيقاف للزمن وتمسك مطلق بالماضي. بينما "السلفية " اصطلاح في مبحث العقيدة الإسلامية. والمقصود منها الوقوف في فهم تلك العقائد، لا سيما مسألة صفات الله، في إطار فهم السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لأن تفصيلاتها تدخل في المجال الذي نهانا الله تعالى في الحديث عنها،وليس للعقل فيها مدرك، ولا يبنى عليها عمل في الواقع الفكري والاجتماعي. ومن هنا فإنهم دعوا إلى الفهم الظاهري للآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عنها وتفويض كيفيات معانيها إلى الله سبحانه وتعالى.
ولقد كانت هذه الدعوة ردّ فعل على الصراع الكلامي العنيف بين الفرق الإسلامية التي توسعت وتعسفت في التأويل في مجالات عالم الغيب.
ولئن اضطر علماء الكلام في العصور الأولى الولوج إلى ذلك الصراع مع فلاسفة ولاهوتيِّي أهل الملل والنحل، عندما أرادوا اختراق سور العقيدة الإسلامية بمطاعنهم وشبهاتهم، ووجدوا في مرونة قواعد اللغة العربية ودلالات ألفاظها معيناً لهم في ردّ تلك المطاعن وتفنيدها، إلا أنه سرعان ما تحول الجدل إلى المراء غير المجدي بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي كان من أعظم أسباب ضعف المجتمع الإسلامي وتفكيك وحدته الفكرية، وإدخال التعقيد في عقيدته القرآنية الفطرية الواضحة.
ولقد انتهى اليوم ذلك الصراع الكلامي الرهيب إلى غير رجعة إن شاء الله، ولم تعد تثار مشاكله وأفكاره على مستوى الصراع الفكري في عالمنا المعاصر. ولم يعد الإسلاميون يتحدثون فيه أو يشغلون أنفسهم بالخوض في مباحثه إلا في مجالات التخصص الدقيق. فإطلاق لفظ "السلفية " بالمعنى الذي قصد إليه أعداء الإسلام، إنما هو خدعة مكشوفة منهم للجماهير المسلمة ووضع للمصطلح في غير موضعه الحقيق به.
إن المذهبية الإسلامية ليست دعوة أو حركة محدودة تتصل بزمن معين. أو جزئية معينة من جزئيات الإسلام. إنها دستور الوجود كله، علماً وعقلاً ووحياً(14)، تتفرع منها شريعة مضبوطة مرنة الأصول والقواعد، تؤمن بالحركة والتغيير، واختلاف الزمان والمكان، وفيها من النظريات التشريعية العظيمة، والمبادئ الكلية الإنسانية العامة، والمقاصد الحسنة، وفتح المجال الواسع أمام العقل الإنساني للنظر والاجتهاد ما يرفد الحياة في كل عصر بقوانين حركتها الاجتماعية المتطورة.(9/7)
إن كل من يقرأ بدقة ما تكتبه مجموعة الكتاب الماديين والعلمانيين، في هذا المجال، يوقن أنهم إنما يريدون محاربة الإسلام نفسه تحت مظلة "السلفية"، التي يسقطون ما يجول حقيقة في عقولهم ونفوسهم عليها،ويحرفون معناها، ويستعملونها مرادفة للجمود وإيقاف حركة الزمن.
إنهم لا يؤمنون أساساً بالإسلام، لأن المادية والتيارات غير الدينية التي يتحركون في إطار منظوماتها الفكرية ترفض الإسلام من حيث هو وحي إلهي، وتدعو إلى رفضه أو إعادة النظر في مبادئه، دون أن يفرق بينه وبين فكر المسلمين الاجتهادي.
إن هؤلاء - لنفاقهم الاجتماعي - من حيث إنهم يعيشون في مجتمع إسلامي، لا يوضحون مقاصدهم الحقيقية صراحة في معظم الأحوال، - ولا يقولون على سبيل المثال: إن المذهبية الإسلامية المنبثقة من الوحي الإلهي مرفوضة في هذا العصر - ولكنهم جميعاً يلتفون حول القضية بمكر، مستغلين جهل الأجيال المسلمة الجديدة بدينها، فيلصقون بالإسلام أنه دعوة "سلفية "، بالمعنى الذي يحددون، ثم يحكمون أن الدعوة السلفية مرفوضة لأننا لا نستطيع أن نعيش في زمن غير زمننا. ومن تتبع كتاباتهم اكتشف ذلك بسهولة (15).
=============
مذهبية شاملة
لا شك أن مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان، مذهبية هداية وتوجيه تنظر إلى الوجود كله نظرة برهانية شاملة معقولة.
فمذهبيته في الكون قائمة على أساس دقته وتناسقه وتوازنه وغائيته، خلقه الله سبحانه وتعالى من العدم. كل شيء فيه موجه بعنايته، يخضع لقانون واحد لا تفاوت فيه، يقوم على أساس التكامل والتعاضد لا على أساس التضاد والتناقض. يتحكم فيه قانون التطور العام الذي يصيره من حال إلى حال بأمر الله وفي إطار سننه المسيرة، التي هي بمثابة العلل والأسباب التي لا تصطدم مع مبدأ المشيئة الإلهية، لأنها هي نفسها جزء من تلك المشيئة النافذة.
ومذهبيته في المجتمع قائمة على أساس الوحدة البشرية، فكل الناس عيال الله وأفضلهم هو أتقاهم، وهو سبحانه وتعالى لو يتركهم عبثاً يتخبطون في الأخطاء والتجارب المستمرة، حسب هواهم ومصالحهم المتضاربة، بل ارتضى لهم أصول أنظمة حيوية فطرية، تفاصيلها دقيقة وحكيمة وردت في نصوص مجملة، حتى يستنبط منها المجتهدون في كل عصر ما يتفق مع مصالح الناس ويساير زمانهم في إطار القواعد والأصول العامة للفقه الإسلامي.
ومذهبيته في الإنسان قائمة على أنه خليفة الله المكرم في أرضه، يتحرك ويعمل في إطار القوانين المادية، لإنشاء الحضارة ورفد الحياة بكل جديد في داخل التزام حقيقي بعبادة الله سبحانه وتعالى وحرية شاملة تعتمد العقل وتطلق طاقاته الكبيرة للقيام بذلك الدور الحاسم في هذه الحياة الدنيا.
إن مذهبية الإسلام الكونية هذه التي توجه منهجها التغييري التفصيلي لا تقوم مقام العلم والتقنية في هذا العصر، وإنما تقوم مقام المذهبيات الثقافية في الحضارة الحديثة، التي لا يجوز أبداً للمسلمين أن يلجؤوا إليها لأنها كفرت بالله وانطلقت من النظرة المادية الصرفة إلى الكون، وبنت مجتمعاتها على أساس العبودية لغير الله من المال والعنصر والطبقة والأشخاص، ووضعت الإنسان إلهاً مكانه سبحانه وتعالى، فسببت بذلك شقاء كبيراً في المجتمع، بتوجيه مناهج التغيير وجهة هادمة منحرفة، تعتمد الجانب المادي في الإنسان ، متجاهلة كلياً جانبه المعنوي الإنساني الشعوري، بحيث تحولت المجتمعات الإنسانية في ظلها إلى مجتمع الغابة، لأنها فقدت إنسانيتها بمعناها الشمولي، وقيمها الموحدة فحولته إلى آلات تعمل وتستهلك، وفي سبيل مصلحته يفتك بالآخرين، يمزق حياتهم ويمتص دماءهم ويسلب خيراتهم، بلا أخلاق ولا رحمة ولا إنسانية.
وهنا نسأل سؤالاً ملحاً يفرض نفسه بعد هذه المقدمة فيقول:
قلنا بأن المذهبية الإسلامية تقوم مقام المذهبيات المادية التي سيطرت على الحضارة الغربية، وذكرنا أنها لا تقوم مقام العلم والتقنية. إذن هل نعني ذلك أننا لا بد أن تأخذ العلم والتقنية مطلقاً دون تردد أو مناقشة؟ وماذا عن العلوم الإنسانية الحديثة؟ كالفلسفات العقلية، وعلو الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس وعلم التربية، وما إلى ذلك؟ فهل هذه العلوم يمكن أن تدخل مؤسساتنا الثقافية والتربوية والإعلامية من منظار منهج التغيير الإسلامي؟.
وفي جوانب ذلك نقول:
أما بالنسبة للسؤال الأول: فلا أشك أن العلم والتقنية الحديثة، كشفا عن القوانين المادية المتنوعة في اعلمي الأنفس والآفاق، فتسخيرها بأوسع مجال ممكن في بناء حياتنا الجديدة، يتماشى تماماً مع ما يريده الإسلام من الحركة في الحياة واستعمار الأرض وبناء الحضارة وتحقيق الخلاقة.
غير أن منهج التغيير الإسلامي لا بد أن ينتبه إلى قضية في غاية الأهمية، وهي: أن العلم والتقنية يوجهان اليوم في حالات معينة لخدمة أغراض المذهبيات المادية المصلحية غير الإنسانية، الأمر الذي لا يمكن أن ينتقل إلى المجتمع الإسلامي من منظار هذه الفلسفة النفعية المصلحية، بل لا بد أن يتحرك العلم والتقنية في اتجاهات الحضارة كلها في ظل المذهبية الإسلامية التي تبني القواعد الأخلاقية والإنسانية الرفيعة لانطلاقتهما في المجالات التي تخدم الإنسان وتوفر له السعادة.
والدلائل الواقعية تشير الآن، أن العلم الإسلامي عندما يأخذ اليوم العلوم والتقنيات م الغرب، لا يأخذهما منطلقا من داخل نمطه الإسلامي الأصيل إلى يؤمن بالوحدة الكاملة بين الفرد والمجتمع والروح والعقل والجسد والطبيعة.. إن العلم والتقنية يسيران في الغرب على أساس الفصام الكامل بين أجزاء تلك الوحدة الوجودية المتناسقة، والنتيجة الرهيبة التي ترتبت على ذلك أن العلم والتقنية سارا في الحضارة الغربية عكس اليم والأخلاق التي بذر بذورها في تاريخ البشرية الأنبياء والمرسلون والمصلحون والعقلاء.
الطريق الذي سار عليه التطور العلمي والتقني في الحضارة المعاصرة اتجه نحو التضاد مع الطبيعة والبيئة والحاجات الفطرية إلى الإنسان. فهو لم بتكامل مع الطبيعة والبيئة والإنسان، مما هدد موارد طبيعية وحيوانية عديدة بالنفاد وأضر بالبيئة فلوثها وأنهكها وأخل بتوازنها، ووضع الكائن البشري في ظروف مكنية ومعاشية وصحية تتناقض مع روحه وصحته ونفسيته وفطرته ونموه العام. كل ذلك بسبب الاتجاه في تطوير العلمي والتقني الذي تحكمه أهداف العنف والربح والاستهلاك المادي (16).
وبعد تحليل دقيق لطبيعة تطول العلم في ظل الحضارة الإسلامية وفي حضارة العصر الحديث نقول:
لهذا يمكن القول: إن نمط التطور العلمي والتقني المعاصر يحمل كل خصائص الحضارة الأوروبية ويلبي أهدافها وحاجاتها ودوافعها، الأمر الذي كان سيجعل مسا هذا التطور مختلقاً لو قادته حضارات أخرى ذات أهداف ودوافع وحاجات وظروف مختلفة عن تلك التي تتسم بها الحضارة الأوروبية.
إذا كان هذا صحيحاً فإن التعاطي مع العلوم والتقنيات التي تطورت في الغرب لن يأخذ شكل النقل كما يتصور بعضهم، ولن يأخذ كل شيء كما يتصور بعضهم الأخر كما لن تستطيع حضارتنا أن تواصل النسق الفرنجي نفسه أو المسار نفسه، وإنما لا مفر لها من أن ضع العلوم والتقنيات ضمن خصوصية نسقها الحضاري لتلبي دوافعه ومصالحه وحاجاته والأولويات والاتجاه العام ومن ثم تتحدد عملية التفاعل مع ما أنجزته الحضارة الأوروبية في مختلف قوانين العلوم والتكنولوجيا (17).(9/8)
هذا بالنسبة للعلم والتقنية، أما العلوم الإنسانية، فموضوعها أكثر خطورة في تفاصيله، لأنها قد تحركت في الاتجاهات التي رسمتها لها الفلسفة المادية، لتحقق أهدافها ولتركز على مبادئها في مظاهر الحياة المتنوعة.
ولكن من السذاجة أن ينكر إنسان المناهج العلمية لتلك العلوم الإنسانية وأن يدعو إلى مقاطعة نتائجها الهائلة في المجتمعات البشرية.
ومن هنا فإنه ليس من مهمة المنهج التغييري الإسلامي أن يضع جداراً أمام عبور تلك العلوم إلى حياتنا، وإنما مهمته أن يقودها في ظل مذهبية الإسلام الشاملة ليعيد إليها توازنها، ولينتشلها من الجانب المادي في العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية في البلاد الإسلامية.
أي إن مهمتنا التغييرية في البناء الجديد أن نحوِّل مناهج الفلسفات والعلوم الإنسانية الغربية إلى مناهج فلسفية إسلامية، وعلوم إنسانية الإسلامي وعلم الاقتصاد الإسلامي، وعلم الساسة الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، وعلم التربية الإسلامي وهكذا.
ويوم أن تتم هذه العملية الحضارية الكبرى في العالم سيبدأ تاريخ الإنسان بالتحول الحقيقي، وستنتشل الحضارة من واقعها المادي المأساوي.
وسنخدم البشرية يومئذ خدمة عظيمة، أهم من أن نقدم إليها اختراعات جديدة أو تقنيات مفيدة. إذ نحن في هذه الحالة - مهما أسرعنا في السير - لن نستطيع أن نقدم إليها أكثر مما تقدمه الحضارة المادية، بل لا نستطيع على الأرجح أن نقدم إليها الآن وفي القرن القابل شيئاً ذا وزن تاريخي كبير في ضوء السقوط الحضاري الذي يمر به العالم الإسلامي. والإنسانية بقوة مذهبيتنا الربانية الإسلامية الإنسانية الشاملة في الترابط الكوني.
ولن يستطيع أن يتحول تاريخنا إلى مواقع الأستاذية في هذا المجال، للحضارة الغربية المادية الحاضرة، ما لم نبدأ بعملية تغيير حضاري إسلامي شامل في عالمنا الإسلامي الكبير
==============
المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير
إن إبراز دور الإنسان في منهج التغيير، بدرجة كافية، غدا من الضرورات الملحة جداً، ذلك لأن الذهبية الإسلامية جعلت الإنسان مدار الحركة الحضارية، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء، وكلفته بتحقيق الخلافة الإلهية على هذه الأرض، وإدارة الصراعات المختلفة التي تجري فوقها، واستغلال ما على ظاهرها واستخراج ما باطنها، مستفيداً من الزمن الإنتاج الحضارة.
أما أنه خليفة الله في أرضه فبصريح قوله تعالى:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً… )) (البقرة: 30).
وقوله تعالى:
((وهو الّذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرضِ ورَفَع بَعْضكُم فوْقَ بعَضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِيماَ آتاكُم… )) (الأنعام :165)).
وقوله تعالى:
((يا داودُ إِنّا جَعَلْناك خلِيفَةً فيِ الأرْضِ فاحكُمْ بَيْنَ النّاسِ بالْحَقِّ ولا تتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَن سَبِيلِ اللهِ… )) (ص: 26).
وأما إنه مكلف بإدارة الحركة والعمران فبدليل قوله تعالى:
((إناّ عَرضْنا الأْمانَةَ على السّماواتِ والأرْضِ والْجِبالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنها وأشْفَقْنَ مِنْها وحَمَلَهاَ الإِنسانُ إنّهُ كان ظلُوماً جهُولاً )) (الأحزاب: 72).
ويقوم الإنسان بهذا الدور التاريخي من خلال عقله المدرك في عالم الشهادة، وشعوره وتأمله وطاقاته الكثيرة التي زوده الله تعالى بها، لكي يصنع تاريخه على هذه الأرض بمعونة الله تعالى. فبحركته من خلال حريته الملتزمة يتحرك التاريخ، ويتطور الزمن، وتتغير مظاهر الحياة.
إن الجبرية التي فرضت على الإنسان المسلم من خلال الفلسفات الغريبة، ليست من الإسلام في شيء.
فآيات القرآن الكريم صريحة في إعطاء هذا الدور المبدع للإنسان وهو صنع تاريخه وحياته على هذه الأرض، من خلال رؤيته الربانية المنبثقة من مذهبيته الإسلامية الشاملة.
((ذلِكَ بِأنَّ اللهَ لمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمةً أنْعَمَهاَ على قوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ وأَنَّ الله سميعٌ عليم )) (الأنفال: 53).
((إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّروا ما بِأنْفُسِهِم… )) (الرعد : 11).
((وما كَان ربُّك لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظٌلْمٍ وَأهْلُها مُصْلِحُونَ )) (هود : 117).
((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلِكْناهُمْ لَمّاَ ظَلمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً )) (الكهف: 59).
((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد ِ)) (آل عمران: 182).
((… كُلُ امْرِئٍ بِماَ كَسَبَ رَهِينُ )) (الطور: 21).
((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون )) (البقرة:134).
((وأَنْ لَيْسَ للإنسانِ إلاّ ما سعى، وَ أَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى )) (النجم: 39 - 40).
ومع الدليل القرآني القاطع نرى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والأجيال الأولى من المسلمين تمثل هذه القضية تمثيلاً واضحاً، بحيث يقوم دليلاً قاطعاً على إن فهمهم للقرآن لم يتجاوز ذلك.
فقيام رسول الله بدعوته واستعماله الطاقات الإنسانية التي زود بها واتباعه كل الوسائل والقواعد في عالم العمران المادي والبشري لنشر دعوته وتحقيق المجتمع الذي أرسل من أجل بنائه، وتحمله أنواع العذاب والجراحات، للانتصار على الأعداء في كل مظهر من مظاهر جهاده ضدهم لدليل واضح على ما نقول.
إن المعجزات الخارقة - على كثرتها في حياته - لم تكن طريقاً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان طريق دعوته تحريك العقل ودفع الإنسان إلى فهم نفسه وفهم ما حوله، وإدراك ما في الوجود من القوانين والأسرار ومحاولة اكتشافها وتسخيرها لصالحه وإقامة مجتمعه العادل عليها.
إن دراسة واعية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعطينا البرهان القاطع على أنه ما من قانون من قوانين الحياة خلقه الله لأداء حق الأمانة والاستخلاف، إلا اتبعه لبناء المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك في سلمه أم في حربه(18) .
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الإسلامية القاطعة نقول: يخطئ من يقول (19) إن الحضارة الإسلامية كانت حضارة إلهية بمعناها اليوناني أو لاهوتية بمعناها النصراني. بل كانت حضارة إنسانية، تعتمد على حركة الإنسان ، مهتدية بتوجيهات وهداية الخالق العظيم. ولذلك فإن الإنسان كان حاضراً في حضارتنا ولم يكن غائباً، ولقد دخل التاريخ وحركه من أوسع أبوابه على الرغم من عدم وجود مباحث نظرية مستقلة في تراثنا الفكري تنصل بهذه القضية، لأنها كانت من المسلمات البديهية في عقل الإنسان المسلم وواقع مجتمعه...
فالإنسان في تاريخنا كان واقعاً ولم يكن تجريداً نظرياً، ولم يا ترى، تكتب مناقشات بيزنطية حول الإنسان بعقلية الحضارات الوثنية والقرآن الكريم وضع الحقائق الكاملة عن الإنسان أمام المجتمع البشري(20).
وإذا كان الإنسان على هذا الزعم غائباً عن حضارتنا ومجتمعاتنا الإسلامية.
فمن الذي دخل إذن في الصراع مع الشرك حتى قضى عليه؟ من الذي نشر الإسلام وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير والجمال؟
دماء من جرت في سبيل نقل الإنسان المسحوق من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؟
من الذي دخل في صراع فكري واقعي مع الحضارات الوثنية، حتى ألحق بها الهزيمة بين المحيطين ومن أواسط آسيا إلى أواسط أفريقيا؟(9/9)
من الذي أقام الدول وأنشأ المؤسسات الثقافية والصحية ونظم الأسواق والمعاملات تنظيماً دقيقاً وأنقذ مجتمعه من التراكمات الرأسمالية ونظام الإقطاع القديم الذي كان الإقطاعي فيه يملك المقاطعة بما عليها ومن عليها؟
من الذي شق الأنهار وأنشأ شبكات الري وزرع الأرض وقاد قوافل التجارة، وأنشأ المعامل والصناعات المتنوعة من سمرقند إلى فاس وقرطبة؟
من الذي ترجم نتاج الحضارات الأخرى، واستخرج منها حضارة مستقلة مصبوغة بصبغة إسلامية؟
من الذي كتب ملايين المخطوطات في العلوم والمعارف الكونية والحيوية والإنسانية التي تملأ بقاياها اليوم القاعات الضخمة في مكتبات الشرق والغرب؟
ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك، الإنسان المسلم الذي كرِّمه الإسلام وأعاد إليه حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلباً، عبداً للشركاء والأنداد.
نعم قد يقال: إنه قد حصل في فترات معينة انفصام بين المذهبية وجوانب من تطبيقها، في جزئية أو جزئيات معينة، أحدث زعزعة في الحياة الإسلامية، ظهرت في استبداد سياسي هنا أو ظلم اجتماعي هناك.
ولكن هل يمكن أن نعمم القاعدة من خلال سلبيات معينة فنقول: بأن الإنسان كان غائباً في تاريخنا.
إنه من الحقائق الواضحة أن الإنسان كان حاضراً دائماً في حضارتنا بجلاء ووضوح أكثر من أية حضارة سبقته.
وإذا كنا في تقويمنا لحضارتنا الإسلامية، نجد ثغرات تاريخية عدة توضح التخلخل الذي حدث في مدى تطابق المذهبية مع الحياة، لا سيما في قضايا الحكم والسياسة، وإبراز دور الإنسان فيها، فلا مناص لنا اليوم، إذا كنا نريد بناء حضارة إنسانية قوية، أن نبرز مكانة الإنسان في كل ناحية من نواحي الحياة، حتى يضع تاريخه بنفسه، ولا يمكن إبراز هذه المكانة إلاّ إذا أخذ التغيير تكريم الإنسان بنظر الاعتبار واحترم آدميته بوضوح بحيث يشعر الإنسان في ظله بالأمن النفسي والاجتماعي حتى يستطيع أن يستغل طاقاته من خلال حريته في خدمة المجتمع ورقي الإنسان.
فالإنسان الذي تهدر إنسانيته وتطمس معالم شخصيته، إنسان معطل القوى مزعزع الشخصية لن يستطيع أن يشترك بقوة وأمان في بناء مجتمع الإنسان وتحقيق معنى آدميته.
ولا يمكن أن تتحقق كرامة الإنسان إلا من خلال مبدأين:
- الأول:
إقرار حريته الإنسانية في داخل الضوابط الإسلامية.
- الثاني:
عدم استغلاله من حيث هو إنسان، لأن ذلك يؤدي إلى قتل شخصيته ومحو آدميته التي يصيبها العطل والسلبية تجاه الحياة(21).
فنحن في منهجنا التغييري، لا بد أن نصوغ الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد الطرق وتنظم الحياة المادية، أو معها في الأقل.
ولا بد لنا أن نعيد إليه شخصيته المسلوبة وإنسانيته الضائعة، وننقذه من عوامل الخوف والقلق والسحق، كي نضعه على طريق التغيير والبناء الجديد.
وإلاّ فما فائدة البناء الفوقي دون أن نقوي الأساس، كما هي الحال في مظاهر التقدم المادي المزعوم في معظم البلاد الإسلامية.
===============
المذهبية الإسلامية والنظرة الشمولية للإنسان
الإنسان كائن حضاري معقد جداً له دوافع متنوعة، تؤثر فيها عوامل متشابكة مختلفة، عبر مراحله الاجتماعية المتتابعة. وهذه العوامل منها ما هي فطرية جبلية، ومنها ما هي عوامل اجتماعية بيئية مكتسبة. ولا بد أن تخضع الدوافع الإنسانية إلى تربية شاملة متوازنة تراعي كيانه من حيث هو كلُّ. وأية تجزئة للإنسان وفهمه في ضوء جزء منها ستقود إلى خطأ علمي كبير، يضيِّع كثيراً من الحقائق الطبيعية في حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية السياسية(22)
ولذلك فلقد حدث في العصور الأخيرة، طمس واضح لشمولية الإنسان ، ومعالمها الكلية، بناء على دراسته دراسة مجزأة، والنظر إليه من زاوية معينة، وسحب نتائجه على الكل الشمولي.
فالنظرة الكنسية عندما نظرت للإنسان من حيث هو كائن روحي كرد فعل عنيف على حيوانية ومادية النظرة الرومانية، أفقدت الإنسان توازنه وحملته ما لا يحتمل وحاولت قتل غرائزه وتجاهلت واقعه الأرضي تجاهلاً كبيراً.
إن التربية الكنسية الروحية هذه وزرعها اللاشعوري المستمر بأن مملكة الإنسان هي في عالم المثل والروح والسماء قد فجرت الإنسان تفجيراً رهيباً بعد كبت القرون المتطاولة، فالتصق بالأرض وأنشأ مملكته الحضارية الحديثة فوقها، على أسس من المادية البحتة والقيادة الإنسانية "المؤلهة " بمعزل عن مملكة الروح وقيمها وأخلاقياتها فأنتجت للإنسان الفلسفات التغييرية التي جزأته بدورها وأفقدته شموليته الإنسانية.
والوضعية التي نادى بها "أوجست كونت " الفرنسي، عدّت الإنسان كائناً يستطيع أن يُشكِّل قيمه بنفسه، ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه. ثم زهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته، موجهاً من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان من حيث معناه وشموليته، ومعنه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته.
والماركسية جردت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكاً متغيراً في ضوء تغير أدوات الإنتاج، مجبراً على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد. لأن تفسير سلوكه وتطور حياته بعامل واحد يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه.
والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقاً من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات. ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحت وجانبه الإنساني الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الاحتمالية تأثيراً كبيراً في إنكار ثبات الصفات الخلقيّة والإنسانية القيمية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيواناً اجتماعياً متطورا، لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني.
وأما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانية الإنسان الداروينية، فانتهت إلى أن الجنس هو أساس حركة الإنسان وسلوكه. فلا بد أن يطلق منهج التغيير في زعمه، هذا الدافع حتى يأخذ مجراه الطبيعي.
وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها، من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة الاجتماعية في الحضارة الحديثة، ومن خلال الانحرافات المتلاحقة التي شببت أمراضاً نفسية وجنسية خطيرة ومعقدة في المجتمعات الغربية، وانتقلت جراثيمها بدرجات متفاوتة إلى المجتمعات الأخرى في العالم كله.
وأما المذهب النفعي فقد شارك المذاهب الأخرى في التفسير الأحادي ونظر إلى الإنسان من خلال غريزته الذاتية المصلحية التي تحقق له أكبر نفع ممكن. فمقياس الحق مرهون عند "جون ديوي " وأرباب هذه النظرية بمدى تحقق المصلحة، وهي غير منضبطة بضوابط القيم الثابتة العادلة عندهم.
ومن هنا فمنهج التغيير النفعي "البراجماتي " انتهى إلى التخلخل الخطير في الحياة الاجتماعية في المجتمع خاصة، لأنه رأى الحق في تحقق المصلحة بمعزل عن اليم الروحية ومبادئ الحق والعدل المجردين في تاريخ الفكر الإنساني.(9/10)
وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزِّئةِ لكيان الإنسان ، النظرة الوجودية "السارترية " التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته، بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه وتوجيه الفلسفات العقلية وضغط العادات والتقاليد.
وقادت الوجودية جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حالة يائسة من القلق والضياع والسلبية في الحياة والحرية غير المضبطة والفوضى الاجتماعية (23).
ومن هنا فإن المناهج التغييرية في العالم التي توجهها تلكم الفلسفات المادية البحتة، لم تستطع أن تعدل من عرج الحضارة الحاضرة. ولم تقد المجتمع الإنساني إلى السعادة والتوازن، لأن هذه المناهج لا تنظر نظرة شمولية إلى الإنسان . وحتى لو نظرت فهي إنما تنظر تعين بشرية محضة، لا تفلح قط في مهمتها. لأن لأسرار الحياة الحيوانية للعالم الإنساني لا يمكن أن تدرك في عصر واحد. وهي من التعمق والتشابك والتعقيد بحيث لا يدرك أبعادها إلا خالق الكون والإنسان الذي أودع في الوجود هذه الأسرار، وهو عليم بها وبحركتها وضوابط موازنتها.
ومن هذا المنطلق الحكيم، فإن المنهج التغييري الإسلامي هو المنهج الصالح لقيادة حضارتنا الحاضرة، وملء الثغرات التي حدثت في منظومتنا الحضارية الخاصة. وذلك لسببين:
- الأول:
إن هذا المنهج، ليس منهجاً بشرياً، إنما هو من عند الله، خالق الوجود وعالم الأسرار، عنايته تصل إلى كل ذرة من ذرة من ذرات الوجود بما فيه ومن فيه.
- الثاني:
إنه منهج قائم على أساس شمولية مترابطة متوازنة، داخليتها مرتبطة بظاهرها ارتباطاً وثيقاً في وحدة متناسقة لا تستطيع أن تفصل جزءاً عن جزءٍ. وإن أدخلنا القسمة المنطقية بين أجزائه، فإنما نفعل ذلك من باب الفهم والتوضيح.
إذن فمنهج التغيير الإسلامي منهج شامل لتحريك طاقات الإنسان كافة. إذ هو لا يقتلها بل يخرجها من عالم القوة إلى عالم الفعل وينظمها ويحركها في الاتجاهات التي تنسجم مع أصل تكوينها.
ونحن في المجتمع الإسلامي لا يجوز في منهجنا التغييري لتجاوز السكون الزمني السابق، أن نعيد التجارب الأحادية الغربية الممثلة بالمبادئ التي تحدثنا عنها. بل لا بد لنا أن نتحرك داخل نمطنا الإسلامي في منهج التغيير، حتى يتم التغيير في إطار طبائع الأشياء، فنصل إلى حياة متقدمة متوازنة وحضارة تعبر بصدق عن كيان الإنسان الشامل وفطرته
============
المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان
خلق الله الإنسان وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع منه غرائزه التي تشكل أساس وجوده. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية، فهي أصيلة في الحياة الإنسانية فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية. ولقد قرر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:
((… فِطْرة اللهِ الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللهِ ذلك الدّينُ القيِّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون )) (الروم : 30).
نعم إن تلك الغرائز يمكن أن تهذب وتوجه في ظل مذهبية متناسقة حتى تتحرك في مساراتها الصحيحة ولا تنتهي إلى انحرافات خطيرة وأمراض نفسية وجنسية واجتماعية.
إن حركة الإنسان في التاريخ لم تكن تتحرك باتجاه محاولة تغيير العمق الإنساني بقدر ما كانت تتوجه أساساً إلى محاولة إحداث التبديل في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، أي علاقته بما حوله من الكائنات الحية، وتسخيره للقوى التي أودعها الله في هذا الوجود.
وبقدر ما يتعلق الأمر بتلك العلاقة، فإن الأحكام والمثل يمكن أن تتبدل من ظرف إلى آخر، دون أن يكون هناك بالضرورة خروج على المثل الخالدة الفطرية التي تنبعث من جوهر النفس الإنسانية وكيانه الطبيعي.
وفي مراحل تاريخية معينة، لم يستطع أصحاب المناهج التغييرية أن يدركوا حقيقة التفريق بين الجوهر الإنساني الأصيل وعلاقته العرضية بالعالم الخارجي، فساووهما في التعامل فألحقوا بحركة التوازن الحضاري أضراراً كبيرة وسببوا لها انحرافات خطيرة.
على سبيل المثال، نأخذ الآباء النصارى الأوائل. فقد واجهوا المجتمعات المادية الإباحية الرومانية وغيرها، وأرادوا أن ينتشلوها من تلكم الحياة الهابطة، لا بتوجيه الغرائز الدافعة لها وصقلها بروحانية الديانة النصرانية، بل بنفي تلك الغرائز والدعوة إلى قتلها والقضاء عليها، فلم يتحقق قط هدفهم فيما أرادوا، بل ظلت النصرانية تصبغ تلك المجتمعات من فوق، أما أعماقها الحقيقة فقد ظلت أسيرة بلك الغرائز الثابتة في كيان الإنسان.
ولذلك فلم تستطع النصرانية في تاريخها أن تطبق نظرية "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر " ونظرية "إذا زنت عينك فاقلعها " و "إن العلاقات الجنسية ولو كانت مشروعة فهي قذرة " لأن هذه النظريات لم تعبر عن أصالة الإنسان وغرائزه الفطرية.
ولذلك لم يستطع المنهج النصراني أن نؤثر في سير الحضارة الغربية ذات الأصول الرومانية فقد ظلت عبادة القوة والإباحية الجنسية تشكل المسارات الحقيقة للحضارة الأوروبية عبر تاريخها الطويل.
وكانت ردود فعل الاتجاهات المادية تجاه سيطرة التربية النصرانية الكنيسية قوية بحيث وقعت هي بدورها في الانحراف ذاته.
فلقد رسمت تلك الاتجاهات كلها صورة مادية حيوانية بحتة في عالم الإنسان وألغت المساحة التي تتصل بكيان الإنسان الروحي، فكانت النتيجة الحتمية الانحراف المعاكس الذي حدث في كيان الإنسان ، وهو الفراغ الذي أحدثه إنكار حقيقته الروحية، والذي أدى إلى أزمات نفسية وشعورية خانقة جعلت من الكائن الإنساني في ظل الحضارة الحديثة كائناً قلقاً ضائعاً شقياً، نتيجة الصراع الرهيب بين الغريزة الداخلية والمناهج المادية التغييرية التي خططت لطمس معالمها، لا بل قتلها إلى الأبد، بدعوى أن الإنسان يعيش في الطور الثالث من أطوار حركة التطور الاجتماعي وهو طور المعرفة الحسية، بعد أن مرّ على ما زعمه "أوجست كونت " بطور المعرفة الخرافية، وطور المعرفة العقلية!!
ولقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازية للحياة الإنسانية(24).
لقد نظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لا بد أن تشبع وأن تحل مشاكلها في زل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرضية، ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الغرائز الإنسانية المتنوعة من مبدأ الاعتراف بوجودها. فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه ويشعره بلذة العبودية لخالقه، حتى لا يبقى تائهاً حائراً يعاني من الفصام. وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع ويحصرها في داخل الأسرة، حتى لا يودي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة، حتى لا ينتهي الأمر إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع.(9/11)
وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام وجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلاً في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله، عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها، بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملاً في الحياة.
ونحن الذين نقف اليوم على مفترق الطريق لا بد لنا أن ندرك هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان ، فعندما نخطط للتغيير علينا أن لا ننسى جوهره وأصالته، فنحاول إخضاعه لتجارب المؤسسات التربوية في الحضارة الحديثة. وإنما لا بد لنا أن نأخذ مخطط الإسلام التغييري في هذا المجال فيطبقه بحسمه ومرونته، لأنه هو الحق الذي يدرك في ظله الحقائق الثابتة والتوازن الأصيل.
ولدقة مسألة أمر الغرائز، وحتى لا يحصل تجاوز معاكس أقول: إننا عندما نقول (مخطط الإسلام التغييري ) لا نقصد آراء الفقهاء التي قد تكون مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية. إذ أن بعض تلك الآراء كثيراً ما انطلقت من ضغط العادات والأعراف، وحاولت محاصرة الغرائز، بل كبتها من منطلق الخوف الموهوم على أخلاق الناس، ومن مبدأ اتخاذ "التحريم" أصلاً في كل حالة من غير دليل شرعي قاطع أو حتى قوي.
وتلك الآراء تمثل جانباً من الفكر الإسلامي في مرحلة معينة، ونحن قد قررنا أن أفكار المسلمين في أية مرحلة من مراحل التاريخ ليست معصومة، لأنها ليست وحياً إلهياً وإنما هي اجتهادات قد نقبلها في عصرها وقد لا نقبلها.
المهم ألا نخرج على الضوابط الإسلامية الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في تربية الغرائز والاستجابة لدوافعها الصحيحة
==============
المذهبية الإسلامية وجوهر الإنسان
خلق الله الإنسان وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع منه غرائزه التي تشكل أساس وجوده. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية، فهي أصيلة في الحياة الإنسانية فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية. ولقد قرر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:
((… فِطْرة اللهِ الّتي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق اللهِ ذلك الدّينُ القيِّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون )) (الروم : 30).
نعم إن تلك الغرائز يمكن أن تهذب وتوجه في ظل مذهبية متناسقة حتى تتحرك في مساراتها الصحيحة ولا تنتهي إلى انحرافات خطيرة وأمراض نفسية وجنسية واجتماعية.
إن حركة الإنسان في التاريخ لم تكن تتحرك باتجاه محاولة تغيير العمق الإنساني بقدر ما كانت تتوجه أساساً إلى محاولة إحداث التبديل في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، أي علاقته بما حوله من الكائنات الحية، وتسخيره للقوى التي أودعها الله في هذا الوجود.
وبقدر ما يتعلق الأمر بتلك العلاقة، فإن الأحكام والمثل يمكن أن تتبدل من ظرف إلى آخر، دون أن يكون هناك بالضرورة خروج على المثل الخالدة الفطرية التي تنبعث من جوهر النفس الإنسانية وكيانه الطبيعي.
وفي مراحل تاريخية معينة، لم يستطع أصحاب المناهج التغييرية أن يدركوا حقيقة التفريق بين الجوهر الإنساني الأصيل وعلاقته العرضية بالعالم الخارجي، فساووهما في التعامل فألحقوا بحركة التوازن الحضاري أضراراً كبيرة وسببوا لها انحرافات خطيرة.
على سبيل المثال، نأخذ الآباء النصارى الأوائل. فقد واجهوا المجتمعات المادية الإباحية الرومانية وغيرها، وأرادوا أن ينتشلوها من تلكم الحياة الهابطة، لا بتوجيه الغرائز الدافعة لها وصقلها بروحانية الديانة النصرانية، بل بنفي تلك الغرائز والدعوة إلى قتلها والقضاء عليها، فلم يتحقق قط هدفهم فيما أرادوا، بل ظلت النصرانية تصبغ تلك المجتمعات من فوق، أما أعماقها الحقيقة فقد ظلت أسيرة بلك الغرائز الثابتة في كيان الإنسان.
ولذلك فلم تستطع النصرانية في تاريخها أن تطبق نظرية "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر " ونظرية "إذا زنت عينك فاقلعها " و "إن العلاقات الجنسية ولو كانت مشروعة فهي قذرة " لأن هذه النظريات لم تعبر عن أصالة الإنسان وغرائزه الفطرية.
ولذلك لم يستطع المنهج النصراني أن نؤثر في سير الحضارة الغربية ذات الأصول الرومانية فقد ظلت عبادة القوة والإباحية الجنسية تشكل المسارات الحقيقة للحضارة الأوروبية عبر تاريخها الطويل.
وكانت ردود فعل الاتجاهات المادية تجاه سيطرة التربية النصرانية الكنيسية قوية بحيث وقعت هي بدورها في الانحراف ذاته.
فلقد رسمت تلك الاتجاهات كلها صورة مادية حيوانية بحتة في عالم الإنسان وألغت المساحة التي تتصل بكيان الإنسان الروحي، فكانت النتيجة الحتمية الانحراف المعاكس الذي حدث في كيان الإنسان ، وهو الفراغ الذي أحدثه إنكار حقيقته الروحية، والذي أدى إلى أزمات نفسية وشعورية خانقة جعلت من الكائن الإنساني في ظل الحضارة الحديثة كائناً قلقاً ضائعاً شقياً، نتيجة الصراع الرهيب بين الغريزة الداخلية والمناهج المادية التغييرية التي خططت لطمس معالمها، لا بل قتلها إلى الأبد، بدعوى أن الإنسان يعيش في الطور الثالث من أطوار حركة التطور الاجتماعي وهو طور المعرفة الحسية، بعد أن مرّ على ما زعمه "أوجست كونت " بطور المعرفة الخرافية، وطور المعرفة العقلية!!
ولقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازية للحياة الإنسانية(24).
لقد نظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لا بد أن تشبع وأن تحل مشاكلها في زل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرضية، ولذلك نجد أن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الغرائز الإنسانية المتنوعة من مبدأ الاعتراف بوجودها. فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه ويشعره بلذة العبودية لخالقه، حتى لا يبقى تائهاً حائراً يعاني من الفصام. وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع ويحصرها في داخل الأسرة، حتى لا يودي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة، حتى لا ينتهي الأمر إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع.
وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام وجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلاً في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله، عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها، بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملاً في الحياة.
ونحن الذين نقف اليوم على مفترق الطريق لا بد لنا أن ندرك هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان ، فعندما نخطط للتغيير علينا أن لا ننسى جوهره وأصالته، فنحاول إخضاعه لتجارب المؤسسات التربوية في الحضارة الحديثة. وإنما لا بد لنا أن نأخذ مخطط الإسلام التغييري في هذا المجال فيطبقه بحسمه ومرونته، لأنه هو الحق الذي يدرك في ظله الحقائق الثابتة والتوازن الأصيل.(9/12)
ولدقة مسألة أمر الغرائز، وحتى لا يحصل تجاوز معاكس أقول: إننا عندما نقول (مخطط الإسلام التغييري ) لا نقصد آراء الفقهاء التي قد تكون مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية. إذ أن بعض تلك الآراء كثيراً ما انطلقت من ضغط العادات والأعراف، وحاولت محاصرة الغرائز، بل كبتها من منطلق الخوف الموهوم على أخلاق الناس، ومن مبدأ اتخاذ "التحريم" أصلاً في كل حالة من غير دليل شرعي قاطع أو حتى قوي.
وتلك الآراء تمثل جانباً من الفكر الإسلامي في مرحلة معينة، ونحن قد قررنا أن أفكار المسلمين في أية مرحلة من مراحل التاريخ ليست معصومة، لأنها ليست وحياً إلهياً وإنما هي اجتهادات قد نقبلها في عصرها وقد لا نقبلها.
المهم ألا نخرج على الضوابط الإسلامية الصحيحة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في تربية الغرائز والاستجابة لدوافعها الصحيحة
==============
المذهبية الإسلامية والمجال الغيبي
تبين لنا فيما سلف كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض، وخلقه خلقاً فريداً متميزاً وكلفه بأن يقوم بدوره العظيم والقيام بالأمانة العظمى التي ارتضاها لنفسه.
لقد زود الله الإنسان بالطاقات التي تحقق له هذه الخلافة على أكمل وجه على الأرض لا في مكان آخر. فمجال تفكيره واجتهاده وإبداعه هو هذه الأرض وما يتعلق بها من القوانين المادية التي حولها.
وإذا وجهت طاقته المادية والمعنوية إلى ولوج مجالات أخرى لا تتصل بتحقيق تلك الخلافة، فإنه يتيه فيها ولا يستطيع أن يتوصل إلى اليقين، فيضيِّع كثيراً من الوقت الذي كان يمكن أن يصرفه في مهمته الكبرى في إنشاء الحضارة الإنسانية الموزونة.
وفي سبيل ألا يضل الإنسان في عوالم الغيب وضع الله تعالى في كتابه الكريم الحقائق النهائية التي يحتاجها، كي لا يتعب نفسه وفكره في هذا المجال، دون جني أية ثمرة، ليتفرغ إلى التفاعل مع الأرض والاستفادة من الزمن، لإنجاح عملية الخلافة الإلهية.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإن على الإنسان في إطار الحقائق الإلهية التي وضعت أمامه أن يسلم بالتفصيلات الغيبية. فهو طالما آمن بإله خيالاته المادية في محاولة تصور ماهية الإله وصفاته. ولذلك فلقد دعاه الخالق سبحانه وتعالى إلى الإيمان بالغيب وجعل ذلك من أمارات صدق يقينه في قوله:
((الّذين يُؤْمِنُون بِالغيبِ ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون )) (البقرة: 3).
ثم بين له أن أي تحرك خيالي للعقل في غير ما كلّف به لا يكون مجدياً أبداً ولن يوصل إلى المراد.
((.. ليس كمثْلِهِ شيءٌ وهُو السَّميعُ البصِيرُ )) (الشورى : 11).
إن العقل الإنساني على الرغم من طاقاته الكبيرة عقل محدود ناقص وجد أصلاً ليكون عقلياً عملياً يشتغل في إطار عالم المادة، فيحاول الكشف عن قوانينه وأسراره. ومن أجله نجد العقل الإنساني في التاريخ كله، كلما حمِّل نفسه في قضايا ما وراء المادة أكثر مما يتحمل ضل وتاه ولم يصل قط إلى الأمان.
والدليل على ذلك آراء الفلاسفة والمفكرين في تلك القضايا الغيبية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فهي عبارة عن مجموعة من الأفكار المضطربة والمتصارعة والمتضادة والساذجة في أحيان كثيرة، والتي تحمل كل قصور ذلك العقل المحدود في المجالات الغيبية المذكورة.
ومن جهة أخرى كلما عرف العقل الإنساني مقداره ومجاله واشتغل في إطار كشف أسرار عالم المادة، أنتج وأبدع في هذا الإنتاج.. والدليل على ذلك ثمرات الحضارة المادية عبر التاريخ التي حقق بها الإنسان جزءاً من خلافته على الأرض.
وكلما ادعى العقل الإنساني المعرفة المطلقة في حل أسرار عالم الغيب ضل وتاه وانتهى إلى الإلحاد والانحراف وارتمى في أحضان المادية وأنتج حضارة غير متزنة بعيدة عن تمثيل الفطرة الكونية والإنسانية بعداً كبيراً.
لقد انطلقت الحضارة الإسلامية من هذا المنطلق الإسلامي فاتجهت في علومها اتجاهاً تجريبياً محضاً، استطاعت أن تنقذ الحضارة الإنسانية من العموميات الوصفية التي ورثتها من الحضارة اليونانية، وكان من نتيجة ذلك التقدم الكبير في علوم الطب والصيدلة والكيمياء وعلوم الحياة التي درست في الجامعات الإسلامية ابتداء من بخارى وطاشقند عبوراً ببغداد ودمشق والقاهرة إلى قرطبة الأندلس. ثم في الجامعات الغربية قروناً.
ولا تزال المخطوطات التي كتبها لماء المسلمين تملأ المكتبات المنتشرة في حواضر الشرق والغرب.
لقد انتقل المنهج التجريبي من الحضارة الإسلامية إلى مراكز الثقافة الأوروبية فأثرت فيها تأثيراً كبيراً وحولت اتجاهها من المناهج الأسطورية إلى المناهج العلمية التجريبية الحديثة.
إن هذه القضية أصبحت من المسلمات العلمية التي يؤمن بها العلماء المنصفون والفلاسفة الأحرار من أمثال "جوستاف لوبون " و "سيديو " و "سارتون " و "جارودي " وغيرهم.
يقول جارودي:
"وعندما رحل الراهب الفرنسي "جربير" للدراسة في جامعة قرطبة، قفل راجعاً وقد بلغ من العلم مبلغاً صار يتهم من أجله بأنه قد تاجر مع الشيطان! وبعد أصبح البابا باسم "سلفستر الشاني". إننا ندين للعرب بكليات الطب الفرنسية الأساسية. وقد كانت "مونبلييه" في طليعتها. وقد ظلت كتب الطب العربية مثل كتب الرازي الشهير تنشر وتدرس حتى القرن السادس عشر في فرنسا، وحتى منتصف القرن التاسع في انجلترا. وكان العرب منذ القرن الثامن يجرون عملية سحب الماء الأزرق بإبرة جوفاء. وقد عرفوا الجبر بأكثر مما نعترف لهم به ".
الشاعر "عمر الخيام" الذي عاش حوالي سنة "1100م " توصل إلى حل معادلات الدرجة الثالثة باستخدام الطريقة عينها التي سيستخدمها "ديكارت" بعد خمسة قرون. وبذلك وضع أسس الهندسة التحليلية.
وقد طل كتاب الجبر الكبير الذي ألِّفه وترجم إلى الفرنسية مرجعاً معتمداً حتى سنة 1857م(25).
ليس غرضنا هنا أن نكدس المعلومات عن التقدم العلمي ومنهجه في الحضارة الإسلامية، وإنما الذي نريد أن نؤكده أن المنهج الإسلامي اليوم وهو في طريقه إلى بناء الشخصية الإسلامية وحضارتها من جديد، عليه أن يؤكد في نظريته التربوية على جانب الدراسات العلمية، ويدعو إلى اتباع المنهج العقلي والعلمي والتجريبي والربط بين الظواهر، لمعالجة روح الخرافة والعقلية الأسطورية والمواقف اللاعقلانية واللا سببية التي فتكت بعقلية المجتمع الإسلامي في القرون الأخيرة، والتي جعلته يبطئ في تقبل التقدم العلمي والمنطق التجريبي والفلسفة العقلية والواقعية التي تعتمد العلل، تلك التقاليد العلمية التي شكلت ركناً مهماً في الحضارة الإسلامية في القرون التي قادت فيها الحضارة الإنسانية.(9/13)
إن منهجنا التغييري الإسلامي، لا بد أن يأخذ بنظر الاعتبار إعادة بناء العقل المنهجي والموضوعي والعلمي التجريبي في الحياة الإسلامية المعاصرة. مع الفارق العظيم بين المنهج التجريبي الإسلامي الذي يتحرك بحرية كاملة في إطار القوانين المادية وتسخيرها لصالح الإنسان وبناء الحضارة، تاركاً قضايا الغيب وأسرارها إلى الوحي الإلهي، وبين المنهج التجريبي الغربي الذي لم يكتف بالحركة داخل إطار العالم المادي وإنما تعداه في تطبيق القاعدة عينها على عالم الغيب لا سيما في القرن التاسع عشر وما قبله، فوقع في الانحراف التاريخي الكبير الذي دفعه إلى إنكار وجود الله سبحانه وتعالى ورفض عبادته، كنتيجة طبيعية للصراع الذي حدث بينه وبين الكنيسة، عندما اصطنعت الأخيرة قضايا علمية خاطئة ومواقف خرافية فأسبغت عليها قداسة الدين وحاسبت العقل الإنساني، فاضطهدته اضطهاداً شديداً، جنح به إلى الكفر ولانحراف فابعدته عن طريف الهداية الإلهية.
إن هذا الصدام المصطنع لم يحدث في تاريخنا لسبب واضح هو أن القرآن الكريم هو الذي علم الناس كيف ينتقلون من المحسوس إلى المجرد في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى:
(( إنَّ في خَلْقِ السّموات والأرضِ واختِلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البَحر بِما ينفَعُ النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماءٍ فأحيا بِهِ الأرض بعد موْتِها وبثَّ فيها من كُلِّ دابّةٍ وتصْريفِ الرِّياح والسَّحابِ الْمُسخَّر بين السّماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعْقِلون )) (البقرة:164).
إن استعادة المنهج التغييري الإسلامي لأصالته التجريبية وروحه العقلانية هي الطريق الصحيح للقضاء على ازدواجية التربية والتعليم في حياتنا الحاضرة، عندما عانقت عوامل النكوص والجمود والانغلاق والتأخر مخططات المستعمرين التي فصلت بين التعليم الإسلامي والتعليم الإنساني والعلمي، والذي أدى إلى أن تفقد المذهبية الإسلامية قيادتها لحركة النمو الحضاري الجديد في العالم الإسلامي والذي ضيق على الإسلام فحصره في إطار المؤسسات الثقافية الخالية من روح الحركة الربطة بين القديم والجديد، وفتح المجال أمام التعليم العلماني الذي تجرد من الإسلام ومشى في خط التمرد الذي رمسه له منهج "دنلوب" في بلاد المسلمين
==============
المذهبية الإسلامية وقضية المستضعفين
من المسلمات المعروفة في الشريعة الإسلامية أن درء المفسدة عن الناس وجلب المصلحة لهم، بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم من أهم مقاصدها العامة(26).
ولو استقرأنا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآراء المذاهب الفقهية وجدنا أن تحقيق مصالح الجماهير الواسعة تأتي في مقدمة تلك المصالح، حتى غدت هذه القضية لوضوحها في النصوص وتواترها في النقل عن السلف الصالح تشكل قاعدة فقهية عامة، تحسم مسألة تعارض المصالح الخاصة مع المصالح العامة، لصالح العامة دائماً(27).
لقد كان من أعظم أهداف الإسلام إنقاذ الشعوب المظلومة الكادحة من ظلم الطغاة الظالمين، الذين استلبوا الجماهير الغفيرة من أممهم حقوقهم، وقضوا على إنسانيتهم وداسوا على آدميتهم.
وكان أولئك المجرمون من طغاة الأمم والشعوب وحدهم يتمتعون تنعم الحياة ويشكلون طبقة متميزة، منحرفة في عقيدتها، مستعلية في سياستها، فاسدة في أخلاقها، حيوانية في سلوكها الاجتماعي.
وقد حاول الخلفاء الراشدون والأمراء العادلون والعلماء الربانيون، عبر التاريخ الإسلامي كله أن يقفوا أمام كل انحراف يمكن أن يركز القوة والطغيان والثروة في أيدي طبقة مترفة، قليلة العدد، تتبع كل السبل المنحرفة في التحايل على المذهبية الإسلامية العادلة في الحياة، التي ارتضاها الله تعالى بمنه وكرمه، لنقل البشرية من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأخذ الحقوق من مغتصبيها وإرجاع الكرامة والحق إلى الأكثرية الساحقة من أفراد الشعوب المسحوقة تحت مطارق الفراعنة والأباطرة والنماردة و"الآباء الجاهلين " إن صح التعبير.
غير أن الرياح لم تكن تجري دائماً بما كانت تشتهيه السفينة الإسلامية، فبجانب الخلفاء الراشدين رأى التاريخ الإسلامي الحكام الظالمين، ومع الأمراء العادلين وجدنا الوزراء اللاهين. ولم تخل ساحة العلماء الربانيين الصالحين على كثرتهم من الأدعياء الطالحين الذين زوّروا الحقائق الإسلامية، لتسويغ كل باطل، وتعطيل كل عدل، ومناصرة كل ظالم.
ومن هنا فبقدر ما نفتخر في تاريخنا بالجوانب المشرقة التي يظهر بين ثناياها الحق والعدل والخير الذي جاءت به رسالة الإسلام العظيم نخجل كثيراً من رؤية الطغيان وهدر كرامة الإنسان الذي أبقت عليه رواسب الجشع والطمع والنفاق في المجتمع الإسلامي.
ونخن اليوم نعيش في عصر تتحرك فيه الجماهير المحرومة في كل مكان تطالب بتحقيق كرامتها الضائعة، واسترجاع حقوقها المسلوبة، وإنقاذ إنسانيتها المهدورة، من اخطبوط الجهل والجوع والمرض.
أولسنا أحق الأمم والجماعات بتحقيق هذه الطالب العادلة في هذا العصر ونحن نحمل المذهبية الإسلامية التي كرمت الإنسان ، وجعلته خليفة الله تعالى في أرضه وفضلته على سائر خليقته.
إن منهجنا التغييري الإسلامي، لا بد أن يتبنى الحلول الجذرية التي تكون في خدمة مصالح أسع الجماهير الإسلامية وإنقاذها من وجوه الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاستلاب الاقتصادي، حتى تندفع بإيمان واقتناع وحرارة إلى صنع تاريخها من جديد، وبناء حضارتها الإسلامية الإنسانية العلمية.
ويستطيع منهجنا التغييري أن يستنبط تلك الحلول الجذرية من الكتاب والسنة وعشرات الاجتهادات والنظريات الفقهية التي عالج فيها فقهاؤنا تلك الحلول بأدلتها التاريخية من خلال مشاكل ومصطلحات عصورهم، بعقلية إسلامية مرنة جداً.
ولا بد لنا أن نتجاوز آراء فقهية أخرى، تفتقر في معظم الأحوال إلى أدلة أصولية قوية، كانت تعبر في كثير من الأوقات عن سوء الفهم، وعدم الإدراك الحقيقي لأهداف الإسلام ، وتحويل الأعراف إلى أصول دينية من خلال رؤية مغلقة، لا ترى إلا جزئية حاضرة ولا تتجاوز إلى إدراك الكلية والشمولية في مقاصد الشريعة الإسلامية، ولقد كانت هذه الآراء لا سيما في المضمار السياسي والاقتصادي تعبر عن مصالح الظالمين والطغاة، والتي يراد اليوم إحياؤها من خلال فتاوى تصدر هنا وهناك لتسويغ الاستبداد، وتكدس الثروات وامتهان الكرامات، والتي لن يكون التفكير في الخلاص منها ومن أوزارها، عند أجيالنا الضئعة الجاهلة إلا الماركسية الملحدة أو الاشتراكيات العلمانية، التي تصطدم في أصولها ونتائجها مع المذهبية الإسلامية في شؤون الكون والحياة والإنسان.
فمذهبيتنا التغييرية الإسلامية لا بد أن تأخذ المبادرة قبل فوات الأوان فتعطي الأكثرية الساحقة من المظلومين والكادحين انحيازها الكامل وتقدم إليها الحلول الإسلامية الجذرية لمعالجة أوضاعها المتدهورة، وإلا ادعى فعل ذلك أرباب المذاهب المادية. ولن تفعلها إلا في ظل ضياع العقيدة والأخلاق، وسحق كرامة الإنسان ، وتسليم الأمة إلى مراكز القوى التي ترتبط بها تلك المبادئ المادية والعلمانية ارتباطاً عضوياً.
ويحق للقارئ هنا أن يسأل فيقول:
يا ترى ماذا فعلت الحركة الإسلامية الحديثة في هذا المجال؟
نقول منصفين إن شاء الله:(9/14)
إن الحركة الإسلامية الحديثة على الرغم من العقبات والمحاربة والاضطهاد، استطاعت أن تنقل العالم الإسلامي من حالة السكون والتأخر والمرض إلى حالة من الوعي ومعرفة الأمراض ورصد مؤامرات الأعداء، وإثبات أن الإسلام هو دستور الكون ونظام الحياة عبر مؤلفاتها وجهودها الفكرية والحركية وصحفها ومجلاتها ومؤتمراتها. وقد استطاعت تحويل الإسلام ومذهبيته الكونية الاجتماعية بتفاصيلهما إلى سلوك عملي تجسد في أجيال شابة مثقفة في مختلف المستويات والشرائح الاجتماعية حملت الإسلام بصدق وإخلاص ورجعت إلى الله تعالى وآمنت بنبوة رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة، وارتضت الجهاد الشامل في مضامير الحياة كلها، من أجل استئناف الحياة الإسلامية وبناء حضارتها الربانية.
ولا يمكن أن ينكر من كانت له ذرة من الإنصاف أن هذا التحول الكبير الذي حدث في العالم الإسلامي كان كبيراً، لأنه أعاد إلى الإسلام أحقيته ورسم للمسلم ملامح واضحة لشخصيته الإسلامية، وأخرجه من الحياة الخرافية السلبية الميتة إلى الحياة العقلية الإيجابية الحية.
وكان من المنطقي في سلسلة الأحداث أن يؤدي ما كتب حول الإسلام ومبادثه ومذهبيته الشاملة من دراسات جامعية وفكرية عامة، وما طرح حول جزئياتها من اجتهادات ونظريات في الحياة الإنسانية كلها، إلى منهج متكامل واضح المعالم، مؤصل في تفاصيله التربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية متفق علية في الأقل مرحلياً في عصرنا الحاضر، قابل للتجدد والنماء المستمر، يتبنى المشاكل الحضارية العامة، لا سيما المشاكل التي تتصل بالإنسان في تربيته الحيوية، وحريته السياسية والاجتماعية بالمفهوم المعصر، وبربط مصيره بمصيره، بحيث يشعر المستضعفون والمظلومون في كل مكان من العالم الإسلامي، أنه لا حل لمشكلتهم إلا في الإسلام ومذهبيته العادلة المناصرة للمظلومين والمحققة لأحلام المسحوقين الكادحين.
ولا يعتقدنّ أحد أن دعوتنا هنا إلى الانحياز الكامل إلى المعذبين يعني أننا ندعو إلى إثارة حرب الطبقات وقتل المستغلين وسلبهم أموالهم واستبدال طبقة مستغلة بأخرى أبشع استغلالاً. فهذه من شيم المذاهب المادية المتطرفة لا سيما الماركسية، وإنما الذي نقصده أن يتوجه المنهج التغييري الإسلامي إلى إقرار قطع دابر الاستغلال ومظاهره وأشكاله في شؤون الحياة كلها وتثبيت ذلك بوضوح، والنضال الحاسم من أجله بما يؤدي إلى إنقاذ الأكثرية المسلمة المستغلة بأيدي قلة قليلة تستند في مظاهر استغلالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أنظمة غير إسلامية.
ولقد بدأ هذا التحول في نهاية الأربعينيات وكاد أن يتحول إلى ما يسمى بـ " أيديولوجية المرحلة الحاضرة" لولا أن الضربات القاصمة قد وجهت في كل مكان إلى الفكر الإسلامي الحديث وحركته عن طريق التصفيات الجسدية والاضطهادات التاريخية لقادتها ومفكريها، ووضع العقبات المتنوعة في طريق الدعوة الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى انشغال الحركة الإسلامية الحديثة بآلامها الماحقة، وهمومها الكثيرة، وحال بينها وبين إتمام مهمة المرحلة الثانية بقوة ووضوح وحسم.
ولا بد أن يتوجه التفكير الآن وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الآلام والهموم إلى رسم خطوط تلك "الأيديولوجية الإسلامية المرحلية " التي يجب أن تستند أساسً على "المذهبية الإسلامية الشاملة " التي لم تأت إلا لربط الإنسان بربه، وتذكيره بآخرته، والدفاع عن عبيده المستضعفين أمام قوى الترف، حتى يشعر هؤلاء العبيد المستلبون أنه لا ملاذ لهم إلا في إسلامهم الذي هو عقيدتهم ومصدر عزهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.
إن مئات الكتب التي أُلِّفت حول الإسلام ونظمه العامة فيها مادة تشريعية ضخمة من خلال نقل آراء المذاهب والاجتهادات المتنوعة، أو من خلال اختيار الكاتب لاجتهادات خاصة في المشاكل الحضارية التي يطرقها.
ومن هنا فقد تنوعت اختيارات ومناهج مفكري الإسلام وعلمائه في هذا العصر، بحيث لو سألنا سائل:
ما منهجكم في القضية السياسية الفلانية أو المسألة الاقتصادية العلاّنيّة؟ وجدنا أنفسنا في بحر من النظريات والاجتهادات المتنوعة التي لا يتفق عليها المفكرون ودعاة الإسلام جميعاً.
إن الحركة الإسلامية المتصلة بالقواعد الجماهيرية، يقع على عاتقها هذه المهمة الإسلامية الكبيرة والنبيلة، وهي استنباط منهج الحركة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي في إطار المذهبية الإسلامية، من أجل حل مشاكل وأزمات عصرنا الحاضر، وقد تتعرض تفاصيل ذلك المنهج إلى التغيير من جيل إلى جيل آخر، حسب ظهور تطور الحياة. إذ أن لكل عصر منهجه التفصيلي الذي يستوعب الحياة الإنسانية ومشاكلها في ذلك العصر.
والحركة الإسلامية للظروف التي مرت بها، لم تقم بعد بهذه المهمة الكبيرة.
وهذا الفراغ في المنهج التفصيلي الواقعي المتصل بآمال الجماهير الغفيرة من أمتنا هو الذي شجع بعض الجاهلين أو المتصيدين في الماء العكر أن يدّعوا أنهم يريدون الجمع بين روحية الإسلام وقيمه وبين المناهج النضالية الاقتصادية الحديثة، كما يحلو لهم أن يسموها. على الرغم من أن في الإسلام مناهج نضالية شاملة تستوعب آمال أهل الحقوق الضائعة في كل عصر، ولكن الظروف التي مرت بها الحركة الإسلامية الحديثة لم تدع لها مجالاً لاستنباطها وبيان مقدماتها ونتائجها التفصيلية في مظاهر الحياة الإنسانية كلها. وعندما نقدم ذلك المنهج الإسلامي النضالي التفصيلي إلى المظلومين في كل مكان، لن نجدهم يركضون وراء سراب المناهج المادية العلمانية التي تريد أن تفرغ مجتمعاتنا من الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً وحضارة.
إن المنهج التغييري النضالي الإسلامي إذا أخذ بنظر الاعتبار طبيعة الإسلام الجماعية. ومبدأ تحقيقه الدائم لمصالح العباد وإنهاء التعسف في استعمال الحقوق، مع مراعاة الواقع المتغير والإدراك العميق لمشاكله العصرية، فسيكون هو البديل وحده، لأوضاع الانهيار الحضاري في مجتمع الإسلام ، لا غيره من المناهج التي تنطلق من داخل المنظومات الحضارية الغربية، الغربية كل الغرابة عن المنظومة الحضارية الإسلامية.
وأقول "وحده "، لأن المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية وجوانيتها التاريخية العميقة من الروابط والأعراف والمصالح المشتركة، لا يمكن أن تزحزحه المناهج الغربية عنها في كل شيء.
إن منطق الحياة واستقراء أحوال الأمم والشعوب يقتضي هذا!!
ونحن اليوم نقف في العالم الإسلامي على مفترق الطريق، لا بد لنا من أن نحسن الفهم والاختيار، وإلا ضاعت الفرصة التاريخية وألحقنا بقضية الإسلام والإنسانية خسارة كبيرة
==============
المذهبية والمصطلح الحضاري
إذا أردنا أن تتغير أوضاعنا الحضارية في ضوء المذهبية الإسلامية، فلا بد أن تكون مصطلحاتنا الحضارية تعبر تعبيراً دقيقاً عن حقائقها وطبيعتها ووحدتها الداخلية ومنظومتها المتميزة. لأن في ذلك الصفاء ووضوح الرؤية واستقامة المنهج، ولأن التغيير الحضاري في أي مجتمع إذا قاده التلفيق بين مجموعا اصطلاحية، تنتمي إلى منظومات حضارية مختلفة فإن التغيير يفقد التخطيط الموجه ويدخل في إطار الفوضى في الفكر والممارسة، فيؤثر ذلك في كيان المجتمع كله.
وفوضى الاصطلاحات من جهة أخرى دليل عدم الأصالة، وبرهان عدو وجدان الذات، وفقدان للخصوصية الحضارية.(9/15)
ومن المشاكل الفكرية الخطيرة التي تعاني منها في مرحلتنا الحاضرة، تشابك الاصطلاحات التي تنتمي إلى حضارات متضادة في كل شيء، والتي لم تستطع إلى الآن أن تضعنا على طريق الفهم الحضاري المشترك والاتفاق ولو على أصول مذهبية واحدة، وبذلك فقدنا الانسجام الفكري والأرضية المشتركة للتفاهم في مجتمع مشتت الفكر، لم تتوضح أمامه الرؤية المذهبية بعد:
فمن أهل الفكر من يدعو إلى استعارة المصطلحات الحضارية الأجنبية دون تردد، لأنها أصبحت لغة عالمية، فهم لا يرون مانعاً من استعمال كلمات اليمين واليسار، والديمقراطية والثيوقراطية، والطبقة والحكم الإلهي المطلق، ورجال الدين والصراع والثورة، والرأسمالية والماركسية والاشتراكية… وما إلى ذلك، على أساس أننا لا بد أن نعيش - في زعمهم - عصرنا ونفهم مصطلحاته ونستعملها حتى يفهمنا الناس، ويتوحد فكرنا على أساسه وتظهر آثار التقدم والتطور في حياتنا ونتحرر من المصطلحات التراثية التي أكل عليها الدهر وشرب.
ويصرحون بأننا لا بد لنا أن نسقط لغتنا العقيدية الخاصة ونتبنى لغة المصطلحات الحديثة الشائعة حتى نصل إلى لغة مشتركة للحوار بين الاتجاهات الفكرية داخل ثقافتنا وبين حضارتنا وحضارات أخرى.
هذا واحد منهم يقول:
وقد حدثت ظاهرة لغوية فريدة هي ظاهرة (التشكل الكاذب ) عندما أسقطت الحضارة الإسلامية الناشئة لغتها العقائدية الخاصة ووضعت محلها لغة العصر لغة الحضارات القديمة وليست بالضرورة اللغة اليونانية لأنها كانت لغة العصر في ذلك الوقت وعبرت عن مضمون الحضارة الإسلامية التي لم تعد اللغة الدينية القديمة قادرة على التعبير عنها وعن كل إمكانياتها. وهي في مواجهة حضارات مجاورة تنتشر فوقها تحتويها وتتمثلها. لم يعد لفظ "الله " يعبر عن مضمونه (كذا ) بل كانت الفاظ "المحرك الأول " "العلة الأولى " "الصورة المفارقة" "الواحد " "العقل العاقل والعقول " "اللانهائي " إلى آخر هذه الألفاظ التي استعملها الفلاسفة قديماً وحديثاً للدلالة بها على مضمون التنزيه ومع ذلك ظل المضمون الأول وإن تم الاستغناء عن الشكل وهو اللفظ (28).
إن مقارنة موقفنا الحضاري بمواقف أسلافنا من الحضارات الأخرى، مقارنة تفتقر إلى الأساس المشترك، وهذا الأساس مفقود هنا لما يلي:
- الأول:
إن أسلافنا عندما واجهوا الحضارات الأخرى، كانت مذهبيتهم الإسلامية، تسيطر على حياتهم وتوجه حضارتهم. وكانت دولتهم أقوى الدول. ولم تكن هنالك مذهبية أخرى تستطيع أن تشكل خطرأ على مذهبيتهم الإسلامية بتفاصيلها الدقيقة. فلم تكن مشكلة الضياع والذوبان مثارة يومئذ أصلاً، بل هم كانوا يفتحون عقولهم وقلوبهم لدينهم وحضارتهم وجوانب حياتهم المشرقة.
ونحن اليوم بعكس أسلافنا. كياننا السياسي الإسلامي ممزق، وحضارتنا الإسلامية قد سقطت منذ زمن بعيد. لا بد غزتنا الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الغربية غزواً يكاد يكون كاملاً، بحيث فقدنا شخصيتنا المستقلة.
فنحن اليوم عندما نختار لسنا أحرارً كأسلافنا؛ منطلقاتنا الفكرية ليست واضحة، رؤيتنا لما حولنا لا تتحكم فيها عيون سليمة، حياتنا الاجتماعية والحضارية غير مخططة، لا لون لنا، لا نمط متميز لحياتنا.
فهل وضح أسلافنا ووضعنا متماثلان؟ حتى نجمع بينهما ونتصرف على أساسهما ونختار، هذا إذا كانت القضية التي نواجهها تشبه التي واجهوها، فكيف إذا كانت القضيتان مختلفتين؟
- الثاني:
إن المصطلحات التي نواجهها اليوم تختلف اختلافاً كبيراً عن المصطلحات التي واجهها أسلافنا؟ لأن المصطلحات في عصرنا ليست ألفاظاً لغوية أو أوصافاً لعلم من الأعلام. وإنما هي مصطلحات تكمن وراءها منظومة حضارية تختلف في مقدماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطنا الاجتماعي.
فلو جئنا إلى لفظ الجلالة "الله " سبحانه وتعالى نجد أنها لسم علم، يدل على الفاطر أو الخالق أو المبدع، وهو المعبود الحق الذي لا معبود سواه. فإذا وصفنا هذا الخالق بأنه "العلة الأولى " أو "المحرك الأول " أو "الواجب الوجود ". لم تتغير الحقيقة، لأن الباري تعالى يتصف بهذه الأوصاف جميعاً. ثم إننا لم نبتعد بإطلاقنا تلك الألفاظ عن دائرة الفهم اللغوي المباشر. واستعمال هذه الألفاظ لا يستدعي أبداً إدخال معنى آخر بجانبه. ومن استعمل من الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، مضامين أخرى بجانب تلك الألفاظ، لم يأخذوها لأنها مضامين تدخل في معنى تلك المصطلحات. وإنما هم أخذوا فلسفة أرسطو الإلهية بكاملها وظنوها صحيحة تسند المذهبية الإسلامية. أو ظنوا ذلك دفعاً للتعارض بين العقل والنقل.
والحقيقة أنه لم يكن هنالك تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، بل كان هنالك تعارض بين النقل وبين أقوال "ارسطو " وفلسفته الإلهية ذات التأثيرات الوثنية (29).
أما ما نحن اليوم فيه من المصطلحات الحضارية، فلها وضع آخر غير الوضع الذي تحدثنا عنه. فلنتكلم على وضع كل مصطلح متى نركن إلى الحقيقة فيه.
الرأسمالية:
الرأسمالية ليست معنى لغوياً صرفاً، ولا هي مجمل في المعنى، وإنما تدل دلالة قطعية على نظام اقتصادي حر، لا يرتبط بقاعدة أخلاقية في الحصول على التملك أو كيفية الحصول عليه. وفوق ذلك فإنه نظام يتأسس عليه حكم معين وتترتب عليه نتائج تولد المآسي والمظالم لا تقف عند المجتمع الرأسمالي وإنما تتجاوزه إلى مجتمعات أخرى.
فكيف يمكن أن نجيز موضوعياً لباحث إسلامي يصف الاقتصاد الإسلامي بأنه اقتصاد رأسمالي لمجرد أنه يبيح الملكية الفردية بشروطها المعروفة في الشريعة الإسلامية.
إن الاقتصاد الإسلامي يتفرع من مذهبية إسلامية شاملة متكاملة لها جوانب كثيرة مترابطة، مقدماتها وموضوعاتها ونتائجها تختلف جذرياً مع الاقتصاد الرأسمالي.
الشيوعية:
هذا المصطلح، ليس معنى لغوياً بحتاً وليس مجملاً، وإنما يدل على نظام خاص محدد، له تفسيره المادي لشؤون الكون والمجتمع والإنسان، وتتفرع منه أنظمة تنسجم مع مقدماته ذات التفسير المادي للتاريخ، منها النظام الاقتصادي المبني على تحريم الملكية لأدوات الإنتاج، وسيطرة الدولة الكاملة على توجيه النشاط الاقتصادي في المجتمع.
فهل يمكن أن نكون علميين إن قلنا: إن النظام الاقتصادي الإسلامي هو نظام شيوعي أو شبيه بالشيوعية، لأن اتجاه الاقتصاد الإسلامي هو اتجاه جماعي، أو لأنه يبيح للإمام التدخل في الأوضاع الاقتصادية وإعادة التوازن إلى المجتمع، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. زد عليه أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو جزء من كلِّ يختلف أساساً عن الكل الحضاري الذي تنتمي إليه الشيوعية.
الديمقراطية:
كلمة يونانية الأصل تتكون من مقطعين، الأول نعني الشعب والثاني يعني الحكم، ومعناه أن يحكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة أو عن طريق الممثلين الذين يختارهم في مجلس النواب، وهو نظام علماني، ليس فيه محور ثابت لحركة التغيير، بل إن الشعب عن طريق نوابه يغير حياته كما يشاء من دون ارتباط بقيمة ثابتة.
وهذا المعنى يختلف عن النظام السياسي الإسلامي الذي ينبثق من المذهبية الإسلامية التي تستند نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القاطعة، ولكن لها الحق أن تغير ما يتعلق بالأمور الدنيوية التي تخضع لتغييرات الحياة في داخل الضوابط المستنبطة من الكتاب والسنة وطبيعة اللغة وحقائق المنطق العام، فكيف يمكن أن نسمي النظام الإسلامي بعد ذلك بالنظام الديمقراطي الإسلامي.
الثيوقراطية:(9/16)
وهي عبارة عن كلمتين في اليونانية: "ثيو " معناه : ديني و "كراتيس " معناه: حكم، وهو الحكم، القائم على التفويض الإلهي، أي أن الحاكم يختاره الله فيحكم باسمه ويستمد منه سلطته، يحيط به جمع من الكهنة يسيطرون على الناس ويستغلونهم.
وهذا المعنى النابع من التاريخ الأوروبي لا ينطبق على مفاهيم الحكم الإسلامي، لأن إمام المسلمين أو خليفتهم، لا يختاره الله، بالمعنى السابق ولم يفوض إليه أن يحكم باسمه، بل تختاره الأمة، فينوب عنها في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. ثم إنه لا توجد طبق كهنة أو رجال الدين في الإسلام، وإنما يوجد العلماء، شأنهم شأن غيرهم من العلماء في العلوم والآداب والفنون، وليس لهؤلاء العلماء الاجتهاد في موضع النص القاطع الثابت بالوحي الإلهي.
فإذن كيف يمكن أن يستعمل هذا المصطلح للدلالة على الحكم الإسلامي؟
اليمين واليسار:
من التعابير الاصطلاحية التي أصبحت مرتبطة بنظم الحكم وبالمذاهب السياسية والأحزاب المعاصرة. نشأ اللفظ أصلاً مع قيام الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1789م التي مهدت لقيام الثورة. إذ كان النبلاء من أعضائه يجلسون في مكان الشرف إلى يمين رئيس المجلس بينما كان يجلس ممثلو الشعب إلى اليسار، ثم شاعت في المجالس الأوروبية، أن يجلس المحافظون في اليمين والراديكاليون التقدميون في اليسار،ثم توسع في استعمال اللفظ، فأطلق اليمين على المحافظين واليسار على الثوريين أو التقدميين(30) .
إذن فهذان المصطلحان يرتبطان بما حدث من تطورات سياسية في داخل المنظومة الحضارية الغربية، ولهما دلالات ترتبط بهما ارتباطاً عضوياُ.. فكيف يمكن أن يوصف ما جرى في تاريخ الإسلام بهذين المصطلحين؟!
إن الإسلام كان له مصطلحان معروفان، وهما الحق والباطل، فأهل الحق هم معروفون لمن يعيش في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية، وكذلك أهل الباطل. ولو نقل المصطلحان إلى الحضارة الغربية، لم بفهم أحد معناهما لأنه لم يستعملهما أحد داخل المنظومة الحضارية الغربية.
وهكذا الأمر بالنسبة للمصطلحات: "الاشتراكية " و "الدكتاتورية " و "الرجعية والتقدمية " … وغيرها، فهي ثمرة تطور النمط الحضاري الغربي لا علاقة لها بتاريخ الإسلام وحضارته وتطور الحياة فيه.
على أنه توجد مصطلحات أخرى لا ترتبط بمنظومة حضارية معينة، ولو قيدتها بمعانٍ خاصة بها وبالمبادئ التي تفرعت منها عند استعمالها. فألفاظ مثل: "الثورة " أو "الطبقة " أو "التقدم" كانت ولا تزال مستعملة في ثقافات شتى، فمن الناس من يستعملها على إطلاقها ومنهم مستعملة في ثقافات شتى، فمن الناس من يستعملها على إطلاقها ومنهم من يستعملها مقيدة. فهي عندئذ بمثابة الألفاظ المجملة. فعند إطلاقها لا بد لنا أن نبحث عن المعنى المقصود في السياق، حتى نحدد موقفنا منه بدقة. فالسياق هو الذي يحدد معنى قول الماركسي "ثورة الطبقة " والديمقراطي "الثورة الفرنسية " والإسلامي "جاء الإسلام ثورة على المجتمع الجاهلي ".
فلو سألنا الماركسي:
ماذا تقصد بكلامك؟
أجابنا:
أقصد بثورة الطبقة ثورة الطبقة التالية على الطبقة السابقة عليها كثورة البورجوازية على الإقطاع وكثورة العمال على البورجوازية بشروطها التاريخية.
ولو سألنا الديمقراطي أجابنا:
هي ثورة الشعب الفرنسي على المظالم التي كانت سائدة قبلها.
ولو سألنا الإسلامي أجابنا:
أقصد أن الإسلام لما جاء اقتلع جذور الجاهلية وقبلها رأساً على عقب.
وفي رأيي أن استعمال الألفاظ المجملة بسياقها المعرِّف الذي يزيل كل ليس عند القارئ لا خطر فيه. فالكاتب الإسلامي عندما يقول:
(لا توجد طبقية في الإسلام ) لا يحدث كلامه التباساً عند القارئ، لا سيما أن هذه الجملة وردت ضمن موضوع يتحدث عن أن الناس كلهم عيال الله. فلا تمايز لجماعة على الأخرى إلا بالتقوى، أي لا طبقية بأي مفهوم من مفاهيمها الظالمة في الإسلام.
فهذا شيء، وقولنا "الإسلام نظام ديمقراطي " أو "ثيوقراطي " إلى آخره شيء آخر.
وإذا قيل : ما المانع أن أستعمل تلك المصطلحات، ثم أشرح المقصود بها في كلامي. قلنا: هذا فساد في الفكر. إذ كيف تصف الإسلام بمصطلح أجنبي استقر معناه ، ثم تنتهي إلى ضده؟
والذين يقولون: إن طبيعة الحوار في عصرنا تقتضي استعمال تلك المصطلحات لأنها تشكل جسور التفاهم بيننا وبين أصحابها. نقول لهم: لقد ثبت لنا أن كل علم أو فن أو دين له مصطلحاته الخاصة به. فنحن نستطيع عن طريق الإيضاح والتفسير أن نفهم مقاصدنا للناس. فإذا كنت أكلم مفكراً انجليزياً وقلت له: إن الإسلام "ديمقراطي " في الحكم. فهم الكلام في إطار مفهومه هو عن الديمقراطية. والحال إن الإسلام ليس كذلك. إذن فلا بد أن نقدم إليه الحقيقة كاملة حول الإسلام حتى يدرك التمييز الكامل بين نظام الحكم في الإسلام والنظام الديمقراطي. وهكذا في المصطلحات الأخرى.
إن المشكلة الكبيرة في عصرنا أن أبناء القرن الرابع عشر الهجري في العالم الإسلامي الذين عاشوا داخل المنظومة الحضارية الغربية وفي إطار مصطلحاتها، لا يتصورون أن يتم التفاهم إلاّ بما نشأوا عليه.
إن المذهبية الإسلامية بكلياتها ومصطلحاتها غدت غريبة في مجتمعاتنا الإسلامية. فالمسلمون لا يعيشون في إطارها. فلا بد لمنهج التغيير الذي يتبناه الإسلاميون، أن يلتزم بإطار المصطلحات الإسلامية، حتى ترجع الأصالة الفكرية إلى مجتمعنا فلا نعيش إلى الأبد على فتات موائد المذهبيات المادية التي توجه الحضارة الغربية المعاصرة.
إن المذهبية الإسلامية تعيش اليوم في معركة ضارية مع المذهبيات المادية العلمانية. واستعمال المصطلحات التي تعبر عنها لن يكون إلاّ في صالح تمكين أفكارها ونمطها الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية
==============
المذهبية الإسلامية والقومية
كان الناس أمة واحدة، يوم أن كانوا قليلي العدد، يسكنون في منطقة واحدة، حياتهم منسجمة، ومواقفهم من مظاهر الطبيعة متشابهة ثم توسعوا، فضاقت بهم الأرض وتعددت بهم سبل العيش، فانتشروا في الأرض وتفرقوا إلى جماعات هنا وهناك وقبائل، ثم نمت تلك الجماعات وتحولت إلى شعوب وأمم تباعدت عن بعضها.
وفرضت عليها ظروف الحياة أن تتجمع حول نفسها لتكون خصائصها عبر ألوف السنين، فتكونت بذلك اللغات المتعددة والعادات والتقاليد المتباينة، فشعرت كل أمة باستقلاليتها وانتقلت إلى مرحلة التفكير والنزاع والسيطرة على الجماعات والشعوب الأخرى طمعاً في الاستعلاء وحصولاً على مصادر العيش الرغيد.
ولقد بعث الله تعالى النبيين مبشرين منذرين في الأقوام والجماعات:
((… وإن من أمّةٍ إلاّ خلا فيها نذير )) (فاطر:24)
((وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومه ليُبيِّن لهم… )) (إبراهيم:4).
ورسل الله، ذكَّروا الناس بأصلهم الواحد، وبربهم الواحد، ودعوهم إلى عبادته، كي لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله فيضلوا السبيل:
((كان النّاس أُمّةً واحِدةً فتعث الله النّبيِّين مُبشِّرين ومنذرين وأنْزل معهم الكتابَ بِالحقِّ لِيحْكُمَ بيْن النّاسِ فِيما اخْتلفُوا فيهِ وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعْدِ ما جاءتْهُمُ البيِّناتُ بغياً بيْنهم فهدى الله الذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فيه من الحقِّ بإذنِهِ واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (البقرة : 213).
والقرآن الكريم يذكر الناس بحقيقة الوحدة الإنسانية فيقول:(9/17)
((يأيُّها النّاسُ إنّا خلقْناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائِل لتعارفُوا إِنَّ أكرمكُم عند اللهِ أتقاكم )) (الحجرات : 13)
فهو إذن يدعوهم إلى التعارف والتعاون ولم يدعهم إلى الذوبان جميعاً في وحدة اجتماعية واحدة. لأن وجود الشعوب والقبائل واقع اجتماعي، ليس من المصلحة القضاء عليها في حد ذاتها، ولا من المصلحة أن توحد لغاتها. لأن هذا التنوع في وجودهم ولغاتهم يدفعهم إلى التنافس على الخير وإقامة الحضارة وبناء الحياة، ثم هي آية من آيات الله المبثوثة في الوجود.
((ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السّمواتِ والأرضِ واخْتِلافُ ألْسِنتِكم وألوانِكُم إنّ في ذلك لآياتً لِلْعالِمين )) (الروم: 22).
وليس من القطرة أن نطلب القضاء علي آيات الله في الوجود، لأنها مظاهر تجليات أسمائه الحسنى.
ومع أن الإسلام اعترف يذلك الواقع في المجتمع الإنساني غير أنه استنكر العصبية الجنسية والقبلية، لأنها تسبب الفرقة وتولد البغضاء وتنخر المجتمعات وتسقط الحضارات. والاستقراء التاريخي في كل الأمم والشعوب دليل قاطع على ذلك.
وفي سبيل المحافظة على وحدة الإخاء البشري رسم الإسلام ثلاث دوائر حولها، حتى لا يعيش كل من في الدائرة الواحدة في دائرتها وحدها، فينتج من ذلك التعصب المقيت، والعرقية البغيضة. وتلك الدوائر هي:
- الأولى:
دائرة الإسلام التي تجمع بين المسلمين جميعاً في أمة واحدة:
((إنّما المؤمنون إخوة ٌ)) (الحجرات:10)
- الثانية:
دائرة الدين عامة:
((قل يا أهْل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم… )) (آل عمران : 64)
((إنَّ هذه أمّتُكُم أمّةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاعبدون )) (الأنبياء : 92).
وهذه الآية الكريمة خطاب للرسل جميعاً لأنهم جاؤوا بحقيقة إسلام الوجه لله رب العالمين.
- الثالثة:
دائرة الأصل البشري والأخوة الإنسانية عامة:
((يأيُّها النّاسُ اتّقُوا ربُّكمُ الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ… )) (النساء : 1)
ولقد عاش المسلمون خلال أحقاب متطاولة في ظل أخوة الإسلام وعاش معهم غيرهم في أمن وأمان في معظم الأحوال، وانصهرت عبقريات الأمم والشعوب لتشكل الحضارة الإسلامية التي حملت لواء العلم والمعرفة قروناً من الزمان في أرجاء العالم.
وكان المسلمون جميعاً على تنوع ألوانهم وشعوبهم ينتقلون بلا قيود بين بخارى وسمرقند وغزنة وطاشقند وبغداد والكوفة ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة، على الرغم من تعدد المؤسسات السياسية وتنوع الخلافة الإسلامية. يؤمنون بعقيدة واحدة، ويتجهون إلى قبلة واحدة، تجمع بينهم كذلك اللغة العربية الجميلة، والتي كانت لغة الحضارة الإسلامية بين المحيطين، إلى أن داهمتنا جيوش المستعمرين في عقر دارنا وبدأوا بالتخطيط الذكي لتمزيقنا وتأليب بعضنا على بعض عن طريق الفلسفات القومية العنصرية التي ظهرت في الغرب، ومن خلال تشجيع النزعات الطائفية في البلاد الإسلامية.
ولقد ظهرت النزعة القومية العنصرية أول ما ظهرت في البلاد العثمانية في ستينيات القرن الميلادي الماضي، عندما احتكت الدولة العثمانية بألمانيا احتكاكاً قوياً. وتوثقت بينهما أواصر السياسة والتجارة والثقافة، وبدأت البعثات العسكرية والثقافية تتقاطر على ألمانيا التي كانت تعيش يومئذ الحالة القصوى في العصبية للجنس الجرماني نتيجة لظروفها السياسية والأخطار العسكرية التي كانت تهددها من الخارج، فرجع المبعوثون الأتراك وهم مشحونون بالإعجاب الكبير لحركة القومية الألمانية ومظاهر الحضارة الغربية، ليشكلوا نواة الحركة الطورانية العنصرية التي تحولت بعد سنوات قليلة إلى حركة "تركيا الفتاة " ثم إلى "الاتحاد والترقي " التي انسلخت من الرابطة الإسلامية ودعت إلى إلغاء سياسة التتريك (بعد خلع السلطان عبد الحميد ) واضطهاد الشعوب التي كانت منضمة تحت لواء الدولة العثمانية - لا سيما العرب - والاستعلاء عليها الأمر الذي أدى إلى حركة ردّ فعل قوي عند شباب العرب المتأثرين بالثقافة الأوروبية.
ومن الحقائق الثابتة التي أثبتتها الأبحاث الحديثة والوثائق التي نشرت في القرن العشرين، أن هذه الحركات القومية العنصرية كانت تقف وراءها الماسونية العالمية وسفارات الدول الأجنبية والأقليات غير الإسلامية والمؤسسات الثقافية التنصيرية التي أنشأتها الدول الاستعمارية الكبرى يومئذ ومن أبرزها الجامعة الأمريكية في بيروت(31) التي خرّجت معظم منظّري حركة القومية العربية الحديثة، وأكثرهم نصارى، سواء أكانوا مفكرين أو مؤرخين أو أدباء أو شعراء.
ومن المؤسف أن الوعي الذي ظهر بين المثقفين المسلمين عموماً نتيجة لاحتكاكهم بالحضارة الغربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادي، بالتأخر العام الذي أصاب المجتمع ومظاهر الجهل والجوع والمرض والسقوط الحضاري فيه، لمّا لم يجد وعياً إسلامياً حقيقياً لتوجيهه يومئذ، استسلم للحركات العنصرية ومظاهرها الخلابة في الدعوة إلى الإصلاح والتقدم والأخذ بأسباب الحياة الحديثة.
ولقد انتهت الحركة الطورانية العنصرية في تركيا إلى إلغاء الخلافة العثمانية، وإبعاد الإسلام من شؤون الحياة وإعلان اللادينية ومحاربة اللغة العربية وإلغاء حروفها وفرض سياسية التتريك على الشعوب الإسلامية الأخرى كالأكراد والعرب في ظل الانقلابات الكمالية، ابتداءً من أوائل عشرينيات القرن الحالي.
وانتهت حركة القومية العربية الحديثة إلى سلوك خط معارض للإسلام من حيث هو عقيدة وشريعة وسلوك، بل حاول مفكروها أن يوجهوها بحيث تضع ديناً بدل دين الإسلام ، فهذا أحد هؤلاء يقول:
"… القومية بالنسبة إلينا نحن القوميين العرب دين له جنته وناره ولكن في هذه الدنيا… "(32).
إن لحركة الطورانية العنصرية التكية وحركة القومية العربية، كان لهما تأثير كبير في دفع الأكراد الذين كانوا من أخلص الشعوب الإسلامية لمبادئ الإسلام وخدمة علومه وثقافته إلى التفكير في قوميتهم لا سيما بعد شعورهم بالاضطهاد الدموي الرهيب الذي أصابهم على أيدي الكماليين العنصريين في تركيا.
وقد حاول المخططون لإثارة النزعة القومية العنصرية في بلاد الإسلام 'ن ينطلقوا دائماً من منطلق دفع القوميات للخروج النهائي من الإسلام.,من هنا فإن المتطرفين من القوميين الأكراد، دعوا قومهم إلى الانسلاخ من الإسلام ، عقيدة ولغة وحضارة.
ووقعت هذه المأساة بالنسبة إلى بعض البربر في شمالي أفريقيا، فالمستعمرون الفرنسيون عندما احتلوا الجزائر والمغرب وتونس حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يدفعوا المسلمين البربر إلى اتخاذ مواقف متطرفة في التمسك بقوميتهم، بل خططوا لإخراجهم من جماعة المسلمين والإسلام في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما أعلنوا "الظهير البربري " الذي قاومه المخلصون من المغاربة عرباً كانوا أم بربراً.
غير أن القضية في شمالي أفريقيا لم تتأجج كما تأججت القوميات في الشرق الإسلامي، لأن محاربة المستعمر للإسلام قد ولّد رد فعل معاكس، وجعلت المسلمين جميعاً يدركون غايات المستعمرين من إحياء النزعة القومية في بلاد الإسلام .
إن الحركات القومية لما وجدت أنه من المستحيل أن يتحول مجرد التعصب العرقي إلى مضمون حضاري ومذهبية عقيدية في الحياة استعاروا لها المذهبيات المادية المتنوعة والعلمانية، معتبرين الإسلام تراثاً قديماً يمثل بعض أمجادهم.(9/18)
ولقد كانت نتائج هذه المأساة التاريخية كبيرة في العالم الإسلامي، بحيث أدى إلى محاربة الإسلام في مظاهر الحياة كلها وحصره في أمور عبادية ضيقة وعدم وقوف الأمر عند حدود الحياد بين الكفر والإيمان وهو جوهر "العلمانية " بل تجاوزها إلى "اللادينية " وفرض المضامين المادية وأماط الثقافة الأوروبية الأخرى على المجتمع الإسلام في نواحي الحياة كلها، ومحاصرة كل من ارتفع صوته فرداً أو جماعة بالحفاظ على الذات الإسلامية ومقاومة الإلحاد والإباحية المرتبطة بمراكز القوى الخارجية، لا بل تجاوز الحصار إلى تصفية المفكرين وقادة الحركات الإسلامية واضطهاد وسحق كرامة وحرية الجيل الإسلامي الجديد الرافض للمذهبيات الأجنبية التي ولدت الدمار العقائدي والأخلاقي والحضاري في المجتمعات الإسلامية.
وقد يقول لنا قائل:
ما موقع العروبة في منهج التغيير الإسلامي؟
هذا كلام مجمل نريد بيانه.
فإذا كنتم تريدون العروبة ذات المضامين المادية والعلمانية والعنصرية، فإن الإسلام يرفض هذا رفضاً قاطعاً، لأن تلك المبادئ تتنافى مع الإسلام. وتلك العروبة في الحقيقة ليست عروبة بل هي شعوبية جديدة واضحة تتقدم تحت شعارها لهدم الإسلام وإبعاده عن حياة المسلمين وتمكين المبادئ الجاحدة التي أنتجتها ثقافة الغرب غير العربية وغير الإسلامية.
إن شعوبية "العروبة " ذات المضامين الإلحادية والعلمانية ظهرت عندما نهشت في جسم الأمة العربية الواحدة فمزقتها، وضربت أبناءها بعضهم ببعض، وسلمت بلادها رخيصة إلى اليهودية العالمية دون تخطيط ودون إرادة قتال، بل بسبق إصرار في الخيانة والاستجابة إلى الأوامر التي صدرت إلى قادتها والداعين إليها من مراكز القوى السرية والعلنية في العالم.
لقد ذلت العرب أعظم ذلة في التاريخ في ظل هذه الشعوبية الجديدة في عقيدتها وأرضها وذات نفسها.
فكيف يمكن بعد ذلك لدعاة الإسلام أن يقبلوا بعروبة، مضمونها كفر بالله والرسول العربي، وواقعها سلسلة من الخيانات والهزائم المتلاحقة عبر نصف قرن كامل من أخصب زمان الأمة.
أما إذا أردتم، عروبة القرآن، عروبة الإسلام ، عروبة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي العروبة الحبيبة التي وصلت إلى أبعد نقطة في بلاد الإسلام من خلال دينها وثقافتها وعلومها التي كانت تقرأ وتكتب وتدرس بلغتها العبقرية الشاعرة، لغة القرآن الكريم.
هذه العروبة النظيفة هي التي حمل لواء الدفاع عنها وعن وجودها غير العرب من علماء الأمة الإسلامية وعباقرتها.
هذه العروبية التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"ليست العربية من أحدكم بأب أو أم وإنما العربية اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي " (33) هي التي نقلت بلاداً بكاملها إلى حظيرة العربية من حيث هي دين وثقافة ولغة ومن حيث هي أمة كريمة اختارها الله تعالى لحمل رسالة الإسلام ، وجعل منها أئمتها الهداة الذين نشروا لواء الإسلام في كل صقع ورووا بدمائهم أرض الإسلام كلها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكانوا أرحم الفاتحين بالأمم والشعوب.
وكذلك إذا أردتم أن تتوحد العرب في أمة واحدة ذات شخصية مستقلة معيد النظر في حياتها فتنقلها من الفرقة إلى الوحدة ومن التأخر إلى التقدم ومن الاستبداد إلى الشورى ومن الظلم إلى العدل ومن جور المبادئ الغربية الجاحدة إلى نور الإسلام. فهذا أمل كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر حقاً، يدعو إليها ويعمل لها، ويكافح من أجل تحقيقها.
فقوة الأمة العربية اليوم ووحدتها إذا تمت - وهي لن تتم إلا بقيادة المذهبية الإسلامية لها - فمتكون درعاً عظيماً للإسلام وإحياءً لحضارته وقيادة لشعوبه نحو بناء حضارة إسلامية إنسانية شاملة.
إن من أعظم أسباب ذل المسلمين اليوم وتأخرهم وجهلهم بحقائق الإسلام أن العرب منذ قرن من الزمان، في ضوء مخططات العدو، يساقون إلى طريق غير طريق الإسلام ، لأن الأعداء علموا جيداً أن الرائد إذا ضيِّع الطريق، ضاع الجميع معه.
فالشعوب الإسلامية تنتظر اليوم من العرب أن تقودها إلى بناء حياتها وشخصيتها الحضارية المستقلة، في جامعة إسلامية تتعاون شعوبها ودولها على البر والتقوى وترد الإثم والعدوان، وتري الأعداء العزة والقوة والتمكين.
والعرب لن يستطيعوا أن يقوموا بدورهم في إنقاذ أنفسهم وقيادة غيرهم وهداية شعوب العالم وإنقاذ حضارته من الانهيار القيمي والسلوكي، إلا إذا أدركوا مهمتهم وتمسكوا بعقيدتهم وحافظوا على ذاتهم.
هذا قدر العرب في هذا العصر، وكل الدلائل النظرية والواقعية تشير إلى أن العرب بعد أن مرّوا بتجارب مريرة وقاسية، سيتوجهون نحو هذا القدر الإسلامي العظيم، لأنهم مسؤولون أمام الله تعالى عن ذلك:
قال تعالى:
((وإنّهُ لذِكْرً لك ولِقوْمِك وسوف تُسْألُون َ)) (الزخرف: 44).
وبعكسه ستتسلم الراية أمة إسلامية أخرى، حسب الوعد الإلهي:
((… وإن تتولِّوا يسْتبْدِلْ قوْماً غيْركُمْ ثُمَّ لا يكُونُوا أمثالكُمْ )) (محمد: 38).
==============
المذهبية الإسلامية وأزمة المثقفين
إن قصور المناهج التعليمية القديمة في العالم الإسلامي عن تقديم المذهبية الإسلامية الشاملة المتكاملة المترابطة إلى الأجيال الجديدة في القرون الأخيرة، ضيِّع عليها فرصة تاريخية كبيرة، عندما واجه المناهج التغييرية التي وجهتها المذاهب المادية في الثقافات الغربية، بحيث لم تستطع تلك الأجيال أن تدرس وتمحص تلك المناهج المذاهب في ظل رؤية سليمة للمذهبية الإسلامية، فوقعت في عبودية مشينة لها، وألغت عقولها تجاهها، وظنت أنها هي الحقيقة الكبرى التي انتهت إليها الثقافات المتطورة، وفيها الحل الأوحد لأزمة الإنسان المسلم وإخراجه من الأزمان القديمة الراكدة إلى الزمن الجديد الذي يصوغ حياته صياغة جديدة، وينقذها من سلبيات القرون الأخيرة، ومآسيها التي حطمت طاقات الأمة وأوقفت مسيرتها التنموية.
إن الفراغ الفكري الذي حدث نتيجة لغياب المذهبية الإسلامية الواضحة وسيطرة فكر الجمود التواكل والخرافة على الأمة، وتوجيه الثقافة المعاصرة من قبل المؤسسات التنصيرية والاستشراقية الاستعمارية كان مأساة تاريخية كبرى في العالم الإسلامي، انتهت إلى عزل أجيالنا المثقفة عن الثقافة عن الثقافة الإسلامية الأصلية عزلاً، كاد أن يكون كاملاً، في حين سيطرت الثقافات المادية والعلمانية مسطرة تامة على مؤسساتنا الجامعية والتعليمية ودوائرنا الثقافية والإعلامية التي غدت تفكر وتخطط لتغيير الحياة في العالم الإسلامي بمعزل عن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكاً، لا بل عدّت تلك الدوائر الإسلام بكل أنظمته وشموله فكراً لاهوتياً رجعياً وطبقت عليه المعايير المادية الأوروبية الحديثة ومواقفها تجاه الكنيسة وفكرها من خلال فهم تاريخ الإسلام في ضوء التاريخ الأوروبي الحديث.
إن هذه المأساة التاريخية حدثت في ظل جهل مركب بالإسلام ديناً وحضارة وتاريخاً، ثم عدم الاستعداد لتصحيح الخطأ الكبير والانحراف المشين والجهل الفاضح.
إن كل المعنيين بتاريخ الإسلام في العصر الحديث، لا حظوا ثمار تلك المأساة من خلال الاحتكاك الواقعي ومن خلال دراستهم لأنماط الكتابات التي تتحدث عن مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفلسفية.
إن مئات الدراسات الجامعية وغير الجامعية وعشرات المجلات الفكرية والدوريات العامة كانت تمشي في خطين متوازيين:
أولهما:
تجاهل الإسلام تجاهلاً كاملاً.
ثانيهما:
الجهل المركب به وبحضارته وقضاياه.(9/19)
كان الناس يقرأون على سبيل المثال، في كتب الاقتصاد، في الجامعات وغيرها، كل شيء حول الاقتصاد ومذاهبه وتاريخه، دون ذكر أي شيء عن الاقتصاد الإسلامي، علماً ومذهباً وتاريخاً، وإن ذكر فيذكر خلال جهل مركب وسخرية واستهزاء.
لقد سئل أحد أكابر الاقتصاديين العرب الماركسيين في قاعة إحدى الجامعات العربية، عما يعرفه حول الاقتصاد الإسلامي، فأجاب:
لم أقرأ حول هذا الموضوع أيّ شيء.
وسئل آخر، فأجاب مستهزئاً:
"أستطيع أن أقول إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد وأسمالي بدائي ".
وعندما سأله الطلبة أن يعطيهم بعض المصادر حول الاقتصاد الإسلامي قال:
تستطيعون مراجعة كتاب الخراج الأبي يوسف، وعندما راجعني بعض هؤلاء الطلبة، فأعطيته قائمة بأسماء الكتب الاقتصادية الإسلامية الحديثة ومن بينها عدة رسائل جامعية فواجه بها الأستاذ في قاعة الدرس، أخفى الأستاذ موقفه الجاهل المخجل بقوله:
"أنا أدرِّس الاقتصاد وليس الدين "!!..
وإذا التفتّ إلى كثير من علماء القانون والاجتماع والفلسفة وعمل النفس وغير ذلك من مظاهر الثقافة في المجتمع الإنساني تجد هذا الجهل واضحاً وضوحاً كاملاً.
وقد يقول قائل: إنكم تظلمون المثقفين المعاصرين، فكيف يجوز أن يجهل كبار مثقفينا الإسلام ؟
نقول… استمع إلى واحد من أكابر أساتذة الفلسفة المعاصرين يعترف بهذه الحقيقة، وهو الدكتور زكي نجيب محمود الذي يسمونه بفيلسوف الوضعية المنطقية في العالم العربي:
لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي - قديم أو جديد - حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ…
استيقظ صاحبنا - كاتب هذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان كأنه سائح مرّ بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل…(34).
نعم لقد بدأت الصورة تتغير ببطء خلال العقود الأخيرة، بعد أن تحررت الدراسات الإسلامية الحديثة من كتب المتأخرين المغلقة ومن أساليب التعليم العقيمة ومظاهر مصر التأخر، وقدمت في جميع فروع الفكر الإنساني أنظمة الإسلام التفصيلية في دراسات جامعية، تعتمد البحث والاستنتاج والمقارنة في ضوء أصول الإسلام ومتغيرات الحياة الجديدة، بحيث اقتحمت تلك الدراسات العميقة الناضجة مجالات الثقافة الواسعة على الرغم من العوائق الكبيرة التي توضع أمامها من حيث المنع أو الإعلام أو النشر أو النقد، فبدأ كثير من الباحثين والعلماء في مختلف نواحي العلوم الإنسانية يعيدون النظر في مواقفهم ويخرجون من قوقعة ثقافاتهم الأوروبية، ليدرسوا عقيدتهم وشريعتهم وما قدمه مفكروهم عبر التاريخ من دراسات ونظريات.
ونستطيع أن أولئك المثقفين إلى صنفين:
صنف كانت دراساته للإسلام ومنهجه وحضارته عميقة شاملة، انطلق فيها من خلال حب الوصول إلى الحقيقة فوصل إلى نتائج باهرة، وأعلن في كتبه ومحاضراته التزامه بالإسلام ومبادثه العامة الملزمة للمسلمين في كل عصر(35).
وصنف آخر لا يزال يصارع ثقافاته الماضية التي شكلت بقوة خلفيته الثقافية واقتناعاته الإنسانية. وهذا الصنف يدرك من الإسلام بقدر ما يبذل من جهد وصدق نية، وبقدر ما يحمل نفسه على التخلص من التعصب والرواسب والهوى.
والحق أن هناك أسباباً كثيرة تحول بين الصنف الأخير وبين عودته إلى رحاب الإسلام نستطيع أن نعرضها على الوجه الآتي:
- الأول:
إن الإنسان الذي تربى على مصطلحات وأفكار الثقافات الأجنبية وشاب عليها من الصعوبة البالغة أن يتحرر منها، لأنه تعوّد أن ينطلق منها ويفكر خلالها، فهو إن لم يقرأ الإسلام وحضارته قراءة عميقة من داخله وفي إطار مصطلحاته ووحدته، لا يمكن أن تحدث في كيانه هزة عميقة، تحوله إلى خط الإسلام الواضح.أما الاكتفاء بمراجعة بعض جوانب الفكر الإسلامي أو قراءة جانب من جوانب ما يسمى بـ"التراث " فهو قد يصحح بعض المفاهيم والأخطاء ولكنه لا يكفي لنقل صاحبه إلى الخط الإسلامي الصحيح لا سيما إذا كانت قراءته سطحية سريعة اقتصرت على بعض مظاهر التطور في الفكر الإسلامي الذي لا يخلو من سلبيات قد يحسبها على الإسلام نفسه(36).
- الثاني:
قد ينطلق الباحث من ثقافته الغربية ويحاول أن يسقطها على الإسلام وحضارته ودراسة مفكريه، أي إنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري على نمط آخر يختلف عنه اختلافاً جذرياً، وهذا على القطع يقود إلى الخطأ في النتائج، فبعض الباحثين على سبيل المثال يدرسون من خلال فكرهم العلماني الغربي سواء أكان ماركسيا أم ليبرالياً "ابن رشد " فيجدون أنه يدعو إلى أن يمشي البرهان الفلسفي في طريقه والدين في طريقه، فيظنون أن ابن رشد يدعو على فصل طريق العقل عن الدين، فيسقطون على مقولة ابن رشد علمانيتهم فيقولون: إن العمانية ليست جديدة وإنما هي من صلب أفكار مفكرينا القدماء، لا يسما من أصاب المذاهب العقلية الفلسفية، ويوهمون الجيل الجديد أن العقلانية الحديثة أو العلمانية الحديثة لا تشكل خطراً على الإسلام ولا تصطدم معه.
بينما هم ينسون أن ابن رشد كان يفكر في إطار الحضارة الإسلامية، وقوله طريق العقل وطريق الدين لكل بناؤه الداخلي، يعني من وجهة نظره، أن للعقل أساليبه الخاصة في التفكير وللدين طريقه في الوصول إلى الحقيقة، إلا أنهما يلتقيان في الحقيقة عينها، أي إن ابن رشد يقول لنا:
إننا إذا اقتصرنا على البرهان العقلي فلا محالة أن نصل إلى ما قرره الإسلام في أصوله من حقائق عليا.
وهذا واضح جداً في كتابه "فصل المقال " و "مناهج الأدلة " وكتبه الفلسفية الأخرى.
- الثالث:
وهنالك باحثون آخرون(37) ينطلقون في فهم الإسلام من خلال واقعه التاريخي الفكري في مجالات العلوم الإنسانية كلها. وهذا الواقع يحمل خصائص الفكر الذاتي وأخطاء وقصور العقل البشري، كما يحمل سلبيات وانحرافات المراحل المتتابعة التي نتجت من الاحتكاك المباشر بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، وكذلك المخططات الثقافية التي نسج خيوطها الأعداء في أوكار التآمر على الإسلام وأمته خلال تاريخه الطويل.
إنهم لا يدركون أن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان وأن الثقافات المتنوعة التي نسجت حوله، تمثل أشخاصاً وعصوراً، ومن هنا فلا بد من الفصل الكامل عند الحكم بين الوحي والفكر أو الوحي والتراث حتى تكون المراجعة واضحة ومفيدة.
هل يكون تقبل ابن سينا لأفكار أرسطو وغنوصية الشرق ممثلاً للإسلام نفسه؟ وهل كل ما يقوله المعتزلة والأشاعرة والمتصوفة، يمكن أن يكون هو الإسلام نفسه؟ أم هو الفكر المتأثر بالحضارات الدخيلة وطبيعة الصراعات المرحلية، وهل كل ما يقوله الفقهاء يجب أن يحسب بالتالي على الإسلام.(9/20)
إن الذي يريد أن يحكم على هذه القضايا المصيرية الخطيرة، لا بد أن يعرضها على أصول الإسلام القاطعة في الكتاب والسنة، إن كان لا يزال يعتقد بعصمة الوحي الإلهي.
إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن التطورات الثقافية في العالم الإسلامي في صالح المذهبية الإسلامية. إذ ما من يوم نشرق الشمس فيه على العالم إلاّ ويظهر دليل جديد على أحقية مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان.
إننا ندعو المثقفين الذين لا يزالون مسلين أن يدرسوا الإسلام دراسة شاملة ومختصة كلِّ من خلال اختصاصه، حتى لا يحكموا على قضايا الحياة من جانب واحد، يبعدهم عن الإسلام ومذهبيته الواضحة في الوجود. على أن يكون في ذلك الوصول إلى الحقائق كما هي، في ضوء منهج علمي موضوعي، بعيد عن المناهج المسبقة، والمصطلحات المادية، والمبادئ التي تعود إلى منظومات حضارية تتنافى مع أصول الإسلام.
إن المسلم الذي يعتقد أن الإسلام هو دين الله الخاتم يفرض عليه منطق الإيمان أن ينطلق من أصوله وفي إطار ضوابطه وقواعده، ولا يجوز أن يتخذ من الثقافات الأجنبية والمذاهب المادية والاتجاهات العلمانية التي آمن بها في غياب فهم صحيح للإسلام، حجة على الإسلام ، يحاول أن يحرف مبدئه وضوابطه في سبيل أن يسوغ خلفيته الثقافية الأجنبية التي شكلتها ثقافات متنوعة تصطدم مع الإسلام في أصوله وقواعده وأنظمته الحيوية.
على هؤلاء أن يذكروا موقفهم بين يدي رب العالمين، إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، عندما يحاسبهم الله تعالى عما ارتكبوه من الأخطاء والآثام بحق دينهم وأمتهم، لأنهم لم يتبعوا طريق الإسلام الحق، بل شوهوا الحقائق وحرفوا الشرائع، وزيفوا الأفكار، فاقتدى بهم كثيرون من أبناء جيلنا الحائر القلق.
إنهم يحملون أوزار هؤلاء مع أوزارهم، نرجو الله تعالى لهم الهداية والاستقامة، ولنا الثبات على دينه، ونعوذ بالله تعالى في ختام هذه الصفحات من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونردد بإخلاص قوله تعالى على لسان المنيبين إليه:
((ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ. ربّنا إنّك جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ لاَ رَيْبَ فِيهِ. إنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعاَد )). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------
الدكتور محسن عبد الحميد
• ولد في مدينة كركوك - العراق عام 1357هـ - 1937م.
• تخرج في جامعة بغداد - كلية التربية عام 1380هـ - 1959م.
حصل على درجة الماجستير عام 1387هـ - 1967م. ودرجة الدكتوراه عام 1392هـ - 1972م. من جامعة القاهرة.
• أستاذ مادة التفسير والعقيدة والفكر الإسلامي الحديث في جامعة بغداد.
• له عدة مؤلفات في أصول التفسير، ومنهج التغيير الاجتماعي في الإسلام، والاقتصاد الإسلامي. . . إلى جانب أبحاث ومقالات فكرية متنوعة في الثقافة الإسلامية والتيارات الفكرية المعاصر
===============(9/21)
الحرمان والتخلف في ديار المسلمين
تقديم : بقلم الأستاذ عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ، بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ..
الحمد لله القائل في محكم آياته: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دُولَةٌ بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب )(الحشر: 7 ). وبعد:
فهذا الكتاب السابع في سلسلة (كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية (التخلف والحرمان في ديار المسلمين ) للدكتور نبيل صبحي الطويل، يأتي مساهمة منه في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي إلى جانب العطاء الصحفي وتبصير المسلمين بمشكلاتهم، وإغناء مسلمي اليوم بالرؤية الشمولية عن عالم المسلمين، وبيان الثغور المفتوحة التي تقتضي حق الأولوية في المرابطة، ووضع القادرين من المسلمين أمام مسؤولياتهم، وإذكاء حسهم باستشعار هذه المسؤوليات، وتجديد ذاكرتهم نحو الإسلام، وتحديد المعاني الإسلامية السامية في نفوسهم.. إنه إحدى محاولات تجديد الفهم الإسلامي بعد أن ترسبت عليه أوضاع اجتماعية معينة، أو ترسب هو على عادات وتقاليد ليأخذ شكلها ولتصبح شيئاً فشيئاً من الإسلام أو هي الإسلام!! في نظر بعضنا؛ وتصويب مفهوم العبادة وتحقيق العبودية بالنسبة للمسلمين الموزعين في المواقع المختلفة: فهناك عبادة خاصة بالأغنياء، وعبادة خاصة بالعلماء، وعبادة خاصة بالحكام والأمراء، وعبادة خاصة بالفقراء وطلاب العلم والقائمين على الحراسة في سبيل الله إلخ .. إلى جانب القدر المفروض والمشترك من الصيام والصلاة وبقية التكاليف في بناء الإسلام ..
فعبادة الأغنياء وعبوديتهم: أن يؤدوا شكر النعمة بإعطاء الفقير حقه:( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) (المعارج:24 ) ذلك أن الله عز وجل جعل حقوق الفقراء أمانةً عند الأغنياء، فإذا جاع الفقير أو عري فبظلم من الغني، فإذا حاول الأغنياء الاقتصار على الصلاة والصيام والحج وأداء النوافل وقعدوا عن إعطاء الفقراء حقهم وظنوا أنهم خرجوا من عهدة التكليف فقد أخطؤوا فَهْمَ التكليف الإسلامي، وأخطؤوا طريق العبادة وتحقيق العبودية..
وعبادة العلماء: قولة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يضل الناس أو يضللوا، وألاّ تأخذهم في الله لومة لائم،وألاّ يشتروا بآيات الله ثمناً قليلا من منصب أو جاه أو مال.. حتى لا تنتقل للأمة المسلمة علل أصحاب الأديان السابقة الذين كانوا لا ينهون عن المنكر ولا يستنكرون فعلاً محرماً، قال تعالى: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحْتَ لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة: 63 )، فاستحقوا اللعن والسقوط حتى أصبحوا أثراً بعد عين ..
وعبادة الحكام: الحكم بما أنزل الله وتحقيق العدل، والوقوف إلى جانب الضعيف والفقير والانتصاف له من القوي (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له بحقه ).. إنه ميزان العدالة وطريق العبودية الحقة لله تعالى..
وعبادة الفقراء: الصبر على الواقع وعدم الانكسار أمامه والاستسلام له، الصبر الذي يحمي النفوس ويصقل المواهب، ويفتح النوافذ ويجمع الطاقات ويدفع إلى الانطلاق لتحقيق الكسب..
وعبادة طلاب العلم : النبوغ في اختصاصاتهم لتحقيق فرص الكفاية لمجتمعاتهم ـ التكافل الاجتماعي والاكتفاء الذاتي ـ ذلك أن التحقق بالاختصاص والنبوغ فيه بالنسبة لهم أصبح فرض عين بعد اختيارهم لطريقه؛ وعدم النكوص والسقوط في الفهم المعوج وترك مقاعد الدراسة والتخصص باسم مصلحة الإسلام ومتطلبات الدعوة الإسلامية.. وهكذا فئات المجتمع عامة كل تأتي عبادته وتحقيق عبوديته لله عز وجل بأداء ما أنيط به، وليس من الإسلام أداء بعض النوافل والمندوبات بالنسبة للأغنياء والقعود عن الفرائض والواجبات من إعطاء الفقير حقه، ومخادعة النفس بأن ذلك هو التقوى والصلاح المطلوب، فقد يكون ذلك من تلبيس إبليس ..
لقد افتقد مسلم اليوم ـ إلاّ من رحم الله ـ الرؤية الإسلامية الشاملة على مستوى التصور والتطبيق معاً، فبدأ يعيش حالة التبعيض التي تورث الخزي (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنياويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 85 ) وافتقد تبعاً لذلك الإحساس بترابط الجسم الإسلامي الواحد بعد عمليات البتر والتقطيع التي مورست عليه، فغابت الحقيقة الإسلامية المتمثلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) لقد قطعت أوصال الجسم الإسلامي فلم يعد المسلم اليوم يحس بما يصيب سائر الجسد، و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. ) لقد غابت عن عالم المسلمين اليوم الأصول النفسية للتكافل الاجتماعي التي غرسها الإسلام، غاب مدلول الأخوة وحقوقها مرتكز هذه الأصول جميعاً، قال تعالى:
(إنَّمَا المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ) فكيف نسلم الكثير من المسلمين اليوم إلى الفقر والفاقة والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي ؟! .
وغاب مفهوم الرحمة، وهي الغاية التي من أجلها نزلت شريعة الله عز وجل، قال تعالى: (وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين ) (الأنبياء: 107 ) وغاب مفهوم الإحسان، وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم عدلاً وإنما التنازل لهم عن بعض حقوقنا، إحساناً، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.. وغاب مدلول المحبة التي هي من ثمرات الأخوة والتي بدونها لا يستقيم إيمان ولا تتحقق نجاة وفوز(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وغاب مفهوم الإيثار الذي كان يحكم جماعة المسلمين في الشدة والرخاء، قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9 ) .
ولم يقتصر الإسلام في حمايته مجتمع المسلمين على غرس الأصول النفسية للتكافل، وبذلك تنتهي التعاليم الإسلامية إلى وصايا خُلُقية تحاكي الضمير، وإنما أوجد إلى جانب ذلك التشريعات التكافلية الملزمة من نظام الزكاة والميراث والنفقات الواجبة، وحرس استمرارية هذه المعاني بالتربية في جانب الأصول النفسية، وبالعقوبات الملزمة للتشريعات المالية، وبالرقابة العامة الدائمة على ذلك، ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ـ من جانب آخر..
وفي اعتقادنا أنه في غيبة تشريعات التكافل الاجتماعي الملزمة بسبب غياب الشريعة الإسلامية عن التطبيق لا بد من التأكيد على هذه الأصول النفسية التي هي في طبيعتها أسبق من التشريعات الملزمة، والمقدمة الطبيعية للانتهاء إليها..
ونعود إلى القول: إنه لا بد من مراجعة لفهمنا للإسلام وتجديد هذا الفهم الذي أنتج هذا الواقع الذي نحن عليه، وإن قبولنا بهذا الفهم يعني رضانا بهذا الواقع .. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له .. ) يقول أبو سعيد: فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ غير الظهر والزاد ـ حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل .
إن الظهر والزاد لم تذكر هنا على سبيل الحصر، وإنما ذكرت على سبيل المثال كما هو معلوم، لقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها من الأموال ـ فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من المال ـ حتى انتهى رأي الصحابة رضوان الله عليهم فيما يرويه أبو سعيد: حتى رأينا أي انتهى رأينا.. أنه لا حق لأحدنا في فضل .. إنه يحرُمُ الادخار أيام الشدائد والأزمات، التي تتعرض لها الأمة.. الأمر الذي لم تقل به أكثر المذاهب تطرفاً وادعاءً للتكافل الاجتماعي أو للضمان الجماعي، حتى وصل الأمر ببعض الصحابة إلى القول بتحريم الادخار دائماً، وتحديد الكنز بأنه ما زاد عن حاجة يومك في كل الأوقات مما كاد يوقع المسلمين في حرج .. فكان جواب سيدنا عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: لماذا شرعت الزكاة إذن ؟. أليست شرعة الزكاة هي عن المدخرات المملوكة التي يحول عليها الحول ؟
ومن هنا نقول : إن الادخار يصل إلى مرحلة التحريم وقت الحاجات والشدائد والأزمات ..
هذا كله عدا عن نفي الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع وهو يعلم (والله لا يؤمن من بات شعبان وجاره جائع وهو يعلم ) ولا يتسع المجال هنا لذكر بعض الفتاوى في هذا السبيل التي تؤكد على عنصر الإلزام في الموضوع، كفتوى ابن حزم وغيره لأنها معروفة في مظانها من كتب الفقه، لكن الذي أردنا إليه هو تحديد موقع الفقراء والمحرومين في المجتمع الإسلامي ..
إن الحصانة الإسلامية ضد الأفكار والمبادئ الهدامة سوف لا تتأتى باستعارة الإسلام والمبادئ الإسلامية كشعار يرفع في المناسبات، ويكون وسيلة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، ولا بإطعام فقراء المساكين في المواسم، الدينية وإطعامهم الخطب والمواعظ والكلام والوعود، وإنما بمعالجة الأسباب التي تستدعي هذه المبادئ إلى عالم المسلمين؛ ولو بذل علماء المسلمين الجهود في تربية وتوعية أغنياء المسلمين على الإسلام الباذل ومناصحة أولي الأمر ليقوموا بمسؤولياتهم تجاه ذلك لما احتاجوا إلى مهاجمة هذه المبادئ التي سوف لا تجد طريقاً إلى بلاد التكافل والعدالة الاجتماعية والتغرير بالفقراء ووعدهم بالفردوس المفقود حيث ترتفع آمالهم ويشتد فقرهم.. إن بعض العلماء الذين يستأجرون ليغدقوا على الفقراء الخطب دون أن يجهروا ببيان الأسباب، أسباب الفقر، ومعالجتها سوف لا يجدون آذاناً صاغية من الجماهير الفقيرة ، هذه الجماهير التي تشكل عدة الأمم في السلم والحرب على حد سواء، فهي سواعد الإنتاج في السلم، ودروع البلاد في الحرب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما ترزقون وتنصرون بفقرائكم ) .
من هنا نقول: إن هذا الكتاب وضع أغنياء المسلمين وولاة أمرهم أمام مسؤولياتهم، وأوضح لهم بالأرقام تلك الثغور المفتوحة التي سوف يؤتون من قبلها إن عاجلاً أو آجلاً إذا لم يتداركوا الأمر، ووضع العاملين للإسلام ودعاته في الصورة الدقيقة ليحددوا بعدها أولويات العمل وساحات الجهد الحقيقي ..(9/22)
لقد قدم الدكتور نبيل صبحي الطويل في هذا الكتاب إحصائيات لواقع البؤس والمرض والجهل والتخلف والأمية في أكثر من بلد إسلامي من خلال تجربته الميدانية وطبيعة عمله في منظمة الصحة العالمية، ولا شك عندنا أن هذه الإحصائيات غائبة غياباً يكاد يكون كاملاً عن العاملين في الحقل الإسلامي فكيف بعامة المسلمين، إن الإحصاء أصبح علماً له وسائله وطرقه، كما أصبح ضرورة لا يستغنى عنها في رسم خطط التنمية، إنه بالنسبة للعمل الصحيح ووضع الخطط أشبه بما يسبق عملية البذر من دراسة للتربة وتحديد لنوعيتها، ودراسة لكمية الأمطار والمناخ الملائم، ومن ثم يأتي اختيار البذر المستنبت .. وقد يكون الأمر الخطير في عالم المسلمين اليوم فيما وراء فسق المترفين الذين هم دائماً سبب دمار هذه الأمم وسقوط حضارتها، وأقنية القاذورات والأمراض الجنسية والانحلال الذي يتسرب إلى جسمها.. قد يكون الأمر الخطير عند المسلمين اليوم: فقدان جدول الأولويات، وليست مسألة تصنيف الإنفاق وتحقيق التكافل بأحسن حالاً من قضاياهم الأخرى الكثيرة التي تغيب فيها جدولة الأولويات وتتغيب الحسابات!! فقد تقدم أموال في بعض بلدان العالم الإسلامي لمشاريع خيرية وفقراء تعتبر إذا ما قيست بالفقراء الذين لا يجدون الكفاف في مناطق أخرى من صور الترف والرفاهية، والعالم الإسلامي كالجسد الواحد، فما بالنا نساهم بتكريس تمزيقه وتقطيع أوصاله ؟ لقد بحث فقهاؤنا أولوية الحاجة، ولعل الذي يرجع إلى بحثهم حول: أيهما أشد حاجة إلى العطاء.. الفقير أم المسكين من مصارف الزكاة، وإذا لم يجد الإنسان إلاّ أن يعطي أحدهما ؟! بَيَّنَ الشافعية والحنفية ما يدلل على هذا النظر الثاقب والبصيرة الواعية التي غابت عن عالمنا ..
ولست بحاجة إلى القول هنا : إن العالم الإسلامي هو عالم متكامل اقتصاديا، إنه يمتلك الطاقة التي تحرك العالم، ويمتلك المساحات الواسعة والمياه والمناخات المختلفة التي تؤهله لأن يكون مخزن العالم بالغذاء أيضاً.. فإذا أضيف إلى ذلك كله العقيدة الوسط، فإن العالم ينتظر دوره في قيادة البشرية إلى الخير وإلحاق الرحمة بها .. لقد قام بعض المتخصصين في الجغرافيا ـ الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله ـ بتقديم دراسة رقمية عن واقع العالم الإسلامي المتكامل اقتصادياً.. القادر على أن يكون مخزن غذاء العالم وطاقته في المستقبل فيما إذا أحسنت قضية الاستثمار: فهل من سبيل إلى ذلك لتنتهي مشكلة الفقر في العالم الإسلامي ويتحقق النصر ؟! .
إن تحقيق التكافل الاجتماعي من شروط نهوض الأمم وبناء المجتمعات، وحسبنا أن نعلم أن المسلمين في جيش العسرة (غزوة تبوك ) بعد أن نفد زادهم في طريق العودة، اشترك العشرة منهم في امتصاص التمرة الواحدة، فكان ما كان من النصر والتمكين، فأين واقعنا اليوم من التحقق بشروط النصر ؟
وبعد : فكم نتمنى أن يتفرغ الدكتور نبيل، وهو الطبيب الأديب بما أتيح له من مجال بطبيعة عمله أو طبيعة طوافه على معظم بلاد العالم الإسلامي، ليقدم دراسة اجتماعية اقتصادية ثقافية لمجتمعات المسلمين التي شاهدها لتكون دليل عملٍ للمسلم اليوم، وألاّ يوزع اهتماماته في أكثر من موقع، فليس المستشرقون والمنصَّرون أحق بذلك ..
ونحب أن نؤكد بأننا عدلنا عن ذكر بعض النماذج لصور التخلف والحرمان في بلاد المسلمين لندع الأخ القارئ وجهاً لوجه أمام هذه الأرقام المفزعة على صفحات الكتاب، والله حسبنا ونعم الوكيل.
==============
الصبح .. موعدنا
عندما أغلقت عيادتي وضربت .. في الأرض، قبل عقدين من الزمان، للعمل في إطار الصحة العامة على المستوى الدولي، لم يجل بخاطري، ـ آنذاك ـ، أنني، بذلك، أنتقل من المحيط الصغير للفرد المريض والعائلة الفقيرة.. إلى المحيط الكبير للمجتمعات الأفريقيةـ الآسيوية المسحوقة والشعوب المحرومة في ديار المسلمين.
ومثلما حاولت جهدي ـ في محيطي الضيق ـ القيام بواجب التوعية، كأحد أبناء هذه الأمة الصابرة، لتغيير المنكر قلباً ولساناً ويداً، أسعى الآن ـ في المحيط الأرحب ـ؛ ذلك أن: (القيام بخدمة المجتمع وتقديم العون له ـ وخصوصاً للفئات الضعيفة فيه ـ عبادة رفيعة القدر لم يُحسنها كثير من المسلمين اليوم برغم ما ورد في الإسلام من تعاليم تدعو إلى فعل الخير وتأمر به وتجعله فريضة يومية على الإنسان المسلم ) (1 ).
والفقر والمرض، والجوع والعطش، والأمية والجهل هي ـ فضلاً عن آلامها ومصاعبها ـ من ثغور الإسلام المفتوحة التي ينفذ منها الأعداء .. تحت ستار المساعدة على مكافحة التخلف !!، فالمرابطة فيها دفاعاً عن عزّة الإيمان وكرامة المؤمنين، ورفعاً للظلم عنهم، فرض عين على كل القادرين من ذوي الاختصاص وذوي السعة .
ومن هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة عن أحوال المسلمين المحرومين والمآسي التي يُعانونها وأبعادها أفقياً وعمودياً ـ جغرافياً وسكانياً ـ، ومضاعفاتها وعقابيلها،.. لعل هذا العرض الموضوعي الموثق يوضح الصورة المحزنة.. بل المخجلة أمام الله، ويثير الاهتمام اللازم، ويحث على العمل الجاد، ويُذكِّر الجسد الواحد أن كثيراً من أعضائه يألم فلتتداع البقية بالسهر والحمى، ليكون المؤمنون في التواد والتراحم والتكافل كما وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [رواه الشيخان ]؛.. إن أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله .
فإلى المستضعفين في الأرض أقدم جهدي هذا سعياً متواضعاً في سبيل تحسين حالهم وتخفيف آلامهم، بانتظار أن يعمهم العدل الشامل.. يوم يحكم الإسلام .. عسى أن يكون هذا اليوم قريباً بإذن الله .. والصبح .. موعدنا.
(قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير ) (آل عمران: 26 ).
=============
الفقر
( لو كان الفقر رجلاً .. لقتلته)
[ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ]
- ماهو الفقر ؟
- أفقر الدول العالم - مسلمة !!
- تلازم الفقر والمرض
- البلاد المعدمة ( الأكثر تخلفا والأقل نموا )
- الدول النامية - أم الدول الفقيرة ؟ !
- تراكم الديون الخارجية العامة لبعض دول العالم المسلمة
ما هو الفقر ؟
يُعرف الفقر الآن بأنه (عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية )؛ وهذه الخدمات هي أساسية لأنها توفر الحد الأدنى اللازم ـ الكفاية ـ لكي يعيش الإنسان، خليفة الله في الأرض، عيشه كريمة تليق بمستوى التكريم الذي خصَّه الله به ( ولقد كرمنا بني آدم ).
والخدمات الأساسية هذه هي حق من حقوق الإنسان في الإسلام، إن لم يستطع الحصول عليها بعمله وإنتاجه ومدخوله لأي سبب وجيه، على الدولة القائمة أن توفرها له.
( إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه. والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئاً إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة.. ولو كانت كافية، فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية ؟ )(2 ) .(9/23)
ولقد استعاذ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الفقر والكفر في حديثه الصحيح: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر )؛ وذكر عليه الصلاة والسلام حق الإنسان الآدمي في هذه (الخدمات الأساسية ) في حديث آخر:(ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء ): أي المسكن المناسب ـ له ولأهله ـ، والكساء اللازم ـ له ولأهله ـ، والغذاء الضروري من طعام متوازن كاف وماءٍ نظيف يمنعان عنه وعن أهله الجوع والعطش، فيأمن، هو وأهله، غائلة الأيام ويكون صحيحاً في بدنه ونفسه وبيئته التي يعيش فيها.
وإذا جاءت منظمة الصحة العالمية، في أواسط القرن العشرين، بتعريفها الجامع للصحة فذكرت أن (الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً.. لا مجرد انعدام المرض أو العجز ) (3 )، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوضحها قبل أربعة عشر قرناً من الزمان في معرض توجيهه للمؤمنين في القناعة والاطمئنان والرضى في هذه الحياة إذا توفرت لهم هذه (الأساسيات )، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما أجيزت له الدنيا بحذافيرها ) أي توفر الأمن والأمان في النفس والبدن والمجتمع (وهذا ما يسمونه في هذه الأيام الأمن النفسي والأمن الغذائي والأمن الاجتماعي ).
والقناعة والرضى والزهد هي من الخصال التي يتحلى بها صفوة المؤمنين الأتقياء.. بعد أن ينالوا حقوقهم الأساسية المذكورة ـ الكفاية ـ، فيرتقون درجات في الإحسان والتكاسل عن طلب الحقوق الأساسية.. ليس زهداً؛ فعلي المسلم أن ينال حقوقه هذه ويتمتع بها، فإن وقف دونه ظلم (سعى لدفع الظلم عنه بكل ما أوتي من قوة بالوسائل التي شرعها الإسلام، فالسكوت على الظلم والصبر على الظالمين مع إمكان دفعهم عن ظلمهم، أمر غير محمود في الإسلام، وإذا كان الإسلام أجاز قتال الإنسان عن ماله واعتبره شهيداً إذا قُتل [من قتل دون ماله فهو شهيد ] فما بالك بمن يدفع عن نفسه غائلة الجوع والهلاك ) (4 ) .
(وقد شرَّع الإسلام قواعد إلزامية لتحرير البشر من الفقر دون أن يقتصر على الحض ترغيباً وترهيباً، وبدافع التقوى على تخليص الناس من الفقر وتخفيف وطأته عنهم بمشاركتهم ومواساتهم، بل سلك الطريقين معاً الإلزامية والداخلية النفسية، وبهذه يتضح لنا خطأ القائلين بالرضى بالواقع بحجة أن الله قد قسَّم الأرزاق بين الناس وجعل منهم الفقراء والأغنياء. إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد والشرك والجهل مع أنها كلها من تقدير الله وقضائه بل أمرنا بالإنكار والتغيير بل محاربة هذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها، وما يصاب به الإنسان من مرض أو هلاك نفسٍ أو مالٍ عليه أن يدفعه عن نفسه )(5 ) .
وصدق الله العظيم :
(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيلُ على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم )
(الشورى: 39 ـ 43 ).
هذا هو ( الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة ).
أفقر دول العالم - مُسلمة !!
الفقر .. الذي كاد أن يكون كفراً، هو الحرمان في أشد حالاته. تقول مصادر الأمم المتحدة: إن أكثر من نصف سكان ( بنغلاديش )، البالغ عددهم (92 ) مليوناً من البشر، يعيشون دون مستوى الكفاف.( وتنقل وكالة رويتر للأنباء أن عشرة بالمائة من سكان العاصمة (داكا )،والبالغ مجموعهم 5.2 مليون نسمة، هم من(الشَّحَّادين ) الذين يسهمون بنصيب في الجريمة والدعارة، وتمثل النساء 34% منهم، وتتراوح أعمار 12% منهنَّ بين 12ـ17 سنة (6 ) .
ولا حاجة للاسترسال في نقل ما كتبته الوكالة عن أحوال هؤلاء الفقراء المعدمين فلقد شاهدتم منذ سنوات يفترشون، بالآلاف، أرصفة الشوارع حتى إنه يستحيل على المارة المشي على الأرصفة في المساء، فالأجساد الهزيلة المريضة الجائعة تتكدس بأسمالها البالية متراصة على جوانب الطريق. وكلما استعدتُ هذه المشاهد المؤلمة في ذاكرتي تداعت معها بالمقابل كلمات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ليس مني من بات شبعان وجاره جائع، وهو يدري )، ( أيما أهل عَرصَةٍ أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله )، ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) .. فأين التكافل الإسلامي المفروض؟
ولقد وضع علماء الاجتماع مقاييس كمية لمدى انتشار الحرمان في العالم باعتماد مؤشرات تقريبية معينة منها: نقص التغذية في الفرد،ومتوسط العمر المتوقع عند ولادته ، ومدى انتشار الأمية، وغيرها؛ أما التغذية فحاجة بدنية أساسية لازمة، وأما متوسط عمر الفرد فيعكس مدى تأثير مختلف أنواع الحرمان؛ وأضيف إلى هذين المقياسين البيولوجيين، عنصر الأمية كمؤشر للحرمان من التطور الاجتماعي.وتعطي هذه المؤشرات الثلاثة، بنظر خبراء الأمم المتحدة، صورة موجزة وواضحة لمدى انتشار الفقر في مظاهره الشائعة.
وعلى هذا الأساس صنفت هيئة الأمم المتحدة عام 1971م دول العالم حسب المقاييس، في جدول مقسم إلى ثلاث فئات: دول متقدمة، ودول نامية فقيرة، ودول معدمة ( أكثر بلاد العالم فقراً وتخلفاً.. مادياً )، ـ أو الأقل نمواً ـ !!، أما الفئة الأولى ـ المتقدمة ـ فتشكل 25% من سكان العالم وهي في 37 دولة تعدادها حوالي (1100 ) مليون نسمة. والدول النامية تشكل، مع الدول المعدمة 75% من سكان العالم، ومجموع دولها ـ آنذاك ـ (89 ) دولة، أما سكانها فيبلغون (3000 ) مليون نسمة، وحددت الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1971م الدول المعدمة ـ الأكثر تخلفا ً ـ بـ 24 دولة ثم أضيفت إليها أربع دول أخرى عام 1975م، وزيدت ثلاث أخرى عام 1977م، وأخيراً رفعوها إلى ست وثلاثين دولة بعد إضافة خمس دول أخر. وقالوا إن هذه الدول ـ الأقل نمواً ـ كما سموها صنفت هكذا(7) على أساس شروط ثلاثة قائمة فيها:
1- إجمالي الدخل القومي للفرد كان أقل من (100 ) دولار أمريكي في العام
2- كان نصيب الصناعة من إجمالي الدخل القومي لا يتعدى 10%.
3- كانت نسبة الأمية فيها 80% أو أكثر.
(25 ) دولة منها في أفريقيا، و(8 ) في آسيا، و(2 ) في أوقيانوسيا وواحدة في أمريكا، وأغلبية سكان هذه الدول (في آسيا وأفريقيا ) .. هم من المسلمين، وأربع دول منها أعضاء في جامعة الدول العربية !! وهذا هو جدول بأسمائها ومواقعها:
أفقر دول العالم ( وأكثرها تخلفاً )
في آسيا
في أفريقيا
26 - أفغانستان 15- بورندي 1- تشاد
27- بنغلاديش 16- بنين 2- غينيا
28- بهوثان 17- بوتسوانا 3- مالي
29- اليمن - في الشمال 18- ليسوتو 4- النيجر
30- اليمن - في الجنوب 19- ملاوي 5- الصومال
31- جزر المالديف 20- رواندا 6- السودان
32- نيبال
21- أوغندا 7- غامبيا
33- لاوس- في أوقيانوسيا 22- جيبوتي 8- تنزانيا
34- جزيرة ساموا- الغربية 23- غينيا الاستوائية 9- فولتا العليا
35- تونجا- في أمريكا 24- ساوتومي 10- الحبشة
36- هاييتي 25- سيشيل غينيا بيساو-11
12- جزر القمر
13- أفريقيا الوسطى
14- الرأس الأخضر
والجدول التالي يبين نسبة الفقر بين السكان في بعض الدول الأفريقية الآسيوية حيث تعيش غالبية المسلمين(8 ) .
نسبة الفقر بين السكان
أفريقيا
السنة
دخل الفرد بالدولار- عام 1970
نسبة الفقر
شمالي نيجيريا
1970 - 71م
-
51 %
الصومال
1976
65 في العام
70 %
غانا
1970
57 - 71 " "(9/24)
أكثر من50 %
سيراليون
1977
80 " "
55 %
تنزانيا
1969
43 " "
65 %
كينيا
1974 - 75م
51 " "
40 %
مصر
1974 - 75م
87 " "
28 %
آسيا
السنة
دخل الفرد بالدولار- عام 1970
نسبة الفقر
أندونيسا (جاوا)
1977م
38 " "
80 %
ماليزيا
1970م
115" "
55 %
بنغلاديش
1975
46 " "
74 %
الهند
1975م
51 " "
56 %
الفلبين
1970م
89 " "
59 %
إيران
1975 =- 76م
92 " "
38 %
كيف ينظر للفقر في هذا العصر ؟
( في الوقت الحاضر يحدد الفقر والظلم الاجتماعي الذي يلازمه، بوصفهما العقبتين الرئيستين اللتين تعترضان سبيل التنمية الاجتماعيةـ الاقتصادية وتحسين نوعية الحياة ) (9) .
سنة 1978م كان حوالي (800 ) مليون شخص ـ أي 40% من سكان البلدان (النامية )ـ يعيشون في فقر مطلق، وأغلبهم في أرياف جنوبي آسيا وأندونيسيا وأفريقيا الاستوائية؛ ورغم نسبة أن الفقر في أفريقيا أعلى، إلا أن عدد الفقراء في آسيا أكثر من عددهم في أفريقيا لأن عدد سكان آسيا أكثر بكثير من عدد سكان القارة الأفريقية(10 ).
مقارنة
في البلدان الفقيرة نجد أن 87% من السكان يعيشون في الريف، و77% من البالغين ـ فوق سن الخامسة عشرة ـ أميون، و48% من الأولاد في سن الدراسة، غير ملتحقين بالمدارس الابتدائية، و75% من السكان لا تتاح لهم مياه نقية صالحة للشرب .
أما في البلدان ذات الدخل المتوسط فالنسبة هي: 57% من السكان هم في الريف، و37% من البالغين أميون، و3% من الأولاد ـ في سن الدراسة ـ غير ملتحقين بالمدارس الابتدائية، و48% من السكان لا تتاح لهم مياه صالحة للشرب(11 ) .
تلازم الفقر والمرض
( لقد جرى، مراراً وتكراراً، إثبات العلاقة القائمة بين الثروة المادية ومؤشرات الحالة الصحية، كما جرى بصورة خاصة إيضاح أن متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، ونسبة وفيات الرضع، يرتبطان على نحو وثيق بمؤشرات التنمية الاقتصادية مثل الناتج الإجمالي للفرد ) (12 ) .
كذلك أظهرت الدراسات، في الولايات المتحدة نفسها، العلاقة بين الدخل والمرض، فلقد تبين أنه توجد لدى أفراد الأسر الفقيرة أمراض مسببة للاعتلال والعجز( الطويل والقصير الأمد )، أكثر مما في الأسر ذات الدخل المرتفع، كذلك الأمر في عدد أيام التغيب عن المدرسة والعمل، في كل الأعمار من الجنسين ذكوراً وإناثاً والطريف أن هذه الحالة قد استمرت رغم تنفيذ برامج توفير الرعاية الصحية للمسنين ولمن يعيشون على دخول منخفضة. كما أن التخلف العقلي.. يزيد انتشاره بين الذين يولدون في بيئة فقيرة، ويرجع ذلك إلى ارتفاع نسبة المخاطر المقترنة بالولادة من ناحية، وبالحرمان الثقافي ـ التعليمي ـ من ناحية أخرى (13 ) .
لذا ( فليس غريباً أن يكون الوضع الصحي في البلاد المتخلفة .. متخلفاً أيضاً مثل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتقنية ) (14 ) . فهو ـ أي الوضع الصحي ـ على صلة وثيقة بهذه الأوضاع كلها يفعل فيها ويتفاعل بها؛ فالصحة تلعب دوراً هاماً ـ سلباً أو إيجاباً ـ في الوضع الاقتصادي، والفقر، كما هو معروف، حليف المرض كما هو حليف الجهل، ولقد أوضح البروفيسور البريطاني (ونسلو ) التأثير المتبادل بين الفقر والمرض بقوله: ( في البلاد الفقيرة يمرض الرجال والنساء لأنهم فقراء.. ويزيد فقرهم عندما يصابون بالأمراض، ويشتد المرض عليهم لأنهم فقراء معدمون.. وهكذا تتشكل الحلقة المفرغة ويستمر دوران المساكين المسحوقين فيها ) (15) .
فقر
اشتداد المرض مرض
زيادة الفقر
بعض الأرقام المُعبِّرة:(16)
في الجدول التالي مقارنة بين المؤشرات الصحية في البلاد المتقدمة والبلاد المتخلفة والبلاد المعدمة:
البيان
البلادالمتقدمة
البلاد المتخلفة (النامية)
أفقر بلاد العالم
عدد السكان
1131 مليوناً
3001 مليوم
283 مليوناً
متوسط العمر المتوقع عند الولادة
72 سنة
60 سنة
45 سنة
نسبة وفيات الرضع (لكل ألف ولادة )
19 / بالألف
41 / بالألف
200/ بالألف
وزن الوليد
5ر2 كيلوغرام أو أكثر
في 93 %
من الولادات
في 83%
من الولادات
في 70
من الولاات
نسبة المستفيدين
من الماء الصالح للشرب
100 %
41 %
31 %
الناتج القومي للفرد الواحد في العام
6230 دولاراً
520 دولارً
170 دولاراً
نسبة الأميين في البالغين
2 %
45 %
72 %
معدل الإنفاق العام على القطاع الصحي للفرد الواحد في السنة
244 دولاراً
62 دولاراً
7ر1 دولار
عدد السكان لكل طبيب
520
2700
17000
وهكذا نرى من الجدول أن خمس المواليد في الدول الفقيرة المعدمة يموتون في العام الأول لحياتهم؛ وفي عام 1981م مات 17 مليون رضيع في العالم، أكثر من 13 مليون منهم كانوا من الدول الفقيرة في أفريقيا وجنوبي آسيا(17 ) .
ويقول الخبراء إن سوء التغذية هو عامل منفرد في زيادة وفيات الأطفال في الدول الفقيرة؛ ولقد قدّر أنه هو العامل المسبب لـ 28 % من وفيات الأطفال ـ دون سن الخامسة ـ في نيجيريا، و76% في مصر(18 ) .
كذلك يؤثر سوء التغذية في البلاد المعدمة على النساء الحوامل وعلى مواليدهن، فهناك 30% من المواليد دون الحد الأدنى للوزن الطبيعي؛ أما في البلاد المتقدمة الغنية فهذا أمر نادر الحدوث لا يقع إلاّ في 7% من حالات الولادة، ولا خطر منه في تلك البلاد فالحاضنات الاصطناعية والعناية الفائقة في دور التوليد ترعى الوليد الناقص الوزن إلى أن يستوي على عوده .
أما الماء الصالح للشرب فليس متوفراً إلاّ لأقل من ثلث السكان في البلاد المعدمة، ويحضرني هنا في هذا المجال، قول السيدة( بربارا وورد ) في موضوع توفير المياه الصالحة للشرب للناس الذين لا يحصلون عليها:
( إن الدول المتقدمة تصرف مائة مليار دولار سنوياً على الخمور، كذلك تصرف حكومات العالم مجتمعة ثلاثمائة مليار دولار (19 ) سنوياً على التسلح، ويكفي استعمال 3% فقط من مصروفات الخمور أو تخفيض 1% فقط من مصروفات التسلح لكي تتوفر المياه النظيفة للعالم كله ) (20 ) .
وفقدان الماء الصالح للشرب، ونقص الغذاء، والأمراض التي تنتج عنهما، بالإضافة للأمراض السارية الأخرى، تسبب وفاة أربعين ألف طفل في العالم كل يوم، كلهم تقريباًـ وبالتحديد 97% منهم ـ من الدول الفقيرة. وينام حوالي (100 ) مليون طفل كل يوم جائعين، ويصبح عشرة ملايين من هؤلاء الجائعين معوقين جسمياً وعقلياً، يقول السيد/
( جيمس غرانت ): إن البنك الدولي قدر سنة 1980م أن عدد الناس الذين يعيشون في فقر مدقع بـ (780 ) مليوناً وتنبأ أن عددهم سينخفض في أواخر الثمانينيات ليصبح (720 ) مليون نسمة فقط .. إلاّ أن النظرة المتشائمة تقول: إن عددهم سيزيد ليصبح (800 ) مليون نسمة خلال هذه الفترة(21 ) .
البلاد المعدمة ( الأكثر تخلفاً والأقل نمواً )
لا تشكو هذه الدول فقط من نقص المصادر والموارد المادية، يُقعدها عن تحسين حال مواطنيها، بل هي مرهقة أيضاً بالتضخم المالي
طفل مصاب ( بسوء التغذية ) في أفريقيا
المتزايد؛ يضاف إلى قسوة هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية. كما هو مبين في الجدول السابق، خشونة المناخ والجغرافيا، فأكثر أراضي هذه الدول غير مضيافة وأغلبها واقع في ما يسمى بحزام المرض، ومعرض تعرضاً شديداً للكوارث الطبيعية، وسكان هذا الحزام هم أشد المحرومين بين المحرومين في العالم كما سماهم الرئيس الفرنسي ( فرنسوا ميتران )؛ فهم ضحايا مزيج من القوى الاقتصادية والجغرافية والسياسية والإدارية لا يستطيعون السيطرة عليها.
بلاد ( الساحل ) أو حزام الجفاف الشديد(9/25)
يمتد حزام الجفاف الشديد من غربي أفريقيا إلى شرقيها على أطراف الصحراء ـ من جزر الرأس الأخضر غرباً حيث يدوم موسم المطر يومين يتيمين فقط في السنة، إلى الصومال شرقاً حيث تنفق المواشي بالآلاف من العطش القاتل؛ والدول الموجودة على طول هذا الحزام هي : جزر الرأس الأخضر، غامبيا ، مالي، النيجر، فولتا العليا، تشاد ، موريتانيا، غينيا بيساو، نيجيريا، الصومال، السودان الحبشة ، وكل هذه الدول مسلمة!
والحاجة ملحة فيها لإيجاد الغذاء محلياً ـ طعاماً وشراباً ـ بالإضافة إلى عمليات مكافحة (التصَحُّر ) أي توسع الصحراء باستمرار على حساب الأراضي الصالحة للزراعة؛ ويتزايد ( التصحّر ) بسبب الحرائق في الغابات، وقطع الأشجار بدون ضوابط، والرعي المبالغ فيه. ومشكلة الغذاء هي مشكلة حياة أو موت، والحاجة المستعجلة كانت تبلغ (830 ) ألف طن من الحبوب بينما لم تتعهد دول العالم لهذه البلاد الجائعة إلاّ بـ 255 ألف طن عام 1979م ـ 1980م لذا ارتفع العجز في الحبوب إلى مليون طن بينما المساعدات الموعودة لا تغطي إلا ربع المطلوب .
ولا تستطيع الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وحدها حمل كل أعباء المساعدة للدول الفقيرة لأن ميزانيتها محدودة، ومن الطريف أن ميزانية إطعام القطط والكلاب في الولايات المتحدة الأمريكية تعادل خمسة أضعاف ميزانية الأمم المتحدة في نيويورك، ففي عام 1979م صرف على القطط والكلاب الأمريكية 2ر3 مليار دولار بينما كانت ميزانية الأمم المتحدة لعام 1981م 683 مليون دولار فقط(22 ) !! .
مشكلة اللاجئين
يضاف إلى كل ما تقدم ذكره من بؤس وشقاء ومجاعة وجفاف وعطش، تدفق اللاجئين من وإلى دول ( الساحل ) هذه، فلقد كان عدد اللاجئين في أفريقيا عام 1981م أكثر من ستة ملايين، وهم في ازدياد مستمر حتى الآن، ونصف اللاجئين تقريباً من الأولاد، وأكثر هؤلاء اللاجئين هم من البلاد المسلمة: مثل تشاد، أوغندا، الصومال، إريتريا، الحبشة، ويتحمل السودان والصومال في الوقت الحاضر أكبر الأعباء فهما يستوعبان ـ سوية ـ ملايين اللاجئين.
أما اللاجئون المسلمون في آسيا فأعدادهم في تزايد مطرد أيضاً من الفيليبين وكمبوديا، وفيتنام وبورما وأفغانستان والهند ـ آسام ـ وفي رأس القائمة اخوتنا من فلسطين، ويحتاج موضوع اللاجئين المسلمين في العالم إلى أن يُفرد له كتاب خاص، لعل أحد المهتمين من شباب الإسلام المطلعين يقوم بهذا الواجب في المستقبل القريب إن شاء الله
مشكلة النزوح المستمر من الريف إلى الحضر
المدينة بأضوائها وأسواقها والخدمات الموجودة فيها تجذب الريفي الطموح خاصة إذا كان عاطلاً عن العمل . وحركة الهجرة المستمرة من القرية إلى المراكز الحضرية ليست حكراً على بلاد العالم (النامي )، فهي عارض عام، إلاّ أن درجة النزوح هائلة في العالم الفقير لأسباب عدة منها فترات البطالة المتقطعة ـ بين المواسم الزراعية ـ، وضعف المدخول، وانعدام الخدمات ماء وكهرباء ومجار ير، ومدارس وعناية صحية إلخ ـ وغياب الحاجيات الضرورية بعض الأحيان.. كل هذه عوامل دافعة نابذة من الريف إلى المدينة، التي تجذب بدورها، الريفي البسيط بمغرياتها المادية المتعددة.
ولكن كثيراً ممن قاموا بهذه الخطوة المغامرة، تحت ضغوط الظروف المعيشية، لم يلقوا ما أمَّلوه، فالمساكن مفقودة بالنسبة لأمثالهم، والخدمات معدومة، والعمل ليس ميسراً دائماً؛ وعدم اهتمام المسؤولين بالتنمية الجدية للأرياف المحرومة تجعل العودة إلى القرية شبه مستحيلة، أضف إلى ذلك العامل النفسي في الخيبة بل وربما الشماتة التي قد يقابل بها العائدون الذين هجروا أصولهم في سبيل حياة متمدنة (أفضل ) كانت حلمهم .!
والمشكلة الحقيقية هي في المعيشة الصعبة لهؤلاء، النازحين وأكثرهم من العمال غير المهرة لأنه لم تتيسر لهم فرص التدريب والتعلم. إنهم يعيشون في أكواخ من الصفيح والخشب البالي الرقيق يتكدسون على بعضهم بعضاً في مساحات ضيقة ينقصهم الماء الصالح للشرب، والطعام المتوازن الكافي، وتحيط بهم بيئة ملوثة حيث تتجمع القمامة والأوساخ والمياه الآسنة والذباب والحشرات والجرذان والفئران والحيوانات الشاردة الأخرى؛ وهذا المحيط مثالي لانتشار الأمراض، خاصة السارية منها، وظهور سوء التغذية وأعراضه. وبما أن تخطيط المدن الجديدة أمر لم تعرفه أكثر المراكز الحضرية في العالم (النامي ) حتى الآن لا توجد أية استعدادات لتقديم الخدمات الضرورية لهؤلاء المساكين، فتتعقد أمورهم الحياتية في ثالوث الجهل والفقر والمرض، وفقدان الأمن النفسي الغذائي، وتفشي الانهيار الخلقي والانحرافات النفسانية، وتكثر الأمراض الجنسية، ويغيب القانون كلياً عن مثل تلك الأجواء وتسود شريعة الغاب: سرقة وجريمة وعنف وجنوح.. تدور حياة هؤلاء الذين يعيشون على هوامش المدن الكبرى في الحلقة المفرغة دون أمل في حل قريب لهذه المآسي ؛ وكلما ازداد عدد سكان هذه المراكز الحضرية الكبرى تزداد المشكلة اتساعاً وعمقاً وتعقيداً فتنهار الخدمات، على بساطتها أصلاً، ويحصل انقطاع التيار الكهربائي، والماء، وتحصل الاختناقات في السير وتكثر الحوادث على الطرق، وتزيد الضوضاء ويتضاعف عدد المدمنين على الكحول والمخدرات، وتنقص المواد الأساسية وتتوتر الأعصاب وتظهر المشاجرات لأتفه الأسباب. ويشكل هؤلاء التعساء على حواشي المدن جزءاً كبيراً من المحرومين في ديار المسلمين .
لقد زرت، وعشت، أياماً وأشهراً، في كثير من هذه الحواضر الكبرى في ديار المسلمين: (لاغوس ) في نيجيريا ـ سكانها 6ر4 مليون نسمة ـ و(القاهرة ) في مصر ـ وفيها حوالي 8 ملايين نسمة ـ و (كراتشي ) في باكستان ـ وفيها [5 ] ملايين نسمة، و (جار كرتا ) في إندونيسيا ـ وفيها حوالي 6 مليون نسمة ـ و ( داكا ) في بنغلادش ـ وفيها حوالي 5ر2 مليون نسمة ـ؛ ورأيت فيها جميعاً التناقض المخيف بين من يملكون الملايين ومن لا يملكون شروى نقير، بين البيوت الفخمة والشوارع العريضة وبين الأكواخ الخشبية والطرق الضيقة، بين الحدائق الغناء في الأحياء السكنية الراقية وبين أكوام القمامة والأوساخ وتجمعات المياه الراكدة والحفر والحشرات والفئران على حواشي الحواضر الكبرى هذه وفي أحيائها القديمة؛ بين نظافة الثياب الأنيقة للفتية في الأماكن الموسرة والأجسام الممتلئة بل وربما المترهلة شحماً ودهناً من التخمة.. وبين الأسمال والخرق البالية على الأجساد الضعيفة الهزيلة المريضة الجائعة؛ بين الفنادق الفخمة ـ ذات النجوم الخمسة ـ وكثير منها للأجانب ـ وبين المقعدين المعوقين من الشحادين الفقراء صغاراً وكباراً .. على أبواب هذه الأبنية الرائعة .
يحدث هذا كله في ديار المسلمين والله تعالى يقول لهم: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( التوبة : 71 ) .
وكان نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً في داره إلاّ وزعه على الناس المحتاجين، وكان خلفاؤه الراشدون يحملون على أكتافهم أكياس الدقيق إلى الأرامل والمساكين، وكان أنموذج العدل الإسلامي لدى أولي الأمر( الخليفة عمر بن عبد العزيز ) يكفي الناس جميعاً حتى إنهم لم يجدوا في عهده من يحتاج لمال زكاة أو صدقة. والرسول القائد والقدوة، صلوات الله وسلامه عليه، هو الذي قال :(9/26)
إن الأشعريين ـ قبيلة من اليمن ـ كانوا إذا أجدبوا أو أرملوا ـ أي افتقروا وأصابهم الجدب والقحط ـ، جمعوا ما عندهم من زاد واقتسموه بينهم بالسوية .. فهم منِّي وأنا منهم (23 ) ومن تاريخ الإسلام في العهد العباسي نعرف( أن الحكومات المتعاقبة تعهدت بتقديم الرعاية الصحية المجانية للمواطنين جميعاً دون تمييز في الأديان والمذاهب ) (24 ) .. فهل نكون رجعيين ـ يا ترى ـ إذا طالبنا الآن ، بعد أكثر من اثني عشر قرناً هجرياً أن تعود الرعاية الصحية المجانية للمواطنين كما كان الحال في العهد العباسي ؟!
إن مشكلة النازحين من الريف إلى المدن الذين يعيشون على هامش الحواضر.. بل على هامش الحياة هي ـ أي المشكلة ـ تتمة الصورة البائسة للاجئين وللمحرومين عموماً في ديار المسلمين.
الدول النامية.. أم الدول الفقيرة ؟!
تشكل ديار المسلمين الجزء الأكبر من العالم الثالث في أفريقيا وآسيا .. هذا العالم الذي يُسميه الغرب ـ نفاقاً وخداعا ً ـ: ( الدول النامية ) ! والعالم كله، كما هو معروف مقسوم الآن إلى (عالم الشمال ) الغني المتقدم تكنولوجياً، والمستغِل ـ بكسر الغين ـ؛ و( عالم الجنوب ) الفقير المتخلف المستغِل ـ بفتح الغين ـ، ولكن الغرب ـ الرأسمالي والماركسي على السواء ـ يتحاشى ظاهراً استعمال كلمة التخلف والفقر ويُطلق على العالم الفقير المعدم تعبير ( الدول النامية ) والخبث في هذا التعبير يظهر من معنى الكلمة بالإنجليزية
[ Developping ] أو بالفرنسية [En Voie de development ] فهي توحي بالحركة القائمة مع أن واقع هذه الدول هو العكس تماماً، ففي عالم الجنوب ( استنقاع ) اقتصادي إن لم نقل تراجعاً وتأخراً. يقول الاقتصادي البريطاني ( بريان آيل سميث ) :
(هناك دلائل كثيرة على أن الأوضاع المادية لمجموعات كبيرة من الناس في العالم الثالث هي أسوأ مما كانت عليه منذ عقدين من الزمان ) (25 ) .
ورغم ما يشاع ويذاع ويملأ الأسماع عن المعونات الخارجية للدول (النامية ) .. فإنها .. لا تنمو !! بل تزداد فقراً على فقر؛ يقول (جورج وودز ) المدير السابق للبنك الدولي في المعونات الاقتصادية:
( إذا استمر الحال على هذا المنوال تكون كمية رؤوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من البالغ التي دخلتها في فترة خمسة عشرعاماً وذلك بسبب الفوائد المرتفعة ) (26 ).
وتؤكد مصادر أخرى هذا الرأي فتقول :
( هناك درجة من المصداقية في القول بأن مساعدات التنمية زادت ( الطين بلَّة ) وجعلت الدول النامية المستلمة للمساعدات أسوأ مما كانت عليه .. قبل أن تُساعد ) (27 ).
ولعل أطرف الأمثلة وأحدثها عما تفعله ( المعونات الخارجية ) هو قصة صندوق النقد الدولي مع مصر في اتفاق برنامج التثبيت الاقتصادي والذي عقده البنك مع جمهورية مصر العربية للفترة ما بين 1978م - 1981م، وكان الهدف المعلن لهذا البرنامج هو إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية وتقليل نسبة عجز ميزانها التجاري؛ وفي الدراسة التي أجراها الدكتور رمزي زكي الخبير الأول في معهد التخطيط القومي المصري ظهر أن (الصندوق ) دخل مصر عام 1978م وهي مدينة بـ ( 8000 ) مليون دولار .. وخرج (الصندوق ) إيّاه منها عام 1981م وهي مدينة بأكثر من (18000 ) مليون دولار .. أي أن كل مواطن مصري كان مديوناً بـ (422 ) دولار للعالم(28 ) .
وتفصيلاً للديون المصرية كتبت ( ناهد فريد ) في مجلة صباح الخير ما يلي: ( إن إجمالي الديون المصرية حسب دراسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير بلغ في منتصف عام 1982م ( 2ر19 ) مليار دولار وهكذا أصبح ترتيبنا التاسع بين أكبر الدول المدينة في العالم .
كان إجمالي ديون مصر في بداية عام 1970م 6ر1 مليار دولار
وفي نهاية عام 1973م 1ر2 مليار دولار
وفي نهاية عام 1976م 10 مليار دولار
وفي عام 1980م 054ر13 مليار دولار
وأصبح في منتصف عام 1982م 2ر19 مليار دولار
ولو قسمت الديون هذه الديون المتراكمة على عدد السكان لوجدنا أن الفرد الواحد مديون عالمياً بحوالي (420 ) دولاراً في السنة، والغريب أن دخل الفرد الواحد أيضاً لا يتعدى (460 ) دولاراً في السنة ) (29 ) .
وتذكر دراسة أخرى ملخصاً لواقع الحياة الاقتصادية في مصر تحت العنوان التالي: (تضاعف أعباء الديون (7 ) مرات في أقل من 6 سنوات وزيادة العجز التجاري 40 مرة ) (30 ) .
وبمناسبة الحديث عن الديون الخارجية وتراكمها في كثير من الدول المسلمة أعرض الجدول التالي وفيه بعض الأرقام المذهلة التي ـ تزايدت بصورة هائلة في العقد الماضي (ما بين 1970 ـ 1980م ) بحيث شكلت في عام 1980م أكثر من خمسين بالمائة من إجمالي الناتج القومي.
وكما أن الدين بالنسبة للفرد هو هَمٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار، كذلك ديون الدولة المستدينة التي تصبح عالة على دائنيها معتمدة عليهم اعتماداً كليّاً في حياتها وحياة شعوبها. وإذا تذكرنا أن الدول الكبيرة هي الدائنة في الغالب، أو المؤسسات الدولية الخاضعة لها نجد كيف تؤثر هذه الدول الكبيرة في سياسات الدول الفقيرة المدينة ( في سياساتها الداخلية والخارجية ) ومن أراد الاستزادة في موضوع المعونات يمكنه الرجوع إلى الكتاب الذي أشرت إليه قبلاً.
تراكم الديون الخارجية العامة لبعض دول العالم المسلم (32)
الدولة
عام 1970
عام 1980
المبلغ بالملايين
بالدولار
الأمريكي
النسبة المئوية
من إجمالي
الناتج القومي
المبلغ بالملايين
بالدولار
الأمريكي
النسبة المئوية
من إجمالي
الناتج القومي
أفغانستان
454
-
1094
-
باكستان
3059
5ر30 %
8875
7ر34 %
السودان
308
3ر15 %
3097 (32)
2ر37 %
اليمن الجنوبي
1
-
499
-
أندونيسيا
2443
1ر27%
14940 (32)
5ر22%
موريتانيا
27
8ر16%
714
7ر139%
مصر
1644
8ر23%
13054
7ر51%
المغرب
711
18%
7098
6ر38%
نيجيريا
478
4ر6%
4997
5ر5%
تونس
541
2ر38%
2955
9ر33%
سورية
232
8ر12%
24.93 (32)
1ر20%
تركيا
1854
4ر14%
13216
4ر22%
الجزائر
937
3ر19%
15073
7ر38%
السنغال
98
6ر11%
906
9ر34%
ولا يقتصر عدم التوازن في المداخيل عالمياً على وجود دول غنية ودول فقيرة، بل هناك في الدول الفقيرة خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي؛ وإليكم هذا المثل الآخر عن الظلم الاجتماعي في ديار المسلمين، من بلد صغير هو لبنان: يقول الكاتب الاقتصادي السيد/ عدنان كريمة في دراسة طريفة عن (أصحاب الملايين ) في لبنان ما يلي:
كلمة [مليونير ] ـ أي رجل يملك مليوناً من الليرات اللبنانية كحد أدنى ـ لم تعد مستهجنة في الثمانينيات كما كانت في الستينيات .. وبعض الشيء في السبعينيات، ففي الستينيات كان في لبنان حوالي (500 ) مليونير ( وسكان لبنان هم أقل من ثلاثة ملايين نسمة )؛ وقد ارتفع الرقم في نهاية العام 1972م إلى حوالي (900 ) مليونير ثم ازداد عدد (المليونيريين ) خلال السبعينات فوصل في نهاية علم 1979م إلى حوالي (12000 ) مليونير وقفز في العام الماضي ـ أي 1982م ـ إلى أكثر من عشرين ألفا (33) ً ومن المعروف أن الحرب الأهلية المستعرة، وغزو إسرائيل للبنان خَلَّفت مئات ألوف الأيتام والمشردين والمعوقين والجياع من فلسطنيين ولبنانيين بالإضافة لأكثر من مائة ألف قتيل وجريح وتدمير شديد لوسائل المعيشة لجميع الطبقات .
يقول السيد/ ( عدنان كريمة ) في آخر مقاله عن أصحاب الملايين في لبنان :(9/27)
(( لا يختلف خبيران على وجود خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي في لبنان والحل المطلوب لإزالة هذا الخلل لا يكون بالطبع زيادة عدد (المليونيريين ) ولا بمضاعفة الرواتب والأجور بل بتقريب الفوارق قدر الإمكان بين فئات الشعب، ورفع مستوى ذوي الدخل المتدني، وهنا تكمن مسؤولية الدولة في الإسراع بأخذ المبادرة والدخول بقوة إلى ثلاثة قطاعات رئيسة هي: السكن والتعليم والصحة، لأن توفيرها يعتبر (( صمام الأمان )) الوحيد للمشكلة الاجتماعية، ويساهم في الوقت نفسه في لجم ( غول ) التضخم )) .
وهناك في ديار المسلمين مئات ألوف أصحاب الملايين وربما وصل عددهم إلى (المليون ) إلا أن المسلمين في العالم هم ألف مليون عدداً.. أي واحد بالألف يجعلون المال ( دُولة بينهم ) وتسعمائة وتسعة وتسعون يشكون إلى الله العدل والتكافل المفقودين.
يجري كل هذا والمسلمون يسمعون قول الله الكريم في محكم تنزيله.
( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلّله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب )( الحشر: 7 ) .
ويقول آخر تقرير اقتصادي: (( إن حجم الديون الإجمالية لدول العالم الثالث حالياً هو بين 600 ـ 1000 مليار دولار، وأشار التقرير الذي أصدرته وزارة التنمية في ألمانيا الاتحادية أن حوالي ( 660 ) ملياراً هي ديون الدول (النامية ) في آسيا وأفريقيا )) (34 ) .
إذن ( مهزلة ) الدول ((النامية )) ! ستستمر طالما أن ( عالم الشمال ) يعيش في بحبوحة على حساب بؤس وانسحاق وحرمان آلاف الملايين من سكان (عالم الجنوب )، فمنه تُسرق ـ حتى الآن المواد الخام والمنتجات الزراعية أو تُشترى بأبخس الأثمان ثم تُصّنع وفي الغرب المتقدم لتعود بأسعار فاحشة، وليس من مصلحة المستغل تقدم وتطور و(نمو ) المستغل (بفتح الغين )، ووقوفه على قدميه اقتصادياً وسياسياً. لذلك لم تنجح ( تمثيليات ) ! المعونات الاقتصادية والفنية للدول النامية ولن تنجح إذا استمر الشمال في استغلال الجنوب بهذه الصورة الشنيعة رغم بعض الأصوات الحرة القليلة المعارضة التي تنادي ـ في الغرب ـ بإيقاف هذه الطريقة الظالمة المُذلة في العلاقات الاقتصادية بين أغنياء العالم وفقرائهم، يقول المفكر الفرنسي المعاصر روجيه غارودي ( أو رجاء غارودي بعد أن شرح الله قلبه بالإسلام ): ( لا يغرب عن بال أحد أن النعيم المادي الذي ترتع المجتمعات الغربية في بحبوحته مبني على بؤس سكان العالم الثالث.. وهم أربعة أخماس المعمورة. وليس من المعقول أن يستمر خمسمائة مليون من الغربيين في تنعمهم ورفاهيتهم.. بل في بذخهم، في الوقت الذي يوجد فيه على الضفة الأخرى من العالم حوالي أربعة مليارات من الجياع يعيشون في فقر مدقع ) (35 ).
ويلخص (جيمس غرانت ) المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للطفولة ـ اليونسيف ـ الموقف اليائس بقوله : باختصار تفاؤل الستينيات، والذي قاد إلى واقعية السبعينيات .. تراجع الآن أكثر ليترك المجال للشك والتشاؤم الذي يظهر أنه طابع الثمانينيات. إنها خيبة الأمل التي ازدادت حدَّة وظهرت دلائلها بتناقص إسهام الدول الغنية في مساعدتها للفقراء، وعام 1965م ناشدت الأمم المتحدة للمرة الأولى الدول المعطية أن تزيد مستوى مساعداتها لتصبح (37ر0% ) (36) من إجمالي الناتج القومي وكان ـ آنذاك ـ (049ر %) فقط؛ واليوم ورغم جهود دول قليلة تعد على رؤوس الأصابع، والتي استجابت لهذا النداء، انخفضت النسبة لتصبح (47ر0% )، ويختم (غرانت ) قائلاً:
تحسين صحة وتربية أولاد البلاد الفقيرة.. يمكن إنجازه بكمية أقل مما تصرفه الدول المصنعة على (خمورها ) كل عام.. كذلك الوصول إلى الهدف الأعم في توفير الحاجات الأساسية لكل السكان المحتاجين في العالم ممكن بمخصصات سنوية توازي الكمية التي تصرف الآن كل ستة أسابيع لصيانة وزيادة القدرات العسكرية ) (37 ).
=============
الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين
الجوع - والمجاعة في ديار المسلمين
(ذكرت مصادر جبهة التحرير الإريترية أن عشرات الآلاف من الأطفال وكبار السن لاقوا حتفهم نتيجة مجاعة لم يسبق لها مثيل، اجتاحت أجزاء كبيرة من إريتريا بسبب الجفاف الذي ضرب المرتفعات الإريترية وأجزاء من المديرية الغربية مما أثر على الزراعة وتسبب في نفوق أعداد من قطعان الماشية. وناشد ممثل جبهة تحرير إريتريا الدول العربية والإسلامية والمنظمات الدولية تقديم مساعدات غذائية عاجلة للمقاتلين واللاجئين الإريتريين، وأوضح أن المساعدات التي تتلقاها السلطات الأثيوبية تقوم بتوزيعها على أفراد جيشها ويتسرب أغلبها إلى السوق السوداء حيث تباع بأثمان باهظة ولا يصل منها شيء إلى أكثر من مليون إرتيري ) (1 ) .
هذا مثل من أفريقيا، أما في آسيا فتقدر منظمة الأغذية والزراعة أنه كان هناك (460 ) مليون نسمة عام 1977م لا يحصلون على غذاء كاف، وثلثا هذا العدد (306 ) ملايين من سكان جنوبي آسيا ـ أي ثلث سكان المنطقة (2 ) .
وهناك اليوم ألف مليون شخص يشكون من نقص غذائي، يموت منهم كل عام (11 ) مليوناً بسبب سوء التغذية (3 ).
ويذهب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إلى أبعد من ذلك في تقديراته فيقول: (من المؤسف أن يكون نصف سكان العالم أو ربما ثلثهم مصابين بسوء التغذية ) (4 ) صحيح أن تصريحه هذا كان عام 1963م إلاّ أن الحالة لم تتحسن في البلدان الفقيرة كما يقول السيد/ (إدوارد صوما ) المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة واصفاً حالة عام 1981م بما يلي: (لم يطرأ أي تحسن على حالة الأغذية في البلدان ذات الدخل المنخفض وعلى الأخص في أفريقيا ولا يزال هذا الموضوع مصدر قلق بالغ )، ويضيف: (ومازالت الزيادة في المخزونات العالمية من الحبوب تتركز في عدد قليل من البلدان المتقدمة والبلدان الرئيسة المنتجة، ومعظم هذه الزيادة هي من الحبوب التي لا تمثل سوى جزء صغير من الاحتياجات الاستيرادية للبلدان النامية خاصة البلدان ذات الدخل المنخفض )، ويختم هذا الكلام الواضح بقوله:
(وهكذا فإن حالة الأمن الغذائي العالمي ما تزال غير كافية بل مضطربة ) (5 ).
هذا الكلام مركز على إنتاج الغذاء، أما توزيعه بالعدل على المستوى العالمي فأمر آخر محزن حقاً ليس من أهداف هذا الكتاب الخوض فيه بتفصيل.
الغذاء المفقود في المجتمعات المسلمة(9/28)
من المؤسف حقاً بل من المخجل ألاّ يكون هناك اكتفاء ذاتي ـ حتى الآن ـ في المواد الغذائية الأساسية في أية دولة مسلمة رغم غنى بعضها والإمكانات الزراعية الضخمة لدى بعضها الآخر(6 ). فالدول التي تستهلك القمح أو الأرز كمادة أساسية في الغذاء تستورد من الخارج.. وهذا(الخارج ) معادٍ للإسلام في غالبه؛ لذا فالشعوب المسلمة الفقيرة جائعة أكثر الأوقات لعدم حصولها على الغذاء الكافي، بل وفي بعضها مجاعة حقيقية تحاول الجمعيات الأجنبية التنصيرية تخفيفها على حساب الكرامة والعقيدة. والدول المسلمة القادرة على شراء غذائها من الخارج معرضة لمضغوطات وابتزازات هذا (الخارج ) متى شاء ذلك. وإذا كانت الحبوب سلاحاً تهدَّد ـ بفتح ـ الدال ـ به أكبر دول العالم مثل الاتحاد السوفييتي الذي يشتري هو أيضاً غذاءه من الخارج، فباستطاعة الأخ القارئ أن يتفهم مدى خضوع الدول الصغيرة الفقيرة لتهديد الدول المصدرة لهذه المواد الغذائية: بيعاً أو قروضاً أو هبات ذات أغراض سياسية خبيثة وسيطرة اقتصادية أخبث.
ومن الطبيعي أن تعيق الدول الكبرى المصدرة للحبوب سبيل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في الدول المستوردة؛ يقول الاقتصادي اللبناني السيد عدنان كريمة تحت عنوان القمح الأمريكي والاكتفاء السعودي ما يلي:(إثر جولة لبيع القمح شملت مصر وتونس والسعودية قال وزير الزراعة الأمريكي جون بلوك ): أعتقد أننا وضعنا أنفسنا في موقع يمكننا من الحد من اندفاع السعودية نحو الاكتفاء الذاتي من القمح!! )، ولم يحدد الإجراءات التي اتفق مع الجانب السعودي على اتخاذها لتحقيق الهدف الأمريكي في زيادة مستوردات المملكة من القمح الأمريكي ) ويضيف السيد/ كريمة: (يستدل من تصريح الوزير (بلوك ) أنه مرتاح لنتائج مباحثاته ومطمئن إلى أنها حققت على الأقل بعض نتائجها. ولكن هل تم ذلك على حساب تحقيق التنمية الزراعية والوصول إلى الاكتفاء الذاتي؟ لا أعتقد ذلك لأن أي بلد يستطيع أن يخطو خطوة إلى الأمام في تأمين الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية في عصرنا الحالي حيث دخلت هذه المواد الخُطط الاستراتيجية وأصبحت أقرب إلى (السلعة السياسية منها إلى السلعة الاقتصادية )، يمكن أن يتراجع إلى الوراء، لذلك فالسعودية تركز خطتها التنموية على تحقيق تنمية صناعية وزراعية تخفف من اعتمادها على الأسواق الخارجية، وتساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وقُدِّر موسم العام الحالي بما يتراوح بين 500و600 ألف طن. وقد تحققت هذه النهضة الزراعية في حقول القمح خلال أربع سنوات، وهو إنجاز عظيم في إطار خطط التنمية الطموحة، ففي عام 1977م كان إنتاج المملكة من القمح في حدود ثلاثة آلاف طن فقط، غير أن سياسة الدولة لجهة تركيز اهتمامها على الزراعة ومنح المزارعين القروض الميسرة أدّت إلى رفع الإنتاج إلى (400 ) ألف طن في العام 1982م وأكثر من ذلك في العام الحالي. وهذه السياسة أدّت إلى خفض الواردات السعودية من القمح الأمريكي والدقيق إلى النصف منذ عام 1979 م ـ 1980م، وبالطبع فإن الكمية المستوردة ستنخفض مع استمرار زيادة الإنتاج السعودي ) (7 ).
ومن أمثلة اعتماد المسلمين كلياً على الاستيراد لسد الأفواه الجائعة أذكر اثنين فقط:
1- نقلت الأخبار (أن دولة مصر العربية تستورد الطعام بما قيمته 8 ملايين دولار في اليوم الواحد ) (8 )..
2- ونقلت الأخبار أيضاً أن أندونيسيا ستضطر إلى استيراد مليونين ونصف من الأطنان أرزاً عام 1983 نتيجة سوء موسم الحصاد الذي كان متوقعاً بسبب الجفاف الذي مرّ على معظم مناطق زراعة الأرز، وستصبح أندونيسيا من أكبر مستوردي الأرز في العالم . جاء هذا في تقرير للسفارة الأمريكية في (جاكرتا ) نشرت تفاصيله وكالة يوناتيد برس انترناشونال(9 ).
وما بين عام 1967م ـ 1977م زادت قيمة الواردات من منتجات الألبان أربعة أضعاف، في البلدان الفقيرة، والمعتقد أن زيادة الواردات من مسحوق اللبن المستخدم في صناعة أغذية الأطفال بمختلف أنواعها، هي من العناصر الرئيسة التي تؤدي إلى تدهور ميزان المدفوعات في هذه البلدان. (وعام 1980م بلغت واردات البلدان النامية من الأغذية (52300) مليون دولار أمريكي بزيادة الثلث عن السنة السابقة ) (10 ).
ومن أمثلة الدول المسلمة التي تتعرض للمجاعة باستمرار بلاد ما يسمى بـ (الساحل ) أي حزام الجفاف الشديد في أفريقيا ـ ولقد سبق ذكرها ـ؛ ارتفع فيها العجز في الحبوب إلى مليون طن والمساعدات الواعدة لا تغطي إلاّ ربع المطلوب، كما أسلفت. وعندما لا تتقدم الدول المسلمة(الشقيقة )! بالعون اللازم ـ على الأقل بالنقد اللازم لشراء الغذاء فليس هناك إلا الجمعيات التنصيرية.. ولقد تعوّدت(11 ) هذه شراء الجائعين من أطفال المسلمين.
وكأن متاجرة هؤلاء بفقراء المسلمين لا تكفي.. حتى جاءت الآن بعض الشركات الأجنبية ـ وفيها بعض العرب.. كالمعتاد ـ لتسويق النفوس البشرية البائسة تحت ستار جمعيات
(الاستخدام والعمالة ).
فلقد نُشر تقرير في جريدة (الاتفاق ) البنغلادشية اليومية، في معرض الحديث عن الفقر في (بنغلاديش ) يذكر أن سماسرة أخذوا عدّة آلاف من فتيات بنغلاديش، وكثيرات منهن كن يمارسن مهنة (الشحادة )، إلى باكستان لينقلوهن بعد ذلك إلى دول ذات ثراء في العالم الإسلامي. (12 )
فأين أغنياء المسلمين يستمعون لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (أيّما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عُري كساه الله من حُلل الجنة ). وأين زكاة الأموال المكنوزة ذهباً وفضة وأسهما وعقارات؟ .
من الذي يستهلك غذاء العالم بإسراف؟
يدعي بعض الغربيين أن الزيادة في عدد سكان العالم الفقير هي سبب مشاكل الجوع ونقص الغذاء، ولعل أحسن رد على هذا الادعاء الباطل جاء من المفكر الفرنسي المعاصر(رجاء غارودي ) حين أفحمهم قائلاً:
من العار أن نسمع المؤتمر السكاني ـ الديموغرافي ـ في (بوخارست ) يقول فيما يتعلق بالسكان: إن إنجاب أقل عدد ممكن من الأطفال يُجنب العالم مشاكل الجوع، في الوقت الذي نعرف جيداً أن فلاحاً باكستانياً أو هندياً يستهلك أقل مما يستهلكه زميله الأمريكي في (كاليفورنيا ) بأربعمائة مرة، وهذا يعني، بكل بساطة أن عشرات آلاف من المواليد الأمريكيين أكثر خطورة على التوازن العالمي من أربعة ملايين(13 ) من المواليد الباكستانيين أو الهنود والمسألة إذن ليست في تحديد النسل كما طالب مؤتمر (بوخارست ) لأن الداء قائم في أسلوب ونمط النمو الاقتصادي الموجود في الغرب بينما يكمن الدواء والحل في ضرورة تغيير تصرفات وأهداف العالم الغربي (14 ).
ما هو غذاء الإنسان ؟
يتألف الغذاء من العناصر التالية منفردة أو مجتمعة، بكميات ونسب متفاوته حسب المصدر:
1- الفحوم المائية ـ الكربوهيدرات ـ مثل النشويات والسكريات وهي موجودة بكثرة في الحبوب والبقول والفواكه.
2- البروتين: وهو أهم العناصر التي يتشكل منها اللحم ـ وأهم مصادره الحيوان ـ وقد يأتي من النبات .
3- الدهن ـ بمصدريه الحيواني والنباتي.
4- الفيتامينات بأنواعها المتعددة.
5- بعض المعادن مثل الحديد واليود والصوديوم والبوتاسيوم والفسفور والمغنيزيوم ويحتاجها الجسم بكميات قليلة؛ وهناك معادن يحتاج الجسم منها أثراً فقط وهي (الكوبالت والزنك والنحاس والمنغانيز والمولْبِديوم والسيلينيوم ).(9/29)
وتوفر العناصر الثلاثة الأولى بعد امتصاصها وتمثلها قدرة حرارية يحتاجها الجسم ليصرفها في نشاطاته الدائمة عن طريق عمليات الجسم الكيماوية الحيوية (الاستقلاب - Metabolism ) المستمرة، ومع ازدياد معدل النشاط تزداد الحاجة للقدرة بارتفاع معدل ما يصرفه الجسم من جهد(15 ). ويحتاج الشاب السليم الجسم، ذو النشاط المتوسط حوالي (3000 ) وحدة قدرة حرارية (سعر أو حريرة ) في اليوم من غذائه ( ويوفر كل جرام من الفحوم المائية والبروتين 4 حريرات ـ أسعار، أما كل غرام من الدهن فيوفر 9 حريرات ـ أسعار ـ ) ويستحسن أن يأخذ الإنسان السليم في غذائه اليومي غراماً واحدة من البروتين مقابل كل كيلو غرام من وزنه، وهناك أعمار خاصة تحتاج لغذاء معين أو لحريرات ـ أسعار ـ أكثر ، كالأعمار الصغيرة والحوامل والأمهات وبعض الناقهين من أمراض معينة؛ والغذاء الكافي المتوازن ضرورة صحية بالإضافة إلى أنه ضرورة حياتية؛ والنقص في كمية أو نوعية الغذاء، أو كلاهما معاً، يؤدي إلى سوء التغذية وإلى الأمراض فضلاً عن تأثيره على الإمكانات الجسمية والعقلية وتقلص إنتاجها.
ولقد بدأ التحسن في المستويات الصحية في البلدان الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل مدة طويلة من ظهور الطب العلمي الحديث، وبدا، ذلك واضحاً بانخفاض نسبة الوفيات، لقد نقص حوادث (الكوليرا ) و(التيفوس ) و(الطاعون ) و(السل ) و
(الحصبة ) قبل ظهور أي علاج فعّال لها. والتحسن في السوية الصحية هذا كان السبب فيه راجعاً جزئياً لزيادة إنتاج الغذاء وتحسن مستوى توزيعه، مما أدى إلى تحسن السوية الغذائية في الأفراد وزيادة قوة مقاومتهم للأمراض. وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهر تحسن آخر بعد توفير المياه الصالحة للشرب على مدى واسع وبناء شبكات المجارير(16 ).
السويّة الغذائية في الدول الفقيرة
ما بين عامي 1977م ـ 1979م كان متوسط نصيب الفرد من السًعرات الحراية (Calories ) المتاحة أقل من (2200 ) سعرة في اليوم في 48% من سكان أفريقيا (أي في إحدى وثلاثين دولة ) (17 ).
(وفي بنغلاديش، متوسط السعرات المتاحة أقل من (2000 ) سعرة يومياً )؛ ولا يحصل الأطفال دون سن الثالثة من العمر، في بنغلاديش إلاّ على 46% فقط من حاجتهم من السعرات، و68% من البروتين اللازم؛ و17% من الأطفال دون سن الرابعة يعانون من نقص حاد في التغذية يؤدي إلى الهزال، والنقص المزمن يؤدي إلى توقف النمو(18 ).
( وبصورة عامة فإن 15 ـ 25% من الأطفال مصابون بسوء التغذية، وتصل النسبة إلى حوالي 60% في بعض الدول (النامية )؛ ويعتبر الفقر السبب الرئيس المؤدي إلى هذا الوضع، ولكنه ليس العامل الوحيد، فنقص التوعية وانعدام المياه النظيفة الصالحة للشرب، واستعمال الأغذية المصنعة في الغرب ) (19 )، تسهم كلها إلى حد ما في هذه الحالة
وقد يكون من الأفضل إعطاء أرقام في مقارنة عامة بين معدلات نصيب الفرد من السعرات اليومية في عالم الأغنياء وعالم الفقراء، وهذه عيّنة:(حوالي عام 1975م ):
--------------------------------------------------------------------------------
المعدل في أوروبا الغربية (3230 ) سعرة حرارية في اليوم
المعدل في أوروبا الشرقية (3240 ) سعرة حرارية في اليوم
المعدل في أوقيانوسيا (3270 ) سعرة حرارية في اليوم
المعدل في أمريكا الشمالية (3350 ) سعرة حرارية في اليوم
المعدل في آسيا (إجمالاً) (2160 ) سعرة حرارية في اليوم
المعدل في أفريقيا (إجمالاً) (2250 ) سعرة حرارية في اليوم
أما في البلاد المسلمة فهذه عيَّنة من معدلات نصيب الفرد من السعرات (حوالي عام 1975م ).
--------------------------------------------------------------------------------
الجزائر 1730 تونس 2220
اندونيسيا 1790 مصر 2500
أفغانستان 1970 نيجيريا 2270
بنغلاديش 1840 ماليزيا 2460
موريتانيا 1970 إيران 2300
المغرب 2160 سورية 2650
اليمن الشمالي 2040 السعودية 2270
اليمن الجنوبي 2070 الأردن 2430
مالي 2060 غينيا 2200
النيجر 2080 باكستان 2160
العراق 2160 لبنان 2280
--------------------------------------------------------------------------------
وهكذا نرى أن المعدلات في كل الدول المسلمة إما قليلة ـ نسبيا ً ـ أو ناقصة جداً خاصة المعدلات التي تقل عن (2000 ) سعرة للفرد في اليوم. وهذه هي الظاهرة الأساسية فيما سنراه من سوء تغذية وأمراض ووفيات في ديار المسلمين .
سوء التغذية
يقول (هلفدن ماهلر ) المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (سوء التغذية هو، في الوقت نفسه، أحد نتائج الظلم الاجتماعي، وأحد العوامل التي تسهم في بقاء هذا الظلم ) (20 ).
وهناك من يقول: إن70% من أولاد البلدان النامية يشكون من سوء التغذية(21 ). وفي أفريقيا 63% من النساء الحوامل (أي من 1ر15 مليون ) و40% من بقية النساء (أي من 1ر77 مليون ) مصابات بضعف الدم ( الأنيميا Anamia ) أما في آسيا 65% من النساء الحوامل (أي من 2ر43 مليون ) و57% من بقية النساء (أي من 2ر253 مليون ) مصابات أيضاً بضعف الدم. وبصورة عامة يمكن القول: إن أكثر من نصف النساء في آسيا وأفريقيا مصابات بضعف الدم (64% من الحوامل و50% من غير الحوامل ) (22 )؛ ومجموع المصابات في القارتين 75ر212 مليون امرأة.
وفي الفترة ما بين 1969م، و1971م قُدّر أن المتوفر من الغذاء الذي يولد طاقة الإنسان هو أقل من 10% من حاجات الجسم في 24 دولة نامية، وفي(33 ) دولة نامية أخرى هناك نقص أقل من 10%. وقًدِّر في بداية السبعينيات أن 30% من سكان شرقي آسيا (حوالي 300 مليون نسمة ) و25% من سكان أفريقيا (حوالي 67 مليون نسمة ) لا يحصلون على بروتين ومواد مولدة للطاقة بكميات كافية في غذائهم(23 ).
(وفي عام 1974م انتشرت أمراض سوء التغذية في بلاد آسيوية عدة منها: الهند، وباكستان، وكمبوديا، والفيليبين، ومن مجموع ثمانمائة مليون طفل في الدول النامية الآن (عام 1978م ) ـ سيواجه أكثر من ثلثيهم السقم والأمراض المعوقة إما بسبب مباشر من نقص التغذية أو باستفحال هذه الأمراض لنقص البروتين والمواد المولدة للطاقة ) (24 ).
ويتناقص إنتاج الغذاء باستمرار، للسنة العاشرة على التوالي، في أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، وفي (34 ) دولة فيها (260 ) مليون نسمة يوجد نقص شديد في الغذاء، والأطفال الناشئون هم أكثر الأعمار تأثراً بهذا الوضع ) (25 ).
بعد كل هذه المقدمات والمعلومات المحزنة، قد يتساءل الأخ القارئ عمّا هو تعريف (سوء التغذية ): كلمة( Malnutrition ) بالإنكليزية تعني سوء التغذية ويحصل ذلك عادة من عدم توازن في العناصر الأساسية المستهلكة في الغذاء على افتراض وجودها كلها في متناول الناس، إلاّ أن سوء التغذية الذي نتحدث عنه في البلاد الفقيرة ـ النامية كما يسمونها ـ ناتج عن نقص هذه العناصر.. كلها أو بعضها كمّاً ونوعاً في غذاء سكان البلاد البائسة. ونقص الغذاء ـ أي أن يكون دون مستوى الكفاية ـ يسمى بالإنكليزية (Underutrition )، وهذه هي الحالة السائدة والمسببة لسوء التغذية في العالم الثالث. وقد يحصل سوء تغذية في البلاد الغنية .. وبين الأغنياء إلا أن هذا ناتج عن أمر معاكس تماماً: هو التخمة وزيادة الوزن والتشحم والترهل بسبب الاستغراق في شهوات البطن، والدعة والخمول وهذه الحالات نادرة الوقوع في المجتمعات المسحوقة المحرومة.(9/30)
وأتعجب ـ والله ـ من وجود الجائعين في المجتمعات المسلمة بل وجود المجاعات في بعضها في الوقت نفسه الذي يوجد فيه كثيرون من أهل اليسر ويقرؤون ما جاء في القرآن الكريم .
(ماسلككم في سقر. قالوا لم نك من المُصلين. ولم نك نُطعمُ المسكين ) (المدثر: 42ـ44 ).
(أرأيت الذي يُكذبُ بالدينِ. فذلك الذي يدُعُ اليتيمَ . ولا يحُضُّ على طعامِ المسكينِ ) (الماعون: 1ـ3 ) .
(ويسألونكَ ماذا يُنفقُونَ قُلِ العَفْو َ) (البقرة: 219 ) ـ أي الزائد عن حاجتهم وعيالهم ـ.
إلاّ أن كثير من (المسلمين ) اليوم في وادٍ والإسلام في وادٍ آخر مع الأسف. ولا يكف أعداء الإسلام عن الادعاء الكاذب الجاهل الحاقد بأن سبب تخلف المسلمين هو.. الإسلام (كَبُرتْ كَلِمةً تخرجُ من أَفواههم إنْ يقُولُونَ إلاّ كَذِبا ً)؛ ورحم الله المفكر الإسلامي مالك بن نبي فهو أحد الذين دحضوا هذه الفرية قائلاً:
(التخلف الذي يعاني منه الشرق لا يتحمل الإسلام وزره، فهذا التخلف يعد عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يزعمون ).
وصدق الله العظيم: (ومن أعرضَ عَنْ ذكْري فإنَّ له معيشة ضنكا ونحشرهُ يوم القيامة أعمى ) (طه: 124 ) (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا ً) (الجن:16 ) .
وإذا امتنع ذوو الفضل والسعة واليسر من المسلمين عن طاعة الله ورسوله في هذا المجال (مجال التكافل ) أخذ (ولي الأمر ) فضول أموالهم، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه، إذا اقتضت الضرورة ذلك، بالإضافة إلى الزكاة، يقول الأستاذ محمد المبارك، رحمه الله، بعد ما عرض النصوص المتعلقة بالموضوع (ويستنتج من مجموع النصوص السابقة المبدأ التالي: ما زاد عن كفاية الإنسان وعياله وحاجاتهم من ماله، معرض ـ حين ضرورة المجتمع إليه ـ للأخذ منه بل أخذه جميعاً إذا اقتضت الضرورة، ولا يقتصر في ذلك على أداء الزكاة في مثل هذه الحالات، بل يتعداه إلى بقية المال بالنسبة للأغنياء الذين في أموالهم فضل وسعة ) (26 ).
أسباب سوء التغذية (المباشرة وغير المباشرة):
قلت: إن السبب الأول في العالم (النامي ) هو الفقر وهذا يعني:
1- فقدان المال لشراء الغذاء الكافي.
2- الفقر مسؤول إلى حد كبير عن الأمية والجهل وبالتالي عدم معرفة قيمة الغذاء وأنواعه وعناصره الأساسية وكمياته اللازمة وتوازنه المنشود .
3- حالة الفقر تُسهل حدوث الأمراض السارية الحادة والمزمنة، وهذه بدورها تؤثر على المستوى الغذائي وتضعفه.
4- ثم إن الفقير المريض الجائع لا يجد عملاً، وإذا وجده لا يعطي فيه المردود المطلوب ولا الإنتاج الكافي لتحسين دخله. وهكذا تستمر الحلقة المفرغة في دورانها .. إلى أن يموت هذا المسكين بحرمانه.
طرق تاثير الأمراض السارية على المستوى الغذائي للإنسان:
--------------------------------------------------------------------------------
الطريقة الأولى:
- ضعف شهيّة
- تقيُّؤ
- خلل في الهضم
- خلل في التمثل والامتصاص
وهذه تؤدي إلى :
- نقص في الكمية المستهلكة من الغذاء.
- نقص في الاستفادة من الغذاء.
--------------------------------------------------------------------------------
الطريقة الثانية:
- خسارة عناصر غذائية من الجسم لزيادة استهلاكها عند المرض ، وبواسطة الجراثيم والطفيليات المسببة .
وهذه تؤدي إلي:
- ضياع كمية من الغذاء أيضاً
--------------------------------------------------------------------------------
الطريقة الثالثة:
- تخريب أنسجة وخلايا ناصر بناءه عضوية.
- بعض الأمراض تسبب النزف المستديم كالبلهارسيا، أو التخريب المستمر للكريات الحمراء مثل الملاريا.
وهذه تؤدي إلي:
- ضياع عناصر أساسية من أنسجة الجسم المريض.
--------------------------------------------------------------------------------
كذلك يؤثر سوء التغذية بدوره في الأمراض وهذه الحلقة المفرغة هي التي تحصل:
1- سوء التغذية
2- المرض
3- فداحة في سوء التغذية
4- اشتداد في أعراض المرض
والجسم الذي ينقصه الغذاء، خاصة(البروتين ) لا يستطيع تشكيل مستوىً عالٍ من المناعة ضد الجراثيم والطفيليات ـ خاصة وحيدة الخلية ـ، والديدان المعوية، لهذا تكون أعراض هذه الأمراض أشد عادة في الجسم المصاب بسوء التغذية وتطول فترة المرض وتكثر الوفيات.
--------------------------------------------------------------------------------
طفل مصاب بداء (سوء التغذية في آسيا )
الأمية تلازم الفقر والمرض
إن أعلى نسبة من الأمية في العالم هي في البلاد العربية .. يذكر تقرير البنك الدولي لعام 1982م أن نسبة التعليم في العالم الثالث كانت لا تتجاوز 33% في عام 1950 ولكن هذه النسبة قد ارتفعت في عام 1960م إلى 38%، وفي عام 1970م إلى 46% ووصلت عام 1979 إلى 56% .
ولكن.. على الرغم من تلك الصورة الحسنة، فإن عدد الأميين في ازدياد مع أن نسبة الأمية في انخفاض، والسبب راجع إلى ازدياد سكان العالم؛ إذ يوجد ثمانمائة مليون شخص أمي في العالم ويتوقع المختصون بهذا الميدان ارتفاع هذا العدد إلى (950 ) مليون أو ألف مليون شخص بحلول عام 2000م. يضاف إلى أن نسبة الأمية في عشرين بلداً تبلغ أكثر من ثمانين بالمائة (80% ). (27) وتبعاً لما تقوله رابطة القراءة الدولية فإن العالم العربي فيه أعلى نسبة من الأمية إذ أن النسبة تبلغ 62% من السكان. ونسبة الأمية في أفريقيا هي 60% إجمالياً، وفي أمريكا اللاتينية 20% وفي آسيا 37%. أما من حيث عدد الأميين فإن نصفهم في آسيا ويبلغون (599 ) مليون نسمة (28 ).
وهذه عينة من نسب الإلمام بالقراءة والكتابة في البالغين في عديد من الدول المسلمة (إحصاءات عام 1975م ) (29 ) :
--------------------------------------------------------------------------------
البلد النسبة المئوية البلد النسبة المئوية
--------------------------------------------------------------------------------
باكستان 21 % اليمن (في الشمال ) 10%
بنغلادش 22 % اليمن(في الجنوب ) 10%
السعودية 15% المغرب 28%
تشاد 15% الصومال 50%
النيجر 8% سورية 53%
أفغانستان 12% العراق 26%
نيجيريا 25% (عام1960 ) إيران 50%
الجزائر 35% تركيا 60%
تونس 55% مصر 40%
موريتانيا 10% الأردن 62%
السنغال 10% لبنان 68%
مالي 10% السودان 15%
--------------------------------------------------------------------------------
التركيب السكاني ـ الديموغرافي للمجتمعات الفقيرة
أغلبية سكان العالم الثالث (النامي ) من اليافعين إذ تشكل الأعمار الشابة نسبة عالية بعكس ما هو قائم في الدول المتقدمة. فالأطفال دون سن الخامسة هم خمس السكان (20% ) ومجموع الأطفال والأولاد دون سن الخامسة عشرة يبلغ حوالي (45 ـ 50% ) من المواطنين بينما النسبة في البلاد المتقدمة هي حوالي 20%.
ما علاقة هذا التركيب بالصحة والمرض ؟ إن لهذا الواقع الديموغرافي انعكاساً سلبياً على الوضع الصحي في الدول (النامية )؛ فالأعمار الصغيرة معرضة أكثر من البالغين والكبار لتأثيرات سوء التغذية والأمراض السارية المنتشرة في هذه الدول.
وهكذا نرى أن نصف أطفال الشرق الأوسط المسلم لا يتمتعون بمستوى غذائي كاف(30) ؛ وهذا يؤثر على النمو الجسمي والعقلي كما يقول البروفيسور (آبل سميث ):(9/31)
(سوء التغذية يضر بنمو الإنسان وذلك بالتأثير على شكل حجم الجسم، أما في الصغار فيؤدي إلى تخلف خطير في النمو العقلي ) (31 ). وسوء التغذية بدوره يضعف، كما أسلفنا، مقاومة الجسم للأمراض عامة والأمراض السارية بصورة خاصة، لذا فنسبة الأمراض والوفيات مرتفعة جداً في الدول النامية (97% من مجموع وفيات الأطفال في العالم كله.. هي من الدول النامية حيث يعيش أربعة أخماس أطفال العالم ) (32 ). ونسبة إجمالي وفيات الأطفال دون سن الخامسة تشكل في بلاد الشرق الأوسط المسلم أكثر من نصف مجموع الوفيات كلها، وهذه نسبة عالية جداً.
وكان عدد وفيات الأطفال المساكين عام 1977م في هذا الشرق المسلم مليونين تقرياً (ربع مليون في كل من أفغانستان وإيران ومصر ـ تقريبا ً ـ، وثلثي المليون في باكستان(33 ). واغلب وفيات هؤلاء تحدث قبل سن الثالثة وأهم أسبابها (سوء التغذية ) والإسهالات المعوية والأمراض السارية كالملاريا ـ البرداء ـ والحصبة .. وغيرها.
ما علاقة التركيب السكاني بزيادة متاعب العالم (النامي )؟ نسبة الصغار للكبار عالية جداً في العالم (النامي ) كما رأينا بعكس ما هو عليه الحال في الدول المتقدمة! في ألمانيا والاتحاد السوفييتي مثلاً، هناك (بالغان ) عاملان مسؤولان عن(صغير ) أو (شيخ ) لا يعملان. أما في (بنغلاديش) و(نيجيريا ) فالنسبة هي واحد لاثنين أي شخص عامل واحد يُعيل اثنين لا يعملان. وهذا الوضع يفرض على العالم (النامي ) حملاً ثقيلاً يرهق إمكاناته لإعالة الأطفال. وفي مجال التربية والتعليم أيضاً يشكل الأولاد الذين هم في سن التعليم الابتدائي ـ في الدول النامية ـ 25% من السكان أما في الدول الغنية فالنسبة هي 15% فقط(34 ).
===============
الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم
الحالة المرضية في الشرق الأوسط المسلم (1)
مؤشرات هامة
عندما تحصل ولادة في هذا الإقليم يتراوح متوسط العمر المتوقع لهذا الوليد ما بين 30 ـ 50 عاماً (ومتوسط العمر المتوقع للوليد في أوروبا هو 71 عاماً ) (2 ).
ويشكل الأولاد ـ دون سن الخامسة ـ خُمس السكان، أما نسبة الأولاد دون سن الخامسة عشر فهي 45 ـ 50% من مجموع ـ أي حوالي 125 مليوناً.
نصف أطفال وأولاد الإقليم مصابون بسوء التغذية(3 ) أي حوالي 62 مليونا منهم وتتراوح نسبة وفيات الرضع في الإقليم ما بين (5 ) إلى (20 ) بالمائة ( بينما النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هي 8ر0 بالمائة ) ـ إحصاءات عام 1975م ـ
ومن مجموع أحد عشر مليوناً من المواليد في الإقليم كل عام يموت مليونان مليون ونصف يموتون في سن الرضاعة ـ أقل من عام ـ، ونصف مليون آخر يموتون قبل سن الثالثة.
أما الأمراض القاتلة فهي:
الإنتانات المعدية المعوية مع
مضاعفات سوء التغذية تقتل 000ر800
التهابات جهاز التنفس تقتل000ر400
حُميَّات الطفولة (الخُناق، السعال الديكي، الكزاز، الحصبة، شلل الأطفال والسل ) تقتل000ر250
ولها كلها مصول واقية
الملاريا تقتل 000ر50
أمراض وإصابات الأسبوع الأول من العمر تقتل000ر500
المجموع 000ر000ر2 مليونان (4).
وكل هؤلاء الأطفال المتوفين يموتون وهم في حالة سوء تغذية (حاد أو مزمن ). وإذا نظرنا إلى جميع المواطنين ـ من جميع الأعمار ـ في هذا الإقليم.. المريض (وليس ذلك تشاؤماً ولا مبالغة )، فنجد أن فيه تقديرياً-:
مليون حالة من السل(5 )، و217 مليوناً من السكان معرضون للإصابة بمرض الملاريا؛ وسبعة ملايين ونصف مليون من حالات فقد البصر (العمى )، بالإضافة إلى عدَّةملايين من المصابين بضعف البصر(6 ).
ولعل من المستحسن، هنا، أن أعرض بإيجاز الأمراض التي تؤدي للعمى وضعف البصر في شرقنا الإسلامي المنكوب.
أولاً - نقص فيتامين (أ):
نقص فيتامين (أ ) (A ) وهو الموجود في (الخضار والحليب والبيض والزبدة )، يؤدي لمرض يسمى كزير وفثلميا ( XEROHTHALMIA )، ويظهر في أطفال أعمارهم ما بين سنة إلى ثلاث سنوات، وضحايا هذا المرض هم أبناء العائلات المعدمة؛ وينتشر المرض في أكثر الدول النامية (! ) خاصة في التجمعات الحضرية الكبرى في جنوب شرقي آسيا، ونسبته عالية جداً في (أندونيسيا ) (5ر1% ـ 13% ) عام 1975م؛ و60% إلى70% من حالات فقدان البصر في الأطفال تنجم عن هذا المرض؛ ويعتقد أنه ثالث أهم العوامل المسببة للعمى في أطفال (ماليزيا )، والعامل المسبب الأول للعمى في فيتنام؛ وفي جنوبي النهد يسبب المرض50% من حالات العمى(7 )، ومن المعقول التخمين بأن خمسة ملايين طفل آسيوي ـ دون سن السادسة ـ يصابون كل عام بهذا المرض بدرجات متفاوتة، ويفقد ربع إلى نصف مليون منهم البصر(8 ). وفي العالم الثالث كله يسبب نقص فيتامين (أ ) العمى بنسبة مليون حالة سنوياً.
أما في شرقي البحر المتوسط فنسبة الإصابة بالمرض أقل بالمقارنة لشرقي آسيا، وفي عام 1963م أظهرت دراسة في الأردن أن 8% من الأطفال ما بين 5ر2 ـ 5ر3 سنة مصابون بمرض (كزير وفثلميا ) (9 ).
ثانياً - مرض التراخوما: (Trachoma)
التهاب في مُنْضمة العين ويصنف بحق كمرض من (امراض الفقر ) فكل حالاته الشديدة التي تؤدي للعمى هي في سكان الريف أو أطراف المدن الكبرى الذين يعيشون ظروفاً حياتية صعبة في بيئة غير نظيفة، وعادات غير صحية (ازدحام في المسكن، فقدان الماء، محيط ملوث، سوء تغذية ) كل هذه عوامل إضافية؛ والمرض متصل اتصالاً وثيقاً بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي وطريقة المعيشة.
وتعد (التراخوما ) أهم عامل منفرد مسبب للعمى في العالم ( ونسبة العمى في العالم النامي ـ من باب المعلومات ـ هي 10 إلى 40 ضعفاً لمثيلتها في الدول الصناعية المتقدمة )؛ وهناك حوالي (500 ) مليون إصابة تسبب العمى لتسعة ملايين وتترك عدداً أكبر ضعيفي البصر.
والمرض منتشر في الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا خاصة في شماليها و(بلاد الساحل ) جنوبي الصحراء. وقد أظهرت دراسات أجريت في أرياف مصر واليمن وجود حوادث (تراخوما ) كثيرة، ويقول الخبراء: إن نتائج المسح تعكس في الغالب، الواقع في كل بلاد المنطقة.
وقد تبدأ عوارض المرض بالظهور في الأشهر الأولى من عمر الرضيع ولكن تظهر أغلب الأعراض عادة في الأعمار (2 ـ 5 سنوات ) ففيهم أعلى نسبة من الإصابات وهذا يقود إلى نسبة عالية من فقدان البصر.
والجدير بالذكر أنه يمكن التخلص من هذا المرض خلال عشر سنوات مهما كانت نسبة الاستيطان عالية.. إذا قامت حملة مكافحة جادة له. ولقد قًدّر في الدول النامية أن كلفة علاج ( التراخوما ) والإصابات المشابهة أكثر من 50% من الخسارة الاقتصادية التي تنتج عن بصر مضطرب تسببه التهابات العين(10 ).
ثالثاً- مرض عمى الأنهار: (Onchocerciasis)
ويسببه طفيلي (الفيلاريا ) وتنقله ذبابة صغيرة سوداء اسمها (سيموليوم Simulium ) وهي تبيض وتفرخ بالقرب من الأنهار لذلك سمى المرض ( بعمى الأنهار ).
- العمى في شبه القارة الهندية بسبب مرض (كزيروفثلميا)
نقص فيتامين (أ)
----------
- صورة لمرض (التراخوما) الذي يسبب العمى
والمرض منتشر في أفريقيا الاستوائية (مثلاً السنغال، غانا، نيجيريا، فولتا العليا، ساحل العاج، تنجانيقا، كينيا، السودان واليمن شماليه وجنوبيه ) وكلها ديار المسلمين.
وتذكر التقديرات وجود ما بين 20 ـ 30 مليون حالة من هذا المرض في العالم أغلبها في أفريقيا؛ وعندما تصاب العين بتوضع الطفيلي فيها ينتهي الأمر بالعمى.(9/32)
وهناك في العالم اليوم حوالي 28 مليون أعمى أكثر من ثلثيهم في البلاد النامية، (ويسهم الفقر والبيئة الملوثة وفقدان الخدمات الصحية في حصول هذا العدد الضخم من العميان ) (11 )؛ والعميان من الفتيان والشبان خسارة اقتصادية كبرى بالإضافة للمأساة الإنسانية في فقدهم لبصرهم بأمراض يمكن الوقاية منها لو توفرت الخدمات الصحية للمحرومين المسحوقين في العالم ( النامي )!
المأساة الواقعة
اثنا عشر سنتاً أمريكياً أي ما يعادل ـ نصف ليرة لبنانية تقريبا ً ـ تكفي لشراء كمية فيتامين (أ ) تقي طفلاً من هذا المرض لمدة عام كامل، ولا حاجة لشراء هذا الفيتامين إذا كان في طعام الأولاد اليومي بعض
- صورة لذبابة (السيموليوم)
--------------------------------------------------------------------------------
- صورة لمصابين بالمرض
نشرت مجلة (صحة العالم ) هذه الصورة في كانون الثاني (يناير)1981م وكتبت تحتها ( اثنان من ضحايا مرض عمى الأنهارفي غربي أفريقيا يرتلان آيات من القرآن الكريم) !!
الخضراوات ذات الأوراق الخضراء . فإذا أردنا وقاية كل أطفال وأولاد إقليم الشرق الأوسط المسلم المصابين بنقص التغذية ـ وهم حوالي ستين مليوناً ـ بإعطائهم كلهم فيتامين (أ ) لما احتجنا لأكثر من دولار لكل عشرة منهم أي ما مجموعه ستة ملايين دولار أمريكي، فهل هذا كثير لوقاية المسلمين من العمى ؟
بعض أثريا المسلمين ينفقون على بعض الأمور والهوايات التافهة ما يكفي لإنقاذ أطفال المسلمين من العمى.. وزيادة!!.
ويمكن مكافحة أمراض العين الالتهابية ـ بما فيها التراخوما ـ وشفاؤها بكلفة أقل من دولار أمريكي واحد للفرد، وإذا كانت هذه تسبب العمى لتسعة ملايين شخص في العالم كله، وإذا بالغنا وافترضنا أن خمسة ملايين منهم من المسلمين يكفينا خمسة ملايين دولار، لو صرفت في حينها لأنقذنا الملايين الخمسة من العمى. ولقد نقلت الأخبار أن مصاريف إقامة وعلاج المرضى العرب في عاصمة أوروبية كان، في السبعينيات، (800 ) مليون دولار في العام وتتوقع السلطات هناك أن يتضاعف هذا الرقم في أوائل الثمانينيات(12 ).
فإذا صرف عدد قليل من المرضى العرب الأغنياء (لا يتعدى عددهم المئات أو حتى اللوف ) ثمانمائة مليون دولار في العام.. ربما لتخسيس الوزن! ومداواة السمنة! والإفراط في حياتهم الخاصة أكلاً وشرباً وتناسلاً ورفاهية وتخمة، أقول: إذا صرف هؤلاء العرب أو صرفت عليهم حكوماتهم هذا المبلغ الهائل ألا يستطيعون ـ أو تستطيع حكوماتهم ـ صرف عدّة ملايين من الدولارات لمداواة عشرات الملايين من المسلمين المصابين بأمراض العمى الثلاثة لنقي أولاً إخوتنا في الله العمى وضعف البصر؟ لا بدا أن يكون جواب أي مسلم عاقل على هذا التساؤل: نعم يستطيعون هم ويستطيع (رعاتهم ) فأين الذين يخافون الله أن يسألهم، إن نفقت شاة من العطش في العراق، حسابها يوم القيامة ؟
اللهم إن هذا ظلم يحيق بملايين الفقراء من عبادك فمتى يتذكر ذوو السعة الحديث القدسي: قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: [وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوما يقدر أن ينصره فلا يفعل ] (13 ).
ذكر( بيريز دي كويلار ) السكرتير العام للأمم المتحدة أن العالم سينفق عام 1983م (14 ) على السلاح ثمانمائة ألف مليون دولار (000ر000ر0000ر800 ) فقط لا غير!!
(وكانت حصة الشرق الأوسط، من الأسلحة التقليدية فقط، عام 1982م أكثر من نصف مبيعات الدول المصدرة. ولقد ذكر التقرير السنوي الرابع عشر الذي أصدره معهد أبحاث السلام (سبيري ) أن إجمالي الصادرات العالمية من الأسلحة قدر بـ 8448 مليار دولار عام 1982م دفع الشرق الأوسط منها (4584 ) مليار دولار (أسعار عام 1975م )، وكانت دول الشرق الأوسط قد اشترت عام 1981م بـ (4287 ) مليار دولار من إجمالي (8917 ) مليار، وفي عام 1980م اشترت بـ (4926 ) ملياراً من إجمالي (9542 ) مليار؛ وتصدّرت الدول العربية الدول المستوردة للأسلحة في الشرق الأوسط حيث بلغ إجمالي نفقات التسلح في هذه المنطقة في العام الماضي (3ر53 ) مليار دولار.
فإذا صرف الشرق الأوسط(15 ) ـ باستثناء إسرائيل ـ أكثر من خمسين ألف مليار دولار على التسلح، أما كان باستطاعته صرف (5 ـ6 ملايين دولار ) فقط لوقاية ستين مليون طفل مسلم من العمى ؟
الأمر المؤسف حقاً هو أن ميزانية وزارة الصحة، في كل دول العالم الثالث تقريباً، ليست من الأولويات، لذا فهي في ذيل القائمة من حيث المخصصات مقارنة ببقية الوزارات.
مراحل نمو المواليد في شرقنا المسلم وتعرضهم للأمراض
تعريف ومدخل
صحة الوليد مرهونة بعوامل عدَّة: منها العامل الوراثي من الوالدين وصحتهما خاصة الأم، وعمرها وعدد المواليد الذين أنجبتهم، ومستوى تغذيتها، والأمراض التي أصابتها والتي يمكن أن تنقلها للجنين. ومحصلة تأثير هذه العوامل قد يؤدي إلى إجهاض الحمل أو إلى وليد ميِّت أو إلى ولادة قبل أوانها لرضيع لم يكمل أشهراً تسعة في الرحم .
وفي الأشهر الستة الأولى من عمر الرضيع تحميه مناعة أخذها من أمه التي اكتسبتها بدورها، ضد بعض الأمراض كمرض الحصبة مثلاً؛ والطفل الذي ينمو على حليب أمه يكتسب مناعة إضافية ـ ضد الإسهالات المعوية مثلا ً ـ، عن طريق حليب الأم. لذلك فإن هذا الرضيع محمي ـ إلى حد ما ـ من الأمراض السارية حتى الشهر السادس من عمره؛ وقربه من أمه مناسب لنموه النفسي والاجتماعي.
بعد الشهر السادس من العمر تضيع هذه المناعة، وفي هذه الفترة تبدأ الحاجة لتغذية إضافية، وهذا يزيد من تعرضه للإنتانات المعوي؛ وحتى الشهر الثلاثين من عمره يبقى الطفل معتمداً على أمه في غذائه ويكون تحركه محدوداً، ثم بعد ذلك يبدأ بالحركة والتنقل ويعبر عن رغبته في الأكل، وزيادة الحركة تزيد من احتمالات تعرضه للإنتانات، ليس فقط من المحيط العائلي بل من المجتمع حوله، بالإضافة إلى احتمالات تعّرض متزايد للحوادث. .
وفي الفترة ما بين عمر (ستة أشهر إلى خمس سنوات ) تظهر، في البيئة غير المواتية، الحلقة المفرغة من الإنتانات وسوء التغذية، وإذا عاش الولد هذه الفترة يخرج منها ببعض المناعة والتأقلم، إلاّ أنه يتعرض الآن لنمط أمراض الكبار، وربما يُصاب بالأمراض الطفيلية مثل ديدان الإسكارس، والبلهارسيا والانكلوستوما أو أمراض أخرى منتشرة في الشرق الأوسط مثل السل (التدرن ) و(التراخوما)، و(الليشمانيا ) ـ الجلدية كحبة حلبة وحبَّة بغداد، أو الباطنية ـ؛ وتَحُدُّ هذه الأمراض المزمنة من إمكانات تعلمه وتحضيره لحياة مستقبلية منتجة مثمرة أو ربما يصاب بأمراض تسبب له إعاقات دائمة مثل الشلل أو ضعف البصر أو العمى الكامل.
الواقع المرضي لأولاد المنطقة
1- الوليد:
متوسط وزنه في الإقليم، بصورة عامة أقل من متوسط وزنه في بلاد (عالم الشمال ): أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ومرض الكزاز (التيتانوس Twtanus )مهم في الأيام الأولى من العمر، ويصاب به عدد غير قليل من الرضع؛ ولقد أظهرت الدراسات مثلاً أن 5ر16% من الرضع ماتوا بهذا المرض في الصومال ما بين عامي 1970م ـ 1977م .
2- الشهور الستة الأولى من العمر:(9/33)
أمراض سوء التغذية الشديدة تفتك بأطفال الإقليم في هذه الفترة كما أظهرت المسوحات التي أجريت عام 1977م في مراكز حضرية جديدة الثراء في ليبيا وعام 1976م، في العراق، وهنالك من 1 ـ4 % من الإصابات الخطيرة بسوء التغذية في كل من لبنان وتونس والمراكز الحضرية بإيران ومصر(16 )، أما في العراق والأردن واليمن الشمالي وأرياف مصر وإيران، والسودان واليمن الجنوبي وباكستان فالنسبة أعلى من 4%(17 ) .
3- فترة الفطام ـ ما بين الشهر السادس والشهر الثلاثين:
تتضافر مؤثرات العوامل الممرضة في الإنتانات المعوية والالتهابات التنفسية وحميات الطفولة (الحصبة والسعال الديكي وغيرها )، مع عوامل سوء التغذية الشديدة والأمراض السارية الأخرى كالملاريا ـ البرداء على قتل الأطفال في هذه الفترة من أعمارهم؛ وفي الشرق الأوسط المسلم 25 ـ 40% من الأطفال يتمتعون بوزن عادي يناسب سنهم، أما الباقون فعندهم نقص غذائي، وهذا لا يعود فقط لنقص الغذاء بل أيضاً لفقدان الوعي الصحي والثقافة اللازمة، وفي هذا المجال يجب أن أذكر أن الغذاء ليس هو المؤشر الوحيد على الوضع الصحي، فهناك عوامل أخرى هامة مثل: النمو الاقتصادي الاجتماعي (متوسط دخل الفرد )، الأمية، تَوَفُّر المياه الصالحة، السكن والبيئة الصحية الحسنة كل ذلك ذو صلة وثيقة بوفيات الأطفال الرضَّع .
4- العمر ما بين 3 _ 5 سنوات:
يتعرض الطفل في هذه الفترة للحوادث الطارئة، وتبرز أهمية مرض السل و(الخنَّاق Diphtheria )، إلا أن نسبة الوفيات فيه أقل من الفترة السابقةـ دون الثالثة من العمر.
5- سن أولاد المدارس:
يظهر تأثير سوء التغذية للفترات السابقة على نمو الأولاد وزناً وقامة، وأولاد الشرق الأوسط المسلم أخف وزناً وأقصر قامة من المقاييس العالمية لمماثليهم في العمر؛ ففي دراسة جرت عام 1970م في محافظة الجيزة بمصر ظهر أن الأولاد، في الريف والحضر، أقل وزناً وطولاً من المقاييس العالمية لمماثليهم في العمر وكان النقص أكثر في أولاد الريف ـ لأن الحرمان أشد ـ، وفي مسح أجري في اليمن عام 1972م ظهرت أن مقاييس الطول والوزن للأولاد اليمنيين ـ ذكوراً وإناثاً ـ هي أقل من مماثليهم في مصر(18 ).
البيئة في ديار المسلمين نظيفة أم ملوثة ؟
أظهرت نتيجة الدراسات أن نسبة سكان الحضر، في الشرق الأوسط المسلم، الذين كان لديهم (بيت خلاء ) بين عامي 1970م ـ 1977م، هي أقل من الثلثين (63% فقط، أما في الريف فما كانت النسبة تتعدى 14% ).
أما نسبة الذين يعيشون في بيوت تتصل مجار يرها بالمجارير العامة فهي10% فقط وهذه هي أقل نسبة في العالم أجمع؛ وهذا يعني، بكل صراحة المؤمن، أن بعض المسلمين يعيشون مع أوساخهم مع أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوصاهم أن ينظفوا وينظفون أفنيتهم وألا يتشبهوا باليهود ـ في قذارة محيطهم ـ.
قال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبَّهوا باليهود ) وهذا ما سمى الآن بلغة العصر: تحسين صحة البيئة.
ورغم أن في الشرق المسلم دولاً غنية ودولاً فقيرة، يبدو أن كلا الصنفين لم يجعلا النظافة والصحة من .. الأولويات .. !! ففي مجال توفير المياه الصالحة للاستعمال وهذه من مستلزمات نظافة الجسم، ونظافة الأفنية، والبيئة بصورة عامة، فلقد كانت نسبة أهل الحضر الذين يتمتعون بماء يصلهم بالأنابيب 52% عام 1975م.
ولقد تناقصت النسبة عما كانت عليه عام 1970م، وكذلك الأمر بالنسبة لأهل الريف فلقد تناقصت النسبة من 19% عام 1970م إلى 16% عام 1975م، وهذه هي المنطقة الوحيدة في العالم حيث تتناقص فيها النسبة ـ مع مرور الزمن ـ بدلاً من أن .. تزيد !!
هذه دراسة للشرق الأوسط أما في أفريقيا والشرق الأقصى فالأرقام محزنة بالنسبة لمن يحصلون على مياه للشرب نقية في الريف. حوالي عام 1980م كان هناك 6% فقط من سكان الريف في أندونيسيا يحصلون على مياه نقية للشرب، وفي اليمن 4% من السكان فقط كانوا يحصلون على مياه صالحة للشرب عام 1975م، وفي أفغانستان 6% فقط ، في العام نفسه. وفي بلاد الجفاف بأفريقيا، كما أسلفت، انعدام الأمطار وغياب المياه السطحية وحتى الجوفية يعرض الناس، والبهائم، للموت عطشاً
- جرثومة (الكوليرا ) - لمرض الوبائي الشديد والتي تنتقل عن طريق الماء الملوث.
===============
بعض الأمراض الخطيرة في ديار المسلمين
أولاًـ مرض السل أو التدرن
وهو من أمراض الفقر، واسع الانتشار وعدد الإصابات الجديدة به كل عام ـ في سائر ديار المسلمين ـ هو حوالي أربعة ملايين وهذا رقم مخيف حقاً وأكثر هذه الإصابات تكون في الأعمار الفتية : أطفال دون سن الثالثة، وفتيان وشبان يافع.. والسل مرض سار سببه جرثومة تتوضع في الغالب في أنسجة الرئة تصيب بعض الأنسجة الأخرى أحياناً كالأغشية السحائية والعظام والمفاصل والكلى والأمعاء والغدد البلغمية ـ اللنفاوية ـ وغشاء البريتون والحنجرة والجلد . ولقد اكتشف جرثومة المرض العالم الألماني (روبرت كوخ) في 10 نيسان ) أبريل عام 1882م. وإذا لم تعالج حالات المرض المعدية معالجة فعّالة كافية يموت ثلثا المصابين خلال عامين من بدء المرض، وإذا عاشت الإصابة الواحدة مدة عامين دون تشخيص ومداواة يمكنها أن تعدي 24 شخصاً آخرين قبل أن تموت .
يقول الدكتور (ماهلر ) المدير العام لمنظمة الصحة العالميةـ وهو اختصاصي بهذا المرض:
( نحن نعلم اليوم أن سبب المرض يرجع لمزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية بالإضافة للعوامل البيولوجية: نقص التغذية، عدم وجود المسكن الصحي المناسب، فقدان النظافة في الأشخاص والبيئة، عدم وجود الماء، الإرهاق الحاصل نتيجة الإنتانات الحادّة والإسهالات، ونقص في الوعي الصحي؛ لذلك هناك حاجة لتدابير عدة في جميع هذه المجالات في آن واحد معاً، حتى يستطيع جسم الإنسان الاستفادة من مقاومته الذاتية، وفي هذا الإطار فقط يكون للخطوات الوقائية والعلاجية التأثير المطلوب )(1 ) .
ويموت كل عام ثلاثة ملايين شخص بهذا المرض أكثرهم من الدول النامية حيث نسبة التعرض للمرض أعلى بـ 20 إلى 50 مرة من نسبتها في الدول المتقدمة.. وهي تتزايد باستمرار؛ والجدير بالملاحظة أن مرض السل قد تراجع في البلاد المتقدمة حتى قبل اكتشاف الأودية الفعالة ضد الجرثومة، وذلك بتحسين المستوى المعاشي: غذاءً متوازناً كافياً، ومسكناً صحياً واسعاً كامل التهوية، ووعياً تثقيفاً، وعزلاً للمرضى عن الأصحاء، لذا فالوفيات بمرض السل في البلاد المتقدمة نادرة جداً .
مدى انتشار المرض في الشرق الأوسط المسلم
تقسم الدول في هذا الإقليم إلى فئات ثلاث بالنسبة لهذا المرض:
بلاد الفئة الأولى ـ حيث حوادث السل متدنية نسبياً ـ:
البحرين، الكويت، قطر، لبنان، سورية، ليبيا (ومجموع سكانها حوالي 16 مليون نسمة ).
بلاد الفئة الثانية ـ حيث حوادث السل متوسطة الارتفاع:
مصر، العراق، الأردن، عُمان، باكستان، أفغانستان، السعودية، دولة الإمارات، وتونس، (ومجموع سكانها حوالي 180 مليون نسمة ).
بلاد الفئة الثالثة ـ حيث حوادث السل مرتفعة:(9/34)
اليمن الشمالي، اليمن الجنوبي، جيبوتي، الصومال، السودان (وهي أفقر دول الجامعة العربية)!! (ومجموع سكانها 32 مليون نسمة )، وفي أندونيسيا هناك (150 ) إصابة في كل مائة ألف مواطن، فإذا حسبنا الإصابات في مجموع السكان (وهم حوالي 130 مليون نسمة ) نعرف أن هناك حوالي مائتي ألف (000ر200 ) مصدور جديد كل عام. أما في
( بنغلاديش ) فهناك حوالي مائة ألف مصدور جديد كل عام، وفي بلد قليل السكان كموريتانيا (وسكانها لا يتجاوزون مليون ونصف المليون )، سجلت اثنتا عشرة ألف إصابة يضاف إليها (3300 ) حالة جديدة كل عام.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد حالات السل التي تسجل في الدول النامية ـ الفقيرة ـ هي أقل بكثير من الواقع، بل غالبية الحالات لا تكشف لأسباب عدة، منها: أن المرضى لا يراجعون السلطات الصحية لعدم تمكنهم من الوصول إلى مراكزها(2 )،أو، بكل بساطة لعدم وجودها، وإذا ما راجع مريض مركزاً صحياً.. قد لا يُشخص مرضه لضعف وسائل التشخيص ومحدوديتها خاصة في الأرياف، ثم إن عملية التسجيل ضعيفة ناقصة أو غير موجودة، ومعنى ذلك أن عدد الحالات في بعض الدول المسلمة هو في الواقع بمئات الألوف؟!
تكاليف الوقاية والعلاج
هناك تحصين ضد هذا المرض باستعمال المصل الواقي في السنة الأولى من العمر، ويعاد إعطاء المصل مرة ثانية في سن الدراسة الابتدائية (6-12 سنة )، ولا يكلف المصل إلاّ (قروشاً ) قليلة لكل طفل (2-5 سنتات أمريكية ) أي أن كل دولار يكفي لتحصين من (20 إلى50 طفلاً ) وهناك عقاقير فاعلة لعلاج كان يدوم عامين ويكلف 15 دولاراً للمريض الواحد تقريباً، وللأدوية الحديثة فاعلية أقوى، وتختصر مدة العلاج إلى عام واحد أو أقل (9 أشهر )، ولكنها تكلف المريض (250 ) دولاراً.
فإذا افترضنا ـ جدلاً أننا نريد معالجة المليون حالة التي تظهر في الشرق الأوسط المسلم بأغلى أنواع العقاقير الحديثة.. سيكلف ذلك كله ـ نظرياً ـ: 250 مليون دولار فهل تعجز الدول المسلمة عن توفير مثل هذا المبلغ لمعالجة مليون مسلول؟؟
وإذا علمنا أن غالبية الدول النامية ـ الفقيرة ـ (50 من 86 دولة ) تصرف على مجمل الخدمات الصحية لمواطنيها في العام كله أقل من خمسة دولارات على الفرد، وهناك 22 دولة منها لا تصرف إلاّ حوالي دولار واحد في السنة على كل مواطن، تبين لنا لماذا لا يزال مرض السل يفتك بملايين الفقراء في ديار المسلمين!! ومن باب المقارنة فقط أذكر أن إنفاق دولة مثل (السويد ) عام 1976م على الخدمات الصحية كان (550 ) دولاراً على كل مواطن في العام..، أما الإنفاق الصحي في دولة (بنغلاديش ) في أوائل الثمانينيات فكان فقط 04ر0 من الدولار أي ( أربع سنتات لا غير ) على كل الخدمات الصحية !!!
-صورة لجراثيم السل (التدرن)
أين يضع المسلمون فائض أموالهم؟
تقول جريدة (السياسة ) اليومية الكويتية(3 ):
(رتفعت قيمة الاستثمارات العربية خارج المنطقة من 13 مليار دولار عام 1974م إلى نحو (104) مليارات دولار في عام 1980م ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن هذه الاستثمارات ستبلغ (900) مليار دولار عام 1985م )، فإذا استعاد المرء ما ذكرت آنفاً من أن أعلى نسبة لحوادث السل في المنطقة هي في أفقر دول الجامعة العربية (اليمن شمالاً وجنوباً، الصومال، جيبوتي، والسودان ) يتبادر للذهن.. بتداعي.. بيت الشعر القائل ـ مع بعض التحريف اللازم ـ:
أحرام على (مساكينه ) المال *** حلال (للغير ).. من كل جنس !؟؟
ولماذا أذهب بعيداً.. لنقل الحق .. ولو على أنفسنا: هناك بعض أغنياء المسلمين الذين يصرفون المال أحياناً كثيرة في أمور لا ترضى الله ..،.. أو يمحق الله هذا المال ليكون درساً قاسياً للمضاربين من الأفراد الذين أعمتهم شهوة الربح المادي السريع، وأحدث كارثة هائلة من هذا النوع أدّت لخسارة مخيفة: (تقدر المبالغ الإجمالية المكشوفة، أي المبالغ المدفوعة لقاء الأسهم بشيكات مؤجلة الدفع بغير رصيد بـ (94) مليار دولار وهو نصف الاحتياطي المتراكم لدى الكويت بالعملات الأجنبية ) (4 ).
ولا أقول لو صرف هذا المال كله أو جلّه .. بل لو صرفت (زكاته ) فقط على مرضى المسلمين ـ وهي حوالي (235) مليون دولار ـ لما بقي مسلول بينهم، ولما مات ملايين المسلمين المصدورين ولتحسنت قطعاً سويَّة معاشهم وصحهتم وغذائهم ، وانخفضت نسبة الإصابات والوفيات بسبب أمراض الفقر الأخرى (الأمراض السارية وسوء التغذية ).
أيها المسلمون من أهل اليسر.. هلاّ ذكرتم أهل المسغبة من إخوانكم؟ وهلاّ وعيتم أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته )
[البخاري ] و(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) [الشيخان ]، و(يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ) [مسلم ]، و(السَّخيّ قريب من الله والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل ) [الترمذي ] .
ثانياًـ مرض الجُذام
مرض مزمن مُعْدٍ يصيب أنسجة الجلد والأغشية المخاطية والعيون والأعصاب الطرفية والعضلات، ويؤدي إلى ضعف وشلل فيها، وتغيير وتقرح في هذه الأنسجة كلها؛ وينتج عن ذلك تعطيل وإعاقة في 50% من الحالات التي تعالج.
وسبب المرض جرثومة تشبه ـ شكلا ً ـ إلى حدّ ما ـ جرثومة السل، وتنتقل بالاحتكاك المباشر والاختلاط المستمر؛ ونسبة الإصابة في الأعمار الصغيرة (5 ـ 14 سنة ) هي ضعف النسبة في البالغين وتتراوح فترة حضانة المرض ما بين (7 أشهر إلى 5 سنوات ) من بدء التعرض للجرثومة.
والمرض منتشر بكثرة في المناطق الحارة، وبدرجة أقل في الأجواء المعتدلة، إلا أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية (الفقر والتخلف ) هي، على الأغلب، أكثر أهمية في انتشاره، من المناخ.
كانت التقديرات، في السبعينيات، تقول بوجود (11 ) مليون(5 ) مجذوم في العالم.. أما تقديرات منظمة الصحة العالمية في الستينيات فكانت كالتالي:
في أفريقيا الاستوائية 000ر500ر3 مليون حالة
في جنوب شرقي آسيا 000ر510ر4 مليون حالة
[أي حوالي 45% من مجموع المجذومين في العالم ]
في إقليم شرقي البحر المتوسط 000ر160 حالة (الشرق الأوسط ) .
في إقليم غربي المحيط الهادي 000ر000ر2 مليونان من الحالات أي إن مجموع الإصابات المحتملة في آسيا وأفريقيا فقط، هو 000ر170ر10 حالة، وفي بلد مسلم قليل السكان مثل (موريتانيا ) كان هناك، في أواسط السبعينيات، (2500 ) حالة مسجلة من الجذام .
- هذا هو الجذام
--------------------------------------------------------------------------------
- وهذه بعض مضاعافاته
أما علاج المرضى فيدوم سنوات طويلة قد تفوق العشر، وتخف العدوى بعد العلاج وتنعدم كلياً بعد بدئه بثلاثة أشهرـ إذا كان منتظماً ـ أما المضاعفات والشلل وفقدان الأطراف فلا علاج لها بعد حدوثها.
ثالثاًـ مرض البلهارسيا
مرض مزمن خطير ينهك الجسم، ويسببه طفيلي ينتقل بالماء، ويصيب جهاز الهضم (الأمعاء ) وجهاز البول ويحدث نزفاً مستمراً في التغوط والتبول؛ واسم الطفيلي
(Schistosoma ) وهوعلى ثلاثة أنواع.(9/35)
وآخر التقديرات في العالم عن عدد الحالات هو (200 ) مليون إصابة تقريباً، ويكثر وجود المرض في المناطق الزراعية التي تتوسع فيها أعمال الري؛ والمرض منتشر بصورة كبيرة في أفريقيا وآسيا، والخريطة المرفقة تعطي بعض المعلومات عن أماكن وجوده في العالم الأفريقي والآسيوي.
-التوزيع الجغرافي لمرض ( البلهارسيا ) بأنواعها في أفريقيا وآسيا- اللون الأسود يدل على النوع الذي يصيب الأمعاء ، والمنقط للنوع الذي يصيب جهاز التبول
كانت نسبة الإصابة في مصر عام 1974م ـ في بعض المناطق ـ 22% من السكان؛ وكانت نسبة الإصابة بالبلهارسيا ـ في جهاز البول ـ عام 1968م في مديرية الفيوم 7ر45% وفي أواسط مصر 31% (في المسح الذي أجري عام 1976م ).
وهناك عدد ضخم من الحالات في غربي أفريقيا ـ نيجيريا مثلا ً ـ وفي السودان، أما في إيران فنسبة الإصابة كانت 3ر8% في منطقة خوزستان، ولقد سجل في المغرب خمسون ألف حالة، وكانت النسبة العامة للمرض في جنوبي تونس 6ر6%، أما في بعض القرى هناك فكانت النسبة (30 ـ 70% )؛ وهناك بؤر محدودة من هذا المرض في شمالي سورية وجنوبي لبنان، وشبه الجزيرة العربية.
والمرض يؤدي إلى ضعف عام و(أنيميا ـ ضعف دم ) ومضاعفات عدة تنهك المصاب وتجعل حياته بائسة حزينة. وهناك علاج للمرض إلا أن المزارعين العاملين في الحقول المروية يصابون مرات ومرات؛ وتنفق مصر في مكافحة المرض مئات ملايين الجنيهات؛ (ثلاثمائة مليون دولار في العام خسارة مصر على هذا المرض: مداواة وضياع إنتاج ).
رابعاً ـ مرض الملاريا (البرداء)
مرض سار يسببه طفيلي يغزو كريات الدم الحمراء وينتقل بواسطة نوع معين من البعوض اسمه (أنوفيليس ).
والملاريا هي أوسع الأمراض انتشاراً في آسيا وأفريقيا؛ تقتل الأطفال إذا كانت من النوع الخبيث عندما تحصل مضاعفات دماغية، وتعطل الشباب عن أعمالهم خاصة في الريف كلما جاءت نوباتها المتكررة التي تحدث شعوراً بالبرد مع ترفع حراري؛ وإزمان الإصابة يؤدي إلى ضعف الدم (الأنيميا ) وتضخم الطحال، والكبد .. إلى حد ما.
يموت بهذا المرض حوالي مليون طفل كل عام في أفريقيا وحدها، ورغم المكافحة المستمرة للمرض لا يزال منتشراً في كثير من البلاد. والخريطة المرفقة تبين مناطق آسيا وأفريقيا حيث يحصل انتقال المرض (وهي تعرض ما كان عليه الحال عام 1980م ).
والملاريا، مثل البلهارسيا، يؤثران سوية على الحياة الاقتصادية في الريف ويعيقان، بوجودهما التنمية في سائر الميادين الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وكلما توسعت أعمال الري (وهدفها التنمية الزراعية ) ازدادت خطورة هذين المرضين لزيادة نسبة التعرض للإصابة بإزدياد كثافة البعوض الناقل (للملاريا ) وكثافة الحشرات المائية الناقلة
(للبلهارسيا ).
وهناك علاج فعَّال للملاريا إلاّ أن استمرارية انتقال المرض عن طريق البعوض يعرض السكان في البلاد التي يستوطنها المرض، إلى إصابات متكررة حيث يكون الانتقال على مدار السنة، أو يزداد في فصول معينة (فصول الأمطار والارتفاع المعتدل لدرجات حرارة الجو ).
- صورة البعوض الناقل لمرض ( الملاريا ) في أفريقيا.
--------------------------------------------------------------------------------
-خريطة انتشارالمرض في آسيا وأفريقيا (عام 1980م)
وباستثناء لبنان والأردن والبحرين وقبرص، لا تزال جيوب الملاريا موجودة في كل الشرق الأوسط على درجات مختلفة من الشدة.
أما في أفريقيا فانتشار الملاريا واسع في كل المناطق الاستوائية ولا يخلوا بلد من المرض (إلاّ في صحارى لا ماء فيها ولا ناس )؛ حتى في الواحات، حيث يتوالد البعوض في تجمعات المياه الراكدة أو الجارية ببطء يحدث انتقال المرض.
وتسجل مثلاً ملايين الحالات في نيجيريا والسودان كل عام،وفي أندونيسيا 10% من السكان مصابون بالملاريا، فإذا علمنا أن سكان أندونيسيا هم أكثر من 130 مليون نسمة يعني أن هناك حوالي 13 مليون مصاب بالملاريا.
ولا حاجة لتكرار القول: إن لهذا المرض علاقة بالتخلف والفقر، أيضاً، والمحرومون في الأرياف وعلى أطراف الحواضر المدنية الكبرى في آسيا وأفريقيا هم أكثر تعرضاً وأكثر إصابة بهذا المرض.
ولا يزال العلماء يبحثون في إمكانية تحضير مصل واقٍ فعال ضد هذا المرض؛ إلاّ أنه من المتيسر الآن تطبيق تدابير وقائية منه، إما باتقاء البعوض الناقل ـ خاصة في الليل ـ أو بأخذ أدوية باستمرارـ أسبوعيا على الأقل ـ، ولكن هذه التدابير غير عملية بالنسبة لأهل البلاد التي يتوطن فيها المرض، وعلى وجه الخصوص سكان الأرياف المعدمين. لذلك يجب الاستمرار في مكافحة هذا المرض على المستوى العام لتقليل نسبة الإصابات إلى الحد الأدنى الممكن.. بانتظار أن يُسْتأصل المرض كلياً.. وقد لا يحدث ذلك في أفريقيا وآسيا في المستقبل المنظور. وإلى أن يحدث، يكتوي مئات ملايين الناس ـ والمسلمون من ضمنهم ـ بنار هذا الداء بالإضافة إلى الأمراض العديدة الأخرى التي تصيبهم.
خامساًـ داء الفيلة و (الفيلاريا)
وهو مرض سارٍ سببه طفيلي (الفيلاريا ) الذي يتوضع في الجهاز البلغمي ـ اللنفاوي ـ ويحدث انسدادات في المجاري مما يؤدي إلى تضخم الأطراف المصابة مع أزمان المرض؛ وعندما يحدث ذلك في الساق مثلاً يزداد حجمها بحيث تشبه ـ إلى حد ما ـ ساق الفيل، ومن هنا جاءت التسمية..! وينتقل المرض من إنسان لآخر عن طريق البعوض أيضاً (إما نوع الكولكس أو الأنوفيليس ).
والمرض منتشر بكثرة في آسيا وأفريقيا وهو في ازدياد، ففي الهند مثلاً كان هناك 25 مليون حالة (فيلاريا ) عام 1953م أما عام 1972م أي بعد أقل من عشرين سنة أصبح العدد التقديري للحالات (136 ) مليون حالة (أي بزيادة خمسة إلى ستة أضعاف، مع الأخذ بالاعتبار الزيادة السكانية، وتحسن وسائل المكافحة )، والمرض موجود في شمالي أفريقيا كما هو موجود في المناطق الاستوائية منها كذلك في شبه الجزيرة العربية وجنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ في الشرق الأقصى وتخلو منه سواحل شرقي المتوسط.
-صورة رقم (1) للأطراف السفلية - (داء الفيلة)
--------------------------------------------------------------------------------
-صورة رقم (2) للأطراف العلوية (داء الفيلة)
والصورتان السابقتان رقم1 و 2 حالتان من حالات داء الفيلة الشديدة، والجدير بالذكر أن هذا الداء لا يظهر إلاّ بعد سنين طويلة من الإصابة بـ (الفيلاريا ) وعدم معالجتها معالجة فعالة كافية.
سادساًـ مرض النوم ( الأفريقي)
وهو موجود فقط في أفريقيا وسببه طفيلي اسمه ( Trypanosomaتريبانوسوما ) والمرض يصيب بعض الحيوانات أيضاً بالإضافة إلى الإنسان مثل الأبقار والخيول.. في أفريقيا الاستوائية فقط. وهو أحد أهم المخاطر الصحية على الإنسان ومن أهم العراقيل في سبيل التنمية الزراعية والصناعية في المناطق المصابة، وتقول التقارير الأخيرة بوجود (45 ) مليون إنسان و(25 ) مليون رأس من البقر معرضين للإصابة(6 )، وينتقل المرض بواسطة ذبابة تسمى (التسي تسي Tse Tse ) ولقد سمي مرض النوم لأن المرض المزمن هذا قد يُحدث في الإنسان المصاب تغيُّراً في فيسيولوجية الجسم تجعل المصاب أرقاً في الليل ناعساً في النهار. والصورتان رقم:1 للذبابة الناقة، ورقم: 2 لمريض مصاب بهذا المرض. ومن حسن حظ قارة آسيا أنها خالية منه [لا إصابات في الإنسان ].
- ذبابة ( التسي تسي) الناقلة للمرض(9/36)
--------------------------------------------------------------------------------
- مريض مصاب بمرض النوم في ( أفريقيا )
سابعاًـ مرض الليشمانيا بنوعيه الجلدي والباطني
وسببه طفيلي اسمه ( Leshmania ) وهو مرض مزمن سارٍ ينتقل بواسطة ذبابة صغيرة اسمها (Phlebtomus ) أما النوع الجلدي فمنتشر في آسيا وأفريقيا، والشرق الأوسط، كله والتقرح الجلدي يسمى في سورية (حبَّة حلب ) وفي العراق (حبَّة بغداد ) ويترك بعد تندبه آثاراً واضحة في الوجه أو الأطراف. والنوع الباطني يسبب حمى متقطعة مع تضخم الطحال والكبد، وهو موجود في واطيء حوض البحر المتوسط كلها تقريباً ؛ والمرض خطير إذا لم يُعالج مدة كافية بالدواء المناسب.
والخريطة المرفقة تبين مدى انتشاره في القارتين الآسيوية والأفريقية.
أمراض خطيرة أخرى
وهناك أمراض هامة سارية أخرى في ديار المسلمين لا مجال للتفصيل فيها هنا، ويكفيني أن أعددها في هذا الكتاب: من أهمها (الكوليرا ) المستوطنة والتي تسبب موجات وبائية تنتقل عبر القارات، وتصل حوادثها أحيانا من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا؛ و(التهاب السحايا الجرثومي )، وبعض بؤر ( الطاعون)، و(التيفوس المستوطن ) والحمى القلاعية
( Brucellosis ) التي تصيب الإنسان والماشية، و(الحمى الصفراء ) في أفريقيا الاستوائية، وأمراض جلدية كثيرة متنوعة. وأخيراً الأمراض الجنسية التي وفدت بأنواعها الجديدة من خارج عالم المسلمين.. إلى ديارهم، وانتشارها الآن ـ رغم محدوديته النسبية ـ يشكل خطراً مستقبلياً قد يستفحل إذا استمر التحلل الجنسي و(التحرر ) من الأخلاق الفاضلة، وتدني المستوى الصحي للفرد والمحيط.
- التوزيع الجغرافي لمرض( الليشمانيا) بأنواعه في أفريقيا وآسيا- اللون الأسود يدل على المرض الباطني ، والخطوط تدل على المرض الجلدي
ولا أريد أن أخوض في موضوع الإدمان الكحولي والإدمان على المخدرات فهي تندرج تحت عنوان الأمراض النفسية، وإذا نجحت عمليات (التغريب ) في مجتمعات المسلمين، لا سمح الله، سيزداد خطر هذه الأمراض، وتزداد عقابيلها؛ وكل هذه الأمراض تزيد من مصائب المسلمين وبؤسهم وتخلفهم وتحتاج لعلاج سريع
=============
الأولويات في العمل الصحي
الأولويات في العمل الصحي
إذا كان مليونان من أصل أحد عشر مليون وليد سنوياً يموتون في الشرق الأوسط المسلم بسبب الإنتانات التي يمكن الوقاية منها (نصفهم يموتون بأمراض الإسهال وسوء التغذية ).
وإذا كان مليون طفل يموتون كل عام في أفريقيا من مرض الملاريا، وهناك مجال للوقاية من هذا المرض، فلا حاجة للتساؤل إذن عن الأولويات.. إنها في الوقاية من هذه الأمراض: بالتحصين،
إذا وجد، والتغذية الصحية، وتحسين صحة البيئة، ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وتصريف الفضلات والقمامة بالأسلوب الفني اللازم، والتوعية الصحية، ومكافحة الأمراض السارية المتوطنة على مستوى صحة العامة. وكل هذه النشاطات ـ تقريباً ـ تندرج تحت عنوان كبير هو: خدمات الصحة العامة، ومن أبرز ميادينها الطب الوقائي.
إلاّ أن أولوياتنا في العالم المسلم (مقلوبة ) لسوء الحظ(1 )، وهذا ليس حكراً على ديار المسلمين وحدها، بل هو عارض عام في العالم (النامي ) ـ المتخلف ،؛ ففي كل هذا العالم المتخلف نجد خدمات الصحة العامة، عادة، ضعيفة محصورة في المراكز الحضرية، تشكو من عدم الاهتمام الجاد بها، ومن عدم وجود المخصصات المالية والموارد اللازمة والأطُر الفنية المدربة، والتخطيط الصحي الواعي. ويكتسح (الطب العلاجي ) أكثر جوانب الميزانيتين ـ العادية والإنمائية ـ؛ ولهذا الواقع المؤسف خلفيات مادية ونفسية وسياسية وأنانية:
ومهما كان النظام القائم في العالم (النامي ) يفكر المسؤولون أولاً، وقبل كل شيء، بتثبيت دعائم وجودهم على رأس الهرم الحاكم.. بالطرق المتاحة؛ ومن أهم أجهزة السلطة وسائل الإعلام مقروءة و(مرئية ) ومسموعة؛ ولا غبار على الدعاية لإنجازات الدولة في كل ميدان..، فلنر ماذا يمكن أن يستفاد من الدعاية في ميدان وزارة الصحة ـ وهي أضعف الوزارات وزناً اعتبارياً ومالياً ـ في العالم النامي..
إذا بُني مركز صحي يروج له بكل وسائل الإعلام ويظهر كواقع حسي ملموس و(إنجاز مرئي )؛ وإذا اشتُريت معدات طبية غالية الثمن دقيقة الصنع ـ من الخارج طبعاً، ودعونا من الحديث عن حدودية استعمالاتها وانعدام صيانتها، وهذا ما يحدث عادة ـ فهذه الآلات أشياء يمكن لعامة الناس أن يروها مباشرة على التليفزيون ويكون لها تأثير نفسي يستفيد منه المسؤول دعاية لتدعيم مركزه الانتخابي ـ إذا جرى انتخاب ـ فشراء آلات الطب العلاجي المعقدة الشكل تسجل في قائمة المنجزات..
أما الطلب الوقائي ونشاطاته فليس له ولها ـ في الواقع ـ التأثير النفسي المطلوب: إذا أذيع مثلاً، أن أطفال الريف قد لُقّحوا ضد مرض شلل الأطفال وقاية لهم من إصابة محتملة في قابل أيامهم.. فليس في ذلك أمر ملموس مادي مرئي يمكن للمسؤولين أن يعرضوا نتائجه ـ وهي في بطن الغيب ـ في التليفزيون كما يعرضون الرئة الاصطناعية مثلاً أو يعرضون جناحاً جديداً شُيد حديثاً في مستشفى العاصمة ـ حتى ولو أن الجناح هذا قد أقيم دون تخطيط مسبق لتجهيزه بالأطر الفنية المدربة والأجهزة اللازمة.. ولا حتى رصد له المال اللازم لتسييره في العمل اليومي ـ؛ وليس هناك أي تفكير جاد في أن (درهم وقاية خير من قنطار علاج ).. هي حكمة لا تزال قائمة، وأن مصاريف الطب العلاجي تفوق تكاليف الطب الوقائي، وأن نجاح الوقاية يوفر نفقات كثيرة من مصاريف الطب العلاجي بتخفيف الأمراض التي تستخدم الأسرَّة في المشافي؛ وأي طالب اقتصاد مبتدئ يعلم أن المردود الاقتصادي على المدى الطويل أكثر بكثير في الطب الوقائي والخدمات الصحية.
إلاّ أن (مراكز النفوذ ) هي عادة في المدن، وتتألف من الفئات الموسرة ـ حلالاً أو حراماً ـ وهي التي تستفيد من تركيز الخدمات العلاجية في المدن على حساب حياة الملايين من أبناء الريف الفقير، وسكان الريف، بالمناسبة ، يشكلون في بعض ديار المسلمين أكثر من 87% من مجموع السكان.
وَيُضَحّى دائماً بالعلم والمعرفة والخبرة والتجربة الطويلة على مذبح الولاء.. الولاء لأولى الأمر، وتستفحل (هجرة الأدمغة ) ويسود حينذاك الجهل.. ومن مظاهره الفشل المتلاحق في جميع ميادين النشاطات الحياتية ومنها، طبعاً، النشاطات الصحية.
وحتى في مجال الطب العلاجي يفتقد الفقراء في كثير من ديار المسلمين الإخلاص في العاملين بهذه الخدمات، ويفتقدون الأدوية في المراكز الطبية.. والتمريض في المشافي ونظافة اليد في الإداريين.
ويسمع المسلمون حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
(تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له دواء إلاّ الهرم ) [رواه أحمد وأبو داود والترميذي ].(9/37)
ويريدون أن يقتدوا بسنة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم فلا يجد أكثرهم ـ الآن ـ المال لدفع أجور التداوي المرتفعة، هذا إذا وُجدت مؤسسات التداوي أصلاً في مناطقهم. واسألوا أبناء ريف (موريتانيا ) أو (بنغلادش ) أو (نيجيريا ) أو (الصومال ) أو (تشاد ).. مثلاً هل يجدون فرصة للتداوي عندما يمرضون ـ وهذا هو حالهم أغلب أيام السنة ـ ؟ اللهم إلاّ إذا لهثوا خلف المراكز التنصيرية، بل الواقع أن المنصِّرين هم الذين يلهثون خلف المحتاجين والمرضى والمعذبين والجائعين والمستضعفين المسحوقين واللاجئين المحرومين لتضميد الجراح وإطعام الجياع وكساء العراة، وإعطاء المحتاج، وإغداق المال بلا حساب.. وهكذا يغمرونهم (بالإحسان )!!
ومنذ أواسط السبعينيات كان للكنيسة لجان تنسيق تخطط، مع الحكومات الوطنية، الخدمات الطبية في ست دول أفريقية على الأقل، منها (نيجيريا ) ذات الغالبية المسلمة وأكثر دول أفريقيا سكاناً(2 ).
الضعف البشري
والمرض يجعل الإنسان قلقاً خائفاً لا يتردد في قبول المساعدة من أية يد تمتد إليه واعدة بإقالته من عثرته وشفائه من آلامه الجسدية والنفسية معاً.
ولقد أدرك المنُصرون هذه الحقائق منذ زمن بعيد وأتقنوا هذه اللعبة وتفننوا في استغلال هذا الضعف البشري الظاهر في كثير من ديار المسلمين في آسيا وأفريقيا، وحوَّلوا، عن طريقه، أعداداً كبيرة من المحرومين المسلمين عن دينهم.
(يذكر تقرير حديث من إندونيسيا أنه خلال العقدين الأخيرين ـ أي خلال عشرين عاماً فقط ـ أنشأت الأقلية النصرانية هناك من المستشفيات ما فاق في عدده مؤسسات الأغلبية الساحقة من المسلمين، حتى إن جمعية الإنجيل الثانية أعلنت عام 1976م عن تنصير 000ر4000 شخص، وتلا ذلك نبأ وكالة (اليونايتد برس) أن 000ر500ر3 (ثلاثة ملايين ونصف مليون) من المسلمين قد تنصروا خلال ثلاث سنوات ) (3 ).
وألفت النظر هنا إلى الأمر الهام التالي: إذا استطاع المسلم الأمي أن يقاطع مدارس المنصِّرين وفضَّل البقاء جاهلاً على أن يبيع دينه بدنياه، كما حدث لكثير من مسلمي نيجيريا مثلاً؛ وإذا استطاع المسلم الفقير مقاومة إغراء المال والرفاه الذي يؤمنونه له ولعائلته إذا اتَّبع ملتهم،.. فإن المسلم المريض لا يستطيع رفض اليد الرحيمة ـ ظاهرا ً ـ تمتد إليه هؤلاء المنصِّرين لتمسح جراحه وتنهي عذابه.. ثم تحوله لوجهها.! وليس من المنطق والمعقول والعدل أن ننتظر من إنسان أن يرقى بروحه ومشاعره وأفكاره وإيمانه إلى المستوى الإسلامي الرفيع ما لم تتوفر له حاجاته الأساسية من غذاء وكساء وصحة وتعليم وسكن وعمل.
ومن نافلة القول أن أذكر أن المسلم الصحيح القوي يستشعر عزته، كمسلم، أكثر بكثير من المسلم الفقير الضعيف الجائع الذي يشكو من علل كثيرة في جسمه.. هذا إذا افترضنا جدلاً أن المسلم المحروم يستطيع أصلاً الشعور بكل معاني الإسلام السامية؛ وعندما تنتهي آلامه ويشعر بالصحة والقوة يستطيع حينذاك الإحساس العميق بكرامته كإنسان كرّمه الله حين جعله الخليفة في الأرض؛ ومن هنا نرى أن ضعف المجتمعات المسلمة وهوانها على الأعداء راجع أكثره لفقدانها للحصانة الإسلامية روحاً وجسداً: فالجهل والانحراف والخرافة والإذلال والاستبداد السياسي من جهة، والفقر والمرض والجوع من جهة أخرى .
والتكافل الإسلامي الذي هو أصلاً فرض على الفرد وأولي الأمر، في إطار الأمة، يصبح الآن، أيضاً، ضرورة استراتيجية ـ بلغة العصر ـ وسلاحاً فعَّالاً للدفاع عن عقيدة المسلمين ووجودهم الكريم، ومواجهة المحاولات الخبيثة المستمرة التي يتعرضون لها.
التعامل مع الواقع الأليم
يُضيق كثير من مسلمي العصر مفهوم (العبادات ) فيقصرونه على إقامة الشعائر، أما (المعاملات ) وهي جماع النشاطات الحياتية في هذه الدنيا الفانية،.. فلا ترقى في مستويات اهتمامهم إلي منزلة العبادات مع أنها التطبيق العملي للإيمان الواعي الذي وقر في القلب وصدّقه العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين المعاملة ).
العبادات في الإسلام أوسع وأشمل مفهوماً وإطاراً، فكل عمل حسن أريد به وجه الله، هو نوع من العبادة، ولقد ضرب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المثل حين فضّل الأخ العامل على أخيه الزاهد الذي لا يفارق المسجد ويعيش عالة على أخيه، حين قال ما معناه: أخوه أعبد أو أتقى منه .
والعدل وتوخّيه والظلم واجتنابه ومكافحته من أسس التعامل الإسلامي: أمرٌ بمعروف ونهي عن منكر، فإذا وُجد المنكر يجب تقويمه باليد أولاً.. فإن لم تكن استطاعة فباللسان.. وإلاّ فبأضعف الإيمان .. بالقلب.
والظلم بأشكاله منكر سواء أكان في فقدان المساواة ـ والناس سواسية كأسنان المشط ـ أو في انعدام الحرية ( ويولد الناس في الأصل أحراراً كما قال الخليفة العادل عمر رضي الله عنه )، أو في تسلط الحكام المستبدين، أو في احتكار السلع والحاجيات الضرورية للناس، أو في امتيازات خاصة بفئة أو طبقة أو لون أو عرق.
يقول الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) والتكافل الإسلامي واجب في إطار الأمة على الفرد وعلى الجماعة، فإذا لم يقم.. فهذا تكذيب بالدين:
(أريت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدُعُّ اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين ) وينذر الله المرائين الذين يؤدون بعض العبادات.. ويفعلون عكس غاياتها في معاملاتهم:
(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون )
( الماعون 1-7 ).
والمؤمن الواعي هو الإنسان المطمئن الذي لا يخاف مكافحة الشرور ويسهم في عمل الخير، يؤدي فروض عبادته لله ويؤدى حق المحرومين المعلوم في ماله:
(إنَّ الإنسان خُلق هلوعاً . إذا مسهُ الشرُّ جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعاً. إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم )
(المعارج: 19 ـ 25 ).
مواصفات المؤمنين الأتقياء المحسنين معروفة وثوابهم في الآخرة معروف
(إنَّ المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون . وبالأسحارِ هُم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:15 ـ19 ).والله يحب عياله من الخلق، بقدر محبتهم ومنفعتهم لبعضهم بعضا، قال عليه الصلاة والسلام:
(الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله )، لذا إذا افتُقد التكافل الإسلامي في بيئته أو مجتمع أو حي أو عَرضَةٍ فإن هذا (خروج ) من الإيمان، إلى درجة أن المسؤولين عنه تبرأ منهم ذمة الله، كما أسلفت:
(والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع ـ وهو يدري ـ ). ( أيما أهل عَرضَةٍ أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ) [الحاكم ]
(إن اللهجة الشديدة المنذرة بالخروج عن الإيمان لم تستعمل بحق مرتكبي الكبائر كشرب الخمر والزنى، كما استعملت هنا بحق هؤلاء، وذلك مما يدل على عظم مسؤولية المجتمع كله إذا وجد فيه فقراء معدمون لا ينهض أحد بأمرهم؛ وإن هذه الظاهرة ـ أعني إهمال المجتمع لمن فيه من الفقراء والمحتاجين والعجزة المضطرين والمساكين المعوزين وأمثالهم ـ تعتبر (جريمة ) أعظم من جرائم الزنى وشرب الخمر.. التي هي من الكبائر، وسكوت المسلمين على ظلم أغنيائهم وتحكمهم، مع يسارهم وترفهم، من الكبائر العظمى كذلك، خاصة إذا كان السكوت من دعاة الدين وعلماء المسلمين ) (4 ).(9/38)
والشيخ حسن البنا رائد الحركات الإسلامية المعاصرة ـ رضي الله عنه وأجزل ثوابه ـ لم يقتصر في قوله وعمله على العقائد، والعبادات ـ بالمفهوم الضيِّق ـ بل اهتم بأمور المسلمين كلها فأقام المؤسسات الاقتصادية والمشاريع التعاونية وفتح المدارس والمعاهد وأنشأ المستوصفات والمشافي ودرَّب الشباب على الإخشيشان والكفاح وواجه الظلم بأنواعه والظالمين حتى استشهد برصاصهم..
فما بال أقوام يهتمون اليوم ببعض الجزئيات على حساب المقاصد للشريعة، ولا يولون القدْر نفسه من الاهتمام للتأسي بأفعال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأعماله وتعامله اليومي مع الناس، وهو سيد البشر جميعاً في أخلاقه وصفاته زكَّاه الله في محكم كتابه: (وإنك لعلى خُلُقٍ عَظيمٍ ).
واليوم هناك عشرات الملايين من المسلمين الجائعين المرضى الأميين في ديار مصابة بالجدب والقحط والجفاف والأوبئة والحرمان التام، وكلهم من المستضعفين المظلومين على أيدي أولي الأمر من ذوي القربى.. وعلى أيدي الأجانب دولاً وشركات وجمعيات مشبوهة، وهم ينتظرون من إخوانهم العون والإسعاف والمؤاساة
فلماذا يخفف بعضهم من التركيز على العدل الاجتماعي والتكافل الإسلامي ولا يبرزها في دعوته؟
أو يظن هؤلاء الإخوة أن الزاد الروحي يكفي لإطعام هؤلاء الجائعين ؟ إن للجسد حقاً مثلما للنفس حقاً كما علَّمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ألا يعلم هؤلاء الإخوة أنهم يتركون، بذلك، هذه الساحة الاجتماعية للأفاكين من الملحدين الذين يهتمون، ظاهراً، بالفقراء ويعدونهم ـ كذباًـ بجنة ماركسية مستقبلية إذا ردّدوا كالببغاوات: (إن الدين أفيون الشعوب )؛ بل يترك هؤلاء الإخوة الساحة نفسها للأجانب و(الخواجات ) في جمعيات رحمة! وإسعاف وتوزيع أغذية وأدوية، وتأسيس رياض أطفال وثانويات بل وجامعات، وإقامة مستشفيايٍ وعيادات ومآوي عجزة، ونوادٍ اجتماعية وإغداق المساعدات المالية الضخمة في قروض زراعية وهبات وغيرها(5 ).
ويعترض بعضهم على الدعوة للانخراط في العمل الاجتماعي بحجة أن هذا هو جزء من كل ويقولون: يجب التركيز على قيام الدولة الإسلامية، ومتى حدث ذلك.. تحل هذه المشكلات حلاً عادلاً؛ إلاّ أن العمل لقيام الحكم الإسلامي لا يمنع قيام عمل اجتماعي مواكب ربما أسهم في تسريع قيام هذا الحكم؛ وإلى أن يقوم الحكم الإسلامي في سائر دار الإسلام ماذا يرتئي هؤلاء الإخوة فعله لعشرات ملايين المحرومين ؟ إنهم بالفعل يتركونهم ـ حتى الآن ـ للجمعيات الأجنبية، أما سمعوا بالخواجا (أندرية سابيه ) البلجيكي الذي تبنى (30903 ) من أطفال المسلمين الصوماليين ؟(6 ) .
ولقد نشرت إحدى الصحف العربية الرصينة (7) أربعة عن هذا الموضوع وذكرت أن البليجيكي (أندرية سابيه ) طالب حكومته بعلاوات عائلية تبلغ (37 مليون دولار )، وتقول الصحيفة بالحرف الواحد: والأغرب من هذا كله أن الدولة الأفريقية لم تكذب الموضوع بل وصل الأمر إلى أن أعلنت سفارتها في بروكسل أن ( أندريه سابيه ) سيمنح المواطنة الفخرية، بل وتفكر هذه الدولة الأفريقية صاحبة الأطفال في ترشيح ( أندريه سابيه ) الذي يعمل لحساب شركة بلجيكية ترتبط بعقود في أفريقيا، لجائزة (نوبل ) !! وتختم الجريدة الموضوع بقولها:
(وكل هذه الجهود الجماعية والفردية في تغيير اتجاهات الإفريقيين وتحولهم إلى الأديان والعقائد غير الإسلامية ليست بهدف تحقيق الذات أو إشباع حاجة إنسانية ).
والطريف أن الجريدة بدأت مقالها هذا بالمقطع التالي:
( المسلمون في أفريقيا يعانون معاناة شديدة، فهناك محاولات كثير ة للضغط على بعض هذه الجماعات الإسلامية في مناطق العوز والجفاف لتغيير اتجاهاتهم الإسلامية، فقد اشتدت أزمة الجوع في أفريقيا وزاد التخلف في مناطق متسعة بدرجة مخيفة لدرجة أن بعض الدول (النيجر) لا تستوعب في مدارسها سوى واحد بالمائة فقط من شبابها الذين وصلوا إلى سن التعليم الثانوي.. وزادت شدة الفقر.. وكل هذا يؤثر على استقلال هذه الجماعات في ممارستها عقائدها بحرية.. وقامت المنظمات الأهلية الغربية والأفراد بما عجزت عنه الأمم المتحدة!!.. وحدثت عملية جلب صغار اللاجئين من أفريقيا إلى الغرب وتعليمهم وتدريبهم ثم عودتهم بعد سنوات إلى مواطنهم الأصلية وهم يحملون في داخلهم علامات ذات صبغة رسمية وتعاقدية مع الغرب ليكونوا دعاة مخلصين ينشرون معلوماتهم المغلوطة وغير الصحيحة عن الإسلام والعرب ).
وتتابع الجريدة: (وفي قلب الريف الانكليزي تتم هذه الممارسات بشكل رسمي الآن فقد تم إنشاء (قرية الأطفال الدولية) في (سيد لسكومب) وتستقبل القرية آلاف الفقراء من الأطفال، بالاتفاق مع ذويهم، والذين لا يقل سنهم عن عشر سنوات ويشترط أن يمكث الأطفال في هذه القرية لمدة عشر سنوات). ثم تضيف الصحيفة: ( وفي الولايات المتحدة يمكن للمواطن أن يشتري طفلاً من أفريقيا، وسعر الطفل يتراوح ما بين ألفي دولار وثلاثة آلاف وخمسمائة دولار حسب العمر، ومصدر هؤلاء الأطفال مؤسسة تدعى مؤسسة (أمل) التي تقوم بشراء الأطفال من المستشفيات أو الملاجىء أو دور التربية في البلاد التي تعاني من المجاعة والفقر ثم تقوم بتصديرهم لبيعهم في العالم الجديد ) انتهى كلام الجريدة.
فما بال أقوام آخرين يوجهون جهودهم المالية، في مؤسساتهم المسلمة، إلى بلاد الغرب: أوروبا وأمريكا، لدعم جاليات مسلمة هناك واكثر هذه الجاليات مكتفية مادياً وذات دخل كبير (8)، أليس الأولى الدفاع عن كرامة المسلمين المحرومين وحمايتهم من الغزو الأجنبي في عقر دارهم؛ وتركيز الدعوة والخدمات الاجتماعية على عشرات ملايين المسلمين المرضى والجياع في أفريقيا وآسيا عوضاً عن صرف المال الكثير على اجتماعات ولقاءات وزيارات وحفلات في الخارج يكثر فيها الكلام ويقل بعدها العمل الهادف الدؤوب المبرمج، ولا يستفيد من هذه الأموال المصروفة إلا نفر قليل من المرتزقة الذين يعيشون على الإسلام ولا يعيشونه؟
وما بال قوم آخرين ـ أفراداً ومؤسسات ـ يدفعون للمستشرقين ـ وجلهم من الصهاينة ـ في ميزانيات إقامة دوائر للدراسات العربية والإسلامية !!! إنهم يستعملون المعلومات المجموعة من هذه الدراسات لمزيد من التخريب والتفتيت المجتمعي وزيادة الانقسامات بين المسلمين، أفراداً وحكومات، وأكثر دراساتهم عن : الفرق والطوائف والشيع في تاريخ الإسلام !!
أما آن الأوان لتحديد الأولويات في العمل للإسلام ووضع المال والجهد فيما يفيد ويجدي آنياً ومستقبليا ؟ من المفارقات المؤسفة أن هناك مؤسسات وجمعيات مخلصة تعي هذه البديهيات إلا أنها محدودة الدخل والمال، وهناك مؤسسات وجمعيات قادرة ـ مالياً ـ إلا أنها،على ما يبدو، لم تستوعب بعد هذه الأولويات..!
(المؤمن كيِّس فطن ) و(لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ) هكذا علّمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. فاللهم اجعل قومنا جميعاً ممن يتحلون بالكياسة والفطانة لكي لا يلدغوا من الجحر نفسه مرات عدّة !
============
الخاتمة
* التخلف المادي الذي يخيم على المجتمعات المسلمة هو نتيجة طبيعية للتخلف الفكري؛ نحن بحاجة ماسة لإيمان عميق وإخلاص كامل مع وعي وبصيرة، ومتى تيسر ذلك يأتي التخطيط الدقيق والعلم النافع والعمل المستمر.. والتكافل المنشود، حينئذ نكسر طوق التخلف الذي يحيط بنا؛ ولكن.. لن يتغير حالنا.. إلى أن نغير نحن ما بنا: (إنّ اللّه لا يُغيَّرُ ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ).(9/39)
* التخلف الصحي هو صورة من التخلف العام، ومكافحته تكون بمكافحة التخلف على مستويات كافة وفي سائر الميادين؛ فلن تتحسن السوية الصحية ما لم تتحسن السوية التربوية والغذائية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في آن واحد معاً. والجواب على تحدي الواقع المرضي هو في التنمية الشاملة كما يقول البروفيسور (آبل سميث ): ( في الفترة ما بين 1962 م ـ 1966م أجريت دراسة لتقويم آثار برامج المراكز الصحية على صحة الريف، وكانت هذه المراكز توفر الخدمات العلاجية والوقائية؛ وكانت النتيجة تحسناً جزئياً في السوية الصحية للأطفال ـ دون سن الخامسة ـ إلا أن هذا التحسن لم يدم، واستُخلص من هذه الدراسة أنه يجب تناول موضوع التخلف بأسلوب شامل، فتحسين السوية الصحية يحتاج لتحسين صحة البيئة، نظافة وسكناً وطرقاً ومجار ير، ورفع السوية الاقتصادية والاجتماعيةـ تربية وتثقيفا ً) (1 ).
* والتنمية، في مفهومنا الإسلامي ، تستهدف الإنسان أولاً وأخيراً،فهي ليست تنمية غربية (رأسمالية أو ماركسية )، بل تنمية إسلامية الأسلوب والغاية. فالتنمية الرأسمالية تؤدي إلى مجتمعات استهلاكية فارغة الفؤاد، قلقة النفس، تجعل التكنولوجيا إلهها المعبود، وهي أنانية تعيش بحبوحتها المادية على حساب بؤس الآخرين وفقرهم : والتنمية والنمو على كل حال، ليس هدفاً وغاية بل وسيلة لحياة إنسانية أفضل (والتطلع إلى موقف إنساني غير خاضع للتكنولوجيا.) ليس رجعية ولا انهزامية بل موقف تقدمي وجهد بطولي ) (2 ). والخرافة التي تقول ( النمو هو التقدم ) ما هي إلا(توراة الدمار ) كما يقول: ( ستيوارت أودال ). والأسلوب الماركسي المادي يطعم الإنسان في الوقت نفسه الذي يقتل فيه إنسانيته، ويقود إلى ظهور قطعان بشرية مسلوبة الإرادة والحرية، يتلاعب بها الحزب ( الراعي ) كيف يشاء؛ (لذا فنظم النمو الاقتصادي المتقاربة في الغرب تنظر للعالم من الزاوية نفسها، لا تصلح للمجتمع الإسلامي )(4 ).
* نريد تنمية مدروسة واقعية توضح الأولويات وتبني النتائج على المقدمات، وتتمسك بالعدل بين الناس في المغنم والمغرم، في الإنتاج والتوزيع؛ ( ففي حالات كثيرة تكون التنمية الاقتصادية سبباً في زيادة فقر الفقراء ) (5 ).
* نريد تنمية يشترك فيها الجميع حكاماً ومحكومين: في التخطيط والتنفيذ والمال والجهد، فإقالة المسلمين من عثراتهم واجب على الفرد القادرـ بعلمه وماله ووقته ـ مثلما هي واجب على أولى الأمر، ولا يكفي الطلب إلى أولي الأمر أن يعملوا بينما يقعد غيرهم متفرجين .. إذا أُفسح لهم مجال العمل.
* العمل الاجتماعي ـ بمفهومه الواسع الشامل، هو عبادة رفعية القدر، على حد تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي، والرسول الكريم يعلمنا (إن الله يريد من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه )، لذا يجب أن نتقنه حباً بإحسان العبادة، وحباً بالأجر والثواب، وحبّاً برفع الظلم والفاقة عن أبناء الأمّة المحرومين وإعادة الأمن والطمأنينة إلى نفوسهم وأبدانهم.
* على الدعاة العالمين أن يكونوا في مقدمة الركب لأن التخلف بأشكاله، يشكل ثغوراً إسلامية مفتوحة يجب المرابطة فيها، ودعوة الآخرين للمشاركة بهذا الفرض، فمن خلال التكافل وتوفير الحقوق الأساسية لأخوتنا المسلمين المحرومين وتحسين حالهم، ندفع أيضاً الأخطار التي تستهدف الوجود الإسلامي كله كأمة فاعلة في التاريخ الإنساني.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ بإذن الله ـ(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( صدق الله العظيم ).
==============(9/40)
محنة المسلم مع حضارة عصره
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالعقل، وزكاه بالعبادة، ومنحه القدرة والإرادة، وفرض عليه التفكير، وجعل من خطاب التكليف ضرورة النظر في السموات والأرض، واكتشاف قوانين التسخير، والسنن التي تحكم الحياة والأحياء، والتعرف على الأسباب لاتباعها، وحسن التعامل معها، وبذلك يكون أهلاً للتمكين في الأرض، وأداة أمانة الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله، وحمل رسالة الشهادة والقيادة.
الحمد لله القائل في كتابه، حكاية عن ذي القرنين: (إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ً)، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، القائل:(لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ). وبعد:
فهذا كتاب الأمة الحادي والعشرون: (دراسة في البناء الحضاري ـ محنة المسلم مع حضارة عصره ـ )، للدكتور محمود محمد سفر، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وأبعاد تكليفها، ومسؤوليتها في الشهادة والقيادة، وانتهت، إلى صورة محزنة من التدين، بعيداً عن التبصر بحركة التاريخ، وإدراك سنة التداول الحضاري.
ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة كثيراً إذا قلنا: إن الأمة المسلمة اليوم، تعيش مرحلة (القصعة ) ـ وهي مرحلة الوهن الحضاري بأبعادها كلها ـ التي أخبر عنها الصادق المصدوق بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها .. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكن غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت ).
فمؤشرات الوهن الحضاري، ومسبباته، كما أشار إليها الحديث: حب الدنيا الذي يعني العب من متعها واللهاث وراء زينتها، واستهلاك أشيائها، والتزاحم على الحقوق. ويمكن تلخيص ذلك كله بالانتهاء إلى مرحلة الاستهلاك وظهور الإنسان الاستهلاكي الذي يتجاوز حقه في الأخذ، ولا يحسّ بواجبه. أما كراهية الموت الذي هو العنصر الآخر للوهن الحضاري، فيعني: انكماش فكرة الاحتساب ، وغياب روح الإيثار والتضحية ، وعدم استشعار الواجب، والقعود عن العمل والإنتاج، والاقتصار على الاستهلاك.
فالوهن الحضاري ، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يتلخص ببروز الإنسان المستهلك الذي لا يهمه إلا حقه، وغياب الإنسان المنتج الذي لا يرى إلا واجبه.
وسوف لا يكون أي نهوض أو بناء، إلا بتصويب تلك المعادلة، والخروج من مرحلة (القصعة )، ومعالجة الإصابة بالوهن، وذلك إنما يكون بإعادة صياغة الشخصية المسلمة اليوم، والارتفاع بها إلى سوية الإنسان المنتج، وتغييب صورة الإنسان المستهلك عن ضميرها، ومناخها الثقافي، والتركيز على إنسان الواجبات، لا إنسان الحقوق .. إنسان البقاء والخلود بالعمل والإنتاج، لا إنسان الزوال والاستمتاع والاستهلاك، الذي يدرك مدلول قوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة:38 ).
ونرى أنه لابد لنا بداية من التفريق بين الموت الحضاري، الذي يعني انقراض الأمم وهلاكها، وبين الوهن الحضاري الذي يعني المرض، أو الوباء الاجتماعي الذي يعتري روح الأمة، فيطفئ فعاليتها، ويقعد بها عن بلوغ أهدافها، وحمل رسالتها. فالمؤشرات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تدل على حلول المرض وليس نزول الموت، لذلك تبقى إمكانية النهوض كامنة ومستمرة، لكن لابد لها من معالجة صحيحة، كما لا بد للأمة ـ في مرحلة الوهن ـ من محرضات، ومنبهات حضارية، تنبعث من داخلها على يد النخبة من أبنائها الشرعيين الذين أخبر الرسول الخاتم عنهم بأنهم الطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.
إنها الطائفة المعافاة، التي تشكل خميرة النهوض، ووسيلة التواصل الحضاري، والتي لم تلحقها إصابة الوهن، وليست جزءاً من الاستنقاع والركود الذي لحق عموم الأمة، لكنها النخبة التي تستشعر مرحلة القصعة بآكليها، وموكليها، وتفكر في سبل الخروج ..
وما أشرنا إليه، من أن الوهن الحضاري، مرض قابل للشفاء، وأنه لا يعني بحال من الأحوال الموت الميئوس، يؤكد استقراء التاريخ، وما فيه من أخبار الأمم السائدة والبائدة، وقراءة الواقع الذي نحن عليه، ذلك أن مواثيق الله تعالى لهذه الأمة، صاحبة الرسالة الخالدة ، ومبشرات المعصوم صلى الله عليه وسلم، يؤكدان أن قابلية النهوض كامنة، ودائمة، ومستمرة، إذا أبصرنا شروطه ومقوماته، وتحققنا بأسباب التمكين في الأرض، وأحسنا التعامل مع السنن الجارية. فغلبة الأعداء موقوتة، وتسلطهم علينا ليس تسلك استئصال، وإنما هي عقوبات يوقعها الله علينا بسبب معاصينا السياسية، والثقافية، والفكرية والحضارية، ويبقى لهذه العقوبات دور المنبه الحضاري، والتحدي المستفز، ذلك أن الصعوبات هي في الحقيقة تحدٍ خلاّق، لأنه يستحث الأمة ويستفزها للرد عليه.
ولعل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يرويه (ثوبان ) كبير مغزى في هذا المجال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها، ومغاربها، ) (انظر ما تمتلك الرسالة الخاتمة من رصيد حضاري وتجربة وعبرة، من لدن آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ) وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوي ـ جمع ـ لي منها. وأعطيت الكنزين، الأحمر والأبيض ـ معادن الأرض وثرواتها ـ (وهذا يفسر ما يعج به العالم الإسلامي من الثروات والمعادن والخامات ) وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ومجاعة مهلكة ـ وألا يسلط عليهم عدواناً من سوى أنفسهم، (قل هو من عند أنفسكم ) فيستبيح بيضتهم .
وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً، فإنه لا يرد! إني أعطيتك لأمتك، ألا أهلكهم بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها، أو من بين أقطارها ـ يعني: أهل المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً.
والحديث ظاهر في أن مصائبنا من عند أنفسنا، وأن تسلط العدو علينا ليس تسلط استئصال، وأن أخطر الإصابات الحضارية، هي التي تلحق بأنفسنا، وأرواحنا، وأخلاقنا، وبنائنا الداخلي. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن علاج الوهن الحضاري إنما يبحث عنه في الداخل الإسلامي، ومن المستحيل في ضوء هدي النبوة، واستقراء التاريخ، وقراءة الواقع، استيراد علاج الوهن من الخارج الإسلامي، فالاستيراد، والاستدعاء الحضري، إنما معالجة للعرض، وليس لسبب المرض، وما نظنه ونتظاهر به من وهم العافية، بسبب الاستيراد، إنما هو إخفاء وتمهيد للمرض، وليس علاجاً له.
ونحب أن نعلن أنه على الرغم من الواقع الذي نعاني منه، والذي أسميناه بالوهن الحضاري، الذي يحكم مرحلة القصعة التي أشرنا إليها، فإننا لسنا مع أصحاب النظرة التشاؤمية والذين وصلوا إلى مرحلة الإعياء.
الذين يرون استحالة اللحاق بقافلة الحضارة، لبعد الشقة وطول المسافة، وعمق الفجوة، فقعدوا عن إعداد العدة (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ).
كما أننا ـ في الوقت نفسه ـ لسنا مع أصحاب الأماني ، وأحلام اليقظة (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يُجْزَ به )، الذين يقضون حياتهم في غرفة الانتظار، ينتظرون سقوط الحضارة لمصلحته من خلال بعض ما يقرأون عن أمراضها دون مكابدة، ومجاهدة، ومجاهدة، وتهيؤ.
ولا مع أولئك الذين يظنون أن الموضوع كله، يمكن أن يحسم بمجرد رفع درجات التوتر الروحي، والتوثب الإيماني السلبي، بعيداً عن ساحة المجاهدة والابتلاء، ويؤثرون الانسحاب من معركة الحضارة، على الرغم من اعتقادنا أن التوثب الروحي والتوتر الإيماني، هو الشرط الضروري للتحصين، حتى لا يكون السقوط في زخرف الحضارة وزينتها أثناء المعركة والمواجهة، لكننا نرى أنه لابد من النزول إلى الساحة والمواجهة، بالصبر والمصابرة والتعرف على الأسباب الموصلة، وتحري الصواب، مع الإخلاص وطلب التوفيق من الله.
ولا مع أولئك الذين يستغنون بالتنظير والفلسفة البادرة، عن الممارسة والتدريب، واكتساب الخبرة الميدانية، وتحديد مواطن القصور، ودراسة أسباب التقصير.
ولا مع الذين، ينظرون التواصل الحضاري الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) برؤية نصفية: من أن القيام على الحق مقتصر على الجانب العبادي الروحي السلبي، دون إدراك أن من مقتضى القيام على الحق، إدراك سنن التسخير، ومعرفة الأسباب التي تنظم الحياة، وحسن التعامل معها. بل إننا نرى أن التفكير والملاحظة، والاختيار، والتجريب، واكتشاف قوانين التسخير، ومعرفة التمكين في الأرض، من لوازم العبادة ومقومات العبودية، والارتفاع إلى مستوى الخطاب الإسلامي الذي نلمحه في آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى التفكير، وتؤكد على التسخير.
ولا مع الذين يتقنون فن الجلد، والتوهين لهذه الأمة؛ ولا يميزون بين الجلد والنقد البناء، والمناصحة، ويعجزون عن إثارة دوافع الخير، وعوامل النمو فيها، ويعنيهم البحث في أسباب الفرقة أكثر مما يعنيهم التأكيد على عوامل التوحد،لأنهم ومهما كانت دعاواهم عريضة، يبقون العقبة الحضارية التي لابد من اقتحامها، حسبهم أنهم يعيشون في الخارج الإسلامي بأفكارهم ، ومسالكهم ورؤيتهم في النهوض والإصلاح فأنى لهم أن تقبل شهادتهم الحضارية على هذه الأمة! خاصة والمتأمل في تاريخ هذه الأمة الطويل، يرى أن حركات الانبعاث، والتجديد كلها، إنما جاءت من الداخل الإسلامي.
إن تفاؤلنا بقدرة هذه الأمة على النهوض، والبناء الحضاري، وتجاوز حالة الوهن، والهوان، التي هي عليها اليوم، لا يمثل بالنسبة لنا خياراً، بقدر ما هو دين وعقيدة، مستمدة من مواثيق الله، ومبشرات الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقراء التواصل الحضاري التاريخي لهذه الأمة، واستعصائها على التذويب، والتمويت والإبادة، لأنها تمتلك خميرة البقاء والنهوض، لكن ذلك لم يمنع من وقوعها في الوهن الحضاري، الذي نلمح مظاهره اليوم على أكثر من صعيد.(9/41)
والادعاء بأن سبب التخلف هو التشبث بالماضي، والافتخار بهن يحمل في طياته الكثير من التجني. وفي اعتقادنا أن الأمة المسلمة اليوم، لو استطاعت أن تتمثل شخصيتها الحضارية التاريخية، وتستوعب إنجاز السلف على مختلف الأصعدة، لأدركت رسالتها، واسشعرت مسؤولياتها، وكان حالها على غير ما هي عليه اليوم، لكننا نرى أن انتسابنا إلى الماضي،، دعوى بلا دليل، بل نستطيع أن نقول: إن الافتخار بإنجاز الأجداد، والهروب إلى ملاجئهم والاحتماء بها، دون القدرة على تعدية الرؤية وصناعة الحضارة، ضرب من التوبيخ لأنفسنا، ولون من الإصابة التي تعني أول ما تعني، أن هذه الأمة أحالت نفسها على التقاعد، وأصبحت تستهويها قصص الماضين والذكريات التي تستردها لتزجية الوقت وشغل أوقات الفراغ، وهي بذلك تقع خارج الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وإنها لو أدركت ماضيها، واستوعبته، وكانت ابناً شرعياً له، لصنعت الحاضر، واستشرفت آفاق المستقبل.
من هنا نقول: بأن انتسابنا للماضي مشكوك فيه، إنه لون من الانحياز العاطفي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فما الفرق بين من يجانب الماضي ومن ينتصر له، إذا كان الإثنان يعيشان خارج الماضي والحاضر والمستقبل؟ ولعل الكثير من معاركنا وصراعاتنا التي نعنون لها بالتراث والمعاصرة، تدور في الحقيقة خارج الماضي، وخارج الحاضر معاً، فلا التراثي استفاد من زاد التراث واستطاع توظيفه بشكل صحيح، ولا المعاصر أدرك مقتضيات العصر وأحسن التعامل معها، إنها معارك (حضارية ) بغير خصومة حقيقية.
ولعل من مظاهر الوهن الحضاري أيضاً الذي تعيشه الأمة: هذا الاضطراب في الموازين، والخلط في الأوراق. فمن أبجديات المنطق الأولى، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وأن من أبرز سمات العصر الذي نعيشه، تقسيم العمل والتخصص، بل التخصص الدقيق في فروع المعرفة الواحدة، ليكون بعد ذلك الإنجاز والإتقان، ومن ثم الوصول إلى فجائيات الإبداع. أما في أمة الوهن الحضاري، فلا يزال الرجل الملحمة الذي يدعي أنه يفهم بكل شيء هو الشخص المميز. ولا نخشى أن نقول هنا: بأن مثل هذا الادعاء في هذا العصر يعني أن صاحبه لا يفهم في شيء، فكثير من المشتغلين بالقضية العلمية التجريبية يتقحمون ساحة التخصص الشرعي الدقيق، التي لا يبلغها إلا من أفنى عمره في بحثها. وعلى الجانب الآخر نرى بعض المشتغلين بالأمور الشرعية والفقهية يصرون على اقتحام ساحات العلوم التجريبية الدقيقة، التي يقتضي إدراك بعضها، عمر فرد وعلم أفراد، ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون أداء رسالتهم، أو الارتقاء بوسائل دعوتهم، وتحضير الأمة لممارسة دورها الحضاري المفقود.
والحقيقة أن هذا الخلط، لون من الثقافة المغشوشة، والعجز عن تجاوز النزعة الفردية إلى روح الفريق والجماعة والعمل المؤسسي، والإنجاز المشترك، لكل في ميدانه، وبذلك لا تقتصر الإصابة الحضارية على مجال دون سواه، كما أن الارتقاء الحضاري، لا يأتي إلا متكاملاً في الاجتهاد الشرعي والإنجاز العلمي على حد سواء.
وقد يكون من مظاهر الوهن الحضاري، على مستوى الإبداع العلمي والتقني: انعدام دور المثقفين والمفكرين والأدباء، في تصميم الذهنية ورعاية القابلية، وتحضير المناخ، وتشكيل العقلية القادرة على حسن التفكير والارتقاء بالتخصص، واكتشاف قوانين التسخير، والتعرف على الأسباب الموصلة إلى التمكين في الأرض وبناء الحضارة. ونستطيع أن نقول: بأننا نعاني من غياب كامل لما يمكن أن نسميه الأدب العلمي أو الثقافة العلمية، أو الثقافة التقنية، وتكاد تكون المكتبة الإسلامية اليوم، شبه خالية من الدراسات العلمية المتخصصة التي تغري بالبحوث وتسهم بعملية النهوض الحضاري وتشكل دليلاً لها، وقد أصبحت هذه الدراسات اليوم لازمه، بعد أن تجاوزنا إلى حد ما مرحلة مواجهة التبعية وضرورة الفكر التعبوي الذي مرت بها أدبيات الحركة الإسلامية الحديثة.
ومن مظاهر الوهن الحضاري: ما نشاهده اليوم عند الذين يحاولون تحديث مجتمعاتهم، والإفادة من تجارب الأمم الأخرى، من التوهم بأن الحضارة إنما تكون بتكديس المنتجات؛ وكيف انقلبت النتائج عندهم مقدمات، وصارت المقدمات نتائج، فلم يدركوا أن الحضارة هي التي تصنع المنتجات، وليست المنتجات هي التي تصنع حاضرة، وأن الإكثار من استيراد المنتجات الحضارية، والعبّ والاستهلاك منها بدون ضوابط، يساهم بتكريس الوهن، ويقتل الفاعلية ويؤدي إلى الركود والاستنقاع الحضاري. فكثير من المنتجات الحضارية في العالم الآخر، إنما اقتضتها الحاجة والضرورة، وانعدام اليد العاملة، وأهمية اختزال الوقت والجهد، وتوفيرهما ووضعهما في آفاق أخرى، اكثر جدوى في نظرهم؛ بينما نجد تلك المنتجات تزيد عند أمم الوهن الحضاري من مساحة وقت الفراغ، وتفتح على الإنسان سبل غواية الشيطان، وتحلق بالفرد العطالة التي تأتي بالطاقات الفائضة الكثيرة، فيكون وقته عبئا عليه، يورثه الكآبة، والملل، والضياع، والعبث، وما إلى ذلك بحيث نعيش أمراض الحضارة، مضافة إلى أمراضنا، في الوقت الذي لا يمكننا التحقق بمنجزاتها.
وأكبر مثال على ذلك، ما نراه اليوم في بعض بلاد المسلمين، التي استطاعت من خلال إمكاناتها، إحضار منتجات الحضارة كلها، ومع ذلك لم يغن الاستيراد عن إنسانها شيئا، بل لعل هذه المنتجات دفعته إلى لون من العطالة، والاستزادة من الاستهلاك.
ولئن أمكننا استيراد الآلات، والمصانع، والأدوات، لكن لا يمكننا أبدا استيراد البشر. من هنا نرى أنه لابد من التفكير السليم في حل هذه المعادلة.
إن عملية الاستيراد للآلة، والفني، والعامل، سوف يُبقي إنساننا في موقعه، مهما كان التظاهر بغير ذلك. وقد لا نستغرب كثيراً عندما نرى الإنسان في عالمنا الإسلامي اليوم يجوب محلات بيع الساعات المتعددة، ويدفع الأثمان الباهظة للحصول على ساعة منضبطة، ودقيقة جداً، وبعد ذلك نجد وقته كله يمضغه الضياع، فلا قيمة له، ولا إنجاز فيه. إنه اكتفى بالساعة الضابطة، عن إدراك قيمة الوقت المنتج، ونسي أنه وضعها في اليد العاطلة! وقد يكون هذا وأمثاله، من المناظر المألوفة كثيراً في حياتنا. إن السبب كله يكمن في أننا نواجه مشاكلنا بمنطق الأشياء، لا بمنطق الأفكار، ونظن أنها تحل بالاستزادة منها، لذلك نبقى عاجزين عن التصرف في الإمكانات التي نمتلكها، وعن التبصر بها.
يضاف إلى أن لكل أمة معادلتها الاجتماعية، وعمرها الحضاري، وأولوياتها المطلوبة، الأمر الذي لابد أن يؤخذ بالحسبان أثناء عملية الاستيراد لمنتجات الحضارة. ونحن في هذا لا ندعو إلى إلغاء الإفادة من المنتجات الحضارية للأمم الأخرى، لأن ذلك أقرب إلى الاستحالة، وإنما ندعو إلى ترشيد الاستيراد، وتجسير العلاقة بين منتجات الحضارة، ومعادلة الأمة الاجتماعية، ذلك أن مخاطر المنتجات في عالم الاستهلاك، تختلف عن مخاطرها في عالم الإنتاج.(9/42)
ومن مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعاني منه الأمة المسلة: غياب الحس الديني، أي غياب فكرة الثواب والعقاب، عن أجواء البحث العلمي، حتى وصل الأمر ببعض العقول الكليلة من المسلمين إلى اعتبار هذه البحوث والتخصصات، من علوم الكفار التي تصرف الإنسان عن التعبد إلى الله بطلب العلم الشرعي. لقد سيطر هذا المناخ الثقافي المغشوش على العقل الإسلامي ردحاً من الزمن، حتى فاتنا الركب، ولا تزال رواسب هذا المناخ حاضرة، في نفوس الكثير منا حتى اليوم، على الرغم من المعاناة الشديدة، والمحنة الحضارية التي نعيشها بسبب ذلك. وليس غريبا أن نرى كثيراً ممن اختاروا طريق العلوم التجريبية من المتدينين أو من الذين استدركوا أمر دينهم بعد الولوج في التخصص، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب اختيارهم، لتوهمهم أن هذا اللون من الاختصاص، لا يقع في دائرة العبادة والفريضة، أو على الأقل هو من نظرهم خارج منطقة الكسب الديني، لذلك نجد بعضهم يتحول عن ممارسة تخصصه، أو ينقطع عنه، ويخلي مكانه للعمل في مجال الدعوة إلى الله، وكأن الكسب العلمي، الذي يؤدي إلى تمكين الأمة، والوصول بها إلى مرحلة الشهادة على الناس وقيادتهم وفق منهج الله ليس من الدعوة!!
ولعل الأغرب من ذلك، أن يعتقد بعضنا، بأن الله جعل الكفار في خدمتنا، لذلك فهم يتولون الصناعة لاستهلاكنا! أما نحن فنتفرغ للعلوم الشرعية، وكأن معرفة الحرفة والصنعة والإنتاج، ليس من العلوم الإسلامية، والتكاليف الشرعية! وما من الأنبياء نبي إلا كانت له حرفة، وهم في موقع الأسوة والقدوة ـ ولا ندري كيف يفهمون قوله تعالى في بيان نعمه على سيدنا داود (( وأَلنَّا له الحديد ))، (( أن اعمل سابغات )) ، ((وقدر في السرد )) ، ((وعلمناه صنعة لبوس لكم )). وكيف يقرأون قصة ذي القرنين في القرآن الذي مكن الله له في الأرض باتباعه للأسباب: (( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطرا )) (الكهف : 96 ).
ومن مظاهر الوهن الحضاري أيضاً: أن الإصابة لم تقتصر على العلوم التجريبية كما يتوهم بعضهم، وإنما نعتقد أن الإصابة في العلوم التجريبية كانت ثمرة للإصابة في العلوم الشرعية نفسها، التي انتهت إلى لون من التقليد والمحاكاة والشرح تارة والاختصار أخرى، مما عزل هذه العلوم عن حياة الناس، وجعل منها تجريدات ذهنية بعيدة عن الوقع، وأفقدها الكثير من أبعادها الرحبة التي لو وجدت، فلا أن تثمر في مجال العلوم الأخرى، كما كان الحال في فترات التألق الحضاري والثقافي الإسلامي، حيث جاء الإبداع في مختلف المجالات، كما أن التخلف اليوم يعم مختلف المجالات.
ولم يكن نصيب العلوم الاجتماعية بأحسن حالاً من العلوم التجريبية وهي ميدان هام وهام جداً في عملية الابتعاث الحضاري، فعلوم التاريخ والاجتماع والتربية والنفس والسياسة إلخ، هي من لوازم عملية الدعوة والبلاغ المبين وإعادة صياغة الإنسان وتشكيله، وإلا فكيف ندعو إلى الله ونرقى بالناس ونحن نعيش في عالم نجهل إنسانه ولا نمتلك الوسائل المدروسة لخطابه، والمعرفة الدقيقة لتاريخه ومعتقداته ولا ندرك خصائصه وكينونته البشرية؟! وإذا كان محل التكنولوجيا التي نتكلم عن ضرورة استنباتها، أو استيعابها، والإبداع فيها، هو وسائل الإنسان، فإن محل العلوم الاجتماعية هو الإنسان نفسه، الذي لابد من إعادة بنائه وتشكيله أولاً، حيث لا فائدة لوجود العربة بدون الحصان. وإذا وجد الإنسان السوي، وجدت الحضارة. فالإنسان لا يُستورد. وما الفائدة إذ استوردنا أشياء الإنسان ووسائله، وخسرنا الإنسان نفسه، لذلك نرى أنه لابد من إعادة النسغ الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ووصل ما انقطع وتوقف، واستشعار أهمية ذلك ودوره بالقدر نفسه الذي نبحث فيه قضية العلوم التقنية أو يزيد.
وقد تكون المشكلة أن إنسان التخلف لا يبصر إلا أشياء الحضارة، ويصعب عليه إبصار أفكارها.
ونعتقد أن تخلفنا في العلوم الإجتماعية اليوم لا يقل عن تخلفنا في العلوم التقنية، أن لم يكن أخطر، لذلك نرى أنه لابد أن نعود لاستئناف البحث في العلوم الاجتماعية برؤية إسلامية، أو أن نعيد العلوم الاجتماعية إلى إطارها الإسلامي، أي لابد أن تمتد المدرسة الخلدونية، وتستمر، وبذلك وحده نكون قادرين على إدراك قوانين التسخير، وميكانيكية عملها، والتفسير الحضاري لها، وخطورة أهداف ومنطلقات وحكمة تلك العلوم، ودورها الهام في تشكيل ثقافة الإنسان، وتأهيله للنهوض الحضاري من خلال رؤية إسلامية.
ومن مظاهر الوهن الحضاري: الخلط العجيب بين المبادئ والقيم الثابتة التي وردت في الكتاب والسنة وبين البرامج والأوعية الزمنية التي تعني الاجتهاد والنظر البشري في إنزال تلك المبادئ على حياة الناس بما يتوافق مع ظروف كل عصر وبيئة والظن بأن التأثم هو في الخروج على برامج واجتهادات السابقين لما لاءم عصرهم.
إن هذا الخلط العجيب أدى إلى الانغلاق والركود، ووضع حاجزاً نفسياً أمام العقل المسلم، أقعده عن الإبداع والاجتهاد، لما يوافق عصره، كما حال بينه وبين الإفادة من تجارب الآخرين، في مجال النظم والبرامج. ونعتقد أن الإسلام أرسى القيم والمبادئ والموجهات الأساسية، التي لابد أن تضبط السير، وتحذر من الانحراف والانزلاق. أما إبداع النظم والبرامج، فهو من اختصاص العقل الإنساني، ونعتقد أن من أهم عوامل التخلف، إن لم يكن أهمها، هو هذا الحجر وتلك المحاصرة التي أوقعناها على أنفسنا فحالت بيننا وبين الكسب والتصرف والحركة بما يلائم عصرنا.
ونحب أن نؤكد أننا باستعراضنا لبعض مظاهر الوهن الحضاري، الذي تعيشه أمتنا، إنما أردنا لفت النظر إلى بعض جوانب المحنة التي نعاني منها في الداخل الإسلامي، لأننا نعتقد أن الحس بالمعاناة هو سبب للتأمل في الدواء، والوقوف على عتبة النهوض وأن تحسيس الأمة بالأزمة هو إدخال لها في مرحلة القلق السوي على مصيرها.
فالصعوبات التي تواجه الأمة هي الحقيقة مبشرات، والحس بالصعوبة واستشعار أبعادها مؤشر على الدخول في هم الكفاح، والمواجهة الحضارية، واكتشاف مواطن الخلل، لأن الصعوبات والمحن، دليل الخلل في البناء الاجتماعي، ومن شروط الاستجابة التحدي. والله سبحانه وتعالى يقول: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ).
وبعد:
فلا شك أن الكتاب الذي نقدمه اليوم، للأخ الدكتور محمود محمد سفر، يمكن أن يعتبر إلى حدٍ بعيد، خطاباً أو دليلاً للنهوض الحضاري، إن صح التعبير، لأن مؤلفه ـ فيما نحسب ـ يعيش هم الأمة المسلمة العام، ويشعر بعمق الأزمة، ويحاول فتح النوافذ في النفق المظلم، لعل ذلك يوفر الجهود، ويبصر بالوجهة الصحيحة. ويمكن أن ندرك أهمية الموضوعات التي يعرض لها الأخ الدكتور محمود ويوليها همه واهتمامه إذا استعرضنا عناوين الكتب والدراسات التي قدمها للمكتبة الحضارية الإسلامية، ومن أهمها: الإقلاع الحضاري، إنتاجية مجتمع، الحضارة تحدٍ، الإعلام موقف، (ثغرة في الطريق المسدود ـ بالمشاركة ).(9/43)
لقد آثر الموقع الفاعل والمؤثر على الرغم من المشقة التي تحيط بمثل هذه القضايا والمشكلات، القائمة أصلاً على النظر والتأمل، والمقارنة، والمقايسة، والمناقشة، والاستيعاب، في محاولة لما نسميه شمول الرؤية الإسلامية وتعديتها، لتستوعب أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، إلى جانب القدرة على التبادل المعرفي، وهضم الإنتاج العالمي،والإفادة منه في ضوء دراية وفهم بعيداً عن التناول السهل الذي يقوم على مجرد الاغتراف، والنقل، والتكرار، والخطابيات التي باتت تثقل الذهن الإسلامي دون كبير فائدة، مما يسهم بتكريس الواقع ويحول دون أي أمل في النهوض.
ويأتي اعتزازنا بهذا الكتاب، لما يشكل من إضافة نوعية في إطار السلسلة، سوف يساهم إن شاء الله، برسم الطريق للخروج من أزمة التخلف الحضاري، على مستوى الأفراد والمؤسسات، والمعاهد والجامعات، بإحساس وإدراك متميزين يمكن أن يسمى (الفقه الحضاري ).
ولا يفوتنا، بمناسبة هذا اللون من النظر والدراسة أن نذكر بالأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، الذي كان له فضل السبق والريادة، للمدرسة الحضارية الإسلامية الحديثة، لأننا نرى أنه لابد لهذا المنهج من أن يؤصل في حياة المسلمين، ونرى أن المزيد من هذه الدراسات يشكل علامة صحة وصحوة بحد ذاته.
ونعتقد أن الذهنية الإسلامية لم تأخذ بعد حقها المطلوب من منهج الأستاذ مالك، بسبب من النزعات الحزبية التعصبية التي حالت دون وصول منهجه إلى القاعدة الإسلامية العريضة، ولم تدرك المعالم الواضحة التي أقامها بين ما يمكن أن يسمى التفسير الحضاري لواقع المسلمين، وبين ما يمكن أن نسميه التسويغ الذي وقع به كثيرون.
وهذا لا يعني أننا ندعي العصمة للأستاذ مالك، ولا لغيره، فكما أن للريادة تألقها وإبداعها فإن لها أخطاءها ومنزلقاتها الخطيرة، ويبقى الخطأ من جبلة البشر، والمعصوم من عصمه الله.
وقد يستغرب بعض المهتمين بأمر الدعوة الإسلامية اليوم، مثل هذه الدراسات الإسلامية، لأنهم اعتادوا لوناً من الكتابة والخطابة والإثارة، التي ترضي العواطف، وتحرك المشاعر، أكثر مما تهدي العقل، وبالتالي فلا يعتبرون الكتاب إسلامياً ما لم يحمّل بنبرات الوعظ، والإرشاد، والترغيب، والترهيب المباشر، أما ما وراء ذلك من البحث في وسائل إعمار الأرض، والقيام بأعباء أمانة الاستخلاف الإنساني فيبقى خارج اهتمامهم، وتقديرهم، وبذلك ينفصل الدين عن الحياة عملياً، وإن كنا نرفضه نظرياً، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في النية، والصواب في العمل، إنه على كل شيء قدير.
============
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: فهذا كتاب مفتوح إلى شعوب الأمة الإسلامية عامة، التي خصها الله بالشهادة على الأمم السابقة يوم البعث وقيام الأشهاد، كتاب لا يدعي أن فيه فصل الخطاب، بقدر ما هو محاولة صادقة لتحديد مسار للتقدم والنهوض، بعد أن تعددت بالمسلمين الطرق، وتاهت بهم خطاهم بين اليمين واليسار، والشرق والغرب، فقد آن لهم أن يتأكدوا أن عماد نهضتهم، وسند تقدمهم هو إيمانهم المطلق، بأن لا هادي لهم من الله إلا كتابه وسنة نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه.
جرب المسلمون في الخمسين سنة الأخيرة ـ حتى لا نوغل في التاريخ، وحتى يكون الحديث من واقع مشاهدات الجيل الحاضر ـ شتى السبل، ومختلف الطرق، لكي ينهضوا ويستعيدوا مجدهم التليد، ونشط المنظرون والمفكرون من رجال العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة وغيرهم في رسم المسارات، وتحديد المتطلبات، ووضع الاشتراطات، وتراكمت الخطط، وتعددت الرؤى، وتفرقت السبل، حتى لكأننا نشهد مبارزة حامية الوطيس، استهدفت تجاذب الأمة بشعوبها المتعددة بين النظريات، و ((الأيدولوجيات )).
الكل مجتهد في تحسين بضاعته، والكل جاد في عرض أفكاره، فمن منكفئ لا يرى أبعد من أنفه، ولا يشعر بفعل الزمن من حوله، إلى ((ليبرالي )) متحرر يسعى إلى التبعية الحضارية، بانسلاخ تام من ذاته، وهروب كامل من تراثه، إلى علماني متعسف يستعدي العالم على دينه وتراث أمته، إلى يساري مخدوع سجن نفسه وعقله في فكر غيره، ولبس رداء سواه.
كان هذا حال الأمة لا يتغير ولا يتبدل، والمسلم العادي يرقب بحذر وريبة تارة، وبحسن الظن ، وطيب سريرة، تارة أخرى، لكنه ـ على أي حال ـ فقد الثقة أو كاد في كل ما سمع ويسمع، وأخذ يبحث بجدية وحزم وإصرار عمن يهديه إلى طريق الرشد، ويصرفه عن طرق التيه، ويخرجه من محنته مع حضارة عصره.. فقد طال انتظاره.
ثم كان أن توالت النكبات والأزمات والهزائم والنكسات على الأمة، بأيدي من وعدوها بالتقدم والنهضة والتطور، إن هى سارت في طريقهم، والتحقت بركابهم، واعتنقت مبادئهم، والتزمت بمنهجهم. لقد امتحن الله صبر أمتنا، وقوة تمسكها بعقيدتها بأن سلط عليها من أبنائها لفترة من الزمن بعض تجار المبادئ المنحرفة، ومروجي العقائد الضالة، وسدنة الأيدولوجيات الهدامة، تسلط وعظ وإرشاد، وتنبيه وتحذير وإيقاظ، فجربوا فيها، وعليها، وبها، أفكارهم وضلالاتهم كلها، فلم يفلحوا في زحزحتها عن دينها، وظلت متمسكة به، رغم التعسف والظلم والطغيان والضلال.
واكتشف المسلم ذاته ، وعرف طريقه، وظهرت ملامح صحوة إسلامية فطرية، وعفوية طبيعية، وتلقائية مدهشة، ما كان للفئات الخاذلة والجماعة المُضَلِّة، أن تترك لهذه الملامح أن تنضج، وللنور أن ينبثق، وللصحوة أن تنشط، فأخذت تشوه ما فيها من صدق العودة إلى الله، وحسن الالتزام بحبله عن عمد وتربص، ولكن الله غالب على أمره.
فظل الضمير المسلم يقظا يرقب، وحياً يشاهد، يرقب الأحداث تمور من حوله، ويشاهد الأحوال تمر من أمامه، حتى وإن غاب الرشد، وازداد التيه، وسوف يظل هكذا يتنامى في حيويته، ويتعمق بنظرته باحثاً عن المخرج.
والحديث هنا بطبيعة الحال عن الضمير الملتزم بإطلاق اللفظ؛ لأن الالتزام في الحياة هو زاد مسيرتها، ونبراس طريقها، ونعنى بالالتزام: التمسك بهدي الله، وباتباع ما أمر، والكف عن ما نهى.
ونحسب أن في هذا الكتاب إصراراً على اصطحاب الأمة للصالح من قيمتها والمستقيم من مبادئها معها، وهي تسير في مشوارها الحضاري، نحو مبتغاها من التقدم والنهضة والسمو، وحرصاً على تمسك الأمة بجوهر الحضارة ومعدنها، والزهد في قشورها ومظهرها؛ لأن الإصرار على قيم الإسلام ومبادئه عصمة من الله للأمة من الزلل، وفي الحرص على جوهر الحضارة ومعدنها ملاذاً للأمة من الخطأ والسقوط.
يبدأ الكتاب في فصله الأول، بشرح لطبيعة الضغط الحضاري الذي تتعرض له أمتنا، وتخضع له باستجابة عجيبة، مع رصد لوسائله، وتوضيح لطرق تسربه، وقنوات انسيابه في مجتمعاتنا تمهيد لتعريف ما أسميناه بـ((محنة المسلم مع حضارة عصره )).
في الفصل الثاني حيث حددت دوائر المحنة التي تأخذ بخناق مجتمعاتنا، وشروط الخروج منها.(9/44)
وفي الفصل الثالث، طرحنا سؤالاً هاماً، هو عنوان الفصل: هل إلى خروج من سبيل؟ بقصد الإجابة عليه، وهو محاولة لرسم طريق النهوض والتطور، وهو اجتهاد لتحديد كيفية البدء وفلسفته، مع استحضار تراث أمتنا الناصع، بصفحاته المشرقة، في هذا المضمار، الأمر الذي من شأنه أن يقوي العزيمة، ويشد الأزر، مع التأكيد على أن الحضارة المعاصرة، اتخذت من تقنياتها المتقدمة، وخدماتها المتطورة، ومنتوجاتها المتنوعة، ، وأنظمتها المبدعة، أسلحة قوية وفتاكة للسيطرة على الشعوب النامية، التي تأتي شعوب أمتنا الإسلامية في المقدمة منها، وليس لنا من بديل سوى المزاحمة في كل ذلك، آخذين في الاعتبار أن التقنية هي وقود الحركة، وزاد الطريق، وقد اقتضى الأمر التوسع جزئيا في دارسة واقع التقنية في مجتمعاتنا، والتأثيرات المتعددة التي تساعد على نموها واضطرادها، والسلبيات المختلفة التي مازالت تقف عائقا أمام انطلاق مركبتها، فاستحقت بهذا أن تستقل بالفصل الرابع كاملاً للحديث عن استنبات التقنية المتطورة في مجتمعاتنا وتنميتها. يحمل هذا الفصل قناعة ذاتية ثابتة بأن التقنية لا تنقل بشراء المعدات والأجهزة، والمراجع والكتب مهما أغدقت شعوبنا عليها من المال، ولكنها معاناة، ومجاهدة، والتزام، وإصرار، وثبات من جميع قطاعات المجتمع، ثم أعقب هذا التدليل على ذلك بتجارب الأمم اليابانية، والغربية والأوروبية منها على وجه الخصوص، التي سبقتنا في مضمار التقدم التقني، لاستخلاص العبر منها، ثم تلا هذا تعداد ضروريات وأسس استنبات التقنية المعاصرة، واستيعابها مع ذكر الشروط اللازمة لتحقيقها.
أما الفصل الأخير، فهو اقتراح منهج للخروج بأمتنا من المحنة الحضارية، وتحديد الركائز التي تعد بحق عدة الخروج، إذا ما عقدت الأمة العزم عليه.
وبعد: فما كان لهذا الكتاب أن يجد مكانه بين يدي القارئ بهذه الصورة، التي هو عليها ـ والتي أرجو الله أن يكون حسنة تحسب في موازين، كاتبها، وأن يجد لدى القارئ القبول، فيقبل عليه بحسن الظن الذي تجمعت به أفكاره ورتبت به فصوله ـ أقول: ما كان لهذا الكتاب أن يظهر، لولا الشعور والمعايشة، لما تكابده أمتنا المسلمة من ألم ومعاناة، تكاد تصل إلى مرحلة الإحباط، لولا استشراف الرجاء في الله، ثم الثقة في قدرة أمتنا على النهوض من كبوتها، واستعادة أمجادها، وسلطان قوتها بالإيمان والعلم، الإيمان بالله ، ثم العلم النافع.
ويظل هذا الكتاب في اعتقاد مؤلفه بداية على الطريق الشاق، طريق النهضة والتقدم الذي نسأل الله أن يعين أمتنا على السير عليه بزاد يقينها، وصدق معرفتها، والله يتولانا جميعاً بفضله، ويشملنا برحمته وهو من وراء القصد.
الظهران: غرة ربيع الآخر 1409هـ // 10 نوفمبر 1988م
الدكتور: محمود محمد سفر
============
هندسة الضغط الحضاري المعاصر
حضارة العصر: أين نحن منها؟
إن الحديث على الحضارة هو حديث الساعة، بل هو حديث العصر، ولغته، وأسلوبه.
والحضارة في مفهومها العام: هي سلوك ونظام، وقيم ومعان، وأسس ومبادئ، ومنظومات وطبيعة حياة، يزخر بها مجتمع ما، وتسيطر على مجريات الأحداث فيه، يدعمها ويحافظ على بقائها عمل متصل، وفعالية عالية مرتفعة، يسهم فيها كل إنسان قادر مؤهل بقدر طاقته وتأهيله، وتبقى الحضارة والرقي ما بقي العمل المتصل، والعطاء المتجدد، والفعالية المرتفعة، فيتطور الفكر ويتفاعل، وتبرز المخترعات، وتتطور الاكتشافات، لتنتج أدوات تلك الحضارة ومنجزاتها.
وحضارة الغرب: هي حضارة العصر التي بسطت رواقها، ومدت آثارها في كل محفل وناد وبقعة من أرض الله، بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو يساراً إلا ويجدها قد احتوته من كل جانب، وحاصرته في كل اتجاه. وأخذت عليه طريقه، فرداً وأمة… في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، وصناعته، وتجارته، وزراعته، ومواصلاته، وعتاده، بل وكل شيء في حله، وفي ترحاله … بحيث لو نادى الإنسان المسلم على وجه الخصوص ، أو هتف بكل ما حوله أن يعود من حيث أتى، لفجع من هول النتيجة حيث يفاجأ بأنه وحده، وليس من حوله مما صنعت يداه شيء.
شكّل هذا كله ضغطاً على إنسان العصر، بدا واضحاً على مسيرة وأسلوب حياة إنسان المجتمعات النامية عامة، والمسلم خاصة، حتى لكأنّ الأمر غدا ظاهرة يتكرر حدوثها كل عشية وضحاها في مجتمعاتنا المسلمة، لتعيش بيننا ، ونتعامل معها، وبها، ولها.
الظاهرة الحضارية
دعونا نعرّف هذه الظاهرة، التي يمكن أن نطلق عليها ((ظاهرة الضغط الحضاري )) ثم نناقش تكرار حدوثها، وكيفيته، بعد أن نعقد مقارنة بينها وبين إحدى الظواهر الطبيعية في الكون.
الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا هي وجود حضارة ضاغطة، ومجتمع مضغوط، وميل حضاري (GRADIENT ) (* ) وكما هي عادة الظواهر الطبيعية كلها، عندما يوجد ميل في أي خاصية من خواص النظام الطبيعي، فإن ذلك يحدث تدفقا طبيعيا من الجهة التي تعلو فيها هذا الخاصية إلى الجهة التي تتدنى فيها.
الظاهرة الحرارية
إن استعراض الظاهرة الحرارية في النظام الطبيعي، وما يحدث لها، سوف يعين على عقد مقارنة بين الظاهرة الحرارية الطبيعية، والأخرى الحضارية الاجتماعية.
نعلم مما تعلمناه في دروس العلوم العامة أن انتقال الحرارة من وسط (MEDIUM ) إلى آخر يحدث عبر طرق مختلفة إذا ما توفر ميل حراري (TEMPRATURE GRADIENT ) ويصاحب طرق الانتقال تلك أحداث مختلفة نذكر أبرزها فيما يلي:
الحدث الأول:
يرتبط بانتقال الحرارة بالتوصيل وهو ما يسمى الجزيئي (MOLE- COULERCONDUCTION ) ويعني أن جُزَيْئاً يتحرك فيحرك جُزَئيْاً معه؛ فيحرك جُزَيْئاً ثانياً ويحرك جُزَيْئاً ثالثا فتظل هناك حركة جزئيات، ومن ثم تنتقل الحرارة عن هذا الطريق من الوسط الأعلى حرارة إلى الوسط الأدنى منه حرارة.
الحدث الثاني:
يصحاب انتقال الحرارة بالحمل أو الانتقال الحملي ( CONVECTION OF HEAT ) وهذا الحدث يعني علميا ـ كما هو معروف ـ أن ينتقل جزء من الوسط من مكان إلى مكان آخر حاملا معه الحرارة إلى المكان الجديد.
الحدث الثالث:
هو انتقال الحرارة بالإشعاع، وهذا يعني انتقال الحرارة عبر موجات كهرومغناطيسية.
المقارنة بين الظاهرتين
تلك باختصار ظاهرة الانتقال الحراري، من وسط ذي حرارة مرتفعة، إلى وسط آخر أقل منه حرارة. فماذا عن الظاهرة الحضارية وطرق انتقالها من مجتمع متقدم ذي حضارة باهرة، مسيطرة، إلى مجتمع متخلف اتكالي، يعيش عالة على منتوجات، وأفكار وعادات وأشياء الحضارة المسيطرة عليه بنظمها الحاكمة؟!
هل تظل وسائل النقل في الظاهرتين واحدة؟ وكيف؟!
نعم إن الطرق الثلاثة للانتقال بالتوصيل، والحمل، والإشعاع، تتكرر أيضا مع الظاهرة الحضارية التي بين أيدينا.
فبالاتصال (التوصيل ) تنتقل كثير من العادات الأجنبية عبر تفاعل أفراد المجتمع المضغوط، مع الحضارة الضاغطة، فيحمل معهم بعض عادات هذه الحضارة، وتقاليدها، ويحملونها إلى غيرهم، وغيرهم يحملها إلى غيره، ومن ثم تنتقل كثير من العادات والتقاليد عبر هذه الطريقة الانتقالية من المجتمع الحضاري الضاغط إلى المجتمع المضغوط (الأقل حضارة ).
وهناك أيضا انتقال حضاري عن طريق الحمل، وهذا الظاهرة تبدو واضحة فيمن يأتي إلى بلداننا من الأجانب مصطحبين معهم ـ بطبيعة الحال ـ عاداتهم، وتقاليدهم، يختلطون بنا، ونتأثر بهم، ويتأثرون بنا.(9/45)
وهناك أيضا انتقال عن طريق الإشعاع الفكري أو الإشعاع الحضاري، وهذا يحدث بتأثير متبادل بيننا وبين الحضارة الضاغطة، ومن ثم نبدأ في تقليد أهلها، وممارسة عاداتهم، وكما هو معتاد فإننا ونحن المغلوبين حضاريا مولعون بتقليد الغالب في عادات وتقاليد. والعادات والتقاليد هي أسرع الأشياء تسرباً وانقالاً، خصوصاً تلك المتعلقة بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، ولعلنا نذكر في هذا المقام قول ابن خلدون: (إن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب في عاداته، وتقاليده، وأسلوب حياته ).
ولسائل أي يسأل: ماعمق التأثير الحضاري بأصنافه الثلاثة، على مجتمع أقل تحضراً من مجتمع متقدم حضاريا؟ وبتعبير آخر في هذه التأثيرات الثلاثة التي كان فيها تشبيه ما بين الانتقال الحراري والانتقال الحضاري: أيهما يكون أكثر تأثيراً، وأكثر عمقاً، وأكثر تقبلا في المجتمع.
الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل، أو الانتقال بالإشعاع؟
من الممكن القول: إن تأثير الانتقال الإشعاعي يكون غالباً على قطاع المثقفين، بينما الانتقال الاتصالي يتم من خلال وسائل الإعلام العامة، والسفر، والسياحة، وهذا يعني أن دائرة تأثيره تكون أوسع لتشمل القطاع الأكبر من المجتمع، مثقفين، وغير مثقفين، وتبقى طريقة الانتقال الحملي، وهذا يتم من خلال العمالة، أو الاستعمار، أو الاختلاط البشري، وتمازج الحضارات والثقافات المختلفة في مجتمع واحد.
إن التعرف على كيفية الانتقال الحضاري، وكيفية حدوثه، وميكانيكيته في الحالات الثلاث، أمر هام ويتطلب الكثير من التأمل، والتبصر، فيما يمكن أن يسمى بعلم الاتصال الحضاري، ويدخل في مضماره انتشار المبتدعات (COMMUNICATION OF INNOVATIONS ) أو بتعبير آخر، كيف تنساب وتتسرب أشياء وأفكار وعادات وتقاليد جديدة في مجتمع ما؟ هل يتم هذا قهراً وقسراً وطوعاً واختياراً؟
تأثير الإعلام على الظاهرة الحضارية
إن وسائل الإعلام في المجتمعات النامية، تستطيع أن تساعد في الإجابة على هذا التساؤل، مثلما أنها قادرة على المساهمة في هذا القهر والقسر بالنسبة للأمة عموما، أو بالنسبة لتسرب حالة نفسية فيها وَلَه بتقليد الغالب والإيمان به.
إن من المشاهد في بلداننا، وجود خليط من النوعين، وكل هذا يحتاج في اعتقادنا إلى دراسة علمية معمقة، وحسبنا أن نشير هنا، إلى هيكلية الظاهرة في محاولة لوضع أسس تطبيق جديد لعلم الاتصال في قضايا الحضارة المعاصرة.
ويمكن إضافة حقيقة أخرى هي: أن قضية تسرب الحضارات، أو تمازجها، أو تأثير حضارة مسيطرة على أمة مضغوطة كرها أو طوعا، تحدث بنسب متفاوتة، وتعتمد على توافر الظروف لكل وسيلة من وسائل النقل الثلاث التي ذكرناها. فإن كان الإعلام في ذلك المجتمع نشطاً، نجد أن طريقة النقل بالاتصال تكون أكثر تأثيراً؛ لأن الإعلام عادةً ما يزين للناس حب اقتناء المنتجات الحديثة، في جميع قطاعات المجتمع، في المدن والقرى والنجوع والبدو، كما أنه قادر على أن يحسن لهم الطرائق الجديدة، في أساليب الحياة ما يرد معها من عادات جديدة تحل ((بالإزاحة )) محل عادات أخرى تندثر وتزول.
إن التسويق، والإعلام التجاري، والاتصال الجماهيري كل تلك، علوم تصب في علم يرتكز على استمالة النفس البشرية، للاهتمام بمنتج جديد، وكيفية انتشاره بين الناس، وإقبالهم عليه. وإذا كنا الآن أمام ظاهرة الحضارة الضاغطة، والحضارة المضغوطة، وتدفق الأشياء، والأفكار، والعادات عبر الحدود، بين هذه الحضارة الضاغطة، والمجتمع المضغوط، فما أجدرنا بأن ندرس تلك العلوم، ونبحث في كيفية تأثيرها على استمالة المجتمع المتخلف، لتقليد المجتمع المتقدم، في أشيائه، وأفكاره، وعاداته، على أن تكون الدراسة والبحث، من أجل تقليل تلك التأثيرات، أو تحجيمها، أو وضع قائمة أولويات لها، إن كان ولابد من الانصياع لها. تلك دعوة مفتوحة نوجهها لشباب الأمة من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية.
لنأخذ لهذا مثلا، من واقع الريف في أي بلد عربي، يعين المهتم على إدراك المشكلة وتحديد أبعادها.
كان الفلاح العربي يأوي إلى فراشه مبكراًن ويستيقظ مبكراً؛ ليذهب إلى حقله. ماذا نجد الآن؟نجده لا ينام إلا قبل الفجر بساعات، ويستيقظ بعد الشمس بساعات؛ ليفقد بذلك انشراح الصدر وبهجة الاستبشار، اللتين تحيطان بالإنسان دائما في بكوره. أثّر هذا بصورة مباشرة ليس فقط على إنتاجية ذلك الفلاح، بل أيضا على تعامله مع الأشياء من حوله، وتعامله مع مجتمعه، وتقبله للأفكار وأسلوب مواجهته لقضايا يومه، ومشكلات معاشه، شكل هذا كله خسارة كبيرة، له ولمجتمعه.
والحديث بطبيعة الحال هنا ليس عن الإنتاجية؛ لأن حديثها ذو شجون(1 ) لكن القول منصب على الظاهرة الحضارية، لهذا أشرنا إلى مثل الفلاح العربي الذي يجلس رابضا أمام التلفزيون كالمسجون، ويظل يسمع ويرى، ويتأثر بالإعلانات التجارية عن منتوجات، صنعها مجتمع غير مجتمعه، لمجتمع غير مجتمعه، فهذه خلاطة كهربائية جديدة، وتلك غسالة أوتوماتيكية، تغسل كل شيء وتجعله نظيفا، وغيرها وغيرها، فيصدق ما شاهد، ويسعى جاهدا لاقتناء تلك المنتوجات الاستهلاكية؛ لانه يريد أن يستبدل بأسلوب حياته هذا الأسلوب الجديد، الذي يراه في الإعلان، ويتحول بالتالي إلى كيان إنساني آخر؛ لأن أجهزة الإعلام تلح على أذني هذا الرجل، فيكون انتقالا قسرياً أو قهريان فإذا ذهبت الآن مثلا إلى الريف العربي وجدت أن الفلاح يقتني بجانب ماشيته أجهزة حديثة مثل الغسالة، وثلاجة ومطحنة بهارات، وخلاطة وغيرها.
ليس ثمة شكل إذن في أن الإعلام قد فتح لهذا الشخص عالماً رحباً للأشياء الزوالية، وجعله يتمادى في استخدامها، برغم، أنه قد لا يحتاجها. ومن المهم هنا، أن نؤكد حقيقة: إن عالم الأشياء الزوالية ظهر في الغرب مرادفاً لحضارة تحكم بقيمها الإنسان الغربي المتحضر ذاته، الذي لا يجد الوقت ليضيعه في طحن البهارات بهاون، فهو مشغول باستثمار وقته في أمور أهم ويترك للمطحنة الأتوماتيكية القيام بهذه المهمة، إذن فإن المنتوجات الحضارية تلك أتت ضمن معادلة اجتماعية محسوبة، للاستفادة من الوقت، وإنفاقه فيما هو نافع، ومن ثم لم يكن دور ((الأشياء الزوالية )) في حياة الإنسان الغربي ترفاً، بل هو ضروري، في حين هي في حياة الفلاح العربي ترف؛ لأنه ينام قبل الفجر بقليل، ويقوم بعد الشمس بكثير، وفي يقظته يشيع وقته. إن هذا الفلاح لا يعرف قيمة الوقت، ومن ثم فإنه ليس بحاجة إلى هذه ((الأشياء الزوالية )) وقد يكون من الخير أن يدرب يده على الطحن بالهاون.(9/46)
إن التفاوت بين الطرق الثلاثة للنقل الحضاري، تبدو واضحة في حالة النقل الإشعاعي، فإذا اخترنا عينة من البشر من الذين يرفضون الحضارة الغربية كلية وإشعاعاتها الفكرية، وينأون بأنفسهم عنها، ويضادون أفكارها وحياتها، ولا يريدون أن يتصلوا بها بسبب من الأسباب، لوجدنا أن هؤلاء الناس برغم أن الإشعاع الفكري لتلك الحضارة، لم يحدث لهم أثرا فإنهم يستخدمون أدواتها الحضارية. يركبون السيار، ويستخدمون التليفون، ويملأون بيوتهم بالأجهزة الحديثة، التي تسهل الحياة لهم، فهم برغم رفضهم للحضارة الغربية يستمتعون بمنتوجاتها وأشيائها، ناسين أو متناسين أن الإشعاع لابد أن يأتي من خلال الفكر الذي لابد أن يحدث أثره في الرأس أولا، ثم ينتقل إلى السلوك، فهم رفضوا الإشعاع وصموا آذانهم ضده، ولكن برغم ذلك يستخدمون كل شيء من خلال ظاهرة الانتقال بالتوصيل، أو الانتقال بالحمل من خلال المجتمع الذي يعيشون فيه.
إن المجتمع الذي يحيط دفعاً إلى عملية التقليد، وهذا موضوع حيوي، يحتاج إلى بحث يقضي طالب دكتوراه فيه وقته، كي يدرس بالضبط كيف تنتقل العادات والتقاليد عبر المنتوجات الحضارية من مجتمع ينتجها إلى مجتمع يستهلكها؟ وقد يقوده بحثه إلى أمر آخر هو : أي صفات الحضارة الغربية أسرع في الانتقال؟ وأهمية الإجابة على هذا السؤال تظهر عند الحديث عن التعليم والمجتمع، حيث نجد أن الحضارة الضاغطة ساعدت على تدفق أشياء وأشياء، وتدفقت معها نظم حضارية مفيدة، ومعينة لنا في حياتنا، منها نظم التعليم، حيث نقله العالم العربي من الغرب ـ مصر مثلا: نقلت نظامها التعليمي عن الإنجليز، والبلاد العربية نقلت عن مصر صورا منه، ثم نقلت بعد ذلك مباشرة من الغرب، فنظامنا التعليمي في كليته وعمومه منقول من الغرب باستثناء نظام التعليم الإسلامي التقليدي، الذي مازال قائما، وهو مجال للحديث، وجدير بالدرس ولكن في وقت آخر.
أثر نظم التعليم على الضغط الحضاري
من الملاحظ أنه رغم اتفاقنا على أن نظم التعليم في العالم العربي والإسلامي عموما، نقلت بصورة أو بأخرى من الغرب، حيث ظلت حركة تطورها بطيئة خلال السنوات الماضية، منذ عهد الاستعمار، إلا في جزئيات وقضايا صغيرة ليست مهمة ، سوف نتعرض لها بشيء من التفصيل في فصل قادم(1 )، على أنه لا حرج من حيث المبدأ أن ننقل من الغرب ما يمكن أن يعين من نظم حضارية، لكن القضية هي : أن التأثيرات الحضارية على المجتمع كبيرة، نتيجة أن نظم التعليم القائمة في بقاع شتى من عالمنا العربي بل والإسلامي واهية.
إن التعليم استثمار فيه مدخلات وله مخرجات، ولكي يكون استثماراً منتجاً ذا مردود، فإن الضخ الإنفاقي في التعليم يجب أن يقابله نوعية من الخريجين، تكون أهواؤهم وتطلعاتهم، وإعدادهم متطابقة بالضرورة مع الأشواق الروحية، والحياة الإنتاجية للأمة، بمعنى أنه لابد أن يكون هناك توافق وتناغم وتطابق وتماثل، بين الإعداد البشري للكثرة من خريجي المدارس والجامعات، والوظائف أو المهام الموجودة أمامهم على الخارطة الإنتاجية لمجتمعهم لكي يقوموا بها، ولذلك تجدنا نضع دائماً الخريجين في مواضع إحراج كبيرة جداً، نطالبهم بأشياء هم لم يُعَدُّوا لها. هذه هي القضية الأساسية، وهذا هو المحور في هذا الأمر. والمطلوب التأكيد عليه هو: أنه لا عيب في النقل، لكن العيب في أننا نقلنا ثم جمدنا. بمعنى أننا لم نطور ما نقلناه، لم نعد صياغته؛ ليتلاءم معنا بل استسلمنا لكيفيته، فتلاءمنا معه وانصعنا له.
وبالإمكان طرح القضية كالتالي:
تدفقت على مجتمعاتنا، منتوجات حضارية استهلاكية زوالية، انسجمنا معها، وأحببناها، وتمسكنا بها، ولم نجعل لأنفسنا غربالا حضاريا بيننا وبينها، حدث هذا في العالم العربي الإسلامي: فقيره، وغنيه، دون تمييز.
وفي الوقت نفسه نجد نظم التعليم التي تدفقت أيضا علينا من الغرب لم تتطور بمعدل التسارع الرهيب نفسه الذي يحدث في عالم الأشياء والمنتجات الاستهلاكية الزوالية، فأصبح المهندس الذي يتخرج من الجامعة مثلا يجد نفسه أمام مشكلة حضارية هي: أنه مطالب أن يطور نفسه ليتناغم مع عالم الأشياء الجديد، سواء من ناحية اقتنائه وتشغيله، وصيانته، أو من حيث تطويره والارتقاء بأدائه؛ ليصل المهندس به إلى القدرة على إنتاجه، غير أن هذا العالم من المنتوجات الحضارية الزوالية عالم متجدد، ومتدفق من فوق رأسه، وأمام عينيه، والنظام التعليمي لم يؤهله لهذا ولذلك تأتي هنا القضية الثانية وهي ((طبيعة التحديث في المجتمع )) التي سوف نتحدث عنها بعد قليل.
إن قضية التعامل مع المنتوجات الحضارية الحديثة سواء كانت فيديو، أو سيارة، أو أي جهاز أو مركبة، أو منتجا، قضية تحتاج إلى وقفة نستعرض من خلالها طريقة تعامل الكثير منا معها، حتى بين الشباب المثقف؛ إذ نجد أنه تعامل سطحي استخدامي استهلاكي.
نزيد الأمر تأكيداً بأنه لا عيب أن أحضر لمنزلي أحدث ما صنع الإنسان من أجهزة الفيديو مثلا؛ لكي أستفيد منها، وأوجهها كمنتج حضاري؛ للتثقيف، والترفيه، والاستفادة العلمية، غير أن الملاحظ أنه في اللحظة التي أحضر فيها هذا المنتج الحضاري إلى منزلي، تجدني، أحرص الناس على تعلم كيفية عمل الجهاز، وكيفية توقفه عن العمل، وكيفية استبدال الشريط، ولكن عندما يمتنع الجهاز عن العمل لا أستطيع أن المسه، أو أن أقترب منه.
ومردود هذا هو أنني تعاملت معه تعاملاً استهلاكياً ولم أكلف نفسي عناء البحث عن طبيعة عمل الجهاز، ولا حتى قراءة ما يأتي معه، من كتيب يبين كيفية تشغيل الدائرة الكهربائية فيه، وكيفية صيانته والعناية به. لم أحاول أن أقلب النظر في صفحات الكتيب الذي جاء مع الجهاز، وهي أولى خطوات التعامل المتحضر مع الجهاز. لكن يبدو أن ضغط الحياة وتداخل الأولويات، وعدم الاستيعاب الحضاري لهذا المنتج كمنتج؛ نتج عنه ذلك التقصير الشديد في أسلوب التعامل مع الجهاز. ويمكن أن نقدم مثالا آخر يتصل بطريقة تعامل بعض الشباب ـ ولا أقول كلهم ـ مع السيارات، تلك هي ظاهرة (التفحيط ) التي نشهدها في بعض شوارعنا في بعض مدننا، حيث يظن (المفحطون ) من الشباب أن هذا النوع من المهارة الفردية. إن هذا بالطبع سَفَه، ومضيعة للطاقة، وتقليل من فعالية السيارة ، سببه الأساسي .. أن تعامل هذا النوع من الشباب مع المركبة لم يكن تعاملا حضارياً، لأن الذي أنتجها لم ينتجها لمثل هذا التصرف المجنون. أنتجها مركبة لاستخدامها، ولم ينتجها للعبث بها بمثل هذا السفه.
طبيعة التحديث والاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة
سبقت الإشارة(1 ) إلى أن الفجوة الحضارية بين الحضارة الضاغطة والمجتمع المضغوط، تهيئ نقل عالم الأشياء بسرعة كبيرة، أكثر من أي شيء آخر، ومن هنا فإن التحديث في مجتمعاتنا أصبح يتركز في الاستعمال المكثف لمنتجات الحضارة في عالم الأشياء.
فنحن اليوم نبني بيوتنا على نسق غربي.
ونؤثثها بأثاث غربي.
ونجهزها بأجهزة غربية.
بل أننا نتمتع ونترفه بطرق غربية.
قل مثل هذا في نواحي الحياة كلها.
بل إننا أحياناً نسبق الغرب في انتشار استخدام بعض أدواته.
وربما لاحظ من له أصدقاء غربيون، واتته الفرصة لزيارتهم، أن لا يجد عند معظمهم أجهزة فيديو، في حين تمتلئ بيوتنا بهذه الأجهزة.
إن عالم الأشياء قد نما في الغرب نمواً طبيعياً، ليعين على بعض أهداف الحياة عندهم، ولكنه نما عندنا نموا عشوائيا من غير أن يحقق أهدافاً واضحة.
فالتحديث في مجتمعاتنا الإسلامية إنما هو تحديث في الظهر .(9/47)
إن طبيعة التحديث في المجتمعات النامية أخذ طابع التحديث من خلال عالم الأشياء، أي كل ما يتصل بمتاع الدنيا، والحديث عن عالم الأشياء ومتاع الحياة الدنيا يقودنا إلى سؤال نعتقد في جدوى طرحه وهو:
ما دور المهندس عندما يتخرج من كلية لم تعده إعداداً كاملا لمواجهة هذه المواقف كلها؟ ونقول: المهندس بالذات، لأنه بطبيعة تكوينه العلمي وإعداده المهني، يجب أن يكون أقرب الطاقات البشرية لعالم الأشياء، وأكثرها تعاملا مع المنتوجات الحضارية، ومتاع الحياة الدنيا. إن هذا السؤال ـ رغم بساطته ـ يأخذ بأيدينا إلى القضية الثالثة وهي ترشيد اختيار المنتج الحضاري الملائم للبيئة الإسلامية.
ترشيد اختيار المنتج الحضاري .. مسؤولية من ؟!
سبقت الإشارة(1 ) بأن آخر الأشياء انتقالا من الحضارة الضاغطة إلى المجتمع المضغوط هو عالم القيم العليا، والعلوم والتقنيات؛ لأنها تحتاج إلى كدح في تعلمها وتشربها، والتفاعل معها، ومن هنا يتضح أن الفجوة تظل قائمة بين هذا العالم، وعالم الأشياء، ولأن المهندس هو صاحب دور أساسي في تحقيق عالم الأشياء، نقلاً، وصيانةً، وإبداعاً، فإنه مطالب بما لم تؤهله له الجامعة، هو مطالب أن يضع نفسه في حالة تعلم مستمر، ليوفق بين قدراته، وما يستجد في المجتمع من عالم الأشياء، حتى يكون أكثر فعالية في أداء دوره الحضاري في مجتمعه ولأمته.
ومن المؤكد أن المصالح الحكومية، والمؤسسات والشركات الخاصة، في بلداننا تستطيع أن تسهم في هذا إسهاماً متميزاً؛ إذ يقع عليها دور عظيم في تحقيق هذه الغاية.
فالجامعة جهاز تعليمي، يجنح دائما إلى السكون في عالم أكاديمي، وسوف تغط الجامعة ـ أي جامعة ـ في نوم عميق ما لم تستجيب لمتطلبات المجتمع من حولها، واحتياجاته، فتنبعث من سكونها الأكاديمي إلى التفاعل الحيوي مع ما حولها أخذاً وعطاءً.
وبالطبع تحتاج الجامعة إلى توصيف برامجها، وخططها لتتوافق مع الغايات الاجتماعية التي تسعى لتحقيقها، وهذه من أصعب الأمور والتحديات التي تواجه الإدارة في أي جامعة.
ولكن ما هو دور المهندس ـ خريج الجامعة الذي انغمس في الحقل ومارس المهنة، وواجه ضغوطاً حضارية، وتحديات التحديث الملحة؟
هذا سؤال يقود إلى سؤال آخر:
إلى أي حد يكون المهندس مسؤولاً عن تعليم ذاته تعليماً مستمراً؟
هل ينتظر حتى تأتي الجامعات والمعاهد والأجهزة التعليمية، وتعد له برامج لتحديث معلوماته وتدربه على كل جديد؟
في اعتقادنا أن المهندس سوف يطول انتظاره، وسوف يتأخر عن ركب التقدم العلمي والتقني، الذي لابد له أن يواكبه،. فهو مثل الطبيب الجراح على وجه الخصوص، إن لم يستطع أن يواكب أحدث النظريات والطرق في إجراء العمليات، سيظل متأخرا، وبلا شك سيعرض مريضه قبل أن يعرض نفسه إلى الخطر الشديد، فالمهندس إذا ظل ((مكانك سر)) في تعليمه، وفي توسيع مداركه، وتجديد معلوماته، يظل في حالة غياب علمي، وغيبوبة تقنية عن ما يحدث عالمياً.
وطرق التعليم المستمر ليست بالضرورة في فصل دراسي، وليست من خلال برامج تدريبية؛ إذ من الممكن أن تتم حتى من خلال السفر والسياحة.
فالمهندس عندما ينتقل في بلدان العالم المتقدم المتطور، وينظر حوله، ويبحث فيما يراه، ويتبصر في آيات الله في الكون والحياة، سوف يتعلم ويستفيد، وتزداد الاستفادة إذا تابع ذلك بالقراءة المتصلة في مجال تخصصه، فالقراءة وسيلة مهمة جدا في قضية التعليم المستمر.
وقضية التعليم المستمر، مثلما هي قضية المؤسسات والأجهزة، فهي مسؤولية الأفراد عن أنفسهم، وتحتاج إلى فكر أساسي عند المهندس، حتى يؤمن أنه في كدح دائم، وأن مسؤوليته التعليمية دائبة ولا تنتهي. أما أنه قد تعلم الهندسة في الجامعة أو المعهد وانتهى الأمر فهذه خرافة؛ لأنه في عمل دائم إلى أن يموت؛ لأن العلوم الهندسية، والهندسة التطبيقية علوم سريعة التطور والتغيير؛ من أجل هذا فإن المهندس مطالب بأن يواصل سيره ليفهم ـ ما أمكنه فهمه ـ ما يحدث في الغرب فإننا ـ شئنا أما أبينا ـ مضغوطون بهذه الحضارة، تتسرب من بين جوانبنا، ومن فوقنا ومن تحت أرجلنا، ومن بين أيدينا، ونحن لا نملك إلا أن نلهث خلفها، وليس بوسعنا حاضراً إلا أن نقف منها موقف التلميذ.
إن المهندس مثل باقي أفراد المجتمع مطالب بأن يفهمها، ويتعرف عليها، وله أيضاً دور اجتماعي، يفرق لأمته فيه ومن خلاله، بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، وذلك يعني ـ أول ما يعني ـ أنه يجب عليه أن لا يستجيب لكل ضغط يأتيه إذ لابد أن تتوافر لديه رؤية حضارية، وغربال يفرق به بين ما هو زينة وترف، وما هو وظيفة وأساس. على المهندس أن يتبصر طريقه، وأن لا يستجيب لشهوات الناس في مجتمعه وضغوط الحضارة عليهم للتقليد والتبعية.
فما تموج به مجتمعاتنا، من مشاريع وبرامج وخطط، جعلتها تبدو وكأنها ورشة عمل متكاملة ومتصلة، وجعلت الكثير من النظريات الهندسية والأفكار التكنولوجية تتدفق عليها، سواء ما يتصل بالتصميم، أو من حيث التنفيذ، حتى أصبح بإمكان المهندس المثابر الاستفادة من كل ما يتعرض له، ويعرض عليه، ويعترض طريقه، في الحقل والمصنع والمعمل والمكاتب الهندسية، كي يستوعب ما أمكن تطبيقه من تلك النظريات والأفكار، ووسائل التنفيذ المتطورة، وأن يشارك زملاءه فيما استوعبه واطلع عليه، أو مارسه، بأن يعقد معهم ولهم لقاءات عمل ومشاورة متصلة، أو يجتمعون كلما دعت الحاجة على هيئة حلقة علمية يحضرها المهندسون؛ ليستعرضوا ما تعلموه وشاهدوه، ويتحاوروا فيما يواجههم من مشكلات علمية، أو خبرات ميدانية، وهذا إن تحقق فإنه يشكل بلا ريب وسيلة للتعليم الذاتي المستمر، الذي قد لا يجدها المهندس بين جدران الجامعة، والتي لا تحتاج إلى جهد، بل ويمكن أيضا، تأكيداً لذلك، واستكمالاً له، أن تقوم أجهزة الخدمات الهندسية في البلديات والمواصلات وغيرها، بمنح المهندسين العاملين بها إجازة تفرغ علمي. على فترات متفاوتة؛ ليمكنوهم من الاستزادة من العلم والخبرة المتجددة، وجمع أشتات أفكارهم، وتقويم تجاربهم بهدف تجديد معلوماتهم، وتطوير إمكاناتهم، وبهدف تمكين المهندس العامل في الحقل من تحديد المشكلة وتوصيفها، ووضعها في شكل يستخلص منه الخبرة والمعرفة العملية.
فالمهندس الذي ذهب إلى ميدان من ميادين العمل والممارسة، وتكونت لديه محصلة جيدة من التجارب والخبرة سيكون مفيدا لنفسه ولغيره، أن يتفرغ ولو لفترة محدودة؛ كي يستجمع خلالها التجارب التي صادفته في الحقل، ويقومها، ويعطي رأيه في المشاكل الفعلية للتصميم والتنفيذ.
ومثل ذلك كمثل الاستفادة من مجموعات المستشارين والخبراء والاختصاصيين والفنيين الذين نستقدمهم من خارج الحدود؛ إذاً لابد أن نشترط حق المشاركة، والتعليم، والتدريب للمهندس الوطني، على الأعمال الهندسية التي يقومون بتصميمها وتنفيذها في بلداننا؛ بحيث تظل مساهمة المهندس الوطني قائمة في جميع المراحل، خطوة بخطوة حتى يتعلم من خبرات أولئك بالاحتكاك، والممارسة، ويكتشف الكثير من أسرار مهنة الهندسة، وهذا جزء من التعليم الذاتي المستمر له.
ويبقى السؤال: هل نحن على استعداد لكي نتعلم من هذا الخبير أو الفني الذي أتى إلينا، أم نتظاهر أمامه بأننا علماء وقادرون، وأنه هو الذي جاء ليعمل، ومهمتنا نحن الإشراف عليه؟ هذا سؤال حيوي وواقعي وملح، يطرح في ثناياه قضية نفسية هامة تتصل بالذات.(9/48)
إن الكثير من المهندسين في بلداننا يواجهون، عقب تخرجهم في الجامعة، وحصولهم على درجتهم العلمية، تحدياً مباشرا عندما تسند إلى الفرد منهم مهام أساسية تجعله في موضع كبير من مسؤولية اتخاذ القرار، بجانب الإشراف على مجموعة من مهندسين وخبراء، من داخل وخارج الحدود، فالحاجز النفسي الذي يفصله عنهم يجب إزالته؛ لأن رصيده الأساسي وثروته الحقيقية، هي الخبرة العملية، التي يستطيع اكتسابها خلال فترة احتكاكه بهم، إذا تنازل قليلاً عن كبرياء المنصب، دون تفريط في مسؤولياته؛ لأن مهندساً لديه عشر سنوات من الخبرة العملية المكتسبة، أفضل بكثير من مهندس حصل حديثاً على درجة الدكتوراه في الهندسية بدون خبرة عملية، ذلك لأن استفادة الوطن من الخبرة العملية للأول لا تقدر بثمن وهذه الحقيقة تقودنا إلى رصد ظاهرة نلمسها عند بعض العاملين في الحقول العملية كالبلديات، والإسكان، والمواصلات، والطرق، وهي اختيارهم لبعض المشكلات التي واجهتهم في الحقل، ثم مسارعتهم الخطى إلى جامعة خارج الحدود ليتقدموا لها بتلك المشكلات من أجل الحصول على الدكتوراه، وكأن الدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها؛ إذ تجر بعض هؤلاء في مراكز مرموقة لن تزيدها الدكتوراه سموقا.
هذا الحديث ليس موجها ضد الاستزادة من العلم والمعرفة، والوصول عن طريقهما إلى أعلى الدرجات، لكن المقصود منه هو التأكيد على أهمية الخبرة العملية، وتفضيلها على درجة الدكتوراه بدون خبرة عملية في الحقول الهندسية، للذين سوف يمارسون المهنة على وجه الخصوص، مهما كان البريق الاجتماعي للشهادة؛ لأن المكان الطبيعي لحملة الدكتوراه هو الجامعة، أو معهد البحوث، والحديث عن الدكتوراه يقودنا إلى المطالبة بتغيير مفهومها السائد في عالمنا العربي؛ لأنه أصبح مفهوماً معوقا للعلم والتعليم وللتنمية، ولابد من إعادة صياغته، وربطه بفعالية إنتاجية محددة على خريطة المهام الوطنية وذلك لكي لا يصبح الحصول على درجة الدكتوراه هدفا في حد ذاته، وحتى تقل الهالة الاجتماعية التي تحيط بهذه الدرجة.
التوازن بين ما هو زينة وما هو وظيفي
لا يعني ما أسلفنا أن على المهندس أن يجعل من نفسه مطية لتحقيق عالم أشياء سريع في خطاه .. فيحقق للمجتمع كل ما يريد، من غير أن يحمل في أعماقه غربالاً حضارياً يساعده على عمليات الانتقاء، والاصطفاء، فيفرق بين ما هو زينة، وما هو وظيفي، ويميز بينهما، فلا يحرص على الأولى أكثر من حرصه على الثانية.
لنأخذ لهذا مثلا في الهندسة المعمارية حيث يحرص على التصميم الأمثل؛ من حيث تحقيق الجوانب الجمالية والحضارية. وإذا كان له أن يبرز في تصميمه الناحية الزخرفية التي تحقق أهدافا جمالية فإننا نطالبه بالحرص نفسه على الجوانب الوظيفة والعملية التي تؤكد خصائص مجتمعه. بمعنى أنه يؤكد على الاستخدام الحضاري الأمثل للتصميم، بما يتمشى مع طبائع الأشياء. وإلا فما معنى أن يصمم مسجدا ـ مثلا ـ على أحدث طراز، وينسى أن يحقق وظيفته الأساسية، وما يخدمها من أماكن مريحة ومجهزة للوضوء مثلا.
فالمهندس يجب أن يحمل في قلبه رؤية اجتماعية واضحة، يميز بها بين الغث والسمين، ويحرص من خلالها على الانتقال بأمته من حالها التكنولوجي المتخلف إلى حال أحسن وأرقى.
بإيجاز نقول: إن دور المهندس في صياغة الحياة دور أساسي وهام، وليس أدل على ذلك مما كتب ابن خلدون في مقدمته من أن أشياخه كانوا يعلمونهم الهندسة لأن الهندسة كالصابون، يغسل العقل من الأوساخ وينقيه من الأضرار. ولقد قيل: أن أفلاطون كتب يافطة على باب داره: ((من لم يكن مهندسا فلا يدخل بيتنا )).
إن ابن خلدون وأفلاطون يعلقان هنا على المنهج التحليلي الذي يحمله المهندس في عقله، فلا جدال بأن دراسة الهندسة دراسة تفيد العقل، وتعطيه قدرة رائعة على مواجهة المشاكل الجدية.
ومن هنا فان للمهندس أدواراً متعددة:
- فهو الذي يحقق للمجتمع رغباته في عالم الأشياء.
- وهو الذي يصون هذا العالم ويطوره ويقلده ثم يبدعه خلقا آخر.
- وهو بحكم العقلية التحليلية التي تعيش في جنباته، قادر على المشاركة في صياغة حياة عقلانية معاصرة.
- ثم إنه بحكم عمله الإنشائي، تبهره كل يوم آيات الله في نفسه، والكون، والحياة فيشعر بالجمال والكمال، وينساب ذلك كله في إشارات روحية إبداعية يغني بها حياة أمته.
=============
محنة المسلم مع حضارة عصره
دوائر المحنة:
- الانبهار بحضارة العصر حتى الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء.
- الإفراط في التغني بالماضي التليد.
- خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث.
شروط الخروج من المحنة:
- الإنسان ركيزة التطور وهدفه.
- تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله.
إن ما ذكرناه في الفصل السابق عن الضغط المتواصل، والتأثير الديناميكي المستمر الذي تتعرض له أمتنا من حضارة العصر التي ما كانت لتسود العالم وتحكمه ويتحكم أصحابها بمجريات الأحداث فيه، لولا سلطان القوة التي تمتلكه، بما تنتجه مصانعها من وسائل ومعدات، واكب العلم فيها التقنية، وبما تذخر به نظمها الحاكمة في مجالات السياسة، والاقتصاد. والاجتماع، والفكر، والإدارة من إبداعات. عن الضغط الحضاري وتأثيره الديناميكي يقوم دليلا واضحا أن على أمتنا أن تعقد العزم للتصدي لهذا الضغط الموجه نحوها، من حيث تعلم ولا تعلم، وأن تقف من ذاتها بإصرار وحزم موقفا صادقا لا تبالغ إن هي رددت فيه عبارة شكسبير الشهيرة.
نكون أولا نكون؟! .. ذلك هو السؤال.
ولا تكتفي بالإجابة على هذا السؤال، بل عليها أن تحدد على أي حال حضاري تكون؟! ومن أين تبدأ.
لقد آن لنا ـ نحن المسلمين ـ أن ندرك أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها ونظمها وهما مصدر سلطانها وقوتها، أصبحت تشكل ـ بحق ـ تحدياً مباشراً للإنسان المسلم، وأسلوب حياته جدير به أن يتقبله، ويسعى ما وسعه الجهد لمواجهته، فالنظم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الوضعية التي ترتكز عليها تلك الحضارة، والتي يحمل بعضها في ثناياه تعارضاً جذرياً مع أمر الله وشرعه، تضغط بقوة على المجتمع المسلم أياً كان، وتحيط به من كل جانب، وتلك محطة لا يستطيع الفرد المسلم أن يجتازها إلا بحرصٍ شديد على ذاتيته وتمسكٍ تامٍ بخصوصيته، مع البحث المستفيض والجاد عن البدائل الإسلامية الفاعلة، لما تفرضه حضارة العصر من حلول لمشكلاته، وما تقدمه من خيارات قد لا تتطابق مع التطلعات والأشواق الروحية للأمة.(9/49)
والحرص على الذاتية، والتمسك بالخصوصية، يتمثلان في المحافظة على القيم، والمبادئ، والأسس النابعة من عقيدة التوحيد، التي يجب أن يدين لها، ويلتزم بتطبيق تعاليمها، ويصوغ حياته على منهجها، لأنه إن هو فرط فيها فَقَد تميزه، وافتقد ذاتيته، وعاد كأي إنسان في هذه الدنيا ذهب يبحث عن مخرج من تخلفه فلم يجد إلا طريق الحضارة الغربية المعاصرة، وما تفرضه من نظم، وقيم ومبادئ، وسلوك، ومعاملات فاعتنقها، وأصبح سجين دوامتها بكل ما لها وما عليها، لا يقدر على الفكاك منها، ويجد نفسه ترساً في آلتها لا يستطيع الخلاص منها، فتلونه بلونها وتشكله بشكلها، وتطبعه بطبعها، وقد تدعوه إلى التفسخ من قيمه فلا يتردد، وتدفع به إلى التحلل فلا يقاوم، كما نرى ذلك واضحاً عند بعض أفراد المجتمعات النامية التي عرفت طريقها إلى الحضارة الغربية دون ضوابط، وبدون انضباط، فاعتنقتها واستبدلت تلك الحضارة من سلوك، وأفكار، ومعتقدات اجتماعية، بما تدين به من قيم، وفلسفة، ومبادئ، وأصالة، فأصبح إنسان تلك المجتمعات كغراب يقلد مشية الحمامة، فلا هو نسخة كاملة من إنسان الغرب، ولا هو بقي على حاله محافظاً على كيانه، ومؤكداً انتماءه، ومعتزاً بشخصيته.
إذن فمعاناة الإنسان المسلم الحقيقية مع حضارة العصر تبدأ يوم يفقد ذاكرته الحضارية، ويتخلى عن ذاته ويقطع صلته بقيمة الفاعلة، والصالح من تراثه فتزول مقاومته، وتقل مناعته، ويرتمي في أحضان السيئ من السلوك، والمعوج من المبادئ والقيم، باسم التقدم والتطور، والتقدم والتطور من كل ذلك براء.
دوائر المحنة
من هذا نخلص تحديداً إلى أن محنة الإنسان المسلم مع حضارة عصره تتركز في دوائر ثلاث متصلة، هي في تقديرنا:
أولا: الانبهار بحضارة العصر لدرجة الغشاوة، واللهث خلفها حتى الإعياء
وكل هذا دفع به إلى التقليد والمحاكاة ليجد نفسه في نهاية المطاف منقاداً طواعية إلى الرضوخ لسلطان تلك الحضارة فيصبح تابعا لها. تأمر فيطيع.
ولكن إلى متى سنظل ـ نحن المسلمين ـ هكذا عالة عليها، مبهورين بها، مشدودين إليها؟ إلى متى سنظل هكذا مستخدمين لمنتجاتها، ومستهلكين لبضائعها؟ إلى متى سنظل هكذا أسواقاً لمظاهرها، ومستودعاً لما تقذفنا به من أشيائها وتطرحه في أسواقنا من منتجاتها؟ ! أسئلة حرجة آن لنا أن نوجهها لأنفسنا بصدق وإصرار، حتى يمكننا أن نبحث عن الإجابات المحددة، والواضحة لها.
لا بأس إن ينبهر الإنسان بالجديد عليه، ولا تثريب أن يندهش بالغريب عنه، فتلك جِبِلّة الإنسان أينما كان، فالانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة صورة واقعة وحقيقة لا تنكر من شعوب العالم النامي .
ولا عيب في هذا بذاته، إنما العيب في نظرنا أن يسيطر الانبهار على الفرد والأمة، فتغشى الأبصار، ولا ترى إلا بمنظور تلك الحضارة، وتتوقف العقول، فلا تفكر، إلا اعتماداً على عقول تلك الحضارة، فيسقط التبصر، ويمحى التفكير، وتلهث الأنفاس خلف ((عالم الأشياء )) في الحضارة الغربية، ولا تهدأ حتى تنال بغيتها منه، دون أن تسهم في صنعه أو تشارك في إنتاجه.
إن الحق كل الحق أن نعترف بأن هناك فجوة ملحوظة ـ يخشى اتساعها مع الزمن ـ بين تراث الأمة الإسلامية وتاريخها المجيد يوم قادت العالم إلى النور، وبين ما تعيشه من واقع متخلف، وأمية حضارية تعتبر امتداداً لأميتها الأبجدية، في الوقت الذي تنفجر فيه المعرفة والعلم ، ويحلق فيه إنسان العصر في آفاق رحبة من الإبداع والابتكار.
إننا بهذا الاعتراف ننتصر لأنفسنا على أنفسنا، ونقر: بأن البناء الحضاري، ومظاهر التقدم ما هي إلا محصلة تفاعل الأمة والمجتمع مع البيئة بجميع ما فيها من قيم ومبادئ، وسنن وقوى، وموارد مادية وبشرية، مثلما أن رسوخ البناء الحضاري ما هو إلا تعبير أصيل عن قيم الأمة، وتجسيد حيُ لكيانها العقدي والنفسي، والفكري ، والسلوكي، وبقاء الحضارات وديمومتها رهن دائما بوجود هذه القيم، وديمومة تلك المبادئ تلك المبادئ.
ثانيا: الإفراط في التغني بالماضي التليد كرد فعل غير مباشر لذلك الانبهار
مما يقود المسلم المعاصر ـ في عمومه ـ إلى الاتكاء على مخدة التراث فيروح في سبات عميق، لا يحس بما حوله ومن حوله، من متغيرات، وما يحيط به من تحديات، وعندما يستيقظ ـ إذا شاءت إرادة الله له أن يستيقظ والثقة بالله كبيرة ـ سوف نجده مندهشا للتطورات التي أخذت بعناق مجتمعه، وأحاطت به من كل جانب، ولأن تلك التطورات حدثت أثناء فترة نومه، فإذا لم يستطيع أن يستوعبها يبدأ في مقاومتها، والقدح فيها، بدلاً من أن يحتويها، وينقيها عن شوائبها، ولأن الزمن كفيل بحل الكثير من المشكلات تكون النتيجة في غير صالحه، لأن الزمن دائم الحركة كنهر متدفق لا ينتظر المنكفئين، ولا يهتم بالحائرين، ولا يتوقف من أجل الحالمين.
وبقدر اعتزازنا وفخرنا بتراث أمتنا وتاريخها المجيد، إلا أنه لا يضفي التغني به علينا هالة من شرف، ولا نوعا من تقدم، ولا شيئا من حضارة طالما بقينا نعيش على أطلاله، ونتخذه تكأة نجلس عليها في ساحات الفخر البالي، والحماس المهترئ ومواقع التراخي ، والاستسلام لأحلام الماضي، واليأس المريح.
دعونا نعترف بشجاعة وصدق أننا ـ نحن المسلمين ـ لا نملك اليوم حضارة تحمل سماتنا، وتعبر عن هويتنا، ولكننا نعيش في ظلال حضارة أقامها الأجداد، متمثلة في التراث العريق الذي ورثناه، ولم نبذل الجهد الكافي، ولا الجدية المطلوبة حتى الآن لإحيائه وتقديمه لأمتنا بأسلوب العصر، ليكون أحد مصادر طاقتها ووقود مسيرتها نحو مبتغاها من التطور والتقدم والنهضة.
توقفنا عند نهاية المسيرة لتراثنا، بينما عكف الغرب في فترة انحطاط المسلمين التي صاحبت ذلك التوقف ـ على علومهم ونهل من معارفهم، وأسس على بذورها وبأنفاسها قلاعه الحضارة الشامخة، التي ما فتئ يرفع من ناطحاتها، ويعلي من سوامقها من خلال كشوفه ومخترعاته، في مجالات العلوم والتقنية، والمؤسسات والنظم التي غمرت العالم كله، من مشرقه إلى مغربه، بمنتجاتها السريعة إلى الحد الذي يثير ـ عن جدارة ـ الانبهار والإعجاب بأصحاب هذه الحضارة. هذا هو الوجه الإيجابي لها، والذي يشكل في ذاته تحدياً رهيباً يزيد في عمق الفجوة الحضارية بيننا وبينه، يجب أن نسعى جاهدين لعبورها.
أما الوجه الآخر لها فإنه سلبي وقبيح يتمثل في أن أصحاب الحضارة الغربية يتوسعون دائما في منتجاتهم، ولم لا فقد قامت حضارتهم على الغزو والتوسع، وفتح الأسواق لمنتجاتهم، إنهم ينتجون كل يوم جديداً، ويصنعون كل يوم سلاحاً يدعوهم إلى بيع القديم، يشعلون من أجله حروباً في العالم، إن لم تشتعل بنفسها، وإن خمدت زادوها نارا وأججوها. هذا الاستعمار الجديد القوي لم تكفه الفجوة الحضارية بيننا وبينه، بل يحاول أن يجهض كل مشاريع التنمية الإنتاجية في بلدانا، ومن هنا تعيّن علينا ـ ونحن في حال لا نحسد عليه، بين مطارق التسارع الحضاري من جانب، ومحاولات الإجهاض لتوجهاتنا من جانب آخر ـ تعيّن علينا أن نقف موقفاً صريحاً، وصامداً، ومضاعف الجهود من الحضارة الغربية، وما تمثله.
إننا لا نستطيع أن نعيش بعزله عن عالم اليوم، بكل ما فيه من حضارة وتقدم، وبجميع ما فيه من إنجازات هائلة، عمقت الفجوة الحضارية بيننا وبينه، وواقع هذه الفجوة إنما يفرض علينا تحديات لامناص منها، ولا مفر عنها، إذا كنا فعلاً على المستوى اللائق من الإحساس بها، وإذا كنا فعلاً جادين في رغبتنا في تضييق هذه الفجوة، وفي تجاوز هذا التخلف التقني القاتل.(9/50)
ثالثا: خمول العقل المسلم وغيابه عن مجريات الأحداث
إن ما أصاب العقل المسلم من ركود وخمول، بل وغياب تام، عن مجريات الأحداث في المجتمعات المسلمة، ترتب عليه خروجه من دوائر التحدي، والاكتفاء بالمشاهدة، فأسقط بذلك عن نفسه المسلمة واجب التكليف، الذي فرضه الله على الإنسان لعمارة الأرض عندما استخلفه فيها. إذ أن ما نلحظه بوضوح في مسيرة مجتمعاتنا اليوم أنها تعيش بالحد الأدنى من التفكير والتنظيم، وأن افرادها ـ في مجموعهم ـ يتعايشون مع واقعهم بشيء من اللامبالاة، وبقدر من عدم الاهتمام، إلى جانب الأنانية الفردية، التي عادةً ما تقود الشخص إلى التمسك بما يملك من فكر ، أو رأي ، أو خبرة، أو حتى متاع الدنيا، ويحرص على الاكتفاء بأدنى ما يستطيع من المشاركة في إنتاجية مجتمعه.
وإن من العدل والإنصاف أن لا يعمم مثل هذا القول على كافة أبناء الأمة الإسلامية، بل إن من الواجب الإشادة بفئات من أبناء أمتنا في مختلف أقطارها آمنت بصدق وعملت بجد، وجاهدت بعزم، وأعطت بسخاء فجاء الإيمان والعمل، والجهاد والعطاء، على قدر ما وقر في القلوب والأفئدة من صدق، وجد، وعزم وسخاء.
والذي يعنينا تشخيصه وتحديده بدرجة أساسية هنا هو الخمول، والركود، والكسل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية في مجموعها، فغدت تابعة بعد ان كانت متبوعة، وأصبح العقل البشري فيها لا يتفاعل مع الحياة من حوله.
- فلا عاد يهتم ببحثه، وإن اهتم ففي أضيق الحدود.
- ولا المفكر عاد يدلي بفكره، وإن فعل فبكلمات وتعابير غامضة.
فما الذي أخرج العقل المسلم من دائرة الاهتمام بأمته واعتقله في دائرة الاهتمام بالذات، وجعله يتصف باللامبالاة؟ هل هو قصور الإمكانات الذي نسمع بعضهم يتحدث عنها؟ أو هو انعدام حرية التفكير التي تقيده عن الحركة؟ أو هما معا؟ أو أن هناك أسباباً أخرى؟!
أسئلة نتركها بلا إجابة، لأنها تحتاج إلى دراسة موضوعية، تظهر الحقائق، وتحدد الأسباب، لكن الذي لا نتركه، بل ونؤكده هو أن غياب المسلم من على مسرح الأحداث جعله يعيش المحنة بكل أبعادها، وصدق أبو الاقتصاد الياباني(دوكو ) (1 ) عندما عبر عن دور العقل فيما تشهده الإنسانية من تطور وتقدم بقوله:
((إن هذه التطورات الهائلة تدل على عظمة العقل الإنساني، وأن المصدر الحقيقي لكل شيء، هو هذا الجهاز الأعجوبة الذي على كتفيك. إنه المخ الإنساني وإلى هذا المخ الإنسان يجب ان نتجه بأفكارنا، فإذا عرفنا المخ الإنساني، وهو المصدر الذي لا ينفد للإبداع، فكل شيء بعد ذلك هين تماما، وهذه هي البداية لكل عمل عظيم، أو مجتمع يريد أن يكون عظيما ً)).
ويؤكد ((دوكو )) على أهمية العقل الإنساني، وعظمة خالقه في كلمات قليلة ولكنها بليغة فيقول: (1 )
((عندما يولد الطفل يكون مخه مكوناً من عشرة آلاف خلية، هذه الخلايا منفصلة بعضها عن بعض، ولكن هذه الخلايا لا تستطيع أن تعمل وحدها، لابد أن تتشابك وأن تتماسك، بل إن هذه الخلايا تشبه الأيدي عندما تتداخل أصابعها، وتشبه الكباري التي تربط الشواطئ.
والعلاقات المتشابكة، والترابط بين الخلايا، يشبه بالضبط الأسس الأولى لبناء أي مصنع، الآلات الحديدية، والقواعد الخرسانية، ولكن بعد ذلك يجب ان ننتقل من وضع الأساس الضروري إلى التشغيل، وكيفية استخدام الآلات وتطورها بعد ذلك، ولا يمكن أن نصل الى نتائج رائعة إذا كانت العقول الالكترونية رديئة )).
شروط الخروج من المحنة
تلك هي المحنة بدوائرها الثلاث فهل إلى الخروج من سبيل؟ نعم ولكن بشرطين اثنين:
الشرط الأول:
أن يكون الإنسان المسلم ركيزة التطور والتقدم وهدفه.
الشروط الثاني:
أن تتأكد ذاتيته في التطور والتقدم، ومن خلاله .. وليكن تناولهما بالتفصيل ليتبين المقصود منها.
الشرط الأول: الإنسان ركيزة التطور وهدفه:
للإنسان في المشوار الحضاري مكانة هامة، وعليه واجبات جسام، وإذا كانت الحضارة تتجه إليه بجوهرها، وفنونها وعلومها،وآدابها، وقيمها وسلوكها، وكل ما يتمخض عنها، وتنطلق منها وبها ـ وهذا أمر طبيعي على أي حال ـ فإن الهدف الأول من مناهج التطور، وخطط التنمية، واستراتيجيات التقدم ، يجب أن توضع بحيث توجد منه إنساناً سوياً متوازناً، فتشحذ فعالياته، وتقوي عزائمه، وتعبئ طاقاته، ليؤدي دوره، ويقوم بواجباته، لأن الإنسان النامي يختلف في متطلبات حياته، وفي حوافز نشاطه، ومنطلقات طاقته، عن الإنسان المتطور، الذي بلغ بمجتمعه قمة الحضارة، وبلغ به مجتمعه شموخ التحضر، في حين نجد أن إنسان التنمية يعاني من قصور ملموس في الخدمات الأساسية، ومتطلبات الحياة الكريمة في الوقت الذي يجد نفسه فيه مطالباً بأن يعمل بجد وجهد فائقين، لتحقيق خطط التنمية، حتى توفر له ما هو أكثر من الخدمات الأساسية، وما هو أبعد من المتطلبات الضرورية هذا إلى جانب أن واجب إنسان التنمية المسلم السوي أن يبتعد عن كل ما يمس الصالح من قيم مجتمعه، من تصرفات وعادات، لها ما لها من بريق الحضارة، وانبهار التقدم، وعليها ما عليها من تفسخ وانحلال يدعوان إلى تحطيم المجتمع، وانهيار أسسه الصالحة، وركائزه السليمة، وهو إن فعل هذا فإنه يبعد عن مجتمعه ما يقوض أركانه، ويهز جذوره، فيعيش المجتمع المسلم معافى من أمراض الحضارة، سليماً من خبائثها وشرورها، والعاقل من اتعظ بغيره.
الشرط الثاني: تحقيق الذاتية في التطور ومن خلاله:
يتفق علماء التنمية ومختصوها على أن مسيرة التنمية في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور، وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية ذلك المجتمع، متطابقة مع تصوراته، متمشية مع احتياجاته، لأن تبني أفكاراً تنمويةً غريبةً عن مجتمع ما، وصبها في القوالب الاجتماعية لذلك المجتمع لا يأتي بخير، ولا يفضي بالنتائج المرجوة.
كما أصبح من المؤكد، أن التنمية لا تخدم مجتمعها إلا إذا تمت داخل إطاره الاجتماعي المحدد، الذي يعكس قيمه، وأخلاقياته، ومبادئه، وعاداته، وتقاليده، وطرق معيشة أبنائه، وكل ذلك لابد أن يلعب دوراً أساسياً في صياغة فكر التنمية، وذهنية مخططيها.
لذا يظل البعد الاجتماعي للتنمية والتطور في المجتمع المسلم، مسئولية أبناء ذلك المجتمع من المختصين، لأن ما يترتب على خطط التنمية من تحولات سلوكية متوقعة، وتغيرات اجتماعية منتظرة، ما كان منها على مستوى الفرد، أو الجماعة، أمر هام يحتاج إلى رصد، وتحليل، ومتابعة، لا يكون قادراً على تحقيقها إلا أبناء المجتمع. وإذا اقتضى تنفيذ بعض المشروعات التنموية استقدام خبراء ومختصين أجانب، فإن الواجب يفرض أن تفرغ المشروعات تلك من محتواها الاجتماعي ليتولى المواطنون المختصون معالجته، لأنهم على فهم تام لصفات ومميزات، وعادات مجتمعهم، بحكم أنهم جزء منه، وبالتالي تأتي استشاراتهم في قضاياه الاجتماعية أبعد عمقاً، وأنفع علماً، وأكثر إدراكاً، ويترك للمختصين من الأجانب التصرف في الجانب التقني البحت بما تميله طبيعة كل مشروع؛ لأن الخبير القادم من خارج الحدود تكونت معادلته الاجتماعية، وخلفيته البيئية، في مجتمع بيئته مختلفة تماما عن بيئة المجتمع المسلم، برغم كل ما أوتي من عبقرية، وعلم، وقدرات.(9/51)
لعل من المناسب في هذا المقام الإشارة إلى تجربة أندونيسيا مع العالم الألماني الاقتصادي ((شاخت )) والتي كتب عنها ((مالك بن نبي )) ـ رحمه الله ـ في كتابه ((المسلم في عالم الاقتصاد )) حيث أكد أن المجتمع الأندونيسي عاش في أواخر الأربعينيات من هذا القرن متوثباً ومتحمساً للخبرات الأجنبية، كي تعينه للنهوض باقتصاد أندونيسيا، فاستقدمت أندونيسيا عالماً يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور ((شاخت ))، ووضعت تحت تصرفه كل البرامج، والخطط، والأفكار، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في مخططه للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وفشله لم يكن متوقعاً في نظر الأندونيسيين، لأنه التزم في عمله بدقة فنية، وتوافرت له وسائل مادية وبشرية، كانت كفيلة بنجاح مخططه في رقعة منّ الله عليها بأخصب تربة تنبت من أنواع الخيرات كلها، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها ما يزيد على مائة مليون من العباد، يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف (على حد تعبير [ابن نبي ] ). الذي يثير في تحليله للأمر سؤالاً هاماً هو: ما الذي جعل مشروع ((شاخت )) يتعثر حتى فشل؟ ويجيب بأن الفشل ـ في اعتقاده ـ يرجع إلى أن ((شاخت )) وضع مخططه لأندونيسيا على هوى معادلته الشخصية، وبخلفيته الاجتماعية، كفرد من المجتمع الألماني، في حين أن التجربة الأندونيسية ستجري بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي، فتعثرت التجربة على خطأ مخططها ((شاخت )) في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.
وقد استنتج ((ابن نبي )) حقيقة مهمة هي: أن الواقع الإنساني لايُفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين:
الأولى:
معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، بحيث يستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد على الآخرين.
والثانية:
معدلة اجتماعية، تختلف بين مجتمع وآخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى آخر، حسب الاختلافات في درجة النمو والتخلف.
وإذا كانت المعادلة الأولى موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وميزه على المخلوقات بالتكريم فإن المعادلة الثانية هي هبة المجتمع إلى الأفراد كافة كقاسم مشترك يطبع سلوكهم، ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بصورة تميزهم عن أفراد مجتمع آخر، وعن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافياً لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلته الاجتماعية.
من هذا نستخلص أهمية الذاتية في التطور والنماء، ودورها في ضمان نجاح المشاريع الاجتماعية التنموية، وحتمية مواءمتها للمعادلة الاجتماعية للفرد والجماعة؛ لتظل مهمة الجزء الاجتماعي في تلك المشاريع منوطة بأبناء المجتمع ، وأمانة في أعناقهم يحاولون معها ما وسعهم الجهد وأسعفتهم التجارب والخبرات، تحقيق الذاتية والمحافظة عليها، وإبرازها.
==============
هل إلى خروج من سبيل؟
من أين نبدأ؟
كثيرا ما تطرح الأمم النامية، وأمتنا الإسلامية تمثل مركز الثقل فيها، على نفسها سؤالاً ، عن كيف تبدأ مشوارها الحضاري وهي تعيش محنتها مع حضارة العصر الباهرة والمسيطرة؟ ومن أين؟! وفي طرح الصيغ العملية للإجابة على سؤال البداية الحضارية، تظهر الاختلافات والاجتهادات، وتزداد السبل تفرقاً وتيهاً بالدول النامية، في محاولاتها النهوض بمجتمعاتها، بازدياد شتات فكر أبنائها، وقلة مواردها، وما تعانيه من عدم استقرار، وما ترزأ به من ضغوط خارجية، وأولويات داخلية.
كل ذلك يتم ومسيرة الزمن ممتدة، لا تعرف الانقطاع، فالزمن تيار متدفق، تتداخل فيه الأحداث، عبر تتابع متناغم، وتشابك مستمر، فاليوم هو امتداد للأمس، وغدا هو محصلة لما نقرره وننجزه اليوم.
وكما أن للتاريخ علم له مؤلفاته وبحوثه، فقد اصبح للمستقبل علم (المستقبليات )
(FUTURLOGT ) له علماؤه ورواده، الذين يسعون إلى استشراق آفاقه، والبحث في كنهه المجهول، من خلال مبادئ، وأسس علمية، تحكم عملية التوقع للمستقبل؛ إذ لم تعد الدراسات المستقبلية ترفاً عقلياً، يتلهى به بعض المثقفين، فراراً من الواقع ومشكلاته المعقدة، بحثاً عن عالم أفضل، بل إن لها فائدة عملية مباشرة، من حيث التمكن من معرف النتائج البعيدة المدى، لما يجري في بلادنا الآن، وما نتخذه من قرارات، وما نمارسه من تغيير في العادات، وما ننشئه أو ندعمه من علاقات(1 )، وبمعنى آخر: قرارات الحاضر بما لها وما عليها ترسم آفاق المستقبل بما له وما عليه.
وعالم الغد مليء بالمفاجآت التي تستدعي الدراسة والنظر بتمعن، فالأمر يستلزم أن يمتد بصرنا ليحدد واقعنا الحضاري قياسا بالواقع المعاصر للعالم المتقدم، في مجالات النهضة الحديثة، وصولا إلى تحديد معالم الطريق إلى المستقبل.
ونقطة الانطلاق لابد أن ترتكز على دراسة تحليلية، تبين جوهر المشكلة الحضارية، وتحديد مكاننا الصحيح من حضارة العصر الباسقة، قبل أن نضع الحلول، فقد مضى وقت ثمين على أمتنا، كان يمكن أن تستغله في المواجهة الصادقة لقضايا التخلف، لو أن المهتمين بأمر نهضتنا في مواقعهم المتعددة والمتباينة، أحسوا التشخيص في البداية، ولكن اليقظة الفجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة قوية، لا تعطيان عادةً فرصة للتأمل والتدبر. وهذا ما حدث في شتى بقاع عالمنا العربي والإسلامي، عندما أخذت الدول بصور متفاوتة تعد للنهوض والتطور.
ولأن اليقظة كانت فجائية، والرغبة في التغيير بحركة سريعة كانت قوية، وجدنا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ ونحن في طريقنا إلى النهضة نتبع سبيل (الشيء ) حينما نرى أوروبا تخرج علينا بزينتها المادية البهيجة، فيقع في نفوسنا شيء مما وقع في نفوس بعض بني إسرائيل حينما خرج عليهم قارون بزينته، فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وهكذا عمدنا إلى تلك الحُلَّة نفصل مثلها، ونحاول أن نقلد بجهالة، عثرة المقص في يد الخياط الأوروبي، مع أن الطريق إلى الحضارة هو وقبل كل شيء طريق الفكر، الذي يحدد الوسائل ونتائجها، في مدة معلومة، بحيث يرى السائر ما سوف تنتهي إليه الطريق، قبل أن يخطو فيها خطوة واحدة. (1 )
فعن طريق التقليد، والمحاكاة، والمباهاة، تكدست بيوت القادرين منا بأحدث ثمار ((التقنية ))، فكرست ظاهرة الركون والإخلاد المتصل لعالم الحاجات، وتعودت نفوسنا على اللهث خلف الأشياء، نقتنيها، ونتباهى بها، وما عادت النفوس قادرة على السيطرة على رغباتها؟ وكبح جماح أهوائها، دون أن نسأل أنفسنا: إلى أين نحن ذاهبون؟ وما هي نهاية عالم الأشياء؟ وما هي نتيجة هذا كله؟
وكما هو الحال دائما في ((ديناميكية )) التغيير الاجتماعي، تبدو ظاهرة الإخلاد المستمر، والركود الدائم، لعالم الحاجات والخدمات، مرض سريع الانتشار، لا نتجاوز القصد إذا ما أسميناه بالطاعون الاجتماعي.(9/52)
فمجرد اقتناء فرد لشيء جديد، وبإعلان هذا في مجتمع الشخص القريب ـ نتيجة مرض اجتماعي آخر اسمه التباهي ـ تبدأ عملية الاقتناء للشيء نفسه تنتشر نتيجة مرض آخر اسمه التقليد. والإنسان يبحث عن حضارة تقنية ثابتة، راسخة، ومتطورة، يريد أن يقيمها بما صنعت يداه لابد أن يلتفت التفاتا عظيما لهذه المشكلات الأخلاقية؛ لأنها في الحقيقة جزء أساسي من مشكلات النهوض الحضاري، فالإنسان في غياب ضميره الأخلاقي، ينحط لعالم غريزي، جبل على التكاثر، يستكثر من الأشياء، حتى إذا ملها بحث عن شيء جديد.. ولن يوقف حركة نفسه الهابطة في عالم الأشياء، إلا الانتقال إلى عالم الخلود (1 ).
وإذا كان ثمة فائدة من اليقظة الفجائية، والرغبة العارمة في التغيير، فإنها بدون ريب وضعتنا في مواجهة مباشرة مع مأزق التخلف، بعد أن زالت عنا الغشاوة، وها نحن نحاول أن نلملم الشتات، لنكشف أن من أهم العمد الرئيسة للحضارة الغربية المهيمنة، هي التقنية، فكان أن أخذنا منتوجات الحضارة وانبهرنا بثمراتها، وسعينا إلى اقتناء حاجاتها في شكل سلع وأدوات.
ولما تراكمت لدينا المنتجات الحضارية، وتكدست، ظننا أنها الطريق إلى النهضة والتحضر، وإذ بنا نفاجأ مرة أخرى أنها ليست هي، وأن الفجوة التي تفصلنا عن الغرب المتطور تتسع، والمشكلة تزداد تعقيداً، إذن فمن أين نبدأ؟ وكيف؟
فلسفة البدء
يسبق البدء في أي أمر، تحديد فلسفته التي يقوم عليها، وتوجهاته التي يرنو إليها، وأهدافه التي ينوي تحقيقها. ونحن المسلمين، نحتاج اليوم أكثر ما نحتاج، إلى عبق النبوة الأولى، في طيبة الطيبة، حيث نجد كيف كان المجتمع المسلم الأول حريصا على أن يصل إلى أعلى درجات التطور التقني بمقياس عصره، فمنح أولوية قصوى للصناعات الحربية، وركز عليها، وأغفل الصناعات الأخرى للمقتنيات الترفيهية. في ذلك المجتمع وعلى قمته، كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوجه، ويرشد، ويعلم، ضرب المثل الأعلى بنفسه، في الإعراض عن عالم الحاجات الترفيهية، إذ كان يقول لسامعيه، عندما يستغرب بعض أصحابه من إعراضه عن مقتنيات الترف، وهو القادر على امتلاك الدنيا، وما فيها لو أراد. كان يقول لهم: ((إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة ))، ليذكرهم بنفسه قبل أنفسهم؛ حتى يتعظوا، وعندما يقترح بعض الصحابة سريرا للنبي العظيم عليه السلام، لينام عليه، يرفض، ويؤثر أن يظل على حاله، ينام على حصير، يترك أثرا في جنبه، ويدعوا الله: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين )).
تلك هي فلسفة البدء الحضاري، أما الترف فهو طابع الختام الحضاري، وأمة تريد البدء لا يمكن أن تنطلق من عالم الحاجات، حيث قتلها الترف من حيث بدأت.
إن طريق النهوض الحضاري، الذي ترتجيه الأمة، يفرض عليها شروط لابد من تحقيقها، ويحدد مسارات لابد من السير فيها، لإكمال المشوار المبتغى. فإن كان التسابق الاستهلاكي، واللهث خلف عالم الأشياء، هو الطريق المرتجى، فإنه يقود بلا شك إلى إخلاد الأفراد إلى ترفٍ، من شأنه أن يعوق عملية النهوض ذاتها، ولا يساعد على قيام قوة إنتاجية محلية، تعتمد على الإحلال المتصل، والإبدال المستمر للطاقة البشرية المستقدمة بطاقة بشرية وطنية. فالترف بطبعه يثبط الهمم عن التعلم والتدرب، ويهبط بالاستعداد الوطني في هذه المجالات إلى أسفل الدرجات.
وإن كان الطريق المؤمل لنهضة شاملة وحقيقية، هو ترسيخ الاعتماد على الذات، والمزاحمة على عالم الغد، بكل ما يحمله ذلك العالم من مفاجآت وتحديات، فإنه يفرض علينا الدعوة إلى تنمية تقنية نوعية، ترتكز على إعداد، وتدريب، وتأهيل الطاقة البشرية؛ لأن أي اتجاه للنهوض والتطور، لا يركز على الإنسان، وسوف يجد نفسه في دائرة مغلقة، يظل المجتمع بإنسانه داخلها دائماً أسير عالم الأشياء، الذي يتجدد دوماً، وتتجدد معه الحاجة إلى طاقة بشرية قادمة معه، ولن يخرج المجتمع من هذه الدائرة المغلقة، إلا بموقف أخلاقي يتحدد في أمرين.
الأول ـ أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا.
الثاني ـ وأن تعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
كما هو وارد في الأثر، مما يمكن أن نعتبره مبدءاً للنهوض الحضاري، ونبراساً للتنمية الإنشائية المنتجة.
والاختيار بين الطريقين: طريق التسابق الاستهلاكي، وطريق البناء الحضاري،واضح ومحدد، ولا يحتاج إلى تفسير، ولهذا دعونا نسير عليه بتؤدة ورسوخ، ولنبدأ المشوار
في ظروف محدودية الإدراك التقني المتطور، بل والأساسي أيضا في كثير من بلداننا الإسلامية، وتزاحم الأولويات يشعر المشتغلون بالتنمية التقنية أنهم يعملون تحت ضغوط نفسية غاية في التعقد عندما يجدون أنفسهم ومجتمعهم معهم في مواجهة حضارة تقنية باسقة الزروع، ما تكاد تنتهي من دور تقني، حتى تنتقل إلى حال جديد، وحال مجتمعاتهم مازالت تفصله عنها عصور البخار، والكهرباء، والحسابات الآلية، هذا إذا لم نقل: ثورة المعلومات، وعالم الفضاء، في فجوة ذات ديناميكية معقدة، لم نصل بعد إلى فهم واضح لطبيعتها، وكيفية تجاوزها؛ في مثل هذه الظروف، يلجأ مخططوا التنمية، إلى زيادة حجمها المرجو، زيادة كبيرة، على أمل اللحاق بركب الحضارة التقنية المسرع في خطاه، وفي إغلاق الفجوة التقنية التي تزداد مع الأيام اتساعاً.
التقنية زاد الطريق
إذا كانت التقنية مطلباً أساسياً للدول الآخذة في النمو، للخروج من وهدة التخلف، والقفز فوق الفجوة، التي تفصلها عن العالم المتقدم ، فهي بالنسبة للمسلمين ضرورة لتأكيد الذات، التي تنبع من امتداد طبيعي لحضارة إسلامية عريقة، كان العلم التجريبي دعامتها، وبدأت بكلمة حق، أوحى، بها الله سبحانه وتعالى إلى النبي العربي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فغرسها في النفوس لترتفع بها رايات الحق والهدى، وينتشر بها العلم، ويعم النور، وتقوم الحضارة.
إن التقنية الحديثة في العالم المتقدم نشأت من تزاوج العلم والْحٍرفة، ومن إصرار المجتمع على هذا التزاوج في صورة مراكز تطوير الصناعات المختلفة.
واقع التقنية في مجتمعاتنا
كانت الصناعات والحِرف قديماً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، راسخة الأسس، وواضحة المعالم، تضمها منظومة مهنية، وتحكمها تقاليد حرفية، وتتحكم فيها اعتبارات عملية، وكان الأبناء يتوارثون الصناعات والحرف من خلال تلك المنظومة عن الآباء، بالمحاكاة، والتقليد، كما كانت دكاكين أهل الحِرف والصناعات تمتلئ بالصبية، الذين ينفقون صباهم كله تحت رعاية معلميهم، يتدربون على أيديهم بصبر ويتعلمون منهم بدون ضجر.(9/53)
بدأت هذه الطريقة في التعليم والتدريب تختفي رويداً رويداً، ولم يعد الآباء يرسلون بنيهم لحوانيت أهل الحرف والصناعات، وإنما يدفعون بهم إلى المدارس، ودور العلم، يودون لو أنهم أكملوا دراستهم الجامعية، فيملكون بذلك جواز المرور للوظائف العليا. وحدث نتيجة لذلك، شبه اختناق في عملية التغيير العلمي والتقني، حيث بدا واضحا أن أعداد الجامعيين نمت على حساب قطاع الحرفيين وأهل الصناعة؛ وذلك لاندفاع الأمة في طريق التعليم الجامعي، فاضمحلت الحرف، وزال معظمها، واستسلم المجتمع إلى التدفق الرهيب للسلع، والحاجات، والمنتوجات، التي صنعتها أيد أجنبية، وتحول بذلك من مجتمع حرفي صناعي بالتقليد والمحاكاة، إلى مجتمع ((الياقات البيضاء )) التي لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تنسج، ولا تسكن فيما تبني، وهذه قد تكون من الأسباب العملية، التي جعلت معظم المجتمعات المسلمة، تابعة واتكالية، وليس لها مخرج من هذا المأزق الحضاري، إلا باعتناق فلسفة البدء الحضاري، كما أشرنا من قبل (1 ) لتسير في طريق الحضارة التقنية.
ونقطة البدء في ذلك هي تعليم الحرف، وانتشارها بين الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع، في حين يتوجه جزء للتعليم الفني ليكون قادراً على تطوير الحرفة ونموها .. ويستنفر من ذوي العقول النادرة، من هو قادر على متابعة ما يطرأ على العلوم من تطور ونظريات، والنظر في إمكانية تسخيرها لخدمة التقنية المستحدثة.
لقد أفاء الله على العالم الإسلامي ـ بدوله العديدة وشعوبه المتعددة ـ بمصادر طبيعية، ورزقه موارد مختلفة، وعليه أن يسعى جاهداً إلى استثمارها ، لأنه يعلم أنها مصادر ناضبة لا محالة، قصر الزمن أو طال، كما أن أمتنا لا بد أن تعي بيقين أهمية الكثافة العددية، في الموارد البشرية، وضرورة صياغة وتنفيذ برامج لتأهيلها وتدريبها.
إذن فأمتنا في سباق مع الزمن؛ كي تستفيد من ثرواتها الطبيعية، ومواردها البشرية في تنمية شاملة، وواسعة، ومخططة، لتواجه تحدي نظام اقتصادي عالمي، يخدم الشمال المتقدم، ويستنزف الجنوب المتأخر، ولا سبيل إلى مواجهته إلا بالاعتماد على سلطان العلم بالتضافر مع التقنية.
والمراقب للتطورات المتلاحقة، في المجالات العلمية، وما يتبعها ويصاحبها من تقدم في التقنية، يحتاج إلى وقفة موضوعية للتعرف على واقع التقنية، وتأثير تطوراتها المتلاحقة على الحالة العلمية والتقنية سلباً وإيجاباً، واندثار الحرف والصناعات التقليدية كما أشرنا إليه قبل قليل، ونظرة المجتمع إلى العمل المهني، وعلاقة كل ذلك بتدفق المنتوجات ((الزوالية )) على المجتمع.
ونهدف باستعراضنا لكل تلك المكونات، أن نسعى إلى تشخيص ((المرض التقني )) الذي تعاني منه مجتمعاتنا؛ لنتعرف بعد ذلك على الفجوة التقنية التي تفصلنا عن العالم المتطور، وأسلوب معالجتها.
نظم التعليم وعلاقتها بالحالة العلمية والتقنية
إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي كافة، نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز لباقي أنواع التعليم؛ إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً.
وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه، في شتى أقطار العالم الإسلامي، فعلا مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر - على كل حال يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الأوروبية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي، إلا أن غالبية ديار الإسلام أقبلت عليه، ولم تجد في دينها ما يردها عنه، واعتبروا أنها بضاعتنا ردت إلينا، وهو على كل حال تراث البشرية، أدلى فيه الأجداد بدلو عظيم، فلم لا نستعيده؟!
ومن هنا بدأ صراع صامت، بين أسلوب التعليم القديم، وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام، أن تترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث، بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.
بدأت معاهد التعليم الديني تفقد ازدهارها بوقف تدفق النابهين والمتفوقين عليها؛ حيث اتجهت الغالبية منهم إلى النوع الجديد من التعليم، الذي يتسم بظاهرة جديدة، ألا وهي المهنية التي فقدها نظام التعليم القديم بإصراره على مناهج وضعت في العصور الوسطى.
خذ مثلا محاولات الأزهر في مصر في الستينيات من هذا القرن الميلادي، عندما اجتهد في تجاوز مشكلة الانفصال هذه، بين النوعين من التعليم، فافتتحت كليات مهنية متنوعة، لا تختلف في شيء عن أي كلية أخرى من حيث المناهج، مع إضافة منهج إسلامي فوق المناهج الأخرى، فجاءت التجربة ممسوخة، حيث كان من الأجدى ـ في رأينا ـ ((أسلمة )) مناهج العلوم الاجتماعية، من علم نفس، واقتصاد، واجتماع، وما إليها بمعاصرة، وفعالية، بدلا من خلطة ((سمك لبن تمرهندي )) التي سارت عليها الأمور، والتي لم تقف عند هذا الحد، بل تعدته إلى أن كليات الأزهر الدينية التقليدية بقيت على حالها دون تطوير، مما أفقدها كثيراً من حيويتها، ومن ثم انصراف الدارسين عنها.
تلك مقدمة عامة وسريعة، عن نظم التعليم، أردناها أن تؤكد ضرورة هدم الحدود المصطنعة، بين التعليم الديني، والتعليم المدني، وأن تكون مدخلا لسؤال هام هو: أي نوع من الخريجين نريد؟ ولأي غاية اجتماعية نعدهم؟
إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي، مشكلة يجب إعادة النظر فيها، من أجل نظام موحد للتعليم، ينبثق عن أحسن ما في القديم، وأفضل ما في الحديث.
لقد انحصرت مناهج التعليم القديمة في القرون الأخيرة، في دراسات فقهية، ولغوية، ولم تعد تدرسّ في معاهد التعليم المختلفة، أي مناهج علمية تجريبية، وأصبح تراث أجدادنا في هذه المجالات، كأنه ليس تراثنا، ومن هنا كانت الحرف التي نشأت في العلم العربي الإسلامي، والصناعات التي بدأت فيه، معتمدة على النقل والمحاكاة والتقليد.
وحتى وقت احتكاكنا بالحضارة الغربية، ظللنا لا نعرف كيف نضع بذور الصناعة في بلادنا؛ لأننا طلقنا أنفسنا (في عصور الانحطاط ) من العلم التجريبي وهو ماء الحياة بالنسبة للتقنية المعاصرة، قامت به، وبغيره لا يمكن أن تدوم.
نعود الآن إلى طرح السؤال السابق بصيغة أخرى:
أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟ بدلا من أن نسأل أنفسنا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟
أي أن التعليم في بلداننا، يجب أن يرتبط بمهمة اجتماعية مطلوبة، وهي التي تحدد آفاقه كماً ونوعاً.
ولا بد من القول في البداية: بأن ربط سياسة التعليم بالتخطيط ضروري، ويجب أن يزداد وثوقا مع الأيام، بحيث يقل فاقد التعلم إلى حده الأدنى، إن لم يمنع تماما. ومن المفيد أن يزداد إيماننا بأن الفجوة التقنية، التي تفصلنا عن العالم المتقدم، يحكم تجاوزها قوانين حضارية لا يمكن إغفالها. فتحول العلوم إلى تكنولوجيا، تحكمها فعالية اجتماعية، تتأثر بكل العوامل النفسية، والاقتصادية، السياسية، الضاغطة على الأمة، ولن يتم هذا التحول إلا بعد مرور الوقت الحرج من بدء الأمة في تكديس العلوم في عقلها الباطن.
أخذت بعض أقطارنا الإسلامية تدرك ذلك، وبدأت خطوات جريئة في تطوير التعليم، نرجو أن تتلوها خطوات أخرى في المراحل المختلفة، حتى تستطيع الأمة أن تتجاوز الوقت الحرج؛ لتصبح عملية تحول العلوم إلى تقنية، أمراً طبيعياً من غير تعسف، ولا تجاوز.
أثر القدرات الاقتصادية على الحالة العلمية والتقنية(9/54)
تطورت القدرات الاقتصادية لبعض أقطارنا، بما أنعم الله عليها من خيرات، وحباها من ثروات طبيعية، تطوراً كبيراً، وصاحب هذا التطور عدة ظواهر جديدة، جديرة بالدراسة والعناية، نبرز أهمها فيما يلي:
- ظاهرة الثراء السريع الرخيص، أصبحت تهدد إقبال الناس على العلم مما يهدد بعدم نمو أعداد المتعلمين.
- رغبة المجتمع في الرفاهية جعلته يعج بكل أنواع المنتجات الحضارية وهذا يؤثر بدوره على الصناعة الوطنية.
- الإقبال على التعليم التقني في حالة غير مرضية يحتاج إلى نظرة موضوعية؛ لمعرفة أبعاده، وتأثيره المباشر على مستقبل العلم والتقنية.
إن فجائية التغيير الاقتصادي في أقطارنا، وأثره على مرافق حياتنا ظاهرة، تستحق الاهتمام، وتحتاج إلى عناية خاصة في دراستها فنحن لسنا مسبوقين من غيرنا بمثل هذه الظاهرة، ولذلك فليس هناك حلول جاهزة لنا. ونحن وحدنا قادرين بإذن الله على حل مشكلاتنا.
وإذا كانت فجائية التغيير الاقتصادي قد صاحبها بعض السلبيات التي أشرنا اليها آنفا، فإن من أهم إيجابيات تلك الفجائية، أنها مكنت بعض دولنا من الإسراع في توفير الخدمات الأساسية اللازمة لمجتمعاتها التي تريد أن تضاعف معدلات نموها، كما مكنت لها استقدام خيرة الخبراء والعلماء، للعمل في جامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها، وكذلك مكنت لها ابتعاث أبنائها، والتوسيع المطرد في مؤسساتها كلها.
إذن فإن فجائية التغيير الاقتصادي ذات حدين، وعلى رجال الاجتماع، والاقتصاد، والفكر، والسياسة، من أبنائنا أن ينظروا فيما أسلفنا، وما له من أثر على خطط التنمية، لإيجاد حلول تحد من هذا الأثر وتتغلب عليه.
اندثار الحرف والصناعات التقليدية
ظلت المهن والصناعات والحرف، حتى وقت قريب، موجودة بصورة ملموسة في مجتمعنا الإسلامي، كمصدر أساسي للرزق وتلبية لحاجات اجتماعية ترتبط باقتصادنا، وتعكس انغلاقنا الاجتماعي عن العالم الخارجي.
وساعد على استقرار المهن والصناعات والحرف وترسيخها، غياب النمط التنظيمي للتعليم في بلداننا، فاتجه أفراد المجتمع، إلى تعلم المهن والصناعات والحرف، في الورش والدكاكين المنتشرة حينئذ، ولم يكن لتعلم الحرف، وإجادة المهن، والتمكن من الصناعات بهذه الطريقة (التلمذة الصناعية ) مناهج تعليمية مدروسة، ولم تكن تطبق في تعليمها أية أساليب تدريبية تكنولوجية، وإنما اعتمد التعليم على المشاهدة، ودقة الملاحظة، التي يتمتع بها الطالب، وبذلك توقفت فترة التدريب على إمكانيات الطالب الذاتية، وقدرته على التقليد والمحاكاة. وتوارث الابن عن أبيه الصناعة، والحرفة، وتسمت عائلات باسم المهن والحرف، التي كانت تمارسها، فعائلة الصائغ، والنجار، والصياد، والساعاتي، والحداد، والزارع، والقماش، والقزاز، وغيرها أمثلة تبين التزام الأسرة الواحدة بمهنة، أو صنعة، أو حرفة تتوارثها أبا عن جد، وابناً عن أب، وتصبح لقباً تسمى به العائلة.
ظلت الحالة التقنية في المجتمع على هذا المنوال، حتى انتظم التعليم وساد، وانتشرت المدارس، وتعددت الجامعات، فتكدست بالطلاب، وخلت المهن، والحرف والصناعات التقليدية من روادها وأربابها، واندثر بعضها، وبقي بعضها منزوياً في أركان المجتمع لا يقبل عليه من الطلاب إلا من فشل في التعليم المنتظم، أو الذي ساقته ظروفه إليه قسراً .
ثم تطورت أحوالنا المعيشية، وارتقت قدراتنا الاقتصادية، وتدفق على المجتمع أصناف وأصناف من المصنوعات المستوردة، تباع بأثمان رخيصة، فاستبدل الناس المستورد بما قد يصنع محليا؛ لرخص الثمن، وربما أيضا لجودة الصنف.
انتهى بذلك ـ أو كاد ـ تاريخ تقني تراثي، لا نستطيع أن نعيد أمجاده، ونكرر إشراقته، إلا إذا سلكنا مسالك عديدة نذكر من أهمها:
- تقنية التعليم الثانوي العام، بإدخال عدد من الحرف والصناعات عليه.
- تصميم نماذج تعليمية فنية مختلفة، بعد مراحل التعليم الإعدادية والثانوية، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي والنوعية الجيدة من الطلاب.
- دراسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.
النظرة الاجتماعية للعمل المهني
إن الرحلة الشاقة الطويلة، التي يجب أن تبدأها الأمة، على طريق استنبات التقنية تعني أول ما تعني: تمهيد وإعداد التربة الصالحة للغرس، والاستنبات، قبل وضع البذور، وسقيها، ورعايتها، لتنمو وتثمر.
وتهيئة التربة للغرس، تعني تهيئة المجتمع، لتقبل التقنية عند استنباتها، حتى لا تكون كالعضو الغريب، الذي يزرع في الجسم، فيقاومه ويلفظه، بل لتصبح جزءًا من تكوينه، يتعامل معها، ويستوعبها، ويطورها، بدلا من أن يكون مستهلكاً لها، وزبوناً لمنتوجاتها.
وإن أولى تلك الخطوات، تغيير نظرة المجتمع إلى العمل، وقيمته الحضارية؛ لأن مجتمعاتنا؛ مازالت تنظر إلى العمل اليدوي التقني، والممارسة المهنية، نظرة وصلت عند بعض أفراده إلى درجة الاحتقار؛ مما دفع بجزء كبير من الطلاب، إلى الاتجاه إلى التعليم النظري؛ لينتقلوا بعد حصوله على الدرجة العلمية في تخصصاته، إلى المقاعد الوثيرة، خلف المكاتب الفارهة، في ظل أبهة وهمية للوظيفة، دون فعالية تذكر، أو جهد ملموس.
لماذا نجد رئيس جامعة في أمريكا مثلا، يقوم بإصلاح سيارته في ورشته، ودهان سور منزله بيده، وتنسيق حديقته بذاته، في حين يأنف موظف في مجتمع العرب والمسلمين، من القيام بأبسط من ذلك من الأعمال اليدوية؟! سؤال ساذج؛ لأن الإجابة عليه واضحة، في الفروق والفجوات الحضارية بين المجتمع الأمريكي، والمجتمع العربي.
مجتمعاتنا ـ عموما ـ ليست بدعا في عدم تقدير قيمة العمل اليدوي؛ لأن تلك ظاهرة تشترك فيها مع غيرها، من مجتمعات العالم النامي، خصوصا تلك التي أنعم الله عليها برزق رغد، ومصادر وفيرة، لكنها ستكون بدعا، إن لم تستدرك تفشي ظاهرة الركون إلى الدعة، وحب الترف، وكراهية العمل، حتى تنضب مواردها، وتتحدد مصادر الرزق فيها، فنجدها وقد أضحت عالة على غيرها، وعيّا على نفسها.
إن تغيير النظرة الاجتماعية السلبية إلى الحرف والمهن، يتيح إعادة هيكلة القوى العاملة من أبناء الأمة؛ ليأخذ العمل التقني مكانه الاجتماعي الصحيح. وتغير تلك النظرة سوف يزيل الهدر في التعليم، ويقلل من فاقده، الذي نشاهد دلائله في الإقبال المتزايد على التعليم الجامعي والنظري منه على وجه الخصوص، وحتى يتجه الطلاب إلى قنوات ومسارات أكثر فاعلية وجدوى للمجتمع، كالتعليم التقنين ومعاهد الرف، والمهن التطبيقية.
وتغيير نظرتنا الاجتماعية للعمل، سوف توضح جديتنا، لتعويض فترات التخلف التقني المقفز، التي قاسينا منها وما نزال.
تدفق المنتوجات الزوالية وظاهرة الاستبدال
رأينا مما سبق، أنه خلال مسيرة التاريخ، كانت هناك حِرف مستقرة بمقاييس جيل أو أجيال كاملة، ولكن في العصر الحالي، أو قل: في العقدين الأخيرين من القرن الحالي بدأت حرف كثيرة تفقد أرضيها، وحل الاستبدال ((للشيء )) الخرب، أيا كان من منتوجات الحضارة المعاصرة، محل إصلاحه، وإعادة تشغيله، وصيانته؛ وتم ذلك، لأن التسارع الكبير في استيراد أحدث ما أنتجته المصانع المتطورة، لم يترك مجالا لتطوير الحرف، والمهن التي كانت تقوم بدور الإصلاح والصيانة، فارتفعت تكلفة الإصلاح والصيانة. لماذا لا يستبدل الفرد ثلاجته بأخرى جديدة، إذا كانت تكلفة الاستبدال، لا تفوق كثيرا تكلفة الإصلاح ؟!(9/55)
أصبح التغيير والاستبدال، ظاهرة متميزة في المجتمعات الغربية، لها عندهم مبررات اجتماعية، واقتصادية ترتبط بالعوامل النفسية، والاجتماعية، لتلك المجتمعات، فهم الذين يصنعون البدائل على أي حال، وهم الذين يطورونها، ويحسنونها، وهم الذي يستفيدون منها في جميع مجتمعاتهم، وزيادة الإنتاجية القومية عندهم، ونحن لا نناقش كل ذلك، ولا نبرره لهم، ولكننا نناقش تكرار الظاهرة نفسها في مجتمعاتنا، بما هي عليه من تخلف تقني، وتأخر صناعي . إن تكرار الظاهرة عندنا، يدل على أن مجتمعاتنا، نقلت أشياء الحضارة الغربية ، ونقلت معها مظاهر وعادات مجتمعات الغرب الاستهلاكية، دون إدراك إلى أننا لا نصنع ما نستهلك، وهم يصنعونه.
إن هذا الاستبدال المتتابع لتلك المنتوجات ((الزوالية )) على حد تعبير ((الفن تفلر )) مؤلف كتاب صدمة المستقبل سوف يؤثر تأثيرا سلبيا على استيعابنا لماهية هذه المنتوجات، والتدريب على صيانتها، وبالتالي عدم إعادة انتشار المهن، والحرف، وتطويرها، ورسوخها في المجتمع، واحترام أربابها، ومحترفيها من أبناء الأمة.
إن ظاهرة الإخلاد لعالم الرغبات، والخدمات والمستهلكات، ظاهرة واضحة في مجتمعاتنا. إن لم نتدارك أمرها، فإنها ستجر المجتمعات إلى أمراض اجتماعية كالاتكالية، والاستسلام، والركون، والترف، والدعة إلى آخر السلسلة إن لم تكن قد فعلت ذلك.
خلصنا مما سبق إلى أن كل مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية، أخذ ينتقل بعيداً، رويداً رويداً، عن الحرف التي كانت سائدة فيه، والتي كانت تغطي معظم احتياجاته عندما كانت تلك الاحتياجات، بسيطة غير معقدة، إلى مجتمع يلهث وراء عالم الأشياء المتسارع في خطاه.
وعلينا أن نؤكد مرة أخرى، على أن هذا التسابق في عالم الأشياء، لم يتح لنا فرصة للتعمق في التقنية الغربية الضاغطة، ولم يعطنا فرصة لتعلمها، ومازلنا نقف عند بابها، لم ندخله بعد. والحديث هنا ذو شجون، يمكن لنا أن نفيض فيه ونعيد، ولكننا نؤثر أن نقول: إننا يجب أن نستغل عشقنا لعالم الأشياء الغربي، في العمل على إيجاد وتطوير منظومة حاكمة للتقنية في بلداننا، تكون الصيانة أو فصل عملي فيها.
إننا وإن كنا لا نصنع الأشياء، فلا أقل من أن نصونها، وإننا وإن كنا لا ننتج ما نستخدم، فلا أقل من أن نحافظ على ما نملك، والصيانة مدخل عظيم للتعلم التقني، لو أحسنا تنظيمه، وإدخاله في حياتنا.
ولسائل مهتم بهذا أن يسأل:
ماذا فعلت كليات الهندسة في جامعاتنا لتعزيز مفهوم الصيانة؟
لو أردنا الحديث عن مدى إعداد المهندس للصيانة، لوجدنا أن هناك قصوراً شديداً في الاهتمام بالصيانة والتشغيل، في برامج تعليم الهندسة، في الجامعات العربية عموما، ومن ثم عدم إدراك المهندس بوضوح، لدور التشغيل والصيانة، في حياة المنشأة.
وحديثنا عن تقصير كليات الهندسة في الجامعات العربية عموما،، في خلق الوعي وتوطين القدرة لدى المهندس، تجاه منظومة التشغيل والصيانة، هو نقد ذاتي نوجهه إلى أنفسنا؛ لأننا محسوبون على التعليم الجامعين ومنه وإليه نعود، فالملاحظ أن مناهج الهندسة، وبرامجها، وخططها الدراسية تهتم ربما بأحدث نظريات التصميم، وبالتحليل الرياضي للظواهر الهندسية، وينسون ولا يقبلون على التصميم العملي غلا قليلا، فإذا انتقلوا إلى النواحي التقنية في المناهج، وجدتها صفرا غليظاً.
وهذا أمر لو استمر، يشكل ضغطا حضاريا، على خريجي كليات الهندسة في العالم العربي.
ليكون حديثنا عمليا فلنأخذ مثلاً من الواقع:
خذ منهج الهندسة في ميكانيكا الموائع ( Fluid Mechanics ) السائد تدريسه في كليات الهندسة اليوم، وابحث في مكوناته الثلاثة، التي يجب أن تكون فيه، وهي الناحية التحليليه، والناحية التصميمية، والناحية التقنية، وسوف تجد أن حوالي 98% من المنهج يركز على الناحية التحليليه لعلم الموائع، بمعدلات رياضية، واستنتاجات، وتفريعات، لا يحتاج إليها طالب الهندسة، ومكانها الطبيعي في كلية العلوم، وهناك فرق بين علم الموائع. وسوف تجد 2% من المنهج للناحية التصميمية، ولن تجد شيئا من الناحية التقنية، والنتيجة أن الدارس لهذا المنهج لا يقدر على إدراك عمليات التشغيل، ونظرياتها، وأساليب الصيانة، فكيف بربك تريد من هذا الدارس، أن يتخرج بعد ذلك ويتعامل مع الأجهزة والمعدات في الحقل؟ هم لن يسألوه في المجتمع عن كيف يحل هذا المعادلة أو تلك التي تصف له الجهاز، ولكنهم يتوقعون منه حداً أدنى من معرفة: كيفية تصميم نظم تحكم للأجهزة
(Control Systems ) ، التي تقوم بتوزيع المياه في المدينة، وشبكات أنابيب المياه فيها، وكيفية تشغيلها، وصيانتها، كل هذا مطلوب في مجتمعاتنا، فنحن لا نصنع شبكات المياه، ولا أجهزة التحكم الآلي، مثل أهل الصناعة المتقدمة، وإنما المطلوب أساساً هو مجموعة من شبكات توزيع الأنابيب.
إذا نظرنا بعمق في هذا المثل سقناه، وجدنا فعلاً، أن إهمال علم الصيانة هذا، بدأ من التعليم نفسه، ولذا فإننا ندعو المعنيين بمناهج التعليم في بلداننا، أن يعيدوا النظر في صياغة مناهج الجامعة، لتتجه إلى السبيل القويم والفعال، وسوف نتعرض لهذه النقطة بعد قليل بشيء من التفصيل.
على أن الحديث اعن الصيانة، يظل حديثاً واسعاً، ومتشعباً، وذوي شجون، وشؤون، وصلة مباشرة بوضع التقنية في مجتمعاتنا، ولهذا سوف نعتبره مدخلا للتعرض للموضوع الأشمل، وهو تنمية التقنية، في الصفحات التالية.
=============
استنبات التقنية وتنميتها
استنبات التقنية وتنم
لعل بالإمكان أن نطرح في البدء سؤالاً نعتقد أنه مهم وأساسي:
كيف تستطيع أمتنا، وهي تقف عند أبواب القلاع العلمية والتقنية لحضارة الغرب، أن تستوعب علوم الغرب وتقنياته؟ هل هناك جدولة زمنية لتتابع إدخال علوم وتقنيات، بحيث إذا استوعبنا مرحلة، انتقلنا إلى مرحلة ثانية، وهكذا؟
ليس من الصواب التصور، بأن الإجابة سهلة وبسيطة، لكنها على أي حال غير مستحيلة، ويمكن تجزئتها على مراحل، نستعرضها فيما يلي، من خلال المداخل الأساسية، لترسيخ التعليم التقني، والتدريب المهني، ومن هذه المداخل أيضاً التشغيل والصيانة، باعتبارهما معاً، الدرس الأول في التقنية، ثم التقليد الصناعي باعتباره أساس استنبات التقنية في المجتمع.
التشغيل والصيانة - الدرس الأول في التقنية
تعتبر الصيانة من أهم المشكلات، بل التحديات التي تواجه المجتمعات النامية، ونعني بالصيانة هنا: استمرارية أداء الأجهزة، والمعدات، والمباني، وغيرها، بصورة فعالة ومنتظمة، لفترة أطول، مع الإبقاء عليها.
ولا يغيب عن الذهن، أن الصيانة أداة من أدوات الاستنبات التقني في المجتمع، وترتبط ارتباطاً مباشراً باستيراد المنتوجات والأشياء، بل حتى ترتبط بملكيتها بعد استيرادها، وبالتالي فإن تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها، يمكن اعتباره شرطاً من شروط الملكية في حالات معينة.
إننا نعتقد أن الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات والمركبات، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، يعين على إتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه.(9/56)
إننا ننادي أن يكون تعليم ((الصيانة العامة ))، جزءًا لا يتجزأ من خطط التوعية والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات، وذلك لترسيخ مفاهيم الصيانة بشتى الوسائل والطرق، كي تدخل في مناهج حياتنا، وسبل تفكيرنا، ولتتحرك أيدينا المعقودة، وتنشط عقولنا الخاملة، وتحل عقدة الانبهار عندنا بمنتوجات صنعها غيرنا، لنفهم كيف تعمل هذه المنتوجات؟ فنقدرها، ونحترم تعاملنا معها، لنحافظ عليها أطول وقت ممكن. لذا فإن القوى البشرية التي تعمل في مجالات الصيانة، تصبح من هذا المنطلق، طاقة وطنية تحتاج إلى رعاية قصوى، واهتمام تام بتنميتها، وتدريبها، وتوجيهها.
إننا ننادي بإعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات ودور العلم، حتى إيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا، إن أمكن ذلك. كما أن علينا تشجيع تعليم الصيانة في الورش الأصلية،والمصانع الوطنية، وحبذا لو فرضت دولنا قوانين على تلك الورش والمصانع، تطالبها بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها، وإثارة الوعي بعمل نماذج وصناديق هوايات تتعلق بالمنتج الوطني.
ولنا أن نتساءل:
ماذا لو قامت الأجهزة المختصة في وزارات الصناعة في بلداننا، مع أقسام الورش في كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني، بإعداد دورات تدريبية عن المنتوجات الشائعة جداً في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وأصدرت كتيبات مبسطة عن طريقة تركيبها، وصيانتها، وكذلك الصيانة الأولية للسيارات، والمركبات المتحركة، والأثاث، والأدوات المنزلية؛ توزع مجانا؟ إن مثل هذا العمل سوف يعين، ولا شك على انتشار الوعي بين المواطنين، لحب العمل اليدوي، وممارسته، لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير.
إن التركيب، والتشغيل، والصيانة، هم المداخل الأساسية للتقنيات المختلفة في المجتمع.
كما أن تدريس الحرف الشعبية، مثل الصيد، والزراعة، والصياغة، والخياطة، وخلافها، وإعداد كتيبات عن تركيب وصيانة أدواتها، يعتبر أمراً هاما وحافزاً لاستبقاء هذه الحرف.
والأمر يحتاج على كل حال إلى ترتيب الصيانة ترتيبا رقيما، وربطها بطيف القدرات البشرية المتوافرة، مع تجميع مكتبة للصيانة، من كل الكتب التي كتبت في الغرب، ليستعان بها في إعداد مثيلاتها باللغة العربية.
إنه من المفيد ملاحظة أن أدوات الاستهلاك التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، تصبح عبئاً مضاعفاً على الأمة، لأن المتخصصين في هذه الصيانة قلة، فحبذا لو قللنا من استيرادها.
إن صيانة الأجهزة، والمعدات الاستهلاكية المتطورة، تحتاج إلى طاقات بشرية مؤهلة، ليست متوافرة وطنيا، ولا حتى قوميا، وبالإمكان، بطبيعة الحال، استئجارها من خارج الحدود، إلا أن الأمر لا يقف عند الاستئجار، وإنما يتعداه إلى النواحي النفسية في الأمة، وشعورها بالتبعية، كما قد يؤثر على كثير من سلوكها الدولي، والداخلي. والبديل الوحيد المؤقت لاستئجار الصيانة المتطورة، هو تقليل استيراد الأشياء الاستهلاكية التي نحتاجها وفي ذلك فائدة مزدوجة.
إذن فللصيانة هدفان أساسيان هما(1):
- حفظ الثروة الوطنية، المتمثلة في الأجهزة والمعدات المستوردة أو المصنعة.
- استنبات التقنية.
ونحن أمة تعيش على الاستيراد الصناعي، ونظل كذلك لفترة قادمة غير قصيرة، وفي مثل هذه الظروف تلعب الصيانة دوراً أساسياً وجوهرياً في حفظ الثروة الوطنية، وفي استنبات التقنية.
والخطوات الطبيعية، لتعزيز مفهوم الصيانة في كياننا الاجتماعي، ولتحقيق الهدفين السابقين، هي:
أولا: تصميم منظومة الصيانة تصميماً يرشّد الجهد العام، وجهد الأفراد، في تناغم يحقق المقاصد المرجوة، من غير تفريط، ولا إفراط. وهذا يتطلب صياغة دور الأجهزة العامة في المنظومة، ليحقق مجموعة من الوظائف المتكاملة، ومن ذلك صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:
- استيراد الأشياء وحق الصيانة.
- ملكية الأشياء، وضرورة تعلم الصيانة الأولية، والامتحان فيها شرط من شروط الملكية، أو باختصار: التشغيل، وحق الصيانة.
- التقليل إلى الحد الأدنى من تدفق ((الزوالية )) من العالم المتطور تقنياً، حتى نتيح للإنسان العربي والمسلم قدراً من الوقت، للتعامل مع ((بضائع بطيئة )) يصونها، ويتعلم منها الجديد.
- إلزام المصانع الوطنية بعمل كتب صيانة واضحة للمستعمل.
ثانيا: توسيع وتأكيد دور مؤسسات التعليم والتدريب في نشر الوعي التقني، عن طريق الصيانة، وذلك بإعادة النظر في كل مناهجنا التعليمية، لتخدم منظومة الصيانة، فالدراسة الأولية لمناهجنا التعليمية، سواء ما قبل الجامعة أو ما بعدها، تظهر بوضوح، أن الصيانة ليست وجهة، ولا هدفا، من أهداف العملية التعليمية. وبالطبع لن يضطلع بهذه المهمة في دولنا، إلا المشتغلون بالتعليم، سواء كانوا في الجامعات أو في غيرها.
وبجانب النظر في المناهج جميعها، كي تتخذ لنفسها وجهة صيانة، لابد من إعداد مجموعة من المناهج، على مستوى البكالوريوس ، ومستوى الدراسات العليا، تهتم بالصيانة علماً، ونثير في الطلاب والأساتذة الرغبة في بحوثها، حتى تصبح المفاهيم الصيانية التي تتمخض عنها الدراسات المختلفة، شائعة، بين أكبر قدر من التقنيين، الذين سيديرون دفة الصناعة في أجيال مقبلة.
ونخلص من ذلك إلى القول: بأنه من غير قوانين حاكمة، وتعليم، وتدريب يوفر الطاقة البشرية المدربة، وإدارة محيطة بأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاري، من غير ذلك يصبح كل جهد في الصيانة ضائعا، وتتعارض الجهود، وتصطدم المصالح.
وإذا جاز لنا أن نستخدم تعبيراً شائعاً في الحاسبات الأليكترونية ، فنقول: إن القوانين والأنظمة التي تحكم:
- منظومة الصيانة،
- وتوفير الطاقة البشرية الوطنية المؤهلة والمدربة
- وإيجاد الإدارة المستوعبة لأبعاد العملية الصيانية ودورها الحضاريّ،
كلها مكونات (لينة ) ( Soft ) للعملية الصيانية.
أما المكونات ((الصلدة )) (Hand ) لعمليات الصيانة فتنحصر في أنواع الخدمات التالية:
- خدمات الإصلاح والتجديد.
- خدمات الصيانة الدورية والوقائية.
- خدمات التركيب والتشغيل.
- خدمات التدريب، واكتساب المهارات الخاصة.
بقي علينا أن نحدد من خلال دراسة علمية متخصصة، نماذج مؤسسات الصيانة المطلوبة في المرحلة القادمة من عمرنا الصناعي وذلك عن طريق:
تحديد نوعية الصيانة المطلوبة، وحجمها، وفترة مستقبلية معينة.
- اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة التي يمكن إقامتها، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المنشآت.
- اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية لعمليات الصيانة، من خلال قائمة أولويات تحكمها(1 ).
التقليد الصناعي. أساس استنبات التقنية
يعد التقليد، من الدروس الأساسية للتعليم والتدريب التقني، الذي يخدم بدوره الصناعة الوطنية. والتقليد بمفهومه الصناعي، أو بما يمثل في مجالات التقنية هو: استيعاب كامل للقطع المتعددة، التي يتكون منها الجهاز المراد تقليد صناعته، وخواص المواد التي تصنع منها، وإدراك تام لدور كل قطعة منه، وما تقوم به من عمل، كي يؤدي الجهاز وظيفته بكفاءة وإتقان.
وإتقان التقليد الصناعي يمر بمراحل عديدة، لعل من أهمها ما يتعرض له المُصَنّع من بحوث وتجارب، للوصول به إلى الأداء الكفء. ولهذا تصبح البحوث التطبيقية والتجارب الميدانية من أهم واجبات المُقَلدْ.(9/57)
لقد أدركت اليابان على وجه الدقة، ما للتقليد الصناعي من دور مهم، وعملي، وحاسم، في سبيل النهوض بصناعتها، وتبوئها مكان الصدارة، أو على أقل تقدير المزاحمة عليه، في كثير من الصناعات المتطورة المعاصرة، وسوف يتضح لنا شيئا مما قامت به اليابان، من أجل نهضتها وتقدمها، عندما نستعرض تجارب الأمم في مضمار العلوم والتقنية.
وعلينا أن ندرك أن مستوى التقليد، يرتبط بمستوى الحالة العلمية والتقنية، السائدة في المجتمع من قبل، وفي هذا المجال لابد أن تتعلم الشعوب الأقل تقنية أن ليس كل شيء تبغي تقليده، تستطيع أن تحققه، أي أن مستواها العلمي والتقني، يفرض عليها قيوداً وعقبات لا يمكن تجاوزها إلا إذا غيرت من مستواها العلمي والتقني.
ونعتقد أن على جزء يسير من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، مسؤولية واجبة الأداء، وهي أن يحولوا الرسائل، والأبحاث الجامعية، أو بعضها، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.
إن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الغرب، يجب أن نجتازها بمجموعة من الوثبات في التقليد المبرمج، يتلوها رغبة جادة في التأقلم على المقلد، من الإنتاج والمصنوعات، وهذا يحتاج إلى بحوث متصلة عن: ماذا نقلد؟ وماذا نؤجل؟ أي : وضع برنامج زمني يضيّق الفجوة العلمية، بين التقنية والتقليد.
الفجوة التقنية- نحن والعالم المتطور
إنه من المفيد أن تتكون لدينا قناعة ذاتية، بأن الفجوة العلمية والتقنية، بيننا وبين الدول الصناعية، تزداد ولا تنقص، وتتسع ولا تقل، برغم الظاهر من مؤشرات تدل على الاستعداد للتقدم العلمي، في مجالات عديدة، أبرزها تعدد الجامعات، وتنوع مجالات الأبحاث، وازدياد أعداد الملتحقين، وبالتالي المتخرجين من الجامعات، والمعاهد العليا. والقناعة تلك، يجب أن تهدف إلى إعطائنا دفعات قوية للعمل الجاد، دون أن توقعنا في شَرَك المتشائمين، الذين يظنون أن معدل اتساع الفجوة يتناسب مع حجمه، أي أنها تزداد بقانون أسّي، لأن هذا يؤثر على الحالة النفسية في مواجهتنا للتحدي الحضاري التقني.
وإذا كان الذين ينظرون للعلاقات الدولية بمنظار أسود، يعتقدون أن هذه الفجوة تزداد اتساعاً، بفعل فاعل من الدول الصناعية، فإن الذين يؤمنون بالاعتماد على الذات ـ ونحن منهم ـ يشعرون أن الفجوة تزداد اتساعاً لأسباب ذاتية محضة، ربما ساعدتها أسباب دولية، ذلك أن مشكلة التغيير العلمي والتقني، لا يمكن حلها أصلا إلا بجهود ذاتية، تستأنس بخبرة الذين سبقونا في هذا المضمار. وعلى الذين يظنون أن الذي يملك التقنية سوف يمنحها للذين لا يملكونها، لقاء مال أو طاقة تباع، أن يدركوا الحقيقة المجردة، وهي أن التقنية لا تمنح لأمة غير آخذة بأسبابها، ولكنها تستنبت بذوراً، فتنمو في أمة قد أعدت لها أرضاً، وتموت تحت السطح في أمة أهملت رعايتها: وتلك الحقيقة لا تعني تشكيكاً في عطاء الدول الصناعية بقدر إقرارها لواقع معاصر ملموس.
- آن لنا أن نعترف: بأن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين.
- آن لنا أن نعي جيّداً: أنه لن يمكننا الحصول على دقائق التقنية المعاصرة، حتى ولو دفعنا من أجلها المال الوفير.
- آن لنا أن نصدق أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب.
- آن لنا أن نؤمن، بأن ما يسمى بنقل التقنية من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة، هو فرية كبرى، صدقتها شعوب العالم الثالث وظنت معها أن التقنية سلعة تبيعها لها الأمم المتقدمة بقدر من المال.
- آن لنا أن نعتقد أن التقنية لا تنقل، ولكنها تستنبت بالجهد والمجاهدة، وتستوعب بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم نقل التقنية أن يستيقظ على الحقيقة.
دعونا نزيد هذا الأمر إيضاحاً فنضرب مثلا بصناعة السيارات، المعروف أننا لا يمكن أن نصنع سيارة، من غير أن نتعلم كيف نصنع ترساً، من تروس نقل الحركة. صحيح أن الكتب العلمية، تمتلئ بالمعلومات النظرية، والنظريات العلمية عن كيفية صناعة ترس، ولكن لابد أن يجيء المهندس، ليحوّل هذه المعلومات إلى روتين، يقوم الفني بتبسيطه للعامل ليصنعه، وقد ينشأ عن ذلك مشاكل في التصنيع، فيرفعها المهندس لمجموعة التطوير إلى حلول علمية ، لمادة الترس، ومعالجتها الحرارية، وطريقة تصنيعها، ويترجم المهندس ذلك كله في خطوات واضحة للفني، ليتولى الأخير تنفيذها، بعد ذلك مع العمال.
إننا نصنع تروساً في بعض بلادنا العربية، ولكن الشكوى الدائمة منها هي: أن المعاملة الحرارية لسطوحها رديئة جدا، إذا ما قورنت بالتروس الأوروبية، أي: أن هناك دقائق في الصناعة الأوروبية، لا يمكن أن نحصل عليها، إلا إذا وفقنا إليها، عن طريق العلم والتجربة، فأوروبا لن تمنحنا السر التقني، للتركيبة المعدنية لمادة الترس، التي جعلته متفوقاً، مهما أغدقنا عليها من المال.
إن عمليات التدريب، والتعليم، والتصنيع، عمليات ذاتية، تنمو ببطء أولاً، ثم تصل بعد ذلك معها إلى نمو أسّي، مما يجعل المراقب لهذه العمليات في أولها، يظن أن معدل التغيير الأولي البطيء، لن يغلق هذه الفجوة أبدا، في حين لوجدّت الأمة إلى أن تصل إلى تغيير المعدل، لوجدت نفسها تتقدم بسرعة باهرة، من شأنها أن تغلق هذه الفجوة، في زمن قصير.
ويمكن لنا أن نضرب الأمثال بأمريكا، التي لحقت بأوروبا في فترة قصيرة، عندما أكدت عزمها على التطور بتخطيط متقن، وعمل متصل، وإمكانات هائلة، واليوم تلهث شعوب أوروبا وراء التقنية الأمريكية، وتقترب منها، ولا تكاد تلحقها. ويمكن أن نقول ذلك على التقنية الأمريكية، تجاه بعض التقنيات اليابانية، ولك أن تتعجب، ولك أن تندهش.
وإذا كنا ما زلنا في أول الطريق، ومازال معدل تغير الفجوة العلمية والتقنية بطيئاً، والفجوة تزداد مع الأيام، فعلينا أن ندرك، أن ذلك ليس لتقهقرنا، بل للتقدم السريع الذي يحرزه العالم الصناعي، وذلك كله مفهوم في ظل ما قدمناه، لأننا نؤمن أننا سوف نصل يوما ما إلى نقطة التحول إلى المعدل الأسرع وحينئذ تبدأ الفجوة في الانغلاق.
ولكن علينا أن نتعرف على تجارب الأمم من قبلنا، لنتعلم منها، كيف استطاعت أن تتقدم علمياً، وتقنياً وتضيّق الفجوة العلمية والتقنية، والتي تفصلنا عن عالم الغد.
تجارب الأمم من قبلنا
إن تجارب الأمم الأخرى في هذا المجال، ميدان رحب، ندرسه ونمحصه، ونأخذ العبرة منه، لنحدد الطرق في هدي تلك الدراسة، ولا نقول: بنقل تجارب غيرنا، لأننا نؤمن أن التقنية ما هي إلا غرسة أو شتلة، تغرس في أرض سبق حرثها، ينمو الزرع فيها برعاية أبنائها، وقد يكون من المناسب أن نستفيد من تلك التجارب، ولكن تبقى مسؤولة الأبناء في تمهيد التربة والغرس والرعاية هي الأساس.
الأمة اليابانية:
وقد تكون أولى تلك التجارب وأهمها، هي تجربة اليابان الرائدة، وهي اليوم في الصف الأول، بين الدول الصناعية، في الوقت الذي نجد فيه الهند والصين، تسعيان لإيقاف اتساع الفجوة، بينما تقف دول العالم الثالث، على حافة فجوة علمية وتقنية، بينها وبين دول العالم الصناعي، لم تستطع بعد من تغيير معدلها.
ماذا فعلت اليابان؟
تحضرني هنا كلمات للأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (( حديث في البناء الجديد )) يقول فيها:(9/58)
((إن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنها استوردت منها الأفكار بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص )).
ومع ما في هذا التشبيه من دقة في القول، فإن اليابان استوردت من الأفكار، ما يتلاءم مع تربتها الاجتماعية وبخاصة الأفكار التي تثري التقنية، أي : أنها جردت الأفكار من أي مضمون اجتماعي أو ثقافي، واستخلصت منها ما يتلاءم مع تطورها، وتقنياتها، فلم تجر وراء نماذج تطبقها، ولم تستورد خبراء من الخارج، ليقوموا بالعمل عوضا عن أبنائها، ولكنها توسعت في الابتعاث للخارج، ليتفاعل أبناؤها مع الحضارة الغربية، ولينهلوا من العلوم الحديثة، وهم في ذلك في شغل شاغل للإجابة عن سؤال مهم هو:
ما سبب تقدم تلك البلدان علينا؟
لقد تبنت اليابان أكبر حركة للترجمة، شملت جميع المعارف والعلوم، فكانت النتيجة انصهار الأفكار مع إمكانات الإنسان الياباني، بتقاليده، وتراثه، وقيمه، في بوتقة واحدة، نقلت المجتمع الياباني إلى الصف الأول وبدون خسائر تذكر.
واليابان دولة فقيرة في مواردها الطبيعية، ولكنها غنية بالإنسان الياباني الملتزم، المشغول دائما بقضية وطنه.
لما سئل (دوكو ) أبو الاقتصاد الياباني عن عبقرية الشعب الياباني كان من رأيه(1 ):
((إن المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما.
وعمال المصنع قد ولدوا ليموتوا في داخله. وإذا ترك الواحد منهم هذا المصنع، فإنه لن يذهب مطلقا إلى مصنع منافس، وإذا حاول أحد عمال هذه المصانع، أن يذهب إلى مصنع منافس، فان المصنع لا يقبله لأن العائلات أسرار، والعائلات اليابانية تتنافس، ولكنها لا تتصارع، إنما تتفوق على المصانع الأوروبية والأمريكية، من أجل رفاهية وعظم الشعب الياباني كله )).
وقد يكون أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان، وعلى أرضها وقفت اليابان بإباء وشموخ، حتى بعد أن تعرضت لنكبة التدمير بالقنبلة الذرية في (هيروشيما )، وتخطت العقبة، ولم تتوقف، وبدأت مرة أخرى تدرب شعبها، تطوره، وتعلمه.
ولا أدري لماذا تلح عليّ قصة المواطن الياباني، الذي استطاع أن يسهم إسهاماً عظيما في نهضة بلده اليابان، التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر أمة حائرة، تتلمس طريقها، حتى إنهم أرسلوا بعثة إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل يبحثون عن أسباب تقدم مصر عليهم، وأتأمل اليوم في حالنا وفي حالهم، وأتلمس الإجابة في قصة هذا الياباني، الذي يمثل ظاهرة العمل، التي قفزت باليابان من دول العالم الثالث، إلى دولة صناعية كبرى، ولله في خلقه شؤون.
ورجل قصتنا اسمه ((تاكيو أوساهيرا ))، وندعه هو يحكي قصته كما رواها وليام هارت، ونقلها عنه الأستاذ حسين مؤنس، في مقالة له نشرتها مجلة ((أكتوبر )) المصرية، بالعدد رقم 234 وتاريخ 14 يونيه 1981م
يقول أوساهيرا، وكان في هذا الوقت مبعوثا من قبل حكومته للدراسة في جامعة هامبورج بألمانيا:
((لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني، الذي ذهبت لأدرس عليه، في جامعة هامبورج، لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى ((موديل ))، هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنعه، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها. وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أياً كانت قوته، وكأنني أقف أمام لغز لا يحل ، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركاً، قوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجواهر. وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا، لغيرت اتجاه تاريخ اليابان. ))
وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة حصان، وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات، وتروس، وما إلى ذلك، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك، وأعيد تركيبها، بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر ((موديل )) الصناعة الأوروبية.
وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت منظر المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة، رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت، الآن لابد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ، وتصححه، وتجعل هذا المحرك، العاطل يعمل، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام. عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدى، صنعتها بالمطرقة والمبرد … إننى بوذي على مذهب ((رن ))، ومذهبي هذا يقدس العمل، فأنت تتعبد إذ تعمل، وما تعمله بعد ذلك من شيء نافع، يقربك من بوذا .
بعد ذلك قال رئيس البعثة ـ وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحيا ـ قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك، التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلاً من أن أعد رسالة دكتوراه، كما أراد مني أستاتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر معادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.
قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل، كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.
وعلم ((الميكادو )) بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات. وعندما أردت شحنها إلى اليابان، كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلنا إلى ((نجازاكي )) قيل لي: إن ((الميكادو )) يريد أن يراني. قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً.
استغرق ذلك تسع سنوات. وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ووضعناها في قاعة خاصة، بنوها لنا قريباً منه، وأدرناها، ودخل ((الميكادو ))، وانحنينا نحييه، وابتسم، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة.
هكذا ملكنا ((الموديول ))، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب، ثم ذهبنا وصلينا في المعبد، وبعد ذلك نمت عشر ساعات كاملة لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.(9/59)
انتهت قصة ((تاكيو أوساهيرا ))، قصة مدهشة حقاً أعظم ما فيها هو هذا الانتماء الكامل للوطن، والاستسلام المدهش لحاجته الحقيقية، والعشق الواضح، للعمل المنتج.
قد كانت حاجة الوطن إلى ((موتور ))، أهم وأعظم من شهادة دكتوراه، يعود بها ليتبارى ويتفاخر.
وانظر كذلك إلى أمره، يعتذر عن مقابلة ((الميكادو ))، قبل أن ينجز لأمته شيئا، لأنه اعتبر تلك المقابلة، شرفاً عظيما لا يستحقه، من لا يقدم لأمته عملا منتجا، ومجهوداً واضحاً.
تلك هي الروح الحقيقية لبداية انطلاق اليابان، لم تشغل أبناءها المسميات، أو المناصب، وإنما شغلتهم أهداف سامية للنهوض باليابان، وشغلتهم معرفة أسرار التقنية، وليس نقلها، ليس من الغريب إذن، أن ترسل اليابان إلى مصر، في عهد الخديوي إسماعيل بعثة لتدرس أسباب تقدم مصر عليها، ولتقف اليابان موقف التلميذ من مصر تتعلم وتستفيد، وكذلك كان موقف اليابان من الحضارة التقنية الغربية.
قد أكد هذا الفهم ((تاكيشى هاياشي )) في بحثه الممتع عن ((الخلفية التاريخية لنقل التقنية، والتحولات، والتطورات في اليابان ))، وهو بحث قمت بترجمته إلى اللغة العربية بشيء من التصرف لا يخل بالمعنى، ويجد القارئ الترجمة كاملة من الفصل السادس من كتاب ((إنتاجية مجتمع )) (1 ). ومن الممكن أن نستخلص منه الحقائق التالية عن تجربة اليابان:
1- أدخلت اليابان العلوم والتقنية الغربية على مرحلتين.
الأولى عن طريق استيراد البضائع التامة الصنع، ولما لم تُجْد تلك الطريقة، انتقلت إلى مرحلة أخرى، حيث تم بذل الجهود لاستنبات التقنية، عن طريق إعادة إنتاجها، واستنساخها، وصرفت اليابان جهودها إلى تعلم طرق التشغيل، والإصلاح، والصيانة، للآلات المستوردة، حتى أصبحت تقوم بإنتاج آلات شبيهة بالآلات المستوردة، ولكنها تتلاءم مع احتياجاتها. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى تفكيك قطار كامل، تم تصنيعه في الولايات المتحدة، بعد تسلمه مباشرة، وصناعة آخر شبيهاً له.
2- سبقت التقنية الحربية مختلف التقنيات الأخرى، في دخولها إلى اليابان، وقد كان ذلك رد فعل للتدخل العسكري من القوى الأجنبية الذي ارتبط مباشرة بالتهديد الاقتصادي، وتحت هذا التهديد، كانت صناعة المدافع، والسفن الحربية، أسبق الصناعات، بل إنها كانت القاعدة، التي انطلقت اليابان منها، برصيد واسع من الخبرة فيها، عندما أقامت عدداً آخر من الصناعات، كما حدث في مصنع سك النقود، فقد كانت المعالجة الكيمائية للمعادن، والتي اكتسبت اليابان خبرة واسعة فيها، في مجال صناعة المدافع، أكبر مساعد في نجاح تلك الصناعة.
3- بدأت عمليات التصنيع الرئيسة في اليابان، بالصناعات الثقيلة، كصناعة الحديد والصلب والآلات، وخطوط السكك الحديد، وهي في ذلك تختلف عن أوروبا التي بدأت بالصناعات الخفيفة بعد الثورة الصناعية، ولم تكن التجربة اليابانية سهلة، ولكن التصميم على الهدف، كان دافعاً لهم على المواصلة، وقد حدث ذلك عند إقامة مصنع الحديد والصلب، فقد حاولت الاستعانة بأحد الخبراء الإنجليز، ولكن المصنع فشل، ثم عاودت الكرة مع الخبرة الألمانية، وفشلت مرة أخرى، حتى استطاع الخبراء اليابانيون حل المشكلة، واستفادت اليابان من ذلك درساً مهماً، هو أن مجرد نقل التقنية المتقدمة، وإعادة تطبيعها لا يؤديان إلى الهدف، كما أنها انتهت إلى محدودية فعالية الاستعانة بالخبراء الأجانب.
4- كان من أهم عوامل نجاح التجربة اليابانية، اكتشافها حقيقة إجراء التغيرات الملائمة للظروف العملية على التقنية المستوردة، لكي تتلاءم مع ظروفها المحلية. وعلى سبيل المثال؛ فإنها في صناعة الغزل والنسيج، اتخذت طابعاً خاصاً بها يتلاءم مع طبيعة السكان، والمادة الخام بها، برغم أنها استفادت من خبرة العديد من الدول في هذا المجال.
تلك حقائق أمكن استخلاصها من البحث، ويهمنا أن ننقل عبارة قيّمة أنهى بها البروفسور ((هاياشي )) بحثه وهي:
(( من المهم للتنمية البشرية والاجتماعية ألا تطبق التقنية بسذاجة، ولكن ينبغي مواءمتها بعناية، ويمكن مواءمة التقنية إذا استخدمت لإنتاج بضائع مناسبة، وإذا أمكن لها أن تجد أسواقا مناسبة )).
الأمم الأوروبية:
وأوروبا، ماذا فعلت في سبيل سموها التقني؟ إن دارسة تاريخها بعمق ودراية، يكشف عن حقيقة أساسية، هي أن الثورة الصناعية التي قامت فيها، لم تكن سوى وليدة لاتجاهها نحو العلم التجريبي، الذي صنعه العلماء المسلمون، ومن خلال المعابر العديدة، التي انتقلت عليها الحضارة الإسلامية. حدث ذلك في ذات الوقت تقريبا الذي طلق المسلمون فيه أنفسهم من العلم التجريبي.
لم يذهب المسلمون إلى أوروبا ليشعلوا الثورة الصناعية، ولكن أوروبا وقفت من الحضارة الإسلامية موقف التلميذ، تعلمت، وترجمت، واستوعبت، ثم أبدعت تقدما وحضارة، باسقة، أصبحت وكأنها غريبة عنا، برغم أنها نتاج تراثنا العلمي ولكننا أضعناه.
لقد أمضى الغرب زهاء أربعة قرون، ليبني قلاعه العلمية والتقنية، والقاريء الموضوعي لتاريخ الإنسانية، لا يملك إلا أن يعترف، بأن أعمال العلماء العرب والمسلمين، تحتل أنصع صفحات التراث العلمي العالمي، فقد كانت تلك الأعمال الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحضارة الغربية، إذ أن جذور شجرة الحضارة العلمية المعاصرة، تمتد إلى عصور السمو في الحضارة العربية الإسلامية، حين ازدانت تلك العصور بمئات من العلماء العرب والمسلمين، الذي تقرن مساهماتهم بأعاظم العلماء في كل عصر لقد كان لابد من ظهور (ابن الهيثم )، و(البيرونى )، و(ابن سيناء )، و(الخوارزمي )، و(الرازي )، و(الزهراوي )، و(الغافقي )، و(ابن يونس )، و(الصوفي )، و(الكندي )، و(ابن رشد )، و(ابن زهر )، ومن إليهم، لكي يتسنى ظهور (كبلر )، و(كوبرينق ) و(نيوتن )، و(دالتن )، و(أنشتاين )، و(ديكارت )، ومن إليهم. تلك حقيقة، نذكرها بكل فخر، ونشير إليها بكل اعتزاز، لنوقظ بها المشاعر، ونحفز بها الهمم، ونحيي بها النفوس.
نقول: قد أمضى الغرب أربعة قرون، ليبني حصونه العلمية، ويحقق منجزاته التقنية .. وكان لكل فرع من فروع العلم والتقنية، مسيرة معينة، تتميز بفترات التكدس والاستيعاب، ثم فجائيات الإبداع. دعونا ندلل على ذلك الأمر، ونزيده توضيحا، بأن نضرب مثلا بفرع من فروع المعروفة، يعتبر العمود الفقري للتقنية المعاصرة، وهو علم (الميكانيكا ) في عصر ما قبل العالم ((كبلر )).
كان علم ((الميكانيكا )) عبارة عن مجموعة معلومات مكدسة، عن حركة النجوم والكواكب، لا يستبين الإنسان قوانينها، ثم جاء ((كبلر )) واستخرج منها قوانينه الثلاثة المشهورة، فاستغنت الإنسانية على يديه، عن هذا الركام الضخم من المعلومات، واستبدلت به ثلاثة قوانين، لا تشغل أكثر من نصف صفحة، تهتم بمسار جسم، تحت تأثيره قوة جذب مركزية. وفي الفترة ما بعد ((كبلر ))، كان علم الميكانيكا يزداد بطريقة تكدسية، معلومات متفرقة، عن أشياء لا يبدو واضحا ما يحكمها من قوانين، حتى جاء (إسحق نيوتن )، فأحدث باكتشافه لقوانين الحركة الثلاثة، فجائية إبداعية، كانت من بين الأسس العظيمة التي بنى الإنسان عليها حضارته العلمية والتقنية المعاصرة. عن قوانين (نيوتن ) الثلاثة لا تصف حركة الكواكب والأقمار في مساراتها فحسب، وإنما تصف ديناميكية التحرك لكل الأجسام، تحت تأثير أي نوع من القوى.(9/60)
واستمر علم ((الميكانيكا )) بعد ذلك، في حالة تزايد تكديسي دونما طفرة، حتى جاء ((أينشتاين ))، فعمم قوانين ((نيوتن ))، في طفرة إبداعية أخرى، بحيث أصبحت قوانين ((أينشتاين )) قادرة على وصف حركة الأجسام الدقيقة، ذات السرعات العالية، التي تقترب من سرعة الضوء.
ومنذ أن نشر ((أينشتاين )) بحثه عن النظرية النسبية الخاصة، في عام 1905م،وحتى الآن، يتزايد علم الميكانيكا تزايداً تكديسياً، في انتظار طفرة إبداعية جديدة، تأخذ الإنسانية إلى مجالات أرحب من التقدم والسمو.
استخلاص العبرة:
إذن فإن موقف اليابان وأوروبا يتخلص في أنهم سعوا إلى تكديس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض البناء. أما الدول النامية في حركتها الحالية، فإنها تكدس العلوم، والمعارف، والأشياء، بغرض الاستهلاك، وعلى أحسن الفروض، بغرض المباهاة والتظاهر، دون مضمون، ودون بناء.
والعبرة التي يمكن استخلاصها بجلاء من ذلك هي: أن الأمم في مدرسة الحضارة كالتلميذ في مدرسته. في العملية التعليمية، يمر الطالب بثلاث مراحل رئيسة هي::
مرحلة التكديس: وهي مرحلة التلقي للمعلومات، تتراكم لديه يوما بعد يوم، بصورة غير مرتبة، أو منتظمة، ومتعددة المجالات، تليها:
مرحة أخرى، تتضح فيها الصورة في ذهن الطالب، ويتم ترتيب المعلومات بشكل أفضل حيث يبدأ في تكوين علاقات بينها، تساعده على الهضم أو الاستيعاب، ويمكن تسمية تلك المرحلة بمرحلة الاستيعاب، تليها
مرحلة الإبداع: حيث يستطيع الطالب أن يعطي فكرا جديد يختلف عما تلقاه، ولكنه ينبع من جوهره، ويرتكز عليه.
وهاكم التفصيل:
مراحل التدرج الحضاري
مرحلة التكديس:
تتميز مرحلة التكديس الحضاري للأمة ـ أي أمة ـ بأنها ذات معدل بطيء للنمو، يصل إلى قيمة ظاهرية، تبدو العملية معها وكأنها لا تتحرك، مما يسبب ضغوطا لكثير من الأفراد فيستسلموا لليأس، وربما لاذوا بالفرار، ليعيشوا في أمة، تعيش مرحلة متقدمة.
وعلى الأمة أن تدرك، أن بطء النمو في هذه المرحلة، أمر طبيعي جداً، فهي مرحلة غرس، لا جني، يجب أن تصبر عليها، وتتواصى بهذا الصبر، حتى يثبت الرجال، وراء القدوة الصابرة، الثابتة في مواقعها، غير المستعجلة ثمار جهادها، المتمثلة دائماً بالقبول المأثور الذي سبقت الإشارة إليه من قبل، ونعيد رصده للتذكير:
((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ))
فإذا كان هذا الأثر، هو شعار مرحلة التكديس، فإن الأمة تستطيع أن تمر بهذه المرحلة من غير ضغوط نفسية مدمرة، ومعوقة لعمليات النمو ذاتها.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الضغط النفسي، في مرحلة التكديس، من أخطر الأمراض الحضارية، التي تصيب معظم شعوب العالم النامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث،حيث يظن مثقفو هذه الشعوب ـ وهم يرون الفجوة الزمانية كأنما تزداد اتساعا ـ أن لا أمل في اللحاق،. ويفقدون الثقة في أنفسهم، وتضطرب خطاهم على طريق الحضارة، ويفرون من الواجب، ليبحثوا لأنفسهم عن ملجأ حضاري، خدعهم بريقه، ويتركوا من خلفهم شعوباً، تجد نفسها تزداد تخلفا بفرارهم عنها، فكلما أعدت الأمة صفوة من أبنائها لعمليات البناء، فقدتهم، فتخسر المال، وتخسر الزمن بخسارة الرجال.
لذا فإننا نود أن نؤكد مرة أخرى: أن معدل النمو البطيء، في مرحلة التكديس، لا يعني ضياع الجهد، وانما هو ((جهد مكنون ))، أو لنقل بلغة العلماء: إنها طاقة وضع، وليست طاقة حركة، يمكن للأمة استردادها كطاقة حركة، في الخطوات التالية لمرحلة التكديس.
مرحلة الاستيعاب:
إذا تجاوزت الأمة التكديس بثبات، وصبر، وحزم، وإصرار، حيث تكون قد تكدست في وعائها الاجتماعي طاقات علمية، وتقنية، وروحية، وشحذت بذلك الفعالية الاجتماعية للإنسان شحذاً كبيراً، إذا انتهت من هذه المرحلة، التي تتميز بالبطء فإنها تقبل بذلك على مرحلة جديدة، تتميز بسرعة أكبر للنمو، هي مرحلة الفهم، والاستيعاب. في هذه المرحلة الجديدة، تبدأ الأمة في فهم العلاقات العضوية، بين الطاقات المكدسة في وعائها الاجتماعي، فتكشف لنفسها، وبنفسها ما تم اكتشافه في أمم أخرى لتصل إلى الجوهر، بين الركام المكدس، ويعطيها ذلك قدرات جديدة.
حيث سيكون انطلاقها من الجوهر، لا من الركام المكدس، وحيث تكون الأمة تعرفت على قوانين التحضر، لا على نتائجه فحسب، فتصبح عندها القدرة على الخطو بثقة في ميدان الحضارة، وهي غير منبهرة بالركام المكدس، وإنما عاشقة للجوهر، متفاعلة معه.
مرحلة الإبداع:
قلنا: إن الضغوط النفسية نبدأ في الانقشاع عن ضمير الأمة، في مرحلة الاستيعاب والفهم، حيث تجد الأمة نفسها وجها لوجه، مع الينابيع الأساسية للإبداع الإنساني المعاصر، وتسرع حينئذ مسيرتها رويداً رويداً، فكلما حققت نصراً، زادها ذلك ثقة ورسوخاً، فإذا واصلت العمل، مدركة لكل مقومات قيام الحضارة، ومتطلباتها، فإنها ستصل لا محالة، إلى مرحلة الإبداع، حيث يصبح معدل نموها أُسِّياً متزايداً، ونعني بـ (النمو الأُسِّي ) هنا، أن يحدث تطور سريع، ومبدع في فترة زمنية قصيرة نسبياً، إذا قيست بمقدار التطور والنمو الذي حدث خلالها. والمتتبع لمسار الحضارة الغربية المعاصرة، يلحظ أن فترة الإبداع المادي، في هذه الحضارة، تميزت بأن صَاَحبَ نموها الأُسِّي المتزايد، آخر، حدث في العلاقات الاجتماعية، والتصورات الكلية للمجتمع، حدث هذا التغيير بسرعة مذهلة، فاقت سرعة فكر قادة هذه الحضارة وعلمائها وحكمائها، واليوم تعيد الحضارة الغربية حساباتها، لترى أين كان الخطأ في وجهتها؛ بل لقد بدأ ينظر كل إنسان اليوم في الغرب، في العلاقات الأساسية التي تربط ما حدث من تقدم في العلوم؛ بالمجتمع، وما يحمل من عقائد وقيم، وأصبحنا نرى أقساماً علمية جديدة في معظم جامعات أمريكا، تدرس التفاعل بين التقدم العلمي والتقني، وبين المجتمع والدين.. في محاولة منهم لاستدراك الآثار الجانبية لهذا التقدم الأُسِّي في الحياة المادية، على المجتمع وقيمه.
إن هناك كثيراً من الناس، ممن يرون آثار الحضارة الغربية السيئة، أو يسمعون عنها، فيتنبأون متعالمين بهلاك هذه الحضارة وحتمية فنائها. إن الآثار السيئة للحضارة الغربية هي آثار طبيعية، برزت نتيجة لانحياز تلك الحضارة إلى الجانب المادي، وابتعادها عن القيم الروحية، التي ما زالت تظهر على استحياء في المجتمع الغربي. ووجود هذه الآثار السيئة في الحضارة الغربية، لا يمنعنا من الاعتراف، بأن هذه الحضارة تزخر بالحياة، قوية فتية، وحسب مفكروها فخراً، أنهم هم الذين اكتشفوا آثارها السيئة، وبدأوا يحاولون تداركها لحماية المجتمع منها.
ويهمنا أن نأخذ العبرة مرة أخرى، من غيرنا، في محاولتنا التعرف على المنحنى الزمني للحضارة، ومعدل تغيره، والتزامنا بما تؤكده العقيدة الإسلامية من مسؤولية الإنسان في خلافته على الأرض، لعمارتها بالعمل الصالح، والجهد المثمر، والعطاء المبدع، لنصل إلى توازن، بين التقدم المادي بكل ما يحمله من ترف، ورغد، ورفاهية، وبين المحافظة على مبادئ الحق وقيم الخير، بكل ما يترتب عليها من تضحيات وتقشف والتزام.
ولسائل أن يسأل: كيف يمكن لأمتنا أن تنحو منحى الأمم اليابانية والغربية في استيعاب حضارة العصر، والانطلاق بها إلى رحاب أوسع، من العطاء والإبداع بما يحقق خدمة الإنسانية، وقيمها الصالحة، ويعيد لأمتنا سالف مجدها، ويحقق لها مكانتها السامية، لتكون بحق وصدق أمة أخرجت للناس؟!
باختصار نقول:(9/61)
إننا في محاولة تدريب مجتمعاتنا الناشئة تقنياً، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار، المسار التاريخي لتطور العلوم والتقنية، في الغرب واليابان، فالأمة الجادة تستطيع أن تختصر 400 عام من تاريخ التطور العلمي والتقني للعالم الغربي إلى 40 عاما، أو أقل، لكنها لا يمكن أن تستسيغ الحضارة التقنية المعاصرة دفعة واحدة، مهما أوتيت من مال.
قد أخذت الحضارة الغربية، أربعمائة عام لتصل بتقنيتها إلى حالتها الحالية، وحققت ذلك من خلال الإصرار على تزاوج العلم والحِرُفة.
ونحن يمكننا أن نختصر هذه المدة إلى عشرها، أو أقل، شريطة أن نلتزم بتزاوج العلم والحرفة زواج تأبيد، وأن نتبصر بالتتابع الزمني، في عملية تدريب الأمة على الحرف والتقنيات المختلفة.
إننا نستطيع أن نسقط عمر الحضارة العلمية والتقنية المعاصرة، على عمر الإنسان في أمتنا فنبدأ معه منذ الطفولة، نعلمه مثلا كيف تنتقل الحركة بالتروس والسيور؟ وكيف نصل الأشياء بعضها ببعض؟ أي: نعلمه نظرية الآلات مبسطة، حسب إدراكه وسنه، متطورين معه كما تطورت الحضارة في طريقها الطويل.
علينا أن نغرق مدارسنا، في جميع مراحل الدراسة بنماذج علمية، وألعاب تقنية، ونفسح المجال أمام أطفالنا وطلابنا لكي يقضوا وقتا، مع هذه النماذج والألعاب، ليتدربوا عليها، ويلتصقوا بها، فيعشقوا العمل المهني من الصغر، ليكبر معهم، ويكبروا معه، ونكون بذلك قد وضعنا الأساس السليم والقوي، لقيام صناعة وطنية، كما أننا نزيل عن أنفسنا عناء الاعتماد على الغير من القادمين من خارج الحدود، فنعين مجتمعنا على القليل من استيراد العمالة من الخارج فنحميه بذلك من مشكلاتها، وتبعاتها.
إن الوصول بالإنسان العربي والمسلم ـ طفلاً وشاباً ـ إلى المستوى المطلوب منذ نشأته، ودخل مدرسته، وفي المنزل، يحتاج إلى إعادة نظر جذرية في مناهج التعليم، وطرق تدريسها، كما يحتاج إلى إنشاء نوادي للعلوم في المدارس والجامعات يلتحق بها الطالب بغض النظر عن تخصصه الدراسي.
ولكن هذا يستدعي تطوير أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وبرامجنا التعليمية. كما أن الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف، لبناء أجهزة متمكنة، متخصصة، تعنى بهذا النوع من التعليم الحرفي للناس عامة، ومن رغب من خاصتهم.
ضرورات استنبات التقنية المعاصرة، وأسسها
على أن هناك ضروريات ومفاهيم وأسس لابد من مراعاتها، واستيعابها، وفهمها في عملية الإدراك الكامل للحضارة التقنية المعاصرة نوجزها فيما يلي:
* إدراك الأصول، والطرائق، والنظم الحاكمة للتقنية المعاصرة، هو الجوهر والمنطلق، أما الدقائق والتفصيلات، فهذه لا يمكن لأصحابها منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.
* التأكد من عدم انفصال حركة العلم في المجتمع، عن الحالة التقنية فيه، وذلك بضبط إيقاع تطور الحركة العلمية، حتى لا يسرع كثيرا، ويبتعد معه العلم عن التقنية بصورة كبيرة.
* ضرورة توافر قلة من المتخصصين، في الجامعات ومراكز البحوث، تستنفر للعمل عند مشارف العلوم، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني.
إن هذه الضروريات والمفاهيم، التي أسلفنا ذكرها، ستضع شروطا جديدة، على أجهزتنا العلمية، وأنظمتنا التربوية، وخططنا التعليمية، والصناعية. وفي هذا المضمار نورد التوصيات التالية.
شروط الاستنبات
في مجال التعليم والتدريب:
1- ارتباط التعليم بمهام اجتماعية مطلوبة، تحدد آفاقه كماً، ونوعاً، أي، بمعنى آخر: علينا أن نجيب على السؤال التالي:
* أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟
بدلا من الإجابة على السؤال المعكوس القائم فعلا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟
2- ترشيد الإقبال على الكليات النظرية، وحصرها فقط بالموهوبين، وحسب الحاجة.
3- إعادة تدريب الأعداد الغفيرة، من خريجي الكليات النظرية، التي لا تقوم بعمل فعّال مطلوب لإعدادها للقيام بوظائف اجتماعية فاعلة.
4 - العمل على تقنية التعليم الثانوي، بإدخال عدد من الحِرف، والصناعات عليه، وأن يتبع ذلك تعديلات جذرية، في المراحل السابقة عليه، والمراحل اللاحقة له، من خلال خطة واضحة، وبرامج محددة.
5- نشر معاهد الحِرف، والمهن، والكليات التقنية المتوسطة، ومنحها كل فرص النجاح الممكنة، لاستقطاب العدد الكافي، والنوعية الجيدة.
6- المحافظة على الحِرف، والمهن، والصناعات التقليدية، التي ما زالت موجودة، وتشجيع أربابها بشتى الطرق والوسائل.
7- دارسة وتحليل الحرف المعروفة، والصناعات التقليدية، لتوصيفها توصيفا دقيقا واضحا، ونشرها في كتيبات، بأسعار زهيدة، مساهمة في نشر الوعي التقني.
في مجال التشغيل والصيانة:
1- الأخذ بأسباب تقليص تدفق الأجهزة، والمعدات المستهلكة، التي تسيطر عليها ((الزوالية ))، لإتاحة الفرصة للمواطن للتريث، كي يتعلم عن طريق الصيانة والتشغيل، ويتأمل في أشياء شبه ثابتة أمام عينيه ليتعلم منها، ويتدرب عليها، بعد أن يستوعبها تشغيلا وصيانة.
2- الدعوة لتعليم ((الصيانة العامة )) بتضمينها خطط التوعية، والتعليم، والتدريب في المجتمع، على جميع المستويات بهدف ترسيخ مفاهيم العمل اليدوي المنتج.
3- إعطاء الصيانة مكانة علمية، في الجامعات، ودور العلم، ومعاهد الأبحاث، وإيجاد تخصصات لها في الدراسات العليا.
4- مطالبة الورش، والمصانع الوطنية، بإعداد كتيبات، عن كيفية صيانة منتوجاتها وإثارة الوعي العام، لعمل نماذج، وصناديق هوايات، تتعلق بالمنتج الوطني.
5- دعوة وزارات الصناعة، بالتعاون مع ورش كليات الهندسة، ومعاهد التدريب المهني لإعداد دورات تدريبية، عن المنتوجات الشائعة حدا في المجتمع، مثل مضخات المياه، وعوامات الخزانات، وأدوات السباكة، وبعض الأدوات الكهربائية، وإصدار كتيبات مبسطة، عن طريقة تركيبها، وصيانتها، توزع مجاناً.
6- التقليل من تدفق استيراد أدوات ومعدات الاستهلاك، التي تحتاج إلى صيانة متقدمة، كي لا تصبح عبءًا على المجتمع، لمحدودية عدد المتخصصين في هذه الصيانة.
7- صياغة القوانين والأنظمة التي تحكم:
أ - استيراد المعدات والأجهزة والأدوات، وحق صيانتها.
ب - توثيق العلاقة بين ملكية وتشغيل وصيانة المعدات، والأجهزة، والأدوات.
8 - التركيز في منظومة الصيانة والتشغيل، على أجهزة ومعدات وأدوات الخدمات المختلفة، ليتمشى ذلك مع طبيعة المرحلة، التي ينال فيها قطاع الخدمات القسط الأولى من الدعم والرعاية.
9- تكوين الأطر البشرية، في مجال الإدارة، المستوعبة لأبعاد عمليات التشغيل، والصيانة، ودورها الحضاري.
10- إعداد دراسة علمية متخصصة بهدف:
أ - تحديد نوعية الصيانة المطلوبة وحجمها، في فترة مستقلة معينة.
ب - اختيار أمثل لمجموعة من نماذج مؤسسات الصيانة، التي يمكن إقامتها سواء على مستوى الأفراد، أو مستوى المنشآت.
جـ ـ اختيار أمثل لمجموعة من الخيارات العالمية، لعمليات الصيانة والتشغيل من خلال قائمة أولويات تحكمها.
في مجال التقليد والتطوير الصناعي:
1- التركيز على تقليد أدوات الإنتاج الضرورية، قبل تقليد أدوات الترفيه.
2- التركيز على أن يكون التقليد الصناعي موجهاً لاستغلال الطبيعة المحيطة بنا، كأدوات القنص والصيد وغيرها.
3- توجيه جزء من أساتذة الجامعات العلمية والعملية، لتحويل بعض الرسائل العلمية، والأبحاث الجامعية، التي يقومون بها، أو التي يشرفون عليها، إلى رسائل وبحوث، تصب في معين التقليد للمنتجات المصنعة في الخارج.(9/62)
4- تشجيع ودعم المصانع الوطنية، والورش الأهلية للتقليد الصناعي للمنتجات المستوردة.
5- رصد جوائز مالية مغرية لأفض منتج صناعي مقلد.
6- إلزام المصانع الوطنية، بإنشاء أقسام الأبحاث، والتطوير، حتى تسهل النقلة من التقليد إلى الاستيعاب، ومن ثم الإبداع.
7- توثيق الصلات بين الصناعة والجامعة، من أجل مشاركة الجامعيين في بحوث التصميم والتطوير، وفي مجالات التعليم المستمر، للعاملين في ميدان الصناعة.
===============
منهج الخروج من المحنة
الآن وقد استبانت لنا محنة الإنسان المسلم، مع عصره وحضارته الباسقة، وبعد أن تحدد الشرطان اللازمان لخروجه منها، وبعد أن تأكد دور التقنية الحديثة في حضارة اليوم، وكيف نواجه تطورها ونواكب تقدمها. يبقى لنا أن نستعرض ما نعتقد أنه دراسة موضوعية ومنهج يحدد معالم طريق الخروج من المحنة، ومواجهة التحدي الذي فرضته حضارة باذخة مسيطرة بإنجازات تقنية هائلة، تُعمق الفجوة الحضارية، بين المسلم وعالمه المعاصر، إذ لا أقل من أن نبحث ـ ونحن نستمسك بعرى ديننا الحنيف ـ عن منهج يسد الفجوة، ويقيم جسور عبور لمركبة التنمية التي تحمل التقدم، والتطور، والنماء.
ركائز المنهج
يقوم المنهج الذي نقترحه على الركائز التالية:
الركيزة الأولى: شحذ الفعالية الروحية في الفرد والأمة:
إن قدرة أمتنا ـ وهي ترنو إلى وصل حاضرها الماثل، بماضيها المجيد ـ على شحذ الفعالية الروحية، وتحريك الدوافع، والبواعث، والنوازع، والكوامن في أرجائها ـ كافة، نحو المقاصد، والغايات، والأهداف، التي تصب بروافدها تجاه الإعداد الحضاري الواجب، هي قدرة موفورة مذخورة.
ومحور هذه العملية الروحية والحضارية، هو الإنسان، بل إن شئت فقل: إن الإنسان هو الخلية الحضارية الأولى، التي يجب تكوينها، وبناؤها، ورعايتها، المتناغمة مع شروط النهضة، وحيثيات الحضارة. إننا إذا اهتممنا بهذا الإنسان، ونمينا قدراته، وصقلنا مواهبه، ونفضنا عن عزيمته غبار التخلف، وشحذنا فعاليته، وفجرنا طاقاته، استيقظت روح العمل فيه، وتدفق عطاؤه، وغدا بإمكاناته الروحية والمادية مستعداً للتلقي والإبداع، وملاحقة العصر، ومواكبة حضارته، بنظرة ثاقبة، وبصيرة نيرة، وعزيمة وثابه، تتجاوز مظاهر الخمول والكسل، وجميع صور البريق والزيف، والجمود، والتقوقع، وعبر كل هذا إلى أمل الحضارة، ولب المدنية، وجوهر التقدم.
إن الروحية الخاملة لا مكان لها اليوم في دنيا الناس، ولا قيمة لها أبداً في آفاق الحضارة، ولا شك أن نصيب أمتنا من هذا الخمول الروحي أمر يفوق الوصف، فقد زحف على كل مقدراتنا ومقوماتنا الحضارية، حتى صارت منه وبسببه خراباً بلقعاً، وقد تم هذا مع الأسى والحسرة، وبين يدي أمتنا رصيدها الضخم، وميراثها العظيم، من هذه المقومات العملاقة، التي يفيض بها دينها في كل نص، وأثر، وشعيرة من آثارها ونصوصها، وشعائرها.
إن الروحيات الفعالة في النفس المسلمة، إنما ترتبط بصورة مباشرة بعمق الإيمان، ومقدار الإخلاص للعقيدة، والاستمساك بقيمها ومبادئها.
وإذا كان ولابد للفعالية من مثيرات، ومستحثات، ومكونات فإنني ألمح في طليعتها:
* البيت بدوره الأساسي المطلوب.
* المدرسة بمناهجها الدينية المتلاقية والمتناغمة، وطرائقها المؤثرة المنتجة.
* المناخ العام، الذي تسهم به وفيه سائر المؤسسات، والهيئات ذات التأثير المباشر كافة.
* القدوة الصالحة.
إن دور البيت في شحذ الفعالية الروحية، هو أول الطريق، حيث يبدأ في رحابه الإعداد والتهيئة، ثم المتابعة المباشرة، لعملية التلقي التربوي في المسجد، والمدرسة، والجامعة.
وإذا لم يمارس البيت دوره، فإن مجهود هذه المؤسسات يظل ناقصا مهما تعاظم، والفعالية تبقى قاصرة مهما ارتفعت.
والتربية الدينية في المدرسة، طليعة المصادر الأساسية، لتنمية الأشواق الروحية في الأمة؛ لذا فإن برامجها يجب أن تكون على مستوى نبعها الدفّاق، بإثارة هذه الأشواق وتنميتها، ثم على مستوى الواجب المأمول منها، من حيث تلقائية الحلقات، وتناغمها، وحيوية العطاء وديناميكية الأسلوب، ومعاصرة الحلول، واتساق العلاج للمشكلات العصرية، وجاذبية العرض، والتركيز القوي على عملية التعلم من جانب الطالب، دون عملية التعليم من جانب المدرس، والحرص على بساطة الأسلوب، وعمق المفهوم، مع البعد عن القوالب الجامدة، والأنماط العتيقة، وعلى أن يصب هذا بجميع روافده ومعطياته، في قاع الشبيبة، وعقول الناشئة، إيماناً، ونقاءً، وطهارة،ومناقب، ومحامد، وأخلاقاً، وسلوكاً، وقيماً، ومثلاً، تغدوا في حياتهم خير حافز لهم، وأعظم عنوان عليهم.
وأما المناخ العام، فإنما نعني به المصلحة الانعكاسية لعطاء سائر المؤسسات، والهيئات التربوية، والتوجيهية، والإصلاحية، ذات التأثير، المباشر، وغير المباشر، في تأصيل الانتماء، وتأكيد الولاء للدين، والأمة والوطن، وزرع ركائزه في النفس المسلمة، وبسط أروقته في أرجاء الأمة، وشتى مواقعها.
هذا المناخ العام، إنما يسوق المجتمع كله في مسار جمعيّ، ويتوجه به توجها جمعياً نحو الخريطة الحضارية المرسومة له. وهو وثيق الأواصر، بربه، ودينه، وقيمه، ومثله، ووطنه، ومجتمعه، يطوع لها حضارة عصره، أو يبدعها على هديه ووفق منظومته الحاكمة.
وأما القدوة الصالحة، التي تمارس دورها في شحذ الفعالية الروحية للأمة، فإنما نعني بها تلكم النماذج القيمة الرائدة، التي تقع على كواهلها، مهمة التغيير الديناميكي، عن طريق القيادة العملية، غير المنظورة، وغير المباشرة، والتي تتولى في نفسها، وبسلوكها، تجسيد المفاهيم، وترجمة القيم، والتعبير المثالي عن واقعيتها، دون جلبة أو ضجيج، ولكن بلغ واقعية مأنوسة اللهجة. إنها باختصار شديد، لغة العمل، ولهجة الواقع.
تلكم التي تفوق أبلغ المواعظ والدروس، وتختصر الطريق في مقام التربية والتوجيه، والتغيير، والإصلاح، والحضارة، والتقدم.
وتحضرني بهذه المناسبة قصة ذلك العالم القدوة، الذي آتاه الله ملكة الخطبة المؤثرة، ومقدرة الحديث المشوق، والذي كان بمثابة المحور الروحي للناس، يلتفون حوله، ويتعشقون سماعه، ويتلهفون إلى عظته، وما أن ينفض مجلسه، حتى يتطلعون إلى لقائه.
اقترب منه عبد ضاق ذرعاً برقه وعبوديته، وتاقت نفسه إلى الحرية، وهمس في أذنه برجاء أن تكون خطبة وعظه القادمة عن عتق الرقيق، لعل الله يهدي سيده ـ وكان من المواظبين على سماع الشيخ ـ فيتأثر بالخطبة، فيعتقه، فوعده الشيخ بذلك، وطال على العبد انتظاره في أن يبر الشيخ بوعده، حتى كان يوم تحدث فيه عن العتق، وما فيه من مثوبة وأجر، وما يناله المعتق من رضوان الله ومثوبته، وما يشعر به من سعادة وبهجة، وقد اقتحم العقبة، وفك رقبة، وحررها من إسار العبودية، وكان الشيخ كعادته موفقاً مؤثراً، حين لمس بحديثه شغاف القلوب، فنالت الموعظة من قلب سيد العبد مكانها فأعتقه، وتحققت أمنية العبد، ونالت نفسه بغيتها، فجاء إلى الشيخ الواعظ يشكره، ويحمد له صنيعه، ثم عاتبه على تأخره، في إنجاز وعده، حتى كاد اليأس، أن يبلغ منه مبلغه، فأجابه الواعظ بتأثر واضح: لقد كنت أملك عبد يقوم على خدمتي، ويقضي حوائجي، وأنا في هذه السن المتقدمة، وأردت أن أعتقه، واحتجب إلى كل هذا الوقت، لجمع المال كي أستأجر به من يؤدي عمله بعد عتقه.
لقد أراد الشيخ الواعظ، أن يبدأ بنفسه، قبل أن يعظ غيره، فجاءت خطبته بكل الصدق، والعمق، والتفاعل، وكان فعلاً، قدوة لسواه؛ حيث لم تنفصم عظته عن فعله.(9/63)
والله تعالى يلفتنا إلى هذا فيقول:
(يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أنْ تقُولُوا ما لا تفعلون ) (الصف 2ـ3 )
وينعى على أهل الكتاب عدم التزامهم فيقول:
(أتأمرون الناس بالبِّر، وتنسون أنفسكم، وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (البقرة440 ).
ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم:
((يُجاء بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابُهُ، فيدورُ كما يدورُ الحمارُ برحاهُ، فيجتمعُ أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما شأنُك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروفِ ولا آتيهِ، وأنهاكم عن الشر وآتيه )) (رواه مسلم ).
ورغم الأهمية القصوى، لشحذ الفعالية الروحية، في مرحلة الإقلاع الحضاري، فإن الحاجة لهذه المهمة تظل قائمة، لاستمرارية الحضارة، وعندما تنسى الأمة هذه المهمة، تبدأ مشاكلها مع البقاء.
ولكن من الذي يقوم بمهمة شحذ الفعالية الروحية، بعناصرها الأربعة السالفة في الأمة؟
إنها مهمة النفر القدوة المؤمنين، الموقنين، والقادرين، على مخاطبة عقول الأمة، وإيقاظ مشاعرها، وتشخيص عللها، وتوصيف الحلول العملية لمشكلاتها، حتى توجد لديها القدرة، على مواجهة تحديثات الحضارة، ومعطياتها الجديدة، وتتوافر عندها الإمكانات لترجمة رسالة الإيمان إلى تصور ذهبي، وسلوك حضاري، يُعني بالقدوة ، أكثر مما يضيء بالفلسفة، وتجتمع عليه القلوب، وتلتقي عليه الأفئدة، فينساب في جماعية نلمسها في تصرف جموع الأمة.
ثم هي أيضا مهمة جميع المؤسسات الإعلامية، والعلمية، والتربوية، التي لا بد لها أن تفرغ لشحذ الفعالية الحضارية، وإثارة الوعي الحضاري.
الركيزة الثانية: استيعاب حضارة العصر استيعابا كاملا
هناك حقائق لا مراء فيها، تبدو واضحة للدارس المتبصر، في تاريخ الحضارات، وحضارة الغرب المعاصرة على وجه الخصوص، نسردها فيما يلي كمدخل لشحذ قدرات أمتنا، وفعاليتها العلمية.
الحقيقة الأولى:
إن حضارة العصر التي تبدو لنا في غاية التعقيد، قامت على أساس العلم، ومدخلنا إليها لن يكون إلا عن طريق شحذ الفعالية العلمية للأمة، وسبيلنا إلى شحذ الفعالية العلمية هو جهازنا التعليمي المتطور.
الحقيقة الثانية:
إن التقنية الحديثة، نشأت في الغرب من تزاوج العلم والحرفة، ثم من إصرار المجتمع الغربي على هذا التزاوج، في صورة مراكز لتطوير الصناعات المختلفة.
الحقيقة الثالثة:
إن أرباب التقنية الحديثة لن يسمحوا بتعليم دقائقها لآخرين. هذا هو الواقع في عالمنا المعاصر. وعلينا أن نعي جيدا، أنه لن يمكننا الحصول على دقائق المعاصرة، حتى لو دفعنا من أجلها المال الوفير.
وفي ضوء هذه الحقائق، يجب علينا أن ندرك: أن طريقنا إلى التقنية الحديثة، لابد أن يمر بمراحل علمية تشبه التطور الزمني في بلاد الغرب، وليس منها ـ بطبيعة الحال ـ ما يسمى بـ ((نقل التقنية )) من دولة متقدمة إلى دولة متأخرة.
إن التقنية ((لا تنقل )) بالأجهزة والمعدات، ولكنها ((تستنبت )) بالجهد والمجاهدة، و((تستوعب )) بالصبر والمثابرة، وتنمو بالعزيمة والإصرار، وقد آن الأوان لمن يعيش في وهم ((نقل التقنية )) أن يستيقظ على الحقيقة.
إن أمتنا تستطيع ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ أن تُسْقط عمر الحضارة العلمية، والتقنية المعاصره على عمر الإنسان فيها، فتبدأ معه منذ الطفولة، تَعلمه من خلال المزاوجة بين العلم والحرفة، وتأخذ بيده، لكي يتعلم، أن طريق التطور التقني طويل وشاق، وأن السير عليه يتطلب الثبات، والإصرار، والمثابرة.
على أن علينا أن نذكّر مرة أخرى، بضروريات لابد من مراعاتها، وفهمها، في عملية ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، سبق أن فصلناها من قبل، ونوجزها هنا فيما يلي:
* إن ((الاستيعاب )) الكامل للحضارة التقنية المعاصرة، يعني استيعاب الأصول والطرائق والنظم. أما الدقائق، فهذه لا يمكن لأصحاب الحضارة منحها، وإنما تدرك بالممارسة الواعية، والتفاعل البناء.
* ألا تسبق الحالة العلمية للأمة، الحالة التقنية فيه بكثير، وإلا أدى ذلك إلى انفصال العلم عن التقنية.
* لا يمنع ذلك من وجود فئة من المتخصصين في الجامعات، ومراكز البحوث، توقف نفسها للعلوم، وتتوفر عليها عند مشارفها، وتكون مهمتها التطوير المستمر للعلوم، لتصبح أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف التقني المنشود.
إن ((استيعاب )) العصر بحضارته الباسقة، وتحدياتها المضنية، ليس مقالاً يكتب، أو كتابا ينشر، أو حديثا يذاع، أو خطبة تلقى، أو كلاماً يقال، أو بضاعة تباع، ولكنه معاناة، وجهاد، تسهم فيه الأمة، بكل مؤسساتها، ومعاهدها، ومعاملها، ورجالها، وتعقد عليه العزم للبناء، والمثابرة، وتسقط في سبيله من حياتها، مظاهر الترف والدعة، والركون إلى الاستسلام والتواكل، حتى تستطيع أن تتهيأ لعملية الاستيعاب المعاصر، وتقيم البناء الحضاري على عمد ثابتة راسخة ومتينة، تلتزم فيه ومن خلاله، بإعادة النظر بصورة جذرية ومعمقة، في كل نظم حياتها، ووسائل معيشتها، في إطار عقيدتها السمحة، وفي نطاق قيمها الرفيعة، متمسكة بالسير على طريق الحق المستقيم، وهو طريق واضح وبين، وإن توالت خطواتها عليه بإذن ربها، تحقق وعده لها، مصداقا لقوله جل شأنه:
(وأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا على الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْناهُم ماءً غَدَقاً ) ((الجن:16 )) صدق الله العظيم.
الركيزة الثالثة: تبني أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل:
إن المسلمين ـ بيقين ـ يملكون عقيدة سماوية كاملة، بمجموعة قيمها الحية، ومبادئها الفعالة. وأسسها الصحيحة، ومعانيها السامية، التي كانت وستظل إلى يوم الدين، نبراساً لهم وللإنسانية عامة، تحثهم على الخير، وتدفعهم إلى النهوض والسمو، وكانت وستظل سياجاً واقياً لهم من الهبوط والتدني، وجسراً متينا يصلهم بعصرهم، ويربطهم بحضارته.
أجل: إننا ـ نحن المسلمين دون سوانا من خلق الله ـ نملك هذا الرصيد القيمي الضخم .. الذي يعتبر في ذاته خميرة البقاء، وتكمن في حناياه أسرار التقدم، وتستقر في رحمه خلايا الانطلاق والحضارة، وتتمركز في جوهره الركائز الأساسية، والشروط الضرورية للبعث الحضاري، ولكننا ـ للأسف ـ نملك النظم، فلا مناص لنا من أن نكون بإزاء هذا وذاك، وجها لوجه أمام خيارين، لا مفر منهما:
الخيار الأول:
أن نتبنى المؤسسات الحضارية الغربية بوضعها الحالي، آخذين في الاعتبار أن نظمها الحاكمة، ومدخلاتها الإنتاجية، تحتاج إلى تعديل، وتبديل، يأتي عن طريق الممارسة، والتجربة، والإصرار على تحقيق المباديء والقيم، والأخلاقيات في النظم المعدلة، للوصول بها إلى معطياتها الحضارية، دون التأثير بسلبياتها الاجتماعية، والفكرية.
الخيار الثاني:
أن نبدع البدائل، وهذا أمر لا يفتي فيه إلا المتخصص، في أعمال مثل هذه المؤسسات.
إن خيار إبداع البدائل للنظم، لابد من أن يوضح، ويحدد دور الفقهاء، وعلماء الشريعة بيننا، وهو دور العين السحرية الثاقبة، المتبصرة في نهاية خط الإنتاج.
بمعنى: أنه دور التحكم في النوعية، التي تحكمها المبادئ، والقيم والأخلاقيات الإسلامية، فما وافقها من النظم مضى، وما خالفها يعاد لأهل الاختصاص، للتغيير والتبديل.(9/64)
ونؤكد هنا: أن أهل الاختصاص، هم القادرون دون سواهم، على التغيير والتبديل؛ من حيث بات من السمات الواضحة، لعالم الحضارة المعاصرة، أنه عالم التخصص، في كل شيء، ولا سيما في مجالات العلوم، والمعرفة، والتقنية، حتى غدا الأمر، وكأن في كل فرع من فروع العلوم الإنسانية، والتطبيقية، والمجردة، مدارس متخصصة تنبثق عنها دقائق وتفصيلات، يوقف علماء وباحثون حياتهم عليها في محاريب العلم، ومعامل التجارب.
فمهمة إبداع البدائل، لا بد أن يضطلع بها متخصص في دراسات النظم، التي تحكم مؤسسات شبيهة بالمؤسسات المرجوة كما أسلفنا، آخذين في الاعتبار أن البديل المقترح، إنما هو من قبيل المحاولة الإسلامية وليس هو الإسلام؛ لأننا من خلال التجربة والاحتكاك قد نكتشف تقصير النظم المقترحة، في تحقيق كل جوانب مبادئنا وقيمنا، وأخلاقياتنا، فنلجأ إلى تغيير هذه النظم، أو إصلاحها حتى تكون أكثر تحقيقا لما ندين له، ونؤمن به.
والحق: أن الصراط المستقيم في مثل هذا، ليس واضحاً من غير هداية الله تعالى، وهدايته لا تأتي إلا باستمرار المجاهدة وديمومتها، من أجل هذا فإننا نتوجه إلى الله تعالى في كل صلاة ضارعين إليه: ((اهدنا الصراط المستقيم )) (الفاتحة:6 )، آملين في وعده: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) (العنكبوت:69 ).
والحق الذي نؤمن به، أن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، قد اشتملا على جميع الأصول العامة، والقواعد الكلية، والمبادئ والقيم والأخلاقيات كلها اللازمة لانبثاق أرقى النظم الحضارية، وهذه الثوابت في حد ذاتها كافية جدا لهذا المهمة.
أما النظم الحضارية نفسها، فهي محاولات بشرية، تنطلق من القيود كلها، إلا القيود الأخلاقية، والمبادئ الأساسية، والأطر القيمية، التي يحددها الكتاب والسنة، وهما ـ بيقين ـ خير أساس لقيام حضارة إنسانية مثلى، لا تطاولها حضارة.
الركيزة الرابعة: ضرورة التفاعل بين ديناميكية الأفكار .. وديناميكية النظم
لقد عرّف ابن خلدون، الحضارة في مقدمته بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابها، فنونا منتظمة من العيش، والاجتماع، والعمل، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة والرفاهية. وهذا القول يعني: أن الحضارة، ترتكز على ركيزتين أساسيتين هما: ((الثقافة )) و ((المدنية )).
و ((الثقافة )) تعني: التطور في الأفكار النظرية، لنظم السياسة، ونظريات الاقتصاد. وأسس القانون، ومبادئ التاريخ وغيرها، من العلوم الإنسانية والاجتماعية.
و ((المدنية )) تعني: التقدم في العلوم العملية، والتجريبية، كالطب والصيدلة، والهندسة، والزراعة، والكيمياء، وما إليها، مما يرتبط بالقرى والأمصار، على حد تعبير ابن خلدون، فلا يمكن للطب أن يمارس، أو يتطور، دون وجود مستشفيات، ومرافق علاج، ولا الهندسة أن تُطبق، دون وجود ورش، ومعامل، وتجارب، ولا الاختبارات الزراعية أن تجرى دون أن ترتبط بالحقول والمزارع.
ولا شك أن ((الثقافة )) و((المدنية ))، هما العنصران الأساسيان للحضارة، تلتحمان، وتتكاملان. على برامج التعليم ـ إن أرادت أن تكون ذات مفعول حضاري متطور ـ أن تعبر عن هذا التكامل، والتلاحم بين الثقافة والمدنية.
من هذا نستخلص: أن مدلول الحضارة هو مزيج من الرقي، في مجالات شتى: كالأخلاق، والسلوك والتربية، والعلوم التجريبية، والبحتة.
ومفهوم الحضارة الإسلامية، يحتوي هذا المدلول، ويتجاوزه إلى مفهوم عقدي، وفكري، ووظيفي أوسع وأعمق، وحري بأمتنا، التي تستهدف الحضارة، وتستعد لها، أن تتشبث بهذا المفهوم الفكري الإيماني للحضارة، وألا تفرط في التسلسل المنطقي لإنشائها، حتى يمكنها البدء في دورة حضارية جديدة، تمهيدا للبعث الحضاري المنشود، وأن تحرص على أن يرتكز الجانب المادي للحضارة، على الجانب الفكري الذاتي لأمتنا، لتنشأ حضارتنا في نطاق مناخنا الروحي، المشبع بصفاء العقيدة، الفواح بشذا المبادئ، وأنفاس القيم.
على أن الحالة الفكرية لأية أمة من الأمم تتكون عادة من ثلاثة ألوان من الفكر هي:
1- الفكر التراثي:
وهو عبارة عن تراكمات فكرية تراثية، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وحوافز ومثبطات، وصعود وهبوط، وتقدم وانحطاط. وموقف الأمة من هذا الفكر، أجدى أن يكون موقف الباحث الأمين في دربه، المقلب في نظرياته، المتمكن من الأخذ منه بما يحقق الأصالة، ويبرز شخصية الأمة، في توازن وقصد، لا إفراط فيه ولا تفريط.
2- الفكر الوافد (الغازي):
وهو الفكر الغازي المتسرب من الحضارات المعاصرة، وهو أخطر ما تواجهه الأمة في انطلاقاتها نحو حضارة عصرية حديثة؛ لأن أجنبي التربة، غريب النزعة.
وموقف الأمة منه، أحرى أن يكون موقف الحذر والتيقظ، تأخذ منه ما يتناسب مع قيمها، وتفتح له من النوافذ، بقدر ما يتلاءم مع تصوراتها للمبادئ الإنسانية، كما عرفها لها ديننا الحنيف.
3- الفكر الذاتي:
وهو ذلك البناء العقلي، الذي ينمو من مجموعة القيم والمبادئ، التي تمثل عقيدة الأمة، والذي استقر في وجدانها، عن طريق الإسلام، الذي تؤمن به، وترسب في ذهنها، على أيدي رجال أوتوا الحكمة. (( ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتى خيراً كثيراً )) ( البقرة:269 ).
إن تعاقب الأجيال، وقيام حضارات، واندثار أخرى، ليجعلنا نؤكد على أن الأفكار يجب ألا تورث مع الأرض. وإنما هي مهمة كل جيل، أن يبصر لنفسه، وكذلك الحال في عالم النظم، التي هي وليدة عالم الأفكار، من حيث كانت ديناميكية الأفكار تستدعي ديناميكية النظم، وديناميكية النظم، تستدعي، ديناميكية الأفكار وهكذا يدور كل منها مع الآخر ، وجوداً وعدماً، وتكون النتيجة تبعا لذلك، طرداً وعكساً من حيث: ((السمو الحضاري )) أو ((الانحطاط الحضاري )).
الركيزة الخامسة: تمييز الحضارة المعاصرة وتصحيح النظرة إليها
إن التحديات الحضارية المعاصرة، تقتضينا بالضرورة، أن نصحح نظرتنا إلى الحضارة الغربية المعاصرة، المسيطرة على مجريات الأحداث، في كل أرجاء الأرض، بنظمها، وأدواتها، ومنجزاتها، وكل ما يصدر عنها، وهذا التصحيح، ما يأتي من خلال البحث في دروبها، عن الإيجابيات التي تزخر بها، كي نستفيد منها، ونقلدها، ونحتوي سبلها، وعن السلبيات التي تلتصق بها، لعزلها، حتى لا نتأثر بها، وبذلكم، يكون موقفنا من هذه الحضارة، موقفاً موضوعياً محايداً نكثف فيه جهودنا على الإعداد، ونركز فيه طاقاتنا على الاحتشاد، لدورة حضارية جديدة، وإقلاع حضاري رشيد.
وإذا استلهمنا تاريخنا، وجدنا أن أسلافنا المسلمين، قد أفادوا من سوابق النظم الساسانية، والبيزنطية، التي وجدوها في البلاد المفتوحة، في كل مجال، وأخذوا منها ما وافق مبادئ الإسلام العامة، وكلياته، وأصوله، ولم يتعارض مع أحكامه القطعية، وبدا ذلك ((الاقتباس المباح ))، جليا في بعض جوانب تراثنا. فاستفادت الأمة من مناخ هاتين الحضارتين، وتمثلت خير ما فيهما، ثم تجاوزته، بما قدمت من منجزات، ذات خصائص قيمية، تصل إلى عمق (( الكيف )) و ((الجوهر ))، ولا تقف عند حدود ((الكم ))، و ((الشكل )).(9/65)
كما لم يأخذ أسلافنا لحضارتهم ((ميثولوجيا )) اليونان، أو نحتهم، ومعنى هذا: ألا تقبل أمتنا جزئيات الحضارة القائمة، ومفرداتها كلها، بل عليها أن تحكم معايير قيمها، وإيحاءات دينها، في تحديد ((الإيجابيات )) و ((السلبيات ))، وتقرر ماذا تأخذ، وماذا تدع وأن تستفيد من خبرات أهل الحضارة المعاصرة أنفسهم، في ((نقد )) حضارتهم، وتحليل أزمتها ومعضلاتها، كافتقاد العفاف، والطهر، في بعض مظاهر حياتها، وشيوع التحلل الخلقي، عند قطاعات من مجتمعاتها، والسفه المدمر في الإنفاق على التسليح، وإنتاج أسلحة الدمار، والتوسع المهول، في وسائل الترف والزينة، والاستهلاك لمجرد الاستهلاك، والإعلام المطلق لترويج المنتجات، وتسلط المادية القاتلة، والأنانية المسفة، والجمود العاطفي، والتفسخ الأسري، والإبادة الجماعية، وإفرازات القلق، والموت الجماعي، حتى بدا وكأن الإنسان قد تحول في ظل التقدم التقني الرهيب، إلى ((آلة ))، أو ((رقم )) أو ((نمط )) مطرد لا تفرد فيه؛ أو تحول ((الإنسان )) إلى عاهة مرضية مكررة من: ((التمزق ))، و((القلق )) و((الضياع ))، و ((الاغتراب )). ومع ذلك فللحضارة الراهنة منجزات، لها قيمتها غير المنكورة في مجالات: ((النظم ))، و ((الفكر )) السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، فضلا عن مجالات التقدم التقني. وأمتنا أحوج ما تكون، للإفادة من وسائلها المنهجية في البحث، وأساليبها في العرض، والنشر، والإعلام، والمؤسسات السياسية، والإدارية، والقضائية، والتعليمية، والاقتصادية على سائر المستويات.
لا ينبغي للأمة أن تعزل نفسها، عن المناخ والتيار الحضاريين الراهنين، وإلاّ تكون قد حكمت على نفسها بالتيبس، والجمود، والانقراض، وبقيت الحضارة الراهنة في شوطها، وإلى أجلها المقدور.
أجل: إن اللحاق بحضارة العصر يتنافى مع اعتزالها. كما أنه أيضا لا يعني ((احتضان )) كل ما فيها على حالاته وعلاته، من غير فرز، ولا تصنيف، ولا انتقاء تقتضيه قيمنا، وزماننا، وبيئتنا، وبنيتنا، وتركيبنا الديني، والنفسي، والخلقي، والاجتماعي، وإلا وقعنا ثانية، فيما وقعنا فيه من قبل، فعندما نقلنا العلوم الإنسانية من الغرب، نقلناها بحرفيتها، مع أنها علوم قيمية، وليست علوما بحتة مجردة . . فبناء شخصية الطفل المسلم مثلا في العالم الإسلامي، تختلف عنه في الحضارة الغربية، ((والسيكلوجية )) في العالم الإسلامي، تختلف عنه في الحضارة الغربية، ((والسيكلوجية )) المطلوبة لهذا الطفل، تختلف عنها بالنسبة للطفل الغربي .. وعلم الاجتماع الذي يقوم عندنا على التكافل والتراحم اللذان أمر بها الدين، ونظر إلى الاجتماع الإنساني على أنه عبادة، يختلف عن علم الاجتماع في مجتمع يتطاحن ويتصارع، والبقاء فيه للأقوى.. وعلم الاقتصاد الذي يقوم في الغرب، في شقه هذا أو ذاك على المنفعة، يقوم في الإسلام على مجموعة من المبادئ العليا.
والحق .. أن قبول كل ما لدى الغرب دون تمييز، وفحص، وانتقاء، إن هو إلا مظهر من مظاهر القابلية للاستعمار، والارتماء في أحضانه، دون قناعة، طائعين، أو كارهين، إذ ليس الاستعمار فقد، مجرد جيوش جرارة، ومعسكرات، واحتلال مادي، خطر لبقاعنا وبلادنا، ولكنه أيضا وبصورة أخطر، استعمار الأدمغة والعقول، والأخلاق والسلوك، والايديولوجيات والمذاهب.
إن أمتنا ـ بل والإنسانية جميعا ـ في أمس الحاجة إلى الحضارة المؤسسة على: ركائز الوحي، وهداية الحق، وإلهام القيم، وتلكم جميعا بحمد الله متوافرة عندنا. ولديها القدرة الكاملة، على أن تعالج كل أدواء الإنسانية، من تخلف وفراغ، وخلل، وانحطاط، دون أن تتجاهل الواقع الآني للحضارة المعاصرة، وما تحقق فيها من مكاسب، وإيجابيات، ودون أن تصاب بسلبياتها، وجراثيمها، ومن غير أن تفرط قيد أنملة في أصولها الكلية، وثوابتها الخالدة، وجزئياتها القطعية.
الركيزة السادسة: حماية المنجزات الحضارية للأمة
منجزات الحضارة هي ثمار العمل الدائب، والجهد المضني، والتضحية الغالية، من الأمة جميعا، وحماية منجزات الحضارة، تعني أول ما تعني: أن المؤسسات الحضارية متطورة في عملها، متقدمة في نظمها، حركية في إنجازاتها.
ولعلنا نتفق، على أن قدرة الأمة على حماية نفسها، مما عرف بأمراض الحضارة، إبان تلقيها للعملية الحضارية، وفي مرحلة إقلاعها الحضاري أمر مهم وحيوي، وجزء لا يتجزأ من الإعداد الحضاري، والتواكب الواقعي مع الحضارة. وواقع أمم الحضارة يعج بمختلف المتناقضات، والعلل الإنسانية، والفكرية، والاجتماعية، والسلوكية، التي لا تخفي على أحد،. كما أن شيوع مذاهب النفعية، والتبرير فيها، ونبذ الضوابط، والخروج على الأعراف، والنظم، والمبادئ، والقيم المحلية، والعالمية أصبحت أمورا لا يقبلها عاقل.
إن العمل على حماية المؤسسات الحضارية في أمتنا، إنما يستهدف التأكيد على عصمة المنطلق، واستقامة الدرب، وانضباط الخط، بما يتناغم مع إيحاءات عقيدتنا السمحة، ومعطيات ديننا العالمي الحضاري، الخالد الخاتم، وهذه الحماية لها شقان: ذاتي وخارجي..
الشق الذاتي:
ونعني به أن يتسم الفرد المسلم، بأعلى سمات الحرص، واليقظة والتبصر؛ حتى يحمي مجتمعه، ويحرس المنجزات الحضارية لأمته، وحتى يظل التجاوب الواعي منه لكل ما يمر به مجتمعه من تحولات وتغيرات، ذا أثر متجدد، ومردود فعال، يفرض حول المجتمع سياجا من الضمانات، لحماية قيمة الصالحة، من الذبول والزوال.
إن هذا الشق مطلوب، لحماية المنجزات الحضارية، من الأمراض التي تصيب الحضارات، عندما يصاب المجتمع بالغفلة والوهن. ويركن إلى الترف والدعة، وينسى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحيط به ملذاته وأهواؤه ، وتصدأ نفسه فيصبح عالة على غيره من الأمم: ((زبونا )) يأكل ما يزرعون، ويلبس ما ينسجون، ويستهلك ما يصنعون .. ثم هو مطلوب لديمومة التعديل في النظم، في إطار المبادئ والقيم، وفي نطاق الوقاية من هذه الأمراض الحضارية، فلا يسمح مثلا لنظامه الاقتصادي بأن يوجد إنسان مترف، وبجواره فقير معدم، أو أن يغدوا الفرد ((ترساً )) في الآلة، أو يتحول إلى آلة صماء لا رأي له، ولا مشورة، أو أن يكون نظامه الاجتماعي متفككاً بحيث تنتفي منه روح الأخوة، وتنعدم فيه روح الأسرة، أو أن يعمل نظامه الثقافي على تبلد الفكر، وركود المعرفة، فإن واحدا من هذه الأمراض يكفي لإصابة المجتمع بالعجز عن حماية ما أنجزه وحققه،ومن ثم فلا بد من أن تكون نظم الحضارة نظما فعالة، قائمة على ديمومة الرقابة الذاتية، لنفسها ضد الأمراض الحضارية التي تصيبها من داخلها ، وخاصة التي تتصل بتحويلات المجتمع، من التوازن إلى الخلل، ومن الاستقامة إلى العوج، ومن الفطرة إلى الجنوح، ومن الروح إلى المادة، ومن الواجب إلى النفعية، ومن عبادة الله إلى عبادة غيره، وكلها علل فطن لها المجتمع الغربي، فغدا الآن يسعى إلى طب نفسه منها، وإنقاذ حضارته من أوضارها، عن طريق إعادة النظر في أسس هذه الحضارة وقاعدتها، والنظم الحاكمة لها، في محاولة لإعادة وصلها بعلوم القيم والأخلاق، والهندسة الاجتماعية والإنسانية.
وهذا في الواقع، أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا ولهم.
أما بالنسبة لهم، فلأنهم قوم وضعوا أيديهم على بعض أمراض الحضارة، وحاولوا أن يبحثوا لها عن علاج، وأن يتعرفوا على أثر الروح وجودا أو عدما، وأن يدركوا مفعولها في مسيرة البشر الحياتية والحضارية، كوقاية وبلسم وشفاء، وري يلطّف من هجير المادة وجفافها ..(9/66)
وأما بالنسبة لنا، فمن حيث إننا نسعى جاهدين لنطل على مشارف دورة حضارية جديدة، ينبغي في سعينا هذا، أن نضع في اعتبارنا، كيف نتوقى من البداية هذه العلل والأدواء الحضارية، حتى لا نتوحل في عقابيلها، ونصاب بجراثيمها، ثم نذهب ونبحث عن العلاج حالما يستعصي، ولا يكون.
ومنهج الوقاية بين أيدينا ـ بحمد الله ـ ميسور مذخور، يكمن فيما لدينا من خلايا البقاء، إن الحضارة، تبقى ما بقي الإنسان بهويته، ومشخصاته، وخطوطها المتوازنة في روحه وبدنه، في دينه وتدينه، في أشواق روحه، وحاجات بدنه، في توجهاته وتطبيقاته، في مفهوماته ومدركاته، ووسائله وغاياته، في بواعثه ومقاصده، في ضميره وسلوكه، في شعوره ونزوعه، وحركته ونشاطه، في مسيرته وترداده بين سنن النفس، وسنن الكون، في عبوديته لربه، وتسخيره لكونه، في رغبته في الله ورهبته منه، ثم في التوازن الشامل في مجال التوجيه والمعرفة، بين خطوط الوحي، والكون، والعقل معا، والعمل للدنيا والآخرة جميعا.
الشق الخارجي:
إن هذا الشق لحماية المنجزات الحضارية للأمة، يلعب دوراً مهما، في درء الأخطار القادمة من وراء الحدود بجميع أشكالها، وفي منعها من غزونا، والتسلل إلينا من خلف الثغور.
وهذا أمر يجب أن يعنى بالقدرة على بناء أنظمة منيعة، وأجهزة دفاع قوية، تذود عن حمى المنجزات الحضارية كلها: عسكريا، واجتماعيا، ونفسيا، وثقافيا، وتربويا، وسياسياً .. الخ..
وبناء الأجهزة على هذا النحو، يحتاج إلى جهد متكامل، وبصيرة نافذة، ووعي عال، وفكر يقظ، فلا يكفي مثلا، أن يكون لدى الأمة جيش دفاع قوي، مجهز بأحدث الأسلحة والعتاد، في حين نظامها التعليمي لا يحمي الأمة من الغزو الفكري المضلل، ولا يعد الشباب لمواجهة أخطاره، ولا يبث فيهم روح الرجولة والإقدام، ولا ينشر بينهم القدرة على الصمود ببسالة، وعلى الجهاد ببطولة.
الخلاصة:
والخلاصة هي: أننا ـ بإذن الله ـ واجدون ـ بكل تأكيد الشروط الضرورية، والأصول الأولى، الكفيلة بالبعث الحضاري المرتقب، والاستراتيجية الحضارية المناسبة، لتنقذنا مما تعانيه مجتمعاتنا وديارنا، من الحرمان والتخلف، وذلكم من خلال:
1- ((فعالياتنا الروحية ))، ومعطياتنا القيمية،وعقيدتنا الموحية، وخطوطنا التربوية المأمولة في البيت، والمدرسة، والمناخ العام، والقدوة الصالحة.
2- ((استيعابنا لحضارة العصر )) على أسس علمية وتعليمية متطورة، وتزاوج بين العلم والحرفة، يمكننا بها وبالجهد والمجاهدة من ((استنبات التقنية )) في بلداننا.
3- ((تبني الأساليب الحضارية )) الإيجابية، التي تناسبنا في الحضارة المعاصرة، دون أن نصاب بسلبياتها الفكرية والاجتماعية، مع الجد والاجتهاد في ((إبداع البدائل )) للنظم الحضارية الحاكمة، على أيدي المتخصصين في دراسات النظم، التي تحكم مؤسسات شبيهة بمؤسساتنا المرجوة، سيما وأن ديننا بسعته يشتمل على الأصول العامة، والقواعد الكلية: والثوابت اللازمة كافة لانبثاق أرقى النظم الحضارية.
4- ((ضرورة التفاعل المطلوب بين ديناميكية كل من: الأفكار، والنظم، والزمن )) من حيث إن النظم والأفكار، قديمها وحديثها، أمرا ينقصه الكمال، وليس فيها جميعاً شيء مقدس، ولكأن الزمن نهر جار يخط طريقه في حياة البشر، فتتحرك الأفكار والنظم والزمن، كل خلف الآخر، في دورة ديناميكية، تستهدف دائما ـ في مجال التطور ـ الوصل إلى الكمال.
5- ((تصحيح النظرة إلى الحضارة المعاصرة )) بعد فحصها وفرزها، من خلال التعامل معها، والبحث في دروبها، والفقه العميق لعملية ((توارث )) الحضارات ((حلولها ))، و ((احلالها )) ونشأة أطوارها، ودوراتها، كل في ظلال الآخر، وحضانته، ومناخه، وضرورة الإفادة من نقد العلماء، والمصلحين للحضارة الغربية، والتركيز على ((الكيف )) و ((الجوهر )) والإيجابيات في عوالم النظم، والفكر ، والمنهجية، كل بما يناسب بيئتنا ، وبنيتنا، وتركيبنا.
6- ((ثم حماية منجزاتها الحضارية المأمولة )) بديمومة التطور والتقدم، والحركة، وحماية الأمة من أمراض الحضارة، من خلال العناية بسماتنا الذاتية، والاهتمام بسياجاتنا الواقية لقيمنا ومبادئنا من جراثيم الحضارة، والحرص على بناء أجهزتنا الدفاعية الحامية لثغورنا وأنظمتنا في كل مجال وأفق.
الخاتمة:
وبعد، فالحق الذي لا ريب فيه، أن بين أيدينا في كل ما سلف أعظم منهاج، وأكرم دين يمنحنا هذه الاستراتيجية، ويضع أصابعنا على شتى أصولها وفروعها، وكلياتها وجزئياتها، وجميع خطوطها المتوازنة والمقاطعة.
لقد أراد الله لديننا الإسلامي الحنيف، أن يكون مثابة للناس وأمنا، وشفاء ورحمة، وفضلا وهدى، ونعمة لا تطاولها في دنيا الناس نعمة.
جدير بمن حباه الله به، أن يقدر نعمته، وأن يلزم جادته، وألا يستدرك عليه، من حيث قد احتوى بين برديه خيري الدنيا والآخرة.
دين كفل الله به لأتباعه، الأمن والأمان، والمجد والعزة، والبشرى لهم بالتوفيق، ما مضوا على سننه، وساروا على دربه، وكانوا على مستوى التبصر والتغيير، والديناميكية والحركة، من السيء إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، في خط بياني صاعد، في نطاق مبادئه وإطار عقيدته.
يقول الحق تبارك وتعالى:
((يأيُّها النَّاسُ قد جاءتْكُم موعظةُُ من ربكم وشفاءُُ لما في الصدور وهدىً ورحمةُُ للمؤمنين قل بفضلِ الله وبرحمتهِ فبذلك فليفرحوا هو خيرُُ مما يجمعون. قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون. وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون . وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مُبين. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم. ولا يحزُنك قولهم. إنّ العزة لله جميعاً هو السميعُ العليم. ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبعُ الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون )) . ((يونس: 57 ـ66 ))
سدد الله على طريق الهدى خطانا، وبصرنا بأمور ديننا ودنيانا، وأعاننا على همومنا، وحقق آمالنا، وهدانا جميعا إلى سواء السبيل ....
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين
============(9/67)
أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق
تقديم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الأكرم ، الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، ميزه بالعقل ، ومنحه حرية الاختيار ، وبذلك جعله أهلاً لتحمل المسؤولية ، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني ، فهو المخلوق المكلف .. والمسؤولية في حقيقتها تكليف وتشريف ، فهي تكليف يحمل الأمانة الثقيلة ، التي عرضها الله على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، فلو لم يكن مؤهلاً للحمل ، بما يمتلك من خصائص وصفات ومزايا وقدرات هائلة ، لما نيطت به الأمانة من دون سائر الخلق . وهي تشريف أيضاً ، لأن اختياره من الله لحمل الأمانة دليل شرفه وتميزه وأهليته ، والتكليف والمسؤولية إنما هما في الحقيقة دليل الحرية وامتلاك الاختيار، فالمسؤولية فرع الحرية فلا مسؤولية بلا حرية.
والصلاة والسلام على البني الخاتم ، الذي انتهت إليه تجربة النبوة التاريخية وأصول الرسالات السماوية، فكانت رسالته في قمة التجربة البشرية ، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. )(الشورى:13) .
وطلب من أصحاب الرسالة الخاتمة ، أن يتبصروا بأحوال الأمم السابقة ويستشرفوا التجربة البشرية التاريخية ، فينقلوها من ورائهم إلى أمامهم ، ليعتبروا ويحول اعتبارهم دون السقوط الحضاري ، وانتقال علل الأمم السابقة إليهم ، والتعرف من خلال الأمر بالسير في الأرض ، والنظر في أحوال الأمم ، على سنن وقوانين النهوض والسقوط.
فالتاريخ العام هو المصدر الأساسي للفقه الحضاري ، والمختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري ، قال تعالى: (أولم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )(الروم:9) . فاكتشاف سنن السقوط والنهوض من لوازم البناء الحضاري ، وإن شئت فقل : من لوازم الشهادة على الناس ، والتأهل لقيادتهم ، والقدرة على اختيار وتمثل الموقع الوسط .
قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(البقرة: 143) .. وبعد :
فهذا كتاب الأمة السادس والعشرون : ( أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق ) ، للدكتور أحمد محمد نعمان ، في سلسلة الكتب ، التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات ، برئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية ، بدولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري ، والتحصين الثقافي ، وإعادة بناء الشخصية المسلمة ، بعد أن افتقدت الكثير من فعاليتها ، ومنهجيتها ، وصوابها ، وانحسر شهودها الحضاري ، وتوقفت عن السير في الأرض ، والتبصر بالقوانين ، التي تحكم حركة الحياة والأحياء ، وبذلك تكررت أخطاؤها ، وتكرس تخلفها وعجزت عن التقويم والمراجعة ، ومعرفة أسباب القصور ، وتحديد مواطن الخلل والتقصير ، فأصبح موقعها خارج التاريخ ، والواقع المشهود ، والمستقبل المأمول.
والغياب الحضاري ، أو الأزمة الحضارية ، التي نعاني منها ليست بسبب الفقر في القيم ، التي أكملها الله ، وتعهد بحفظها في الكتاب والسنة، الأمر الذي تستلزمه خاصيتا الخلود والخاتمية في الرسالة الإسلامية، أو بتعبير آخر: ليست المشكلة، التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، مشكلة قيم أو أزمة قيم، وإنما المشكلة كل المشكلة في العجز عن التعامل مع القيم ، والإنتاج الفكري ، الذي يجّسر العلاقة بين القيم ، وبين العصر، أو يساهم بتعديه الرؤية القيمية المحفوظة بالكتاب والسنة ، ويفيد من خلود الرسالة الإسلامية وقدرتها على العطاء المتجدد ، المجرد عن حدود الزمان والمكان ، لحل المشكلات الإنسانية ، وهذه وظيفة الفكر أو عالم الأفكار الذي نعاني من التأزم فيه ، لذلك نرى أن الخلط بين الأزمة الفكرية، التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، والتي أورثته العجز عن التعامل مع القيم ، وبين التوهم بأن الأزمة في القيم نفسها ، كان وراء الكثير من المغالطات ، والتراجعات ، التي لا تزال تكرس التخلف باسم التدين .. لذلك نعتقد أن من الأبجديات الأولى الضرورية لقراءة المسلم اليوم : إزالة الخلط بين المباديء المحفوظة ، والبرامج المطلوبة ، بين القيم الثابتة ، والأفكار الغائبة ، التي تبسط تلك القيم على الواقع المعاصر ، وتقومه بها.
فالانحسار الحضاري ، أو الأزمة الحضارية ، التي نعاني منها اليوم هي أزمة فكر أولاً وقبل كل شيء ، لأن النسغ الفكري للحضارة الإسلامية ، توقف عند حدود العقول السابقة ، وكأن الله خلق عقولنا لنعطلها عن الإنتاج ، ونعتبر العصور الأولى هي نهاية المطاف ، وغاية البعد الزمني بالنسبة للرسالة الإسلامية ، حتى انتهينا إلى هذه المرحلة من الانحسار ، والاستفزاز ، والتحدي الحضاري ، التي لابد معها من العكوف على الذات ، وتحديد مواطن الخلل والإصابة ، واستلهام القيم ، في محاولة للتوصل إلى صناعة فكرية معاصرة ، قادرة على الحوار الإنساني ، والمواجهة لكل الإصابات والأمراض ، التي لحقت بالشخصية المسلمة ، فأفقدتها صوابها ، وإن لم تفقدها الإخلاص الذي لابد من استصحابه في أبة عملية نهوض.
لقد اُتِهم العقل المسلم ، بأن السبب في عجزه وانحساره الحضاري هو اعتماده في النظر والتفكير على المنهج القياسي الاستنباطي ، بمعنى أنه محكوم ومكبل دائماً بأصل يقيس عليه ، أو بنص يحول بينه ، وبين الطلاقة في التفكير ، فهو دائماً فرع لأصل ، يدور في إطار سابق ، لا يمتلك الاستقلالية ، والحرية . وأن السبب في انطلاقه وإنجاز العقل الأوروبي هو اعتماده على المنهج الاستقرائي ، الذي يحرر العقل من القيود المسبقة ، من الأنموذج الحاكم ، أو المثال السابق ، أو الآبائية كما يعبر عنها بعضهم ، أخذاً من قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )(الزخرف:23) .
وهذه القضية ، لابد من التوقف عندها ، بما تسمح به هذه العجالة ، فمما لا شك فيه أن العقل المسلم يعتمد المنهج القياسي ، أو الاستنباطي ، في قضايا الفقه التشريعي ، في إطار الحلال والحرام ، وذلك عند إعمال العقل في النص الديني الموحى به لإدراك أبعاده ومقاصده ، وتحديد علته ، ومن ثم تعديه هذه العلة إلى الفرع الذي تتوفر فيه العلة نفسها ليأخذ حكم الأصل المقاس عليه ، ويكاد هذا الأمر ينطبق على الإجماع بالمصطلح الشرعي ( قياس الجماعة ) والقياس ( الاجتهاد الفردي ) والاستحسان ، والاستصلاح ، والاستصحاب ، بمعنى أن العقل إنما يتحرك في إطار سابق محكوم ببعض القيود والضوابط التي جاء بها الوحي.
أما فيما وراء الحكم الفقهي التشريعي ، فالإسلام يعتمد المنهج الاستقرائي .. يعتمده في كشف السنن ، والقوانين الثابتة .. والمطردة ، التي تحكم الحياة والكون والأنفس ، والآفاق ، الأمر الذي يتأتى منه البصارة واستقراء حركة النهوض والسقوط والتداول الحضاري ، بل لعل البرهان والدليل على ثبات السنن واطرادها هنا يتحقق من الاستقراء ، وليس من القياس ، فالسير في الأرض ، واكتشاف السنن الحاكمة لحركة الحياة ، أو فقه الحياة نلمحه في قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا.. )(آل عمران:137) .
وقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت:53) .. فاكتشاف السنن والتوصل إلى الدليل الذي يبين الحق ، إنما يتأتى من استقراء التاريخ ، والواقع ، وآيات الأنفس والآفاق ، لكن المشكلة جاءت من الامتداد بأحد المنهجين ، وتعطيل الآخر ، خاصة عندما توقف العقل المسلم عن السير في الأرض ، وتعطل عن النظر في الأنفس والآفاق ، في العصور المتأخرة ، الأمر الذي أدى به إلى الانحسار الحضاري.
وحقيقة أخرى لابد من إيضاحها هنا ، وهي أن المنهج الاستقرائي ، الذي يعزى إليه الإنجاز والإبداع الحضاري ، وإطلاقه للعقل من القيود ، لم ينطلق من فراغ كما يتوهم بعضهم وإنما جاء الكشف والإبداع نتيجة النظر في سوابق قائمة ، أيضاً ، تستقرأ أو تستنطق ، والمقدمات أو السوابق التي تمكن من النظر موجودة في كلا المنهجين.(9/68)
وخلاصة القول: إن الفقه التشريعي في الإسلام يخضع للمنهج الاستنباطي القياسي، وأن الفقه الاجتماعي والحضاري يخضع للمنهج الاستقرائي . والإصابة اليوم التي لحقت بالعقل والفكر الإسلامي لم تقتصر على أحدهما دون الآخر ، وقد تكون من بعض مشكلات العقل المسلم المعاصر ، الخلط بين المنهجين وعدم القدرة على استخدام كل في مجاله.
وقضية السنن بمعنى القوانين المطردة والثابتة ، التي تحكم حركة الحياة والأحياء ، وتحكم حركة التاريخ ، وتتحكم بالدورات الحضارية ، بما يمكن أن نسميه سنن التداول الحضاري ، استيحاء من قوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140) والتي تعتبر معرفتها شرطاً أساسياً للتبصر بالعواقب ، وتؤهل معرفتها إلى تسخيرها والتمكن من الإنجاز والإبداع الحضاري ، لا يتأتى إلا من السير في الأرض ، الذي فرضه الله على المسلم بقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل. .)(الروم:30).
هذا السير وهذا الاستقراء ، الذي يحقق الاعتبار لأولي الأبصار ، لم يأخذ بعد البعد المطلوب في العقل المسلم المعاصر، وعلى الرغم مما قيل حتى الآن من تعريف للسنن وأهمية إدراكها، وضرورة التعامل معها، إلا أن رصيدنا لم يخرج في ذلك عن بدايات ونظرات لم تتجاوز إلى الكنه ، ولم تتسع لتشكل مجرى ثقافياً عاماًَ في الأمة ، وإنما بقيت في إطار بعض المفكرين ، والمتأملين ، الذين يمكن اعتبارهم رواد الاستطلاع والاستشراف على الرغم من أن القرآن حض على ذلك في أكثر من موضع.
لقد كان جيل القرون الأولى يتعامل مع السنن بشكل عملي وتلقائي ، لأنهم فقهوا الوحي ، أما نحن فلم نزل نبحث فيها ، وننظر في مدى أهميتها ، وإن كان الاهتمام بالموضوع بدأت تتسع مساحته في إطار الفكر والعقل الإسلامي في السنوات الأخيرة ، على الرغم من اقتصار الأمر في معظم الأحيان على الحديث عن أهمية الموضوع وضرورته في إعادة تشكيل العقل وتصميم الذهنية الإسلامية ، التي لا تزال تعاني من التخلف ، بسبب الغفلة عن السير في الأرض والكشف عن سنن الله في الأنفس والآفاق ، وأهمية ذلك في معرفة قيام المجتمعات وسقوط ونهوض الأمم.
وبالإمكان القول: بأننا إلى الآن لا نمتلك الرصيد الفكري المأمول في هذا الموضوع ، الذي تنبه له بعض الرواد مبكراً من مثل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ، الذي حاول لفت النظر إليه بمختلف الوسائل ، إلا أن العقل المسلم المعاصر بسبب تشكيله الخاص لم يتح له أن يأخذ حقه من نظرات مالك ، ومنبهاته الحضارية، وبقيت تلك النظرات عبارة عن بوارق ، ونوافذ تستدعي الكثير من التفكير ، والتأصيل والنظر ، حتى تتبلور، ويتم تحويل الذهنية الإسلامية من الألم والإحباط ، إلى الأمل ، ومن الأمل والأماني إلى الفعل والعمل والممارسة. ذلك أن الرؤية القرآنية ، والتوجيهات النبوية ، تؤكدان أن هناك قوانين وسنناً ، تحكم حركة التاريخ، والاجتماع البشري، لا تتخلف ولا تحابي أحداً، ولولا ذلك لما كان في الدعوة للسير في الأرض، والتبصر بالعواقب، والمآلات ، التي انتهت إليها التجمعات البشرية أي معنى أو مردود ، خاصة وأننا نحن المسلمين ، نخضع للقوانين نفسها ، حيث لا يكفي النظر في النتائج ، كما هي حالنا اليوم ، بل لابد من النظر في المقدمات والأسباب التي انتجتها ، حتى يتمكن المسلمون من التحكم بها ، وأخذ الحذر من الوقوع فيها ، وحتى لا ينتهوا النهاية نفسها ، فالمقدمات نملكها ، والنتائج تملكنا ، وقد تكون إحدى آفات العقل المسلم اليوم أننا ندع ما نملكه إلى ما يملكنا.
ولا شك أن معطيات الوحي ، في الكتاب والسنة تضمنت خلاصة السنن التي تحكم الحياة والأحياء ، بما عرضت له من القصص القرآني ، عن نهوض الأمم والحضارات وسقوطها ، وربط الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، بشكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية ، التي تحكم عالم المادة ، ليعتبر أولوا الأبصار.
وهنا قضية أخرى لابد من لفت النظر إليها أيضاً : وهي أن الدعوة للسير في الأرض ، التي حث عليها القرآن، إنما هي في الحقيقة للاستدلال والتأكد من فاعلية السنن، التي قررها القرآن، وعدم تخلفها، من جانب، والامتداد والاكتشاف لسنن أخرى بالاستقراء والملاحظة ، وديمومة النظر العقلي ، من جانب آخر ، وإلا فما قيمة القصص القرآني الخالد ، إذا لم يشكل عقلاً مدركاً للقوانين والسنن ، التي تحكم التجمع الإنساني ، وتتحكم بقيام وسقوط الحضارات، هي حكايات لتزجية الوقت أسقطها الزمن وطواها التاريخ؟!
وقد يكون المطلوب اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، في مجال الدراسات الإنسانية التي بلغت عند غيرنا شأواً بعيداً ، أن نتوجه صوب فقه القصص القرآني ، بالقدر نفسه الذي توجهنا به نحو آيات الأحكام، واستنبطنا منها هذه الكنوز العظيمة في مجال التشريع ، لنكتشف فقهاً حضارياً في إطار علوم الإنسان، والقوانين الاجتماعية ، التي تحكم مسيرة الحياة والأحياء ، والتي تخلفنا فيها إلى درجة لا نحسد عليها.
لكن إلى أي مدى يمكننا القول: بأن السنن التي تحكم النفس والمجتمع هي بنفس الدقة والصرامة التي تخضع لها المادة الصماء ، التي لا خيار لها ، كما يخضع لها الحيوان الأعجم المدفوع بالغريزة ، والجانب المادي في الإنسان نفسه ، وإلى أي مدى يمكن أن تتحكم بالإنسان الحر المختار ، الذي يخضع في مسالكه وحركته لكثير من الظروف والتغييرات والمؤثرات؟
فالإنسان والواقع الإنسان ، يختلف في طبيعته عن الواقع الكوني المادي من حيث صرامة السنن والقوانين ، التي تحكم سيرورته ، ولذلك يمكن القول : بأن كشف القوانين والسنن ، التي تحكم المادة الصماء والكون المادي ، تثمر المعرفة اليقينية ، وعلى ضوئها يتعامل الإنسان مع الكون في جهوده التي يبذلها في تسخيره لمصلحته ، لكن الإنسان ، والواقع الإنساني ، ليس منضبطاً كواقع المادة ، فالعنصر الروحي في تكوين الإنسان ، والإرادة الحرة ، جعلا هذا الواقع يتصف بكثير من الخفاء والغموض في العوامل والأسباب ، التي تنشأ عنها الظواهر السلوكية ، الأمر الذي يجعله عصياً عن الفهم اليقيني ، والاطراد الصارم ، خاصة وأن الإنسان هو أداة التحليل ومحله في وقت واحد ، بينما في إطار المادة والكون ، فالإنسان هو أداة التحليل ، أما المحل فشيء آخر منفصل عنه.
وهذا لا يعني أن حركة الإنسان ، ونهوض وسقوط الحضارات ، تسير بشكل عشوائي عبثي ، خالية من كل قانون ثابت ، بل هي محكومة بقوانين عامة تحكم توجهاتها ومساراتها العامة ، ولو قبلنا جدلاً أن خصائص وصفات المادة والحيوان الأعجم ، يمكن أن تنطبق على الإنسان لأفقدنا الإنسان الكثير من حرية الحركة والاختيار ، ووقعنا بلون من القدرية الرهيبة ، التي تلغي إنسانية الإنسان ، وعقله ومسؤوليته ، وتمنعه من القدرة على المداخلة والتحكم ، وهو أهم ما امتاز به .. لذلك نرى أن الاعتقاد بأن معرفة السنن يحسم قضايا الاختلاف في الاجتهاد والتنوع والاختلاف في وجهات النظر ويؤدي إلى وحدة النظر ، فيه الكثير من المجازفة والتجاوز والتداخل بين المنهج القياسي والمنهج الاستقرائي.
من جانب آخر ، فإن نفاذ السنن ، والتحول الاجتماعي والإنساني الذي يخضع لها يتم ببطء شديد ، وعمر مديد ، قد يستغرق حياة الإنسان ، لذلك يكون من الصعوبة بمكان رصد مساراته ، والتعرف على اتجاهاته بدقة في الواقع المشهود.(9/69)
فالنظر إلى موضوع السنن ، التي تحكم الأنفس والآفاق ، من خلال بعض الجزئيات في الحاضر التي قد تبدو عصية عن الانسلاك في نطاق السنة ، وخارجة عن الاطراد ، بل ومناقضة لحقيقة ، ومعادلة اجتماعية ثابتة ، أو النظر إلى ذلك من خلال مدى زمني أقل من العمر المطلوب الذي يقتضيه التفاعل الاجتماعي ، بمعنى غياب سنة الأجل المفترض للتغيير الاجتماعي عن أدوات الدراسة ، قد يؤدي إلى لون من الضلال في الرؤية ، واضطراب في الموازين ، وإنكار لموضوع السنن أصلاً ، والانتهاء إلى لون من العبثية والوجودية المدمرة.
من هنا نقول: إن الكشف عن السنن التي تحكم الحركة الاجتماعية لا يتأتى إلا من السير في الأرض ، واستقراء التاريخ ، والتعرف على القوانين التي حكمت حركة البشر ، للإفادة منها للحاضر والمستقبل ، فالحاضر على كل حال ، ليس محلاً كافياً للقراءة والاستقراء.
فقد يكون الحاضر نتيجة لمقدمة في الماضي ، وقد يكون مقدمة لنتيجة لا تظهر إلا في المستقبل ، فاستقراء الحاضر وكشف السنن التي تحكم حركته، لا يكون دقيقاً إلا باستصحاب الماضي وما يعطي من حقائق ثابتة لا يمكن أن يخرج عنها الحاضر .. فالإفادة للحاضر إنما تتحقق بالقدرة على قراءته من خلال وضعه في موقعه المناسب من الحركة التاريخية.
بينما يمكننا أن نلمح حدوث التفاعل في المجال المادي ، واطراد القانون ، في زمن قد لا يعتبر شيئاً في عمر الفرد بعد انقضاء رحلة الاستكشاف التي قد تطول وقد تقصر.
ولعل من الرحمة بالإنسان ، والتكريم له ، أن تكون السنن والقوانين ، التي تحكم حركته ، ملامح وتوجهات عامة ، وبذلك تتضاءل الأخطاء ويمكن تجنبها ، وتكون ساحة التفاعل والانفعال والحرية أوسع مدى ، ولعلنا نستطيع أن نقول : بأن السنن في مجال المادة والكون هي أشبه ما تكون بقضبان الحديد التي يسير عليها القطار وتحكم وجهته بصرامة ، حيث لا يستطيع أن يعدل عنها أو يخرج عليها ، فإذا حاد عنها تعرض للخطر ، بينما السنن التي تحكم قضايا الإنسان هي أقرب لحركة السيارة التي تحدد الاتجاه والهدف، ويمتلك السائق معها حرية الحركة أكثر في الوصول إلى غايته ، وكل محكوم باتجاه ، وإن اختلفت طبيعة ومدى حركته .
لذلك نرى علماء وفلاسفة الاجتماع والحضارة ، الذين حاولوا وضع قوانين وسنناً للدورات الحضارية وأسباباً للبناء الحضاري ، لم يتمكنوا من الوصول إلى الحتمية على الرغم من أن دراساتهم ذات قيمة علمية رفيعة ، إلا أنها لم تتسم بالصرامة والدقة التي خططت للمادة الصماء ، ولا نزال نسمع بالتفسير المادي ، والنفسي والسياسي ، والاقتصادي ، والمذهبي ، والقومي ، والقبلي ، والديني .. للتاريخ ، والتاريخ ثمرة لذلك كله وإن تفوق بعض العوامل في بعض الظروف .. ونستطيع أن نقول باطمئنان : بأن سننهم وقوانينهم وحساباتهم لم تنطبق تماماً على الحضارة الإسلامية ، التي كانت ولا تزال عصية على تلك القوانين بشكل صارم ، وإن خضعت لها في بعض الجوانب.
إن السقوط المريع للبناء الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية ، دليل جديد بعد تجربة أكثر من نصف قرن ، على سقوط الحتميات وقوانينها التي حاول فلاسفتها أن يخضعوا البشر لها كما أخضعت المادة.
ونحن هنا ، لا نريد أن نهون من الكسب البشري في كشف السنن في مجال العلوم والدراسات الاجتماعية ، وإنما الذي نريد أن نبينه : أن تطبيق قوانين المادة الصماء على الإنسان الحر المختار المكلف المسؤول ، بنفس الصرامة واليقينية ، فيه القليل من الصواب ، والكثير من المجازفة ، وذلك لخضوع الإنسان للعديد من الرغبات والأهواء والمؤثرات والانفعالات والحالات النفسية المعقدة ، التي يمر بها ، ولأن الإنسان أداة الكشف والتحليل ومحله ، كما أسلفنا ، فليس موضوع الدراسة شيئاً خارجاً عنه ، فهو الأداة ، وهو المحل ، ومن هنا يحق لنا أن نفخر نحن المسلمين أن السنن الأساسية التي تحكم الحياة والأحياء عندنا يقينية، لأنها ليس من وضع الإنسان ، إنما نستمدها من الوحي ، من علم الله الذي لا يخطيء ، وأقداره النافذة ، وقد بسطها القرآن وبينتها السنة ، وأن ما طلب إلينا من السير في الأرض ، إنما هو وسائل إيضاح معينة على الفهم والإدراك ، لأحقية وصواب ويقينية السنن .
إن المميزات التي اختصت بها الأمة المسلمة تؤكد على أن السنن التي تحكم الحياة والأحياء لا تتصف بالصرامة واليقينية التي تخضع لها المادة وحتى الجانب المادي في الإنسان أيضاً . نلمح ذلك في :
- مواثيق الله وما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تسليط الأعداء على الأمة المسلمة ليس تسليط استئصال ، وأن إصابتهم للمسلمين وإضرارهم بهم ، ما هو إلا أذى ، وليس إنهاءاً لهم ، لأنهم أمة الرسالة الخالدة ، والخاتمة ، والشواهد التاريخية دليل ذلك .. فالأمة المسلمة تمرض وتضعف ، لكنها تستعصي على الموت الذي لحق بالكثير من الحضارات السابقة لها واللاحقة عليها .
- وأن الأمة المسلمة لا تجتمع على الخطأ والضلالة ، فلا تزال عصمة الأمة بعمومها قائمة ومستمرة ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
- وأن هناك طائفة من الأمة لا تزال قائمة على الحق تحرسه ، وتحول دون الانحراف عنه ، وتضمن سلامة التواصل الثقافي بين الأجيال ، لا يضرها من يخالفها حتى يوم الدين ، والتي تشكل خميرة النهوض والإمكان الحضاري في كل حين .
- وأن العشرين الصابرين من المؤمنين المقاتلين يغلبون مائتين ، وذلك حتى بعد التخفيف .
- وأن الاستمساك بالإيمان واق من آثار الهزيمة ، وما تورثه من الوهن والحزن ، وداع إلى الاستعلاء وعدم السقوط ، والمعاودة للشهود الحضاري بعد الانكسار ، إلى جانب عدم انطباق قانون الدورات الحضارية الذي انتهى إليه علماء التاريخ والحضارة والاجتماع ، على الأمة المسلمة .. وهذه القضية يمكن أن نعتبرها من خصائص أمة الرسالة الخاتمة ، ومواثيق الله لها ، مهما حاولنا الحديث عن توفر أو تخلف الشروط والظروف .
نعاود القول : إن الاجتماع البشري لاشك أنه يخضع لسنن قد عرض لها القرآن ، وأكدها من خلال تاريخ البشرية الطويل ، في القصص القرآني والبيان النبوي ، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً ، وأن من يعمل سوءاً يجز به ، وأن الإنجاز والإبداع والشهود الحضاري له شروطه ومقدماته وأسبابه وفروضه ، وهو ليس عبارة عن أماني (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجْزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء:123) .. هذا قانون الله ، لكن المشكلة أن نقول : بانطباق قوانين المادة الصماء على الإنسان المختار ، وهذا لا يعني أن حركة الإنسان خلو من القانون والنظام ، وإنما يعني أن المعيار هنا عند الإنسان غيره عند وسائل الإنسان المادية .
وأخشى ما نخشاه - ونحن نطرح موضوع سنن الله في الأنفس والآفاق من خلال ضغوط العجز والتخلف الداخلي التي يعاني منها العقل المسلم اليوم ، والتحدي ، والاستفزاز المادي الخارجي - أن تغيب عنا النظرة المتوازنة ، وهي : إدراك العلاقة بين البعد الإيماني والغيبي ، والسنن التي تحكم عالم الشهادة ، ودور البعد الإيماني في الهداية إلى هذه السنن ، والتفاعل الذي يحدثه الإيمان بين هداية السماء واستجابة الأرض لتحقيق الشهود الحضاري ، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان .. إن اكتشاف انتظام هذه القوانين , وعملها يقود إلى الإيمان بالله ، والاستدلال بالأمور المادية والسنن الكونية على الأمور النفسية والإيمانية .(9/70)
ودور الإيمان في التنبه لهذه السنن ، وإعمالها ، وما يهب الإيمان والتقوى الفرد المسلم من استعدادات تدفعه إلى الإنجاز ، ولا تقعد به عاطلاً عن التعامل معها .
نقصد أن العلاقة بين البعد الإيماني والإنجاز الحضاري ، تحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل .. لذلك رأينا بعض المدارس الحديثة التي كانت تتعامل مع المادة فقط ، تراجعت لتقرر : أنه لابد من إعادة صياغة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة ، حتى تصبح قابلة للتطور والإنجاز التكنولوجي ، لأن التكنولوجيا تأتي ثمرة لفلسلفة ، وعقيدة ، ومعادلة نفسية معينة ، وبالتالي فلا يمكن أن تتطور في مجتمع عقيدته تغاير أو تختلف عن مجتمع نشوئها ..
لقد ربط القرآن كثيراً من النتائج المتحصلة من إعمال هذه السنن بالتقوى .. فمثلاً : ربط بين التقوى وما تؤدي إليه من بصيرة في النظر للأمور ، والحكم عليها بالحق والباطل ، والصواب والخطأ .. يقول تعالى: (يأيها الذين آمنو إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً )(الأنفال:29) .
وهناك ارتباط بين الإيمان والتقوى ، وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق: (ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )( الأعراف : 96 ) .
وهناك ربط بين الإيمان والصبر الإيجابي وبين تجاوز المحن: (ولنبلوَّنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )(البقرة:155) .
وربط أيضاً بين الاستغفار والتوبة وبين نزول المطر وتحقق الخير ..
وهناك ربط بين الانتصار في ميدان المبادئ ، والانتصار على الشهوات وبين الانتصار على العدو .
وهناك أيضاً الربط بين الظلم الاجتماعي ومنع الفقراء حقوقهم ، وبين فقدان الثروة ..
وهناك أيضاً الربط بين الفسق والترف ، وبين الهلاك ..
وهناك أيضاً ربط بين غياب العدل وانقراض الأمم والحضارات .
ونحن بسبيل الحديث عن سنن الله في الأنفس والآفاق ، ومدى خضوع الحياة والأحياء لها ، لابد أن نوضح أنها قدر من قدر الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي شرعها وسنها وناط تكليف الإنسان بها ، وربط جزاءه وقيمة إنجازه بمقدار ما يكشف منها ، ويلتزم بها ، فالقيام بأمانة الاستخلاف الإنساني لا تتم إلا بالتعرف عليها ، لأن أمر تسخير الكون مرتبط إلى حد كبير بحسن إدراكها ، ذلك أن التعرف عليها لا يمنح الإنسان القدرة على تسخير الكون فحسب ، وإنما يمنحه قدرا كبيراً من التحكم بالنتائج ، والتخفيف من الآثار السلبية ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر ، وفي ذلك انفساح هائل أمام طاقات الإنسان غير المتناهية ، وتحكم في الكون الذي خلق الله الإنسان سيداً له ، وجعله محل تسخيره .
والسنن التي تحكم الكون والحياة قدر من قدر الله تعالى كما أسلفنا والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها هو حقيقة التكليف ، وحقيقة الإيمان ، والتوكل ، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي المطلق ، حيث لا يصح غير ذلك على الله سبحانه وتعالى ، فكيف يصح عدلاً أن يعطى من لا يعمل ، ويحرم من يعمل ، وكيف يمكن للإنسان أن يستجيب لأمر الله ، دون معالم هادية ، وأسباب موصلة إلى النتائج ؟
ويمكننا أن نقول : إن الانحسار الحضاري ، الذي يعاني منه المسلمون اليوم كان بسبب العدول عن الانضباط والانسلاك بالسنن ، التي شرعها الله للشهود الحضاري (الشهادة على الناس والقيادة لهم): ونخشى أن نقول : إن بعض علل الأمم السابقة التي حذرنا الله منها ، والتي كانت سبب انحسارهم الحضاري تسربت إلى المسلمين ، في عصور التخلف والانسلاخ عن الدين ، وهي ما يمكن أن نعبر عنه بالغزو الفكري في المجال الديني : من عدم الاعتقاد بثبات السنن ، والتوهم بأن الاعتقاد أن الأسباب توصل إلى النتائج يتعارض مع الإيمان بقدرة الله الذي شرع الأسباب وقدر أن تكون موصلة للنتائج ، ويناقض التوكل ، ويتعارض مع قدر الله ، فكان العدول عن كشف السنن ، هو الذي أورثنا الاستنقاع الحضاري، الذي نعاني منه ونظن أننا أكثر إيماناً ويقيناً ، كما فعل رجال الكنيسة ، فأوقفوا عجلة الحضارة والتقدم العلمي .
وقد تكون المشكلة أو بعض جوانبها ، في الخلط بين السنن الجارية التي تتطلب فعل مقدمات تحكمها نتائج، وبين السنن الخارقة التي لا تخضع للمقدمات والنتائج ، ومن ثم الاستشهاد بالآيات التي غالباً ما تنصرف إلى السنن الخارقة ، في مجال السنن الجارية ، وبذلك خروج عن المنهج ، وضياع عن السنن الجارية والخارقة معاً .
ويتفرع عن هذا أيضاً: ضرورة مراجعة وتحديد مصطلح الغيب الذي ورد ذكره في الكتاب والسنة وهو ما اختص الله بعلمه ، فقد يطلق الغيب ويراد به الماضي (ذلك من أنباء الغيب) ، وقد يطلق على الأمر الغائب عن ساحة المشاهدة ، وقد يطلق على المستقبل في عالم الشهادة نفسه ، وقد يطلق على العالم الآخر (ما بعد الموت)، وهذا التحديد يمنحنا فرصة ومدى أكثر رحابة لجولات العقل ، وكشفه ، ومساحاته ، ويجعلنا أكثر اطمئناناً عندما نحاول رصد المقدمات والأسباب في الحاضر ، والتنبؤ بالنتائج في المستقبل أننا لا نقترف إثماً ، ولا نرجم بالغيب ، ولا نتدخل بعلم الله الخاص به سبحانه .
وعلى الرغم من أن الغيب ، بمعنى العالم الآخر ، له سننه وقوانينه ، وطبيعته المختلفة ، وأن مصدر معرفته هو الوحي فقط ، ودور العقل هو فهم الوحي دون الاستقلال بالنظر ، إلا أن مفهوماته العامة ، كما جاء بها الوحي ، لا تخرج عن المعقولية من ربط الأسباب بالمسببات ، والعلة بالمعلول ، والمقدمات بالنتائج ، لأنه منطق العدل الإلهي ، كما أسلفنا .. فالدنيا كلها أو عالم الشهادة ، مقدمة ومزرعة للعالم الآخر ، وواقع المؤمن في الآخرة مرهون بما يقدم في الدنيا ، وما يفعله في الدنيا بدافع ما يأمل في الآخرة من نتائج على عمله .
فالمؤمن يشعر أن عمله واختياره وإنجازه في الدنيا له دور كبير في تحديد مستقبله ومصيره في الآخرة .
ألا يحق لنا بعد هذا، أن نستغرب عزوف المسلمين عن دراسات المستقبل من خلال التعرف على السنن وملاحظة اطرادها، والمستقبل عندهم لا تحده الدنيا ! وتغيب عنهم عمليات التخطيط واستشراف المستقبل بعد أن أصبح علماً له مقوماته واختصاصاته!؟
لقد ربط الإسلام إمكانية الإنجاز بمعرفة الأسباب ، وكشف السنن ، التي تحكم الكون وعالم الحياة والأحياء ، وقدم القرآن ذو القرنين ) أنموذجاً متجسداً لربط الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، واعتبر ذلك مقدمة لابد منها للنهوض والإنجاز الحضاري ، وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع السنن نظرياً.(9/71)
فذو القرنين الذي آتاه الله من كل شئ سبباً فأتبع سبباً، وكان له التمكين في الأرض لأنه عرف السنن وانضبط بها: سار في الأرض وكانت مساحة رحلته من مشرق الشمس إلى مغربها ، وتعرف من خلال هذا السير إلى أسباب العجز الحضاري ، والتحديات والمعاناة التي تواجه البشر، وأيقن بضرورة توفير الظروف والشروط التي تكسبهم المنعة ، فكان أشبه بالمهندس الذي عرف أسباب التردي ، ووسائل التمكين، في الأرض ، ووضع الخطط ، وأشرط الأيدي العاملة ، واستحضر المواد المطلوبة لإتمام عملية الإنجاز .. وقد تكون العودة إلى النص القرآني والوقوف أمام هذا الأنموذج بدون حواجز ، أدعى إلى التأمل المطلوب: قال تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئٍ سبباً * فأتبع سبباً * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً ، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى * وسنقول له من أمرنا يسراً * ثم اتبع سبباً * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً * ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أدعل بينكم وبينهم ردماً * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه فطراً * فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً )(الكهف: 83-97).
وبعد : فهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم ، للأخ الدكتور أحمد محمد كنعان ، لاشك أنه يعتبر محاولة متقدمة في هذا المجال ، تفتح الأبواب والنوافذ لمزيد من الدراسات والبحوث في هذا الموقع الحيوي الهام والغائب بالنسبة لاستئناف المسملين دورهم الحضاري ، ومعالجة حالة الركود والانحسار ، التي يعيشونها .
ويمكن أن نقول : بأن الكتاب مساهمة طيبة وإن كان لا يخلو من بعض الاجتهادات التي لا تزال تستدعي الكثير من الحوار والنقاش والتفكير والتأصيل.
وحسبنا في هذا الكتاب أنه يستدعي موضوع سنة الله في الخلق إلى ساحة اهتمام العقل المسلم بعد هذا الغياب الطويل ، ليبدأ رحلة التفتيش عن مواطن الخلل ، ويدرك أسباب القصور ، فيستدركها ، ويصوب المسيرة، ويمارس عمليات النقد والمراجعة والتقويم في ضوء تلك المقاييس السننية التي لا يمكن أن تتم أية عملية مراجعة دقيقة بدون إبصارها ، والتي لا تزال غائبة بشكل أو بآخر عن ساحة الفكر والعمل الإسلامي، والله من وراء القصد
=============
المقدمة
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . وبعد:
فإن المرض سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه..
يصيب الإنسان فيعطله عن القيام بشؤونه ، وقد يتفاقم فينتهي به إلى الموت .. وكذلك هي حال الأمم . فإنها جميعاً تخضع لسنة المرض ، كما يخضع الأفراد ، وتؤكد لنا أحداث التاريخ أن الأمة الإسلامية لم تكن استثناء من هذه السنة الإلهية المطردة ، فقد تعاقبت عليها أمراض شتى على مدار تاريخها الحافل بالأحداث الجسام ، ولكنها كانت في كل مرة تواجه المرض بنفس مطمئنة ، وعزم لا يلين ، وتوكل على الله عز وجل ، لا يدانيه ريبة ، ولا عجز ، ولا كسل .. وما هو إلا قليل حتى تقوم من وعكتها ، وتنطلق من جديد لإتمام واجبها الجليل ، الذي ناطه بها رب العزة سبحانه ، وهو واجب الشهادة على البشرية (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )(البقرة:143) .
لقد كان هذا هو حال أمتنا الإسلامية في مواجهة ما ألم بها من أمراض على مدى القرون الماضية ، إذ لم يكن المرض غير مرحلة عابرة في حياتها ، لا تلبث بعده أن تقوم إلى أداء واجب الشهادة .
والشهادة على الناس ..
ليست مجرد ( فرجة ) أو تسلية .
بل هي : فعل وقرار ..
فعل .. يبتغي تبليغ رسالة التوحيد للبشرية ، كل البشرية . وقرار .. يتضمن معنى القوامة على البشرية ، فهذه الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون (خير أمة أخرجت للناس) من واجبها -وقد خصها ربها بهذا التكريم- أن تكون ( الراعية ) في بيت البشرية الكبير .. تبين للناس الحق ، وتأطرهم عليه أطراً ، وتبين لهم الباطل ، فتصدهم عنه صداً ، فهذا هو السبيل لكي يستقيم أمر الدنيا ، وتعيش البشرية الحياة الكريمة ، التي أرادها لها خالقها .. سبحانه ..
واليوم .. نرى هذه الأمة التي يفترض فيها أن تكون ( الشاهدة ) وقد حقت عليها سنة المرض ، وسرى في أوصالها الوهن ، الذي لم يكن بطبيعة الحال وليد الحاضر وحده ، بل كان نتاج عصور متطاولة من المحن والرزايا والبلايا والخطوب .. مما جعل هذه الأمة تعيش اليوم على هامش الأحداث ، وقد خرج القرار من بين يديها ، وأصبح في أيدي ( الآخرين ) الذين راحوا يخططون ويدبرون ويكيدون !
وقد كان من نتيجة هذا الوضع المقلوب أن تخلفنا عن ركب الحضارة أشواطاً بعيدة ، ليس في ميدان واحد من ميادين العلم أو السياسة أو الاقتصاد ، بل في تلك الميادين جميعاً ، بما فيها ميدان الإيمان نفسه ، فأمسينا في الغالب مسلمين بالعنوان فحسب ، وأما المضمون فذلك شأن آخر !
نحن مسلمون .. هذا صحيح إن كان الإسلام مجرد نطق بالشهادتين ، وبضع ركعات في اليوم والليلة ، وصوم أيام من كل عام ..
لكن الحقيقة غير هذا .. فالإسلام ليس مجرد شعائر تعبدية تؤدى في دقائق معدودات ، وإنما الإسلام حياة متكاملة يتجه كل نشاط فيها إلى بارئ الكون سبحانه ، لا دقائق معدودات ، بل العمر جميعه ، بكل أيامه وساعاته وثوانيه .. وصدق الله العظيم الذي يبين لنا هذه الحقيقة ناصعة في محكم التنزيل ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات:56) . وحين تعود حياتنا عبادة خالصة لله وحده ، حينئذ يمكن أن نستعيد مكاننا تحت الشمس ، وأن يعود القرار في أيدينا ، وأن نعود كما كنا في يوم من الأيام شهداء على الناس.
وهنا يبرز السؤال المرير .. كيف السبيل إلى ذلك ؟ هذا السؤال الذي لا أشك أنه يتبادر إلى أذهاننا جميعاً..
وأقول: إن الجواب الذي لا يكاد يختلف عليه اليوم مسلمان هو (العودة الصادقة إلى نبع الإسلام الصافي) غير أن هذا الجواب - للأسف - لا يكاد يقدم أو يؤخر في حل المشكلة لأنه جواب فضفاض .. عام .. شامل .. لا يبين لنا : كيف تكون البداية ؟ ولا كيف نتابع المسير ؟
وأرى في هذا المقام - كما قرر من قبل معظم المهتمين بالمشكلة - أني لا أملك الآن جواباً وافياً شافياً عن هذه التساؤلات ، غير أنني من خلال معايشتي الطويلة للعمل الإسلامي، وبخاصة في السنوات القليلة الماضية ، التي شهدت ما اصطلح على تسميته (الصحوة الإسلامية) أستطيع أن أجزم بأن العمل الإسلامي ما يزال يفتقد إلى المنهج الواضح ، الذي يقوم على تحليل دقيق للمشكلة ، وتحديد موضوعي للأسباب والعوامل ، التي أدت إليها ..
ومن هنا انطلقت فكرة هذا الكتاب ، الذي يعد بمثابة محاولة للبحث عن الأسباب والعوامل ، فالبحث عن الأسباب والعوامل التي تقف وراء تخلفنا الحضاري ، يعد مرحلة لا محيص عنها ، قبل التفكير بوضع الخطط والبرامج ، التي تبتغي الإقلاع نحو مستقبل جديد .(9/72)
والحق .. إن هذا الكتاب ليس إلا إضافة للأبحاث والدراسات التي سبقته إلى تناول الأزمة الحضارية ، التي تعيشها اليوم أمتنا الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، ولعلي أتذكر هنا على وجه الخصوص تلك الأعمال القيمة التي قدمها للمكتبة المفكر الأستاذ (مالك بن نبي) تحت عنوان (مشكلات الحضارة) ، فقد أبدع مالك رحمه الله في تحليل أسباب أزمتنا الحضارية ، من خلال رؤية متميزة للسنن التي تحكمها ، فساهم بذلك في تصحيح النظرة للأزمة ، حيث قدمها للناس بصيغة قوانين قابلة للفهم، ومن ثم قابلة للتسخير في حل هذه الأزمة .
كما أشير في هذا المقام إلى السلسلة التي قدمها المفكر الأستاذ ( جودت سعيد ) (2) تحت عنوان ( أبحاث في سنن تغيير النفس والمجتمع ) والتي تعد بحق إضافة طيبة في هذا المجال .
إلى جانب عدد كبير من الدراسات والأبحاث التي ظهرت في غضون السنوات القليلة الماضية في ساحة الفكر الإسلامي ، وكان لكل منها فضل في إلقاء المزيد من الأضواء على جوانب الأزمة المتعددة .
وقد شعرت من خلال مطالعتي لتلك الأعمال القيمة أنها - على تفاوت بينها - قد أولت موضوع ( سنة الله في الخلق ) اهتماماً خاصاً ، على أساس أن التعامل مع الكون المحيط بنا لا يتم بصورة صحيحة إلا بعد فهم السنن الربانية ، التي جعلها الله عز وجل أبواباً للتعامل مع موجودات هذا العالم .
لكن الملاحظ أن تلك الأعمال التي تحدثت عن ( السنن ) قد انصرفت في الغالب لبيان مدى تقصير المسلمين في كشف ودراسة هذه السنن ، دون التفصيل في طبيعة هذه السنن ، وخصائصها ، وعلاقتها بالجهد البشري ، وقد وجدت ضرورة هذا التفصيل ، حتى نعرف كيفية الوصول إلى تسخير السنن ، وهو غاية دراستنا لها .. وربما كانت الإضافة الحقيقية في هذا الكتاب أنه يقدم دراسة تفصيلية لطبيعة السنن الربانية ، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود ، وهو ما لم تتعرض له الدراسات السابقة إلا بصورة عابرة في الغالب .
وقد قسمت الكتاب إلى : مدخل ، وثلاثة فصول ..
* فأما ( المدخل ) فقد ناقشت فيه العلاقة العضوية التي تربط ما بين الجهد البشري ، وبين السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، وبينت كيف أن الجهد البشري لا يمكن أن يكتب له النجاح إلا بفهم السنن المتعلقة به ، ومعرفة كيفية تسخيرها .
* وفي ( الفصل الأول ) عرضت أسباب اهتمامنا بالحديث عن السنن ، مع بسط دعوة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف للسير في الأرض ، والنظر في آيات الله (أو سننه) للاهتداء بها في التعامل مع مخلوقات الله التي تخضع جميعاً لهذه السنن.
* كما عرضت في هذا الفصل أيضاًَ خصائص السنن ، وبينت كيف أنها تمثل قوانين عامة شاملة ، تتصف بالثبات والاطراد ، ويخضع لها كل مخلوق من مخلوقات الله المادية وغير المادية ، كما تناولت بالتفصيل تلك الظروف والحالات التي يحصل فيها خرق للسنن ، أو الخروج بها عن مألوف البشر ، كما هي الحال في المعجزات والكرامات ..
* وأما ( الفصل الثاني ) فقد خصصته لمناقشة عدد من القضايا الهامة ، التي لها مساس مباشر بأزمتنا الحضارية الراهنة ، وذلك في ضوء ما بينته في الفصل السابق عن خصائص السنن .
* وفي الختام جاء (الفصل الثالث) بمثابة تلخيص للبحث ، واستخلاص لأهم النتائج التي انتهيت إليها من خلاله.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعل في هذا العمل نفعاً وفائدة ، وأن يتقبله مني خالصاً لوجهه الكريم.
د. أحمد محمد كنعان
=============
مدخل ( الفكرة . العمل . السُّنة )
.. بعد أن نفخ الله عز وجل من روحه في قبضة الطين ، واكتمل خلق آدم في أحسن تقويم ، أمر الله ملائكته بالسجود لهذا المخلوق ، فسجدوا .. وفي هذا الجو المهيب من التكريم الرباني ، بدأ عهد الإنسان في هذه الحياة .. ومن رحمة الله عز وجل ، أنه لم يسلم هذا المخلوق لمصيره الذي بدأ للتو ، من غير زاد كاف من المعرفة ، التي تعينه على التعايش مع العالم الذي وجد فيه ، والذي كان مجهولاً تماماً بالنسبة له .. فعلمه الأسماء (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين )(البقرة:31) .
* فماذا تعني تلك الأسماء التي تعلمها آدم عن ربه؟
إنها - كما يتفق معظم المفسرين - تعني نوعاً من العلم الكلي بطبيعة العالم ، الذي سيحيا فيه آدم ، وذريته من بعده .. أو هي فكرة مجملة عن العالم لكي يتمكن آدم وذريته من فهم هذا العالم ، والتعامل معه ، تعاملاً إيجابياً فعالاً ..
ويتبين لنا من هذه الإشارة القرآنية في قصة خلق آدم ، واستخلافه ، وظيفة (الأفكار) في بناء الحضارة الإنسانية .. وقد أثبتت وقائع التاريخ أن أية أمة من الأمم لابد أن تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة من الأفكار ، التي على أساسها تشيد صرح حضارتها .
ويقدم لنا الواقع شواهد عديدة ، على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار ، ولهذا السبب نجد المجتمعات تسمو ، أو تنحط ، أو تبيد ، تبعاً لطبيعة الأفكار ، التي يعتنقها أبناؤها .
.. وحسبنا للتدليل على وظيفة الأفكار في المسيرة الحضارية ، أن نذكر ، بأن معجزة الإسلام باقية على الدهر ، قد تمثلت في كتاب الله الكريم ، الذي ضم بين دفتيه مجموعة من الآيات ، التي تنطوي كل منها على فكرة أو مجموعة من الأفكار .. وقد استطاع القرآن بهذه الأفكار أن يبدل حياة العرب من حال إلى حال ، وأن يصوغ منهم أمة واحدة متآلفة ، متراحمة ، بعد أن كانوا قبائل متفرقين ، يفتك بعضهم ببعض!
لكن الملاحظة التي تستحق الانتباه هنا هي أن الفكرة لا تؤدي وظيفتها في حياة الناس بصورة تلقائية ، بل لابد لها لكي تفعل فعلها من جهد بشري مكافئ ، يترجمها إلى فعل ، فالفكرة من هذه الوجهة تشبه (الدليل) الذي ترفقه الشركات الصانعة مع الأدوات والأجهزة التي تصنعها ، وتبين فيه مواصفات كل أداة أو جهاز، وطريقة التشغيل .. وغني عن البيان أن الفائدة من هذا الدليل لا يمكن أن تتحقق بغير ترجمة التعليمات التي فيه إلى أفعال .. فإن قال لك الدليل مثلاً : ( صل الجهاز بمصدر التيار الكهربائي ) ثم لم تفعل ذلك ، فهل تتوقع أن يعمل الجهاز ، وأن ينجز المهمة المرجوة منه؟ بالطبع لا ، وكذلك الفكرة ، فهي تظل مجرد خاطر، يجول في الوجدان ، حتى يحولها الإنسان إلى فعل . ولكن مع هذا فإن اجتماع العاملين معاً ( الفكرة والفعل) لا يكفي لإخراج الفكرة إلى حيز الواقع ، بل لابد من عامل ثالث مكمل لهما ، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي ، أو بمعنى آخر أن تكون موافقة لسنة ( قانون ) من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فقد قدر الله في هذا الوجود لكل أمر سنة خاصة به ، لا يتم إلا من خلالها..
* ونضرب لذلك مثلاً الفكرة التي تقول : ( إن الإنسان أصبح اليوم قادراً على الانتقال ما بين أوروبا وأمريكا في غضون ساعات قليلة ) فهذه الفكرة تبدو ممكنة التحقيق من الناحية النظرية ، غير أن محاولة تحقيقها بالركوب على حصان مثلاً ، يجعلها فكرة مستحيلة التنفيذ ، لأنه ليس في وسع الحصان أن يتحرك بسرعة تكفي لقطع المسافة القصية ما بين قارتي أوروبا وأمريكا في بضع ساعات ، إضافة إلى أن البحر يفصل ما بين القارتين ، وليست السباحة من طبيعة الحصان.(9/73)
* ويمكن أن نسوق بالمقابل الفكرة التي تقول : ( إن جيشاً ما يمكن أن ينتصر على جيش آخر يفوقه في العتاد والعدد عشرة أضعاف ) فهذه الفكرة تبدو من الناحية النظرية مستحيلة ، لولا أن وقائع التاريخ أثبتت حدوث مثل هذا الانتصار الباهر ، بل لقد أكد القرآن الكريم إمكانية وقوع انتصار كهذا وتكراره في صورة سنة مطردة لا تتخلف ، ولكن بشروط الآية الكريمة : (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون )(الأنفال:65) .. مما يعني أن سنة انتصار الجيش على جيش أكبر منه وأقوى ممكنة التحقيق ، ولكن بعد توفير الشروط التي بينتها الآية الكريمة، وما لم تتحقق هذه الشروط فإن انتصار الجيش الضعيف يظل ضرباً من الخيال أو المستحيل .
ونلاحظ من خلال هذين المثالين اللذين سقناهما أن الفكرة ذاتها يمكن أن تبدو من الناحية النظرية واقعية أو مستحيلة ، إلى أن يجيء التنفيذ العملي الذي يقطع بواقعيتها أو باستحالتها .. مما يعني أن الجهد البشري يتطلب شروطاً ثلاثة لكي يكون جهداً ناجحاً ، وهذه الشروط هي :
(1) الفكرة ..
(2) توافق الفكرة مع سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ..
(3) اقتران ذلك بالعمل ..
وانطلاقاً من هذه المقدمة الموجزة ، نصل إلى تحديد معلم هام من معالم الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين .. هذه العقلية التي غدت طافحة بالأفكار النظرية المجردة ، ولكنها ما تزال - على الرغم من ذلك - عاجزة عن وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ الفعلي ، أو هي ما تزال مقصرة في تسخير هذه الأفكار بطريقة واقعية ، تجعلها على أكبر قدر من الفعالية .. في حين أن أصول هذه الأفكار نفسها قد نهضت في زمن من الأزمان بأمتنا العربية ، بل وبالجنس البشري كله نهضة تفوق الخيال !
وحين ندقق النظر في أوضاع المسلمين الراهنة ، ونستقرئ الوقائع التاريخية التي انتهت بهم إلى التخلف والانحطاط ، نجد أن هذه الأمة ترجع في جزء كبير منها إلى الغموض الذي يسود فكر كثير من المسلمين حول طبيعة السنن ، وعلاقتها بالجهد البشري .. فكثير من المسلمين اليوم لا يعيرون مفهوم السنن ما يستحقه من اهتمام ، وكثير منهم لا يدركون أصلاً مفهوم ( سنة الله في الخلق ) إدراكاً صحيحاً ، فنراهم يرفضون عن وعي ، أو غير وعي علاقة ارتباط النتائج بأسبابها ، لأنهم يظنون أن القول بارتباط النتائج بأسبابها ارتباطاً ضرورياً يعني الحتمية على الله عز وجل ، ومن ثم يعني تعطيل الإرادة الإلهية !
ومن هنا كانت الأزمة ، ونعني بها نسبة النتائج إلى غير أسبابها ، وترسيخ الاعتقاد ، بأن علينا أن نعمل وليس علينا أن ننظر في النتائج ، فكان من نتيجة هذا الاعتقاد تعطيل دور ( المحاسبة ) التي تعد العين الساهرة ، التي تميز بين الخطأ والصواب ، وترشد إلى طريقة التصحيح .
وأسارع إلى القول : بأن نظام السنن ، أو ارتباط العلة بالمعلول لا يعني أنه حتمية تسري على الخالق عز وجل ، بل يعني أن حكمته سبحانه اقتضت ارتباط هذه بتلك ارتباطاً ضرورياً ، لكي يتمكن الانسان من تسخير ما في الكون في شؤون حياته المختلفة ، لأنه من غير هذا الارتباط ، يتعذر عليه القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض .
ومما لا جدال فيه أن الحتمية في السنن لا يمكن (لا عقلاً ولا تصوراً) أن تسري على الخالق العظيم ، لأنه سبحانه هو الذي خلق الكون ، وخلق كل شيء فيه ، وقدر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته .. أي أنه سبحانه هو الذي قدر السنن على هذه الصورة البديعة المتناسقة ، وخلق أسبابها ، وقدر نتائجها ، وجعل العلاقة بين السبب والنتيجة قائمة وفق نظام مطرد ، قابل للتكرار والإعادة كلما توافرت شروطه ..
ولقد أظهر الله عز وجل من خلال تاريخ البشرية الطويل ، ومما جاء في كتابه العزيز ، وعلى لسان نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم أن خرق السنن ، والخروج بها عن مألوفها ، لا يكون أبداً إلا بمشيئة الله ، وأنه ليس في وسع أي مخلوق كان أن يتدخل في طبيعة هذه السنن ، فيغيرها ، أو يحرفها عن الطريقة التي قدرها الله عز وجل لها .
وحين ندرك -نحن المسلمين- إدراكاً عميقاً أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسنة لا تتبدل ولا تتحول ، ثم نحّول هذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله في الخلق .. فعندئذ نصبح - بعون الله - قادرين على تسخير الكون من حولنا ، وفق الطريقة القومية ، التي أمرنا بها رب العزة سبحانه .. وبهذا نأمل أن نخرج من أزمة تخلفنا ، التي عشنا عليها ردحاً طويلاً من الزمان ، والتي كانت في جانب كبير منها نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري ، وسنة الله في الخلق .. هذه الغفلة هي التي أوقعتنا في أغلال التواكل ، الذي شلنا عن الحركة الفاعلة المؤثرة في أحداث العالم!
وثمة ثمرة طيبة أخرى ، يمكن أن نجنيها من فهمنا الصحيح لعلاقة السنن بحياتنا ، ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هذا الوجود خاضع لسنة ، سوف يعيننا بإذن الله - على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والتشتت ، لأن كشف السنة التي تحكم أمراً من الأمور ، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة واقعية ، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف ، إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف .
كما نأمل أن يسهم فهمنا الصحيح للسنن، وتحكيم هذا الفهم بالتعامل مع الواقع في تخليص الصحوة الإسلامية المعاصرة من الاجتهادات المزاجية، التي انتشرت في صفوف بعض الجماعات ، التي لم تضع حتى الآن مفهوم السنن في حسابها ، ولم توجه بعض جهدها وفق معطيات هذه السنن ، فنراها تخرج من مأزق ، لتدخل في مأزق جديد .. وتستمر على هذه الحال قانعة بكل ما يترتب على أفعالها من نتائج ، وهي تظن أنها تحسن صنعاً! وكثيراً ما نسمع الآية الكريمة (قل إن الأمر كله لله )(آل عمران:154) تتردد بعد كل محنة، لتبدأ من جديد أحداث محنة جديدة! بينما كان بالإمكان فعل شيء أفضل من هذا لو أننا بعد الإخفاق وقفنا وقفة تأمل وتدبر ومحاسبة ، لنحدد موقع الخلل ، ونعرف السنة التي على نهجها يجب أن تضبط حركتنا .. فعندئذ يمكن أن نصل لما نريد بإذن الله ، وأن نحقق حلم الحضارة الإسلامية الذي عشنا عليه زمناً طويلاً .
من هنا كانت أهمية الحديث عن أزمتنا المعاصرة من زاوية علاقتها بالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، علماً بأن هذه الزاوية ليست إلا واحدة من زوايا عديدة جداً يمكن من خلالها النظر إلى هذه الأزمة .. فمما لا ريب فيه أن أزمتنا أزمة معقدة متشابكة الفروع ، لا يستطيع أي باحث أن يدعي الإحاطة بملابساتها جميعاً.
غير أن هذه الحقيقة -على فداحتها- لا تعني عصيان الأزمة عن الحل .. فمهما اشتد الظلام، وتلبدت الغيوم، سيبقى ثمة قمر منير .. وسيبقى ثمة أمل بالفرج.
=============
( سنة الله في الخلق ) دواعي اهتمامنا بسنة الله في الخلق
.. تنبع أهمية بحثنا في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه من حقيقة أولية ، وهي أن كشف السنن ومعرفة شروطها وخصائصها ، يجعل الأمور ، التي تخضع لهذه السنن في نطاق التسخير لنا نحن البشر .. أي إن معرفتنا بالسنن تجعلنا أقدر على تسخير الكون بما فيه من حولنا ، والاستفادة من ذلك في تصريف شؤون حياتنا ، فضلاً عن تحديد مسار سلوكنا وفق ضوابط تحدد المعالم والأهداف والسبل الموصلة إليها.(9/74)
ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أن تاريخ الإنسان فوق هذه الأرض قد بدأ منذ اللحظة التي اختار فيها حمل الأمانة، ورضي استخلاف الله له في الأرض ، وأهم ما يعنيه هذا الاستخلاف منح الإنسان (القدرة العقلية) لتكون مناط المسؤولية الدنيوية والأخروية ، وبها يتمكن من استكشاف العالم ، وتمييز السنن التي تتحكم في المخلوقات المختلفة .. ومنحه كذلك (القدرة المادية) التي تمكنه من تسخير هذه المخلوقات في شؤونه وحاجاته.
ولاشك في أنه لولا تمكين الله للإنسان في الأرض بمنحه هاتين القدرتين ، لظل عاطلاً عن الفعل الحضاري، ولظل -مثله مثل أي مخلوق آخر في هذا الوجود- غير قادر على تغيير شيء من حاله ، التي وجد عليها منذ لحظة خلقه ، ولما كانت حاله بأحسن من حال العصفور الذي خلقه الله قبل ملايين السنين ، ولكنه على الرغم من هذه السنين الطويلة لم يتمكن من صنع رغيف خبز!
بينما استطاع الإنسان بالمقابل أن يسخر العصفور لخدمته ، كما سخر بقية المخلوقات ، التي وقت تحت طائلة يده ، ومنها ما هو أقوى منه وأكثر عدداً .. كما سخر كل ما وصلت إليه يده ، وكثيراً مما لم تصل إليه يده .. وقد تم له ذلك خلال سنوات قليلة من تاريخه .
فهم السنن يفتح لنا آفاقاً جديدة :
ولعله من المناسب أن نذكر هنا قصة العبد الصالح (ذي القرنين) التي حكاها القرآن الكريم ، لكي ندرك كيف يمكن أن تذلل المعرفة بالسنن الصعوبات التي تعترض حياة الإنسان ، وتفتح له آفاقاً جديدة ، لم يكن يتوقع أن يصل إليها .. فقد استطاع ذو القرنين أن يفتح مشارق الأرض ومغاربها ، وأن يحقق في حقبة قصيرة من الزمان انتصارات عسكرية ، لم يحققها فاتح آخر في تاريخ البشرية .. فما هو السر يا ترى؟ وكيف استطاع أن يحقق مثل هذه الانتصارات الباهرة؟ لنستمع إلى القرآن الكريم يقدم لنا الجواب واضحاً جلياً: (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً ، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ، فأتبع سبباً )(الكهف: 83-85 ) . فالسر إذن يكمن فيما أعطاه الله له من علم بالأسباب ، كما جاء في التعبير القرآني البليغ ، أو علم بالسنن ، حسب التعبير الذي نستخدمه في هذا البحث ، وهذا العلم بالأسباب أو بالسنن ، هو الذي أمد ذا القرنين بتلك القدرات العظيمة ، التي استطاع بها تحقيق أهدافه البعيدة والقريبة..
ولنتأمل معاً قوله تعالى: (وآتيناه من كل شيء سبباً )(الكهف: 85 ) لندرك عظمة القدرة التسخيرية ، التي منحها الله له ، فاستطاع بها أن يفعل ما يريد ..
(عن حبيب بن عمار ، قال: كنت عند علي رضي الله عنه ، فسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال : سبحان الله ، سخر له السحاب ، وقدر له الأسباب ، وبسط له اليد).
* وهكذا بدل ذو القرنين وجه الأرض ، بما كشف الله له من سنن وسخرها له.
* وكم من سنة أثرت في حياة الإنسان تأثيراً عميقاً ، حين عرفها ، وهيأ الله له كيفية تسخيرها .. وما سيرة الطاقة الذرية عنا ببعيد ، فقد تمكن الإنسان خلال سنوات قليلة أن يسخر هذه الطاقة الهائلة في أغراض شتى ، بعد أن عرف السنن التي تتحكم فيها ، ولم يكن ممكناً له ذلك من قبل ، حين كان يجهل هذه السنن جهلاً تاماً.
ويمكن أن نشير هنا إلى سنن كثيرة أثرت في حياة البشرية ، ومنها مثلاً تلك السنة التي تنبه لها العالم الرياضي الشهير ( نيوتن ) والتي صاغها فيما عرف باسم ( قانون الفعل ورد الفعل ) فقد تمكن الإنسان - بعد أن يسر الله له الظروف والإمكانيات المواتية - أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة من أبرزها اختراع المحركات النفاثة ، التي ساهمت في تقدم صناعة الطائرات والصواريخ مساهمة أساسية، حتى أوصلت الإنسان إلى سطح القمر الذي ظل دهوراً طويلة يتغزل به عن بعد !
من عود الثقاب إلى أجواز الفضاء:
وثمة مثال آخر يستحق منا وقفة تأمل طويلة ، ونحن نتحدث عن دور الأخذ بالسنن في تقدم حياة البشرية .. ونأخذ هذا المثال من الحدث الذي ابتدأ به تاريخ الفضاء الأمريكي - ففي شهر آب ( أغسطس ) من عام 1932م أطلقت الجمعية الأمريكية للسياحة بين الكواكب صاروخها الأول ، ولم يكن طوله يزيد عن 15 سم، وقطر قاعدته 7.5 سم ، وكانت منصة الإطلاق مكونة من قائمين مصنوعين من خشب الصنوبر(!) وقد غطيتا بكمية وافرة من الصابون لتسهيل انطلاق الصاروخ إلى الأعلى (تأمل!) وقد وقف رئيس الجمعية (ديفيد لير) والمهندس (لورانس ماننغ) يراقبان عملية الإطلاق من خلف أكياس الرمل(!)
وتفادياً لمشكلات الإشعال فقد كلف أحد المهندسين المساعدين بإشعال الصاروخ بعود من الثقاب (!!) وبعد ثانيتين دار المحرك كما كان مقدراً له ، ولكن لم يلبث أن انفجر وطار إلى حيث وقع على بعد 170 م من منصة الإطلاق!
إنها -دون ريب- صورة غريبة عجيبة لا يكاد جيل اليوم أن يصدق أنها حدثت قبل خمسين عاما فقط، وأنها كانت هي البداية لعصر الفضاء ، الذي لا يفتأ يطلع علينا كل يوم بكشوفات جديدة لا تكاد تصدق.
ومن المؤكد أنه لم يكن يخطر ببال أحد ممن شاهدوا تلك التجربة أنه لن يمضي سوى سنوات قليلة حتى يتمكن الإنسان من إرسال أول قمر صناعي ، ليدور حول الأرض، ثم سنوات أخرى قليلة ليطأ بقدميه أرض القمر.
وإذا ما قارنا الآن تلك الصورة للصاروخ الأول ، مع الصورة الحالية التي عليها محطات الفضاء ، فإننا نجدها أشبه بفيلم كارتوني هزلي ضاحك !! فأين مثلاً ذلك الصاروخ الضئيل ، الذي لم يتجاوز طوله بضعة سنتيمترات ، من صواريخ اليوم ، التي تناطح بقاماتها السحاب؟ أضف إلى هذا أن عملية إطلاق الصواريخ اليوم تتم تحت إشراف أعداد كبيرة من الفنيين والخبراء والعلماء، يزيد عن عشرة آلاف، موزعين في محطات المراقبة والتوجيه المختلفة والموزعة في أرجاء عديدة من الولايات المتحدة ، وهؤلاء -بطبيعة الحال- لا يقومون بالمراقبة من خلف أكياس الرمل ، كما فعل أولئك الرواد الأوائل ، بل يقومون بالمراقبة عبر شاشات التلفزيون والرادار والكمبيوتر ، التي تعطي في نفس اللحظة جميع المعلومات المتعلقة بالصاروخ وبعملية الإطلاق .. وقد بلغت الصواريخ في أقل من نصف قرن درجة راقية من التطور ، فأصبحت قادرة على الوصول إلى أية بقعة من الأرض ، أو من كواكب مجموعتنا الشمسية المترامية الأبعاد ، بحيث يمكن مقارنة الدقة في توجيه الصواريخ ، وإيصالها لأهدافها بإصابة ذبابة تقف على رأس تمثال الحرية في نيويورك ، من بندقية قناص يقف على سطح الكرملين في موسكو!!
وهذه - بدون ريب - نقلة نوعية متميزة ، ما كان للعلماء أن يحرزوها لولا أنهم تعمقوا أكثر فأكثر في دراسة وفهم السنن المتعلقة بالطيران .. فإن هذا الفهم قد أمدهم بقدرات باهرة ، استطاعوا بها تحويل الخيال إلى واقع ، وجعل المستحيل ممكناً!
من الزهري إلى الأيدز .. رحلة أربعمائة عام نقطعها في عام واحد:(9/75)
والمعرفة بالسنن - إلى جانب ما ذكرناه - توفر لنا الوقت ، وتجعلنا أقدر على التحكم فيه ، وهذا ما يعجل مسيرة الحضارة ، ويدفعها للتسارع يوماً بعد يوم .. ولعل سيرة مرضى الزهري والأيدز خير شاهد على هذه الميزة التي يتيحها لنا فهمنا العميق للسنن الكونية .. فمن المعروف أن تاريخ الداء الجنسي المعروف باسم (الزهري) أو ( الأفرنجي ) قد ( بدأ في أوروبا حوالي عام 1493م في عهد الملك الفرنسي ( كارل الثامن ) الذي اشتهر بنزواته الطائشة .. فقد غزا هذا الملك الرعديد إيطاليا بموكب من الجنود المرتزقة ، يجر خلفه ذيلاً يضم أكثر من خمسمائة داعرة اصطحبن للمتعة والإيناس والليالي الحمراء .. وفي روما اجتمع هذا الملك ( الذي يعتقد أنه من أوائل الذين أصيبوا بالزهري ) مع رجل طائش مثله هو ( البابا اسكندر السادس ) الذي أصيب بالزهري كصاحبه ! وهناك فعل الاثنان الأفاعيل ، مع من كان معهما من الجنود والغانيات .. وعندما قفل الملك راجعاً من رحلته المشؤومة بعد أقل من عام واحد كان قد أهدى أوروبا كلها مرض الزهري وما يستوقفنا من هذه القصة المخزية أن الزهري استمر ما يزيد عن أربعمائة عام يفتك بالزناة والشاذين والمنحرفين ، يشوه أجسادهم ، ويزهق أرواحهم ، قبل أن يتمكن العلماء من معرفة الجرثومة التي تسببه ( اللولبية الشاحبة ) وقبل أن يتمكن العالم (فلمنغ) من اكتشاف عقار البنسلين ( 1928م ) القادر على قتل جرثومته !
واليوم .. نجد أن داءاً جنسياً آخر قد ظهر ليعيد إلى الأذهان قصة الزهري ، ولكن على وتيرة مختلفة .. ففي عام 1981م ظهر فجأة الداء الجنسي المعروف باسم الأيدز ( أو داء نقصان المناعة المكتسبة ) الذي انتشر كالوباء انتشاراً مفزعاً في أوساط الشاذين جنسياً بصورة خاصة ، وأوساط المدمنين على المخدرات ، ولاسيما منها التي تؤخذ عن طريق الحقن وكما كان الانحلال الأخلاقي وراء ظهور الأيدز وانتشاره ، إلا أن الفارق الجوهري ما بين سيرة الزهري وسيرة الأيدز أن العلماء في نحو عام واحد استطاعوا فضح أسرار الأيدز ، وعزل الفيروس المسبب له ، بينما استغرق تحقيق ذلك أربعة قرون في حال الزهري .. وحين نبحث عن السر في تحقيق هذا الإنجاز العلمي الرائع فإننا نجده يرجع إلى ما أصبح اليوم في حوزة العلماء من معرفة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، ومنها السنن المتعلقة بالمرض ، فإن هذه المعرفة هي التي مكنت العلماء من التعجيل بفك رموز الأيدز ، واختزال الزمن من أربعمائة عام إلى عام واحد .. وهذه دون ريب نقلة نوعية متميزة تستحق منا وقفة تأمل طويلة .
وفي الحقيقة فإن هذا المثال الذي سقناه من عالم الطب يعبر عن سمة أصبحت بارزة من سمات العصر الحاضر ، فقد أصبح العلماء اليوم - بفضل تعمقهم بفهم السنن الكونية - قادرين على كشف أسرار الاكتشافات الجديدة بصورة أسرع بكثير مما كان يجري في الماضي ، كما أتاح لهم فهمهم للسنن التعجيل في تحويل أفكارهم النظرية إلى تطبيقات عملية ( وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم فتبين لهم ما يلي :
* احتاج الإنسان إلى 112 سنة ( 1727 - 1839 م ) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبنى عليه التصوير الفوتوغرافي .
* واحتاج إلى 56 سنة ( 1820 - 1876 م ) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون .
* وإلى 35 سنة ( 1867 - 1902 م ) لظهور الاتصال اللاسلكي.
* وإلى 15 سنة ( 1925 - 1940 م ) للرادار.
* و12 سنة ( 1922 - 1945 م ) للتلفزيون.
* و6 سنوات ( 1939 - 1945 م ) للقنبلة الذرية.
* و5 سنوات ( 1948 - 1953 م ) للترانزستور.
* و3 سنوات ( 1959 - 1961 م ) لإنتاج الدوائر المتكاملة .
وهكذا يبدو جلياً أننا نقترب بخطى حثيثة من فهم العالم المحيط بنا ، وتسخيره بصورة أكثر فعالية ، وذلك نتيجة كشفنا للمزيد من السنن ، وتعمقنا أكثر فأكثر في فهم هذه السنن ، وهذا ما يزيد إيماننا بأهمية البحث في السنن ، خاصة وأن التعامل مع العالم المحيط بنا لا يمكن أن يتم على وجهه الصحيح إلا من خلال معرفتنا اليقينية بالسنن التي تتحكم فيه ، لأن تعاملنا مع هذا العالم بغير هذه المعرفة يعد ضرباً من العبث ، الذي لا يمكن أن يحقق لنا الأهداف ، التي نصبو إليها ..
سنة الله في الخلق بين القرآن والسيرة :
.. والملاحظ من خلال السياق القرآني كثرة الآيات التي تحض المؤمنين على السير في الأرض ، والتفكر في آيات الله المبثوثة في الوجود ، حتى يلتفت العقل إلى النظام البديع الذي يحكم الأشياء ، ويوجه الأحداث، فيستنبط من ذلك السنن ، التي تتحكم في حركة الحياة وتطورها ، ويعمل من ثم على تسخيرها في عمارة الأرض ، وبناء الحضارة الإنسانية المنشودة.
وقد خصص القرآن الكريم جانباً كبيراً من سوره لعرض قصص الأمم الغابرة ، ليلفت انتباهنا إلى ما آلت إليه تلك الأمم ، حين سلكت سبيلاً معيناً ، وليلفت الانتباه كذلك إلى أن المجتمعات البشرية محكومة بنوع من السنن ، التي تضبط حركتها وتطورها ، وتحدد مصيرها آخر الأمر.
وقد كان لهذا التركيز القرآني على أهمية النظر في الآيات ، أو السنن التي يخضع الكون لها أثر عميق في نشأة الحضارة الإسلامية ، ونموها واستمرارها ، وتميزها عن سائر الحضارات التي سبقتها .. فهؤلاء العرب الذين لم يكن لهم علم ، ولا معرفة بالسنن ، التي تتحكم في حياة الأفراد والمجتمعات ، جاء القرآن الكريم ، فقدم لهم تلخيصاً وافياً دقيقاً عن تلك السنن ، حتى إذا فهموها وأخذوا بها في حياتهم ، تغيرت نظرتهم للكون والحياة تغيراً جذرياً ، ولم يلبثوا أن أصبحوا أمة واحدة ، يشد بعضها بعضاً كالبنيان المرصوص .. كما اكتسبت الأمة الإسلامية - إلى جانب ذلك - قدرة باهرة على تسخير ما في أيديها (على قلة ما كان في أيديها) ، فاستطاعت بفضل الله أن تستفيد من ذلك في الانطلاق صوب (الآخرين) حاملة إليهم نور الهداية والرحمة ، حتى انتشرت راية التوحيد خفاقة في أرجاء المعمورة .. وقد تم هذا الفتح المبين في سنوات معدودات لا تعد شيئاً في عمر التاريخ !
* فما الذي تغير بعد ذلك حتى عاد المسلمون فانتكسوا ؟!
* وكيف حَطَّ التخلف رحاله في ديارهم ، بعد ذلك التاريخ المجيد ؟!
للإجابة عن هذين السؤالين ، لابد أن نعترف ابتداء ، بأن العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة المأساوية عديدة، لا يكاد يحصرها عد . ولكننا مع هذا يمكن أن نردها جميعاً إلى علة أولية ، تولدت عنها العلل اللاحقة جميعاً .. ونعني بها (الغفلة عن منهج الله عز وجل) ، وأهم ما تعنيه هذه الغفلة : تجاهل السنن الربانية ، التي تحكم حياة الأفراد والأمم ، وحياة كل شيء في هذا الوجود ، والجهل كذلك بأن أي اتصال فعال مع الحياة ، لا يمكن أن يتم على تمامه بغير الإيمان بهذه الحقيقة ، وفهم هذه السنن، وتسخيرها على الوجه الصحيح.
وإن من الظواهر التي باتت بارزة في حياتنا نحن المسلمين اليوم .. ضعف اهتمامنا بمسألة السير في الأرض ، والبحث والتنقيب عن السنن ، التي يمكن أن تعيننا في تصريف شؤونا المختلفة ، وتذلل أمامنا الصعاب ، وتيسر لنا أمر عمارة الأرض، وفق المنهج الذي يأمرنا إسلامنا بإقامته في واقع الحياة.(9/76)
ولعلنا لا نعدو الحقيقة حين نقرر أن مفهوم (السنة) نفسه قد فقد مكانته في مناهجنا الفكرية والعلمية، وراجت بيننا من ثم مقولة: ( إن على المؤمن في هذه الحياة أن يعمل ، ويخلص النية في عمله ، وليس عليه أن ينظر في النتائج بعد ذلك ، لأن النتائج قدر محتوم من الله عز وجل ، ولا يد للإنسان فيه).
أي أنه حدث في تصور كثير منا نوع من الفصل بين الأسباب والنتائج.. علماً بأن هذه النظرة القاصرة إلى المسألة ، تنفي عن الجهد البشري المسؤولية في صنع النتائج ، وتوهم الإنسان في الوقت نفسه ، بأن لديه نوعاً من الحصانة تجاه الأخطاء ، التي يرتكبها مادام قد فعلها عن نية صادقة !
بل إن مثل هذه النظرة لتجعل المرء يعتقد بتميزه عن بقية خلق الله ، مما يوقعه في الخطأ ، الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل ، حين قالوا : (نحن أبناء الله وأحباؤه )(المائدة: 18) فقد ادعوا لأنفسهم مكانة عند الله ليست لهم ، وحسبوا أنه سبحانه عفا عنهم عفواً أبدياً ، ظناً منهم بأن مجرد إيمانهم القلبي ، أو مجرد انتسابهم إلى دين سماوي ، سوف يشفع لهم عند بارئهم ، وهذه هي حال كثير من المسلمين اليوم ! والحق .. أن القضية ليست كذلك أبداً ، إذ لا استثناء لقوم دون قوم أمام شرعة الله أو سننه ، وهذا ما أشار إليه بوضوح تام حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين قال: (يا أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وأباكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) فالأصل الذي تقوم الأعمال على أساسه هو التقوى ، التي تعني : إخلاص النية ، والأخذ بالأسباب ، أو بالسنن ، التي جعلها الله أبواباً لا تتم الأعمال الصالحة إلا من خلالها .. فالصلاح في الأعمال لا يكون بمجرد الإخلاص في النية ، بل لابد للعمل أن يوافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، حتى يكون صالحاً بحق .. فإذا ما جمعنا إلى هذه الحقيقة حقيقة أخرى ، وهي غموض النظر - عند كثير من المسلمين - إلى مسألة السنن ، وعلاقتها بالجهد البشري ، فإننا نكون قد حددنا بعض معالم أزمتنا الحضارية الراهنة :
فمن جهة .. نجد التصور السائد اليوم بين كثير من المسلمين يقوم على الفصل ما بين الأعمال والنتائج ، ومن جهة أخرى نجد أن الأعمال نفسها تقوم على غير هدي من السنن .. علماً بأن فصل النتيجة عن العمل، أو فصل المسبب عن السبب يناقض الفكر الإسلامي الأصيل.
وقد تناول الإمام العلامة ابن القيّم الجوزية هذه القضية بشيء من التفصيل في كتابه الأشهر (زاد المعاد) عندما كان يبحث في الأحاديث النبوية التي تحض على التداوي من المرض ، فقال رحمة الله عليه : (..فقد تضمنت هذه الأحاديث الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافي دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب ، التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجز ينافي التوكل ، الذي حقيقته اعتماد القلب على الله ، في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً ) أ هـ .. صحيح أن النتائج قدر من قدر الله عز وجل ، إلا أن مشيئته سبحانه قد اقتضت ارتباط النتائج بأسبابها ، وهذا الارتباط أيضاً قدر من قدر الله عز وجل ، نجد مصداق هذا في قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى )(الأنفال:17 ) فقد أثبت الرمي له ، وهو السبب واحتفظ لنفسه سبحانه بالنتيجة ، لكي يلفت العقل البشري إلى طلاقة القدرة الإلهية ، لكن هذا لا يعني حصول النتيجة من غير رمي .. بل إن الرمي ، ونتيجة الرمي ، وارتباط النتيجة بالرمي .. كل أولئك قدر من قدر الله سبحانه.
وحين يستيقن العقل البشري هذه الحقيقة ، ويتعمق في فهم سنن الله في الخلق ، يصبح أقدر على فهم العالم ، الذي يعيش فيه ، كما يصبح أقدر على تسخير الكون في صالحه ، وإن من يراقب الأوضاع المختلفة في أرجاء العالم ، يدرك دونما عناء كبير ، السبب الحقيقي ، الذي جعل الدول المتطورة في مركز السيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى ، هذه السيطرة التي يظن معظمنا أنها ترجع إلى امتلاك تلك الدول قوى عسكرية ضاربة ، وموارد اقتصادية غنية .. وهو ظن مبني على فهم خاطئ للتاريخ والواقع، إذ كيف استطاعت تلك الدول أصلاً، أن تحصل على تلك القوى ، التي بين أيديها ؟ أبالقوة وحدها ، أم أن للعلم دوراً في هذه القضية؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً قبل قرنين من الزمان مجموعة من المستعمرات الإنجليزية المتناثرة؟ فأين هي اليوم؟ ألم تصبح إحدى أكبر قوتين في العالم؟
ومثال آخر .. ألم تخرج كل من اليابان وألمانيا من الحرب العالمية الثانية مطحونتين ، لا حول لهما ولا قوة ؟ فأين هما اليوم؟ ألم تصبحا في طليعة الدول القوية ، التي بات العالم كله يحسب حسابهما مع أنهما منزوعتا السلاح؟
فالسر إذن ليس في امتلاك القوة العسكرية ، أو الاقتصادية ، أو غيرهما، (مع إيماننا بضرورة العمل على امتلاك مثل هذه القوى)، وإنما يكمن السر ابتداء في القدرة على تسخير القوى المتاحة ، فعلينا أن نتصرف في حدود ما نملك فعلاً ، لا أن نحلم بما هو خارج عن أيدينا ، لأن مثل هذه الأحلام لا تثمر في النهاية إلاّ الحسرة والندامة!
وحين نتصرف فيما نملك وفق السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فإننا بهذا نستثمر الطاقات المتاحة على أحسن وجه ، وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد كانت سيرته العطرة حافلة بالشواهد الناصعة على أخذه بالأسباب ، وتجنيده للطاقات البشرية والمادية والمعنوية خير تجنيد ، مما كان له تأثير كبير في إغناء الجهاد النبوي ، الذي أثمر في غضون سنوات قليلة ، ما لم تثمر مثله محاولات بشرية أخرى ، استغرقت مئات السنين .(9/77)
ونريد هنا أن نقف عند شاهد واحد من تلك الشواهد في سيرته صلى الله عليه وسلم ، وهو حادث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة ، لنرى مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب .. ويرجع سبب اختيارنا للهجرة دون غيرها إلى أن أمر هجرته صلى الله عليه وسلم كان يتعلق به تعلقاً مباشراً ، وقد كان صلى الله عليه وسلم موقناً بنصر الله (إلا تنصروه فقد نصره الله )(المائدة: 40) . كما كان واثقاً من حماية الله له، (والله يعصمك من الناس )(المائدة: 67) . لكنه لم يركن إلى ذلك وحده ، بل بذل غاية جهده في تهيئة الأسباب ، التي رأى ضرورة تهيئتها لمثل تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر .. ولنستمع إلى السيدة عائشة رضي الله عنها ، تروي لنا التفاصيل .. قالت : ( كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ببيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، والخروج من مكة ، من بين ظهري قومه ، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها .. قالت : فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرج عني من عندك . فقال : يا رسول الله إنما هما ابنتاي ، وما ذاك فداك أبي وأمي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة .. قالت : فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : الصحبة .. قالت فوالله ما شعرت قط مثل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا . فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وكان مشركاً - يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما .. ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر . فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار ثور (جبل بأسفل مكة) فدخلاه .. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش فيه ، حين فقدوه ، مائة ناقة ، لمن يرده عليهم .. وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به ، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى ، فيخبرهما الخبر ، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي عليه .. حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الناس ، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما). فهل بعد هذا الحرص من حرص ؟
.. هذا مع التذكير بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أغنى الناس عن مثل هذا السلوك بما أنه مؤيد من الله عز وجل ، وموعود بالنصر والتمكين .. وهذا ما يدعونا لأن نكون حريصين كحرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالأسباب ، والسير في الأرض ، لكشف السنن التي بتسخيرها يمكن أن نحقق الأهداف التي نسعى إليها.
=============
سنة الله في الخلق ) تعريف وخصائص
لقد تناولنا فيما سبق مفهوم (سنن الله في الخلق) تناولاً عاماً مجملاً ، وبينا العلاقة ما بين دراسة هذه السنن وتسخير الكون المحيط بنا ، وقلنا : إننا من غير فهم هذه السنن ، ومعرفة شروطها ، وأحكامها ، لا نستطيع أن نسخرها على الوجه الصحيح .. وقد آن الأوان لكي نفصل الحديث في ماهية السنن ، فما الذي نعنيه بمصطلح (سنة الله في الخلق)؟
* بالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن لفظ (السنة) يعني الطريقة أو القاعدة .. وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده فهو الذي سنه.
السنة في الاصطلاح الشرعي: (كل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، وهي مصدر تؤخذ عنه الشرائع والعقائد متى ثبت إسنادها وصحت نسبتها).
* وأما ( سنة الله في الخلق : فإنها تعني حكم الله في خليقته ، وهذا ما بيناه في الفصول السابقة ، من أن الله عز وجل قد سن لكل أمر في هذا الوجود حكماً (أو قانوناً) لا يحيد عنه .. فالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، هي إذن : ( مجموعة القوانين التي سنها الله عز وجل لهذا الوجود ، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً ، على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها ) ، ويوضح هذا التعريف اختلاف معنى سنة الله في الخلق عن معنى السنة في اللغة ، وفي الاصطلاح الشرعي كذلك .. على الرغم من المعنى الجامع لها.
وتتصف السنن الربانية بثلاث خصائص مميزة هي : الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وهذه الخصائص تنطبق على جميع السنن التي بثها الله في هذا الوجود .. فما هي طبيعة هذه الخصائص؟ هذا ما سوف نفصل فيه فيما يلي:
1- الشمولية
.. عندما يعيش الإنسان في هذا الوجود بقلب سليم ، وعقل متفتح ، وبصيرة نافذة ، فإنه يجد في حياته على هذه الشاكلة سعادة غامرة ، لا يعرف حلاوتها البشر ، الذين عطلوا حواسهم عن رؤية ما في الكون من تكامل يدل على الإعجاز في الخلق ، كما يدل على قدرة الخالق !
وإن من يتأمل هذه الخلائق المبثوثة في الكون من حوله ، يجد أنها جميعاً ترتبط بمنهج موحد من السنن الربانية ، التي تقرب بعضها إلى بعض ، فتجعل منها عالماً أنيساً متكاملاً ، يسوده الانسجام والاستقرار والتوازن .. والأدلة على هذه الحقيقة الباهرة لا يكاد يحصرها عد ..
دليل من علم الفيزياء:
.. فمن عالم الذرة المتناهية في الصغر ، إلى عالم المجرة المتناهية في الكبر ، نجد أن السنن التي تحكم هنا، هي نفسها التي تحكم هناك ، فلا فرق ما بين صغير وكبير أمام السنن الربانية الشاملة ، التي تحكم الكون كله ..(9/78)
وليس هذا الكلام خيالاً ، ولا شطحات فيما وراء المعقول ، كما يحلو لبعض الناس أن يصفوا كل حقيقة كونية تثبت وجود خالق لهذا الوجود ، فالعلم نفسه يصوغ الحقائق صياغة علمية دقيقة ، بالمعادلات والأرقام التي لا يسع أي عاقل إلا الوقوف عندها خاشعاً لله ، لما تدل عليه من عظمة في الخلق وإتقان في الصنعة .. فمن المعلوم أن التفاعلات أو الظواهر التي تسود الكون أربع ، هي : الكهربائية ، والمغناطيسية ، والنووية ، والجاذبية .. وقد ظل العلماء زمناً طويلاً يظنون أن هذه الظواهر متميزة بعضها عن بعض ، وأنه لا علاقة بينها البتة .. وظل الأمر كذلك حتى عهد قريب ، حين أثبتت النظريات الجديدة ، والتجارب التي تمت بناء عليها ، أن هذه الظواهر التي تبدو متباينة ، يمكن توحيدها أو إرجاعها إلى ظاهرة واحدة ، وقد بدأت مسيرة التوحيد هذه مع الإنجليزي اسحق نيوتن ( 1642 - 1727م ) ، الذي وحد بين ظاهرتي الجاذبية الأرضية ، والجاذبية بين الأجرام السماوية ، وصاغ قانون الجاذبية العام ، ثم تابعت عملية التوحيد مسيرتها مع الاسكوتلاندي جيمس ماكسويل ( 1831 - 1879م ) الذي وحد بين ظاهرتي الكهرباء والمغناطيس ، في ظاهرة واحدة ، هي الحقل الكهرومغناطيسي ، وصاغ لها المعادلات الشهيرة التي مازالت تحمل اسمه .. وفي بداية القرن الحالي جرى تعميم نظرية ماكسويل في نظرية الإلكتروديناميك الكوانتية ( 1927م ) ، ومؤخراً في سبعينيات هذا القرن نجح العلماء ومنهم الفيزيائي الباكستاني ( عبد السلام ) في التوحيد ما بين التفاعلات الكهرومغناطيسية ، والتفاعلات النووية الضعيفة ، في نظرية واحدة أطلق عليها اسم ( كهروضعيفة ) وعلى أثر اكتشاف هذه النظرية ازداد أمل العلماء في إمكانية جمع ظاهرة التفاعلات النووية القوية إلى الشكلين المذكورين اللذين تم توحيدهما ، وأطلق اسم ( نظرية التوحيد الكبير ) على النظرية المرشحة للقيام بذلك ، ويفترض في هذه النظرية أن تعبر عن نوع من التناظر في البنية الهندسية للمادة في أعمق أعماقها .. وعندما يكون هذا التناظر قائماً فهو يحتم وجود ظاهرة واحدة ، أو حقل كهرنووي واحد ، يجمع التفاعلات الثلاثة في تفاعل واحد .. ) ويبدو واضحاً من خلال هذه الوقائع التي انتهى العلماء إليها حتى الآن أن العالم المادي يشكل معاً وحدة متكاملة ، ويخضع لمنهج واحد ، وتحكمه سنن شاملة يكمل بعضها بعضاً .
دليل من علم الأجنة:
لقد كان دليلنا السابق من عالم المادة ، التي نصفها عادة بالجمود .. ونختار الآن مثالاً آخر من عالم الحياة، عالم المخلوقات الحية ، التي تتصف بالنشاط ، والحركة ، والتكاثر ، والنمو ، والتبدل المستمر .
ونورد مثالنا من علم الأجنة ، الذي أصبحنا نعرف عنه الكثير من المعلومات والحقائق اليقينية .. ويكفينا دليلاً من علم الأجنة أن نتتبع مراحل تخلقها ونموها لنرى النظام الذي تسير وفقه ، سواء أكانت هذه الأجنة أجنة بشر ، أو أجنة حيوانات مثل السمك والضفدع والطير والفيل .
إن تكوين هذه الأجنة على اختلافها يبدأ من التقاء نطفة الذكر ببيضة الأنثى ، ومن خلال عرس اللقاء هذا تتشكل خلية واحدة ، هي العروس الملقحة التي لا تلبث أن تبدأ بالانقسام والتكاثر ، على خليتين ، ثم أربع ، ثم ثمان ، ثم ست عشرة .. وفي مرحلة لاحقة يبدأ تخصيص كل مجموعة من الخلايا المتكاثرة ، لتشكيل عضو من أعضاء المخلوق الجديد إلى أن يكتمل نموه ، ويبلغ غاية خلقه ، ويخرج إلى الحياة مخلوقاً كاملاً سوياً .. ومما لا ريب فيه أن هذا الأسلوب الموحد في تخلق الأجنة المختلفة يوحي أنها جميعاً تخضع لمنهج واحد من السنن الشاملة .. كما يدل هذا الأمر على أن سنن الحياة لا تسود عالم الإنسان وحده ، بل تسود عالم المخلوقات الحية كلها .
دليل من علم الخلية:
.. وإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى الخلية ، فإننا نجد المخلوقات الحية كلها دون استثناء ، تتكون من وحدات أساسية تدعى كل منها ( خلية ) وهذه الوحدات متشابهة في التركيب ، سواء أكانت الخلية بشرية أو حيوانية أو نباتية .. فكل خلية تتركب من مادة صبغية وراثية تتجمع في النواة ، وتحمل صفات المخلوق ، وتنقلها بالتزاوج والتكاثر من جيل إلى جيل في النوع نفسه.
وتحيط بالنواة مادة هيولية تتم فيها النشاطات الحيوية المختلفة .. ويحيط بالمادة الهيولية هذه غلاف ، أو غشاء يحدد الخلية ، ويعطيها شكلها الذي يميزها عن غيرها من الخلايا.
وهذا الأسلوب في تكوين الخلايا يسود أنواع المخلوقات الحية كلها ، حتى المجهرية منها كالطفيليات والجراثيم .. مما يدل دلالة واضحة على أن تكوين المخلوقات الحية ينتظم وفق سنن شاملة محكمة كذلك .
دليل من علم (الأحياء):
.. ولعلنا نتبين طرفاً من التكامل في الخلق ، حين ننظر نظرة شاملة إلى عالم المخلوقات الحية ، التي تعيش فوق هذه الأرض ، إذ تظهر لنا النظرة المدققة إلى حياة النبات من جهة ، وحياة الإنسان والحيوان من جهة أخرى أن هذه المخلوقات جميعاً تتعاون في حياتها ضمن حلقة واحدة متكاملة :
فوظيفة النبات هي ( الإرجاع والتركيب ) ، إذ يأخذ التراب والهواء والماء فيركب منها الثمار ، ليقدمها يافعة للإنسان والحيوان ، لكي يبنيا منها أجسامهما .. إلى جانب ما يقوم به النبات من علم بالغ الأهمية في تنقية جو الأرض من غاز ثاني أكسيد الكربون ، الذي ينتج عن تنفس الإنسان والحيوان فينزع منه الأكسجين ويعيده إلى جو الأرض ، خلال عملية التمثيل الضوئي ، لكي يقوم الإنسان والحيوان باستخدام هذه الأكسجين من جديد .
وأما وظيفة الإنسان والحيوان فهي ( الأكسدة والتقويض ) أي هي نقيض وظيفة النبات ، إذ يأخذ الإنسان والحيوان غذاءهما من عالم النبات فيهضمانه ليبنيا منه خلاياهما وأعضاءهما ، وليستمدا منه الطاقة اللازمة للحركة والنمو والتكاثر .. ثم يطرحان ما لا يهضمانه إلى التراب والهواء ، ليبدأ دور النبات من جديد .
وبهذا تكتمل دورة الحياة ، وتتعاون هذه المخلوقات معاً ضمن حلقة متكاملة من السنن .
دلائل من علم النفس وعلم الاجتماع:
.. وندرك من خلال الأمثلة التي سبقت أن العالم المادي ( الحي وغير الحي ) محكوم بمجموعة من السنن التي توجه مساره ، وتحدد وجهة تطوره .. فماذا عن النفس البشرية والحياة الاجتماعية .. هل يخضعان كذلك لسنن مخصوصة ؟
والجواب الذي نقطع به دون تردد هو : أجل .. فإن سنن الله عز وجل لا تحكم العالم المادي وحده ، بل هي تحكم ما في هذا الوجود من خلائق ، سواء أكانت مادية كالذرة ، والكهرباء ، والحرارة ، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية ، والسلوك الاجتماعي .. وهذا ما تأكده آيات كثيرة من القرآن الكريم ، من مثل قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون )(آل عمران: 83) .. فالكل خاضع لله .. خاضع لسننه التي فطر الخلق عليها ..
وكما أن الماء يطفئ النار ..
وكما أن المعدن يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة ..
وكما أن رمي الحجر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض ..
وكما أن التقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين ..
وهذه كلها سنن مادية مشاهدة مدركة .. فكذلك السنن التي تحكم النفس البشرية والحياة الاجتماعية ، فهي سنن تقوم على مقدمات ونتائج ، وترتبط نتائجها بمقدماتها ارتباطاً وثيقاً مقدراً من الله عز وجل .(9/79)
ويقدم لنا الواقع المشاهد أدلة عديدة تثبت هذه الحقيقة .. فنحن نشاهد مثلاً أن الحسد (وهو انفعال نفسي محض) يؤدي إلى نتائج مدركة تظهر بوضوح من خلال سلوك الحسود وتصرفاته ، كما تظهر فيما يعانيه الحسود من ضيق وتبرم بالحياة ، وقلق يقض مضجعه ، وينغص عليه عيشته.
ويجمع علماء النفس من خلال ما حصلوه من معلومات وخبرات عن طبيعة النفس البشرية ، بأن هذه النفس محكومة بسنن صارمة ، تقرر حالها ، من حيث الصحة والمرض ، والسعادة والشقاء ، كما يجمعون على أن الوضع النفسي للفرد يتوقف بصورة مؤكدة على عوامل عديدة ، كالثقافة والظروف البيئية والاجتماعية والسياسية .. وعوامل أخرى بات كثير منها معروفاً اليوم للباحثين في ميدان علم النفس ، بحيث أصبح هؤلاء الباحثون قادرين على علاج كثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية بناء على هذه المعرفة . ويثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة دون لبس ، ويبين بوضوح تام ، أن حال الإنسان من حيث السعادة والشقاء مثلاً مرهونة بنظرته إلى الحياة ، وبموقفه من هذه الحياة .. ففي سورة الشمس ، يخبرنا الله عز وجل بأن صلاح الإنسان مرهون بتزكيته نفسه ، وأن شقاءه بالمقابل ، مرهون بتدسية هذه النفس .. قال تعالى: (ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها )(الشمس: 7-10).
فهذه سنة نفسية تصدق على أي إنسان ، فأيما إنسان صدق العزم ، وأخلص النية ، وزكا نفسه ، فنأى بها عن المحرمات ، وعن الخبائث ، فإن الفلاح سيكون من نصيبه ، وأيما إنسان دنس نفسه بالحرام ، ورضي بالخبائث فإن الخسارة نازلة به لا محالة.
ولقد قدم لنا القرآن الكريم السنة التي تحكم سعادة الإنسان وشقاءه بصورة معادلة رياضية لا تقبل الجدل ، وذلك في قوله سبحانه: ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً )(طه:123-124) فالسعادة والشقاء - كما يقرر الحق تبارك وتعالى - رهن بالتزام شرع الله ، أو النأي عنه ورفضه ، وهذه سنة ربانية تحكم حياة البشر ، وستظل تحكمها إلى يوم القيامة.
ولو تتبعنا الآيات القرآنية ، لوجدناها تعرض لنا الدليل تلو الدليل على أن النفس البشرية خاضعة لسنن صارمة ، لا تقبل التبديل ولا التحويل.
فإذا ما انتقلنا بعد ذلك من نطاق النفس البشرية ، إلى نطاق المجتمع ، فإننا سنجده أيضاً محكوماً بسنن ربانية صارمة شأنه شأن النفس .. ولا عجب في هذا فإن المجتمع في الحقيقة ليس إلا مجموعة من الأفراد .. وأن حال المجتمع يعكس سلوك هؤلاء الأفراد أنفسهم ، ومن ثم فإن مصير المجتمع بأسره مرهون بسلوك أفراده .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11 )، وقوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الأنفال: 53 )، وقوله كذلك: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )(الأنفال: 25 ) ، وفي هذا دليل على أن سلوك الناس ، الذين يشكلون مجتمعاً ما ، يعد بمثابة مقدمة لنفاذ السنة المرتبطة بهذا السلوك .. وبمعنى آخر فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً . بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته.
وقد حدثنا القرآن الكريم عن حياة مجتمعات مختلفة ، منها من عاش حياة رغيدة آمنة ، ومنها من ذاق لباس الخوف والجوع ، ومنها من باد وهلك بعذاب أليم ، وتأتي هذه اللمحات القرآنية لتلفت انتباهنا إلى وجود سنن ربانية تحكم حياة المجتمعات البشرية قاطبة ، وتقرر مصيرها .. وقد كان البيان القرآني واضحاً ، حين قرر أن رقي المجتمعات أو انحطاطها مرهونان بالتزام شريعة الله ، أو النأي عنها ، ففي باب الرقي وبسط النعمة ، نجد قوله تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف:96 ).
وفي باب الانحطاط يخبرنا القرآن الكريم مثلاً عما آلت إليه حال النصارى ، عندما انحرفوا عن خط التوحيد ، فكان جزاؤهم أن انتشرت بينهم نار العداوة والبغضاء: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )(المائدة: 14)، فلما انحرفوا عن خط التوحيد أشد من ذلك حقت عليهم سنة ربانية أخرى ، وكان الهلاك مصيرهم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء )(الأنعام: 44).
* وهذه كلها سنن ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.
وإلى جانب القرآن الكريم نجد عدداً غير قليل من الأحاديث النبوية ، التي بينت الكثير من السنن النفسية والاجتماعية .. ولنستمع مثلاً لهذا الحديث النبوي الجامع الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع ، التي لم تكن في أسلافهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم ، إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله ، إلا سلط عليهم عدو من غيرهم ، فيأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم ) فهذه كلها سنن اجتماعية لا تتخلف نتائجها عن أسبابها ، فهي كالمعادلة الرياضية ، التي ترتبط فيها النتيجة بالمقدمة ارتباطاً محكماً لا يقبل التبديل .
اعتراض:
يبدي بعض الباحثين تحفظهم تجاه شمولية السنن ، لأنهم يظنون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة ، يمكن أن تصاغ صياغة رياضية دقيقة ، بينما لا تخضع النفس البشرية ولا الحياة الاجتماعية ، لمثل هذه الصرامة ، ويظنون فوق هذا أن التغيرات النفسية والاجتماعية تتم في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب !
وقد عمق هذا الظن ما حدث من فارق كبير بين تقدم العلوم الرياضية والمادية من جهة ، وبين تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى .. فقد قطعت العلوم المادية عموماً شوطاً بعيد المدى ، وقدمت إنجازات علمية هائلة ، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال .. وأما علوم النفس والاجتماع فمازالت عند البدايات الأولى ، لأنها لم تعط الأهمية ذاتها ، ولهذا ظل معظمها عاجزاً عن تفسير سلوك الإنسان تفسيراً صحيحاً دقيقاً ، وظلت هذه العلوم جاهلة بمعظم السنن ، التي تتحكم بسلوك الفرد والمجتمع ، مما جعل هذه العلوم متخلفة بمراحل واسعة عن علوم المادة ، لكن هذا لا يعني أن النفس والمجتمع لا يخضعان للسنن كما تخضع المادة ، بل معناه أن الإنسان نفسه مازال مقصراً في كشف سنن النفس والمجتمع ..
والظاهر أن الالتباس في مسألة السنن النفسية والاجتماعية ، وعدم اعتبارها صارمة كالسنن المادية الأخرى ، يرجع إلى أن المادة يمكن أن تخضع للتجربة المباشرة في المختبر بسهولة ويسر ، بحيث يمكن استنباط النتائج النهائية منها خلال زمن قصير ، بينما يتعذر ذلك من التجارب النفسية والاجتماعية ، لأن إخضاع النفس والمجتمع للتجربة ليس بالسهولة نفسه ، كما أن التجربة النفسية والاجتماعية تتطلب فترة رصد طويلة ، وربما استغرقت أجيالاً عديدة.
هذا إلى جانب ما قد تمر به الظاهرة الاجتماعية من صعوبات أو نكبات خلال مسيرتها الطويلة ، مما يؤدي إلى انحرافها وتغيير معطياتها ، ومن ثم يلتبس على من يدرسها أمر الصرامة في السنن التي تخضع لها.(9/80)
وربما كان هذا هو السبب في تركيز الآيات الكريمة على دعوة المؤمنين للسير في الأرض ، والنظر في تاريخ الأمم الغابرة لاستنباط الدروس والعبر (أو السنن) من خلاله ، على أساس أن التاريخ يمثل تجارب اجتماعية ونفسية واقعية ، عرفت بداياتها وتطوراتها ونهاياتها ، كما عرفت سائر الملابسات التاريخية التي أحاطت بها .. ومن ذلك قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران: 137) وكثير من مثل هذه الآيات التي سيرد التفصيل فيها لاحقاً بإذن الله .. ومما لا ريب فيه أن الاعتبار بقصص الأمم الغابرة يغدو بلا فائدة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات سنناً ثابتة مطردة ، يمكن أن تتكرر كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.
ملاحظة أخيرة:
وتبقى ملاحظة هامة لابد من الوقوف عندها ، ونحن في معرض الحديث عن سنن النفس والمجتمع ، وهي أن الحقيقة التي انتهينا إليها من ( أن النفس والمجتمع يخضعان لسنن صارمة لا تختلف عن تلك السنن التي تخضع لها المادة ) لا تعني أن النتائج التي انتهت إليها البحوث الاجتماعية والنفسية ، التي بين أيدينا اليوم هي نتائج صحيحة مائة بالمائة ، ولا أن القواعد الاجتماعية والنفسية التي توصل إليها بعض الباحثين صحيحة مائة بالمائة كذلك.. فما توصل إليه البشر من اكتشافات في هذا المجال أو ذاك قد يصيب أو يخطئ بمقدار ما يقترب من الحقيقة أو يبتعد عنها ، وقد حدث مثل هذا مراراً ، حتى بالنسبة للعلوم الرياضية ، التي يحسب معظمنا أنه لا يأتيها الباطل أبداً .. فكم من نظرية رياضية ظلت محل قداسة وتقدير دهوراً طويلة ، ثم نقضت من أساسها ، وظهر بطلانها .. وهكذا علم الاجتماع وعلم النفس ، وغيرهما من العلوم الإنسانية ، فهذه العلوم المختلفة تعد اكتشافات بشرية قد تصيب وقد تخطئ ، وهذا الأمر يختلف عما نريد إثباته هنا ، وهو أن النفس البشرية والمجتمع البشري كليهما يخضعان لسنن ربانية صارمة ، كما تخضع المادة ، سواء بسواء .
ويجمع الباحثون في العلوم الإنسانية ، بما فيهم الباحثون الاجتماعيون والنفسيون ، على أن علمي الاجتماع والنفس بوضعهما الحالي لا يعبران تعبيراً موثوقاً عن طبيعة السنن النفسية والاجتماعية ، أو بمعنى آخر فإن هذين العلمين ما يزالان قاصرين عن معرفة هذه السنن معرفة يقينية دقيقة .. ويمكن إرجاع أزمة هذين العلمين إلى عدة عوامل ، نذكر منها :
(1) أن الاهتمام بالدراسات النفسية والاجتماعية - على مدار التاريخ - كان أقل بكثير من الاهتمام بالدراسات المادية الأخرى ، مما جعل علم النفس وعلم الاجتماع متخلفين بمراحل عديدة عن العلوم المادية التي تطورت تطوراً مذهلاً ، وبخاصة في العصر الحديث ..
(2) أن الظواهر الاجتماعية والنفسية شديدة التعقيد ، كما قدمنا .
(3) أن العامل البشري كثيراً ما يتدخل في تفسير الظاهرة الاجتماعية أو النفسية ، فينأى بها عن الموضوعية .
(4) أن المنهج السائد اليوم في البحوث النفسية والاجتماعية يحتاج إلى إعادة نظر وتقويم ، لأن معظم الباحثين مازالوا يؤسسون معتقداتهم على أساس من التجارب التي تجري على الحيوان ، ثم يعممون هذه النتائج على عالم البشر ، وفي هذا خلط عجيب ، لأنه يفترض أن السنن الخاصة بعالم الحيوان هي ذات السنن السائدة في عالم الإنسان ن بينما هما عالمان مختلفان اختلافاً جذرياً ، فهما وإن اتفقا في بعض الصفات الحيوية من حيث الشكل ، أو التركيب ، أو الوظائف ، إلا أنهما يختلفان من حيث التكوين النفسي والعقلي .. وهذا ما يجعل تعميم التجارب الحيوانية على الإنسان خطأ فاحشاً ، يؤدي بالضرورة إلى أحكام بعيدة غاية البعد عن الحقيقة .
ولا نريد أن نستطرد أكثر في تفنيد مشكلات علمي النفس والاجتماع ، إلا أننا نريد التأكيد هنا على نقطة أساسية ، وهي أننا إذا ما توصلنا يوماً ما إلى معرفة سنة اجتماعية أو نفسية معرفة يقينية ، فإننا سنجد أنها لا تختلف عن أية سنة مادية أخرى من حيث شمولها وصرامتها ، وسوف نجد كذلك أننا نستطيع صياغة هذه السنة الاجتماعية ، أو النفسية ، صياغة رياضية ، كما نصوغ أية معادلة رياضية صحيحة .
.. وهكذا يبدو لنا جلياً أن كل ما في هذا الكون من جماد وحيوان ونبات يخضع لسنن ربانية محكمة .. وأنه لا شيء في هذا الوجود خارج عن سنة الله .. بل الكل خاضع له سبحانه .. وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الباهرة في محكم تنزيله فيقول: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال )(الرعد: 15).
خصوصية السنن:
هذا ، ولكل سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه خصوصيتها المتفردة ، ونعني بها أن السنة التي يتم بها أمر من الأمور هي واحدة لا تقبل التعدد ، فكل سبب يولد النتيجة المقدرة له وحده ، ولا تنفصل النتائج عن أسبابها ، وكل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق كذلك في الأسباب والنتائج ، أي يلزم أن يكون لها سنة مخصوصة تتحكم فيها ، ومثال هذا ما ذكرناه من خضوع العناصر الكيميائية المختلفة للسنة ، أو القانون ، الذي اكتشفه العالم (دالتن) فهذا القانون هو الذي يحكم تفاعل العناصر الكيميائية بعضها مع بعض ، إذ لا يتحد عنصر مع عنصر آخر إلاّ وفق نسبة محددة ، وما لم يتوافر العنصران بالنسبة المطلوبة فإنهما لا يتحدان معاً ، ولا نحصل منهما على المركب الذي نريد .. وكذلك هو كل أمر في هذا الوجود ، فكل أمر خاضع لسنة محددة لا يتم إلا بها ، ولا يمكن أن يتم بغيرها من السنن .. فتركيب الماء بمواصفاته المعروفة ، والذي رأينا في مثال سابق أنه يتم من اتحاد الهيدروجين والأكسجين ، لا يمكن أبداً أن يتم من اتحاد الأكسجين بالهيليوم مثلاً ، مع العلم بأن الهيليوم هو أقرب العناصر الكيميائية إلى الهيدروجين من حيث البنية الذرية .
ويمكن أن نسوق أمثلة عديدة على أن سنة مخصوصة ، لا تتم إلا من خلال شروط مخصوصة وعلى أن كل أمر في هذا الوجود يخضع لسنة مخصوصة كذلك .. وهذه الحقيقة يجب أن تظل ماثلة في أذهاننا كلما أردنا أن نحقق هدفاً من الأهداف ، أو القيام بعمل من الأعمال فإن الخطوة الأولى في سبيل ذلك ، هي أن نتبين السنة الخاصة بهذا العمل أو ذاك الهدف ، لأن القيام بأي عمل دون معرفة بالسنة التي يخضع لها ، يعد ضرباً من العبث ، وإهداراً للطاقة .
ويمكن أن نشبه السنة بالخط المستقيم .. فمن المعروف أن الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين ثابتتين ، فلو كان لدينا مثلاً النقطتان أ ، ب فإننا لا يمكن أن نصل بينهما إلا بخط مستقيم واحد هو أ ب :
أ x _________________ x ب(9/81)
وأما بقية الخطوط التي تمر بها هاتين النقطتين ، فإن كانت مستقيمة انطبقت على الخط الأول ، وكانت مستقيمة مثله ، أو كانت هي هو ، لأنها جميعاً تحقق صفة الاستقامة ، وأما إن كانت الخطوط متعرجة فإنها تكون قد خرجت عن الاستقامة ، ولم تعد تحقق الصفة المطلوبة .. وهكذا هي سنن الله في الخلق ، فكل سنة تتعلق بسبب ونتيجة ، كما يتعلق الخط المستقيم بالنقطتين ( أ ، ب ) وكما أنه لا يوجد سوى خط مستقيم واحد يصل ما بين هاتين النقطتين ، فكذلك لا توجد سوى سنة واحدة تتعلق بسبب مخصوص وبنتيجة مخصوصة . وهذه الحقيقة تقدم لنا منطلقاً هاماً جداً للنظر إلى مشكلاتنا ، فمادام أن لكل أمر سنة مخصوصة لا يتم إلا من خلالها ، فإن هذا يعني ضرورة الاجتهاد في إصابة السنة ، التي تحكم كل قضية من القضايا ، التي تعترضنا ، لأن إصابة السنة هذه تحل لنا القضية من أساسها ، وتغلق من ثم باب الاختلاف والنزاع .. وهذا ما سوف نفصل فيه - بإذن الله - عند الحديث عن علاقة السنن بالاجتهاد في الشريعة الإسلامية .
2- الثبات :
وثبات السنة يعني أنها لا تتبدل ولا تتحول ، مصداقا لقوله تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )(فاطر 43) .
* والتبديل ( لغة ) : التغيير ، قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية )(النحل: 151) ، وقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة )(الأعراف 95) .
* وأما التحويل ( لغة ) فهو التحول من حال إلى حال ، يقال : تحولت القوس ، أي صارت معوجة بعد استقامة ، ويقال ، حوله : أي نقله من موضع إلى آخر .
فهذان الأمران ( التبديل والتحويل ) لا يطرأن أبداً على ما بث الله من سنن في هذا الوجود، فإن سنن الله باقية على حالها ، منذ خلق الله السموات والأرض ، وهي مستمرة على هذه الحال من الثبات إلى أن يشاء الله .. وفي هذا ما فيه من دلائل بالغة ، توحي برحمة الله عز وجل بالعباد .. فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها ، ولما كان استخلاف البشر في الأرض ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يستخلفوا في عالم هلامي لا يثبت على حال ؟ ، وكيف يمكن أن يسخروا مثل هذا العالم الذي لا يحكمه قانون ، ولا تضبطه سنة ؟
ومن جهة ثانية .. لو لم تكن سنة الله ثابتة على هذه الحال ، لما كان في هذا الوجود توازن ولا استقرار ، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق كله .. وهذا ما يتنافى مع الواقع المشهود ، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار، كما قال تعالى في وصفه: (وكل أمر مستقر )(القمر: 3).
ولكن .. ما الذي نعنيه بثبات السنن؟
إننا حين نصف السنن بالثبات ، فإننا نعني بذلك ارتباط الأسباب بالمسببات ، أو ارتباط العلة بالمعلول ، ارتباطاً ضرورياً لا ينفصم ، إلا أن يشاء الله .. فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه ، أن يكون له في كل حادثة سبب يؤدي إليها ، وأن يكون وراء كل معلول علة يرتبط بها .. وهذا ما يعطي السنن صفة الثبات ..
ومما لا ريب فيه أن الكون لو لم يكن خاضعاً لسنن ثابتة ، لا تتبدل ، ولا تتحول ، ولو كانت الأحداث فيه تجري مصادفة بلا ضابط يضبطها كما يدعي الملحدون.. لما كان ثمة ضرورة إذن لوجود تماثل بين ذرات العنصر الكيميائي الواحد مثلاً ، ولما كان من الضروري أن تشترك جميع ذرات هذا العنصر بصفات معينة، تميزها عن غيرها من ذرات العناصر الأخرى، ولكانت ذرات العناصر المختلفة في تبدل مستمر، وعندئذ يكون من الجائز أن تحدث الظاهرة في بعض ذرات العنصر الكيميائي ، ولا تحدث في غيرها من ذرات العنصر نفسه. لا لشيء إلا للمصادفة! وهذا ما لا يقبله منطق العقل ولا تؤيده الوقائع الملموسة والمشاهدة ، والتي تثبت كلها التقدير والتدبير في أمر الخلق كله ، ونفي العبث عنه ، وتوحي بالثبات في السنن ، التي تحكم كل شيء فيه .. وهنا .. قد يتبادر إلى الذهن سؤال : هل ثبات السنن ماض إلى مالا نهاية؟ أم أن له أجلاً معلوماً؟
ونقول: إن الثبات في سنن الله ليس ثباتاً أبدياً لا نهاية له ، بل هو ثبات موقوت، والظاهر من نصوص قرآنية عديدة أن نهايته تتزامن مع انتهاء مهمة الإنسان فوق هذه الأرض ، فيوم تنتهي هذه المهمة ، ينتهي أجل السنن ، التي تسود اليوم عالمنا ، ليبدأ عمل سنن أخرى قدرها الله للحياة الآخرة .. نجد مصداق هذا في قوله تعالى: ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار )(ابراهيم: 47-48) فإن يوم القيامة - كما يخبرنا القرآن الكريم - يمثل نقطة تحول حاسمة ، ليس في حياتنا نحن البشر فحسب ، بل في حياة الكون كله .
اعتراض:
وقد كنت في أحد الأيام أعرض فكرة ثبات السنن على واحد من أصحابي المتخصصين بالدراسات الجيولوجية فأبدى اعتراضه على صفة الثبات هذه ، وقال : (.. لا أحسب أن السنن التي تتحكم بالكون ثابتة على هذه الصورة ، وحين نتتبع مثلاً تاريخ المخلوقات ، التي تتابع ظهورها على وجه الأرض ، فإننا نلاحظ حدوث تبدل في الخلق ، مما يدل دون ريب على حدوث تبدل في السنن التي تحكم هذا الخلق .. فقد أثبتت المشاهدات والدراسات الجيولوجية الكثيرة ، أنها سادت فوق الأرض - خلال حقبة تاريخية بعيدة - حيوانات بالغة الضخامة ، كالديناصورات وأفيال الماموث وغيرها من الحيوانات الماردة ، كما انتشرت في تلك الحقبة أنواع عملاقة من الشجر والنبات .. ثم انقرضت تلك المخلوقات ، وظهرت من بعدها مخلوقات أخرى تختلف عنها اختلافاً تاماً ، ومن هذه المخلوقات الجديدة .. الإنسان .. أفلا يدل هذا التبدل في الخلق على تبدل في سنن الحياة ؟).
وقبل أن أجيب صاحبي ، أردف يقول : (ومن جهة ثانية ، فقد شهدنا في العصر الحاضر اختفاء بعض الأمراض ، التي كانت سائدة في عالمنا ، كما شهدنا ظهور أمراض أخرى جديدة ، فقد اختفى داء الجدري مثلاً من على وجه الأرض منذ سنوات ، ولم تسجل منه أية حالة منذ شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) 1977م كما شهد هذا القرن ظهور داء جديد تماماً ، هو داء نقصان المناعة المكتسب ، الذي اشتهر باسم (الإيدز) والذي سجلت الحالة الأولى منه عام 1981م.. أفلا يدل هذا على تبديل في السنن التي تتحكم بحياة المخلوقات ؟
فقلت لصاحبي : إن هذه الأمثلة التي أتيت بها ليس دليلاً على التبدل في السنن ، بل إنني لأرى فيها دليلاً آخر يؤيد ( الثبات في السنن ) ولنأخذ المثال الأول الذي ذكرته عن اندثار المخلوقات العملاقة التي يقال : إنها سادت في الأرض قبل خلق الإنسان .. فأنت تعرف يا صديقي دون شك ما انتهى إليه العلماء حول اندثار تلك المخلوقات ، إذ يرجحون أنها اندثرت لسبب عادي ، أو قل سنة معروفة من سنن الحياة ، وهي أن لكل جسم حي درجة حرارة معينة لا يستطيع العيش خارج نطاقها ، وقد أظهرت الدراسات الجيولوجية أنه داهم تلك المخلوقات عصر جليدي بالغ القسوة ، لم تستطع تلك المخلوقات أن تصمد أمامه ، فقضت نحبها واندثرت عن بكرة أبيها .. ثم شاءت إرادة الله عز وجل ، أن ينحسر العصر الجليدي ، وأن يسود الأرض عصر جديد يناسب حياة البشر ، ومخلوقات أخرى قدر الله خلقها في ذلك الزمن ..
ولم يصطبر صاحبي حتى أكمل حديثي ، بل اعترض قائلاً : ( وهذه العصور التي تتعاقب بين وقت وآخر على سطح الأرض أليست ناشئة عن تغيير أو تبديل في السنن ؟ ) .(9/82)
فقلت : لا .. وإنما تتعاقب هذه العصور كما تتعاقب فصول الربيع والخريف والصيف والشتاء ، بنظام ثابت ، وتوقيت محدد ، وفق سنن ربانية محكمة .
ثم تابعت أقول : وأما مثالك الآخر ، الذي اخترته من عالم الطب ، فهو كذلك لا يؤيد اعتراضك على ثبات السنن ، فالجدري مثلاً الذي اختفى منذ سنوات قريبة ، لم يختف نتيجة تغيير في سنة المرض ، بل اختفى لأسباب معروفة ، أهمها تعميم استخدام اللقاح الواقي من الجدري على نطاق واسع في بلدان العالم قاطبة .
قال صاحبي يعترض من جديد : ولكن اللقاح لم يعد مستعملاً الآن ، ومع هذا لم تعد تسجل أية حالات جديدة من المرض ؟
قلت : أجل ، هذا صحيح فعلاً ، فقد أوقف العلماء استخدام اللقاح لأنهم أصبحوا واثقين من أن الجنس البشري قد اكتسب نوعاً من المناعة المتأصلة ، التي أصبحت تشكل إخلالاً في سنة الإصابة بالجدري .. إذ تتطلب هذه السنة الخاصة بالعدوى بالأمراض المعدية ، وجود عاملين رئيسيين ، هما :
1 - العامل الممرض ( وهو فيروس الجدري في المثال المذكور ) .
2 - الجسم القابل للعدوى والمرض .
ويعتقد أن لقاح الجدري ، جعل أجسام البشر غير قابلة للعدوى والمرض بجرثومة الجدري ، أي حدث إخلال بالعامل الثاني ، الذي يلزم لحدوث هذا المرض .. وهذا يعني أن سنة الإصابة بالمرض لم تتعطل أو تتبدل ، بل حدثت هنالك موانع حالت دون فعل هذه السنة ، وهذا - طبعاً - بالنسبة للجدري فقط ، وأما بقية الأمراض السارية ، فلم يحدث فيها مثل هذا ، ومازالت هذه الأمراض تصيب أعداد كبيرة من البشر كل يوم .. مما يعني أن داء الجدري قد يعود إلى الظهور مستقبلاً ، إذا ما زالت الموانع التي تحول دون ظهوره اليوم.
وكما هو الحال بالنسبة لداء الجدري ، فكذلك الحال بالنسبة لداء ( الإيدز ) فهو يخضع أيضاً لسنة الأمراض السارية التي أشرنا إليها .. وقد ظهر هذا الداء عندما تهيأت الظروف لظهوره .
وقاطعني صاحبي فقال : وما قولك في الحديث الشريف الذي جاء فيه (.. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم )؟
قلت : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى .. ولكن هذا الحديث يا صاحبي يمثل برهاناً على ثبات السنن ، فإن ظهور أوجاع جديدة بين الناس ، لا يعني أنها تتطلب خلق سنن جديدة من أجلها ، وإنما يكفي أن تتوفر الشروط اللازمة لحصولها ، وهي كما قلنا آنفاً :
وجود العامل الممرض ، أي فيروس الإيدز بالنسبة للحالة التي تعرضها ، وهذا الفيروس ربما يكون قد خلق قبل هذا الزمان بآماد بعيدة ، أو أنه خلق حديثاً بمشيئة الله ، نتيجة تفاعل بعض السنن الكونية ، فيما بينها ، بسبب ظروف طارئة جديدة .
والعامل الآخر استعداد الجسم البشري للإصابة بهذا المرض ، وهذا الشرط يمكن أن يتوفر في أي زمان ، إما لأن جسم الإنسان يمتلك أصلاً مناعة ضد المرض الجديد ، وإما لضعف يطرأ على الجسم فيجعله قابلاً للعدوى بهذا المرض .. وقد اثبتت الدراسات الحديثة أن تعاطي المخدرات ، وممارسة الشذوذ الجنسي ، يضعفان مناعة الجسم، ومما يؤيد هذه الحقيقة انتشار داء الإيدز خاصة في البلاد التي فشت فيها مثل هذه الفواحش .. وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فهو لا يحتم حصول تغيير أو تبديل في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه .
موقف الإنسان تجاه ثبات السنة:
.. وثبات السنة على صورة واحدة لا تتبدل ، يشكل نوعاً من العقبة أمامنا بقدر ما يمنحنا قدرة على التعامل معها والتحكم بمسارها ، إذ كيف يمكننا أن نوجه السنة أو نسخرها لخدمتنا ، ونحن لا نملك أن نغير شيئاً من طبيعتها ؟ هنا يمكن أن نشبه السنة بالجدار المتين ، الذي لا يمكن هدمه ، ولا اختراقه ، ولا زحزحته عن مكانه ، فمثل هذا الجدار يمثل - دون ريب - نوعاً من التحدي أمامنا .. غير أننا يمكن أن نواجه هذه العقبة دون تغيير شيء من صفات الجدار .. فيمكننا مثلاً أن نستخدمه للاستناد وإقامة جسر فوقه ، أو نستخدمه كجزء من بناء غرفة ، أو نستخدمه لدرء الريح والشمس .. وبهذا نستطيع التحكم بالجدار من غير تبديل في وضعه أو اتجاهه أو صفاته .. وكذلك هي سنن الله في الخلق ، والله عز وجل وهبنا القدرة على تسخيرها في شؤون حياتنا بهدايته لنا إلى كشف صفاتها ، وإعطائنا القدرة على التصرف بها ، من خلال هذه الصفات ، وليس من خلال تغييرها .
ويمكن أن نقدم مثالاً آخر يزيد الفكرة وضوحاً .. فقد خلق الله عز وجل العناصر الكيميائية المختلفة ، وجعل لكل منها صفات كيميائية وفيزيائية ثابتة لا تتغير ، ومع هذا فقد استطاع الإنسان بفضل الله أن يحصل من هذه العناصر على صفات جديدة ، من خلال التفاعلات التي تتم بين بعض العناصر وبعضها الآخر .
وتعد سنة الله في الخلق بمثابة عناصر كيميائية ، ذات صفات ثابتة لا تتغير ، وكما نحصل من تفاعل العناصر الكيميائية على مركبات جديدة ، وصفات جديدة ، فكذلك التفاعل بين السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فإن هذا التفاعل يمدنا بقدرات تسخيرية جديدة ، لم تكن متاحة لنا من قبل .. ونضرب لهذا مثلاً من عالم الفضاء والأقمار الصناعية .. فمن المعلوم أن هناك سنتين مختلفتين تتحكمان في دوران الأقمار الصناعية حول الأرض:
(1) سنة الجاذبية الأرضية.
(2) وسنة القوة الطاردة المركزية.
فالقمر الصناعي إنما يستقر في مداره الثابت حول الأرض نتيجة تفاعل هاتين السنتين ، فيما بينهما، فالجاذبية الأرضية تشد القمر الصناعي نحو مركز الأرض بقوة معينة ، بينما تدفعه القوة الطاردة بعيداً عن مركز الأرض بقوة مساوية للأولى بالمقدار ، ومعاكسة لها بالاتجاه ، فتكون المحصلة استقرار القمر في مدار ثابت حول الأرض .
وعلى هذه الصورة من الفهم يجب أن يكون تعاملنا مع السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فليس لنا أن نفكر في تعديل صفاتها ، أو تبديلها ، وإنما علينا أن نعرف صفاتها ، وأن نتصرف بها وفق هذه الصفات الثابتة ، التي قدرها الله عز وجل كما شاء .
3- الاطراد:
والاطراد في ( اللغة ) : التتابع والتسلسل.
ونعني باطراد السنة تتابع حصولها ، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .. ونضرب مثلاً لهذا تركيب الماء ، فالماء يتركب من اندماج غازين مختلفين هما الأكسجين والهيدروجين وفق المعادلة الكيميائية التالية:
H2 + O2 = 2H2O
وقد أصبح في مقدورنا اليوم أن نعيد تشكيل الماء من هذين الغازين بطرق اصطناعية ، بعد أن عرفنا الشروط التي تتحكم باندماجهما ، أهم هذه الشروط أن ندمج العنصرين بمقدارين متناسبين ، وفق قاعدة النسب التي اكتشفها العالم الكيميائي ( دالتن ) والتي تقول : ( إن الاتحاد الكيميائي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معينة من هذه العناصر ، في ظروف وشروط خاصة بكل منها ) فهذه القاعدة تعد سنة مطردة تخضع لها جميع التفاعلات الكيميائية التي تتم بين مختلف العناصر .. وكلما وفرنا شروط هذه السنة حصلنا على نتائج التفاعل المطلوب ، حتى ولو أعدنا التفاعل مئات المرات.(9/83)
وهذا ما نعنيه باطراد السنة ، فجميع السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق قابلة للتكرار والإعادة - بإذن الله - كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع ، التي تحول دون تحقيقها .. فالمطر يهطل بإذن الله كلما تبلدت الغيوم في السماء وتهيأت الظروف الجوية المواتية ، والحجر يسقط إلى الأرض كلما ألقينا به في الفضاء ، واليد تحترق كلما لامست النار ، والمرض يحصل كلما صادفت الجراثيم جسماً قابلاً للعدوى والمرض .. وهكذا .
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى صفة الاطراد في سنن الله ، منها قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )(محمد: 1) (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط )(آل عمران:120) (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )(النحل: 97) ، ( من يعمل سواء يجز به )( النساء: 123)، ( ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف من بينه ، ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله ، وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار )(النور - 43).
فهذه كلها سنن ربانية مطردة ، لا تتخلف بإذن الله إلى يوم القيامة ، وأمثالها كثير في القرآن الكريم .. وإن من يدقق النظر في أحكام الشرع المختلفة ، يجد أنها تعبر عن نوع من السنن المطردة ، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ، فإن ترك شيء مما أمر به الشارع الحكيم يترتب عليه عاقبة وخيمة دوماً ، في الدنيا قبل الآخرة ، وإن الإتيان بشيء قد نهى الله عنه يترتب عليه كذلك عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة ، وفي هذا غاية العدل والحكمة والتدبير .
وقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله بهذا الصدد ما يلي : ( .. لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة ، في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ، ليدلك بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ، ويوجب تخلف أثرها عنها).
ومن هنا يتبين أن سسن الله في الخلق تقوم على الاطراد ، بحيث تمضي السنة إلى غايتها المقدرة بإذن الله، كلما توافرت شروطها ، ولم يكن ثمة ما يحول دون تحقيقها .. ويمكن تشبيه السنة من هذه الوجهة بطلقات البندقية فهي تنطلق من الفوهة كلما ضغطنا على الزناد ، وكذلك هي سنن الله ، فهي تمضي إلى غايتها كلما وفرنا شروطها.
وكما أننا نفقد السيطرة على الطلقة بمجرد خروجها من الفوهة ، فكذلك نفقد السيطرة على نتائج السنة فور أن نوفر لها شروطها ، لأنها ستمضي بعد ذلك لتحقيق أهدافها شئنا ذلك أم أبينا .
وقد يعترض بعضهم على صفة الاطراد في السنن ، بحجة أن الصفات لا ترتبط بالموجودات ارتباطاً لازماً ، بل ترتبط بها ارتباط ( عادة ) إذ يعتقد هؤلاء مثلاً أنه ليس من طبيعة النار الإحراق ، ولكن الله يجعل فيها هذه الصفة لحظة ملامستها ! وكذلك السكين ليس من طبيعتها القطع ، وإنما يخلق الله فيها هذه الصفة حين إمرارها على الجلد مثلاً !
ويرى هؤلاء أن ارتباط الصفات بالموجودات إنما تتشكل في أذهاننا نتيجة العادة ، فقد اعتدنا أن نرى النار تحرق ، والسكين تقطع ، فارتبطت في أذهاننا .. هذه الصفات بهذه الموجودات ، ارتباط عادة .
والحقيقة أن هذه النظرة إلى طبيعة الأشياء قد نشأت نتيجة ملابسات تاريخية باتت معروفة في تاريخنا الإسلامي ، فقد بدأ الحديث عن الجواهر والأعراض ، وارتباط الأعراض بالجواهر منذ العصور الإسلامية الأولى ولا سيما في القرن الهجري الثاني ، حين بدأ الجدال بين أهل الفلسفة وأهل العقيدة ،ولعل أكثر من تكلموا في هذه القضية الأشاعرة والمعتزلة الذين حاولوا نفي فكرة ( الطبع ) ، التي كان يقول بها بعض الفلاسفة القدماء ، فقد اعتقد أولئك المتكلمون أن التسليم بوجود الصفات في طبع الأشياء يعطل الإرادة الإلهية ، ويجعل هذه الأشياء فاعلة بذاتها وليس بقدرة الله ، وبما أنه لا يجري شيء في هذا الوجود إلا بمشيئة الله ، فقد أصروا على أن الصفات ليست مرتبطة بالموجودات ارتباطاً لازماً ، وأن الله يجعل فيها تلك الصفات ساعة يشاء ، ليدللوا من ذلك على هيمنة المشيئة الإلهية على العالم ، في كل حين !
ولا ريب في أن هذه النظرة إلى العالم تضفي عليه صورة سحرية غريبة ، لأنها تجعل من الجائز للنار مثلاً أن تحرق ، أو لا تحرق ، بنفس النسبة ، وفي جميع الأحوال ، وكأن الأمر عبث لا يضبطه ضابط !! وهذا ما يؤيده الواقع المحسوس ، الذي يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك صفة الاطراد في سنن الله التي تحكم الوجود .
وقد أخطأ أولئك المتكلمون ، حين ظنوا بأن الاطراد في السنن ينفي المشيئة الإلهية أو يعطلها ، وقد سبق أن بينا من قبل ، بأن السنن التي تحكم هذا الوجود ، ما هي إلا قدر من قدر الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدره وأراد لها أن تعمل على هذه الصورة من الاطراد ، لكي يستقر أمر الخلق ، ويستطيع الإنسان تسخير ما في الكون في شؤون حياته .
وملازمة الصفات للموجودات لا تعني تعطيل المشيئة الإلهية ، لأن هذه الصفات ما كان لها أن تكون - أصلاً - لولا مشيئة الله سبحانه ، أضف إلى ذلك أن الله عز وجل ، الذي جعل في النار مثلاً صفة الإحراق قادر على أن يسلبها هذه الصفة متى شاء ، ودليل ذلك أنه سبحانه قال للنار: (كوني برداً وسلاماً على إبراهيم )(الأنبياء: 69) ، وهذا يعني أن صفة الإحراق كانت ملازمة للنار ، قبل إلقاء إبراهيم عليه السلام فيها ، وأن الله سلبها هذه الصفة في هذا الظرف الخاص ، على وجه المعجزة لنبيه عليه السلام ، على أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن سلب الإرادة الإلهية للصفات ، أو تعطيل سنة من السنن ليس أمراً اعتباطياً متروكاً للمصادفة أو الاحتمال ، بل شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون ذلك محكوماً بظروف مخصوصة معلومة ، كما هو الحال في المعجزات مثلاً ، مما يؤكد أن صفة الاطراد في السنن هي الأصل ، وما عداها هو الاستثناء ، وهذا ما سوف يفصل الحديث فيه بإذن الله عندما نتناول خوارق السنن.
ونخلص من هذا العرض إلى أن السنن التي تحكم الوجود ، تعمل فيه بنوع من الاطراد الذاتي (الأوتوماتيكي) فالنار من طبيعتها أن تحرق ، والكهرباء من طبيعتها أن تصعق ، والسم من طبيعته أن يقتل ، وعلى هذا الأساس يجب أن نتعامل مع العالم من حولنا .. مع التذكير بأن هذا الاطراد خاضع في الوقت ذاته لمشيئة الله كما قال تعالى: ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ً)(الفرقان: 45) ، فإن مد الظل كناية عن اطراد حركة الشمس والأرض ،ولو شاء الله لعطل هذا الاطراد ، وجعل الشمس والأرض ساكنتين ، وفي هذا دليل على الهيمنة الإلهية المطلقة الدائمة .. فالله عز وجل ، لم يخلق الكون ويتركه وشأنه ، بل هو قائم على أمر خلقه في كل حين ، يسطر على كل ذرة من ذرات الكون ، وقادر أن يفعل بخلقه ما يشاء (إن الله يحكم ما يريد )(المائدة: 1) ، (إن ربك فعال لما يريد )(هود: 107) .(9/84)
وقد أصبحنا اليوم أقرب إلى فهم هذا النظام الرباني المطرد ، بعد أن أتاحت لنا العلوم الحديثة ، ما يعرف بالنظم ذاتية التسيير ( الأوتوماتيكية ) إذ نستطيع مثلاً أن نشغل جهاز التلفزيون بواسطة جهاز التحكم عن بعد ( ريموت كنترول ) فيظل التليفزيون يعمل من تلقاء ذاته دونما حاجة لتدخلنا المستمر من أجل حثه على العمل ، وهذا لا يعني أننا فقدنا السيطرة على عمل التليفزيون ، فنحن قادرون متى شئنا أن نوقفه عن العمل ، أو نوجهه إلى محطة جديدة ..
فإذا كنا قد سلمنا بأن الإنسان - صاحب القدرة المحدودة المقيدة - استطاع إنشاء نظم ذاتية الحركة ، ونخضع في الوقت نفسه للسيطرة ، فكيف لا نسلم بأن الله عز وجل خلق هذا الكون وفق نوع من الاطراد الذاتي الخاضع للسيطرة الربانية؟!
============
كشف سنن الله في الخلق
.. لقد خلق الله هذا الكون البديع ، وبث فيه من المخلوقات أنواعاً كثيرة لا تعد ولا تحصى ، حتى إننا لو أردنا إحصاء المعلومات ، التي حصلها البشر حتى يومنا هذا عن تلك المخلوقات ، لكان من العسير على أية موسوعة أن تتسع لمجرد فهرسة هذه المعلومات ، هذا على الرغم من أن ما حصله البشر من علم ، لا يعد شيئاً مذكوراً بالنسبة للحقائق ، التي يزخر الكون بها .. وصدق الله العظيم الذي يبين طرفاً من هذه الحقيقة المعجزة بقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )(الاسراء: 85) . ومن هنا يمكن أن ندرك مقدار التنوع في السنن ، التي تحكم مخلوقات الله ، وندرك كذلك السبب في عدم انكشاف كثير من هذه السنن .. ويمكن أن نبسط هذه المسألة على الوجه التالي :
إن الإنسان مستخلف في هذه الأرض ، لأجل أداء مهمة محددة ، بينتها الآية الكريمة: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات: 56) .. والعبادة هنا لا تعني فقط الشعائر التعبدية ، من صلاة وزكاة وصوم وحج وغيرها ، مما يسمى بالعبادات في كتب الفقه الإسلامي ، بل تعني الانقياد والانصياع التامين للمنهج ، الذي شرعه الله عز وجل للناس ، ولكي يستطيع الإنسان القيام بهذه الأمانة ، فقد زوده الله عز وجل بالكفايات والاستعدادات اللازمة لكشف بعض السنن ، التي تعينه على أداء هذه الأمانة ، وتفتح أمامه الطريق لفهم هذا العالم ، وفك رموزه ، والتعامل معه.
وأما بقية السنن المقدرة لهذا الوجود ، فقد نتوصل إلى معرفة أسرار بعضها ، بينما تخفى علينا أسرار بعضها الآخر .. وإن الواقع ليشهد بأننا نرى كثيراً من مخلوقات الله عز وجل ، ونرى كثيراً من الظواهر ، فلا ندرك الحكمة من خلقها ، ولا ندرك السنن التي تحكمها ، وكثيراً ما تساءلنا بيننا وبين أنفسنا : لماذا خلق الله هذه الخلائق ؟! دون أن نهتدي إلى جواب .. لكن هذا لا يعني أن تلك الخلائق قد خلقت عبثا .. (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك )( آل عمران: 191) بل كل شيء عند الله بمقدار (إنا كل شيء خلقناه بقدر )( القمر: 49) ولكل أمر أراده حكمة ، سواء أدركناها أم لم ندركها ، وسواء علمنا السنة التي يخضع لها هذا الأمر أم لم نعلمها !
ويرجع خفاء بعض السنن عنا إلى تقصير في البحث عن هذه السنن ، وقد يرجع أحياناً أخرى إلى القصور في الوسائل المتاحة بين أيدينا ، ومن ذلك مثلاً الإشعاع الذري .. فهذا الإشعاع الذي أوجده الله عز وجل منذ ملايين السنين ، لم نتمكن من اكتشافه إلا بعد تطوير الأجهزة الحساسة لهذا الإشعاع ، الذي يصدر عن العناصر الكيميائية المشعة .. وبعد دراسة هذه الظاهرة عرفنا بوجود سنة تحكم عملية الإشعاع الذري .. وعندما تعمقنا بدراسة هذه السنة استطعنا - بفضل الله - أن نسخر الإشعاع الذري في أغراض شتى ، كعلاج الأورام السرطانية ، وتوليد الطاقة الكهربائية ، وصنع القنابل الذرية ..
الحاجة أم الاكتشاف:
.. ومن الملاحظات البارزة عبر التاريخ ، أن الأمم تمر بمراحل متغيرة , فتتطور أحوالها .. وتطرأ عليها ظروف مستجدة ، تضطرها للبحث عن وسائل جديدة ، تعينها على القيام بعمارة الأرض ، وأداء أمانة الاستخلاف ..
وتحت ضغط هذه الظروف القاهرة ، ينشط الإنسان في الدراسة والبحث والتنقيب ، إلى أن تتكلل مساعيه بالنجاح ، وتنكشف له سنن جديدة تكون بمثابة حلول مرحلية للمشكلات التي واجهته ..
ومن أجل هذا نجد كثيراً من آيات القرآن الكريم تحثنا على السير في الأرض ، بقصد الكشف عن السنن المغيبة عنا ، والعمل على تسخيرها فيما يصلح لشؤون حياتنا .. وهذا هو الأصل في قضية استخلاف الإنسان من قبل الله عز وجل ، والتي عرضها القرآن الكريم وفق محاور ثلاثة :
الأول : خلق الإنسان : (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )( البقرة: 30 ).
الثاني : تسخير الكون للإنسان: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )(الجاثية: 13) .
الثالث : دعوة الإنسان للنظر والتدبر والبحث : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) .
وعلى هذه الشاكلة يجب أن نفهم القضية .. فالله عز وجل هو خالق البشر ، وهو مستخلفهم في هذه الأرض، ومسخر لهم كل شيء في هذا الوجود ، وقد أمرهم سبحانه أن يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف تمضي مسيرة الحياة وفق سنن ثابتة ، غير عصية على الإدراك البشري ، وغير متمنعة عن التسخير من قبل البشر ، متى عرفوها وفهموا طبيعتها.
قهر الطبيعة!
.. ومن ثم فإن اكتشاف الإنسان لسنة من سنن الله ، وتسخيرها ، ليس قهراً للطبيعة ، كما يحلو للملحدين أن يصوروا هذه القضية ، إذ هم يظنون أن حياة الإنسان فوق هذه الأرض صراع متواصل ، ومعركة لا تنتهي ضد عناصر الطبيعة .. وما ذلك إلا لإنكارهم وجود خالق لهذا الكون ، وزعمهم بأن الطبيعة هي التي خلقت نفسها بنفسها ، وأنها هي التي أوجدت الإنسان مصادفة ، وألقت به في خضم هذا الصراع المحموم ! وهذا هو موقف المدنية المعاصرة اليوم ( بشطريها الغربي والشرقي ) إذ هي تصور تحقيق إرادة الإنسان في صورة الانتصار على الطبيعة ، وكأن الطبيعة عدو أو حاجز يحول بين الإنسان وبين تحقيق إرادته !
في حين أن النظرة الإسلامية للقضية مختلفة تماماً ، فالمسلم يحس بالانتماء للطبيعة ، بسبب إيمانه بأن قوانينها قدر من قدر الله عز وجل ، وسنة من سننه ، التي سخرها لخدمة الإنسان ، تفضلاً منه وكرماً .. ولهذا نجد العلاقة ما بين الإنسان المسلم ، وبين الطبيعة ، مطبوعة بطابع السلام والمحبة والانتماء ، على النقيض من علاقة غير المسلم بالطبيعة والتي تتصف بصفة التحدي والقوة والتحايل .
وما تعبير (قهر الطبيعة) الذي يلوكله الملحدون بمناسبة وبغير مناسبة إلا تلاعب بالألفاظ ، وتسمية للحقائق بغير أسمائها (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان )(النجم: 23).(9/85)
والحق .. أن الله سبحانه خلق في الإنسان بموجب استعداده علماً ضرورياً بحقائق الأشياء ، وسنن الله التي تحكمها ، وما لها من قوانين النفع والضر ، والواقع يؤيد هذا الرأي ، فقد ورث الجنس البشري ، على مدى العصور ، هذا الاستعداد الفطري عن أبيهم آدم ، الذي أودع الله في نفسه علم الأشياء ، من غير تحديد ولا تعيين (وعلم آدم الأسماء كلها )(البقرة: 31) ، وقد ظلوا بهذا الاستعداد يكشفون من أسرار هذا الأرض وقوانين طبيعتها ، ما مكن لهم من السيطرة عليها ، وتحقيق قوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة.. )( البقرة:30) فلا عجب إذن أن تنكشف سنة من سنن الله على يدي الإنسان ، ما دام الله عز وجل هو الذي قدر لها أن تنكشف على هذه الصورة ، ولا عجب كذلك أن يتم هذا الكشف على يدي مؤمن أو كافر ، لأنهما سواء بالنسبة لقدر الله ، الذي يجريه على يدي من يشاء من خلقه ، ونلمح ظلال هذا المعنى في قوله تعالى: ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محظوراً )(الإسراء: 20).
.. والكون - كما قدمنا - زاخر بالخلائق ، وهذه الخلائق تحكمها سنن لا تعد ولا تحصى ، وما يزال معظم هذه السنن في ذمة الغيب ، وستبقى كذلك ، حتى يحين الوقت ، الذي قدره الله لانكشافها ، وكأن الإنسان في هذه الحال أمام كنز لا ينضب ، ينهل منه ما يشاء ، ولكن بشرط أن يبذل الجهد اللازم لاستخراج جواهر هذا الكنز .. علماً بأن حجب بعض السنن عن الإنسان لم يكن عبثاً ، بل كان لحكمة بالغة ، أرادها الله عز وجل ، فإن هذا الحجب يشكل نوعاً من التحريض ، الذي يدفع الإنسان دوماً للبحث والتنقيب والمحاولة ، مما يضفي على حياته مسحة من التغيير المستمر ، الذي يجمل الحياة في ناظريه ، ويدخل إلى نفسه البهجة والسعادة ، كلما استطاع بجهده الواعي أن يكتشف جديداً ، أو يتغلب على صعوبة من الصعوبات التي تعترض سبيله ..
يقول الدكتور عماد الدين خليل حول هذه النقطة : ( إننا إذا أردنا أن نعتمد مصطلحات المؤرخ الانكليزي (آرنولد توبيني) ومقاييسه الحضارية فإننا سنرى في العالم تحدياً مناسباً للإنسان ، ليس معجزاً ولا هو دون الحد المطلوب البشري لإثارة التوتر للرد .. وكأن إرادة الله سبحانه شاءت أن تقف به عند هذا الحد لكي يحقق خلافته في الأرض ، فلم يشأ الله أن يمهد العالم تمهيداً كاملاً ، ويكشف للإنسان عن قوانينه وأسراره كلها ، لأن هذا نقيض عملية الاستخلاف ، والتحضر والإبداع ، التي تتطلب مقاومة وتحدياً واستجابة ودأباً وإبداعاً ، ولأنه يقود الإنسان إلى مواقع السلبية المطلقة ، ويسلمه إلى كسل لا تقره مهمة الإنسان على الأرض أساساً ، كما أن الله سبحانه لم يشأ - من جهة أخرى - أن يجعل العالم على درجة من التعقيد والصعوبة الطبيعية ، والانغلاق والغموض ، بحيث يعجز الإنسان عن الاستجابة والإبداع ، الأمر الذي ينافي أيضاً مهمته الحضارية التي نيطت به لإعمار عالم غير مقفل ولا مسدود ).
فالقضية إذن ليست قهراً للطبيعة .. فالله عز وجل خلق هذا الكون ، واستخلفنا فيه ، ومنحنا القدرة على تسخيره .. ولكنه سبحانه جعل شرطاً للوصول إلى تسخير الكون من قبلنا نحن البشر ، وهو أن نعرف ابتداء السنن التي يخضع لها ، ثم نعمل على توفير الوسائل المناسبة ، التي تعيننا على تسخير هذه السنن ، التي من طبيعتها أنها لا تعاند الإنسان , ولا ترفض الاستجابة له ، ولأن الله عز وجل هو الذي أمرها بهذا، وقدر لها هذه المهمة .
عقبات في طريق كشف السنن:
.. وعلى الرغم من أن الله عز وجل قد سخر لنا السنن الكونية ، وجعلها طوع أمرنا ( وفق الشروط التي ألمحنا إليها آنفاً) إلا أن هناك عقبات كثيراً ما تحول بيننا وبين الوصول إلى كشف السنن أو فهمها .. وقد سبق أن بينا بعض هذه العقبات التي تتعلق بطبيعة السنن نفسها ، أو بالوسائل اللازمة لكشف هذه السنن .. غير أن العقبات التي نريد مناقشتها هنا ، تختلف عن تلك بأنها عقبات ذاتية تنبع من نظرتنا إلى الكون ، وموقفنا مما يجري فيه من أحداث .. ويأتي في مقدمة هذه العقبات .. ما يلي :
1 - النظرة الغائية:
ونعني بها نظرتنا إلى ظواهر الحياة من جهة الغاية أو الحكمة ، التي من أجلها تحدث هذه الظواهر .. فنحن مثلاً نعتقد أن البراكين والزلازل تضرب القرى والمدن ، وتهلك الناس عقوبة من الله عز وجل على ما ارتكبوا من آثام وجرائم ، وكذلك نعتقد بالمرض وبسائر الكوارث الطبيعية .. ومع تسليمنا بأن لهذا الاعتقاد ما يبرره انطلاقاً من إيماننا بأن لله حكمة في كل ما يجري في هذا الكون والتي قد ندركها وقد لا ندركها .. إلا أن اعتقادنا بالحكمة الإلهية على هذه الصورة يجب ألا يحول بيننا وبين النظر إلى المسألة من جانب آخر ، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث هذه الظواهر ، لأن معرفة الأسباب تفيدنا في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة ، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا ، ودرء أخطارها عنا بإذن الله . أضف إلى ذلك أن النظر إلى الأحداث من جهة الحكمة في وقوعها فحسب ، يضعنا في موقع السلبية المطلقة التي تكتفي بتأمل الأحداث من الخارج ، بدل المشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة .. علماً بأن مثل هذه المواقف السلبية كثيرة في حياتنا العملية .
هكذا تحطم شالنجر:
وأذكر أنني في كانون الثاني ( يناير ) من عام 1986م كنت في الولايات المتحدة الأمريكية ، عندما دعاني صديق يتابع هناك دراسته الجامعية العليا لنشاهد على الطبيعة عملية إطلاق المكوك الفضائي ( شالنجر ) الذي كان من المقرر أن يحمل سبعة رواد للدوران حول الأرض ، وفي الموعد المحدد كنا في قاعدة الإطلاق مع جموع المشاهدين ، نترقب لحظة انطلاق الصاروخ نحو الفضاء .. وقد لفت انتباهي أن صديقي لم يكف طوال فترة ترقبنا لانطلاق الصاروح عن إبداء دهشته وإعجابه بما وصلت إليه (تكنولوجيا) الغرب من تقدم وتطور مذهلين ، وأعاد على مسامعي أكثر من مرة قوله : ( إننا - نحن المسلمين - لن نستطيع مسايرة التقدم العلمي المعاصر ، ولن نستطيع مواكبة ركب الحضارة ، ما لم نأخذ بمنهج هؤلاء ، ونتابع خطواتهم في شتى مجالات الحياة ! ) ، لكن موقف صاحب المليء بالإعجاب والدهشة ، لم يلبث أن تبدل باتجاه معاكس تماماً عندما انفجر الصاروخ ، بعد ثوان من إطلاقه .. فقد عد صاحبي انفجار الصاروخ بمثابة ضربة إلهية قاصمة موجهة لغطرسة أمريكا ( على حد تعبيره ) التي لا تفتأ تعتدي على الشعوب المستضعفة ، كما رأى في تلك الكارثة عقوبة عاجلة على ما وصل إليه المجتمع الأمريكي من استهتار وانحلال أخلاقي ، وإباحية وفوضى في كل شيء ..
لقد كان واضحاً من هذا التبدل المفاجيء في موقف صاحبي أنه لم يكن يصدر في تقويمه للحادث عن نظرة موضوعية بمقدار ما كان يصدر عن نظرة غائية قاصرة تستهدف ( التبرير ) أكثر مما تستهدف معرفة الأسباب الموضوعية ، التي أدت إلى الانفجار ، والتي يمكن بمعرفتها منع تكرار الكارثة مرة أخرى !
ومن المؤكد لو أن العلماء والمسؤولين في وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) نظروا للحدث كما نظر إليه صاحبي لأوقفوا تماماً برامجهم الفضائية ، بانتظار أن تتراجع الولايات المتحدة عن غطرستها ، وانتظار أن يصلح حال المجتمع الأمريكي ، ( ترى كم من السنوات أو القرون سيستغرق ذلك ؟ ) .(9/86)
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، بل سرعان ما عكف العلماء والمسؤولين في وكالة الفضاء على دراسة وتحديد الظروف والأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة .. وما هي إلا شهور قليلة حتى قامت الوكالة من كبوتها ، ودبت الحياة من جديد في قاعدة ( كيب كينيدي ) وانطلق المكوك التالي إلى الفضاء وفق البرنامج المقرر !
إن النظر إلى الأحداث على هذه الشاكلة لا يعني إغفال جانب الحكمة فيها ، بل يعني فهماً جديداً للحكمة ، يقوم على معرفة الأسباب الكامنة وراء الأحداث ، أو معرفة السنن التي تحكم الأحداث .. لأننا بهذه المعرفة نصبح أقدر على توجيه الأحداث ، بما يتوافق وأمانة الاستخلاف ، التي نيطت بنا .
2 - موقفنا من ( النصوص):
.. وأما العقبة الثانية التي قد تحول بيننا ، وبين التعرف إلى سنن الله في الخلق ، فهي موقفنا من تفسير النصوص الشرعية غير السليم ( من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ) فنحن غالباً ما نقف عند حدود تفسير هذه النصوص دون محاولة تجاوز هذا الموقف إلى معرفة السنن التي تعين على تفسير النصوص .. ومما لا جدال فيه أن مثل هذا الموقف ليس في صالح النص ، وليس في صالح العقل أيضاً ، لأنه - من جهة - يجمد النص عند فهم واحد لا يتعداه على مر العصور ، واختلاف الأحوال .. وهو - من جهة أخرى - يحد من ملكات العقل ، لأنه يجعل فهم النص محصوراً بعصر وجيل من السلطة القاهرة وهذا يثبط العقل ، ويحجب عنه رؤية الآفاق الفسيحة المتعددة ، التي يعبر النص عنها ، ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم يلح كثيراً في دعوتنا للسير في الأرض ، والتفكير في ملكوت الله ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) ، وتأتي هذه الدعوة من القرآن تعبيراً عن احترامه للعقل ، وتأكيداً على ضرورة شحذ الفكر ، لاستكشاف أسرار الوجود ، ومعرفة طبيعة الأحداث ، التي تجري فيه على حقيقتها التي هي عليها فعلاً ، لا كما نتصورها أو نتوهمها ، أو نفهمها من خلال ما يتبادر لنا من النص ..
وجدير بنا أن نتذكر هنا موقف الكنسية في أوروبا إبان العصور الوسطى تجاه علماء الطبيعة ، فقد رفضت الكنسية آنذاك كل ما جاء به العلماء من نظريات ، واكتشافات جديدة ، واتهمتهم بالتجديف ، وقامت بإحراق بعضهم وهم أحياء ، وهددت آخرين بالقتل ، إن لم يتراجعوا عما أسمته الكنسية هرطقة وتجديفاً ضد الكتاب المقدس ، وهكذا عكست الكنسية القضية ، وقلبتها رأساً على عقب ، إذ جعلت فهمها للنصوص التي وردت في الكتاب المقدس ، هو الضابط الذي على نهجه يجب أن يسير العلم ، وكان الأحرى بها أن تجعل العلم هادياً لها في فهم نصوص الكتاب! وقد يعترض على هذا المثال الذي سقناه من تاريخ الكنيسة في أوروبا بأن النصوص التي اعتمدتها الكنيسة لم تكن نصوصاً صحيحة ، بل كانت نصوصاً محرفة أو مدسوسة ، وهذا ما يجعل القضية مختلفة عن قضيتنا - نحن المسلمين - لأن النصوص التي بين أيدينا صحيحة قطعية الثبوت ، لم يصبها تحريف ، ولم يتسلل إليها دس ..
فنقول : هذا صحيح ، فالقضية عندنا مختلفة عما كانت عند الكنيسة ، إذ تتركز المشكلة عندنا في (تفسير) النصوص نفسها ، أو بمعنى آخر في (موقفنا من هذه النصوص) وأضرب على ذلك مثلاً المسألة السابقة نفسها ، وأعني بها .. كروية الأرض ودوران الشمس .. فقد اقتصر بعض مفسرينا على فهم النصوص في الحكم على هذه المسألة دون محاولة ربط النصوص بواقع الحال ، ودون الالتفات إلى ما يقول به علم الطبيعة والفلك ، فانتهوا من ذلك إلى أن الأرض منبسطة لا كروية ، وأنها ثابتة ، والشمس تدور من حولها .. وقد تذرع هؤلاء المفسرون بنصوص عديدة من مثل قوله تعالى : ( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون )(الحجر: 19) ، وقوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم )(يس: 38) .. ومن العجيب أن بعض من يدعون العلم ما يزالون إلى يومنا هذا مصرين على ظنهم الخاطئ بأن الأرض ليست كروية ، وأنها ثابتة ، والأرض والشمس تجري من حولها !! ولقد يقال : إن هذه المسألة قد حسمت نهائياً بالنسبة لعلمائنا المعاصرين خاصة الذين لم يعودوا يرون أي تعارض ما بين النصوص الصحيحة الصريحة وبين ثوابت العلم الحديث .. فنقول : هذا صحيح بالنسبة للمسألة التي ذكرناها ولكثير من المسائل المشابهة ، إلا أن هناك الكثير من المسائل التي لم تحسم بعد ، والتي لم يزل بعض علمائنا يقفون منها موقفاً معارضاً بحجة أن النصوص تعارض هذه المسائل .
ويلاحظ أن معظم الذين يتصدون من بيننا لنقد النظريات العلمية ليسوا من أهل الاختصاص ، مع أن من الأمور المسلم بها أن كل قضية لا يصح أن يتصدى لها إلاّ من يملك علماً راسخاً في هذا الحقل ، أضف إلى ذلك أنه لا يصح بحال من الأحوال تجاهل الشواهد المادية التي قدمها العلماء بحجة أن الفهم الحرفي للنصوص عندنا يعارض هذه الشواهد ، وبخاصة أن هذه النصوص لا تقطع برد النظرية .
إن قضية الإعجاز العلمي في القرآن وفي السنة النبوية ، والتي حازت قبولاً حسناً في الأيام الأخيرة عند المسلمين ، وعند غيرهم , من ذوي العقول الراجحة ، خير شاهد على ما نقول ، لأنها أصبحت تقدم النصوص للناس وفق فهم جديد يعتمد ربط النصوص بأحدث ما توصل إليه العلم من مكتشفات .
وهذا ما يجعلنا اليوم ننظر إلى النصوص نظرة متجددة في ضوء ما استجد في عصرنا الحاضر من متغيرات ، وما تم فيه من اكتشافات، لعلنا بمثل هذه النظرة نستطيع الغوص إلى جوهر النص ، واكتشاف المزيد والمزيد من السنن المتعلقة به .
3 - تسييس العلم:
.. ومن العوامل الهامة ، التي وقفت على مدار التاريخ حجر عثرة في طريق التقدم العلمي ، وكشف سنن الله في الخلق - فيما نظن - ، أن الإنجازات العلمية ظلت ترتبط بالأهداف السياسية ( والعسكرية منها على وجه الخصوص ) ، أكثر من ارتباطها بأية أهداف أخرى ، مما جعل مسيرة العلم تنحرف عن مسارها الصحيح ، لتركز على أنواع معينة من الكشوف والاختراعات ، وتغفل من ثم الجوانب الأهم والأكثر فائدة للبشرية .. فقد وجدنا مثلاً أن أعظم الكشوف العلمية ، تنمو وتترعرع في ظل السياسات العسكرية ، فالحرب العالمية الثانية - على سبيل المثال - كانت من أهم الأسباب التي دفعت البشرية لدخول ( عصر الذرة ) ، وكان الدافع الأساسي لتفجير الذرة خوف الحلفاء من امتداد السيطرة النازية على العالم ، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الراحل ( روزفلت ) تجند كبار علمائها ، إلى جانب عدد من العلماء الألمان ، الذين فروا إليها من بطن الطاغية ( هتلر ) ، ليعملوا على مدار الساعة في المشروع السري ، الذي عرف آنذاك باسم ( مشروع مانهاتن ) وقد استطاع العلماء في فترة وجيزة جداً من الزمن ، أن يحولوا معادلات الطاقة والمادة التي وضعها (آينشتاين) إلى حقيقة واقعة ، واستطاعوا إجراء اول تجربة ذرية في التاريخ عام 1945م ، في صحراء نيفادا ، ولم يلبثوا أن حولوا هذا الكشف العلمي الكبير إلى قنبلة رهيبة ، ألقيت فوق مدينة ( هيروشيما اليابانية ، في الثامن من آب ( أغسطس ) من العام نفسه ، وبعدها بأيام قليلة ألقيت القنبلة الثانية فوق مدينة ( ناغازاكي ) ، وبقية المأساة معروقة للجميع دون ريب !(9/87)
وكما كانت الحرب العالمية الثانية وراء التعرف على الطاقة الذرية ، كذلك كان التهديد بنشوب حرب عالمية ثالثة وراء التقدم العلمي في ميدان الفضاء .. فقد أصيب أرباب الحرب والسياسة بحمى التفوق العسكري ، فراحوا يتسابقون في ميدان الفضاء ، رغبة منهم في امتلاك السلاح الأسرع والأبعد مدى ، إلى أن توجوا ذلك بالمشروع الأمريكي الشهير الذي عرف باسم ( حرب النجوم ) ، والذي استهدف فيما استهدف زرع الفضاء الخارجي حول الأرض برؤوس نووية ، قادرة على ضرب أية بقعة من الأرض في دقائق معدودات !
وقد كان من نتيجة حمى التسابق الفضائي ، أن تطورت الصواريخ والأقمار الصناعية ، والمركبات الفضائية ، تطوراً مذهلاً ، فاق كل التصورات والتوقعات ، حتى أصبح الإنسان اليوم قادراً على الوصول إلى إية بقعة يريدها ، ليس على سطح الأرض أو القمر ، بل على سطح أي كوكب من كواكب منظومتنا الشمسية .
إن التقدم العلمي المذهل في مثل هذه الميادين ، ليكشف لنا عن حقيقة مفجعة حقاً ، وهي أن الإنسان يملك من الطاقات العقلية والمادية ، ما يستطيع به أن يحقق ما يبدو مستحيلاً ، غير أنه (ولغاية في أنفس بعضهم!) لا يستخدم هذه الطاقات فيما يخدم حياته ، بل يستخدمها بالاتجاه المضاد !
ومما لا ريب فيه أن علاج مشكلة صحية نفسية كالاكتئاب النفسي مثلاً الذي يدفع آلاف المرضى النفسيين للانتحار سنوياً ، ليس أصعب ، ولا أعقد من إنزال إنسان فوق القمر ، أو إرسال مركبة فضائية إلى أطراف منظومتنا الشمسية .
وهذا يعني إن الإنسان - لو أراد - لحقق الكثير من التقدم في ميادين العلم ، التي لم تعط حتى الآن حقها من العناية والاهتمام ، ومنها على سبيل المثال ميدانا علم النفس ، وعلم الاجتماع ، وغيرهما من الميادين ، التي تتعلق مباشرة بحياة الإنسان .. لكن التقدم العلمي - للأسف الشديد - سار في اتجاه آخر ، أدى إلى دخول البشرية جمعاء منعطفاً خطيراً ، بات يهددها بالفناء !
ونعتقد أن تصحيح هذا المسار لن يتم إلا باتخاذ العلماء أنفسهم موقفاً حاسماً ، يحددون على أساسه أولويات الكشوف ، التي تحتاجها البشرية فعلاً ، أما المواقف السلبية ، التي غالباً ما يقفها العلماء ، حتى بالنسبة للاكتشافات التي تتحقق على أيديهم ، وتستنزف طاقاتهم وعقولهم ، فإنها ليست في صالح التقدم العلمي ، ولا في صالح البشرية ، لأنها تتيح الفرصة أمام التجار والساسة ( أو الساسة التجار ) لاستغلال الكشوف العلمية في أحط الأغراض ، وأبعدها عن الأخلاق النبيلة !
وهذا مما يعوق التقدم العلمي ، ويحول دون كشف السنن المتعلقة بجوانب هامة جداً من حياة الإنسان
===========
خوارق سنة الله في الخلق
.. تحدثنا في الفصول السابقة عن خصائص السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، وبينا أن هذه السنن تتصف بثلاث خصائص رئيسة هي الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وأكدنا أن هذه الخصائص تجعل من السنن قوانين صارمة لا تتبدل ولا تتحول ، ولا قدرة للإنسان على أن يبدلها ويحولها أبداً ..
فهل يعني هذا أن السنن مازالت على حالها ، منذ أن خلق الله الخلق ، وقدر السنن ؟ أم أن السنن تبدلت في وقت ما ؟ أو عطلت في مكان ما ؟ وهل كل السنن ثابتة أم بعضها الثابت فقط ؟ وما علاقة الخوارق التي شهدتها البشرية في بعض الأزمان بالسنن ؟ هذه الأسئلة وغيرها ، سنحاول الإجابة عنها في هذا الفصل ، الذي نتحدث فيه عن بعض الظروف الاستثنائية ، التي يحصل فيها خرق للسنن ، وخروج عن مألوف البشر ..
ولكن قبل أن نستعرض هذه الاستثناءات من قانون السنة ، نود أن ننبه إلى أن هذه الاستثناءات قد تكون حقيقية ، أي أن تقوم على تبدل حقيقي في سنة كونية ما ، لحكمة يريدها الله عز وجل ، وقد يكون الاستثناء غير حقيقي ، أي أن نتوهم نحن البشر حدوث تبدل في السنة دون أن يكون لذلك حقيقة .
ومن الحقائق الأولية التي لابد من التذكير بها قبل مناقشة هذا الموضوع ، أن خالق السنن ومقدرها هو الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدر أسبابها ، وهو الذي يقدر نتائجها .. وما صفة الثبات في السنن ، وارتباط نتائجها بأسبابها إلا بقدر من الله عز وجل .. ومن ثم فليس في استطاعة أحد من الخلق أن يخرق سنة من السنن ، أو يبدل فيها ، فهذا لا يكون إلا بمشيئة الله وحده ، متى شاء ، وكيف شاء .. وقد شاءت حكمته سبحانه أن يخرق بعض السنن ، في بعض الظروف الخاصة ، ليدلل بهذا على طلاقة قدرته من كل قيد، وليدلل كذلك على أنه خالق هذه السنن ، وأنه وحده المسيطر عليها ، إن شاء خرقها ، أو بدلها ، أو عطلها..
وأذكر أن أول ما لفت انتباهي شخصياً لمسألة الخوارق ما شاهدته في بيت أحد أصدقائي ، فقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يرزق هذا الصديق بثلاثة أولاد أسوياء الخلقة ، فقد حباهم الله بجمال ونضارة قل مثيلها بين البشر ، ثم شاءت حكمته سبحانه أن تلد زوجة الصديق طفلة لم تكن على هيئة البشر ، بل كانت مسخاً أقرب في شكلها وتكوينها إلى هيئة بعض الحيوان .. فخيل إلي وقتذاك أن ولادة الطفلة على تلك الهيئة يمثل خرقاً للسنن ، التي تتحكم في خلق وتصوير الجنين البشري .. غير أنني - بعد دراستي لعلم الجنين ومعرفتي بالتشوهات ، والتي قد تطرأ على الأجنة أثناء تخلقها - عرفت أن المسخ لا يمثل خرقاً للسنن التي تحكم نمو الأجنة ، وإنما هو يحدث من تأثير عوامل خارجية تعيق عملية الخلق والنمو .. وقد أصبح الكثير من هذه العوامل معروفاً اليوم للأطباء وعلماء الأجنة الذين أصبحوا قادرين - بإذن الله - على درء كثير من التشوهات الجنينية نتيجة لهذه المعرفة .
والواقع .. أن معظم ما نشاهده في حياتنا من خوارق هو من قبيل هذه الحادثة التي ذكرناها .. أي أن معظم الخوارق التي نراها لا تشكل خرقاً حقيقياً للسنن ، وإنما هي تحدث نتيجة أسباب قد تخفى علينا ، وقد نعلمها .. ونستعرض فيما يلي أشهر الخوارق التي عرفها البشر لنبين علاقتها بالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه !
1 - المعجزة:
.. والمعجزة ( أمر خارق للعادة ، داعية إلى الخير والسعادة ، مقرونة بدعوى النبوة ، قصد بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله ) وكما هي الحال في الإرهاص ، فإن المعجزات مرتبطة بزمن الأنبياء كذلك .. وتقوم الحجة في المعجزة على أساس من ثبات السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فلو لم تكن السنن ثابتة ، لما كان في الخروج عنها إعجاز ولا حجة ، وإنما كانت الحجة في المعجزة لأنها تأتي بما لم يألفه البشر ، وما لا يمكن الإتيان بمثله ، إلا من قبل نبي مرسل ، مؤيد من الله عز وجل ، الذي خلق السنة أصلاً وأوجدها .
وقد كانت المعجزات كثيرة في حياة الأنبياء عليهم السلام ، ولا تكاد تخلو سيرة نبي من ذكر المعجزات ، التي أجراها الله على يديه ، ونذكر من ذلك ، عصا سيدنا موسى عليه السلام ، التي انقلبت حية ، وابتلعت حبال سحرة فرعون وعصيهم ..
ومن المعجزات كذلك إنزال مائدة من السماء على قوم سيدنا عيسى عليه السلام ، وإبراؤه للأكمه والأبرص والأعمى ، وإحياؤه الموتى .. كل ذلك بإذن الله .
ومن المعجزات التي جرت على يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إنطاقه للشجر ، وتكليمه ذراع الشاة المسمومة ، وتفجر الماء من بين أصابعه .. وغيرها كثير مما جاء في كتب الحديث والسيرة .
ولا شك أن معجزته الخالدة الباقية على الزمن هي القرآن الكريم .
2 - الإرهاص:(9/88)
.. ومن الحوادث الخارقة التي ذكرتها كتب السيرة ( الإرهاص ) ، وهو حدوث أمر خارق للعادة ، يدل على بعثة نبي قبل بعثته .. ومن الإرهاصات التي سبقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، تلك البركات التي ظهرت لمرضعته حليمة السعدية ، بعد أن ذهبت إلى قريش لتسترضع ولداً ، فلم تجد غيره صلى الله عليه وسلم .
ومن الإرهاصات التي سبقت بعثته صلى الله عليه وسلم أيضاً حادثة شق صدره الشريف ، وفيها ( إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى أخي عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي ، أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى غنماً لنا ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً ، ثم أخذاني فشقا بطني ، واستخرجا قلبي فنقياه ، فاستخرجا منه علقة سوداء ، فطرحاها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ).
والإرهاصات في حياة الأنبياء عليهم السلام معروفة وكثيرة .
3 - الكرامة:
.. والكرامة كالمعجزة من حيث أنها أمر خارق للعادة ، خارج عن مألوف البشر ، إلا أنها غير مقترنة بدعوى النبوة ، وغير مرتبطة بزمن النبوات ، فهي خوارق يجريها الله عز وجل على أيدي بعض عباده وأوليائه الصالحين تكريماً لهم ، وبشارة على تقواهم وصلاحهم .. ونذكر من الكرامات التي حكاها القرآن الكريم ، أمر السيدة مريم عليها السلام التي نذرتها أمها لخدمة بيت المقدس ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )(آل عمران: 37) والكرامة هنا هي ما خص الله عز وجل به السيدة مريم عليها السلام ، بأن كان يرسل إليها الرزق الوافر ، وهي في خلوتها ، حتى أن سيدنا زكريا عليه السلام كان يستغرب وجود ذلك الرزق عندها ، وهو يعلم أنه لا أحد يدخل عليها غيره .
وقد أورد الإمام النووي رحمه الله في كتابه ( رياض الصالحين) أحاديث عديدة عن الكرامات في ( باب كرامات الأولياء الصالحين وفضلهم ) ختمه بقوله : ( وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة سبقت في مواضعها من هذا الكتاب ، منها حديث الغلام ، الذي يأتي الساحر والراهب ، ومنها حديث جريج ، وحديث أصحاب الغار ، الذين أطبقت عليهم الصخرة ، وحديث الرجل الذي سمع صوتاً في السحاب يقول : اسق حديقة فلان ، وغير ذلك ، والدلائل في الباب كثيرة مشهورة ) .
وهذه كلها دلائل على أن الله عز وجل قد يخرق السنة كرامة لأوليائه ، وهذا الخرق غير مرتبط بزمان ولا مكان ، وغير مرتبط كذلك بإرادة العبد الصالح نفسه ، وإنما هو مرتبط أولاً وأخيراً بإرادة الله ومشيئته وحكمته .
4 - السحر:
والسحر ( لغة ) : هو كل أمر يخفي سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع .. وقد فصل بعض أهل العلم في أنواع السحر فذكروا منها : التمائم ، والشعوذة ، وتسخير الجن ، واستخدام الأدوية والأبخرة ، وغير ذلك من الأساليب ، التي يلجأ إليها السحرة عادة .. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات هذه الأساليب ، نظراً لطبيعة بحثنا هذا من جهة ، ونظراً لاختلاف العلماء حول حقيقة هذه الأساليب ، وتأثيرها من جهة أخرى .. لكن الذي نريد أن نناقشه الآن هو تلك الحوادث من خداع البصر الذي يبدو خارقاً للعادة التي تجري على أيدي بعض السحرة ، سواء منهم من يفعلون ذلك بقصد الإمتاع في الحفلات وغيرها ، أو الذين يفعلون ذلك لأغراض أخرى كالوقيعة بين الناس .. والظاهر من نصوص القرآن الكريم أن فعل السحرة لا يعدو أن يكون خداع بصر ، ولنستمع إلى وصف الحق تبارك وتعالى لما جاء به سحرة فرعون ، وهم أمهر السحرة على مر التاريخ : ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ، قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى )(طه: 65 - 66) وقوله تعالى : ( قال القوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم )(الأعراف: 116 ) فلم يكن سحر السحرة إذن غير تخييل ( يخيل إليه من سحرهم .. ) ولم يكن غير خداع لأبصار المشاهدين (سحروا أعين الناس .. ).
والفرق كبير ما بين التخييل والوهم والخداع ، وبين الحقيقة ، وهذا ما أثبتته بقية القصة حين ألقى موسى عليه السلام عصاه (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون )(الأعراف: 117 - 118). فإن ما جاء به موسى عليه السلام كان معجزة من الله عز وجل .. كان حقيقة لا وهماً .. كان خرقاً حقيقياً للسنن ، فقد انقلبت العصا الجامدة إلى حية تدب على الأرض ، وتتحرك وتبتلع السحرة وعصيهم ! ولما كان سحرة فرعون يعلمون طبيعة السحر ، فإنهم لم يتمالكوا وهم يرون المعجزة إلا أن يخروا سجداً لله ، ويعلنوا إيمانهم بما جاء به موسى لأنهم - وهم أهل الصنعة - قد أيقنوا أن ما جاء به لا يمكن لبشر أن يأتي به ، إلا أن يكون مؤيداً من الله ، الذي خلق الخلائق وقدر السنن .. فهو وحده سبحانه القادر على خرقها ، وأما السحرة فإن دأبهم التمويه والخداع .
ونلاحظ من خلال عرض هذه الخوارق الخارجة عن مألوف البشر أنها ليست خوارق مطلقة ، فهي غير قابلة للحدوث في كل زمان ومكان ، بل هي مقيدة بظروف ..
فالمعجزات والإرهاصات مرتبطة بعصر النبوات ، وما دام عصر النبوات قد اختتم ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا معجزات ولا إرهاص إذن بعد ذلك .
وأما السحر فإن أغلبه من باب التخييل والخداع ، وهو لا يعبر عن خرق للسنة كما بينا آنفاً .. وإن أحوال الذين يمارسون السحر لتدل على طبيعة أفعالهم ، فالسحر لا يصنعه إلا الفساق والكفار ، وأما المؤمنون فهم أبعد الناس عن فعل السحر ، وبخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر منه ، وعده من الكبائر .
و تبقى ( الكرامة ) هي الخارقة الوحيدة ، التي قد يداخلها بعض الالتباس ، إذ قد يلجأ بعض أصحاب النفوس الضعيفة ، والنوايا الخبيثة ، لادعاء ظهور بعض الكرامات على أيديهم ، بقصد الوصول إلى مكاسب معينة ، أو تحقيق مآرب شخصية دنيئة ، وهذا ما حصل في العصور الإسلامية المتأخرة في صفوف غلاة الطرق الصوفية ، وأصحاب الدعوات الباطنية الباطلة ، وكثيراً ما نشاهد هؤلاء يعقدون الجلسات الخاصة ، ليعرضوا مهاراتهم في الإتيان بخوارق مختلفة ، يدعون أنها كرامات من الله عز وجل.
والحقيقة أن العبد الصالح الذي يخصه الله عز وجل بكرامة من عنده ، يغلب عليه أن يداري هذه الكرامات عن غيره من الناس ، مخافة أن يحبط الله عمله ، فهو أشد حياء بالكرامة من البنت في خدرها ، كما يقولون ، بينما نجد أدعياء الكرامات يفاخرون بها ، ويذيعون أخبارها للقريب والبعيد لكي يحققوا من وراء ذلك أغراضهم ..
ويحتم علينا هذا البيان أننا كلما رأينا خارقة من الخوارق أو سمعنا خبراً من أخبارها أن نعرضها على كتاب الله ، وسنة رسوله ، فإن وافقهما قبلناها منه ، وعددناها كرامة ، وإن وجدناه غير ذلك لم نقبل منه ، وعددناها نوعاً من السحر أو الاستدراج ..(9/89)
ونخلص من حديثنا عن الخوارق إلى أنها تعد استثناء لا قاعدة ، لأن القاعدة في سنن الله في الخلق هي الثبات ، وأما هذه الخوارق فهي استثناءات .. ولهذا ينبغي أن نضعها في موضعها الصحيح من حركة الكون ، لا أن نجعلها الأصل في تعاملنا مع الكون من حولنا .. ونحن مستخلفون في الأرض بناءً على هذا الأصل ، وأعني به ثبات السنن على الهيئة التي قدرها الله عز وجل ، يوم أن خلق السماوات والأرض ، كما أننا محاسبون على تصرفاتنا بالعالم المحيط بنا ، بناء على هذا الأصل كذلك ..
ويجب أن نؤمن يقيناً أننا لا يمكن أن نستفيد من ذخائر هذا العالم أو نسخرها في شؤوننا إلا من خلال معرفتنا الدقيقة بالسنن ، التي تحكمها ، وأما التطلع إلى الخوارق ، والتعامل مع الأحداث من خلالها فلا يجدي فتيلاً ، لأنها كما قدمنا ليست هي القاعدة في بناء هذا العالم ، وليست هي التي تحكم مسيرة الحضارة والبناء ، وإنما يحكم ذلك الجهد الواعي ، والبحث الدؤوب ، الذي يهدف إلى كشف سنن الله في الخلق ، والعمل على تسخيرها فيما يستهدف خير البشرية وصلاحها
============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 1- - الحرية
عرفنا في الفصول السابقة ، ما نقصده من مفهوم ( سنة الله في الخلق ) وقلنا : إن هذا المفهوم يعني: مجموعة من القوانين التي سنها الله عز وجل وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها .. وعرضنا بعد ذلك شواهد عديدة ، دلت كلها على أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود تخضع لسنن ربانية ، لا تتبدل ولا تتحول ، ثم بينا أن تسخير العالم المحيط بنا غير ممكن ، بغير الفهم الصحيح لطبيعة السنن الربانية ، لأن هذا الفهم يعد بمثابة (كلمة السر) التي تفتح لنا مغاليق هذا الكون ، وتتيح لنا فرصة الاستفادة من كنوزه، التي لا تعد ولا تحصى، وتسخيرها فيما يصلح شؤون حياتنا، وييسر لنا أمر عمارة الأرض.
ولكن .. هل ثمرة (التسخير) هي الثمرة الوحيدة ، التي يمكن أن نجنيها من فهمنا لطبيعة السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ؟ لا .. بل هناك ثمرات أخرى كثيرة يمكن أن نجنيها من فهمنا للسنن ، ويأتي في مقدمة هذه الثمرات ثمرة.. الإيمان.. لأننا حين نطلع على طبيعة السنن ، التي تحكم الكون ، وما فيه من مخلوقات كثيرة ، فإننا سندرك أن هذا الكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والتوازن والاستقرار ، لو لم يكن خالقه .. رباً واحداً ، حكيماً ، عالماً ، محيطاً بكل شيء ، وقادراً على كل شيء (سبحانه).
ويلحق ثمرة الإيمان ثمرات أخرى كثيرة ، من أبرزها تصويب نظرتنا إلى كثير من المفاهيم ، التي لها مساس مباشر وعميق بسلوكنا وحركتنا في الحياة .. وهذا ما سوف نعرض له في هذا الفصل .
1- - الحرية
عندما نسمع كلمة ( الحرية ) نتذكر على الفور قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ) .
وقد نتذكر كذلك ( الثورات ) التي قادها أصحابها باسم ( الحرية ) ..
وقد نتذكر السجون ودهاليز التعذيب الجهنمية الرهيبة .
وقد نتذكر أعواد المشانق التي أقيمت وما تزال تقام بين الحين والحين هنا وهناك بهدف (تأديب) المنادين بالحرية ..
وقد نتذكر .. ونتذكر ..
قد نتذكر ذلك كله مادام الحديث يدور عن ( الحرية ) ..
ومن العجيب أن ينحصر جل تفكيرنا بالمعنى السياسي للكلمة ، مع أن للحرية معاني كثيرة أوسع وأشمل من مجرد فهم سياسي محدود .. فما الذي يجعل تفكيرنا يتوجه نحو السياسة وحدها دون سواها ؟
إنه - دون ريب - ضغط الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم ، في كثير من بلدان العالم ، حيث حرية الرأي ، وحرية الحياة ، وحرية التعليم ، وحرية التملك .. وكل الحريات الأخرى مهددة بالإعدام في لحظة واحدة نتيجة قرار سياسي أحمق !
غير أن هذا الواقع الأليم - على فداحته - لا يصح أن يحجب عن الرؤية الموضوعية للمسألة ، ولا أن يمنعنا من الفهم الصحيح للحرية ، التي ننادي جميعاً بها .. لأننا من غير تلك الرؤية ، وهذا الفهم ، لن نستطيع أن نتجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة ، بل قد نزيد هذه الأزمة تعقيداً ، وقد ينتهي بنا الأمر إلى خسارة أخرى من حريتنا ، التي يفترض ألا نقبل بها إلا كاملة ، غير منقوصة .
فما هي الحرية يا ترى ؟
ربما كانت الحرية من أكثر المصطلحات التصاقاً بحياة الإنسان وبمصيره ، وربما كان هذا هو السبب ، الذي من أجله يتعرض مفهوم الحرية للكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب .. وقد ظلت الحرية على مدار التاريخ عرضة لعمليات ( تحجيم ) ماكرة يراد منها أن تخدم مصالح بعض أصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون أصلاً بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من ( سلطات ) تضاف إلى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت !
ويقودنا البحث عن معنى الحرية أول ما يقودنا إلى رحاب القرآن الكريم الذي يخبرنا بأن الله عز وجل - الذي خلق السموات والأرض - لم يترك هذا الخلق ليعيش على هواه ، ويتصرف بلا ضابط ولا نظام (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين )(الدخان: 28) ، بل أخضع الله ذلك كله لمجموعة من السنن لتحكم مسيرة هذا الخلق (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) ( الفرقان: 2) . وتوحي آيات كثيرة بأن هذه السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم ، وتقيد حركته ، نلمح هذا مثلاً في قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا )(الرحمن: 33) فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز ، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هذه الحواجز مطلقة بحيث لا يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها ، بل جعل الله عز وجل هذه السنن قابلة للتسخير من قبل الإنسان ، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، وهذا معنى قوله تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه )( الجاثية: 13 ) ، لكنه سبحانه جعل شروطاً لابد للإنسان أن يوفرها حتى يتمكن من تسخير السنن الربانية ، ومن تلك الشروط أن يعرف طبيعة السنن ، التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها ، وأن يهيئ الظروف المواتية لهذا التسخير .. نلمح هذا المعنى في قوله تعالى تعقيباً على تحدي الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض في ختام الآية السابقة من سورة الرحمن (لا تنفذون إلا بسلطان ) ويرجح أن السلطان هنا هو معرفة السنن الربانية التي تعين الإنسان على الطيران وتجاوز أقطار السموات والأرض .. والملاحظ أن الإنسان عندما استطاع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض اكتسب هامشاً جديداً من الحرية ، إذ تحرر من قيد الجاذبية ، وتحرر من قيد السرعة ، التي منحت له فطرة ، وهي سرعة مشيه على قدميه ، فأصبح قادراً على الحركة بسرعات مذهلة تتجاوز عشرات الآلاف من الأميال في الساعة الواحدة !!
ويمكن أن نزيد هذه الفكرة توضيحاً بمثال آخر .. فلو أننا أتينا بإنسان لا يعلم شيئاً عما وصلت إليه الاختراعات والتقنية الحديثة من تقدم ، ثم عرضنا عليه سيارة .. فما يكون موقفه منها يا ترى ؟ إنه - دون ريب - سيقف حيالها حائراً مستغرباً مندهشاً ، وربما فر منها خائفاً مذعوراً ! فهي بالنسبة له عالم مجهول تماماً ، ينطوي على كل ما ينطوي عليه المجهول من خوف ومفاجآت.(9/90)
ولو أننا طلبنا من هذا الإنسان ، أن يتصرف بالسيارة على مقدار ما لديه من علم فطري ، فربما اكتفى باستخدامها مأوى لدجاجاته .. وهذا غاية ما قد يقوده إليه تفكيره من استخدام هذه الآلة العظيمة .. أي أنه لن يستطيع أن يستفيد من الحرية الواسعة ، التي يمكن أن توفرها السيارة له ، وما ذلك إلا لجهله بالقوانين التي تحكم عملها .. بينما نجد أن إنساناً آخر لديه علم بتلك القوانين ، سيتصرف بالسيارة بصورة مختلفة تماماً ، فهو يعرف كيف يشغلها ، وكيف يحركها ، وكيف يجعلها تحمل متاعه ، وتجري به بسرعة كافية ، تعينه على توفير الوقت ، وتقريب المسافات .. فهذا الإنسان اكتسب بعلمه بالسنن ، التي تحكم عمل السيارة هامشاً إضافياً من حرية الحركة في هذا العالم ، كما اكتسب قوة جديدة أضيفت إلى قوته الجسدية ، فأصبح قادراً على بلوغ أماكن ، وتحقيق أهداف ، لم يكن ليبلغها أو يحققها بقوته الجسدية وحدها.
الحرية والعلم بالسنن
وعلى هذه الشاكلة من المعرفة بالسنن يكتسب الإنسان المزيد من الحرية في هذا العالم .. ونستشف من خلال استعراض الخلق في القرآن الكريم أن الإنسان أول ما أوجده الله فوق هذه الأرض أصيب بخيبة أمل كبيرة ، فبعد أن كان يعيش في الجنة سيداً ، ينعم بحرية مطلقة .. أهبط إلى الأرض ليجد نفسه فجأة في عالم يتنكر له ، عالم مختلف تماماً عن عالم الجنة ، لأن كل ما فيه عصي على الأمر المباشر .. كان آدم في الجنة يأمر فيطاع .. أما هنا في عالم الأرض فإن الأمر وحده لم يعد يكفي للوصول إلى الهدف ، بل لابد من جهد ، وعلم بالقوانين ، أو السنن ، التي تحكم هذا العالم .. وهكذا وجد آدم نفسه فجأة مقيداً داخل حدود السنن .. ووجد نفسه بسبب جهله بسنن العالم الجديد خاضعاً لسيطرة المخلوقات الأخرى ، والتي كانت أكثر منه عدداً ، وأشد قوة ! فاحتار :
- ماذا يصنع ؟
- أيستسلم ؟
- أيقف مكتوف اليدين أمام هذا الواقع الجديد ، الذي اختاره بنفسه طائعاً ؟
- أم يتحرك ليسترد حريته من جديد ؟
ولم تطل به الحيرة ، فاختار - بما وهبه الله من عقل - أن يتحرك ، وراح يواجه العالم المحيط به ، بكل ما آتاه الله من عزم وتوق إلى الحرية ، فأخذ يفك طلاسم الوجود ، ويكشف من أسراره ما شاء الله له أن يكشف ، فاهتدى إلى معرفة الكثير من السنن ، التي على نهجها تسير الحياة ، وبهذه المعرفة السننية ، تمكن من تسخير العالم المحيط به ، وتحرر من السيطرة التي كانت مفروضة عليه ، وشيئاً فشيئاً راحت تتوسع دائرة حريته ، حتى تمكن في النهاية من قلب الموازين ، وتغيير المعادلات ، فأمسى العالم الذي كان يفرض عليه سيطرته رهن أوامره هو !
ما مدى حريتنا في عالم اليوم ؟
ويمكن أن نوسع مفهوم الحرية كما قدمناه ، لننظر على ضوئه إلى أزمتنا الراهنة .. فبعد عصور التخلف والانحطاط والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. التي تعاقبت على أمتنا ، أصابنا الوهن ، وقعدت بنا الهمة عن متابعة الدرس والبحث ، والسير في الأرض ، لكشف المزيد من السنن الكونية ، التي كان يمكن أن نستفيد من تسخيرها في عمارة الأرض ، وتشييد الحضارة الإنسانية التي نتوق إليها ..
وكان من نتيجة تخلفنا أننا أصبحنا اليوم نقف أمام ما استجد في العالم من اكتشافات واختراعات وحقائق ، موقف ذلك الذي وقف خائفاً مهزوماً أمام السيارة ، لا يدري ما طبيعتها ، ولا كيف يتعامل معها !
وأما ( الآخرون ) فقد انطلقوا بالمقابل يبحثون ويدرسون ويجربون ويكتشفون ، حتى عرفوا الكثير من سنن الوجود ، فكسبوا بذلك هامشاً رائعاً من الحرية .. هذا في الوقت الذي ضاقت فيه مساحة الحرية ( المتاحة ) لنا .. فانتهت بنا هذه المعادلة غير المتكافئة ، أن أمسينا تابعين غير متبوعين ، وهذا جانب هام من أزمتنا جدير بوقفة تأمل طويلة !
ويخطئ من يظن أن سبب أزمتنا الراهنة نقص في الطاقات المادية .. فإن هذه الطاقات مبثوثة في الأرض كلها ، حتى لا تكاد تجد دولة من دول العالم إلا وتجد فيها من الثروات والطاقات ما يغنيها ويكفيها ، لتعيش حياة حرة كريمة هانئة .. وربما كانت بلادنا من أغنى الأرض من حيث خصوبة أراضيها ، ووفرة الثروات المخبوءة فيها .. فما الذي ينقصنا إذن؟
إن الذي ينقصنا حقاً هو موقف متجدد من الحياة ، ونظرة متجددة إلى واقعنا .. موقف متجدد ونظرة متجددة ينطلقان على هدى التوجيه الرباني الحكيم (قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(يونس: 101) فلقد غفلنا عن هذه الدعوة الربانية أمداً بعيداً ، وقصرنا في دراسة السنن التي جعلها الله سبباً لتسخير هذا الكون .. ويوم نعاود البحث والدرس ، ونفهم طبيعة هذه السنن ، ونهيئ الشروط اللازمة لتسخيرها .. فيومئذ يمكن أن تنفتح السبل أمامنا ، وتنهار الحواجز التي قيدت حريتنا عصوراً طويلة !
=============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق )2 - - العلم
. الصلة وثيقة بين ( العلم ) ، وبين السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، فالقوانين التي قامت عليها العلوم المختلفة ، ترتكز على أساس من فهم السنن ، بل إن القوانين التي ثبتت صحتها بدليل قطعي ، ما هي إلا صياغة بشرية ، لما اكتشفه الإنسان من السنن الربانية ، التي تحكم كل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود !
ومن المعروف أن القانون العلمي يمر بمراحل عدة ، قبل أن يصاغ صياغة نهائية ، وقبل أن يصبح قابلاً للتطبيق العلمي ( أو التسخير ) ، وهذه المراحل هي :
أ - الملاحظة : إذ يلاحظ الباحث من خلال تأملاته بالطبيعة ، أو من تجاربه في المختبر ، أن هناك ظاهرة ما تتكرر في وتيرة واحدة ثابتة .
ب - الفرضية : وبناء على معطيات الملاحظة الأولية يضع الباحث فرضية لتفسير الظاهرة التي استدعت انتباهه .
ج - البرهان : وبعدئذ يصبح على الباحث لزاماً أن يستيقن من صحة الفرضية ، التي وضعها لتفسير الظاهرة ، وفي سبيل ذلك لابد أن يبحث عن العوامل ، التي لها علاقة مباشرة بهذه الظاهرة ، وقد يتطلب ذلك منه إجراء بعض التجارب المعملية للبرهنة على صحة ما توصل إليه من معرفة العناصر والعوامل والظروف في حدوث الظاهرة .
د - القانون : فإذا ما نجح الباحث في إعادة تشكيل الظاهرة نفسها فإنه يكون قد فهمها فهماً صحيحاً وعلم حقيقتها علماً يقينيّاً ، أي أنه يكون قد علم السنة التي تحكمها .. وحينئذ يصبح قادراً على أن يصوغ القانون العام الشامل الذي يحكم هذه الظاهرة ، ويحكم كذلك كل الجزئيات المماثلة لموضوع هذه الظاهرة .
ويعد هذا المنهج في البحث هو الأساس الذي قامت عليه العلوم المختلفة .. أي أن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هو معرفة السنن التي تحكم هذا الكون .
.. ومما لا ريب فيه أن وضع العلماء للقوانين ، وتعميم هذه القوانين بعد ذلك على الصورة التي قدمناها ، سوف يفقد مبرراته ومصداقيته ، ويغدو بلا معنى ، لو لم تكن السنن الربانية متصفة بالثبات ، وعدم التبدل والتحول ، فلولا هذه الصفات لما أمكن لأي باحث أن يضع نظرية ، أو يقرر قانوناً علمياً له صفة العموم والشمول ، ولما كان ممكناً أيضاً قيام أي من العلوم البشرية المعروفة اليوم ! وهذا ما يؤكد أن ثبات السنن يشكل الأساس الأول في بنية العلوم ، لأن ثبات السنن هو الذي جعل من الأمور المسلم بها لدى العقل البشري ، أن القانون الذي يصدق على مجموعة معينة من مجاميع الطبيعة ، يصدق كذلك على المجموعات الأخرى المماثلة لها .. ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:(9/91)
فقد لاحظ العلماء مثلاً أن عنصر الأكسجين يتحد مع عنصر الهيدروجين بنسبة معينة ليتكون من هذا الاتحاد جزئيات الماء ، وفق المعادلة التالية:
H2 + O2 = 2H2O
ثم لاحظ العلماء أن الأكسجين نفسه يتحد مع الكربون بنسبة مختلفة عن النسبة التي اتحد بموجبها مع الهيدروجين ، فينتج من ذلك ثاني أكسيد الكربون كما يلي:
C + O2= CO2
ثم عرف العلماء أن هذه الظاهرة تتكرر في بقية العناصر الكيميائية ، فيتحد كل عنصر مع العناصر الأخرى ، وفق نسب معينة تتعلق بالأوزان الذرية لهذه العناصر .. وعندئذ توصل العلماء إلى معرفة السنة، التي يتم بموجبها اتحاد العناصر الكيميائية بعضها مع بعض ، وأطلقوا على هذه السنة اسم ( قانون النسب) الذي يحمل اليوم اسم الكيميائي (دالتن) .
ونأخذ مثالاً آخر من علم الاجتماع .. فعندما لاحظ الباحثون الاجتماعيون أن تفشي ظاهرة اجتماعية معينة في أحد المجتمعات يؤدي إلى حدوث تغييرات واضحة المعالم في بنية هذا المجتمع .. وعندما لاحظوا أن تلك الظاهرة نفسها تؤدي لحدوث نفس التغييرات في المجتمعات البشرية الأخرى .. عندئذ أيقنوا أن حياة المجتمعات قاطبة محكومة بنوع من السنن الصارمة التي تحكم تطورها واتجاهها .. وبناءً على هذه المعطيات استطاع هؤلاء الباحثون تحديد معالم بعض السنن الاجتماعية ، ووضعوا على أساسها أصول ( علم الاجتماع ) !
ومن هنا .. يمكن أن نخرج بتعريف أولي للعلم على ضوء علاقته بالسنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، فنقول : ( العلم : هو المعرفة اليقينية بالسنن ، التي تحكم جزئية من جزئيات هذا الوجود ) وهذا التعريف للعلم يحدد لنا المسألة تحديداً دقيقاً ..
فلا يصح أن أدعي بأن عندي علماً بقضية ما من القضايا ، ما لم أكن قد عرفت يقيناً السنة التي تحكمها ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن معرفة السنة التي تحكم ظاهرة ما ، تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة المحيطة بها ، وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقاً من تلك العوامل والشروط .. وبمعنى آخر : فإن العلم بظاهرة ما من ظواهر الوجود يعني أمرين اثنين :
1 - القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤاً يقينياً ، وليس مجرد ظن ، لأن الظن قد يصيب وقد يخطئ ، ويعني كذلك أننا لم نحط بالظاهرة إحاطة تامة .
2 - القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها ، التي سبقت معرفتنا بها .
وهذا هو العلم اليقيني ، الذي لا يدانيه باطل .
وهذا هو العلم النافع ، الذي يمكن به تسخير العالم المحيط بنا تسخيراً صحيحاً .
وهذا هو العلم الذي يحثنا القرآن الكريم على تحصيله ، وذلك من خلال عدد كبير من الآيات .. فقد وردت كلمة ( العلم ) بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد عن سبعمائة آية ، مشفوع معظمها بالدعوة إلى التأمل في آيات الله ( أو سننه ) على بصيرة ، ووفق المعايير العلمية المبرأة من الظن والهوى!
وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية الحكيمة أثر هام في تشكيل العقلية الإسلامية ، التي استطاعت فيما بعد إرساء قواعد البحث العلمي ، وأصول المنهج التجريبي ، لأنها أصبحت تنظر إلى الكون نظرة جديدة لا تكتفي بمجرد الدهشة والانبهار ، عند اكتشاف سر من أسرار الخلق ، أو سنة من سنن الخلق .. بل أصبحت تنظر إلى الوجود نظرة علمية إيجابية ، تستهدف فهم السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، ومن ثم تسخير هذه السنن ، و الاستفادة من معطياتها في تصريف شؤون الحياة ، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به رب العزة سبحانه .
علم الكتاب:
والحق .. أن القرآن الكريم لم يقف بالمسلمين عند هذه الحدود في حثهم على العلم ، بل تجاوز ذلك إلى تحريض العقلية الإسلامية على التحليق نحو آفاق أبعد وأرحب ، حين تحدث حديثاً مسهباً عن واقعة خارقة للعادة ، ثم ربطها ربطاً مباشراً بقضية العلم ، وتلك هي قصة نبي الله ( سليمان ) عليه السلام مع (بلقيس) ملكة ( سبأ ) التي طلب من جنوده إحضار عرشها قبل أن تأتيه وقومها مسلمين ، فتصدى لهذه المهمة الصعبة واحد من الجن (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين )(النمل: 39) ، لكن سليمان عليه السلام كان يطمح للحصول على العرش بأسرع من ذلك ، فراح ينظر فيمن حوله متسائلاً عمن يستطيع تحقيق حلمه ، وعندئذ (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )(النمل: 40) ، وما هي إلا لحظات خاطفة حتى كان العرش الثمين بين يدي النبي عليه السلام !
وواضح من خلال السرد القرآني البليغ لهذه القصة الطريفة ، أن قضية إحضار العرش من أقصى اليمن، حيث كانت تعيش الملكة بلقيس ، إلى فلسطين ، حيث كان يعيش نبي الله سليمان ، كان أمراً معجزاً خارقاً للعادة آنذاك ، يوم لم يكن معروفاً من وسائل التنقل غير الدواب .. لكن الملفت للنظر حقاً ، أن القرآن الكريم لم يعرض الواقعة بوصفها أمراً معجزاً وكفى ، بل عرضها عرضاً متميزاً يدعو للتأمل والتدبر، إذ نجده يؤكد على دور العلم في القضية ، نلمح ذلك من خلال معالجة كل من العفريت والذي عنده علم من الكتاب لهذه القضية .. فالعفريت من الجن أراد إحضار العرش معتمداً على قدراته الجسدية ، التي منحه الله إياها خلقة فقال: (وإني عليه لقوي أمين ) وأما ( الآخر ) الذي أحضر العرش فعلاً خلال زمن قياسي قصير جداً فقد لجأ إلى ( العلم ) الذي تشير الآية الكريم إلى أنه (علم من الكتاب) !
وقد اختلف المفسرون في بيان حقيقة هذا الكتاب ، فقال بعضهم : إنه التوراة . وقال بعضهم الآخر : إن الذي أحضر العرش كان يعرف اسم الله الأعظم . وقال آخرون أقوالاً غير هذا وذاك ودون تعليل مستيقن ، ونحن نرى أن الأمر أقرب وأظهر من ذلك كله ، حين ننظر إليه بمنظار الواقع الملموس .. فكم في هذا الكون الرحيب من أسرار نجهلها .. وكم فيه من سنن لا ندركها .. وحينما يشاء الله عز وجل أن يكشف شيئاً من ذلك ، فإنه يهدي من يشاء إلى ( السر ) ، ويرشده إلى فهم بعض السنن الكونية التي يحصل من تسخيرها ما يبدو لنا - نحن الجاهلين بذلك السر - أنه خارج عن المألوف ، خارق للعادة !
وعل هذه الشاكلة يمكن أن نفهم كيف حقق ذلك العبد ( الذي عنده علم من الكتاب ) تلك الخارقة العظيمة في نقل عرش الملكة آلاف الأميال خلال لحظات خاطفة !!
واليوم .. نحن نعيش هذه الثورة العلمية ، التي تطلع علينا كل صباح باختراعات وإنجازات مذهلة ، نجد أنفسنا وقد أصبحنا أقرب إلى فهم تلك الواقعة التي حدثنا القرآن عنها ، كما أصبحنا ندرك إدراكاً مباشراً لماذا ربطها بقضية ( العلم ) ، وبخاصة أن العلم الحديث قد أتاح لنا تحقيق منجزات تقارب تلك الخارقة في عظمتها ، وذلك بفضل الله الذي هدانا إلى كشف الكثير من السنن ، التي مهدت لنا صنع الطائرات النفاثة ، والمركبات الفضائية ، القادرة على الطيران بسرعات تتجاوز الصوت بمرات ومرات !
وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخراً أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت فعلاً بتنفيذ مشروعها الطموح لإنتاج ( قطار الشرق السريع الجديد ) وهو في الواقع ليس قطاراً بل طائرة صاروخية تفوق سرعتها سرعة الصوت بنحو ( 25 مرة ! ) تستطيع مثلاً قطع المسافة القصية ما بين ( لندن ) في إنجلترا و( سيدني ) في استراليا بأقل من ( 45 دقيقة ! ) وهذه المسافة تزيد أضعافاً مضاعفة عن المسافة التي نقل عبرها عرش بلقيس !!(9/92)
وهذا يعني أن الإنسان - بما حصله حتى الآن من علم بسنن الطيران - قد تجاوز سرعة الجن ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) وسوف يواصل الإنسان - بإذن الله - رحلة بحثه هذه حتى يقترب أكثر فأكثر من تحقيق السرعة القرآنية الأخرى ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) التي بدأنا نلمح بعض تباشيرها فيما توصل إليه حتى الآن ، من اختراعات فذة في مجالات الاتصال اللاسلكي ، إذ أصبح التلفزيون مثلاً قادراً على نقل الأحداث إلينا لحظة حدوثها في أية بقعة من بقاع الأرض ، أو الفضاء البعيد .. كما أن وسائل الاتصال الإلكتروني يسرت لنا اليوم نقل الرسائل المكتوبة عبر الهاتف فيما يعرف بـ (الفاكسميلي) وهذه كلها بعض تباشير تحقيقنا لتلك السرعة القرآنية التي أشرنا إليها!
ونعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم الذي لا تنتهي عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، لكي نتوقف عند هذا البيان المعجز في قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أن آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )(النمل: 40) فإن هذه الآية لم تبين لنا شخصية ذلك الذي (عنده علم من الكتاب) أبشر هو أم جني ؟! وهي لفتة جديرة بالتأمل ، وأن نقف عندها طويلاً ، ونجعلها مع الإشارة السابقة إلى (الكتاب .. بهذا اللفظ المعرف المبهم !) دليلاً قوياً على وظيفة العلم في عملية التسخير .. وكأن الآية الكريمة تريد أن توحي لنا بأن العلم ما هو إلا (كتاب) مبثوثة حروفه وكلماته في أرجاء هذا الكون الفسيح ، وما على الذين يريدون الاستفادة مما في هذا الكتاب إلا أن يحسنوا القراءة فيه .
وهم - بطبيعة الحال - لن يحسنوا القراءة أبداً إلا أن يسيروا في الأرض بقلوب مبصرة ، ونفوس تواقة للمعرفة ، على هدي التوجيه الرباني الحكيم (قل انظروا ماذا في السموات والأرض )( يونس: 101) ، لكي يتفكروا في السنن التي تحكم هذا الوجود ، ويستجلوا حقيقتها في الآفاق وفي أنفسهم ، ثم يعملوا على تسخيرها كما أمرهم بذلك رب العزة سبحانه ! وبهذا المنهج يمكن أن نهتدي - بإذن الله - إلى السنن التي على نهجها تسير الحياة .. وهذا هو الطريق الصحيح للوصول إلى ( العلم ) الحقيقي الذي سوف يحقق لنا في المستقبل ما نراه اليوم مستحيلاً !
==============
3( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق )- - علم الغيب
* الغيب : خلاف الشهادة .
* وكل ما غاب عن إدراكنا فهو غيب بالنسبة لنا .
* والغيب غيبان :
أ - ( غيب مطلق ) ويشمل كل المغيبات المتعلقة بالعالم الآخر ، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نعلمه علماً يقينياً عن طريق واحد لا ثاني له ، وهو طريق الوحي الثابت الصحيح ..
ب - ( غيب نسبي ) ويشمل المغيبات في عالم الشهادة التي تتعلق بالماضي أو بالحاضر ، وهي مغيبة عنا إما بسبب وجود مانع يحول دون علمنا بها ، أو لأن الوسائل التي بين أيدينا لا تسعفنا في الكشف عنها ، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نتوصل لمعرفته بصورة يقينية قاطعة ، بوسائلنا الخاصة .
ومن المعروف أن الإنسان تطلع منذ وقت مبكر من تاريخه إلى عالم الغيب ، وتثبت سجلات التاريخ أن الإنسان قام بمحاولات كثيرة جداً لكي يستشف آفاق المستقبل ، وتشير الآثار القديمة ، وبعض الأساطير والحكايات إلى تلك المحاولات ، التي لا نشك أبداً أنها باءت بالفشل لأنها اعتمدت على الظن أو الخيال ، ولم تلتفت إلى دور العلم في هذه المسألة.
ولقد سبق الحديث عن أن العلم يعني المعرفة اليقينية بالسنن الربانية ، التي تحكم ظاهرة من الظواهر الكونية ، وأن السنن ذاتها تقوم على أساس أولي من ارتباط العلة بالمعلول ، أو ارتباط النتيجة بالسبب ارتباطاً لازماً ، وهذا يعني أن اجتماع أسباب معينة يؤدي إلى نتيجة معينة بإذن الله .. وانطلاقاً من هذه الحقيقة ، يمكن أن يكتسب الإنسان قدرة ما على التنبؤ بأمور مغيبة عنه ، فعندما تتوافر لديه مجموعة من القرائن أو المقومات أو الأسباب ، فإنه يمكن أن يتنبأ بالمغيبات ، التي ترتبط بها من النتائج ، كأن يتنبأ مثلاً بهطول المطر عندما تتراكم الغيوم في السماء ، وتتهيأ الظروف الجوية المواتية ، أو يتنبأ بحدوث زلزال عندما تشير أجهزة الرصد الجيولوجية إلى حدوث تحركات في طبقات الأرض ، أو يتنبأ بإصابة إنسان ما بمرض معين ، بعد تعرضه للعدوى من مصدر معروف .. وهكذا .
إلا أن تنبؤ الإنسان على هذه الصورة يبقى ناقصاً لسببين اثنين :
أ - لأن هذا التنبؤ قابل للخطأ والصواب ، بمقدار ما يكون الإنسان قد عرف من شروط وظروف الظاهرة التي يحاول التنبؤ بما وراءها .
ب - لأن هذا التنبؤ ليس أولياً ، أي أن الإنسان لا يعلم الغيب علماً أولياً بلا مقدمات ، بل هو يتنبأ اعتماداً على أساس ارتباط النتيجة بالسبب ، ولهذا تبقى نبوءته ناقصة .. فهي ليست كعلم الله بالغيب ، لأن علم الله عز وجل هو علم أولي تام لا يدانيه الخطأ أبداً ، ولا يقف دونه مانع ، فهو علم غير مرتبط بزمان ولا مكان ولا أسباب ، فالله سبحانه يعلم ما كان ، وما هو كائن ، وما سوف يكون (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )(الأنعام: 59 ) ، ولا عجب ، فالله عز وجل هو الذي خلق الخلائق كلها، وقدر الأسباب والنتائج ، وأحاط بكل شيء علماً (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )(سبأ: 3) .
ويرجع اهتمامنا بالبحث في العلاقة ما بين سنن الله في الخلق وبين معرفة الغيب ، إلى أن هذه العلاقة يمكن أن تمدنا بقدرات باهرة لم نكن نملكها من قبل ، وتفتح أمامنا آفاقاً لم تكن مفتوحة .
ومما لا ريب فيه أن الإنسان عندما بدأ الاهتمام بالبحث العلمي ، واكتشف أن مخلوقات الله جميعاً تخضع لسنن ثابتة مطردة لا تتخلف ، قد اكتسب من خلال ذلك رؤية جديدة للعالم ، الذي يعيش فيه ، فراح على ضوء رؤيتة الجديدة هذه ، يتعامل مع الكون تعاملاً أكثر إيجابية وفعالية ، إذ أمدته معرفته بسنن الله بقدرات إضافية ، أعانت على التنبؤ بوجود ظواهر ومخلوقات ، لم يكن يعلم عن وجودها شيئاً من قبل .. ولعل خير مثال على هذا ما حدث مع العالم الروسي الشهير (مندلييف) الذي وضع الجدول الدوري للعناصر الكيميائية عام 1869م .. فقد لاحظ هذا العالم أن ذرات العناصر التي كانت معروفة في زمانه تتركب وفق نظام ، أو سنة معينة ، اذ يتعقد تركيبها بالتدريج واحداً بعد الآخر ، فقد وجد مثلاً أن أبسط العناصر هو ( الهيدروجين ) وتتركب ذرته من نواة فيها بروتون واحد ونترون واحد ، ويدور حولها بروتونان يدور حولهما الكترونان .. وهكذا يزداد تركيب العناصر تعقيداً واحداً بعد الآخر إلى نهاية الجدول ، وفق سنة مطردة تدل على النظام البديع الذي ركبت الذرات على أساسه .
وقد درس مندلييف العناصر الكيميائية التي كانت معروفة في زمانه ، ثم رتبها في جدول بحسب تركيبها الذري ، من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً ، فلاحظ خانات في الجدول ظلت فارغة ، ولما كان مندلييف واثقاً من وجود قانون صارم ( أو سنة ) يحكم تركيب هذه العناصر وفق نظام مطرد ، فقد استدل من هذه الخانات الفارغة على وجود عناصر في الطبيعة ، لم تكتشف بعد ، وبعد دراسة عميقة ، وبحث شاق استطاع مندلييف ، أن يقدر بعض صفات العناصر المغيبة ، وقام بوضع تقرير مفصل عنها ذكر فيه خصائصها ، التي تنبأ بها بناء على موقعها من الجدول .(9/93)
وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى جاءت الاكتشافات ، فأكدت صدق ما تنبأ به مندلييف ، ففي عام 1875م اكتشف عالم فرنسي أحد العناصر التي تنبأ بوجودها في الطبيعة ، وأطلق عليه اسم ( غاليوم ) نسبة إلى بلاد الغال حيث اكتشف هذا العنصر ، وفي عام 1879م اكتشف عالم سويدي عنصراً آخر من تلك العناصر ، أطلق عليه اسم ( سكانديوم ) وبعدها اكتشف عالم ألماني العنصر الثالث ، عام 1887م وأطلق عليه اسم ( جرمانيوم ) نسبة إلى ألمانيا .. وكانت خصائص هذه العناصر المكتشفة مطابقة للخصائص التي تنبأ بها مندلييف إلى درجة تبعث على الدهشة !
وبمثل هذا الفهم لطبيعة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق ، يمكن أن يكتسب الإنسان القدرة على التنبؤ ببعض ما سوف يجيئ به في المستقبل ، ومن هذا المنطلق راح علماء الاستشراف المستقبلي يحدثوننا في ثقة تامة عن الغد وكأنهم يرونه عياناً .. ومن ذلك مثلاً ( أن علماء الفلك يتنبأون بأن الليل والنهار لن يظلا على ما هما عليه اليوم بعد مرور خمسة آلاف مليون سنة مثلاً ، فهم يتنبأون أن اليوم بعد هذا العمر الطويل لن يكون 24 ساعة بحساباتنا الحالية ، بل سيصير 36 ساعة ، وهذه الحسابات لا تأتي هكذا اعتباطاً ، لأن العوامل الكثيرة التي تتسلط على أرضنا تؤدي إلى إبطاء دورانها حول نفسها ، وإبطاء الحركة ينعكس على إبطاء الزمن ، بحيث يؤدي ذلك إلى جعل يومنا الحاضر أقصر من غدنا بحوالي 000.000.25/ثانية أي 25 جزءاً من ألف جزء من الثانية .. ويتنبأ العلماء كذلك بحصول أطول كسوف للشمس ( سيستمر لمدة سبع دقائق و28 ثانية ) وذلك يوم 16 تموز (يوليو) عام 2186م أي بعد حوالي 196 سنة ( أطال الله في أعماركم ) وكلنا نذكر دون ريب المذنب الشهير (هالي) الذي ظهر في سمائنا يوم 9 شباط ( فبراير ) من عام 1986م في تمام الساعة التاسعة والنصف ، والذي استعد العلماء لظهوره ورصده ، قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة ، لأنهم كانوا يعلمون موعد تشريفه!
وهناك إلى جانب ما ذكرناه تنبؤات عديدة لا تقل غرابة وإثارة .. نذكر منها ما يلي:
يقول العالم ( ريتشارد سيلزر ): ( إن أهم التطورات التي ستفضي إليها البحوث في العشرين سنة المقبلة ، ستكون بلا شك العقاقير المضادة للفيروسات ، واللقاحات التي ستؤدي إلى انقراض الأمراض السارية من على وجه الأرض .. أما علم الهندسة الوراثية ، فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية ، التي ضربت المجتمعات منذ زمن بعيد .. يقيني أن التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة الموروثات البشرية ستخلف سلالات بشرية متفوقة ، وأن هذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم . وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي هناك تنبؤات أكثر غرابة وأبعد شأوا ، يقول الأستاذ ( تيموتي ليري ).. سوف نشهد في العقود المقبلة اضمحلال السياسات الحزبية ، فهذه من مخلفات العهود الإقطاعية ، أو من بقايا العصر الصناعي ، في أحسن الأحوال ، فمن الجنون أن يتم حكم أمريكا مثلاً - وهي ذلك المجتمع التكنولوجي المعقد والتعددي - على هذه الصورة المتخلفة .. سوف نصبح كلنا مسؤولين ومشاركين في الحكومة ، وسنقوم بالتصويت الإلكتروني ، ومن منازلنا ، ولن نحتاج إلى مرشحين حزبيين مخاتلين ، يلعبون على أوتار معتقداتنا وعواطفنا !
ويقول أيضاً : ( في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح في الأسواق مئات الأصناف المتطورة من (النواقل العصبية) التي تسمح بتنشيط الدماغ ، وتحسين الأداء الفكري ، وتعديل المشاعر والأحاسيس ، بالكيفية التي تريد ، وستظهر كذلك (أجهزة الراديوات الدماغية) القادرة على التقاط الموجات الكهربائية الصادرة عن الدماغ ، وتعديل كيفيتها ، بحيث يمكن تسريع عملية التفكير أو إبطائها ، وهذه الأجهزة سوف تعيننا على التفكير بوضوح ، وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل، وهكذا أخذت تظهر يوماً بعد يوم تنبؤات جديدة لعلماء الاستشراف المستقبلي ، لتضيء لنا صورة المستقبل شيئاً فشيئاً ، حتى كأننا نراه عياناً .. ، وهي ليست مجرد تنبؤات للتصدير الإعلامي ، بقصد التشويق والإثارة ، بل هي في الحقيقة تشكل الهيكل الأساسي للبرامج ، التي تعتمد عليها شركات الإنتاج والتصنيع ، التي أصبحت بسبب تسارع إيقاع العصر ، تهتم بالمستقبل ، ربما أكثر مما تهتم بالحاضر ! وهذه التنبؤات ليست تنبؤات منجمين يضربون بالرمل ، ولا شطحات شعراء يهيمون وراء الخيال .. بل هي تنبؤات تقوم على أسس راسخة من المعرفة الصحيحة بطبيعة السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .. فهذه المعرفة هي التي أمدت العلماء بقدرات عظيمة ، استطاعوا بها استشراف آفاق المستقبل ، واستنكاه ما سوف يقع فيه من أحداث، وما سوف يطرأ عليه من تحولات بالغة الغرابة.
ومما لا ريب فيه أن مثل هذه التنبؤات ، ستعطي العلماء بعداً جديداً للحركة ومجالاً أرحب للفكر النظري والتطبيقي ، مما سيعينهم بإذن الله على وضع البرامج المستقبلية ، الكفيلة بمواجهة التغيرات القادمة ، بصورة أكثر فعالية ، وأقدر على الاستفادة من عامل الوقت ، وتجنبهم الأخطار القادمة ، لأنهم يكونون قد أخذوا حذرهم تجاهها ، بل قد يستطيعون تسخير هذه الأخطار لصالحنا نحن البشر ، بدل أن نكتوي بنارها!
وكما قالوا ( من عرف لغة قوم أمن شرهم ) وكذلك هي معرفتنا بالمستقبل ، فهي تجعلنا نأمن شره ، وتقلل من أخطائنا ، وتجعلنا نتعامل معه تعامل الصديق ، الذي يعرف صديقه جيداً .. ولا سبيل إلى هذه المعرفة بالمستقبل غير السير في الأرض ، واستكشاف السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه !
============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 4 - - الخير والشر
.. بينا في فصل سابق أن الله عز وجل خلق هذا الكون البديع ، وبث فيه من المخلوقات أنواعاً كثيرة لا تعد ولا تحصى .. وذكرنا أن هذا التنوع في الخلق ، يستتبع وجود نوع مماثل في السنن التي تحكمه .. وقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن تكون هذه السنن موافقة لطبيعة الأمانة ، التي وكل الإنسان بها .. كما اقتضت حكمته أن يترتب على الأخذ بهذه السنن نتائج خيرة ، إذا ما أخذ الإنسان بها على الوجه الذي بينه الشارع الحكيم ، وأما إن أخل الإنسان بهذا الشرط ، فإن النتائج تنقلب شراً والعياذ بالله ..
ومن هنا كان الحلال والحرام في شريعة الله ، وكانت ضرورة إرسال الرسل إلى الناس لكي يبينوا لهم طريقة الأخذ بالسنن ، التي تعينهم على أداء الأمانة العظيمة ، التي خلقوا من أجلها .. وهذه من أعظم نعم الله على الخلق ، فلو أنه تركهم يعيشون في هذه الحياة بلا زاد ولا مرشد ، لتاهوا وضلوا .. ولكنه - بسبب رحمته الواسعة - أرسل إليهم من يرشدهم إلى الطريق ، ويدلهم على كيفية التعامل مع هذه الحياة تعاملاً يثمر الخير والصلاح !
* ونضرب للأمر مثلاً ..(9/94)
فقد قدر الله عز وجل لبقاء النوع الإنسان سنة تقوم على التقاء الرجل بالمرأة ، وغرس في كل من الجنسين ميلاً وشوقاً وتعلقاً بالآخر ، حتى تفعل هذه السنة فعلها ، وتحقق الهدف المنشود منها .. ولكن الله عز وجل لم يدع هذه السنة رهن الميل الجنسي وحده ، بل جعل لها شروطاً عديدة ، ، لابد من مراعاتها ، حتى تؤدي السنة وظيفتها على الوجه الصحيح ، وحتى تعود بالخير على الزوجين والأولاد ، الذين يأتون ثمرات لهذه العلاقة بين الرجل والمرأة .. ونحن لا نريد أن ندخل في الحديث عن كل الشروط التي اشترطها الشارع الحكيم للعلاقة الزوجية ، فهي كثيرة ، ولكننا سنكتفي بالوقوف عند الشروط الغريزية (الفسيولوجية) لكي نبين بعد ذلك ما ينتج عن الإخلال بهذه الشروط التي منها :
- ألا تكون الزوجة من المحرمات ، كالأخت ، وبنت الأخ وبنت الأخت ..
- ألا ترتبط المرأة - في وقت واحد - بأكثر من زوج واحد .
- فإن أرادت الزواج بآخر ، لوفاة الأول أو لطلاقها منه ، فلابد لها من الانتظار فترة (عدة) قبل أن ترتبط بالآخر .
- فإن أراد زوجها أن يواقعها فلا يحل له أن يواقعها إلا في طهر .
- ولا يحل له أن يأتيها إلا من حيث أمر الله .
وهكذا نجد أن الأحكام الفرعية ، بينت مجموعة من الشروط الكفيلة - بإذن الله - بوقاية الزوجين من الأضرار والأمراض ، التي تنشأ عادة من العلاقات الجنسية المحرمة ، والتي أقلها الأمراض الجنسية الفتاكة ، التي يلاحظ تفشيها بين الزناة خاصة .
* مثال آخر ..
ونذكر أن الإشعاع الذري الذي اكتشفت قوانينه وطبيعته في مطلع هذا القرن ، أصبح خاضعاً الآن للتسخير من قبل العلماء .. وقد وجدنا أن هؤلاء قد سخروه تارة في الخير ، وذلك حين استخدموه لتشخيص بعض الأمراض ، وعلاج بعضها الآخر .. وحين استخدموه في توليد الطاقة الكهربائية ، وفي إدارة المصانع وتشغيلها ، وفي دفع السفن والغواصات ، وهذه كلها أغراض نبيلة خيرة .
إلا أن علماء آخرين استخدموا الإشعاع ذاته في الشر ، فوضعوه في قنابل ذرية دمرت على الناس مدنهم وحضارتهم ، وما نكازاكي وهيروشيما عنا ببعيد !
وهذا يعني أن سنة الإشعاع نفسها قد سخرها الإنسان تارة في الخير .. وتارة في الشر ..
* ومثال ثالث ..
فقد خلق الله العناصر الكيميائية ، وجعل في كل منها صفات محددة ، باتت معلومة للعلماء ، وقد استطاع هؤلاء بما اهتدوا إليه من سنن الكيمياء أن يركبوا مركبات عديدة جداً من تلك العناصر ، ويكفي أن نذكر أننا يمكن أن نحصل من تلك العناصر على أدوية نافعة تدفع عنا آلام المرض وأضراره .. وهذه غاية طيبة خيرة .. كما يمكننا أن نصنع من العناصر ذاتها سموماً ومخدرات تسبب لنا شتى أنواع الضرر والأذى .. وربما الموت والهلاك ..
وأحسب أنه ظهر لنا من خلال هذه الأمثلة أننا قادرون بمشيئة الله على تسخير السنن الربانية في الخير ، أو في الشر ، فنحن أمام هذه السنن واقعون بين خيارين كما قال تعالى : (وهديناه النجدين )(البلد: 10) ، فإما أن نوجه هذه السنن نحو الخير ، وعندئذ نفوز وننجو ، ونحقق الخير ، الذي نصبوا إليه .. وإما أن نوجهها نحو الشر .. وحينئذ .. لا نلومن إلا أنفسنا ، لأن الخسارة ستكون نصيبنا لا محالة !!
وثمة أمر آخر له صلة بحديثنا عن الخير والشر ، وعلاقتهما بسنة الله في الخلق ، فقد سبق أن قلنا عند استعراض صفة الاطراد في السنن : إن السنن تمضي نحو غاياتها المقدرة ، وتقع نتائجها كالقدر المحتوم ، كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها ، فهي من هذه الوجهة مثل أصيص الزهور ، الذي يهوي من شرفة عالية ، فبعد أن يبدأ الأصيص رحلة سقوطه ، فإنه دون ريب سيمضي فيها حتى النهاية ، ولن يتوقف إلا أن يرتطم بالأرض ، أو بجسم آخر ينهي رحلة سقوطه .. وكذلك هي سنن الله في الخلق ، فهي تمضي حتى النهاية كلما توافرت شروطها .. وكما أن أصيص الزهور حين يهوي لا يميز بين أن يسقط على الأرض ، أو يسقط على رأس طفل برئ ، أو على رأس لص محتال ، أو على رأس امرأة حامل .. فكذلك سنن الله حين تتوفر شروطها فإن نتائجها قد تصيب البرئ أو المذنب من غير تمييز .. وهذه الحقيقة تضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته في الاختيار ، فما دام أنه حر في تسخير السنن وتوجيهها نحو الخير أو الشر ، فإن عليه أن يتحرى في اختياره ، خشية أن يرتكب الخطأ القاتل ، فيوجه سنة نحو الشر ، بينما كان يريد أن يوجهها نحو الخير!
=============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق )5 - - الدعاء
. ليس الدعاء مجرد ألفاظ تجري على لسان الإنسان ، بينما أفعاله تكذب ما يقول : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين .. ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يارب يارب . ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له ؟ ) وإنما الدعاء جهد واعٍ ومسؤولية .
فهو جهد واعٍ لأنه - كما أسلفنا - ليس مجرد ألفاظ تقال ، بل هو موقف نفسي متميز ، يتطلب من المرء أن ينتقل من موقفه السلبي ، الذي كان عليه حين ارتكب الخطأ ، إلى موقف ملؤه العزم والتصميم ، على تجاوز الخطأ ، والعودة إلى الحق !
والدعاء مسؤولية .. لأن العبد منذ اللحظة التي يتوجه فيها إلى ربه بالدعاء ، يصبح مسؤولاً عن موقفه ، هذا ، الذي يتضمن عهداً مع الله ، ألا يعود إلى ما كان عليه من سلوك ، وما ارتكبه من ذنب .. فإن عاد كان كالمستهزئ بربه ، وكان عهده مع الله حجة عليه !
وكما يكون الدعاء من العبد رغبة في محو ذنب ، أو تجاوز زلة ، فكذلك قد يكون الدعاء طمعاً في تحصيل نفع ، أو تحقيق مطلب ، وهو أمر مشروع دون ريب ، إلا أن له شروطاً من أهمها ألا يخالف الدعاء معلوماً من الدين بالضرورة ، وألا يبتغي مخالفة سنة من سنن الله في الخلق .. فمثل هذا الدعاء غير قابل للإجابة أصلاً ، فليس للإنسان مثلاً أن يدعو الله أن يسقط عنه أمراً معلوماً من الدين بالضرورة ، كأن يسأل الله إعفاءه من تكليف شرعي ، كالصلاة أو الزكاة أو غيرها .. وليس للإنسان أن يدعو الله ليبطل سنة من السنن التي فطر عليها أمور خلقه .. وما ظنك بإنسان يلقي بنفسه من شاهق ، وهو يرفع كفيه إلى السماء ضارعاً: (يارب أبطل سنة الجاذبية الأرضية) هل يستجاب له؟ وكذلك هي حال الذين يتجاهلون سنن الله ، ويحسبون أن مجرد الدعاء سيشفع لهم عن بارئهم ، متناسين أو متجاهلين التوجيه الرباني الصريح في هذه المسألة: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء: 123) فالمسألة ليست مجرد أدعية ولا أماني ، وإنما عمل أو لا عمل ، لأن العمل هو مناط النتائج ، فإن كان العمل متوافقاً وسنن الله كان مجدياً .. وأما إن كان مخالفاً للسنن ، فإنه لا يجدي أبدا ، بل قد تنجم عنه نتائج وخيمة !
إذن .. أين هو موضع الدعاء من حركة الإنسان وعمله .؟(9/95)
لا ريب أن للدعاء وظيفة عظيمة الأهمية في حياتنا ، ودليل ذلك تلك الآيات الكثيرة والأحاديث التي تحثنا جميعاً على التضرع لله ، وطلب المعونة منه .. (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )(غافر:60) ، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان )(البقرة: 186) ، (الدعاء مخ العبادة ) .. ولكن ليس معنى هذا أن يتوقف كل نشاط الإنسان على الدعاء وحده .. فاللدعاء مواضع يجدي فيها بإذن الله ، ومواضع لا جدوى للدعاء فيها كما سبق أن بينا .. ويكفي أن نشير إلى القاعدة العريضة التي ترتكز عليها الأعمال الناجحة ، وهي أن يستكمل الإنسان الشروط ، التي يعتقد أنها لازمة للعمل ، الذي يزمع القيام به ، ثم يقبل على العمل متوكلاً على الله ، سائلاً إياه التوفيق والرشاد .
وأما الإقدام على العمل من غير توفير تلك الشروط ، فإنه يعد إخلالاً بالقيام بمهمة الاستخلاف بالأسباب التي ناطها الله بنا.. لأن من شروط القيام بهذه المهمة أن نأخذ أولاً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ترك دابته سائبة ، وادعى أنه متوكل على الله في الحفاظ عليها : (اعقلها وتوكل ) اعقلها .. خذ بأسباب حمايتها وحفظها .. ثم توكل على الله .
وهكذا يجب أن يكون سلوكنا في هذه الحياة .. نأخذ بالأسباب ونهيئ الظروف ، ونراعي الشروط .. ثم تبقى قلوبنا معلقة بالله ، ضارعة إليه أن يسدد خطواتنا ، وأن يلهمنا الرشاد ، وأن يهدينا إلى السبل ، التي تعيننا على إنجاز أعمالنا على أحسن ما نحب ونشتهي .. وعندئذ يجدي الدعاء بإذن الله.
=============
6 -- الابتلاء والمحنة
.. لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون حياة الإنسان فوق هذه الأرض سلسلة متواصلة لا تكاد تنتهي من الابتلاءات والمحن ، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور )(الملك: 1-2 ) وهذا الابتلاء قد يكون بالخير أو بالشر: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )(الأنبياء: 35 ) وقد يكون الابتلاء للمؤمنين في سبيل تمييز المجاهدين منهم والصابرين (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )(محمد: 31) فالابتلاء يمكن أن يكون في أي شأن من شؤون الحياة ، فالله عز وجل خلق البشر ، واستخلفهم في الأرض ، ولم يتركهم يهيمون على غير هدى ، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فبينوا لهم سنن الهداية والرشاد ، وبشروهم بالفوز في الدنيا والآخرة ، إن هم أخذوا بها واتبعوها ، كما حذروهم من مخالفة هذه السنن ، وأنذروهم من عذاب الله إن هم ضلوا عنها ، وتنكبوا جادة الصواب .. فلم يعد إذن للناس من حجة بعد الرسل ، بل أصبحوا بعد الرسالات في غمرة الابتلاء والاختبار ، وغدوا مطالبين بتحري الصواب في شؤونهم كلها ، وإلا سقطوا في الامتحان , خسروا الدنيا والآخرة .. ويالها من خسارة !
وفي هذه الطريق الصعبة ، طريق الابتلاء تعترض الإنسان شدائد ومحن شتى فنجد أنه يتخذ حيالها أحد موقفين :
* الموقف الأول :
حين تصيب الإنسان شدة من غير قصد منه ، ولا إرادة ، ولا تدبير ، فهذا الموقف هو ما يصح أن نطلق عليه اسم ( الابتلاء ) ، والعبد المؤمن مأمور حين يبتلى على هذه الشاكلة أن يصبر على الشدة ، وألا يقنط من رحمة الله ، وأن يسأل الله تفريج كربه .. وهو مأجور بإذن الله على ذلك كله .
* الموقف الثاني:
حين تصيب الإنسان شدة نتيجة تدبير منه ، واختيار ، أو ممارسة فعلية خاطئة ، فهذا النوع من الابتلاء يصح أن نسميه مصيبة أو عقوبة ، حلت به نتيجة ما قدمت يداه .
ونضرب لهذين الموقفين مثالين من عالم الطب والصحة .. فالمرض يمكن أن يصيب الإنسان دون أن يكون قد عرض نفسه للأسباب الداعية للمرض ، بل قد يكون اتخذ الاحتياطات الوقائية ، التي يغلب على ظنه أنها تمنع المرض ، ولكنه مع هذا يصاب بالمرض .. ففي مثل هذه الحال نقول : إن الشخص تعرض للابتلاء .
وأما المثال الآخر ، فهو نقيض للأول ، ونشاهده عندما يصاب الشخص بالمرض نتيجة تفريطه في أمور صحته ، وعدم أخذه بأسباب الوقاية ، كأن يتناول طعاماً أو شراباً يضر بصحته ، أو يزني ، أو يتناول المخدرات .. فهذا الشخص يعد مفرطاً في أمر صحته ، ومن ثم يصح أن نعد ابتلاءه نوعاً من العقوبة ، التي حلت به نتيجة مخالفته لقواعد الصحة أو للسنن التي بها يمتنع المرض بإذن الله .
ويظهر لنا هنا الفارق الجوهري ما بين الابتلاء والعقوبة .. ويمكن أن نسوق أمثلة كثيرة لزيادة الإيضاح ، ولا بأس أن نتناول موضوع الجهاد من هذا المنظور ، وبخاصة أنه كثر الحديث حول هذا الموضوع في أيامنا الحاضرة .. فالمؤمنون مأمورون ابتداءً بالإعداد لمواجهة أعدائهم قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )(الأنفال:60 ) فبعد هذا الأمر الرباني الصريح بالإعداد لا يصح أن يغفل المؤمنون عن أخذ الأهبة ، وتجهيز ما يلزم من عتاد وعدد ، استعداداً للجهاد ، ولا يجوز لهم أن يدخلوا المعركة ضد معسكر الكفر ، إلا بعد أن يستوفوا شروط القتال ، فيخططوا للمعركة تخطيطاً دقيقاً واعياً بكل الملابسات ، ويجندوا طاقاتهم البشرية والمعنوية تجنيداً مناسباً ، حتى يغلب على ظنهم أنهم أخذوا بالأسباب ، التي تكفل لهم النصر بإذن الله .. فإن هم فعلوا هذا ، ودخلوا المعركة صابرين مقبلين غير مدبرين ، ثم لم ينتصروا ، كانت هزيمتهم حينئذ ابتلاء من الله ، لأن الهزيمة وقعت لأسباب خارجة عن إرادتهم وتدبيرهم .. والمجاهدون حينئذ مأجورون بإذن الله على جهادهم على الرغم من هزيمتهم .
وعلى النقيض من ذلك تكون حال المؤمنين ، لو أنهم دخلوا المعركة بلا إعداد ولا تخطيط ولا معرفة بأصول القتال .. لأن هزيمتهم حينئذ تكون عقوبة على ما فرطوا في أمرهم ، ولمثل هذا ألمحت الآيات الكريمات من سورة آل عمران ، والتي حملت المؤمنين مسؤولية ما أصابهم يوم ( أحد ) ، عندما قصر بعضهم ، فغادروا مواقعهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها ، وذلك طمعاً منهم في الغنيمة ، فقال الله تعالى في حق هؤلاء : (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير )(أل عمران: 165) والمصيبة التي تشير إليها الآيات الكريمات ، هي ما أصاب المسلمين يوم أحد من قتل السبعين منهم ، وأما الإشارة في قوله تعالى: (قد أصبتم مثليها ) فتعني يوم بدر ، فقد قتلوا في ذلك اليوم سبعين رجلاً من المشركين وأسروا سبعين آخرين ، وقد أرجعت الآيات سبب المصيبة التي أصابتهم يوم أحد إليهم هم أنفسهم (قل هو من عند أنفسكم )(آل عمران: 165) بمعنى أن هزيمتهم كانت عقوبة لهم على تفريطهم!
ولعلنا بهذه الأمثلة قد أوضحنا بما يكفي الفرق ما بين معنى الابتلاء ، ومعنى العقوبة ، إذ كثيراً ما يخلط الناس بين المعنيين ، فيظنون أن المصائب التي تنزل بهم نتيجة أخطاء يرتكبونها ، أو نتيجة مخالفة لسنة معروفة من السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .ز يظنون ذلك نوعاً من الابتلاء يكرمهم الله به ، فنراهم يستبشرون بما ينزل بهم ، لاعتقادهم بأن الله اختارهم للابتلاء كرامة لهم ، حتى يجزل لهم الجزاء!!
- وكان حرياً بمثل هؤلاء أن يحسوا بالندامة على ما بدر منهم ..(9/96)
- وكان الأجدر بهم أن يرجعوا إلى أنفسهم ( قل هو من عند أنفسكم ) لكي يعرفوا الخلل ، ويشمروا عن ساعد الجد ، ويبدأوا عملية التقويم ، وجبر ما انكسر ، والنهوض من السقطة !
وهذا ما يجب علينا أن نفعله عند كل شدة .. أن نعرف إن كنا في موقف ابتلاء أم في موقف عقوبة ؟ لأن الفرق ما بين الموقفين عظيم
============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق )7- - العبادة
والعبادة في الإسلام ليست الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج فقط .. بل إن كل نشاط يؤديه المؤمن يدخل في باب ( العبادة ) مادام يبتغي بهذا النشاط وجه الله .. ولقد سبق الحديث عن أن كل ما في هذا الوجود خاضع لسنن ربانية صارمة لا تتخلف .. وقد اقتضت مشيئة الله سبحانه ، أن تكون العبادة التي افترضها على عباده جزءاً من تلك السنن ، التي لا تستقيم حياتهم إلا بها ، فقد ركب الله عز وجل جبلة الإنسان من مركبين اثنين هما:
- الجسد، والنفس.
وأخضع كلا من هذين المركبين لسنن ضرورية لابد من مراعاتها حتى يصلح أمرهما .. فالجسد يحتاج إلى طعام وشراب ونوم وتزاوج ، وحاجات أخرى عديدة حتى يستطيع المحافظة على حيويته ونشاطه ، وحتى يستطيع التناسل والتكاثر للإبقاء على نوعه .. وهذه كلها سنن لازمة لوظائف الجسد ، فإن أصابها أي اختلال ، أصيب نظام الجسد بالاختلال والاضطراب .. وربما الموت والهلاك!
وكذلك هي النفس البشرية .. فهي تخضع لمجموعة من السنن التي لا غنى عنها ، حتى تحيا هذه النفس حياة سوية بعيدة عن الخوف والقلق والشقاء وشتى أنواع الاضطرابات النفسية .. وكما أن الإخلال بالسنن، التي يخضع لها الجسد يؤدي إلى اختلال وظائفه ، فكذلك الإخلال بالسنن التي تخضع لها النفس البشرية يؤدي إلى اختلال أكيد في سلوكها ، وفي استقرارها النفسي ..
وقد حذر القرآن الكريم مراراً من الغفلة عن السنن التي تصلح أمر النفس ، لأن هذه الغفلة توقع المرء في الشقاء لا محالة .. ومن الآيات البليغة ، التي دلت على ذلك قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين )(الزخرف: 36) فالغفلة عن ذكر الله وعبادته ، تفتح الباب للشيطان ، لكي يوسوس في النفس ، ويعكر عليها صفوها وهدوءها ، ويوقعها تحت وطأة القلق والهم والحزن ..
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى )(طه:134 - 136) ، فإن سنة الله هذه تقتضي أن تصبح حياة الإنسان حافلة بالضنك والتعب والنصب ، حين يغفل عن ذكر الله أو عن عبادته ، وهذه سنة ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة .
هذا وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى أن العبادات المختلفة .. من صلاة وصيام وذكر .. تؤدي بالنفس البشرية إلى السمو ، وتترفع بها عن الدنايا ، وترقى بها إلى مراتب الفلاح والنجاح ، كما قال تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر )(العنكبوت: 45) وقال كذلك : ( قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى )(الأعلى: 14 - 15 ) فالزكاة والذكر والصلاة وشتى العبادات .. سبل إلى الفلاح والسكينة وراحة البال .
ومن هنا يظهر أن العبادات في الإسلام ليست مجرد شعائر ، تقام للتقرب إلى الله فحسب ، بل هي أيضاً سنن لازمة للكيان البشري ، حتى يستكمل وظائفه على الوجه الأكمل ، ودليل هذا أن الكيان البشري سرعان ما يصاب بالتفسخ والاضطراب إذا ما امتنع عن القيام بالعبادات المفروضة عليه .. وها نحن اليوم نرى أمراض النفس وقد تفشت بصورة مروعة في كثير من بلدان العالم ، التي حادت عن منهج الله ، وانقطعت عن العبادة .. حتى باتت الأمراض النفسية فيها تشكل أوبئة خطيرة تهددها بالفناء !
ولا غرابة في ذلك ، فإن الإنسان حين يغفل عن عبادة ربه ، فإنما هو يغفل عن سنة أساسية ، لا يمكن أن تستقر حياته إلا بها .. فكما أن الإنسان الذي يمتنع عن الطعام والشراب ، لا يلبث أن تتدهور صحته وتخور قواه .. فكذلك الذين يمتنعون عن العبادة ، فإن نفوسهم لا تلبث أن تضعف وتخور .. ثم تموت .. وإذا بهم (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون )(النحل: 21) حتى وإن قاموا وقعدوا ، وتكلموا وتنفسوا ، وظنوا أنهم من الأحياء !
وهكذا حال المؤمنين .. فحين يدرك المؤمن أن أعماله كلها عبادة ، فإنه يصبح حريصاً على التزام جانب الصواب من أموره كلها ، بحيث توافق سنة الله التي سنها لعباده الصالحين .. وبهذا يكون المؤمن قد أدرك معنى الإحسان ، الذي أشار إليه الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه حين سأله جبريل عله السلام عن ( الإحسان ) فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
=============
( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق ) 8- - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية
.. عندما تناولنا بالبحث خصائص السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، خرجنا من ذلك بنتيجة ذات أهمية خاصة ، وهي أن لكل أمر في هذا الوجود سنة مخصوصة ، لا يتم إلا من خلالها ، ولا يمكن أبداً أن يتم بغيرها من السنن .
وقلنا : إننا كلما أردنا تحقيق هدف من الأهداف ، علينا أولاً أن نعرف بالتفصيل طبيعة السنة ، التي تتعلق بهذا الهدف ..
وقلنا كذلك : إن اجتهادنا في تحقيق أهدافنا يجب أن يتوجه أولاً ، وقبل أي شيء آخر ، نحو معرفة تلك السنة .. حتى إذا عرفناها معرفة يقينية ، أصبح لزاماً علينا أن نأخذ بها ، وأن نلتزم بمعطياتها ، ولا يجوز لنا أبداً - بعد ذلك - أن نختلف حول الموضوع المتعلق بهذه السنة .. لأن اختلافاً من هذا القبيل هو سبيل أكيد للفشل الذريع !
وتقودنا هذه النتيجة إلى مناقشة قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية .. ونبدأ بإيراد مثالين اثنين نعرضهما كمدخل لهذا الموضوع ، وهما تركيب الماء وإنجاب الأطفال :
فنحن نستطيع الحصول على الماء بعدة طرق ، ومنها إجراء تفاعل كيميائي بين عنصري الهيدروجين والأكسجين ، كما نستطيع الحصول على الماء من حرق بعض المواد العضوية ، حيث ينتج عن هذا الاحتراق الماء وغاز الكربون ، ومواد عضوية أخرى ، وهناك طرق أخرى للحصول على الماء ، وهذه مسألة مادية بحتة لنا الحرية الكاملة فيها ، فلا فرق ولا ضير في أن نحصل على الماء بأية طريقة من تلك الطرق ، مادام الأمر متروكاً أصلاً لاجتهادنا ، فهذا الأمر وأمثاله يدخل تحت عنوان ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) كما جاء في الحديث النبوي الشريف الذي سنعود إليه بعد قليل.
وأما المثال الآخر ، فهو إنجاب الأطفال ، فالجنين البشري يمكن أن يتخلق بإذن الله عندما تلتقي نطفة الرجل ببيضة المرأة ، وهذا الالتقاء يمكن أن يتحقق بطرق عديدة ، منها الزواج الشرعي ، المحكوم بالكتاب والسنة ، ومنها الجمع بين نطفة الزوج وبيضة الزوجة في أنابيب الاختبار ، ومنها كذلك الزنا..
غير أن مسألة الإنجاب ليست كمسألة الحصول على الماء ، فإن الإنجاب محكوم بمجموعة من الأحكام الشرعية المعروفة ، ولم يترك لاجتهادنا واختيارنا ، وأما تركيب الماء فليس محكوماً بشيء من تلك الأحكام .. مما يعني أن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للتعامل مع مسائل الحياة المختلفة ، بحيث يمكن تقسيم هذه المسائل إلى قسمين :(9/97)
1 - مسائل لا يجوز الاجتهاد فيها ، بل يجب التزام الأحكام الشرعية التي وردت بخصوصها وتضم هذه المسائل كل ما ورد فيه نصوص شرعية ، ومن الأمثلة على هذه المسائل : الصلوات الخمس ، والزكاة ، والصوم ، وتحريم الجرائم كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وما ورد فيها من عقوبات مقدرة مما هو معروف بالقرآن الكريم أو السنة النبوية .
2 - مسائل يمكن الاجتهاد فيها .. إما لعدم ورود نص فيها ، وإما لأنه ورد فيها نص ظني الدلالة ، أو ظني الثبوت ، أو ظني الثبوت والدلالة معاً .. فهذه المسائل يجوز الاجتهاد فيها للوصول إلى حكم شرعي ، أو لمعرفة السنة التي تحكمها ..
والاجتهاد ( لغة ) : بذل الجهد ، واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور ، سواء أكان حسياً كالمشي ، أو كان معنوياً كاستخراج حكم أو نظرية عقلية أو شرعية أو لغوية .. الخ.
والاجتهاد ( شرعاً ) : هو بذل الفقية أقصى الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، علماً بأن الأدلة التي يجتهد فيها هي : القرآن والسنة ، ويتفرع عن هذين المصدرين الأساسيين مصادر أخرى كالإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعرف والعادة وسد الذرائع .. إلخ .
وقد دلت النقول الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجتهد في شؤون الحياة المختلفة ويرى فيها رأياً ، حتى إذا تبين له أن المصلحة تتطلب غير ما رأى ، رجع صلى الله عليه وسلم عن رأيه ، وفعل ما هو خير .. ومن ذلك اجتهاده في أمور الحرب ، وفي بعض الشؤون الأخرى ، كما كان من أمره في حادثة تأبير النخل المشهورة: (عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون ، فقال : لو لم تلقحوا لصلح ، قال فخرج شيصاً. فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال رسول الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم). ويجدر بنا أن نشير إلى أن هذا الحديث قد أسئ استخدامه كثيراً وبخاصة من قبل الذين لا يدركون مقاصد الشريعة إدراكاً صحيحاً، والذين في أنفسهم مرض، ويريدون أن يتخففوا من عهدة التكليف، أو الذين يرغبون في تعطيل بعض النصوص اعتماداً على هذا الحديث .. علماً بأن ذكر هذه الحادثة قد ورد في أكثر من حديث بصيغ مختلفة تبين بوضوح ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قدم الني صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل ، يقول : يلقحون النخل . فقال صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال صلى الله عليه وسلم : لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيراً . فتركوه . فنفضت (أو فنقصت) قال: فذكروا ذلك له ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر) وواضح من هذا النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق بين ما هو وحي من الله عز وجل ، لا يصح للمسلمين أن يتجاهلوه ، أو يميلوا إلى غيره عنه ، وبين ما هو من اجتهاده ورأيه في الشؤون الدنيوية ، وهذا متروك للمسلمين ليأخذوا به ، أو يعدلوا عنه إلى غيره إذا تبين لهم أنه أصلح.
وما يهمنا من هذا العرض ، الحديث عن الأمور التي فيها مساغ للاجتهاد ، ومادامت حكمة المولى عز وجل قد قضت أن يكون لكل حادثة سنة مخصوصة ، فإننا مكلفون ابتداءً بالاجتهاد لإصابة هذه السنة ، ومأمورون كذلك أن نجند كل طاقاتنا العقلية والمادية في سبيل كشف السنة المتعلقة بالأمر الذي نجتهد فيه .. حتى إذا تبينت لنا هذه السنة يقيناً ، وجب علينا الالتزام بها ، وعدم الحيدان عنها ، ولا مخالفتها ، لأن ذلك يجلب الضرر كما أسلفنا ، وينتهي بنا إلى الفشل الأكيد .. ونزيد على هذا أن الاجتهاد مجدداً في أمر عرفت سنته يعد تفريطاً بالوقت ، وإهداراً للطاقات من غير جدوى!
والسؤال الذي يبرز أمامنا الآن هو : كيف نتعامل مع المشكلات التي فيها مسوغ للاجتهاد؟
ونقول : إن هذه القضية قد شغلت الفكر الإسلامي طويلاً ، وتصدى لها أئمة علماء ، ومفكرون أفذاذ ، وضعوا القواعد والشروط والضوابط للاجتهاد ، بناء على أصول شرعية معتبرة ، لكن القضية - مع هذا - ظلت قائمة ، وظل كثير من المسائل الفقهية وغير الفقهية محل اختلاف ، بل وصل هذا الاختلاف في بعض الحالات إلى حد مساواة النقيض بنقيضه !
ونحن لا ندعي في هذا البحث المقتضب أننا قادرون على إنهاء قضية الاختلاف ، وإنما الذي نريد التنبيه إليه أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية انطلق أساساً من النصوص ، وظل البحث يدور في فلك هذه النصوص دون الإفادة من ربطها بمفهوم السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، ونعتقد أنه لو أخذت السنن في الاعتبار عند تناول القضايا المختلفة ، لكان ذلك بمثابة ضابط إضافي ، يضبط وجهة الاختلاف ، ويضيق - في الوقت نفسه إلى حدٍ بعيد - مجال التنازع والاختلاف .
وهناك الكثير من القضايا الفقهية التي وقع فيها الخلاف قديماً بين المذاهب المختلفة ، وما يزال الخلاف فيها وارداً حتى يومنا الحاضر ، وما يزال بعض القضاة يحكمون بموجبها ، على الرغم من أن السنن التي تخضع لها هذه القضايا باتت معروفة لأهل الاختصاص .. وأذكر على سبيل المثال : أنهم اختلفوا في تحديد أطول مدة لحمل المرأة ، فقال بعضهم : ( إن أقصى مدة الحمل أربع سنين ، وبه قال الشافعي ، وهو المشهور عن مالك ، وروي عن أحمد أن أقصى حمل مدته سنتان ، وروى ذلك عن عائشة ، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة ، وقال الليث : أقصاه ثلاث سنين ، وقال عياد بن العوام : خمس سنين ، وعن الزهري قال : قد تحمل المرأة ست سنين ، وسبع سنين ، وقال أبو عبيد : ليس لأقصاه وقت يوقف عليه ). وكان هذا الاجتهاد نتيجة للمعارف الموجودة في عصرهم واستقراء أحوال زوجاتهم وأخواتهم .(9/98)
( وقد ذكر عصام غانم في كتابه Islamic Medical Jurisprudence صفحة 44 : ( أن أحد القضاة حكم لامرأة طلقت بأن ولدها الذي أنجبته بعد أربع سنوات من طلاقها حكم به لزوجها ، وكذلك حكم لأختها التي ولدت بعد مرور خمس سنوات على وفاة زوجها)! وهذا يعني أننا مانزال حتى اليوم نتجاهل حقائق العلم ، ولا نلتفت لما كشفه لنا من سنن واضحة بينة ، فيما يختص ببعض القضايا الحيوية ، التي تترتب عليها أحكام شرعية بالغة الأهمية ، فقد ثبت بالدليل الطبي القاطع أن مدة الحمل الطبيعية هي نحو 280 يوماً محسوبة من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة ، ومن ثم فإن الجنين لا يعيش داخل الرحم أكثر من هذه المدة ، وبخاصة أن المشيمة التي يتغذى الجنين ويتنفس عن طريقها لا تعيش لأكثر من أيام قليلة بعد مدة الحمل المعتادة ، لأنها تبدأ بعد تمام مدة الحمل بالتنكس ، وتضعف وظائفها ، ولا تعود قادرة على الوفاء بحاجات الجنين ، فإذا لم تحدث الولادة في الموعد المقرر ، ماتت المشيمة ، وانقطع الغذاء والأكسجين عن الجنين ، وهذا يؤدي إلى موته المحقق. وأذكر أيضاً مثالاً آخر عن قضية أخرى ما يزال الجدال حولها محتدماً على الرغم من فهم السنن الربانية التي تخضع لها ، وهي إثبات مطالع الأشهر القمرية ، وبخاصة منها مطالع رمضان وشوال وذي الحجة ، لتعلق هذه الأشهر بالصوم والفطر والحج .. فما يزال السواد الأعظم من فقهائنا يصرون على ضرورة الرؤية العيانية للهلال ، ويرفضون الأخذ بالحسابات الفلكية تمسكاً بظاهر الآية الكريمة (فمن شهد منكم الشهر فليصمه )(البقرة: 185) ، وما جاء في الحديث الصحيح (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ً) مما أدى في مناسبات عديدة إلى حدوث اختلاف عجيب في مواقيت العبادات المرتبطة بالأشهر المذكورة ، حتى وصل الأمر مرة أن بعض المسلمين صاموا رمضان ثمانية وعشرين يوماً ! وفي مرة أخرى كان فارق التوقيت بين بلدان إسلامية وأخرى ثلاثة أيام في الصوم والفطر ، وهذا ما لا يمكن تبريره أبداً ، إذا المعروف ميلاد القمر في كل شهر، واحد لا يتعدد!!
ومما لا جدال فيه أن هذه الاختلافات لم يعد لها ما يبررها بعد أن أصبحنا اليوم على معرفة تامة بالسنن التي تحكم دوران الأرض والشمس والقمر ، وبتنا قادرين –بفضل الله– على تحديد ميلاد القمر بدقة متناهية محسوبة بأجزاء الثانية!
وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نحسم الخلاف في مثل هذه القضايا المختلف فيها ، بأن نلتفت إلى السنن التي تحكمها ، وأما القضايا الأخرى التي لم نتوصل بعد إلى معرفة سننها ، فيمكن بشئ من الجهد المخلص أن نكشف سننها ، ونفهم أبعادها ، وبذلك نزيل الكثير من أسباب الخلاف حولها .. ونعتقد أن مثل هذا التناول لقضايانا الاجتهادية سيكون أكثر جدوى من البحث النظري المجرد الذي يتعامل مع المشكلات بمعزل عن واقع الحياة ومعطيات العلم لأن هذا الواقع خاضع لسنن محكمة ، لا يجوز تجاهلها بحال من الأحوال .. وتجاهلها يجعل بعض اجتهاداتنا في وادٍ ، وواقع الحياة والمجتمع في وادٍ آخر ! ويجعلنا من ثم منفصلين عن حركة التاريخ والحياة وصنع القرار !!
هل تخضع مشكلاتنا للسنن ؟
.. وما من شك أن حياة الإنسان زاخرة بالمسائل المعقدة ، التي يتعذر في بعض الحالات إيجاد حلول مثالية لها ، ولكن مع هذا لا يصح التسليم بهذه الحقيقة وكأنها واقع مطلق لا يمكن تجاوزه ، لأن مثل هذا التسليم يدفع مشكلاتنا للدخول في متاهة واسعة مكتوب على بابها ( مستحيل ) ، وعندئذ سنجد أنفسنا مكتوفي الأيدي ، عاجزين ، لا رغبة عندنا في البحث عن حل .. أي حل ! وكان بإمكاننا أن نفعل شيئاً أفضل من هذا لو أننا آمنا بوجود حل للمشكلة ، التي بين أيدينا ، وآمنا بوجود سنن لهذه المشكلة يمكن كشفها وتسخيرها في سبيل إيجاد الحل .
ولقد ناقش الأستاذ ( جودت سعيد ) هذه القضية بكثير من التفصيل في كتابه القيم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ومما قاله في ذلك: ( إن العقل البشري يتخذ أحد موقفين إزاء المشكلات ، فهو إما أن يفترض أنها تخضع لقوانين ، ومن ثم يمكن أن تخضع للسيطرة عليها وتسخيرها ، وإما أن يفترض فيها أنها لا تخضع لقوانين، أو يمكن كشف قوانينها .. وبين هذين الموقفين مواقف متعددة يتفاوت فيها القرب من أحدها والبعد عن الآخر .. وإن لكل من الفرضيتين نتائج عملية تظهر في مواقف البشر وسلوكهم بصورة متفاوتة ، على حسب الخضوع لأحد الموقفين).
مشروع عمل :
.. ويمكن من خلال ما قدمناه أن نخرج بتصور مبدئي يعد ( مشروع عمل ) تحدد فيه السمات الأساسية لأسلوب التعامل مع المشكلات والأزمات ، التي نرى فيها مسوغاً للاجتهاد ، وذلك على النحو التالي :
1 – أن نؤمن إيماناً راسخاً بأن المشكلة التي بين أيدينا ( أياً ما كانت هذه المشكلة ) قابلة للحل ، فمثل هذا النظر إلى المشكلة ، يجعلنا نتعامل معها بصورة إيجابية تستمد عزمها من أملنا بالوصول إلى حل ما ، في نهاية المطاف .
2 – أن ندرك بأن لكل أمر أو حادث سنة مخصوصة تحكمه ، لا يتم إلا من خلالها ، ولا يمكن أبداً أن يتم على تمامه بغيرها من السنن .
3 – أن نعرف المشكلة التي هي موضوع بحثنا ، ونجمع المعلومات المتعلقة بها ، حتى نحيط بالمشكلة من جوانبها جميعاً .
4 – نصنف المعلومات التي تجمعت لدينا ، ثم نعهد لأهل الاختصاص بدراستها ، عملاً بالقاعدة الأصولية التي أرستها آيات كثيرات من القرآن الكريم ، ومنها قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ً)(النساء: 83) .. فإن كانت المشكلة اقتصادية عهدنا بها إلى أهل الاقتصاد ، وإن كانت سياسية أوكلنا أمرها إلى أمراء السياسة والحكم ، وإن كانت طبية استشرنا الأطباء في علاجها ، وإن كانت حرباً أو سلماً استنفرنا رجال الحرب وقوادها ليروا فيها رأيهم .. وهكذا .
وكل ذلك مشروط بالتوجيه الرباني الداعي للسير في الأرض ، والنظر في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، على أمل أن نصل لمعرفة السنة التي تحكم المشكلة .
5 – فإذا ما علمنا السنة التي تحكم المشكلة ، نكون قد توصلنا إلى الحل المثالي لها ، وعندئذ يصبح لزاماً علينا أن نراعي هذه السنة ، مادمنا راغبين في الحل .
6 – وأما إذا لم نستطع أن نعرف السنة المتعلقة بالمشكلة ، فإن علينا مواصلة البحث والدراسة ، وتبادل الآراء ، من غير تعنت يشق الصف ، ويعمق النزاع الذي يؤدي حتماً إلى الفشل ، كما قال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )(الأنفال: 46) .. وإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نظرة عميقة في هذه المسألة ، إذ قال : ( ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي ، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )(آل عمران: 19)، فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود اجتهاد سائغ ، بل مع نوع بغي ، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة ، وكان ذلك من أصول السنة ).(9/99)
والخلاصة .. إن البحث في مشكلاتنا المعاصرة على ضوء سنة الله في الخلق ، يجب أن يكون أصلاً ومنطلقاً للخروج من أزمتنا الحضارية ، وهذا المنهج في الحل ينسجم مع المنهج الرباني ، الذي فطر الله عليه أمور خلقه ، وهو الطريق الأقوم لتوحيد الفكر ، الذي يحقق للأمة وحدتها وتماسكها .. ومادام الأمر كذلك ، فإن واجبنا اليوم تركيز اجتهادنا في بيان سنن الله ، وتجنيد طاقاتنا المختلفة في هذا الاتجاه ، بدل الاستمرار في إهدارها بالبحث النظري المجرد الذي كثيراً ما يجعل الاجتهاد يدور في ساحة غير ساحته
=============
9( مفاهيم في ضوء سنة الله في الخلق )- - التغيير الاجتماعي
. رأينا في فصل سابق من هذه الدراسة أن سنن الله في الخلق تتصف بالعموم والشمول ، وأنها لا تحكم عالم المادة فحسب ، بل تحكم كل ما في هذا الوجود من مخلوقات ، وكل ما يجري فيه من أحداث .. ومن ذلك حياة المجتمعات البشرية ، التي تخضع كذلك لسنن صارمة مطردة ، لا تتخلف نتائجها عن أسبابها .
وقد بين الله عز وجل في محكم تنزيله السنن الأساسية ، التي على نهجها تمضي سيرة المجتمعات ، فتسمو أو تنحط أو تبيد .. وقد كان لهذا التوجيه الرباني الحكيم تأثير عظيم في تكوين الأمة الإسلامية منذ نشأتها ، فقد أولى المسلمون منذ بداية الدعوة جل اهتمامهم لتلك السنن ، وكانوا يسترشدون بها في شؤون حياتهم المختلفة ، مما أدى بالنتيجة إلى تماسك المجتمع الإسلامي الوليد حينذاك ، وأدى كذلك إلى ترسيخ المفاهيم الحضارية في كل المجتمعات ، التي دخلها الإسلام بعد ذلك .
ويُعد العلامة ( ابن خلدون ) صاحب الفضل الأكبر في وضع الأصول الأولى لعلم الاجتماع ، إذ كان من أوائل الدارسين الاجتماعيين ، الذين أقاموا دراساتهم على أساس من فهم السنن الاجتماعية ، وقد استطاع ابن خلدون بفضل ثقافته القرآنية العميقة ، واطلاعه الواسع على التاريخ، أن يعرض في ( المقدمة ) التي كتبها لدراسته التاريخية عدداً من السنن الاجتماعية بأسلوب علمي موضوعي .
وبدءاً من دراسات ابن خلدون ، بدأ علماء الاجتماع يلتفتون إلى دراسة أحوال الأمم والشعوب ، وفق المنهج الذي وضعه ابن خلدون نفسه ، فلاحظوا أن أي تغيير اجتماعي لا يتم إلا من بعد أن تتوافر الشروط الأولية الخاصة به ، وبمعنى آخر : فإن سنن التغيير الاجتماعي - شأنها شأن أية سنة من السنن الربانية - لا تتم إلا إذا توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نحدد أهم الشروط التي تتطلبها سنة التغيير ، مسترشدين في ذلك بأمثلة واقعية موثوقة رواها القرآن الكريم عن الأمم الغابرة ، وبخاصة منها الأمم التي بعث الله عز وجل إليها رسله ، يدعونها للالتزام بمنهج الله وشريعته - على أساس أن هذا الالتزام هو الطريق القويم لتغيير المجتمع ، وتأهيله للقيام بمهمة الاستخلاف خير قيام.
أ - الفكرة ( العقيدة ):
.. ما من شك في أن أي نشاط إنساني لابد له أن ينطلق من ( فكرة مبدئية ) ، لأن الأفكار تبقى هي المحرك الأول لأي عمل ، أو جهد يزمع الإنسان القيام به .. ومما لا شك فيه كذلك أن أي نشاط لا ينطلق من فكرة صحيحة واضحة المعالم ، يكون جهداً ضائعاً ، لأنه يفتقد - على هذه الشاكلة - الضابط الذي يضبط حركته واتجاهه.
ولقد سبق أن تحدثنا عن أن الفكرة ، التي يقوم عليها جهد ما ، يجب أن توافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، حتى تكون هذه الفكرة قابلة للتنفيذ العلمي ، وحتى يكون الجهد مجدياً .. فإن لم تكن الفكرة موافقة لسنة ، كانت عديمة الجدوى في التغيير الذي ننشده ، وقد يترتب عليها - فوق ذلك - نتائج بالغة الخطورة.
والسؤال الذي يعترضنا هنا : ما هي الفكرة المبدئية الصحيحة الموافقة لسنة الله في الخلق ، والتي لابد منها لحصول التغيير المنشود في مجتمع من المجتمعات؟
إن مثل هذا السؤال يحتم علينا الرجوع إلى سجلات التاريخ ، لاستقراء الأحداث التي انتهت بولادة الحضارة الإنسانية ، لنتبين ( الفكرة ) التي قامت عليها هذه الحضارة ، كما يتحتم علينا كذلك الإصغاء إلى آراء الباحثين الذين تناولوا هذه المسألة:
أما الرجوع إلى سجلات التاريخ فإنه يقدم لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الفكرة الدينية أو (العقيدة) ، كانت دوماً هي الفكرة الأصلية، التي تولدت عنها الحضارات الإنسانية على مدار التاريخ، وأن أي استقراء منصف للتاريخ، يؤيد هذه الحقيقة تأييداً كاملاً، ويكفينا مثلاً أن نستعرض من خلال سور القرآن الكريم المختلفة ، تاريخ الأمم الغابرة ، حتى نتبين صدق هذا الأمر .. ولنا عودة على هذا الموضوع فيما بعد.
وأما آراء المؤرخين والباحثين والمفكرين الذين تناولوا قضية الحضارات الإنسانية ، فإنها تجمع كذلك على أن التغيير الاجتماعي ، والنهوض الحضاري ، لابد وأن يرتكز في انطلاقته على الفكرة الدينية ، ولا يكاد ينكر هذه الحقيقة أي باحث منصف ، بما فيهم الباحثون الذين كانت لهم مناهجهم الخاصة في تناول القضية، فحتى هؤلاء لم يسعهم إلا الاعتراف بتأثير الفكرة الدينية في تكوين الحضارات ، ومنهم -على سبيل المثال- المؤرخ البريطاني الشهير (أرنولد توينبي) الذي أقام نظريته في تفسير التاريخ، ونشوء الحضارات، على أساس عامل التحدي الجغرافي، فإن هذا المؤرخ في مواضع عديدة من دراسته ، وقف يؤكد أهمية وتأثير الفكرة الدينية في استيلاد الحضارات ، ومما كتبه في هذا: (ولا يسع كاتب هذه الدراسة إلا أن يعترف بقناعته بهذا الرأي ، الذي هو أميل إلى مناصرة فكرة دور العقائد الدينية في مجريات التاريخ .. فإذا ما ألقينا ببصرنا على الحضارات ، التي ما برحت قائمة حتى يومنا الحاضر ، نجد أنه يكمن وراء كل منها نوع من العقيدة الدينية العالمية .. وعلى هذا النحو تصبح العقيدة الدينية جزءاً من نظام الاستيلاد الحضاري.
والحقيقة أن توينبي لم يكن أول ولا آخر الذين تحدثوا عن تأثير الدين في النهضة الحضارية ، فقد تحدث قبله وبعده كثيرون حول هذا الموضوع ، وقد أورد (مالك بن نبي) رحمه الله في كتابه شروط النهضة ، آراء عديدة في هذا الشأن ، ومنها مثلاً رأي المؤرخ ( هنري بيرين) صاحب كتاب (محمد وشارلمان) الذي قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية ، وبين دور الديانتين في بعث هاتين الحضارتين.
كما نقل ( مالك بن نبي ) عن المفكرة (هرمان دي كيسرلنج) في كتابه ( البحث التحليلي لأوروبا ) قوله: (وكان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية ، وقوله كذلك (إن الروح المسيحية ومبدأها الأخلاقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية) ويخلص مالك بن نبي -بعد استعراضه لآراء عديدة- إلى القول : (فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية ، وينبغي أن نبحث في أية حضارة من الحضارات عن أصلها الديني ، الذي بعثها ، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية ، وفي البرهمة نواة الحضارة البرهمية .. فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ، يكون للناس شرعة ومنهاجاً ، أو هي - على الأقل - تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام ، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد بصره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقبته ، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته كاملة ، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء ، التي تهيمن عليها عبقريته ، وتتفاعل معها.(9/100)
والواقع أن الحضارة بمعناها الشامل ، وبمعناها الإنساني ، الذي يرمي إلى رفعة الإنسان والسمو به نحو الأخلاق الفاضلة ، والحياة الكريمة ، لا يمكن أن تتحقق بغير دفعة روحية تستمدها الحضارة من الدين .. ولكن أي دين ؟ أهو الدين بالمعنى العام المغبش الذي أشار إليه فالتر شوبرت؟ أم هو الدين بالمعنى الغيبي الذي ألمح إليه مالك بن نبي؟ أم هو الدين بالمعنى الإسلامي الذي جاءت به الأديان السماوية جميعها؟
إننا بالعودة إلى الواقع ، واستقراء الأحداث ، وفق التوجيه الرباني (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين )(النمل:69) نجد أن نوعاً من المدنية (وليس الحضارة) قد تقوم أحياناً على أساس المبدأ العام ، الذي نوه به فالتر شوبرت ، وقد تقوم أحياناً وفق المعنى الغيبي ، الذي تحدث عنه مالك بن نبي .. ولكن مثل هذه المدنية مآلها إلى الانقراض ، وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة على هذا ، قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين )(يونس:13).
فهذه الأمم التي تحدث القرآن عن سيرتها للعبرة ، كان لها نوع من المدنيات التي لم تستطع الرقي إلى أفق الحضارة السامي ، لأنها لم تأخذ بمنهج الإيمان ، ولم تجعله هادياً لها للوصول إلى ذلك الأفق !
ونخلص من هذا العرض الموجز ، إلى أن الأساس الأبقى الذي يمكن أن تقوم عليه الحضارة الإنسانية الحقيقية ، هو العقيدة الدينية بلا جدال ، لأن هذا الأساس يستمد مقومات قوته وبقائه من خالق الكون والإنسان ، وهو سبحانه أعلم بما يصلح أمر الكون والإنسان.
فالإيمان بالله إذن شرط أولي لبسط النعمة ، أو بالمصطلح المعاصر (الحضارة) وفي هذا يقول رب العزة سبحانه (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف:96) وأما الحفاظ على هذه النعمة (أو الحضارة) فمرتبط بالصلاح ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(الأنبياء:105) .
ولسيد قطب رحمه لله قول بليغ حول أثر الدين في تكوين الحضارة حيث قال : ( حين ينهض الإنسان بالخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه ، ويصبح وهو يفجر ينابيع الرزق ، ويصنع المادة الخام ، ويقيم الصناعات المتنوعة ، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات ، التي حصل عليها في تاريخه كله .. حين يصبح وهو يصنع هذا كله ( ربانياً ) يقوم بالخلافة - على هذا النحو 0 عبادة الله .. يومئذ يكون هذا الإنسان كامل الحضارة ، ويكون هذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة ).
إذن .. فإن الفكرة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة ، ولكن بشرط أن تكون هذه الفكرة نابعة من دين سماوي خالص ، لم ينله تشويه ولا تحريف .. وما دام الأمر كذلك ، فإننا لا نجد من بين الديانات السماوية ديناً مرشحاً اليوم للنهوض بالبشرية سوى الإسلام ، لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حافظ - بفضل الله على صفاء عقيدة التوحيد ، كيوم نزلت أول مرة من السماء إلى الأرض ، والسر في هذا أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتاب الإسلام العظيم ، فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(الحجر: 9) .. وسوف يبقى الإسلام بهذا الكتاب الكريم ، هو المصدر الوحيد القادر -دوماً وأبداً- على النهوض بالبشرية إلى آفاق الحضارة السامية.
ب - الإنسان:
.. ويقدم لنا القرآن الكريم أدلة عديدة ، تدل على أن دعوة التغيير تبدأ عادة على يدي رجل فرد ، وبعد ذلك يأخذ الناس بالالتفات حول هذا الرجل صاحب الدعوة ، ليعمل هو وهم على إحداث التغيير المنشود .
ومع أن هذه هي القاعدة في التغيير ، إلا أننا نلاحظ - من خلال الشواهد القرآنية نفسها - وجود استثناءات لهذه القاعدة ، ومن ذلك مثلاً ما نلمسه في قصة أصحاب القرية التي ورد ذكرها في سورة يس: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون )(يس: 13 - 14) فقد أرسل الله عز وجل إلى أهل تلك القرية ثلاثة من رسله ، ولكن القوم كذبوهم وردوهم رداً قبيحاً ، ولم يستجيبوا لدعوتهم .. وبينما هم يجادلون رسل الله جاءهم رجل .. رجل نكرة ، لكنه رجل صالح: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ) (يس: 20 - 21) واستمر الرجل يدعو القوم إلى الإيمان ، ويرغبهم فيه ، ويحذرهم من عذاب الله ، الذي يتربص بهم ، ويبين لهم ما هم فيه من ضلالة ، ولكنهم لم يسمعوا له ، ولم يستجيبوا .. ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوا الرجل أن قتلوه ، وانتهى أمره في لحظات ، كما بدأ في لحظات ، لكن حكاية القرية لم تنته عند هذا الحد ، بل تنزل أمر الله ليغير حال القرية عن بكرة أبيها : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين . إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ) ( يس 28 - 29 ) فكأن دعوة الرجل الصالح ، كانت الإنذار الأخير من رب العالمين لأهل تلك القرية ، التي استؤصلت من على وجه الأرض ، وباستئصالها تم التغيير المنشود.
ولقد يعترض معترض هنا فيقول : وأي تغيير هذا الذي انتهى بالدمار ؟
فنقول: هو تغيير لا شك في ذلك ، هو تغيير بالمعنى الأشمل للتغيير ، فمادام أهل القرية قد رفضوا دعوة الهداية والرشاد ، وأصروا على كفرهم ، وعلى انحرافهم عن الفطرة الربانية - على الرغم من الدعوات المتكررة ، التي جاءتهم - فقد أصبحوا بموقفهم ذاك يمثلون أزمة ، أو داءاً مزمنا بالنسبة للمجتمع البشري، ومثل هذا الداء المزمن لا ينفع فيه غير الاستئصال الجراحي .. وهذا ما كان فعلاً ..
وليس هذا المثال الذي قدمناه فريداً في التاريخ البشري ، ففي القرآن الكريم أمثلة كثيرة نطالعها في الآيات ، التي تحدثت عن قصص الرسل ، الذين لم يؤمن معهم أحد من أقوامهم ، أو آمن معهم نفر قليل ، فانتهى أمر تلك الأقوام إلى الهلاك ( قوم عاد ، قوم نوح ، قوم ثمود ، قوم لوط .. وغيرهم كثير ) .
إذن كيف يكون التغيير الآخر ، التغيير الذي لا ينتهي بالهلاك ، بل يتوج بنهوض الأمة إلى آفاق الحضارة الإنسانية السامية؟
وللجواب عن هذا السؤال ، نعود من جديد إلى رحاب القرآن الكريم ، لنجد أن مثل هذا التغيير الطموح لا يمكن أن يتحقق ، أو يكتب له النجاح ، ما لم تستجب له نفوس الغالبية من الناس ، لأن المجتمع - من هذه الوجهة - يشكل في مجموعه جسداً واحداً ، لا يصلح إلا أن تصلح معظم أعضائه ، ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن أنبياء الله - عليهم السلام - كانوا دوماً يتوجهون بدعواتهم إلى أفراد المجتمع كافة بلا تمييز ، من أجل هذه الغاية أملاً في كسب العدد الكافي منهم إلى صف الدعوة ، لأن هذا العدد أمر لازم حتى يتغير حال المجتمع .(9/101)
وربما كانت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هي الدعوة الوحيدة ، التي استطاعت أن تحل المعادلة الصعبة ، ونعني بها كسب العدد الكافي من الناس إلى صفها ، في وقت قياسي ، على الرغم من العوائق الهائلة التي اعترضت سبيلها .. فقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يقارب ثلاثة عشر عاماً في مكة ، يدعو قومه للإيمان بدعوة التوحيد ، باذلاً في ذلك أقصى جهده ، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ييأس ، ولم يقنط من رحمة الله ، وتأييده ونصره ، فواصل جهاده ، حتى قيض الله عز وجل رجالاً أتوا في موسم الحج من يثرب إلى مكة ، فالتقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم الإسلام ، فأسلموا ، ثم عادوا إلى قومهم يدعونهم للإيمان بالدعوة الجديدة ، فوجدوا منهم قبولاً حسناً ، على النقيض مما كان في مكة ، التي وقف سادته حائلاً عنيداً بين الناس والدعوة.
وهكذا فشا أمر الإسلام في يثرب ، وتهيأ المجتمع للمرحلة التالية ، فأذن الله لرسوله بالهجرة ، فهاجر هو وأصحابه من مكة إلى يثرب ، (التي تغير اسمها منذ ذلك الوقت فأصبحت تدعى المدينة ، وكان هذا التغيير أحد بوادر التغيير في المجتمع الوليد) وواصل المؤمنون في المدينة جهادهم ودعوتهم ، حتى آمن بالدعوة خلق كثير ، وترسخت دعائم الإسلام ، وتحول مجتمع المدينة من الكفر إلى الإيمان ، وبات الإسلام هو صاحب الكلمة في المجتمع ، وأصبح رسول الله صلى الله عليهم وسلم هو القائد والحاكم في هذه الدولة الوليدة ، التي كانت بحق نواة الحضارة الإسلامية ، التي بدأت أنوارها تشع على الدنيا منذ ذلك التاريخ ..
ومنذ أن تم التغيير في مجتمع المدينة ، وتبعه التغيير في مجتمع مكة بعد الفتح ، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً .. منذ ذلك الحين بدأت معالم التغيير الحضري تظهر وتنتشر في أرجاء الأرض .. ومما لا ريب فيه أن هذا الفتح المؤزر ، وهذه الثمرة الطيبة لم تكن لتتحقق ، لولا ما توافر للدعوة من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أعطوا أقصى ما يستطيعون من أنفسهم وأموالهم وأرواحهم ..
.. فبمثل هؤلاء الرجال يتم التغيير .. رجال لم يكتفوا بالالتفاف حول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، بل جاهدوا أنفسهم حتى تتغير وتتلاءم وطبيعة هذه الدعوة ، وهذا ما حصل فعلاً ، فقد كان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له ، فكان على أعتاب الدخول في الإسلام ، يخلع عنه كل ماضيه ، ليرتدي حلة الإسلام ، التي تصوغ نفسه صياغة ربانية تنسجم مع الفطرة ، وتتلاءم وطبيعة الدعوة الجديدة .. وبمثل هذا التغيير ، الذي حصل في نفوس المسلمين الأوائل ، حصل التغيير الحضاري ، الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له ، لا قبله ولا بعده .. والسبب أن هذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليها أمور خلقه، والتي بينتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11) ، فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان ، غير الله ما بها من جاهلية ، وخلصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية ، إلى آفاق الأمة المتوحدة المتكاملة ، ونقلها من مستنقع التباهي بالأنساب والأحساب ، إلى روضة الأخلاق الإنسانية الوارفة!
ج - الزمن:
.. وبعد أن يتهيأ للدعوة فكرة صحيحة ، (أو عقيدة كما قدمنا) ويتهيأ لها العدد الكافي من الناس ، الذين يؤمنون بها ، ويبدؤون تحركهم على أساسها ، يأتي دور (الزمن) باعتباره عاملاً أساسياً من العوامل اللازمة لإنضاج عملية التغيير .. والملاحظة الأولى التي تستوقفنا فيما يتعلق بالزمن ، أن التغيير الاجتماعي ، يمكن أن يتم في بعض الحالات خلال زمن قياسي قصير ، بينما يتطلب في حالات أخرى أجيالاً عديدة ، قبل أن يكتمل وتظهر آثاره واضحة جلية في المجتمع ، ولنستعرض بعض الأمثلة القرآنية البليغة لنتبين كيف يفعل الزمن في عملية التغيير:
دعوة سيدنا نوح عليه السلام:
.. وتعد دعوة نوح عليه السلام دعوة السلام دعوة متفردة بين الدعوات السماوية ، من حيث الزمن الذي استغرقته ، إذ أستغرقت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، قبل أن تؤتي ثمارها ، وقد استمر نوح عليه السلام طوال هذه السنين يدعو قومه إلى الإيمان ، ويعمل على تغيير حالهم واستنفاذهم من الضلال ، سالكاً إلى ذلك شتى الطرق ..
(قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا ً)(هود: 5).
(ثم إني دعوتهم جهاراً )(هود: 8).
(ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ً)(هود: 9).
ولكن .. دون جدوى ، فقد تمسك القوم بكفرهم ، وبالغوا في عنادهم ، حتى جاء البيان من السماء (وأُوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )(هود: 36) ، وحينئذ فقط أيقن الرسول أن القوم الذين أرسل إليهم قد فقدوا إلى الأبد القابلية للهداية ، وأيقن أنهم تحجروا على حالهم ، ونادى متحسراً (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً )(نوح: 26 – 27).
.. فالمجتمع الذي تحجر على الكفر ، لا أمل أن يلد إلا فاجراً كفاراً ، وكذلك هي المجتمعات التي تحجرت على حال معينة ، لا يمكن أن تتغير بغير الاستئصال ، وهذا ما كان ، فقد استجاب الله عز وجل دعوة رسوله ، وأنجز له التغيير الذي أراد ، فأغرق الكافرين ، ونجى المؤمنين ، في مشهد للتغيير ، لم تشهد البشرية له مثيلاً على امتداد تاريخها!
ويظهر التفرد في دعوة سيدنا نوح عليه السلام من خلال النتيجة التي انتهت إليها ، فالمؤمنون الذين ثبتوا على دعوة الحق كل تلك السنوات الطويلة ، أصبحوا هم سادة الأرض وعمارها ، وغدوا من ثم نواة المجتمعات اللاحقة.
دعوة أصحاب القرية:
ونعني بها دعوة الرجل الصالح ، الذي ورد ذكره في سورة ياسين ، وقد سبق أن تحدثنا عن قصته ، عند الحديث عن أثر العامل البشري في التغيير .. فقد رأينا هذا الرجل استطاع – بفضل الله عز وجل – أن يعجل بإيصال عملية التغيير إلى غايتها ، خلال زمن قياسي قصير ، ربما لم يزد عن بضع دقائق أو ساعات ، إذ عمد إلى تأزيم الصراع الفكري مع قومه ، حتى أوصله إلى الذروة الحرجة ، بحيث لم يعد ثمة مجال إلا للمفاصلة ، التي قلنا : إن سياق الآيات يوحي بأن القوم لم يمهلوه أن قتلوه ، وكانت النتيجة أن جاء أمر الله عاجلاً بعدئذ (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون )(يس: 28 – 29).
مناقشة تأثير العامل الزمني على عملية التغيير
.. ونلاحظ أن القضاء الجماعي على الكفار ، قد تكرر في هاتين القصتين : قصة قوم نوح عليه السلام ، لما تأت عاجلة ، كما أتت في قصة أصحاب القرية ، بل جاءت بعد سنوات طويلة جداً ظل نوح خلالها يدعو قومه للإيمان بدعوة التوحيد ، ولكنهم لم يؤمنوا، إلا نفراً قليلاً منهم، آمنوا بالدعوة إيماناً راسخاً كالجبال ، وهذا الإيمان هو الذي رشحهم لاختيار الله عز وجل ، وجعلهم نواة البشرية القادمة من بعدهم .. فقد حق في ميزان الله لهذه الدعوة ، التي استمرت نحواً من ألف عام تنافح أهل الشرك والكفر .. حق لها أن تسود الأرض ، وأن يكون تاريخ البشرية منذ ذلك الوقت هو تاريخ هؤلاء المؤمنين ومن جاء من أصلابهم !!(9/102)
وأما الرجل الصالح ، فلم يؤمن معه من أصحاب القرية أحد ، لأن الزمن – على ما يظهر من السياق – لم يتح له أن يكسب أحداً إلى صف الدعوة ، فانتهت دعوته من ثم بانتهاء حياته هو .. ومن هنا يمكن أن نلاحظ تأثير العامل الزمني على نتائج التغيير ، فقد انتهت دعوة هذا الرجل الصالح باستشهاده وهلاك القرية من بعده، وطوى الزمان صفحة الداعية والقوم إلى غير رجعة!
وأما دعوة نوح عليه السلام فقد انتهت نهاية مختلفة تماماً ، إذ تم بها استئصال شأفة الكفر من على وجه الأرض ، وأورث الله الأرض للمؤمنين ..
وتوحي هذه المقارنة بين القصتين كما حكاهما القرآن الكريم ، بأن التغيير النوعي في المجتمع يتطلب فترة زمنية كافية حتى يكتمل ، ويؤتي ثماره ناضجة سائغة .. وأما محاولة حرق المراحل ، واستعجال التغيير ، قبل استكمال شروطه وأركانه ، فإنه غالباً ما يجهض المحاولة من أساسها ، وينسف الشروط الأولية التي بدأت منها ، وقد يحول دون توفر هذه الشروط مرة أخرى ..
ولا غرو في هذا ، فإن التغيير الاجتماعي يرتبط أساساً بتغيير ما بالأنفس ، وفق السنة الربانية التي عنوانها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11) ، ومن المعلوم أن النفس البشرية ذات تركيب معقد ، ومن ثم يتطلب تغيير ما فيها شروطاً كثيرة ، كما أن هناك عوامل عديدة يمكن أن تؤثر في النفس ، وتحول دون التغيير ، ومن ذلك مثلاً : تأثير الأهواء الشخصية ، والنزاعات العصبية ، والصراعات الفكرية .. وغيرها !
تنبيه:
غير أن مطالبتنا بمراعاة الزمن من أجل التغيير ، وتحذيرنا من خطورة حرق المراحل واستعجال الثمرات ، لا يعني أن نهمل العامل الزمني ، ولا أن نعلل أنفسنا بأن زمن التغيير لم يحن بعد ، فنقعد غير آبهين بالساعات والأيام والسنوات التي تمر .. فإن الزمن قد يفعل في عملية التغيير فعلاً مغايراً لما نريد ، فهو سلاح ذو حدين كما يقولون ، لأنه – من جهة – لازم لإنضاج عملية التغيير ، وبلوغها الغاية المرجوة ، ولكنه – من جهة أخرى – قد يسيء إلى هذه العملية ، إذا لم نستفد منه ، ونصرفه بطريقة حكيمة ، لا إفراط فيها ولا تفريط .. ونعود من جديد إلى رحاب القرآن .
دعوة سيدنا عيسى عليه السلام:
.. فقد قام عيسى عليه السلام بدعوة قومه للتوحيد قائلاً: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )(آل عمران: 51) .. واستمر يدعوهم ، ويرغبهم بالاستجابة لدعوة التوحيد ، لكنهم لم يستجيبوا ، ولم يؤمن منهم إلا نفر قليل ! ثم شاء الله عز وجل ، أن يرفع رسوله إليه ، فرفعه ، وظلت الدعوة محصورة في مجموعة قليلة من المؤمنين ، الذين سماهم القرآن الكريم ( الحواريين ) .
وعندما حاول الحواريون نشر دعوتهم بين الناس ، واجهوا صداً عنيفاً من الحكام ، الذين كانوا وقتذاك على دين الشرك ، فآثر المؤمنون كتمان إيمانهم في صدورهم ، وتركوا دعوتهم للزمن على أمل أن يحسم هو الموقف .. واستمرت الدعوة على هذه الحال ، تنتقل من جيل إلى جيل متخفية ، صامته ، حتى فعل الزمان بها ما لم يكن في الحسبان ، إذ انحرفت الدعوة عن خط التوحيد ، وخالطتها الوثنية ، ومن هنا نلاحظ ضرورة توفر شرط إضافي إلى شرط الزمان ، حتى يمكن إنضاج عملية التغيير إنضاجاً صحيحا من جهة ، وحتى يمكن تجنب التأثير السلبي لتطاول الزمن من جهة أخرى ، وهذا الشرط هو التفاعل البناء ما بين عامل الزمن ، والعامل البشري ، الذي سبق الحديث عنه ، بمعنى أن تبقى دعوة التغيير متفاعلة في المجتمع من خلال العصبة المؤمنة ، بحيث تعمل هذه العصبة على إبقاء الدعوة حية نابضة في صميم المجتمع ، ولمثل هذا الهدف جاء التوجيه الرباني الحكيم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )(آل عمران: 104) .. فإن وجود هذه العصبة المؤمنة ضروري لضبط برنامج التغيير ، لكي تعطي كل مرحلة من مراحل العمل حقها من الوقت ، دون تفريط يضيع الوقت ، ويميع القضية ، ويحرفها عن مسارها الصحيح ، ودون إفراط باختصار الوقت وحرق المراحل واستعجال الثمرات ، لأن هذا قد يجهض العملية إجهاضاً مبرماً .. وإن عمل هذه العصبة من هذه الوجهة ، يشبه عمل المهندس الحاذق ، الذي كلما أنجز مرحلة من مراحل البناء ، قام بفحصها وتقويمها ، لكي يستيقن أنها قامت وفق المخطط المرسوم ، وأنها أنجزت حسب المواصفات والمعايير الفنية المعتبرة ، وأنها تتماشى مع البرنامج الزمني المحدد للمشروع !
الدعوة الأنموذج
وتعد دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أنموذجاً متفرداً من حيث استفادتها من عامل الزمن ، كما هي متفردة من الجوانب المختلفة الأخرى .. فقد استطاعت هذه الدعوة أن تحقق خلال عمرها القصير ، الذي لم يتعد عقدين ونيفاً من السنوات ، مأثرة في التغيير مازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا ، وسوف تبقى كذلك إلى آخر الزمان .. فقد غيرت هذه الدعوة القبائل العربية ، التي كانت تعيش على الغزو والسلب والنهب ، فجعلت منهم أمة واحدة ، يسود بين أفرادها المودة والرحمة والتعاطف والتكامل ، بحيث أصبح المجتمع الإسلامي جسداً واحداً ، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .. وهكذا نقلت هذه الدعوة العرب من المرحلة القبلية ، إلى مرحلة الأمة ، في سنوات قليلة لا تعد شيئاً في عمر الزمان ، وإن هذه النقلة – لعمري – نقلة متميزة ، لم تستطع أية دعوة أخرى في تاريخ البشرية أن تحققها خلال تلك المدة الزمنية القياسية .
فكيف – ياترى – استطاعت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن تحقق هذه المأثرة؟
لا ريب في أنه توافر لهذه الدعوة عوامل عديدة بفضل الله ، ساعدتها على اختصار عامل الزمن ، وتعجيل الوصول إلى الأهداف المنشودة ، ويأتي في مقدمة تلك العوامل عاملان ، هما :
أ – تأزيم الصراع الفكري ( أو العقيدي ) بين الجماعة المسلمة ، وبين المشركين في مكة ، وقد تم ذلك على طريقة الرجل الصالح ، الذي عرضنا قصته كما جاءت في سورة يس ، أي بالجهر بالدعوة ، ومقارعة الحجة بالحجة ، مع الحرص على تجنب إقحام الصراعات القبلية في هذه القضية ، وتجنب الدخول في صراع مسلح ، وبخاصة أن الجماعة المؤمنة لم تكن قد ملكت بعد عدة هذا الصراع .. وقد انتهت هذه المرحلة إلى تميز الجماعة المؤمنة ، ووضوح الأصول العقيدية التي تدعو إليها ، وختمت هذه المرحلة بالهجرة إلى يثرب.
ب – وأما العامل الآخر الذي ساهم في اختزال الفترة الزمنية اللازمة للتغيير ، فهو نزول أمر الله عز وجل بقتال المشركين ، ومواجهتهم مواجهة عسكرية مسلحة ، وقد تم ذلك بعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وأقام فيها دولة الإسلام ، وأصبح له هناك منعة ، ودار وأنصار .. ويلاحظ عندما حدث الصدام المسلح بين معسكر الإيمان ، ومعسكر الكفر ، أن الصراع بينهما أخذ يزداد حدة ، مما عجل في وضع النهاية المحتومة لمعسكر الكفر ، الذي استسلم سريعاً للدعوة الجديدة ، وهذا ما حصل بفتح مكة المكرمة ، حين بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، واستقر الأمر في الجزيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذلك كله في سنوات قليلة ، ولكنها سنوات حافلة بالتخطيط والإعداد ، والجهاد والتضحية !
وبهذا نكون قد عرضنا – بشيء من التفصيل – الشروط التي تقوم عليها سنة التغيير الاجتماعي ، وهي:
الفكرة ( العقيدة ) + الإنسان + الزمن(9/103)
ونعود هنا فنؤكد أن سنة التغيير الاجتماعي ، مثلها مثل أية سنة أخرى من السنن ، التي فطر الله عليها أمور الخلق .. لا تتم إلا أن تتوافر لها الشروط اللازمة ، وتنتفي الموانع التي تحول دون تحقيقها .. مع العلم بأن الموانع التي يمكن أن تقف حجر عثرة ، وتعيق إنفاذ سنة التغيير كثيرة جداً ، وهي تتفاوت في تأثيرها على مسار العملية ، إلا أن النقطة الحاسمة في الأمر هي توفير الشروط اللازمة للتغيير ، فمتى توفرت هذه الشروط ، وتوفر إلى جانبها الإخلاص ، والجهد المكافئ الواعي ، فإن التغلب على الموانع يغدو ممكناً بإذن الله.
=============
واقعنا المعاصر .. معالم في طريق الحل
إن موضوع البحث في ( سنن الله في الخلق ) لم يلق حتى الآن الاهتمام اللائق به من قبل المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، وبخاصة منهم الذين ينتمون إلى الجماعات الإسلامية ، التي تصدت لقيادة العمل الإسلامي ، ووضعت نصب أعينها القيام بتغيير اجتماعي ونفسي متميز في المجتمعات الإسلامية ، يهدف إلى نقل هذه المجتمعات من حال الضعف والجهل والتخلف والبعد عن منهج الله ، إلى حال القوة والسيادة والالتزام بشريعة الله.
ولقد أدى إغفال دور السنن في الجهد البشري ، إلى جعل التكوين الفكري لهذه الجماعات أقرب إلى المثالية النظرية ، منه إلى الواقعية العملية ، وجعل غالبية الجماعات ( إن لم نقل كلها ) تدور في حلقات مفرغة ، لا تدري كيف تخرج منها ، فهي - من جهة - تحس بالأزمة التي تعيشها ، ولكنها -من جهة أخرى- لم تتقن بعد كيفية التعامل مع هذه الأزمة ، للخروج منها بحل واقعي معقول ! وربما ساهم في تعقيد الأزمة ، وترسيخ هذا الوضع الغريب، أن معظم المناهج الفكرية التي سارت عليها الجماعات الإسلامية المعاصرة ، عمدت إلى تناول القضايا بعقلية ذرائعية ، تميل إلى منطق التبرير والاستسهال .. فما أسهل أن نتذرع بأسباب مختلفة لننفي عن أنفسنا مسؤولية ما وقعنا فيه من أخطاء .. وما أيسر أن نرد النتائج المخيبة للأمل إلى قضاء الله وقدره .. وكأن مثل هذا الرد يعفينا من المسؤولية أمام الله عز وجل!
وأما بذل الجهد في البحث الدؤوب عن جذور الأزمة ، ومعرفة أسبابها ، وتحليل ملابساتها تحليلاً علمياً دقيقاً ، فليس هذا كله من شأننا !؟
ولعلنا - بما قدمناه في الفصول السابقة حول مفهوم (السنة ، والمفاهيم الأخرى، التي عرضناها على ضوء هذا المفهوم ، نكون قد اقتربنا خطوة من نقطة البداية في تناول هذه الأزمة .. ولا بأس أن نعود في هذه الخاتمة ، فنلخص أبرز النتائج التي خرجنا بها من البحث ، والتي يمكن أن نعدها بمثابة معالم ، تعيننا على فهم طبيعة الأزمة ، وترشدنا في الوقت نفسه إلى الطريقة العملية لتجاوز العقبات ، التي تحول دون حل هذه الأزمة .. ونجمل هذه المعالم فيما يلي :
1 - إن لهذا الكون رباً ، خلق كل ما في هذا الكون من خلائق ، وأخضعها جميعها لسنن (قوانين) تحكم كل صغيرة وكبيرة منها .
2 - وتتصف هذه السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، بمجموعة من الصفات ، التي تعطيها صبغة القانون الرياضي الصارم ، فهي -من جهة- ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وهي من جهة ثانية - مطردة ، تتكرر على الوتيرة ذاتها كلما توافرت شروطها وانتفت الموانع ، التي تحول دون بلوغها غايتها ، وهي - من جهة ثالثة - أحادية لا تقبل التعدد ، أي أن لكل أمر في هذا الوجود سنة مخصوصة ، لا يتم إلا من خلالها ولا يمكن الوصول إليه بغيرها من السنن .
3 - وسنن الله في الخلق تسري على كل شيء في هذا الوجود من غير تمييز ، سواء أكان هذا الشيء مادياً أم معنوياً ، ونحن البشر خاضعون كغيرنا من خلائق هذا الوجود لسنن الله هذه ، شئنا ذلك أم أبينا ، وهذه الحقيقة تحتم علينا مسايرة هذه السنن ، لكي نتمكن من تسخيرها فيما ينفعنا ، وإلا فإن مخالفة السنن أو معاندتها لا يأتي بخير أبداً ، بل فيه الخسارة الأكيدة دون ريب .
4 - وإن أي عمل نقوم به يعتمد على سنة أو أكثر من السنن ، التي فطر الله عليها أمور خلقه ، يقتضي ضرورة معرفة تلك السنة ( أو السنن ) قبل الشروع في العمل ، فإذا ما عرفنا السنة ، وجب علينا أن نهيئ الشروط اللازمة لها ، إن كنا حقاً نريد إنجاز العمل المطلوب .
5 - فإذا ما فشلنا في إنجاز العمل المطلوب فإن هذا الفشل يعني وقوع خلل ما في الخطة ، ويمكن أن نحصر مواضع الخلل هذا في ثلاثة مواضع رئيسة :
أ - عدم سلوك الطريق الصحيح نحو الهدف ، أو عدم إصابة السنة التي توافق العمل ، الذي نريد إنجازه .
ب - وجود عوامل داخلية تؤدي إلى الإخلال بشرط أو أكثر من الشروط اللازمة لتحقيق السنة التي تتحكم بالعمل.
ج - وجود عوامل خارجية تحول دون تحقيق السنة وبلوغها غايتها . ففي كل مرة نعجز عن إنجاز العمل، أو الوصول إلى الهدف ، يجب أن نكون على يقين من أن هناك خللاً قد حصل فعلاً ، مما يحتم علينا العودة للبحث من جديد عن مصدر هذا الخلل ، ومراجعة ما سبق إنجازه من مراحل .. حتى نستطيع تصحيح المسار ، وتدارك الأزمة قبل أن تستفحل .. فإن فعلنا هذا وصلنا بإذن الله إلى ما نريد ، وإلا فإن الفشل سيكون من نصيبنا ثانية .. وثالثة .. ورابعة ..
ونود أن نذكر هنا بحقيقة هامة قلما تنال حقها من الاهتمام من قبل الباحثين ، الذين يتناولون مشكلة التخلف في ديار المسلمين عامة ، ومشكلة العمل الإسلامي بصورة خاصة ، فإن اهتمام هؤلاء ينصرف في معظمه نحو ( العوامل الخارجية ) بينما لا يحظى العاملان الآخران بالعناية الكافية ، مما يجعل البحوث التي تتناول المشكلة تدور خارج إطارها الحقيقي ، وليس في صميمها .. ويمكن أن نشبه هذا التناول القاصر للمشكلة بسلوك الطبيب الذي يعالج مظاهر الحمى والصداع ، ويغفل عن علاج الجرثومة التي تعيث في جسد المريض فساداً !!
ولا نحسب أن اثنين يختلفان حول الحقيقة الجوهرية التالية ، وهي أن البحث في أية مشكلة يتطلب ابتداء تحديد طبيعتها ، قبل الشروع في وضع الحلول لها ..
وما دمنا قد علمنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان إنما يخضع لسنن مخصوصة، فإن دراسة أية مشكلة، يستلزم معرفة السنن، التي تتعلق بها .. ونضرب لهذا مثلاً قريباً .. فالأمراض السارية التي ظلت قروناً طويلة تفتك بالبشر ، استطاع العلماء أخيراً أن يعرفوا السنة ، التي تخضع لها ، ومؤدى هذه السنة أن هذه الأمراض تحصل عندما تنتقل جرثومة المرض من مصدر خارجي إلى جسم إنسان لديه القابلية للعدوى والمرض .. وعندما عرف الأطباء هذه السنة ، أصبحوا قادرين - بمشيئة الله - على معالجة هذه الأمراض الفتاكة ، بينما كان الناس - قبل اكتشاف السنة التي تخضع لها هذه الأمراض - يتخبطون في معالجتها ، فكانوا يلجأون للسحر والشعوذة تارة ، وكانوا يلجأون لأساليب أخرى تارة أخرى ، كأن يضربوا المريض ضرباً مبرحاً ، أو يغطسوه في الماء المغلي ، لأنهم - بسبب جهلهم بسنة المرض - كانوا ينسبونه إلى الأرواح الشريرة ، ويظنون الضرب أو الماء المغلي ، يمكن أن يطرد تلك الأرواح !
وقد نعذر القدماء في تخبطهم بالمعالجة على تلك الشاكلة، لأنهم لم يكونوا يعلمون شيئاً من أسرار المرض، ولكن .. هل لنا - نحن أبناء القرن العشرين - من عذر إن نحن سلكنا اليوم مسلك القدماء نفسه في معالجة المرض ، بعد أن عرفنا سر الجراثيم ، وتأثير المضادات الحيوية فيها؟
بالطبع .. لا(9/104)
ولكن .. مع هذا ، وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة البديهية ، فإننا ما نزال نقع في الخطأ نفسه، ونتخبط في معالجة كثير من المشكلات ، فنلجأ إلى (الضرب) في معالجتها ، على طريقة الأقدمين في طرد الأرواح الشريرة!
وكثيراً ما نتساءل في استغراب حائر بعدما حصل : كيف لم نصل إلى حل مع أننا بذلنا غاية جهدنا؟!
والجواب على هذا التساؤل الساذج واضح لا لبس فيه ، فنحن لم نسلك الطريق الصحيح إلى الحل ، ولم نبذل الجهد في محله ، فذهب هباءً منثوراً .
واقعنا المعاصر
.. وحين ينظر أي مسلم غيور على أمته ودينه إلى حال هذه الأمة اليوم ، فإنه لا يشعر بالرضى أبداً ، لأنه يراها في حال من الضعف والهوان ، وقد تكالبت عليها أمم الأرض قاطبة ، حتى باتت نهباً لكل طامع !
ونتساءل من جديد ( ذلك السؤال القديم الساذج ): أَنَّي هذا ؟ وكأننا بهذا السؤال ننفي تبعة هذه الحال عن أنفسنا ، والله عز وجل يقول : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم )(الشورى: 30) .
أجل إن هذا الحال من أنفسنا نحن ، من غفلتنا عن منهج الله ، وعن سننه في الخلق ، وإن واقعنا ليشهد بهذه الحقيقة بلا جدال .. ولنأخذ - على سبيل المثال لا الحصر - بعض السنن التي جعلها الله طريقاً للفلاح والنجاح والسيادة ، ثم لننظر كيف فرطنا بها، ففرط الله بنا ..
فقد جعل الله عز وجل سنة للنصر لا تتخلف إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )(محمد: 2) .. وها نحن مهزومون في كل ميدان ، أمام أنفسنا ، وأمام أعدائنا .. مما يعني أننا لم ننصر الله حق نصره!
كما جعل الله عز وجل سنة لإرهاب العدو ، وقذف الرعب في قلبه ، فقال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم )(الأنفال: 60) .. فماذا يقدم لنا واقعنا الحالي؟ إنه يقدم لنا صورة مهزوزة هزيلة غير هذه الصورة، التي أمرنا الله أن نكون عليها ، إذ نرى ديارنا تعيش اليوم تحت رحمة الدول المستكبرة الكافرة ، بعد أن كنا سادة الأرض .. وقد نزع الله رهبتنا من قلوب أعدائنا ، فلا يقيمون لنا وزناً ، ولا يلتفتون إلى رأينا حتى في القرارات المتعلقة بمصيرنا نحن !!
وجعل الله عز وجل للبركة والغنى وسعة الرزق سنة كريمة ، فقال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )(الأعراف: 96) .. وها هي ذي ديارنا تعاني من الفقر والجوع، والجهل والمرض ، على الرغم مما تزخر به أراضينا من ثروات هائلة .. مما يعني أن نفوسنا تعيش اليوم أزمة إيمان وتقوى . (ولا حول ولا قوة إلا بالله)!
وهكذا .. إن أردنا أن نعدد السنن التي أخللنا بها في واقع حياتنا لأعيانا العد ، وكأننا لم نسمع قول الله جلت قدرته ، وهو يتوعد الذين يخالفون عن أمره أشد وعيد : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )(النور: 63) بل إنه سبحانه ليتوعدهم بما هو أشد من ذلك .. إنه يتوعدهم بالهلاك (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )(محمد: 38).
حقيقة لابد من الاعتراف بها ، على الرغم من مرارتها .. إننا اليوم نعيش في غفلة عن سنة الله في الخلق، مع أننا لا نفتأ نردد ليلاً ونهاراً قول الحق تبارك وتعالى : (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران: 137) ونردد كذلك قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً )(النساء: 123) ثم .. لا نعمل بمقتضى هذه التوجيهات الربانية الحكيمة !
فلا نحن نسير في الأرض ، فننظر كيف سارت حياة الأمم التي سبقتنا ، فنعتبر بها ، ونأخذ السنن التي تعيننا على أداء أمانة الاستخلاف ، كما أمرنا رب العزة سبحانه.
ولا نحن نتعامل مع الوجود من حولنا تعاملاً واقعياً يراعي سنن الله في هذا الوجود ، بل نتعامل معه تعاملاً خيالياً ينبع من الأماني والأحلام .. ونحسب - فوق هذا - أننا أصحاب امتياز على سائر الأمم الأخرى ، مادمنا مسلمين ، دون أن نعطي هذا الإسلام حقه في العلم والإخلاص والتضحية.
فهل نستغرب بعد هذا ، ونحن نسير عكس الريح ، ألاّ يصل المركب بنا إلى حيث نريد ؟!
ولعل أعجب ما في أزمتنا أننا - على الرغم من كل الأخطاء التي نرتكبها - أننا لا نعجز عن اختلاق المبررات والأعذار أمام أنفسنا وأمام الآخرين .. فما أيسر أن نتهم الريح أنها جاءت من الشرق ، بدل أن تأتي من الغرب ، وأما الاعتراف بأننا أخطأنا فوضعنا المركب عكس الريح .. فهذا ما لا يكون أبداً !!
وعلى هذه الشاكلة النكدة ، تمضي سيرتنا مع كل قضية نواجهها ، فنتعامل معها من منطلق أننا دوماً على صواب ، ونزعم أن الظروف الخارجية لم تكن مواتية ، وأنها هي التي ارتكبت الخطأ ، لا نحن .. وعلى هذا المنوال تدخل القضية في متاهة ( الاستحالة ) ولا يبقى علينا إلا أن نسدل عليها الأردية القاتمة ، لنخفيها حتى عن أنفسنا ، وكأن إخفاءها سيغير من واقع الحال شيئاً !!
=============
معالم في طريق الحل
.. إلى الذين تؤرقهم حال هذه الأمة ، وتقض مضاجعهم ، أقول : إن الطريق إلى الخروج من أزمتنا سهل وميسور حين نحزم أمرنا ، ونعد عدتنا ، ونجد السير في هذا الطريق الذي يمكن أن نتبين أهم معالمه فيما يلي ..
إن تغيير الحال التي نحن عليها اليوم لا يمكن أن يتم دون أن نغير ما بأنفسنا ، فهذه سنة من السنن المطردة التي فطر الله عليها أمور خلقه ، كما قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )(الرعد: 11).
وإن تغيير ما بأنفسنا لا يتم إلا أن نواجه مشكلاتنا مواجهة صادقة ، لا مواربة فيها ولا أعذار ، لنعرف مواطن الانحراف فنقومها ، ونكشف مواضع الخلل فنصلحها ، ونحدد نقاط الضعف فنقويها ..
وليكن الإحسان والصواب ضالتنا المنشودة (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )(البقرة: 195) ، (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) مع العلم بأن من أهم معاني الصواب معرفة السنن ، التي بموجبها نحقق وظيفتنا في هذه الحياة ، والتي بينها الله عز وجل في قوله : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )(الذاريات: 56) ، وأما الإحسان فهو تهيئة الشروط اللازمة، حتى تفعل هذه السنن فعلها، وتمضي بنا نحو الحضارة الإنسانية التي نتطلع إليها.
ولنكن على بينة من أن المضي في طريق هذه غايته ، لا يمكن أن يكتب له النجاح دون علم وجهد وجهاد وصبر ومصابرة ، ودون إخلاص لله ، وتقوى ، واستعداد للتضحية .
فإننا بمثل هذه العدة يمكن أن نخرج من أزمتنا بإذن الله .. ونبدأ أولى خطواتنا في درب الصعود..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============(9/105)
الإسلام و صراع الحضارات
الدكتور أحمد القديري
* مولود بالقيروان، تونس، عام 1946م.
* حائز على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون (الأطروحة حول تقييم الإعلام الفرنسي للصحوة الإسلامية الحديثة).
* خريج الجامعة التونسية، المعهد العالي للصحافة وعلوم الأخبار. قسم السياسة والقانون (الإجازة والأستاذية).
* صدرت له خمسة كتب، آخرها كتاب باللغة الفرنسية صدر عن دار الفكر العالمي بباريس، بعنوان: (الإسلام والغرب: صراع الألف سنة.. من الحروب الصليبية إلى حرب الخليج).
* حاصل على وسام الاستقلال، ووسام الجمهورية من الدولة التونسية عامي 1982م و 1986م.
* يعمل حاليًا بجامعة قطر منذ 1992م.
تقديم: عمر عبيد حسنه
الحمد لله ، الذي اصطفى الأمة المسلمة ، لوراثة الكتاب بقوله: (ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من عبادنا ) (فاطر:32) ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، بما تحمل من رسالة ، وما تقوم به من وظيفة ، وما تؤديه من أمانة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإيمان بالله ، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) ، وما تقيمه من موازين العدل ، والرحمة في حياة الناس ، وتقوم سلوكهم بشرع الله ، لأنها الأمة الوسط ، الأمة المعيار التي وكل إليها ، بما تمتلك من قيم الوحي السماوي السليم ، الشهادة على الناس ، وتصويب مسيرتهم ، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) ( البقرة:143) ، وبما تمتلك من رصيد التجربة التاريخية للأنبياء مع أقوامهم ، إضافة إلى ما تتمتع به من خصائص ، وصفات إنسانية ، ما تزال مفقودة عند كثير من الأمم ، التي يقوم كيانها على العروق ، والأجناس ، والألوان ، وما يشابهها من الأمور القسرية ، التي لا يد للإنسان في كسبها ، والتي مهما ادعى صاحبها الرقي والحضارة ، لا تنجو من التمييز ، والتعصب ، والروح العدوانية ، تجاه الآخر ، والشعور بالتعالي ، الذي يقود إلى الحقد ، والنزاع غير المشروع ، ويكفي تاريخها وواقعها دليلاً ، على أن هذه الأمم ، بخصائصها ، ومقوماتها ، التي هي عليها ، لا تمتلك رسالة إنسانية ، وعطاءاً عالمياً ، وامتداداً تاريخياً ، إلا بفعل السيطرة والاستعمار ، لأنها ترفض بأصل تكوينها ، فلسفة المساواة الإنسانية ، وتحقيق تكافؤ الفرص ، وحرية الاختيار ، التي تعتبر روح الحضارة الممتدة ، حيث تتأصل بها كرامة الإنسان.
وقد تكون مشكلة المسلمين ، وخاصة في مراحل الكمود ، والخمود ، والوهن الحضاري ، وشيوع التقليد، وغياب الوعي الجماعي ، وانطفاء الفاعلية ، في محاولة بعضهم التفكير بدخول جحور الضباب -حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه- التي تعيشها الحضارات الأخرى ، واختزال التاريخ الحضاري ، بعصر واحد ، والانبهار بالطفرات الحضارية ، أو الخداع الحضاري ، واستبدال الذي هو أدني ، بالذي هو خير ، والعجز عن إدراك الإمكان الحضاري ، الذي تمتلكه الأمة المسلمة ، لو تمثلت إسلامها ، واستشرفت ماضيها ، وأبصرت مستقبلها حقيقة.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة ، الذي جاء للعالمين بشيراً ونذيراً وكانت الغاية من ابتعاثه ، إخراج الناس ، من الظلمات إلى النور ، ووضع الآصار والأغلال التي عليهم ، وتزكية البشرية ، وإلحاق الرحمة بها، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء: 107) ، وتقديم الانموذج الحضاري الإنساني ، على الأصعدة المتعددة ، المتحقق من خلال عزمات البشر ، وهدايات الوحي ، المرشد إلى سنن البناء ، ليكون محلاً للاقتداء والتأسي ، بعيداً عن عبث الإنسان ، وأهواء الإنسان ، وتسلط الإنسان على الإنسان ، حيث لا أسوة بغيره ، ولا اقتداء بسواه ، لأنه مسدد بالوحي ، ومؤيد به ، وكل إنسان غيره ، يؤخذ من كلامه ويرد ، ويجري عليه الخطأ والصواب ، والانحراف والاستقامة.
لذلك كان من أهم عوامل الإمكان ،والارتكاز الحضاري ، امتلاك الأمة المسلمة للقيم السماوية السليمة ، التي لم يداخلها تحريف ، ولا تبديل ، إلى جانب امتلاكها أنموذج الاقتداء والتجسيد ، والعطاء لهذه القيم ، الذي استوعب جميع الأحوال التي تمر بها الأمة ، من سقوط ونهوض ، واستضعاف وتمكين ، ودعوة ودولة ، على مستوى الفرد ، والمجتمع ، والأمة ، والدولة .. إنها أمة تمتلك القيم ، وتمتلك الأنموذج التطبيقي ، ليكون دليلها في كل حالة تمر بها.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الرابع والأربعون: (الإسلام وصراع الحضارات) ، للدكتور أحمد القديدي ، في سلسلة كتاب الأمة ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ، في دولة قطر ، مساهمة في إعادة بناء فاعلية المسلم المعاصر ، الصالح بنفسه ، المصلح لغيره ، من خلال إحياء وعيه ، بموقعه الثقافي ، ورسالته الإنسانية ، وأمته المعيار ، وإمكاناته في النهوض ، وقدرته على استئناف السير ، وإحياء شخصيته الحضارية التاريخية ، وتوضيح ملامح حضارته ، وبيان قسماتها ، ونقاط ارتكازها ، والدور المنوط به اليوم -على الرغم مما يعانيه- (لإخراج الناس ، من عبادة العباد ، إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا ، إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان ، إلى عدل الإسلام)، واستنقاذه من العبث الثقافي ، والضلال الحضاري ، وتبصيره بالسنن الإلهية ، في الأنفس والآفاق ، التي تحكم الحياة والأحياء ، والتي هي أشبه بقوانين مطردة ، تمثل أقدار الله الغلابة التي لا تتبدل ، ولا تتغير ، ليحسن التعامل معها ، ويمتلك القدرة على تسخيرها ، ومغالبة قدر بقدر ، والفرار من قدر إلى قدر . يقول ابن القيم رحمه الله : ليس الرجل الذي يستسلم للقدر ، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله (مدارج السالكين ج1).
وقد يكون من المفيد هنا ، أن نشير إلى أن الصراع ، أو التدافع ، أو التداول ، أو الحوار الحضاري ، سنة اجتماعية ، من سنن الله تعالى وقوانينه ، التي لا تتخلف ، ولا تتبدل ، كما أنها سنة فردية أيضاً ، فالإنسان كفرد ، ليس خارجاً عن دائرة الصراع والتدافع الذاتي ، في الاختيار بين دوافع الخير ، ونوازع الشر ، في نفسه ، لأن في ذلك تتحدد حرية الإنسان في الاختيار ، وتتميز كرامته ، ويبين فضله، والشر من لوازام الخير ، وبضدها تتميز الأشياء.
فالصراع والتدافع ، هو سبيل الحيوية ، والنمو ، والازدياد ، وعلامة الحياة والاستمرار ، ابتداء من الخلية ، وانتهاءاً بالحياة الحية .. وهو إحدى محركات الحياة الاجتماعية ، وامتداد التاريخ البشري ، وله صوره المتعددة ، وشوكاته المتنوعة ، من الحوار ، والمفاكرة ، والمثاقفة ، والمناظرة ، والقتال ، والمواجهة ، والمنافسة ، والسباق ، والمغالبة ، كلها صور ومعارك ، منها : المشروع المحكوم بضوابط ليست من وضع الإنسان ، ومنها ما يستخدم وسائل غير مشروعة ، وكل ذلك يقع ضمن دائرة الصراع الحضاري ، الذي يندفع من عقائد وأنساق معرفية ، ورؤى قيمية ، وأنماط حياتية وسلوكية ، تمتاز بخصوصيتها ، وتسعى للبرهنة على أحقيتها ، وإثبات وجودها ، فهي أشبه ما تكون في خصوصيتها ببصمات الأصابع ، وسحن الوجوه ، وملامح الشخصية ، لا يمكن أن تتطابق ، ذلك أن التطابق ، يعني التوقف والموت.
والصراع بين الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحب والحقد ، والعفو والثأر ، والإيثار والأثرة ، والحق والباطل ، وبعبارة أخرى : الصراع بين المعروف والمنكر ، لا يتوقف إلا بتوقف الحياة.
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً )(الفرقان:31) وقال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )(الأنعام:112).
إنها ابتلاءات الحياة: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ماءاتاكم )(المائدة:48).(9/106)
فإبليس أبى السجود والطاعة لأمر الله ، وتمرد ، منذ بدء الخليقة ، وقال: (انظرني إلى يوم يبعثون ) (الأعراف : 14) فقال الله تعالى : ( فإنك من المنظرين ، إلى يوم الوقت المعلوم )(الحجر:37-38) ، واستمرت رحلة الغواية والصراع ، وكان لها جولات ممتدة في تاريخ البشرية ، أفراداً وجماعات ، وأخذت أشكالاً متنوعة ، وفاعليات متفاوتة ، واستراحات ، واسترخاءات ، هي غالباً ما تكون استعداداً لجولات جديدة. (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )(هود:118)، (اولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض )(محمد:4).
ولعل من مظاهر رحمة الله ، هذا التدافع والاختلاف ، الذي من خلاله يتحصحص الحق ، ويتمحص، وبسببه تنجو الحقيقة ، من الدمار ، والخير من الجفاف ، قال تعالى: (ولوا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ً)(الحج:40) ، وقال: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )(البقرة:251) ، وقال: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )(الرعد:17).
لذلك رأى بعض العلماء في ضوء ذلك ، أنه من المستحيل واقعاً وشرعاً ، أن يسلط الله على البشرية ظالماً واحداً ، يتحكم في مصيرها ، لفترة طويلة ، ذلك أن التدافع يكون بين الظلمة أنفسهم ، وبينهم ، وبين الحق ، وهذا سنة جارية ، في الحياة ، حتى يتوقف التاريخ ، ويتغير نظام الكون.
وأعتقد أن من أعظم الخلل الذي لحق بالعقل المسلم المعاصر ، ما يكمن في عدم التأصيل ، والتأسيس ، لعلم السنن ، من خلال نضج الرؤية القرآنية ، وتنزيلها على الواقع ، في السيرة والسنة ، ومن خلال استقراء محركات الصراع ، في تاريخ البشرية ، وعوامله ، وأسبابه ، ونتائجه .. إن هذا الخلل هو غياب عن الوعي ، تطيش معه السهام ، وتضل معه العقول ، ويقع الإنسان معه فريسة للمفاجآت ، والعجز عن التعامل معها ، لأنه عاجز ابتداءاً عن فهم المقدمات ، والأسباب الموصلة لها.
والذي يدرك سنة التدافع والصراع ، وأطرافه ، وميادينه ، وأسلحته ، ومساراته ، يصبح قادراً على حسن تسخيره ، والفقه بنتائجه ، ويمتلك القدرة على المداخلة ، والتحكم ، ومغالبة سنة بسنة ، أو بقدر بقدر - كما أسلفنا - ويمتلك القدرة على الحركة في كل الظروف وإيجاد مساحات لزرع الحقيقة وتنميتها.
ومن هنا ندرك بدقة مغزى قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (.. وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )(أخرجه البخاري) .
وندرك النتائج العظيمة ، من نصرة الحق التي ترتبت على قدرة وحكمة الصحابي الجليل نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة الأحزاب ، عندما رمت العرب المسلمين عن قوس واحدة ن حيث تكالبت عليهم ، وتحالفت : اليهودية ، والوثنية ، والقبلية ، وابتلى المؤمنون هنالك ، وزلزلوا زلزالاً شديداً ، حتى لقد بلغت القلوب الحناجر ، وبدأت الظنون ، تتسرب إلى النفوس الضعيفة ، قال تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا ً)(الأحزاب:10-11) .
في هذه اللحظات الحاسمة وهذه الشدة الشديدة من المواجهة ، أسلم نعيم بن مسعود ، وجاء خفية إلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وقال فيما ترويه كتب السيرة : أسلمت ، ولم يعلم أحد بإسلامي ، فمرني بما ترى ، فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: -بما معناه- ( إنما أنت فينا واحد ، وإن الحرب خدعة، فخذل عنا ما استطعت ) فكان ما كان من نعيم ، من فهم ، واستيعاب ، وفقه لسنة التدافع وعوامله ، ومداخله ، وكان النصر بعد الشدة ، وكان بلاء نعيم في الوقت المناسب وفاعليته ، أعظم من جيش كامل ، بخططه وعدده.
صحيح ، بأن المسلم ، يعتقد بأن النصر من عند الله ، وهي حقيقة ، يجب ألا تغادر نفسه ، لكن صحيح أيضاً ، أن هذا النصر أراده الله أن يتحقق من خلال أقدارٍ وسننٍ ، وعزمات بشر ، وأسباب ومسببات ، وكم يحتاج المسلمون اليوم - في حالات الحصار التي تفرض عليهم ويعانون منها أشد المعاناة - إلى نماذج ذكية ، فقيهة بسنن وأقدار التدافع الحضاري ، قادرة على دخول حلبة الصراع ، بجدارة واقتدار ، إلى درجة قد تمكن من إدارة الصراع ، وتحقيق كسب أكبر ، للقضية الإسلامية.
كم نحن بحاجة إلى نماذج من أمثال نعيم ، قادرة على التحرك في الوقت المناسب ، وحسن استخدام المتاح ، ذلك أن الإنسان المسلم ، بمقدوره أن يحقق الكثير الكثير ، إذا أدرك إسلامه وعقيدته ، وفقه المعادلة الاجتماعية ، التي يعيشها .
ومن هنا ندرك ، كيف يمكن أن يكون الفرد أمة ، وخاصة عند غياب الأمة.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار ، عند قوله سبحانه وتعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(آل عمران:137).
(إن إرشاد الله إيانا ، إلى أن له في خلقه سنناً ، يوجب علينا ، أن نجعل هذه السنن علماً ، من العلوم ، لنستديم ما فيها من الهداية ، والموعظة ، على أكمل وجه ، فيجب على الأمة - في مجموعها - أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه ، كما فعلوا في غير هذا العلم ، من العلوم والفنون ، التي أرشد إليها القرآن بالإجمال ، وبينها العلماء بالتفصيل ، عملاً بإرشاده ، كالتوحيد ، والأصول ، والفقه.
والعلم بسنن الله تعالى ، من أهم العلوم وأنفعها ، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة ، وقد دلنا على مأخذه على أحوال الأمم ، إذ أمرنا أن نسير في الأرض ، لأجل اجتلائها ، ومعرفة حقيقتها) (انظر تفسير المنار ، المجلد الأول).
ويقول الشيخ محمد عبده رحمه الله:
ولا يحتج علينا ، بعدم تدوين الصحابة لها ، فإن الصحابة ، لم يدونوا غير هذا العلم ، من العلوم الشرعية ، التي وضعت لها الأصول والقواعد ، وفرعت منها الفروع والمسائل ، وإنني لا أشك ، في كون الصحابة ، كانوا مهتدين بهذه السنن ، وعالمين بمراد الله من ذكرها ، يعني أنهم ، بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية ، والشعوب القريبة منهم ، ومن التجارب ، والأخبار ، في الحرب وغيرها ، وبما منحوا من الذكاء ، والحذق ، وقوة الاستنباط ، كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ، ويهتدون بها في حروبهم ، وفتوحاتهم ، وسياساتهم للأمم ، التي فتحوها ، وما كانوا عليه من العلم ، بالتجربة ، والعمل ، أنفع من العلم النظري البحت ، وكذلك كانت علومهم كلها.
ولما اختلفت حالة العصر اختلافاً ، احتاجت معه الأمة ، إلى تدوين علم الأحكام ، وعلم العقائد ، وغيرهما ، كانت محتاجة أيضاً ، إلى تدوين هذا العلم ، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية ، أو علم السياسة الدينية ، سم بما شئت ، فلا حرج في التسمية.
والسنة كما هو معلوم : الطريقة المعتبرة ، والسيرة الحميدة المتبعة ، والقانون المطرد ، الذي يتبدل ، ولا يتحول ، قال تعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الأحزاب:62) ، فالحياة لم تخلق عبثاً، وإنما خضعت لسنن وقوانين ، وأمر البشر في اجتماعهم، وما يعرض فيه من الصراع ، والتدافع الحضاري ، بين الحق والباطل ، وما يتبع ذلك ، من الحرب ، والنزال ، والملك ، والسيادة ، والتداول الحضاري ، يجري على طرق قويمة ، وقواعد ثابتة ، فمن سار على سنن الله ظفر بالفوز ، وإن كان ملحداً ، أو وثنياً ، ومن تنكبها ، خسر ، وإن كان صدّيقاً ، أو نبياً.(9/107)
وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في أحد ، وكذلك في أول المعركة في حنين ، ويتخرج انتصارهم على الأصعدة المتعددة ، (انظر تفسير المنار).
لذلك قد يكون من الأولويات المطلوبة في الفهم والتفكير الإسلامي اليوم ، إدراك أمر السنن والأسباب ، والأقدار ، وامتلاك القدرة على التعامل معها ، وتسخيرها ، ودخول حلبة الصراع الحضاري ، بميادينه المتعددة ، بأدواته ووسائله النوعية المطلوبة ، ذلك أن دخول أية معركة ، بدون أسلحتها الفاعلة ، سوف يؤدي إلى الخسارة الفادحة ، فالتعامل مع أي ظاهرة دون تحليلها ومعرفة أسباب نشوئها واستيعابها ، والإحاطة بها ، سوف يوقع بإحباطات كبيرة ، ومفاجآت غير متوقعة أو محسوبة.
وهذا لن يتأتى بالأماني والرغبات ، ولن يتأتى بالصراخ والعويل ، ولن يتأتى من زيادة الحماس ، وزيادة التوثب الروحي ، ولن يتحقق لعامة الناس ، وإنما لابد له من وعي كامل بمعرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، كأمر لابد منه لبناء المرجعية ، وتشكيل مركز الرؤية ، ومن ثم التحقق بالتخصص في فروع المعرفة والعلوم المتعددة ، وبخاصة العلوم الاجتماعية ، وتأسيس مراكز بحوث ومعلومات ودراسات يقوم عليها متخصصون ، يمثلون أهل الحل والعقد فيما اختصوا فيه ، وإحلال العقل الجماعي المؤسس ، محل العقل الفردي.
وأستطيع أن أقول : بأن أية مفاجأة بالنتائج ، تعني من بعض الوجوه ، نوعاً من البلاهة ، كما تعني عدم إدراك المقدمات ، فلكل قضية علمها المطلوب ، لإدراكها ، وفهمها ، والقدرة على التعامل معها ، ومن هنا يمكن أن ندرك بعض أبعاد قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه )(يونس : 39) .
وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر الإصابات والارتكاسات ، وتوالي الهزائم ، واستمرار السقوط ، والانحدار ، والانكسار ، والتراجع ، الذي يمنى به العالم الإسلامي والمسلمون بشكل عام.
ولا سبيل أمامنا للإحاطة بعلم الأشياء ، على الأصعدة المتعددة وعلى الأخص في مجال التدافع الحضاري الذي لا يتوقف ، ما لم ندرك السنن ، التي شرعها الله ، لتحكم حركة الحياة ، وسلوك الأحياء ، ذلك أن الفقه بالسنن ، هو الذي يحقق لنا الفرقان ، من إدراك المقاصد ، وإبصار المخارج ، وامتلاك الوسائل ، ودخول حلبة الصراع ، بالمؤهلات المطلوبة.
وقد يكون من المفارقات العجيبة ، والمؤرقة حقاً ، في الحالة الإسلامية اليوم ، أن المسلمين ما يزالون يمتلكون الخطاب الإلهي السليم ، دون سائر الأمم ، يمتلكون معرفة الوحي ، التي توقفهم على تاريخ الحضارات ، نهوضاً وسقوطاً ، وخلاصة التجربة البشرية ، والسنن التي حكمتها في التدافع ، والسقوط والنهوض ، لكنهم يعجزون عن الإفادة منها.
لقد قدمت معرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، الخلاصات ، والنماذج المطلوبة ، من قصص الأنبياء ، التي تعتبر منجماً زاخراً بالعبر والدروس ، وعطاءاً لا ينفد للتدافع ، والصراع بين الخير والشر ، والنتائج والمآلات التي تحققت وفق هذه السنن الإلهية في التاريخ ، الذي يعتبر المختبر البشري الدقيق لفاعلية هذه السنن ، حتى لقد جعلت معرفة الوحي السير في الأرض والنظر في أحوال الأمم السابقة ، وإدراك السنن والقوانين ، التي حركت مسار التاريخ ، أو تحرك التاريخ في مسارها ، من العلوم المطلوبة للمسلمين ، والتي بدون العلم بها سوف يخرجون من التاريخ ، وينقلبون من وسيلة محركة فاعلة ، قائدة ، مُسَخِّرة ، إلى أداة معطلة مُسَخَّرة .. سوف يتحولون من صناعة التاريخ ، إلى أن يكونوا محلاً لحركة التاريخ ، وتجاربه.
وبالإمكان القول : إن علم السنن التي شرعها الله للأنفس والآفاق ، تعتبر من الفروض الكفائية ، أو من الفروض الحضارية ، التي غفل عنها المسلمون جماعات ، وجمعيات ، ودولاً ، وأفراداً ، اللهم إلا من بعض الملحوظات والاضاءات ، والإشارات ، والبدايات ، التي لم ترق إلى مستوى العلم.
قال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )(آل عمران:137-138) ، فأين السير في الأرض المأمور به شرعاً ن والتوغل في التاريخ ، واكتشاف السنن التي طلب القرآن تحصيلها ، والاهتداء بها إلى فعل الصواب ، والاتعاظ بما تحقق منها ، في إطار الأمم السابقة ، والقيام بعملية المغالبة بين سنة وسنة ، وبين قدر وقدر؟
إن قسماً كبيراً من المسلمين اليوم ، يسيرون في الأرض ن ويذهبون إلى بلاد الحضارات الأخرى ، سير البلهاء ، والمغفلين اللاهين ، الذين ينتهي بهم قصدهم ويتحقق على مزابل الحضارة الغربية وإباحيتها ، أو على أحسن الأحوال يقرأون الحضارة قراءة خاطئة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وقد تسخرهم وتسحرهم ، بدل أن يسخروها ، ويعتبروا بإصاباتها.
إن السنن هي أمر الله ، وقدره الثابت ، الذي لا يتبدل ، قال تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً )(الأحزاب:38) .
ونعترف أن علم السنن ، تأصيلاً وتأسيساً ، لما يأخذ بعد طريقه إلى المسلمين ، وأكثر من ذلك ، إلى المؤسسات الإسلامية الرائدة ، المنوط بها إخراج الأمة والعالم الإسلامي ، من حفر التخلف ، التي يعيش فيها ، في الوقت ، الذي أصبحت فيه مراكز البحوث والدراسات ، والمعلومات المتخصصة في نطاق الحضارة الغربية ، التي تسعى إلى الغلبة والتفوق ، والسبق ، تتجاوز التصور.
لقد أصبحت مراكز البحوث والمعلومات ، جزءاً لا يتجزأ من نواتج الحضارة ، ولوازمها ، وأصبحت وسيلتها الفاعلة ، في إدارة الصراع والحوار الحضاري .. أصبحت جزءاً من البيئة العقلية ، للنظام الحضاري الغربي ، ومرتكزاً من مرتكزات النظام المعرفي ، وحاسة متقدمة من حواس صاحب القرار السياسي ، وجانباً هاماً من مباني الجامعات ، والمعاهد ، والمدارس .. إنها مخبرات الفحص ، والتحليل ، والاختبار ، لكل الظواهر الاجتماعية ، والنواتج الفكرية التي تمكن من التخطيط المستقبلي ، وصناعة القرار.
في الوقت الذي نرى فيه عالم المسلمين - إلا من رحم الله - لا يزال يمارس حالة الانتظار ، أو يعيش في غرفة الانتظار ، حتى تسقط الحضارة الغربية لصالحه ، دون أن يكون صالحاً مصلحاً ، والله سبحانه وتعالى يقول: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )(الأنبياء : 105).
إن الكثير من المسلمين اليوم ، يعاني من إصابة الأمية ، التي أخبر الله عنها في أهل الكتاب ، حيث قال تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني )(البقرة:78) .. إنهم مسلمو اليوم .
قال ابن تيمية رحمه الله : عن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما ، في قوله تعالى: (ومنهم أميون )، أي غير عارفين بمعاني الكتاب ، يعلمونها حفظاً ، وقراءة ، بلا فهم ، لا يدرون ما فيها..
وقوله: (إلا أماني ) ، أي تلاوة ، لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يتلى عليهم .
وعن الإمام أحمد رحمه الله قال :(9/108)
ذكر النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً ، فقال: (.. وذلك عند ذهاب العلم ) . قلنا : يا رسول الله : كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك ، من أفقه رجل في المدينة ، أوليس هذه اليهود والنصارى ، بأيديهم التوراة ، والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيهما بشيء )! ( الحديث رواه أحمد في مسنده ، ورواه ابن ماجه في سننه ، عن زياد بن لبيد الأنصاري ، رضي الله عنه ، في كتاب الفتن ، ورواه الترمذي في سننه في باب : ما جاء في ذهاب العلم ، وقال: وهذا حديث حسن غريب).
إن الحالة السلبية ، الانسحابية ، الإرجائية ، التي يعيشها معظم المسلمين اليوم انعكست على فهمهم للدين ، لإيجاد مسوغات ، ومشروعيات لحالهم.
إنهم ينتظرون السنن الخارقة ، ويعدلون عن السنن الجارية ، ولا يحسنون فقه الكتاب ، ومع ذلك يندبون حظهم العاثر ، والله تعالى يقول: (من يعمل سوءاً يجز به )(النساء : 123).
ولعل من أخطر ميادين التدافع الحضاري ، أو إن شئت فقل : الحوار الحضاري -وما الحوار إلا صورة من صور التدافع- مشكلة تحديد المفاهيم والمصطلحات ، والمفردات المعرفية ، التي تعبر عن الثوابت الحضارية والمرجعية الثقافية ، ذلك أن المفاهيم ، والمصطلحات ، أو ما يمكن أن نعبر عنه بعالم الأفكار ، والعقائد ، هي وسائل التحصين ، وأسلحة التدافع ، وأدوات الحوار الحضاري.
لذلك أعتقد أن الغفلة عن مدلول المفاهيم الشائعة ، أو التي يراد إشاعتها في عالم المسلمين ، والسماح بالاستقرار لدلالاتها بالذهنية الإسلامية ، وتأنيسها أو الأنس بها ، يعتبر من الغفلة عن الأسلحة ، وأول مراحل الوهن ، والاغتراب ، قال تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة )(النساء:102).
من هنا نقول: إن وضوح المفهومات والمصطلحات الإسلامية ، ومحاولة إشاعتها ، وإحيائها ، وإدراك دلالاتها ، يعتبر من الأمور المهمة في بناء المرجعية ، والتحصين الثقافي ، والانطلاق إلى ميادين التدافع والحوار ، بالزاد الكافي ، لأن المفهومات والمصطلحات الإسلامية تشكل أوعية التفكير ، وجذوع النسغ الحضاري ، الممتد ، من الماضي ، إلى الحاضر ، والمستقبل ، وتمثل خلاصات لمعطيات الوحي والعقل معاً ، إضافة لما لها من رصيد نفسي وثقافي ، واختبار تطبيقي تاريخي ، يجعلها محل ثقة واستمساك .. إنها باختصار تشكل ملامح حضارة الأمة ، وقسمات شخصيتها ، ومحصلات الفكر ، وأبجديات قراءة الهوية ، ومعالم الطريق .
لذلك فأي تنازل عنها ، بإسم الحداثة ، أو العصرية ، أو حتى مقاربتها بمصطلحات أو مفهومات الآخر ، هو تخل عن الذات ، وتوهين لقيم الأمة ، في معركة الصراع الحضاري ، وعدول عن الانتماء ، إلى الارتماء ، والسقوط لصالح الآخر.
من هنا نقول : لابد من البصارة ، والفقه ، والدقة الكاملة ، في فحص واختبار المفاهيم ، والمصطلحات السائدة ، والتعرف على منطلقاتها ، وأهدافها ، ودلالاتها ، وخلفياتها الثقافية.
ذلك أن المعركة الثقافية ، التي بدأت تتبلور لصالح الحضارة الغربية ومصطلحاتها على الساحة العالمية اليوم ، هي الأخطر ، ولئن كنا نعاني سابقاً ، من السقوط والانهزام ، والتخلف ، في عالم الأشياء ، فهذا يعني ، أننا مازلنا نحتفظ بالإمكان الحضاري ، أو نحتفظ بعالم الأفكار والقيم ، وخميرة النهوض ، لكن الخطر اليوم يكمن في التضليل أو التطبيع الثقافي ، المراد لهذه الأمة ، ومحاولة توهين قيم الحضارة الإسلامية ، ومقاربتها بالقيم الحضارية الغربية ، لضمان قبولها ومرورها إلى الداخل الإسلامي ، وذلك باستنبات كتاب ، ومفكرين ، وباحثين ، وإعلاميين ، وسياسيين ، ومراكز للبحوث والدراسات في التربة الإسلامية، مسكونين بقيم الحضارة الغربية ، ومفتونين بأشيائها ، وإنجازها المادي ، لتمكين مرورها إلى عالم المسلمين، باسم الانفتاح والحداثة ، وتحقيق المشترك الإنساني ، والعلمية ، والموضوعية ، والتجديد ، والعقلانية ، والوسطانية .. إلخ .
فالشورى الإسلامية المأنوسة ، بما لها من دلالات ، وتطبيقات ، وارتكاز عقيدي ، والتي هي في نهاية المطاف ، دين من الدين ، تصبح الديمقراطية الغربية نفسها ، مع التجاهل ، أو التجاوز الكامل ، لكل الخلفيات الفكرية لكل من الحضارتين والمصطلحين.
وأهل الذمة بكل دلالة المصطلح في السيرة النبوية والفكر والقيم ، والتاريخ ، يصبحون : مواطنين ، لا ذمِّيين ، وكأن الذمي ليس مواطناً ، يتمتع بحقوق وحماية إسلامية ، قد تتجاوز حقوق المسلم!
وفصل الدين عن الدولة ، وعزل الإسلام عن حكم الحياة ، وحصره في المساجد ، والعبادات التقليدية ، والعلاقات الفردية بين الإنسان وربه ، بعيداً عن حكم الحياة ، تُفَصّل له عملية التفريق بين الرسول النبي، الواجب الاتباع ، في الأمور العبادية البحتة ، والرسول الحاكم ، الذي تعني سنته هنا اجتهاداً يمكن تجاوزه!
والضرورة الشرعية بكل ضوابطها ودلالاتها ، التي يجوز معها ، وقف الاحكام لمرحلة ، أو لحالة طارئة ، تصبح هي المصلحة ، الموهومة الموقوته ، التي تبيح تعطيل النصوص ومحاصرتها ، ورفعها من التطبيق.
والجهاد في الإسلام إنما شرع لمحاربة الظلم ، وليس لمقارعة الكفر ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: (والكافرون هم الظالمون )(البقرة : 254).
والجهاد الذي هوأعلى أنواع العبادة والتضحية ، هو من الفعل الاجتهادي والسياسات الشرعية ، وليس من شؤون العقيدة ، ومقتضيات الدعوة.
لقد غابت ، أو غيبت من حياتنا الثقافية اليوم ، مفاهيم ومصطلحات الكقر ، والنفاق ، والإيمان ، والإسلام ، والشرك ، والتوحيد ، ومصطلحات أهل الكتاب ، وأهل الذمة ، والمعاهدين ، والنصارى ، واليهود، والوثنيون، والباطنيون ، والملحدون ، والمشركون ، تماماً ، لتحتل عقولنا مصطلحات ، ومعايير، ومفاهيم ، ومقاييس ، تطبع الهزيمة ، وتقرأ الحضارة المعاصرة ، بأبجديات خاطئة ، غير إسلامية، وتتحول حياتنا الفكرية إلى استخدام مصطلحات ومدلولات حضارة الآخر.
وقد تكون المشكلة أيضاً - إلى جانب من استنبتوا في التربة الاسلامية ، ليعملوا لصالح حضارة الآخر في المجالات المتعددة - فيما يسمى : النخب العربية الاسلامية ، التي مكن لها ، لتحتل مواقع القدوة والقيادة ، والتأثير ، والتي ارتهن معظمها لتلك المفاهيم والمصطلحات الفكرية ، بسبب دراستها وتخصصاتها ، في معاهد ومدارس وجامعات الغرب ، فهي رهينة المدرس ، والمنهج ، والكتاب ، والمرجع ، والتطبيق الحضاري ، مع التوهم بأن ما تعلمته ، هو معيار عام ، لكل تقدم وإنجاز ، حضاري ، يصلح لكل أمة ، مهما كانت عقيدتها ومعادلتها الاجتماعية .. لذلك والحالة هذه ، فإن عملية الصراع أو الحوار الحضاري ، سوف تكون محسومة لصالح الآخر .
فما يسمى اليوم ندوات للحوار الحضاري بين الإسلام والغرب ، أو ندوات ، لدراسة التيارات الفكرية في العالم الإسلامي ، كالصحوة ، وتياراتها ، أو الأصولية وأسبابها ، ودوافعها وأهدافها ، وما إلى ذلك من العناوين التي باتت تملأ الصحف والمجلات ، يدعى للحوار والمشاركة ، وتمثيل الإسلام ، أو الطرف الذي يحاور عن الإسلام في هذه الندوات ، بعض العلمانيين الذين يسكنون جغرافياً فقط في العالم الإسلامي ، يُدعي هؤلاء الذين لا يمثلون الثقافة والحضارة الإسلامية، ولا يعبرون عن ضمير أمتهم ، لقلة بضاعتهم فيها ، من جانب ، ولأنهم منحازون بطبيعة دراستهم ، وثقافتهم للغرب.(9/109)
لذلك فالحوار معهم ليس حواراً مع الآخر ، وإنما هو لون من النرجسية الثقافية ، والتخاطب مع الذات ، فالمؤسسات الغربية ومراكز البحوث والجامعات ، عندما تدعوهم ، فهي لا تدعو الآخر المسلم ، وإنما تدعو تلامذتها وخريجيها ، وحاملي ثقافتها ، وتحاور بهم نفسها ، وعلى ذلك فهي تزداد جهلاً بالإسلام ، والعالم الإسلامي ، وتعجز عن فهمه من الداخل ، وتكرس الصورة المشوهة ، والتفسيرات البعيدة ، عن الحقيقة ، هذا إذا أحسنا النية بأسباب الحوار وأهدافه .. كل هذا يتم اليوم باسم الحوار .
أما الحوار الحضاري أو الحوار مع الآخر ، وإتاحة الفرصة لتوسيع دائرة التفاهم ، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى العالم ، التي إنما جاءت لاستنقاذه ، وإيصال دين الله إليه ، بأفضل الوسائل ، والمجادلة له بالتي هي أحسن ، مع مراعاة أدب الحوار وشرائطه .. فهو من الفروض الشرعية الكفائية ، التي تعتبر من مسؤولية الأمة جميعها.
وأحب أن أوضح هنا : أن الحوار مع الآخر ، وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي ، للوصول إلى قناعات معينة ، أو للوصول إلى صيغ مشتركة ، للتفاهم والتعاون ، هو مطلب إسلامي ، وإحدى وسائل الدعوة والبلاغ المبين ، إذا توافر للحوار شروطه ، من إتاحة الفرص المتكافئة ، وتحرير موضوع الحوار ، والالتزام بآدابه ، وأخلاقه ، بل هو أكثر من مطلب إسلامي ، أو أحد خيارات المسلم ، إنه تكليف شرعي ، يقع تحت مدلول قوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )(النحل:125) ، ذلك أن الدعوة إلى دين الله ، وسبيله ، محلها ابتداءً : الآخر .
ولم يقتصر القرآن على الأمر بالمجادلة ، وإنما نص على أسلوبها , واشترط أن يكون بالتي هي أحسن حتى لا يكون منفراً ، وحتى يحقق الاقتناع عن اختيار ، ولا يشكل حاجزاً نفسياً يحول بين الآخر والإسلام ، خاصة أن الإسلام لا يخص جنساً ، ولا لوناً ، ولا قوماً.
وأحسب أن المبادرة بالحوار ، والدعوة إليه ، يجب أن تبدأ من عند المسلم ، وأن يكون المسلم أكثر حرصاً عليها من الآخر .. ولعلي أرى في قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )(آل عمران:64) ، تكليفاً شرعياً لا يخص عصراً بعينه ، ولا حادثة بعينها ، ولا يجوز أن يعتبر سبب النزول قيداً لخلود النص ، وتجرده عن حدود الزمان والمكان .. فمقتضى خلود النص يعني : أن التكليف جار وقائم في كل زمان ومكان .. والدعوة إلى الحوار ، واللقاء بالآخر ، ومحاججته بالتي هي أحسن ، وظيفة المسلم ، لإلحاق الرحمة بالناس .. وما يمتلك المسلم من قيم سماوية معصومة منزلة من رب العالمين ، وتجربة تاريخية فذة ، وشخصية حضارية وثقافية ، تجعله في موقع مكين ، يدفعه إلى الإيجابية ، وطلب الحوار ، ويجعل مكاسبه من الحوار مقدرة ابتداءً ، ذلك أن الآخر سوف يتأثر على كل حال ، وليس بالضرورة أن تظهر النتائج بشكل سريع ، فكثير من الصحابة رضوان الله عليهم سمع القرآن لأكثر من عشر سنوات ، وكان الحوار بالقرآن ، وكان المحاور الرسول صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم ، وجاء إيمانه متأخراً ، ومع ذلك أبلى في الإسلام بلاءً حسناً ، وانتصر هذا الدين على يده ، في معارك كثيرة ، فكرية ، أو فقهية ، أو عسكرية.
وكان الآخر هو الذي يتهرب من الحوار ، ويغلق منافذه ، ولعل قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )(فصلت:26) ، مؤشر واضح على موقع المسلم في الحوار ، وموقع الآخر ، لذلك لا أرى عذراً ولا مصلحة في إقفال باب الحوار مع الآخر أو نفيه ، أو إلغائه ، مهما كانت الأسباب ، أو ترك المبادرة له ، لتنظيم ندوات الحوار ، وتحديد أهدافه ، وموضوعه ، واستدعاء بعض الاسلاميين لملء المربعات المرسومة لهم مسبقاً ، بحيث تنتهي ندوات الحوار لتصب في مصلحة الآخر في نهاية المطاف خاصة اذا كان الإسلاميون المدعوون ممن استنبتوا على التربة الإسلامية ، وغرسوا فيها لهدف ، حيث جعلت مهمتهم توهين القيم الإسلامية ومقاربتها بقيم الحضارة الغربية ، التي تمثل الآخر في الحوار الدائر اليوم.
وقضية الحوار مع الآخر ، وإعادة النظر بمواصفات الخطاب الإسلامي المعاصر ، وأدوات توصيله ، ووسائل إبلاغه على مختلف الأصعدة ، لم تعد خياراً للمسلم ، في عصر ثورة المعلومات والاتصالات ، وتطور وسائل الإعلام ، حتى يكاد العالم يصبح قرية إعلامية صغيرة ، وحيث امتدت حواس الإنسان من خلال وسائل الإعلام ، لترى ، وتسمع ، وتستقبل ، وترسل ، إلى أقاصي الدنيا ، وتعالت الأصوات في الدعوة إلى الحضارة الواحدة ، والنظام العالمي الجديد ..
والمطروح : كيف يستطيع المسلم استشعار التحدي الإعلامي والمعلوماتي ، وامتلاك القدرة على أن يصب في هذه الأوعية الإعلامية ، المواد النافعة ، ويسجل حضوراً ، أو شهوداً حضارياً ، ويحول النقم التي تصب من فوق رأسه إلى نعم ، في إيصال الإسلام إلى الناس؟
وهنا قضية ، أرى أن إعادة التذكير بها ، في غاية الأهمية ، وهي أن الحضارة الإسلامية ، هي في حقيقتها ، وتاريخها ، ونواتجها ، حضارة إنسانية ، لا تخص جنساً ، أو لوناً ، أو عرقاً ، أو منطقة جغرافية ، أو طبقة اجتماعية ، وإن كان العرب وبلادهم هي قاعدتها ، وهم حملتها الأوائل ، لقد تجاوزت بدعوتها وممارستها كل الفوارق القسرية ، التي لا يد للإنسان في وجودها ، وجعلت معيار الكرامة ، فعلاً كسبياً ، بمقدور كل إنسان أن يرقى إليه ، وليس أمراً قسرياً لا يد له فيه ، قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(الحجرات:13) .
لقد جاءت معظم آيات القرآن المكية ، تؤكد الوحدة الإنسانية ، وتحطم الفوارق التمييزية ، قبل أن يكون للمسلمين أمة أو دولة ، أو حكومة ، أو موقعاً جغرافياً ، وكانت الوحدة الإنسانية ، أو وحدة الأصل البشرية ، من المقومات الأساسية التي نص عليها الوحي ، ولم يدع مجالاً لا للمساومة عليها ، أو يسمح بتجاوزها ، وكان عطاء الوحي موجهاً إلى العالمين ، بل لقد كانت الغاية من الرسالة السماوية وإنتاجها الحضاري ، هو إلحاق الرحمة بالناس كافة ، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(الأنبياء:107) ، وكان الإسلام أول من دعا إلى فكرة المواطن العالمي ، في أمة الإسلام ، والتمتع بالحقوق ، والواجبات كافة ، في دولة الإسلام ، بمجرد أن يعتنق الإنسان الإسلام ، كائناً من كان ، وبذلك انتفت عن الإسلام وحضارته إصابات العنصرية ، والعرقية ، ولوثة وعقدة الشعب المختار التي لم تبرأ منها الحضارات البشرية بشكل أو بآخر.
وبذلك فالإسلام بطبيعته يناقض التعصب ، والانغلاق , ويعتبره من الجاهلية وآفاتها ، ونخوتها ، وتعاظمها بالآباء ، وسفهها ، لأن أسوار التعصب المحتمل ، أو العارض ، لا يلبث أن يكسر بمجرد الإيمان ، والدخول بالإسلام ، بينما نرى الحضارة الغربية ، هي حضارة اللون والعرق والقوم ، رغم ادعائها بالإنسانية .. إنها توبخ نفسها بادعاء الإنسانية ، والمعيار الحضاري الإنساني ، في أكثر من موقع من العالم ، ولسنا بحاجة للتذكير ، بتاريخها الإستعماري، كما أننا لا نرى أنفسنا بحاجة إلى القراءة في واقعها وممارساتها في فلسطين ، والبوسنة ، والشيشان ، وغيرها من بلاد العالم.(9/110)
والحضارة ، أية حضارة ، ترتكز إلى اللون ، أو العنصر ، أو القوم ، أو العرق ، أو الطبقة ، هي حضارة عنصرية ، أو عدوانية ، بطبيعتها وأصل تكوينها ، لا تستطيع أن تعيش بدون عدو أو عدوان ، فإن لم يوجد لها عدو حقيقي ، تصنع لنفسها عدواً ، ولو كان وهمياً ، لمعالجة مشكلاتها الداخلية ، وتوجيه أنظار شعوبها إلى الخارج ، فهي كالنار التي سوف تأكل بعضها ، إن لم تجد ما تأكله.
لذلك رأينا كيف أن عسكر الحضارة الغربية حاولوا استعمار العالم واستنفاد خيراته ، وامتصاص خبراته ، وكيف أن مصانع ، ومعامل ، وجسور ، وأنفاق بلاد الحضارة الغربية ، إنما بنيت بأموال المستعمرات ، وسواعد العمال ، الذين جلبوا ، والأرقاء الذين خطفوا من بلادهم الأصلية.
وأن أموال ، وخبرات وطاقات العالم النامي ، وعلى الأخص العالم الإسلامي ، ما تزال موظفة بشكل أو آخر لصالح حضارة الغرب .
وكيف أن هذه الحضارات العرقية العنصرية ، بمجرد أن يتوقف عدوانها على الخارج تنفجر فيها النزعات العنصرية الداخلية ، وتقوم فيها الديكتاتوريات الاستبدادية.
إن فكرة الصراع الحضاري ، أو التحدي الحضاري ، أو ما يسمى صراع البقاء للأقوى ، أو الصراع الطبقي ، هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية ، بمذاهبها المتعددة ، وتطبيقاتها المتنوعة .. والصراع يعني - فيما يعني - محاولة إلغاء الآخر بشتى الأساليب والوسائل ، لذلك فإن أية حضارة ، أو ثقافة ، تفتقد النزوع الإنساني ، وتقوم على العرق أو الجنس ، أو اللون ، أو الطبقة ، هي حضارة تمييز وتعالٍ بطبيعتها - كما أسلفنا - الأمر الذي يقودها إلى الاعتقاد بأن البقاء مرهون بإلغاء الآخر ، لذلك تصبح الطبيعة العدوانية ، من أخص خصائصها ، إن لم نقل : إنها في الأصل تقوم على الفكرة العدوانية ، لأنها تنظر إلى الآخر نظرة دونية ، وتحاول أن تصرعه ، وتتغلب عليه ، وهذا يستدعي استعماره واسترقاقه ، واستنفاد طاقاته ، ليبقى صريعاً .
من هنا ، قلنا : بأنها لا تستطيع أن تعيش بدون عدو ، يضمن تماسكها ، واستمرارها .. فإن لم يكن لها عدو ، فلتصنع عدواً .. وإن لم تستطع صناعة الأعداء ، لاستمرار التعبئة والمواجهة ، ترد سهامها إلى ذاتها ، فتتآكل من داخلها ، أو يتحول عدوانها إلى الداخل .
وفي ضوء ذلك ، يمكن أن نفسر دوافع الحملات الصليبية على العالم الإسلامي ، كما نستطيع أن نفسر دوافع الاستعمار الحديث ، الذي لم يختلف عن الحملات السابقة إلا بوضع الصليب ، الشعار المستفز لعالم المسلمين .. ويمكن أن نفسر في ضوئه أيضاً ، الحروب الكونية العالمية ، التي جاءت من أخطر صور العدوان وأعظمها ضحايا .. هذا على مستوى الموقف العدواني من الآخر ، ثقافة وحضارة
فإذا ما جئنا إلى الموقف العدواني ، على مستوى الذات ، فنرى أن معظم الأنظمة الفاشية ، والنازية ، والديكتاتورية ، ومؤسسات الاستبداد السياسي ، كانت من إفرازات الحضارة الغربية ، ومواليدها الشرعيين ، ولا يزال العالم يذكر نماذج المآسي الإنسانية ، من أمثال : موسليني ، وهتلر ، وستالين ، وفيردنياند ، وإيزابيلا ، ومحاكم التفتيش ، وفرانكو ، وغيرهم .. كما لا يزال يذكر مذهب ميكافيللي الذي يمثل الأساس الثقافي والفكري لحضارة الصراع الغربية .
ونحب أن نوضح أن إصابات العدوى التي لحقت بمؤسسات الحكم في العالم الإسلامي ، من حضارة الغرب العنصرية ، والتي جاءت بسبب الانسلاخ عن الإسلام ، والعدوان له ، وأفرزت نماذج لا علاقة لها بسماحة الإسلام ، وعدالته ، وإنسانيته ، هي دخيلة على الحضارة الإسلامية ، التي تعتبر الاعتراف بالآخر ، وحقه في حرية العقيدة والعبادة ، والعمل ، والاختيار .. ديناً من الدين.
وخلاصة القول : إن حضارة الغرب ، هي حضارة القوة والصراع ، وتسلط الإنسان على الإنسان ، ولو بدت على غير ذلك ، بسبب التضليل الإعلامي .. إنها حضارة جباية ، وحقد ، وعدوان ، والتاريخ والحاضر يعتبران شاهد إدانة على ذلك في مواقع متعددة .. بينما نرى الحضارة الإسلامية ، حضارة إنسانية .. حضارة رحمة ، وحب ، وهداية ، واحتساب ، واعتراف بالآخر ، وليست حضارة حقد وصراع .. هي حضارة الإنسان ، التي تدعو إلى الحوار على كلمة سواء ، وتعتمد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتتنكر للإكراه في الدين ، وتبتغي إلحاق الرحمة بالعالمين ، لأن الناس كل الناس ، هم محل الخطاب السماوي .. والقوة في الإسلام ، إنما تشرع حتى تحمي حرية الاختيار وتحقيق إنسانية الإنسان.
ونعتقد أن الحضارة الغربية ، وإن استطاعت بأشيائها ، وقوتها ، أن تطفو حضارياً ، وتكسب بعض الجولات في الصراع الحضاري ، إلا أن العبرة دائماً بالعواقب ، والمآلات ، وليس بالنتائج القريبة ، فكثيراً ما حمل لنا التاريخ ، دلالات حضارية ، على أن الأفكار والعقائد ، تبقى أقوى من الأشياء والسياسات ، وأن قيم المغلوب عسكرياً ، كانت أقوى من عسكر الغالب ، وأن الحضارة الإسلامية ، هضمت الكثير من الموجات ، والاجتياحات الاستعمارية العدوانية ، وانتهى الغالب إلى اعتناق حضارة المغلوب ، وهذا ما لا نراه إلا في تاريخ الحضارة الإسلامية ، لأنها حضارة الفطرة ، حضارة الإنسان.
وقد يكون من أخطر إشكاليات الصراع الحضاري ، التي يعاني منها عالم المسلمين اليوم -إضافة إلى وجود العلمانيين ، والحداثيين المرتهنين لحضارة الآخر ، بسبب تشكيلهم الثقافي ، وتاريخهم التعليمي ، ونظامهم المعرفي ، الذين يشكلون طلائع متقدمة ، للحضارة الغربية في الداخل الإسلامي ، ويفعلون فعلهم في الإفساد ، والتخريب ، لصالح الغرب- هو في أنظمة الاستبداد ، وما يلازمه من القمع السياسي ، والظلم الاجتماعي ، التي وجدت لصالح الغرب ، بحيث أصبحت عوامل الطرد للطاقات المتميزة ، والخبرات ، والسواعد ، والأموال ، متوفرة في معظم بلاد العالم الإسلامي ، إلا من رحم الله ، وبذلك يدمر المسلمون طاقاتهم ، ويكسرون أسلحتهم ، ويكرسون تخلفهم بأنفسهم ، أو بمعنى آخر : يخربون بيوتهم بأيديهم ، في الوقت الذي نرى فيه ، عوامل الجذب ، والإغراء بالهجرة ، متوفرة في مجتمعات الحضارة الغربية .
ونستطيع أن نقول : إن خيرة الطاقات الإسلامية ، اليوم ، في العلوم التطبيقية ، والإنسانية على سواء ، مسخرة لخدمة الحضارة ، والتقدم ، والتحكم ، والسيطرة الغربية .
إن كثيرا من الجامعات ، والمعاهد ، ومراكز الدراسات ، والمخابر ، والشركات ، والمؤسسات المالية ، والاقتصادية الغربية ، تتوفر على أفضل الطاقات الإسلامية ، و تتقوى بها. ويُخشى أن تفتقد هذه الطاقات والخبرات ، انتماءها ، شيئاً فشيئاً ، بسبب أجواء الإرهاب السياسي ، والفكري ، في معظم بلاد عالم المسلمين .. وكم يبدو الأمر مذهلاً ، وخطيراً مستقبلاً ، إذا أدركنا أن الهجرة لم تعد تقتصر على الأدمغة المتميزة ، والسواعد القوية ، والخبرات المقدورة ، وإنما تتجاوز ذلك إلى هجرة الأجنة في الأرحام .. إنها قمة المأساة من الناحية الحضارية ، أن يسعى الكثير من أبناء العالم الإسلامي المنكوب بأهله ، أن يستولدوا نساءهم في ديار الحضارة الغربية ، لاكتساب الجنسية والمواطنة ، هناك ، حيث يجد الإنسان نفسه ، ولو وهماً ، يستمتع ببعض حقوقه ، ويشعر بإنسانيته ، المفقودة هنا.(9/111)
وتزداد محنة المسلم ، وفتنته ، عندما يرى ، أن ما يتمتع به من الحقوق والحريات ، وسيادة النظام والقانون ، في بلاد الغرب ، مفقود تماماً في العالم الإسلامي وأن ما يقوله ، ويمارسه ، من الحرية ، في الدعوة إلى الإسلام ، في المراكز ، والحدائق ، والشوارع ، ووسائل الإعلام - على الرغم من أن هذه الحرية ، الواقعة تحت السيطرة ، بدأت تواجه اليوم بالزعات العنصرية ، التي تعبر عن طبيعة وحقيقة الحضارة الغربية - لا يمكن قوله وممارسته ، في كثير من مساجد العالم الإسلامي التي تحكمها أنظمة الاستبداد السياسي ، ويفوته أن هذا يشكل قمة الصراع ، والاستلاب الحضاري ، والغزو الثقافي.
فإذا عجز عن تجاوز الصورة ، إلى إدراك الحقيقة ، وتجاوز النتيجة إلى فهم المقدمة ، وأدرك أن حضارة الغرب ، التي تتيح له أقداراً من الحرية ، وحقوق الإنسان - لا تخرج عن السيطرة بحال من الأحوال - وأن الغرب الذي يستقبله مهاجراً ، أو لاجئاً سياسياً ، هو الغرب نفسه ، الذي يدعم أنظمة الاستبداد ، والقمع السياسي ، في كثير من بلدان العالم الإسلامي ، ويخوف من عودة الوعي الإسلامي ، ويغري باستئصالها ، ويمد الأنظمة ، بالخبرات ، والأدوات ، والمعلومات ، لتكون في مواجهة الأمة .. إذا عجز عن إدراك هذه الحقيقة ، استلب حضارياً ، وأصبح رهينة ، واقعاً في العمالة الثقافية.
حيث لابد أن ندرك أن اليد التي تمنح المسلم ، الحرية هناك ، هي اليد نفسها ، التي تمنعها هنا ، ليتم الاستقطاب ، والتحكم من جانب ، ولإعطاء دليل عملي واقعي ، على أن حضارة الغرب ، بعطائها ، تتميز عن حضارة المسلمين ، فتهفو النفوس إليها ، وتهاجر الأجنة إلى بلادها.
ولقد بلغت المحنة مداها ، وأخذت الفتنة أبعادها المرسومة ، حتى عند بعض المفكرين والأفراد الممتازين - إن صح التعبير - الذين بدأوا يشيدون بقيم الحضارة الغربية ، واحترامها للإنسان .. ولم يقتصر نقدهم ، على واقع المسلمين البائس ، بسبب انسلاخهم عن الإسلام ، لا بسبب انتمائهم له ، والتزامهم به ، وإنما تجاوزوا إلى نقد التاريخ الإسلامي ، ولم يعودوا يروا فيه إلا النقاط السوداء ، والممارسات الشاذة ، وبدأوا يعيشون عقدة مركب النقص ، أمام قيم الحضارة الغربية ، وآلياتها ، دون أن يبصروا صورتها الحقيقية ، أو وجهها الآخر ، على يد عملائها وسدنتها في العالم الإسلامي .
وأعتقد أن التحكم والسيطرة على العالم الإسلامي ، واستنفاد طاقاته ، لم تعد تقتصر على إقامة الحراسات ، والمخافر ، لمصلحة الحضارة الغربية ، ودعم أنظمة القمع والاستبداد السياسي ، والتمكين لها ، وامتصاص خبرات ، وطاقات ، وسواعد المسلمين ، وإنما تجاوز ذلك ، إلى محاولات التحكم بالمستقبل ، حتى لا تقوم للمسلمين قائمة .
إنها مرحلة التحكم بالأرحام ، والحد من النمو الديموغرافي للمسلمين ، وذلك بإقامة مؤتمرات للسكان ، والتمهيد لتشريعات ، وتوصيات ، الغاية منها الحصار السكاني ، بعد أن تحقق الحصار السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، حتى لا تخرج الأصلاب ، وتحتضن الأرحام ، من يفكر بالخروج عن السيطرة في المستقبل .
ومن ميادين الصراع الحضاري الخطيرة ، التي لابد من التنبه لها أيضاً ، قضية الابتعاث ، وتلقي العلم والثقافة ، في معاهد ، وجامعات الحضارة الغربية ، ذلك أن الإلقاء بالطلبة في محاضن الحضارة الغربية ، دون توفير التحصين الثقافي المكين ، والوعي الحضاري اليقظ ، ودون تزويدهم بدليل التعامل مع قيم الحضارة ، وفهمها ، وحسن قراءتها ، سوف يجعل منهم ضحايا ، قد يعودون إلى بلادهم ، مشوهين حضارياً ، أو قد ينتهون ، إلى الاستيطان ، يصبحون طاقات ودماءً في شرايين الحضارة الغربية ، ويستوي في ذلك الذين يذهبون لتلقي العلم التجريبي ، والذين يدرسون الإنسانيات ، وإن كانت دراسة الإنسانيات أشد خطراً وأعظم أثراً
أما الكثيرين من الذين يذهبون لأقسام الدراسات الشرقية ، وأقسام الشريعة ، والدراسات الإسلامية ، التي أقامها الغرب لأداء رسالة معينة ، دون تحصينهم بمعرفة الوحي ، وبناء مرجعيتهم بضوابط الشريعة وعزائم الإيمان ، بشكل صحيح ، فسوف يكونون الأخطر ، في آليات الصراع الحضاري ، لأنهم ينقلبون إلى ألغام في جسم الأمة ، قابلة للانفجار في كل لحظة ، حيث يتحدد دورهم ، في نقض الأسس ، وهدمها ، وتوهين القيم ، والتشكيك فيها ، لصالح الآخر ، ذلك أن العدوان على الإسلام ، والتحدي والاستفزاز من الخارج ، يجمع الطاقات ، ويقضي على الرخاوة ، ويقوي العزائم ، ويبعث الروح الحضاري .
إنه المحرض الحضاري ، الذي يساهم باسترداد الذات ، والاحتماء بالقيم ، وتجديد الانتماء ، وتمتين الالتزام في معركة المواجهة .. وقد تكون المشكلة ، كل المشكلة هنا ، هي في تدمير البيوت ، بأيدي أهلها.
والحقيقة الأخرى ، التي لابد أن نعرض لها ، في إطار الحوار ، أو الصراع الحضاري ، هي قضية اللغة، وما تحمل من دلالات ، تعتبر أوعية للتفكير ، وليس مجرد وسيلة للتعبير ، وما تحمله وتعبر عنه ، من حالات نفسية وشعورية ، وما تمتلكه من مصطلحات ، ومفاهيم هي خلاصات لعقل الأمة , وتجاربها وخبراتها . وليس من قبيل المجازفة القول: إن اللغة هي أداة الفعل الحضاري ، ووسيلة التكوين ، والتشكيل الثقافي .. إنها وعاء الهوية ، وأداة التواصل بين الأجيال .. هي التراث ، والحاضر ، والمستقبل ، لأنها طريقة الفهم للتراث ، والتاريخ ، والقيم .. لهذا كله ، كانت ، ولا تزال ، مستهدفة من الآخر ، في عملية الصراع ، والاستعمار ، والحوار الحضاري ، فالأمة الي تلغي لغتها في المعهد ، والجامعة ، والمدرسة ، والكتاب ، والمصدر ، والمرجع ، هي أمة متوقفة حضارياً عن الامتداد والإبداع ، ومهزومة حضارياً ، إن صح التعبير ، مهما حاولنا التخفيف من آثار ذلك ، والادعاء ، بأن اللغة هي وسيلة تعبير ، وتفاهم فقط ، لا علاقة لها بالتفكير ، أو الفعل الحضاري.
ولا يستع المجال هنا ، أن نعرض لدور القرآن ، في حماية اللغة العربية ، ولماذا أنزل بالعربية ، ودور سلامة اللغة ، في إدراك مدلولات النص القرآني ، وعمليات المسخ ، والتشويه ، والتحريف ، التي لحقت بالنصوص المقدسة الأخرى ، والتمزق ، والتبعثر الديني ، والعقيدي الذي نتج عن ذلك ، بسبب سوء الترجمات التي اتسعت لسوء المقاصد والنوايا.
وسوف تستمر هزيمتنا ، ويتوقف نمونا ، ويغيب إبداعنا ، وتحاصر رسالتنا ، إلى العالم ، طالما أننا نفكر بأوعية الآخرين ، ونصب أفكارهم في عقولنا ، من خلال لغاتهم .(9/112)
وتبقى قضية على غاية من الأهمية .. فإذا تقرر لدينا ، أن الحوار الحضاري ، هو سنة من سنن الله في الكون ، له مقوماته ، وآلياته ، وأدواته ، وأهدافه ، وغاياته ، وأسلحته المتعددة ، فإن فهم إدارة الحوار، وكيفيات التعامل معنه ، لا يقل أهمية عن امتلاك أدواته .. فكثيراً ما تستنزف الطاقات ، في معارك دفاعية ، غير مجدية ، بل خاسرة ، لأنها استنفاد للطاقة ، واستهلاك لها ، على حساب مواقع انتاجية أخرى .. فإذا استغرقتنا المواقف الدفاعية ، في معركة الصراع الحضاري ، وأصبح كل فعلنا ، الرد على التهم ، التي توجه إلينا ، دون وعي بآلية الصراع ، والتحكم بإدارته ، نتحول من أن نكون أحد أطراف الحوار ، المستخدمين لأدواته ، إلى أداة للحوار ، وميدان له ، ونخضع لتحكم الآخر ، بتفكيرنا ، ونشاطنا ، بحيث يصبح الزمام بيده ، فيكفي أن يلقي إلينا بالتهم ، التي يريد ، ويحدد الزمان الذي يختار ، ومكان المعركة التي تناسبه ، ونحن ما علينا إلا رد الفعل ، والاستجابة المرسومة مسبقاً ، وبذلك يتحكم بساحة تفكيرنا ، وبنوع نشاطنا ، ومجال فعلنا ، ويفقدنا زمام المبادرة ، وتصير حياتنا ، رد فعل عفوي ، بعيداً عن الفعل المختار.
إن عمليات الاستهداف ، ولائحة الاتهامات للإسلام اليوم ، ومحاولات إدانة صحوته ، وشل حركة العاملين، ومحاصرتهم ، باسم الأصولية ، والإرهاب ، واعتبار الإسلام هو العدو الحضاري للغرب ، وتوظيف كثير من الأنظمة ، والأفراد ، والمؤسسات ، يتطلب من المسلمين استيعاب الهجمة ، بعيداً عن الانفعال ، والاستجابة العفوية للاستفزاز ، والصبر ، والتبصر ، بكيفيات إدارة الصراع ، لتفويت غرض الآخر ، والتحول من أن نكون موطناً لأفكار الحضارة الغربية ، وترجمتها إلى حياتنا ، ومقاربة قيمنا بها ، إلى نقل كنوز ، وروائع ، وقيم الحضارة الإسلامية ، إلى الآخر لإلحاق الرحمة به ، واستنقاذه من التشويه العنصري والقومي ، وبذلك نسهم فعلاً في الحوار الحضاري المثمر ، وبناء حضارة إنسانية ، يكون فيها الأكرم هو الأتقى.
إن الحضارة الغربية التي انتصرت بأشيائها وقوتها ، وسقطت بقيمها وإنسانها ، يرتفع صوتها اليوم ، وترفع شعارها يومياً ، على عالم المسلمين ، وكأني بها تقول للمسلمين المهزومين : ( اعل هُبل ) ، مستخدمة في ذلك وسائل إعلامها .. ولنا أن نتصور مدى الخطورة المستقبلية ، إذا لم نكن في مستوى إسلامنا ، وعصرنا ، حيث من المتوقع ، في هذا العام ، أن يصل عدد قنوات الإرسال التلفزيوني الفضائية، إلى نحو 140 قناة ، تعمل 75 قناة منها على مدار الساعة ، أكثر من 91% منها تبثها شركات أو شبكات من أوروبا الغربية ، وأمريكا الشمالية ، واليابان ، واستراليا ، والعشر الباقية لا تخرج عن أن تكون رجع الصدى.
ولا شك أن هذا الإغراق الثقافي والإعلامي ، سوف يوقع في الداخل الإسلامي الكثير من الضحايا ، ممن ينقلبون على المفاهيم ، ويقررون الانسلاخ عن هذا الدين ، في مناخ القهر الحضاري ، ومحاولات التطبيع للهزائم .. لكن العالم الإسلامي ، المهزوم بأشيائه ، سوف يستعلي بقيمه وأفكاره ، ويواجه الغزو الذي يرفع شعار: (أعل هبل) بشعار ( الله أعلى وأجل) ، قولة أهل أحد.. وأن الهزيمة والاستفزاز والقرح ، الذي يصيب المسلمين ، سوف تؤدي إلى الاستجابة لله وللرسول ، ويتحقق الخلود لقوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )(آل عمران:139) ، ولقوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )(آل عمران:172) .
وتنبعث الروح الإسلامية من جديد .. فالاستجابة قادمة ، على مستوى عالم المسلمين ، والبشائر قائمة ، إن شاء الله .
والكتاب الذي نقدمه اليوم ، يعتبر إسهامة من الإسهامات البارزة في مجال الصراع الحضاري ، سواء فيما يفتح من نوافذ على رؤية الآخر للإسلام و المسلمين، أو بما يكشف من نوايا مبيتة لعالم المسلمين ، وصناعة للعداوات ، أو بما يقدمه من إلقاء الضوء على بعض جوانب حضارة الإسلام ، الأمر الذي يرشحها للصمود في معركة تحقيق الذات وحمايتها ، كما صمدت في الماضي ، كما يرشحها لأن تكون حضارة الإنسان البديلة ، بما تمتلك من القيم السماوية السليمة ، التي لابد فيها للإنسان ، ولا مجال معها لتسلطه على الإنسان الآخر ، وبهذه المساواة أمام الخالق الواحد التي تعتبر روح الحضارة الإسلامية سوف يتحقق التوحيد وتتوحد العبودية ، فإن حضارة الإسلام هي التي سوف تشكل البديل المأمول ، والملاذ الآمن ، للبشر جميعاً ، حيث تتحقق المساواة بين الخلق جميعاً ، وتسقط الفوارق ، التي كانت سبباً للشقوة والحياة الضنك .. والحمد لله رب العالمين.
=============
المقدمة
باسمه سبحانه أبدأ هذا الكتاب ، مصلياً ومسلماً على أشرف المرسلين وخاتم النبيين محمد المصطفى الأمين صلى الله عليه و سلم ورضي الله تعالى عن الأنبياء والرسل من قبله وهدى المسلمين إلى سواء السبيل .. وبعد
فحين هداني الله إلى وضع هذا الكتاب الوجيز ، عن مراجع الحضارة الإسلامية ، ومواقع قوتها الفكرية، كنت في الواقع أفكر في مستقبل تلك الحضارة، وما اعتمادي على الماضي ، إلا بقصد توظيفه لخدمة المستقبل.
ولعل القاريء المعاصر ، يعلم كما أعلم -وهو يعيش معي محاور هذا الكتاب ، في حرارته السياسية والثقافية- أن تحولات عميقة تطرأ يومياً على عالمنا ، وأن هزات عنيفة تغير خريطة الكون ، وأن الأنباء تتلاحق وتتسابق صباح مساء ، لتعلن عن تغيرات جذرية في السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة ، يساعد على الإحساس بها ، ذلك السيل الطامي من المعلومات والأخبار ، بسرعة انتقالها الآني عبر الأقمار الصناعية ، من منطلقاتها ، بأي مكان في الدنيا ، إلى أجهزة التلفزيون لدينا ، وهي في كل بيت ، كأنها القريب الحميم ، أو الصديق المقيم.
فالقاريء المعاصر عايش انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م ، وشهد مذهولاً عام 1989 سقوط جدار برلين ، تحت أقدام الشباب الألماني ، وإعدام آخر ديكتاتور شيوعي شاوشيسكو في بوخارست عام 1990م ، وعاش حرب عام 1991م ، وحضر انهيار الاتحاد السوفيتي ، وانفلاق جمهورياته كالحب والنوى ، وانتهاء الحرب الباردة ، وتعملق الولايات المتحدة وحدها ، وانتصار الثورة الإسلامية الأفغانية ، على الطاغوت الملحد ، واتساع المد الإسلامي كعقيدة استرجاع الهوية في أغلب البلدان المسلمة ، وأخيراً انتشار العدوان الصليبي الصهيوني المشترك على الأمة الإسلامية ، وبخاصة في رافديها الهامين فلسطين والبوسنة.
تلك في عجالة خاطفة ، بعض زلازل هذه العشرية ، ارتجت من هولها أركان عالمنا بأسره ، وفرضت على المجتمع الدولي استراتيجيات جديدة ، ورؤى فكرية مبتكرة ، فاضطر العقل هنا وهناك ، إلى محاولة القراءة في كتاب الأحداث الطارئة ، وفك طلاسم الوضع الراهن ، باستنباط أصناف مستحدثة من اللغة ، والسياسة ، والثقافة ، والفلسفة ، والفن ، والعلوم.
وهكذا نشأت تطورات عديدة ، ومتناقضة لمصير الإنسانية ، على ضوء اليقظة العنيفة للقوميات ، والهويات ، والثقافات ، وحاولت الحضارة المسيحية إنقاذ هيمنتها على العالم ، من التصدع ، فاكتشفت أن القيم الرأسمالية وما يصحبها من تحررية اقتصادية وسياسية .. يمكن أن تشكل مستقبل الإنسانية قاطبة ، من هنا جاء كتاب الأمريكي الياباني ( فوكوياما ) تحت عنوان : نهاية التاريخ .(9/113)
ونهاية التاريخ لدى هذا المفكر ، هي نهاية الحرب الباردة ، وانتصار الرأسمالية والتحررية ، بصورة حاسمة وأبدية ، على الشيوعية المنهارة .
أي في الحقيقة انتصار الغرب على الغرب ، لأن الرأسمالية والشيوعية ، كلاهما ثمرة من ثمار الفكر الغربي .
ألسنا اليوم ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، بازاء هيمنة نصرانية يهودية ، تحت ستار أحادية القوة الأمريكية ، التي لا تقهر ، وتحت شعار انصهار الحضارات كلها في قالب الغرب الظافر المسيطر؟ ألسنا نواجه كمسلمين ، محاولة تاريخية للعودة للإمبراطورية الواحدة ، التي لا تغيب عنها الشمي ؟ وريثة الامبراطورية الرومانية .. ثم البريطانية .. بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية ؟
نعم . إن انهيار الاتحاد السوفيتي ، أعلن عن قيام قوة عاتية ، لم يكن انتصارها مثل سائر انتصارات القوى التقليدية ، عسكرياً ، بل كان انتصارها بدون حرب ، مثلما قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون. ولم تحسم المعركة بين العملاقتين في ساحة وغى ، بل إنهما لم تتصادما مباشرة في أية أزمة حدثت ، وأكثر من ذلك فقد كانت أمريكا والاتحاد السوفيتي حليفين في الحرب الكونية الثانية ، ضد ألمانيا الهتلرية، وقوى المحور ، وانتصرا معاً وجنباً إلى جنب ، واقتسما الأرض ، إلى مناطق نفوذ معروفة معلومة .
وجاءت هزيمة المعسكر الشيوعي ثقافية وسياسية ، أو هي كما نسميها : هزيمة حضارية .
ضرب السوس في قلب الشجرة العجوز ، وخربها من الداخل ، وجدت القلعة المحروسة نفسها مشتعلة من خلف أسوارها . سقطت الأيديولوجية القائمة على الإلحاد ، وإلغاء الحريات ، وانعدام المبادرة ، ومنع الملكية الفردية ، تحت وقع الإعلام الغربي والثقافة الغربية ، حتى تشكل وجدان الشعوب السوفيتية والأوروبية الشرقية على الشوق للمدينة الأمريكية الفاضلة ، كحلم .. كمثل أعلى .. كجنة موعودة .
نعم كان الإعلام الأمريكي والأوروبي ، منذ العشرينيات ، متجهاً للرأي العام في الجمهوريات السوفييتية ، وأوروبا الشرقية ، يضرب له الأمثال بحياة المواطن الأمريكي والأوروبي ، ويظهر له تلك المجتمعات ، قمة من قمم النجاح ، والسعادة ، والرفاه ، والسؤود ، والاستهلاك ، والحرية ، والمبادرة .
وشاءت الثورة التكنولوجية والإعلامية والاتصالية ، أن تتقهقر الحدود الجمركية القديمة ، وأن تنهار الجدران ، وتذوب مساحات الجليد ، أمام الصورة بالقمر الصناعي ، عبر شاشات التلفزيون ، وشرائط الفيديو ، فهجم المثل الأعلى الأمريكي ، على المدن السوفييتية والأوروبية الشرقية ، كما يهجم نور الشمي الساطعة على السجون ، والمحتشدات المظلمة الحالكة .
ولم تجد تلك الإمبراطورية الشيوعية ، ما تقاوم به هذا الغزو ، سوى يقظة القوميات ، المخدرة منذ سبعين سنة . ثارت الأديان واللغات والأعراق ، وحلت حروب أهلية عاتية ، محل الوفاق الخادع ، والسلام الهش ، والصمت المفروض .
وبدأ العملاق الروسي يحرك جثته الحية ، من تحت أنقاض الخراب الشيوعي . هو أيضاً يتطلع بدوره للإمبراطورية القيصرية . تلك التي ظل يحملها في قلبه وفي كتبه الكسندر سلجنتستين ، الحائز على جائزة نوبل ، والمنفي في أمريكا ، والتي بدأ يعبر عنها فلاديمير جيرينفسكي بتطرف ، وبوريس يلتسين بتكتيك .
بدأ العملاق الراقد مثل أهل الكهف ، ينفض الغبار عن وجهه ويديه ويستعيد أسماء مدنه ، ورموز عظمته ، وآيات ثقافته ، وأطلق سراح تلك الجمهوريات ، التي كانت تدور في فلكه ، لتواجه كل منها مصيرها ، كما أطلق عقال شعوب أوروبا الشرقين في نوع من الذهول المدوخ .. ذهول السجين الذي خرج فجأة من زنزانته ، ولم يتعلم بعد طريقة استعمال الإرادة والحرية ، بل لم يفقه بعد طريقة استعمال حواسه الطبيعية.
وفي هذا الخضم المتلاطم من الثورات والتحولات ، فتح المسلمون أعينهم على عالم جديد ، كأنهم يكتشفون جزيرة حي بني يقظان ، وعرفوا أن الأمر جلل ، لأن عليهم أن يصمدوا بإزاء العواصف الهوجاء ، وأن يجوسوا خلال ركام الأيديولوجيات ، وتزاحم الهيمنات ، حتى ينجو بإسلامهم ، ويفرضوا هويتهم ، ويعيشوا عصرهم ، دون الذوبان في ذلك الجهاز الأعمى الصاهر المسمى بالنظام العالمي الجديد ، الذي لم توضع أسسه معهم.. بل وضعت ضدهم.
أفاق المسلمون على التحديات الجديدة المتربصة بمصالحهم، وهي تحاول التخطيط لمصادرة مصيرهم، وإخراجهم من حركة التاريخ ، فتنادوا متواصين بالحق من أدنى الأمة إلى أقصاها، وإنك لتقرأ أصداء ذلك التواصي ، فتدرك أن الضمائر استنفرت، وأن العقول شحذت، وأن الساعة دقت، لتجاوز مرحلة التواصي بالحق، إلى مرحلة العمل الصالح ، بتنسيق الجهود المتبعادة، والخروج على العالم باستراتيجية إسلامية متكاملة ، تكون الجذع المشترك لتلك الصفوات الواعية في ديار الإسلام كلها.. وما أحوجنا اليوم إلى ما يجمع ، وما أغنانا عما يفرق.
إن ما يجمعنا هو المنقذ من الضلال، إنها تلك الروح الحية المتوهجة من سراييفو بقلب أوربا، إلى تمبكتو بقلب أفريقيا ، ومن سمرقند بقلب آسيا ، إلى نيويورك ، حيث ينشط المسلمون السود بقلب أمريكا ، ومن الدوحة بقلب الخليج ، إلى نواكشوط بالصحراء المغاربية ، ومن معهد الثقافة الإسلامية ببكين عاصمة الصين الشعبية ، إلى مركز الدراسات الإسلامية بواشطن عاصمة الولايات المتحدة ، ومن إسلامبول إلى الألف جمعية إسلامية النشيطة في مدن أوربا الغربية . إنها الأشواق والطموحات والتطلعات نفسها ، تهز الضمائر وتحرك السرائر.
فانظر إلى المسلم المعاصر أينما كان . في أندونيسيا أو في السينغال ، أو في أفغانستان ، أو في الصومال ، عربيا كان في مكة المكرمة أو سلافيا قي مدينة غوراجدة البوسنية ، أو أفريقيا في لاغوس النيجيرية ، أو آسيويا في مانيلا الفلبينية . لاحظه وهو يشاهد مجازر سارييفو ، أو عدوان الصهاينة على مسلمي فلسطين ، على شاشات التلفزيون ، تكتشف تلك الوحدة المثالية الرائعة في رد الفعل ، فتقسم أنك بإزاء ظاهرة حضارية مدهشة ، منعشة ، اسمها الروح الإسلامية ، مهما اختلفت الأعراق و الألوان والجنسيات ومعدلات النمو ، ومستويات الدخل الفردي ، إنها الروح الإسلامية ، حركتها الثورة الاتصالية الحديثة ، وشحذتها هذه السرعة المدوخة في وصول الأخبار عبر الأقمار...
كانت تلك الروح الإسلامية كالجمر المتوقد تحت الرماد . كانت ساخنة حارة ، لكنها مخفية ، ولعل الناس من حولها حسبوها ميتة ، ركاماً حطاماً ، بينما هذا العصر أحياها ، بفضل آنية انتقال الصورة ، فعبارة الله أكبر التي يطلقها المجاهد الشاب من مجاهدي حماس في مدينة الخليل بفلسطين المحتلة ، تدوي في اللحظة نفسها ، بفضل ( سي. إِن.إِن ) الأمريكية ، في عائلة سودانية بأم درمان ، وعائلة تونسية بالقيروان ، وعائلة مسلمة في تركستان . في الثواني نفسها التي يرفع فيها الأذان في مدينة بيهاش البوسنية ، عبر قعقة المدفعية الصربية الصليبية ، تكون أصداؤه وصلت الجزائر وبيروت وإسلام آباد.
وأنا ذكرت محطة ( سي . إِن .إِن ) الأمريكية عن قصد ، لأقول : إِن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل تلك الوسائل المعدة ضدنا، سلاحاً في أيدينا ، وأراد أن يحول بعملية إلهية ، بعض الاكتشافات التكنولوجية الموجهة لصدرونا ، إلى جنود لا نراها ، تعزز صحوتنا ، وتيسر وحدتنا ، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.(9/114)
وسيكتشف القارئ ، وهو يتابع فصولي ، أن الحافز على تحرير هذا الكتاب ، هو الإجابة على الحيرة الملحة ، التي تظهر في كتابات المسلمين وغير المسلمين وهم يتساءلون عن منزلة الإسلام في عصر أعلنه الغرب -من خلال صمويل هنتينجتون- عصر صراع الحضارات ، بعد نهاية صراع المصالح ، وصراع الأيديولوجيات. فما هو سلاحنا الثقافي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في هذا الصراع المقبل؟ وهل أعددنا لخوضه ما استطعنا من قوة فكرية وثقافية؟
وإنني توخيت بقدر الإمكان مجادلة أفكار الآخرين بالتي هي أحسن ؟ مفضلاً إقامة البرهان على تشنج العدوان . راجياً ما يرجوه المسلمون ، وهو أن يكون بين حضارتنا والحضارات الأخرى حوار هاديء مستقيم ، لا صراع عنيف مستديم . وإن النصر الذي ننشده للمسلمين في هذا الصراع الحضاري ، ليس نصراً عسكرياً ، فنحن نأبى أن نختزل مجد الإسلام في قوة حربية ، وهو دين اتخذ السلام منهجاً ، والسلام اسم من أسماء الله الحسنى ، كما أن النصر الذي نأمله ليس طغياناً على الحضارات الأخرى ، أو إرادة هيمنة على شعوب سوانا بقدر ما هو دفاع مشروع عن أصولنا الروحية ، وثوابتنا الحضارية ، حتى نعتمدها في تحديد مصيرنا ، وصيانة استقلالنا ، وإنشاء تضامننا .
ويعلم الله جل وعلا أننا قصدنا بهذا الكتاب ، إثارة أقلام جيلنا المسلم من أهل العلم والفقه والمعرفة ، حتى نسهم في إقرار فضيلة الحوار الذكي ، الحي ، حول شؤون حضارتنا ، من مناظير مختلفة ، وبموازين متباينة ، فالحق لا يتبين من الباطل ، ولا الغي من الرشد ، إلا متى خضع الموضوع للنقاش الحر الكريم ، بما يخدم الإسلام ، وينهض بالمسلمين.
ويحضرنا ما رواه سعيد بن المسّيب عن علي رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، الأمر ينزل بنا ، لم ينزل فيه القرآن ، ولم تمض فيه منك سنة ؟ قال: (اجمعوا له العالمين - أو قال : العابدين - من المؤمنين، فاجعلون شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد ).
إن آفة الحضارة الإسلامية في عصرنا الراهن ، القضاء برأي واحد ، ومخالفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث ، فقد تجاوزت الدراسات الإسلامية ، إلى درجة جعلت كل صاحب رأي يريد أن يقضي به ، دون إجماع العالمين أو العابدين من المؤمنين ، ودون جعله شورى بين الناس .
باتت قلوب المسلمين شتى من جراء انعدام فضيلة الحوار ، ولعل أخطر ما يهددنا ، هو أننا نتقدم نحو الحضارات الأخرى المتكاتفة المتكافلة ، ونحن ملل ونحل ، ضرب أعداؤنا أعز ما يربطنا : ديننا .. عندما أفرغوا استقلالاتنا من محتواها الحضاري ، فلم تنجل جيوشهم الدخلية عن أراضينا ، إلا بعد أن عششت ثقافاتهم البديلة في ضمائرنا ، ولم تغادر الإدارة الصليبية المباشرة مجتمعاتنا ، إلا بعد أن فرخت بيضتها الصهيونية في وجداننا .
فكيف نحاور الحضارات إذن بدون أن نعيد قراءة مراجعنا الأصيلة ، حتى نتفق جميعاً على الأصول ، مهما اختلفنا حول الفروع . وهذا الكتاب أردته خطوة بسيطة على هذا النهج القويم ، في عالم متغير متحول ، يموج من حولنا يومياً بالأفكار والاكتشافات ، والتحديات ، وثورة الاتصالات .
وأنا موقن أشد اليقين ، أن هذا الجهد عسير ، وأن الفوز بالمقصد نادر ، ولكن الإيمان بالله سبحانه يعد المحرك الأكبر للهمم ، والحافز القوي للإرادة . فاتكالي عليه ، وإنابتي له ، فيما اعتزمت من عمل .
المؤلف
============
أين موقعنا من صراع الحضارات؟
عصرنا الراهن عصر تحولات مدوخة ومثيرة وسريعة. عصر اتسم بالثورة التكنولوجية والاتصالية العارمة، التي لم تستطع مجاراتها ثورة أخلاقية ودينية وروحية معاصرة لها. العلم تطور بشكل مذهل، مما جعل الإنسان يكاد يفقد قواعده الروحية أمام اجتياح المادة. كأنما العالم اليوم منقسم إلى جنوب متخلف اقتصادياً وصناعيًّا وتكنولوجياًّ، وإلى شمال متخلف روحياًّ. وفي كلتا الحالتين فإن التخلف يعني الشقاء وانعدام الشعور بالأمان.
إن الجنوب المتخلف مادياًّ، والشمال المتخلف روحياً، يتعايشان في عالم واحد، تربط بينهما اتصالات حينية متكاثرة باستمرار، ويدخل العالم تدريجياً مرحلة تتصادم فيها الحضارات والثقافات، وتتحارب أنماط الحياة. الجزء المتخلف روحياً، بلغ أقصى النعم المادية، لكن الروح خواء. لم تصمد لديه المعتقدات والمرجعيات والأصول الدينية والثقافية، فتحصن بالمؤسسات السياسية الدستورية، تحميه من سطوة المجتمع التنين، بينما الجزء المتخلف مادياً استنجد بأديانه وقومياته وهوياته، يستنفرها في معركة بقاء: معركة حياة أو موت.
إن الصراع القادم بين هذين الجزئين لن يكون كما عرفناه - تقليدياً بين المصالح والأيديولوجيات فحسب، بل أغلب الظن أنه سيكون صراعاً جديداً بين الحضارات مثلما أعلنه صمويل هنتينجتون فهل سيكون النصر لهذا الجزء أم ذاك؟ ثم إن هذا الصراع الكوني المعلن، ستدور رحاه بين جزئين معوقين: الأول معوق روحياً، والثاني معوق مادياً، أي أن الأول يفتقد الغايات، والثاني يفتقد الوسائل، حسب تعبير المفكر الفرنسي آلن توران.
ونحن المسلمين؟
أين موقعنا.. وهل أعددنا لذلك الصراع ما استطعنا من قوة؟
الإجابة البسيطة هي أننا ننتمي كأمة إسلامية، إلى ما كان يسمى بالعالم الثالث، أو ما يسمى حاليا بالجنوب، أو البلدان النامية. فأغلب شعوب الإسلام وقبائله - ما عدا البوسنة والهرسك - تقع في آسيا وأفريقيا، وهما قارتان تقعان في الشطر الأقل حظاً من التنمية، والاكتفاء الذاتي والتصنيع، وهما مستهدفتان من الاستعمار والاحتلال، والاستغلال، والسلب، والنهب، على مدى قرون طويلة، كما أنهما تداولتا حضارات متميزة متعاقبة ثرية، ونشأت فيهما الأديان والثقافات، وتحركت المقاومات، وتبلورت الهويات. ونحن المسلمين بعض من هاتين القارتين، وفق الله فتوحاتنا الإسلامية إلى الامتداد على جزء هام من أوروبا منذ أول نزول المسلمين بالأندلس سنة 710م في حملة طريف، وفتحها سنة 711م على يد طارق بن زياد، بعد أن استقر الإسلام في أفريقية (القيروان).
ومن الجزيرة العربية انطلق الإسلام في المرحلة نفسها، أو قبلها بقليل، لنشر رسالة القرآن على ممالك فارس وبيزنطة، ثم تم فتح السند وغنم الإسلام البنجاب وكابول (713م) ثم شرع المسلمون يفتحون جنوبي فرنسا (714م).
فانتماؤنا كمسلمين إذن انتماء مزدوج جغرافياً، ولعلنا الحضارة الوحيدة التي تربط كحلقة وصل بين الجزء الأول والجزء الثاني. فالعالم الإسلامي الحالي يتحمل طبعاً قدره الجغرافي الصعب، لكنه محكوم عليه أن يعي قدره التاريخي الفريد. فالأمة الإسلامية تقع حضارياً بين هذا الجزء المتخلف روحياً، وذلك الجزء المتخلف مادياً، ورسالتها أن تقدم للإنسانية نموذجاً طريفاً وفذًّا من الحياة الصحيحة، تنصهر فيها الروح مع المادة في وفاق أمثل، وتمتلك فيها الوسائل دون التفريط في الغايات.
ليس هذا حلماً!
لقد تحقق في مراحل عديدة من تاريخ الإسلام ، والتقائه بالحضارات الأخرى، ونشأت دول مسلمة قوية تعددية - بالمفهوم الديني والعرقي والثقافي - متسامحة، متقدمة، ذات إيمان عميق بجوهر الشريعة، وكان سرّ عظمتها دائماً، في قدرتها على التوفيق بين الروح والمادة، بين الوحي والعقل، بين الغيب والمحسوس، بين الغايات والوسائل.(9/115)
وبهذه العبقرية الفريدة التي ينبوعها القرآن والسنة، أثبتت حضارة الإسلام قدرتها على صهر الثقافات الثرية الأخرى في بوتقتها الإسلامية، وأمامنا أمثلة تاريخية عديدة، مثل نشأة الدولة المسلمة في فارس منذ معركة القادسية (633م)، ونواة الدولة المسلمة في مملكة بيزنطة منذ أن استولى معاوية على قبرص (649م) واستقرار الدولة المسلمة في المغرب ببناء مدينة القيروان (670م) ثم امتداد الفتح إلى الأندلس، وتكوين دولة مسلمة في أشبيلية (712م). كل هذه الأمثلة تعتبر فرعية كأنها أغصان الجذع أصلي هو الدولة الأم، مركز الخلافة المؤتمنة على الأمة، وقد انتقلت من المدينة المنورة أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم، إلى دمشق أثناء الحكم الأموي، ومنها إلى بغداد على أيدي بني العباس، ثم ومنذ 29 مايو 1456م إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة العثمانية، حتى 3 مارس 1924م، تاريخ إلغاء الخلافة الأخيرة وانتصار القوى النصرانية والصهيونية على آخر حصن جامع للمسلمين.
ونعود إلى مقال الكاتب اليهودي الأمريكي صمويل هنتينجتون، الذي يتوقع تطور صدام الحضارات خلال العقدين الأول والثاني للقرن الحادي والعشرين. فهو يتجاوز النظرية التي طرحها فرنسيس فوكوياما المفكر الأمريكي الياباني الأصل، والقائلة بنهاية التاريخ عند الواقع الكوني الراهن، بعد انتصار قيم الغرب الليبرالية والديمقراطية، واختفاء الشيوعية.
إن (هنتينجتون) يؤمن مثل (فوكوياما) أن التاريخ مات، والمقصود هنا هو تاريخ الحرب الباردة، والجدل القائم منذ سبعين سنة بين الاشتراكية والليبرالية، لكنه يعلن عن صراع جديد، لا بين العقائد السياسية، وإنما بين الحضارات، بل إنه يحدد مناطق التشابك الحالية، ويتنبأ بأنها ستتطور إلى ساحات صراع، بين أنماط حضارية متضادة، إن لم تكن تطورت بعد، مثل قضية البوسنة والهرسك، حيث يتقابل النموذج المسلم - وليس الإسلامي، فلكلا المصطلحين معنى خاص - بالنموذج الصربي الأرثوذوكسي.
ويعيّن هنتينجتون هذه المناطق المتشابكة فيقول: إن أهمها:
- شمال البحر الأبيض المتوسط بإزاء جنوبه (هنا تحتل المسألة الجزائرية مكاناً هاماً، مثلما رأينا في قمة الدول المصنعة الثمانية بمدينة نابولي الإيطالية 9-10 يوليو 1994م).
- جمهوريات الاتحاد السوفييتي المسلمة وجمهورياته المسيحية ( هنا الحرب الحقيقية دائرة مثلاً بين الأزر والأرمن، وبين الروس والطاجيك، وبين الروس والشيشان).
ويهمل هنتينجتون التحدي الأكبر المفروض على المشرق الإسلامي، بسبب توسع الدولة اليهودية، لا على حساب فلسطين وحدها، بل على حساب أراض عربية مسلمة عديدة، وبتطلعات استراتيجية واقتصادية وعسكرية وثقافية، تجعل في نظرنا المعركة الفلسطينية أخطر مواطن صراع الحضارات مستقبلاً، ويتجاوز حجم تلك المعركة مجرد رسم الحدود لنواة دولة فلسطينية، إلى أن يصبح مواجهة بين حق الإسلام التاريخي المكتسب في القدس، منذ الفتح الأول، وبين مشروع تشويهي دخيل، تتضافر فيه جهود الصليبية والصهيونية، لا لمجرد احتلال أرض، بل لتطويق دار الإسلام وتفجيرها من الداخل (مشروع السوق الشرق أوسطية، والنظام العالمي الجديد، ومخطط تحريف الأنهار عن مجراها، وبرامج تهويد المدن الإسلامية بفلسطين).
وإننا نعتقد أن إهمال الكاتب اليهودي لهذا الصراع القادم الحتمي، ليس بسبب نقص في ثقافته، بل هو إهمال مقصود عن أيديولوجية، لأن هنتينجتون يريد إيهام قرائه والرأي العالمي، بأن هذه المسألة محسومة، لأنه يضع الثقافة اليهودية، فيما يسميه المنظومة الثقافية الشرقية، التي يضع فيها الإسلام أيضاً، وهو ضرب من ضروب التضليل، يندرج في المخطط، بينما الواقع أن الثقافة اليهودية انفصلت في أواخر القرن التاسع عشر عن جذورها الشرقية، واندمجت في المشروع الاستعماري الإمبريالي الفكري والسياسي، ضد العدو المشترك: الخلافة الإسلامية (انظر كتاب الدولة اليهودية لثيودور هرتسل).
وهذا الكتاب الذي عربه وقدمه الأستاذان عدس وغنيم، ظل بدون ترجمة عربية منذ صدوره عام 1896م ! وهو يفصح قبل قرن، عن عملية قطع حبل السرة بين اليهودية وجذورها الشرقية، لكي تتحول إلى "الصهيونية" وتصبح رأس حربة المشروع الغربي المسيحي، لابتلاع دار الإسلام، ويشرع مهندسو الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية، في الترويج لمصطلح "الحضارة المسيحية - اليهودية"، وتوضع في لغات أوروبا مئات المؤلفات، وتعقد مئات الندوات، للتبشير بهذا المولود اللقيط المشوه، الذي يجمع بين الضد والضد، ويتناسى الجميع تراثاً عملاقاً من القهر والإبادة والعنصرية، والكراهية، بين المسيحيين واليهود، بدأ بالمفهوم النصراني لصلب السيد المسيح، ومرّ بكارثة إحراق اليهود في الأندلس في محاكم التفتيش مع المسلمين عام 1492م، وانتهى بفاجعة هتلر والنازية (1939 - 1945م). والعجيب أن اليهود في تاريخهم هذا، لم يجدوا ملجأً ومستجاراً إلا عند المسلمين.. وأحداث الهجرات اليهودية إلى إسلامبول، ومدن المغرب الإسلامي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر معروفة، سجلوها بأنفسهم قبل أن يسجلها المسلمون.
إن الذي يطالع كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) لضابط المخابرات البريطاني الذي قاد ثورة الشريف حسين، ضد الخلافة العثمانية، يكتشف بعض الحقائق التاريخية التي اتضحت أبعادها مع مرور الزمن في هذه النقطة بالذات.
فلورانس يكتب عام 1916م حرفياًّ: "لقد طلبت مني وزارة الخارجية البريطانية، أن أرسل نسخة من كل تقرير أكتبه إلى السيد روتشيلد" - أكثر اليهود ثراءاً في أوروبا، ورجل المصارف وزعيم الحركة الصهيونية الاقتصادية - ويضيف لورانس متسائلاً: "ولم أفهم بالضبط القصد من تلك التعليمات…".
هذا وقع عام 1916م، ونحن فهمنا بعد سبعين عاماً القصد من تلك التعليمات، ويكفي أن نلاحظ أن الأحداث الواقعة مباشرة بعد الثورة العربية - في الحقيقة الحجازية - جاءت كالتالي:
1916 - معاهدة سايكس - بيكو ، لاقتسام البلدان العربية.
1916 - ترقية مصطفى كمال أتاتورك إلى رتبة لواء، ومنحه لقب الباشوية.
1917 - البريطانيون يحتلون بغداد، وألنبي الجنرال الإنجليزي يحتل القدس.
1917 - كذلك وعد بلفور، بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
1918 - لورانس يدخل دمشق مع فيصل بن الحسين.
1918 - كذلك اندثار الخلافة العثمانية من كل البلدان العربية.
1920 - الفرنسيون يطردون فيصل من سوريا، ويحتلونها ويحتلون لبنان.
- البريطانيون يعلنون الانتداب - أي الاستعمار - على فلسطين وشرق الأردن والعراق.
وهل يفيد أي تعليق على هذا المسلسل الساطع الناطق؟ وهو مسلسل تمتد حلقاته إلى يوم الإسلام هذا، لكن الغلاف الخارجي، يتغير بتغير الأحوال. فالذي كان احتلالاً أو انتداباً، أصبح يسمى مقتضيات النظام العالمي الجديد، والذي كان تنصيراً مباشراً، أصبح ينعت بالتنوير، والذي كان اسمه استعمار الشعوب المسلمة، أصبح يكنّى بكنية لطيفة مستساغة، هي مقاومة الأصولية، والذي كان يعرف بالقضاء على اللسان العربي، أصبح اسمه الجديد: كونية الثقافة أو إنسانية المعرفة، ورأينا جنوداً من صلبنا وأبناء عمومتنا، تنطلي عليهم هذه المصطلحات الجديدة، فيهبون للترويج لتلك البضاعة المغشوشة، وهم غافلون، أو إن مصالحهم الشخصية الضيقة، ترتبط بالتوسع الغربي المتغطرس الفج.(9/116)
منذ زمن قصير صدر كتاب المفكر الأمريكي بول كينيدي بعنوان: (الإعداد للقرن الحادي والعشرين)، وهو تأليف شامل يضم السياسة والاقتصاد والثقافة وعلم الاجتماع، في منظومة مستقبلية تطمح إلى الموضوعية، لدراسة مصير الإنسان، على ضوء التحولات المدوخة الكبرى في حياته ومواقفه.
والطريف في الكتاب أنه يفرد الحضارة الإسلامية، بفصل هام، يوضح فيه مدى قدرة حضارتنا في كسب سباق القرن القادم، وعناصر قوتها ونقاط ضعفها. ويستعرض بول كينيدي مواطن الصراعات الإسلامية الداخلية والخارجية، ويقول: إن أبرزها المعضلة الفلسطينية، ومشاكل عقائدية حدودية بين عدد من البلدان المسلمة، ومشاكل أقليات عرقية أو دينية في بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة..ويلاحظ المفكر الأمريكي، أن أبرز عراقيل التنمية في هذه البلدان هي عدم المواءمة بين التعليم والمجتمع، وتخريج خبرات لا توظف بعد تحصيلها على الشهادات، وعدم الاهتداء إلى مناهج حكم توفيقية في أغلب البلدان، وانشغال بعض الدول بالاقتصاد التعبوي (وضع العراق وإيران من 1980 إلى 1988م) إلا أن بول كينيدي ينتهي إلى خلاصة نعتقد أنها ذكية وحقيقية، فيقول: إن العالم الإسلامي يفتقد "ثقافة المشروع"، وهو مصطلح أمريكي يشير إلى انعدام رؤية مصيرية متكاملة، أي تحديد مسبق لغاية التنمية والتقدم، ثم السعي لتنفيذها بوسائل التربية، والمؤسسات الاقتصادية، والتطور الاجتماعي.
وينتقد الكاتب أفكار جل الملاحظين الغربيين الذين يقولون: إن أسباب تخلف العالم الإسلامي تعود إلى معوقات تاريخية وحضارية - وهم يقصدون طبعاً التفسير الاستعماري الجائر، بأن الإسلام مضاد للعلم - فيرد عليهم بول كينيدي، بأن "الإسلام ولقرون قبل النهضة الأوروبية، قاد العالم في الرياضيات وعلوم رسم الخرائط والطب، والعديد من وجوه العلم والصناعة، كما ضم هذا العالم مكتبات وجامعات ومراكز، في وقت لم تكن اليابان وأمريكا تمتلك شيئاً من هذا، ولم تكن أوروبا تمتلك إلا القليل…
وإني أردت الإلحاح على رأي هذا المفكر لما وصفه للحضارة الإسلامية من وصفة "ثقافة المشروع"، فنحن فعلاً نحتاج إلى ثقافة المشروع، لأننا في الواقع نمتلك الوسائل، فلدينا الخبرات التي ندخل بها سباق الحضارات.. وهذه الخبرات المسلمة، سبعون بالمائة منها تعمل في جامعات أوروبا وأمريكا ومخابرها، ومراكزها، وأسباب هجرتها معروفة، وحلول عودتها معروفة، وهي في أيدي أهل الحل والعقد، ورهينة اختيارات سياسية، وجامعية معروفة كذلك، والزمن كفيل بتغيير هذه المعادلة، من نزيف الأدمغة، إلى إدماج الأدمغة، وتمكينها من الإنجازات والبحث والإسهام.
والقول بأن الإسلام والتخلف العلمي صنوان، هو قول أحمق يفنده التاريخ، وكذلك الحاضر الراهن، فلم يكن للعالم نصيب من العلوم التجريبية، إلا عندما نهض الإسلام وحده، بمغامرة النفاذ إلى أقطار السماوات والأرض… وغير صحيح أنه أخذ ذلك من الثقافة الإغريقية بعد تعريبها في بيت الحكمة، لأن التراث العلمي الإغريقي تراث يتسم بالتأمل في ظواهر الطبيعة، واستقراء تحولاتها، دون النفاذ التجريبي الذي استقاه العلماء المسلمون من نص القرآن، وإعلان استخلاف الإنسان في الأرض، وحثه على السعي والتدبر والتغيير. (ذلك بأن الله لم يكُ مغيّرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )(الأنفال:53)، (كُلُّ امرئٍ بما كسب رهين )(الطور:21)، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأنّ سعيه سوف يُرى )(النجم:39-40).
ويكفي القول إن كتب الطب الإسلامي ظلت تدرس بجامعات أوروبا وخاصة فرنسا إلى القرن التاسع عشر، وكذلك كتب الرياضيات ، مثل كتاب الجبر الكبير للشاعر العالم عمر الخيام، والذي توصل إلى حل معادلات الدرجة الثالثة التي نسبت ظلماً إلى ديكارت - بعد الخيام بخمسة قرون - وكان المسلمون أول من أجرى عمليات جراحية على العين، وعلى الجمجمة مثلما دلت على ذلك اكتشافات أثرية بكل من بغداد والقيروان، ومثلماً تؤكده الكتب الطبية، وكان المسلمون كذلك أول من عالج الأمراض العقلية، بما يسمى اليوم علم النفس في زمن كان المرضى بهذا النوع من العلل، يحرقون في الكنائس، على أيدي الرهبان والقساوسة، كمصابين بحلول الشيطان في أرواحهم.
وكان أول بابا مسيحي مستنير هو سلفستر الثاني، الذي رحل من فرنسا للدراسة في جامعة قرطبة الإسلامية، عندما كان راهباً بسيطاً يدعى (جربير) وعاد لوطنه يبشر بالثورة العلمية والتكنولوجية، بمفهوم ذلك العهد، حتى ظنه مواطنوه مجنونًا !
===============
التاريخ الأكبر والتاريخ الأصغر
يرتكب أغلب المجادلين في حضارة الإسلام خطأً شائعاً وهذا الخطأ أصبح كأنه الصواب ، لكثرة ما شاع حتى انغرس في الأذهان ، وتحول إلى (حقيقة). إنه إقامة الحجة على الملتزمين بالنهج الإسلامي، بأن تاريخ الإسلام ما هو إلا مسلسل استبداد ، وسفك دماء، وانتهاك حقوق ، منذ الفتنة الكبرى إلى عهد الخلافة العثمانية، أو حتى إلى يوم الناس. وهو تفسير أيديولوجي موجه للتاريخ ، يستعمله عادة المستشرقون المغرضون، وتلامذتهم ومريدوهم من بني جلدتنا لإفحام خصومهم ومخالفيهم. ولكن على شدة ما استعمل هذا المنطق، وعلى طول تكراره ، تبناه معظم شبابنا عن حسن نية، واعتمدوه في كل جدل ، كأنما اقتنعوا به، وإنك تعثر على أثره في كتبهم ومقالاتهم ودراساتهم ، ومداخلاتهم، وهو منطق يبعث الريبة في نفوس المسلمين، ويزعزع إيمانهم ، ويحدث شروخاً في كبريائهم، ويجعلهم أذلة في اللقاءات والندوات والمناظرات.
وهكذا نجح أعداء الإسلام ، في زلزلة الإيمان في قلوب الشباب ، حينما يقدمون أمثلة الفتنة الكبرى ، ومقتل عثمان ، والحرب الطويلة ، بين على كرم الله وجهه ، ومعاوية ، كأنها هي الوجه الوحيد لفجر الإسلام ، في حين يغفلون فتح مكة ، وملحمة الشورى في السقيفة ، وهزيمة البيزنطيين في فلسطين ، وانتصار الإسلام على الفرس في القادسية ، وفتح مصر على يد عمرو بن العاص ، والقضاء على الدولة الساسانية ، وفتح أرمينيا وجورجيا ، وانتصار المسلمين في البحر على الأسطول البيزنطي في معركة أم الصواري . كل هذه الملاحم التي توشح صدر الإسلام في فجره وقعت فيما بين عام 632م ، حين التحق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى ، وسنة 656م حين قتل عثمان بن عفان ، وتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . وهي الانتصارات التي تحققت للإسلام في مطلع شمسه ، ووضع عبرها أقدامه على أرض يابسة من التمكن ، حتى أتيح له ما جاء بعدها من فتوحات . وهذه الانتصارات الكبرى ، نكاء لا نعثر لها على أثر في أغلب كتابات المؤرخين من مستشرقين وتلاميذ المستشرقين من العرب ، لأن هم هؤلاء ليس إنصاف التاريخ الإسلامي ، بل غرضهم الطعن فيه ، وفي رجاله ومؤسسيه ، واتخذوا لذلك خطة محكمة ، وهي إبراز التاريخ الأصغر على حساب التاريخ الأكبر.
التاريخ الأصغر هو تاريخ الصراع السياسي - الدموي أحياناً - من أجل القيادة والحكم.. والتاريخ الأكبر هو ذلك المد الإسلامي العظيم الواثق الذي نبع كالنهر القوي الدافق من جهاد الرسول صلى الله عليه و سلم ، وانطلق فاتحاً الأمصار وهادياً الأمم ، وحاملاً أمانة السلام والعدل ، ومؤمناً الشعوب المغايرة على حياتها ومعتقداتها وأملاكها وأعراضها.(9/117)
التاريخ الأصغر هو تاريخ الرجال كأشخاص يتقاتلون من أجل سدة الحكم وهم - مسلمين أو غير مسلمين - لا يعدون كونهم أفراداً لهم نفوس بشرية لم يعلن الله سبحانه ، ولا الرسول صلى الله عليه و سلم ، أنها معصومة من الخطأ والزلل ، وأنها منزهة عن الضعف والخلل ، بل قال الله تبارك وتعالى: (ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها ) (الشمس : 7 - 8).
ذلك هو التاريخ الأصغر الذي تعلمته أجيال المسلمين ، وحجب عنها رؤية نور التاريخ الأكبر . تاريخ الأمة بأكملها : كيف نشأت ؟ وكيف جاهدت ؟ وكيف فتحت ؟ وكيف انتصرت ؟ وكيف سادت؟
وهذه الملاحم العظمى الخالدة ، بما فيها من شحنات تربوية ، كان من المفترض أن نؤسس عليها كبرياء أمتنا ، خلال القرون ، وقع مع الأسف اختزالها ، بل أريد لها كسوف كامل مثل كسوف الشمس وراء كوكب الفتنة الكبرى، وموقعة الجمل ( 656م ).
وهذا مثال واحد من كامل مسلسل الغش والخديعة ، الذي زيف تاريخنا وجاء من بعده مثال الصراع بين الدولة وخصومها ، وهو من باب التاريخ الأصغر، حيث غطت القصص الأدبية الملفقة ، التي حيكت عن يزيد والوليد ، على أولى انتصارات المسلمين في الهند ، وعبور جيحون إلى بلاد الترك (من 664م إلى 667م)، والحدث الحاسم المتمثل في فتح المغرب الإسلامي ، وتأسيس القيروان (670م) وبدء حصار المسلمين لمدينة القسطنطينية ، قلعة النصرانية في المشرق ( 678م ) ، وضرب أول دينار عربي (695م) واستقرار مؤسسات الدولة الإسلامية الأموية على يدي عبد الملك بن مروان.
كل هذه الأمجاد التى رسخت الإسلام ، ووطدت أركانه ، يمر عليها أغلب مؤرخينا مر الكرام ، في حين تطفو على سطح كتبهم ، ثورة المختار الثقفي بالعراق ( 685م ) ، وقصص استبداد الحجاج بن يوسف .
وهنا أيضاً ينجح التحريف التاريخي والأيديولوجي ، في إسدال الحجب السميكة على انتصارات الأمة ، بواسطة إبراز سلوك الأفراد . أي أن التاريخ الأكبر يضيع في دوامة التاريخ الأصغر.
وإن الذي يروم دراسة نهاية القرن الأول ، وبداية القرن الثاني للهجرة ( بداية وأواسط الثامن المسيحي ) ليصطدم ، بأن أخبار الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وحاشيته ، وقصره ، تنشر سحاباً سميكاً على أحداث جليلة عملاقة منها فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند ، ومد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى (705م)، وإتمام الفتح الإسلامي لشمالي أفريقيا ، وأول نزول للمسلمين بإسبانيا في حملة طريف (710م) ، ثم فتح الأندلس ، وبداية أذكى وأثرى حضارة في البحر الأبيض المتوسط على يد طارق بن زياد (711م)، وكذلك بداية الفتوح المسلمة في فرنسا ذاتها ( 714م ) وغزو العرب للشبونة ( 716م ).
ثم تمضي في حب اطلاعك على قمة بني أمية ، في انتشار الحضارة الإسلامية ، فيهولك ما تعرض له هذا الزمن المجيد الأبي ، من طمس ، فتطفوا على سطح الكتب ، مغامرات يزيد بن عبد الملك ، وحكايات هشام بن عبد الملك التي يعوز معظمها التحقيق العلمي ، بينما تغرق في قاع التناسي المتعمد أعمال عظمى غيرت مجرى التاريخ ، مثل فتح نربونة بجنوبي فرنسا (719م)، ثم إن مجداً أثيلاً مثل بسط السلطان الإسلامي على كامل جنوب فرنسا ، لمدة ربع قرن، يندثر تماماً لكي تنفرد منه بالتعريف معركة بلاط الشهداء ، التي تواجه فيها عبد الرحمن الغافقي ، وشارل مارتال ، بسهول مدينة (بواتي) في قلب فرنسا (732 م) ، كما تندثر مناقب الدولة الأموية في دفع حركة التاريخ والحضارة باتجاه الحق والعدل ، لتنقل لنا كتب الرواة أخبار الشاعر عمر بن أبي ربيعة ، والوصلات الغنائية لمعبد ، والغريض ، وابن سريج ، وابن عائشة ، والأبجر.
أما إذا ولجنا باب الدولة العباسية منذ قيامها سنة (750م) فستندهش لتزاحم أخبار الصراع بين السنة والشيعة مع أنباء اضطهاد الفكر إلى جانب انتعاش الثورات ، وكأنما توحي إليك كتب الأدب والتاريخ بأن حضارة الإسلام تفردت بهذه الظواهر البشرية ، دون سواها من الحضارات ، بينما تشير وقائع الماضي الإنساني منذ فجر التاريخ ، إلى أن هذه سنة الله في خلقه ، وأن الإسلام جاء ليحد من نوازع الشر وغرائز الضعف ومكامن الجور ، لا ليعلن أن الأرض أصبحت جنة ، ولا ليقول : إن المسلمين أصبحوا ملائكة.
إن السر المختوم في القرآن هو أن نعتبر بالماضي وأن نتعظ بالقرون الخوالي ، وأن نتدبر حركة التاريخ، ونشوء الحضارات ، ونتأمل الأسباب ، ونربط بينها وبين النتائج . ولذلك نؤمل أن نعتمد التاريخ الصحيح للحضارة الإسلامية ، لا أن نعتمد التاريخ المحرف ، الذي وصلنا أغلبه عن طريق رواة الأدب ، وهم صناع أساطير ، ومثل من يأخذ عنهم اليوم ، كمثل من سيأخذ بعد ألف سنة عن أجهزة إعلام الغرب الراهنة لدراسة الإسلام في القرن العشرين . ومن تلك المرحلة العباسية ، خذ مثال غياب الغزوات الصيفية لبلاد الروم ، بعد تأسيس مدينة بغداد ، من كتب التاريخ الأدبي ، وتعويض هذه الأحداث الجسام ، بأخبار المغنية دنانير ( من 766 إلى 780م ) .. وخذ مثال طغيان التصادم بين الفكر الإسلامي الحر والدولة العباسية ، على المنعرج الثقافي الحاسم المتمثل في حركة إعادة إحياء الفكر اليوناني ، وتعريب أمهات كتب الفلسفة والعلوم الإغريقية ، ومن ثم إثراء الثقافة الإسلامية وقيامها بدور ريادة الثقافة الإنسانية من ( 800م إلى 850م ) أي من نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد إلى نكبة القاضي أحمد بن أبي داوود على يد المتوكل.
ونحن إذا واصلنا هذا الجرد المختزل لتاريخ الحضارة الإسلامية ، فمررنا إلى الدولة الزيدية بجنوب بحر قزوين ، ثم باليمن ، وإلى الدولة الصفارية بشرقي فارس ، وإلى الدولة الطولونية في مصر ، والدولة الطاهرية بفارس ، ثم الدول المتعاقبة بالأندلس ، بإماراته المتناحرة ، ثم عددنا الثورات المتلاحقة ، التي تعز عن الحصر ومنها ثورة الزنج ، وثورة القرامطة ، لو قمنا بعمل كهذا ، لما كفانا جبل من الورق ونهر من المداد ، ولكننا أردنا بعرض أمثلة من القرون الأولى لانتشار الإسلام ، لندلل على أن هناك تاريخاً كبيراً ، وتاريخاً صغيراً لحضارة الإسلام . تاريخ أكبر صنعته الأمة في مسارها الواثق نحو الفتوح والتوسع ، وتأليف القلوب ، وتاريخ أصغر ، صنعه رجال بعينهم . فتشكل التاريخ الأكبر على مستوى الإسلام ، وإرادة الله سبحانه في تعمير الأرض ، وإنشاء المصالح ، وإقامة العدل ، في حين تشكل التاريخ الأصغر على مستوى القصور والبلاطات ، ولذلك اتجهت إليه أضواء الكشف ، وتناولته ألسنة الرواة والقصاص ، وأقلام المبدعين ، وقصائد الشعراء ، ونفخت فيه الفطرة الشعبية بالتضخيم والتهويل حتى اختلط مع مرور الزمن ، وبعد المسافة ، ما هو تاريخ محض ، بما هو خيال محض ، وانطلت على أبناء جيلنا المسلم أغلب الروايات ، فلم يعودوا يرون في تاريخهم ، إلا ما ظهر منه ، أي تعاقب الفتن وتواصل المحن ، غافلين عما صنع عظمة هذه الحضارة ، أي عبقرية الأمة ، المتمثلة في إجماعها.
نحن بصدد عرض ما بيد الحضارة الإسلامية من عناصر القوة والمنعة ، وهي تدخل صراع حضارات معلن ، لا بصدد تقديم كشف عن مآثر الإسلام ، فهي والحمد لله كالشمس تضيئ العالم ، وتبعث فيه الحياة ، وتجدد لديه الأمل.
ولذلك ننتقل إلى استخلاص فكرتنا الأساسية التالية:(9/118)
ماذا لو اعتبرنا أن تاريخ الإسلام الحقيقي ليس هو التاريخ الأصغر ، الذي يدور في فلك الأفراد من خلفاء وملوك ووزراء ، ولكنه التاريخ الأكبر الذي صنعه إجماع الأمة في ملاحمها الفتوحية بالأمس ، ويصنعه إجماع الأمة اليوم ، بمقاومة الدخلاء ، واستعادة الهوية ، واسترجاع الأصول؟
ماذا لو أعدنا النظر جذريا في مادة التاريخ ، فاعتززنا بالملحمة الفكرية وبالمغامرة الثقافية اللتين فجرتا عبقرية الأمة ، منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس ، عوض أن نحصر تاريخ الحضارة الإسلامية في التاريخ الأصغر : تاريخ الإنسان الفرد باستبداده وقمعه وجبروته ، وضعفه وخيانته ، واستحلاله ما حرم الله ، عبر أحداث السياسة وتقلبات الملك؟
ثم ماذا لو اعتبرنا أنفسنا كمسلمين أمناء على رصيد الإجماع الإسلامي، وخزنة لذلك التراث العظيم، غير مسؤولين كأمة ، عن سلوك الأفراد مهما كانت مراتبهم ومهما علت مواقعهم؟
ونحن عندما ندعو لهذ الاتجاه لا نأتي ببدعة من عندنا ، بل نستخلصه من عبقرية الإسلام . فالإسلام هو دين الحضارة الإلهية ، أي ان عماد حضارتنا هو القرآن ، بما أنزل من تشريعات ، حدّت من تطرف الإنسان الفرد ، فعقلت يديه عن الطغيان بالضرورة ، ووضعت اجتهاده في كنف تلك التشريعات المنزلة .. وبعكس الإسلام ، كانت وما تزال الأمم غير المسلمة تعتمد على تشريعات بشرية فردية ، تحمل أسماء الملوك الذين وضعوها ، أو أوحوا بها لمن وضعها ..
يقول الدكتور أحمد حمد : ( عندما أراد حمورابي قبل الميلاد بعشرين قرناً ، أن يضع تشريعاً يسير الناس عليه في معاملاتهم ، جمع العلماء وأمرهم ، أن ينتهوا من وضع هذا التشريع في مدة حددها لهم .. ثم في عهد جوستنيان ، أي في النصف الأول من القرن السادس الميلادي ، صنع جوستنيان هذا الصنيع مع العلماء .. ثم في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، يأتي نابليون ليصنع هذا الصنيع كذلك مع العلماء .. وأدل دليل على ذلك ، أن هذه التشريعات التي صدرت بمجهود العلماء ، لا تنسب إليهم هم ، بل تنسب إلى هؤلاء الحكام ، فيقال : تشريع حمورابي ، وتشريع جوستنيان ، وتشريع نابليون .. ولم يحدث في أي عصر من العصور ، أن ينسب تشريع ما إلى حاكم من المسلمين ، فإن الشرع هو شرع الله ، والفقهاء إنما يجتهدون ثم يجمعون على ما يرضي الله من حكم ..
ولقد كان اهتمام الأمة بالعلماء ، وتعظيم شأنهم ، أن جعلوا اتفاق المذاهب على حكم في مسألة من المسائل إجماعاً ، يؤخذ به مأخذ الاتباع والالتزام ، فاتفاقهم حجة ، ونسبوا كل مذهب من هذه المذاهب إلى صاحبه لا إلى الحاكم الذي كان في عهده ، فقالوا : مذهب أبي حنيفة ، ومذهب مالك ، ومذهب الشافعي ، ومذهب أحمد بن حنبل ، بل إن الحاكم هو الذي ينسب إلى المذهب إذا مال إليه ، فيقال : هذا الحاكم حنفي ، والآخر كان شافعياً وهكذا .. ) .
نحن إذن بإزاء جوهر من جواهر الحضارة الإسلامية . فالإجماع هو المصدر الثالث للشريعة بعد القرآن والسنة ، وهو كما أسلفنا يعتمد اتفاق المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم - حسب تعريف الغزالي، والرازي ، والآمدي - وهذا الجوهر الإسلامي ثابت من الثوابت عبر تاريخ الحضارة الإسلامية مهما اعتراه من خلل ، عندما استبد بعض الحكام ، فاضطهدوا بعض رجال الفكر والاجتهاد والصلاح . بل بالعكس ، إن تاريخ اضطهاد الأئمة والعلماء لعبرة لمن يعتبر ، إذا ما درسنا عاقبة الطغاة ، وكيف هبت ريحهم ، وانهار بنيانهم ، وزالت دولتهم ، وخسف الله سبحانه بهم الأرض ، وبقي فكر العلماء ، وإجماع المجتهدين ، آية من آيات الإسلام ، وحجة من حججه ، ونبراساً هادياً للأمة بالأمس واليوم وغداً.
فالرأي عندي أن تنطلق صحوة الإسلام المباركة من عملية إعادة قراءة تاريخ الإسلام ، فنغير جذرياً من اعتباره تسلسل الدول فحسب ، إلى اعتباره تسلسل المدارس الفكرية ، والمذاهب الثقافية على مدى القرون. فالمنظور التقليدي السائد اليوم في دراسة التاريخ ، هو المنظور الأوروبي الذي يضع الحدث السياسي في قمة قراءة التاريخ ، ولا يكون الحدث الفكري إلا ثانوياً أو فرعياً ، وهو منظور لعله ينفع في التاريخ الأوروبي ، لكنه منظور قاصر في التاريخ الإسلامي . فإذا كانت السياسة تحدد الفكر في أوروبا ، نظراً لأسباب تاريخية ، ودينية ، وجغرافية ، واجتماعية يطول شرحها ، فإن الفكر هو الذي يحدد السياسة في العالم الإسلامي ، حتى لو اصطدم ذلك الفكر بالبلاط .
ويجدر بنا إذا أن نعيد الاعتبار لتاريخ الأفكار في الإسلام ، ونتبنى من ماضينا ، ما تعاقب من علماء وفقهاء ، وأئمة ، ودعاة ، وحكماء ، لنتخذه موروثا شرعياً لجيلنا المسلم في القرن الحادي والعشرين ، منه نستمد طاقة الاجتهاد ، ورصيد المواجهة الحضارية ، وعليه نؤسس الصحوة المباركة .
وقد أخطأت كتب الأدب وتصانيف الرواة في حق الحضارة الإسلامية عندما أرخت للملوك وحاشياتهم ، وجيوشهم ، وفتنهم ، وصراعهم على سدة الحكم ، في حين أهملت تاريخ الفكر ، والمفكرين ، والمناظرات ، والمدارس الثقافية ، مقتصرين في أحيان كثيرة على الشعر والشعراء ، بسبب دوران الشعراء في فلك الملوك والخلفاء ، وتناولهم في المدح ، والهجاء ، لخصائص الملوك وأعدائهم ، وانقسام الشعراء في كل العصور إلى أحزاب تناصر هذا ، وتحط من قدر ذاك .
ثم إن الشعر بهذا المعنى لا يكون ديوان العرب ، بل المرايا المضللة ، والمحرفة ، لواقع العرب ، وبالتالي لحضارة الإسلام .
وإذا أخذنا مثلاً واحداً من أمثلة عديدة ، لتأكدنا من صحة هذا الرأي . فالكتب التي تناولت نهاية عهد المعتصم بالله ، وعهد الواثق ، وعهد المتوكل ، وبداية عهد ابنه المنتصر ، تكاد تنحصر في ذكر الصراع الدموي داخل الأسرة الحاكمة ، وما صاحبه من مؤمرات القصر المتلاحقة ، دون التطرق الكافي إلى التدخل المكثف بين قضايا الحكم ، وقضايا الفكر في ذلك الجزء من القرن التاسع الميلادي .. فمنذ إنهاء محنة خلق القرآن ، ازدهرت المدرسة العلمية التطبيقية على يدي العالم الرياضي الخوارزمي ، وتنامي علم الجغرافيا على يدي ابن خرداذبة صاحب كتاب ( المسالك والممالك ) ، وتشكلت المدرسة الفكرية التي أسميها بالموسوعية ، على يدي الجاحظ بكتب الحيوان ، والبيان والتبيين ، والبخلاء ، والرسائل المعروفة ، وجاءت مساهمات عبد الله بن المقفع ، في الفكر السياسي ، بكتب كليلة ودمنة ، والأدب الكبير ، والأدب الصغير ، ورسالة الصحابة .. ثم ازدهر الفتح الإسلامي ، حتى بلغ روما ، وكاد يدخلها المسلمون ( 846م ) ، ووضع الإسلام يده على جزء كبير من بيزنظة .(9/119)
ونحن نشعر بمزيج من المرارة ، والانكسار ، حينما نجد أن كتب السير الأدبية التي تحدثت عن هذه المرحلة الثرية الحاسمة من تاريخ الإسلام ، إنما اكتفت بتقديم المسرح البلاطي والأدبي - عادة الشعري والغنائي - ولم تفلح في رسم خارطة العمران البشري الإسلامي ، في عهود أربعة ملوك مع الامتدادات السياسية والمعرفية ، والروحية ، والفلسفية ، التي تساعد على دراستها والاعتبار بخصائصها . وإذا كان هذا حال كتب وضعها معاصرون لتلك المرحلة ، مثل كتاب ( طبقات فحول الشعراء ) ، لمحمد بن سلام الجمحي ، فما عسى يكون حال كتب جاءت بعد تلك المرحلة بعشرات بل ومئات السنين ، مثل كتاب الفهرست لابن النديم ( 988م ) ، أو كتاب زهر الآداب للحصري القيرواني ( 1022م ) ، أو كتاب طوق الحمامة لابن حزم ( 1027م ) ، إلى آخر الكتب الأدبية والتصنيفية المعروفة ، التي جاءت بعدها ، وشكلت - مع الأسف - مراجع أساسية لدراسة الحضارة الإسلامية , وخاصة بأقلام المستشرقين ، وتلاميذهم العرب . فدرج المؤرخون المسلمون وغير المسلمين - وبعضهم عن حسن نية - على استقاء مراجعهم من الكتب الأدبية ، وأغلبها مكتوب في بلاطات الملوك ، والأمراء ، بقصد تسلية ذوي النفوذ ، وأصحاب السلطان ، لا بقصد دراسة التاريخ والاعتبار به . فهذه الكتب ذات قيمة فنية متميزة ، ولكنها تاريخياً لا تعدو أن تكون أجزاءاً ملحقة بكتاب ألف ليلة وليلة.
وهذا الخطأ الفادح ، ليس مقصوراً على القدماء ، بل إن المعاصرين يرتكبونه ، ولكن عن سوء نية ، وخبث مقصد . فإنك لو قرأت كتاب ( الخلافة الإسلامية ) للمستشار محمد سعيد العشماوي ، لعثرت في الهوامش على أغلب التصانيف الأدبية المذكورة ، كمراجع أساسية لدراسة الخلافة الإسلامية . وفي هذه الحالة كما في غيرها ، فإن المطلوب إثباته _ أيديولوجياً - هو بطلان الخلافة الإسلامية ، ودموية الماضي الإسلامي ، وبالطبع اقتناع المسلمين بأنه ليس بالإمكان خير مما كان ، وأنه محكوم علينا بالتبعية لقوالب الغرب ، وأشكال نظامه ، وسائر شؤون حياته ، حتى نكون ( مجتمعات مدنية ) ، وشعوباً محبة للسلام)!
ونحن لن نكون في واقع الأمر سوى أمم مغلوبة ، تابعة ، لا كبرياء لديها ، ولا ذمة ، ولا سيادة . وقضية المستشار العشماوي ، تتجاوز مجرد إبداء الرأي ، إلى كونها إسهاماً في صنع الهزيمة الحضارية للإسلام ، بأيدي الذي أسهموا في هزيمته السياسية ، والعسكرية ، منذ 1967م تحت شعار القومية العربية.
============
الفتنة ونشأة الفكر السياسي الإسلامي
رأينا في الفصل السابق ، كيف أن تاريخنا الإسلامي ، يصلنا أعرج معوقاً ، بعد مروره بالمحرفين من الحاشيات المتعاقبة على البلاطات ، وعرفنا كيف يكيد المعاصرون لتاريخنا بالطعن والتشكيك ، وقد نجحوا في ذلك العمل التخريبي بعض النجاح ، بتوجيه ذكي مخطط من أجهزة الإعلام والاستعلام المعادية ، حتى إن اسم الإسلام أصبح يعني لدى بعض الشباب ، العنف . والغريب المدهش أن أبناء الحضارة الغربية ، الذين رسخوا هذه المغالطة في أذهان الرأي العام ، ينتمون إلى الحضارة نفسها التي فجرت على مدى جيل واحد (ثلاثون عاماً) من 1914م إلى 1944م حربين عالميتين، راح ضحية أولاهما ثلاثون مليوناً من البشر ، وراح ضحية الثانية سبعون مليوناً من البشر ، وانتهت هذه الأخيرة بفاجعة نووية ، مسحت من على الأرض مدينتين كاملتين ، هما هيروشيما وناجازاكي باليابان . وهذه الأحداث ليست من عصر ما قبل التاريخ ، بل إن ( أبطالها ) وضحاياها ، ما يزالون يعيشون بيننا إلى اليوم .
والفكر المادي الغربي ، هو الذي أباد شعوباً كاملاً ، كان آخرها شعب سكان أمريكا الأصليين ، الملقبين بالهنود الحمر ، منذ عام 1492م إلى أواسط هذا القرن العشرين ، وكذلك الملحمة الدموية المريرة للتجارة بالعبيد الأفارقة ، بعد اختطافهم من أدغالهم ، وقبائلهم ، مما يمثل اليوم وصمة عار على جبين أوروبا وأمريكا . وأقرب إلينا تاريخياً محاولة إبادة ستالين لمخالفيه التي قدر عددها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي نفسه ، بخمسة ملايين ضحية في ثلوج سيبيريا ، ومحاولة إبادة شعب فيتنام ، الذي افرغت طائرات أمريكا على رؤوس أبنائه قنابل توازي ما أفرغ أثناء الحرب الكونية الثانية ، على أوروبا بأسرها . وجاءت المأساة الاستخرابية المسماة زوراً بالاستعمارية ، فأظهرت للإنسانية بشاعة الفكر الغربي العلماني ، الذي استحل دماء الشعوب المستضعفة وأراضيها ، وخيراتها ، فسخرتها القوة العمياء لخدمة ازدهار الغرب ورفاهيته ، وزيادة استهلاكه.
وإنك لو قلبت تاريخ القرون الخمسة عشر من الحضارة الإسلامية ، على كل الوجوه ، لما عثرت على أمثال هذه المذابح ، والمجازر ، التي حدثت في الغرب ، انطلاقاً من الفكر الغربي ، أو من انحرافاته.
ونحن حين نذّكر بهذه الحقائق ، فبقصد إبطال مفعول السحر الزائف ، الذي أعمى عيون جيلنا المسلم ، لينظر إلى تاريخه بدون عقد أو مركبات نقص ، وليعرف أن ما يميز حضارته الإسلامية ، هو الفكر المضاد للفكر الرسمي ، الذي ساد عبر التاريخ . فكل سلوك بشري في الدول الإسلامية المتعاقبة ، مال إلى الاستبداد ، وخرج عن الشريعة ، واجه فكراً إسلامياً حراً ، كان بمثابة كفة الميزان الشعبية الأخلاقية المرجعية ، لإعادة الحق إلى مجراه ، والعدل إلى منتهاه ، ورد الباطل عن هواه.
إن رصيد الإسلام من الفكر الحر المتمسك بالشرع والحق ، هو الذي صنع التاريخ الأكبر ، تجاه سلوك الاستبداد ، والظلم الفردي أو الرسمي ، الذي صنع التاريخ الأصغر . وذلك الرصيد المجيد ، هو المخزون، الذي يخوض به الإسلام صراع الحضارات ، في صورة حدوث صراع ، أو يدخل به حوار الحضارات، في حالة الجنوح للحوار.
وفي البدء كان فجر الإسلام ، التحم التاريخ الأكبر مع التاريخ الأصغر ، لصيانة أعظم تحول طرأ على الحضارة الإنسانية ، بظهور الإسلام وانتشاره السريع ، وتغيرت الخارطة البشرية في محيط يبلغ قطره حوالي ثمانية آلاف كيلومتر ، في ظرف جيل واحد ، شرقاً وغرباً ، وجنوباً وشمالاً.
في البدء كان فجر الإسلام
وإنك إذا قرأت الأغلبية من كتابات المستشرقين ، أو تلاميذهم العرب ، لوجدت تسليط الأضواء على الفتنة وتبعاتها ، أي على التاريخ الأصغر ، وذلك لإثارة النقع على التاريخ الأكبر : تاريخ الفتوحات الزكية ، والبطولات الجبارة .
يعدد الدكتور شعبان محمد إسماعيل الخلافات بين الأشخاص في فجر الإسلام ، كما يلي:
أول خلاف : لم يتفق المهاجرون والأنصار على منصب الخلافة في سقيفة بني ساعدة ، بعد التحاق الرسول صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى.
ثاني خلاف : اعتزال على رضي الله عنه وبعض الصحابة وأهل البيت ، الدخول في البيعة .
ثالث خلاف : تفرق الكلمة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حول المرتدين ومانعي الزكاة .
رابع خلاف : تغلب الرحمة على الحزم ، واللين على الشدة ، في عهد عثمان رضي الله عنه ، مما أعان على استرسال الغواية .
خامس خلاف : مبايعة على رضي الله عنه في غمرة مقتل عثمان رضي الله عنه.
سادس خلاف : قضية التحكيم الشهيرة بين علي رضي الله عنه ومعاوية.
سابع خلاف : ظهور الفرق الثلاث نتيجة للفتنة:
(أ) جمهور الأمة ، الذي يرون وجوب الطاعة لولي الأمر.
(ب) أنصار علي رضي الله عنه وأهل البيت ، القائلون بأحقية علي في الخلافة.
(ج) الخوارج ، الذين عارضوا هؤلاء وأولئك.(9/120)
في البدء إذن كان فجر الإسلام متفجراً بهذه الخلافات ، لكن القراءة المنصفة للفتنة الكبرى لا تختزل فجر الإسلام في أحداثها ، بل تحاول أن تستخلص عبرها السياسية والفكرية التي ساعدت على انتشار الإسلام .
وهذه القراءة لا تتاح إلا متى جردنا الأحداث عن رداء التزوير والتهويل الذي ألبسته كتب الأدب المتعاقبة للتاريخ المحض ، فأضفت عليه صفات أسطورية تراكمت مع مر القرون ، حتى خبا وهج اللهب الإسلامي، تحت أكوام الرماد الخرافي.
وإنك لو حللت كل خلاف من الخلافات المذكورة ، لوجدته منطلقاً لمدرسة فقهية أو شرعية ، كان لهما فضل فيما بعد في تجسيم الفكر الإسلامي الخصب الممتد عبر خمسة عشر قرناً من مجد الإسلام إلى يوم الناس هذا.
فالخلاف الأول : وقع والرسول الكريم صلى الله عليه و سلم لم يزل مسجى في بيته لم يوارى الثرى بعد ، وهو خلاف يدل على حيوية المسلمين الأقدمين ، وميلهم إلى استعمال عقولهم ، في أشق فترات التوهج العاطفي ، وإنك إذا راجعت وقائع حوار السقيفة لأيقنت أنك بإزاء مجلس شورى حقيقي ، حر ذي صلاحيات نسميها اليوم دستورية ، أين منه أغلب المجالس الراهنة . فالخلاف بين المهاجرين والأنصار كان في الحقيقة شعورا حاداً بالمسؤولية ، لدى أوائل المسلمين ، نظراً لثقل الأمانة وأهمية قضية الاستخلاف . فالسقيفة ليست شقاقاً بقدر ما هي مرجع للشورى الخالصة المتميزة في الإسلام . ثم إن هذا الخلاف انتهى بإجماع . والإجماع هو الأصل الإسلامي لحكم الأغلبية ، دون قهر الأقلية . وهي ميزة يختص بها تاريخ الإسلام دون غيره من الحضارات.
أما ثاني خلاف : أي اعتزال علي رضي الله عنه البيعة ، فإنه يضع أسس التوازن في الحكم ، وهو مصدر أصلي من مصادر الفكر السياسي الإسلامي . ألم يصفق المثقفون المعاصرون اليوم لثنائية المسؤولية ، بين أهل الحكم ، وأهل المعارضة في نطاق سنة الحوار والتداول ؟ كان ذلك هو جوهر اعتزال علي رضي الله عنه : منع الانفراد بالسلطة ، وإيجاد توازن حي ، بين صاحب الأمر ، وصاحب الرأي ، والحفاظ على إمكانية التداول . وهكذا يجب أن نقرأ هذا الخلاف.
ويأتي الخلاف الثالث : ليكرس الشورى في أروع معانيها ، إذ تعتمد على تفسير ثاني مصادر التشريع أي السنة ، ولا تعتمد على الهوى . فقد حدث في عهد الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه ، أول نكوص عن الالتزام بأحد ثوابت المجتمع الإسلامي ، وهو الزكاة ، مما أذن ببداية زعزعة ذلك البناء الجديد ، في زخم تحديات داخلية وخارجية متراكمة . فالزكاة إحدى قواعد الإسلام الخمس ، كما أنها ركيزة الدولة الإسلامية الناشئة ، والمساس بها يعد بالطبع ردة عن الدين ، وتدميراً للمجتمع الفتي.
لكن الذي وقع ، كان حواراً فقهياً وسياسيا ، بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكان الخليفة الأول يرى وجوب قتال مانعي الزكاة ، بينما يرى عمر ألا يحاربوا ، متمسكا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله ).
فبين أبو بكر لعمر ، أن الزكاة من حق لا إله إلا الله ، قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم على منعه ). فقال عمر: (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق ).
وأجمع القوم على رأي واحد ، وتمت محاربة مانعي الزكاة ، ونجا الإسلام في صدره من فتنة محققة.
إنها تجليات أخرى مرجعية لسماحة الحوار وآدابه ، وانطلاق الخلاف الفقهي من نص القرآن أو السنة المطهرة ، كمصدرين للتشريع قبل الإجماع.
ونأتي إلى الخلاف الرابع ، حول أهم وأخطر مسألة من مسائل الحكم ألا وهي حدود صلاحيات الحاكم ، وضوابط المسؤولية ، ووضع الفواصل الشرعية والقانونية بين المصالح الشخصية والأسرية ، ومصالح عامة المسلمين . وهذا الصنف من الخلاف نراه مؤسساً للفقه السياسي في الحضارة الإسلامية ، نعتز بسبقنا فيه على الحضارات كافة ، حتى وإن كان عنيفاً بالدرجة التي جرت ضمنها الأحداث . وإننا لسنا بصدد إفراد حادثة اغتيال عثمان رضي الله عنه ، بالحديث المطول ، فالكتب التي خصصت للفتنة الكبرى كثيرة ومتنوعة بل تكفي إشارتنا لعمق الجدل الفقهي السياسي ، الذي دار على ألسنة أسيادنا الصحابة الأجلاء في ذلك العهد ، قبل وأثناء وبعد حادثة اغتيال ثالث الخلفاء رضي الله عنه . فقد أثيرت في ذلك الجدل أدق قضايا الفكر الاجتماعي والاقتصادي ، وأكثر مشكلات الحكم تعقيداً وتشعباً ، إن في تقويم تصرف ذي النورين عثمان رضي الله عنه ، وإن في الحكم على تصرف مغتاليه . وإنك لظافر في هذا الجدل ، بأبرز أسس علم الاجتماع والفلسفة السياسية ، وفقه المعاملات ، وحتى القانون الدستوري ، مما لا شك ، هيأ فكرياً لقيام الدولة الإسلامية واستنادها إلى ثوابت قارة من المباديء والمثل.
ويجيء الخلاف الفلسفي المتمثل في تباين الآراء والمصالح حول مبايعة الإمام علي رضي الله عنه ، في غمرة الضجة الكبرى ، الي أحاطت باغتيال عثمان رضي الله عنه ، وهذا الخلاف مهما كان تأثيره ، لم يخرج عن كونه يشتمل على جوانب شخصية وفقهية ، أما الجوانب الشخصية فتتعلق مثلاً بحديث الإفك وما روي عن علي من أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم: (النساء سواها كثير) ، فشق ذلك على عائشة حسبما يذكره القرطبي في تفسيره أما الجوانب الفقهية ، فكتب التراجم والتفسير تزخر بها ، وهي تطوف حول منزلة علي من الرسول صلى الله عليه و سلم ، والأحاديث المتواترة الواردة في هذا المعنى كثيرة ، ومنها: (من كنت مولاه فعلي مولاه ) ، وقول الرسول صلى الله عليه و سلم لعلي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي ).
وأن ما يهمنا استخلاصه من هذا الخلاف ، هو أنه كان المنطلق الحقيقي الأول لمعالجة المسلمين لمسألة الإمامة ، والقيادة ، والزعامة ، وقد نشأ عن ذلك الاختلاف المبارك شعور بمسؤولية المجتمع الإسلامي في اختيار الخليفة ، وطرحت مشكلة الشرعية لأول مرة ، حينما تم الاتفاق على وجود خمسة مناهج متباينة في اكتساب الشرعية:
(أ) ترك الأمر للأمة كما فعل الرسول صلى الله عليه و سلم عندما سكت عن التعيين .
(ب) ممارسة الشورى بعد الجدل والاختلاف ثم الاتفاق ، كما تم في السقيفة حين تعيين أبي بكر الصديق.
(ج) التعيين الصريح مثلما فعل أبو بكر حين أوكل بالخلافة لعمر رضي الله عنهما .
(د) اصطفاء ما سمي من بعد بأهل الحل والعقد ، يتولون اختيار الخليفة ، نيابة عن المسلمين مثلما وقع عشرات المرات في التاريخ الإسلامي.
(هـ) أخذ الإمامة بالقهر والغلبة ، وهو أمر تم كذلك في فترات متعددة ومتباعدة من الحضارة الإسلامية ، وقد أطنب فيه سهيل بن عبد الله التستري وابن خويز منداد.(9/121)
ثم نأتي إلى الخلاف السادس ، الأخطر والأكثر تأثيراً في مجرى الحضارة الإسلامية ، على مدى قرون ، وهو تأسيس الدولة الأموية ، وتعويض الأساليب التي ذكرناها ، بأسلوب التوريث ، ورغم ما قيل في التوريث من اعتماد مناهج الساسانيين والبيزنطيين ، فإن له أصولاً في التنظيم الجاهلي العربي لا يمكن نكرانها ، بفضل الارتباط الوثيق بين صلات الدم وصلات القوة لدى القبائل العربية الكبرى ، وهو ما عبر عنه فيما بعد عبد الرحمن بن خلدون ، بالعصبية . ونحن نميل للاعتقاد بأن التوريث ليس هو الخطر الذي هدد الحضارة الإسلامية بل إن الخطر الفادح جاء من أن صاحب الأمر ، أصبح هو صاحب الرأي ، وتمت ازدواجية كاملة بين من بيده السيف ، ومن بيده الفكر.
ثم نخلص للخلاف السابع : انقسام المسلمين الأوائل ، قبيل وأثناء وعلى إثر انتصار معاوية ، إلى ثلاث فرق كبرى ، دون الجماعات الصغرى التي لا تحصى:
(1) فرقة المنتصرين لمعاوية ، والذين بدأوا - فيما ذهبت إليه بعض الروايات - برفع المصاحف على الرماح ، في موقعة صفين ، مطالبين بالتحكيم ، وانتهوا بعد مقتل على رضي الله عنه ، إلى بناة الدولة الإسلامية الجديدة ، فانتقلت الخلافة ، على أيديهم إلى ملك .
(2) فرقة شيعة علي وآل البيت ، التي تأسس معها المذهب الشيعي ، فرافق كل تقلبات التاريخ الإسلامي ومنعرجاته ، وتضاريسه ، من سنة 40 هـ (661م) سنة مقتل علي رضي الله عنه ، بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ، إلى يوم الناس هذا ، بدون انقطاع.
(3) فرقة الخوارج ، التي تأسست على رفض التحكيم ، ثم استحلت قتال علي ، لقبوله بالتحكيم .
وهكذا فإن الخلاف السابع ، كان هو الخلاف الأكبر ، ومنه انبثق شيء جديد كان مجهولاً في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم، وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، وهذا الأمر الجديد هو (السياسة) بالمعنى الذي أقره فلاسفة الإغريق القدامى ، وخصوصاً أفلاطون وأرسطو وسقراط ، وبالمعنى الذي نعرفه اليوم ، أي أن الحضارة الإسلامية دخلت مرحلة بناء مؤسسة الدولة ، بما فيها من خير وشر ، فأما الخير العميم فكان بالطبع سرعة استشراء الإسلام في العالم الذي ما كان لينجز لولا قوة السلطان الرافعة لواء القرآن ، وأما الشر الوخيم فكان الانشطار بين المؤسسة الرسمية ، والصفوة الفكرية ، وما نتج عنه من ضياع الحق بالقمع والتدجين ، وشراء الضمائر ، بالرغم من أن منارات فكرية عديدة سلمت من الغرق ، واستقلت بحريتها ، ونالها الاضطهاد ، فلم يطفيء لها نوراً. (والله متم نوره ولو كره الكافرون )(الصف:8).
=============
هل أعدت حضارتنا ما استطاعت من قوة؟
يتسم عصرنا الراهن بأنه عصر تحولات سريعة ومدوخة ومثيرة. اكتسحت الثورة التكنولوجية والاتصالية، كل قطاعات حياتنا.
تغلغل العلم في اتجاهين كبيرين: اتجاه الفضاء الكوني الواسع اللامتناهي، واتجاه جزئيات الخلايا الدقيقة. إنهما مغامرتان نقرأ يومياً عن مداهما. (كولومبيا) المكوك الفضائي رحل في يوليو 1994م إلى مداره حول الأرض يحمل سبعة باحثين من أمريكا، ومن اليابان، لدراسة الحياة البيولوجية، في حالة انعدام الجاذبية.. وأحدث اكتشاف طبي جاء من ماساشوستس، يتعلق بالتغلب على أسباب العقم، وزيادة نسبة الأمل في الإنجاب. وتتواصل ضمن هاتين المغامرتين كذلك اكتشافات أجرام سماوية جديدة، ورصد التحولات المناخية من علو شاهق، والتعمق في برامج الجينات الوراثية DNA لدى الإنسان. وتوصل العلماء في مغامرة البيولوجيا إلى أن الإنسان يجد نفسه بإزاء عالمين متشابهين منسجمين: عالم الملكوت السماوي الشاسع، وعالم الخلايا الدقيقة غير المنظورة.
في هذا وذاك نظام عجيب، وميزان غريب. في الفضاء تدور الأفلاك وتتوالد، وتنتظم حركتها بمفعول الجاذبية المدهش، وفي جسم الإنسان خلايا ونوى الخلايا، تدور أيضاً كما الأفلاك، وتنتظم حركتها بمفعول عوامل الوراثة والتغذية والبيئة، ونوعية ردود الفعل إزاء الصدمات والتحولات الاجتماعية اليومية.
ولكن الذي وقع خلال هذه العشرية، هو أن العلم المحض وجد نفسه عاجزاً عن فهم لغز الكون والحياة بمفرده ، بل وأكثر من ذلك أحس بخطر انفراد العلم بإدارة الكون، لأن العلم يكتشف ولا يفسر، يحلل ولا يبرّر، فاستنجد العلم بالدين. وكان أحدث مثال على ذلك هو قصور العلم عن الإحاطة بالهندسة الوراثية، والاحتياط لمجابهة هذا العالم الجديد، عالم البرمجة الجينية.
اكتشف العلماء أن حياة كل منا وحتى قبل أن نولد، تشبه (ديسكات) جاهزة في بعض خطوطها، توضع مع ميلادنا في جهاز كمبيوتر - أي الحياة - لتبوح بأسرارها وتسلك طريقها، وتعاني أمراضها وبلواها، وتنال رغباتها، وتحقق أمنياتها. واندهش العلماء لعظمة ما اكتشفوا. أليسوا بذلك يدركون مفهوم القضاء، والقدر، المنصوص عليه في القرآن، ويتجلى معنى خلق الله للنفس البشرية، وإلهامها الخير والشر قبل أن توهب الحياة:
(ونفسٍ وما سوّاها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها )(الشمس:7-10).
(إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا )(الطلاق:3).
(الذي خلق فسوّى * والذي قدّر فهدى )(الأعلى:2-3).
(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر )(الرعد:26).
ثم إن الله تعالى يسبغ الأقدار نفسها على الكواكب، أي ذلك الفضاء الكوني الذي نحن منه ولسنا مركزه: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل )(يونس:5).
إن الذي نراه في اكتشافات المراصد، والمخابر، ونتأمل صوراً له في المجلات العلمية الحديثة، ليعطينا أبعاداً جديدة لقراءة القرآن، ويفتح في وجوهنا بعض مغاليق الكتاب المكنون. وإنك ستحار إذا ما شاهدت إحدى هذه الصور الضوئية، فهل هي الكواكب في الفضاء تسبح، أم هي لخلية واحدة من خلايا الجسم بما لها من قلب وذرات تسبح هي الأخرى ! إنك ستحار بين صورة أضخم ما وصلت إليه مراصد الإنسان، أي الفضاء الرحب اللامتناهي، وبين صورة أصغر مالتقطته عدسة الميكروسكوب ! لقاء غريب مدهش بين الأضخم والأصغر، بين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه كبير بعيد، وبين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه صغير دقيق! ألسنا محكومين بأن نتأمل فقط هذا العالم، الذي نعيش فيه! مع أن الله أراد لنا أن نتطلع إلى ما وراء عالم الشهادة: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ٍ)(الرحمن:33).
وللقارئ أن يسألني: ما الذي أردت إثارته بقولي هذا؟
إن غايتي هي إثارة علمائنا وفقهائنا حتى يتعمقوا في دراسة هذه الاكتشافات الخارقة الكثيرة، ويبحثوا فيها عما يدعم الفكر القرآني، ويرسخ البعد الإسلامي ، ويؤيد الرؤية الإيمانية.. فالقرآن نقرأه اليوم بعيون هذا العصر الذي تكثفت فيه الاكتشافات، بما يطابق القرآن، لا بما يشكك فيه، وكثرت حقائق العلم في الآفاق وفي أنفسنا، مما يجعلنا نفهم أكثر، تلك الإشارات الإلهية التي بثها سبحانه في كتابه الكريم.
إننا في قرننا الخامس عشر من الهجرة، نشهد على انتصار كاسح للإسلام في ساحة لم نكن نتوقعها، وهي ساحة العلم المجرد، فكلما فتح العلم باباً بفضل اختراع أو اكتشاف، إلا وانبهرنا بالنور الإلهي يغمرنا، ونزداد إيماناً، ويقوى تمسكنا بالإسلام.(9/122)
لقد خسر الجاهليون الجدد معركة أخرى حاسمة على ساحة العلم التي اختاروها بأنفسهم، لتكون مقبرة للدين الحنيف، فإذا بهم يحفرون فيها قبور أوهامهم، وضلالاتهم وضياعاتهم. رفعوا شعار العلم واشتقوا منه العلمانية، واتخذوا كلام الله ودعاته هزواً، حتى خسف الله بدعاويهم الأرض، وجعل سبحانه من كل خلقه آيات جلية مطهرة، تنطق بعظمته وتسبح لذاته العلية وتذكره بالعشي والإبكار.
ومن هذه الملاحظات العامة، نخلص للقول: إن المشروع الحضاري الإسلامي يملك هذا التميز الأساس في صراعه القادم مع الحضارات الأخرى ، ألا وهو خضوع العلم لديه، للدين. فالعلم الإسلامي منذ نشأته كان ملتحماً بالدين، متفرعاً عنه، ملتصقاً بالوحي، أمرنا الله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق )(العنكبوت:20) ، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(فصلت:53).
وأطلق الحق سبحانه وتعالى على ظواهر الطبيعة، وبيئة الإنسان، وأجزاء الفضاء الرحب، عبارة: (الآيات)، التي لا ترجمة لها في أية لغة على الإطلاق، ولا شبيه، فهي كلمة تجمع المحسوس والمجرد في آن واحد، وتوحي بأن مخلوقات الله لا تقتصر على الشكل المادي الملموس والمرئي، بل هي آيات أوجدها الله حتى يتدبرها قوم يعقلون، أي يعملون عقولهم إزاءها. وكان العلم بهذا المعنى في حضارة الإسلام، لا تفسيراً لظواهر الطبيعة، أو جسم الإنسان فحسب، بل عملية مستمرة، غايتها إدماج الإنسان في الطبيعة، وفي الكون: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )(البقرة:146).
ويمكن أن نؤيد الرأي الكريم السائد، وهو أن الحضارة الإسلامية، هي التي سلمت مشعل العلوم إلى أوروبا، لتقوم هذه بنهضتها العلمية، فما من علم - كالطب والفلك والكيمياء الرياضيات والفيزياء والصيدلة - إلا وترك أبرز المصطلحات الأساسية متداولة بأصلها العربي في أوروبا إلى اليوم، وحتى الصناعات الأوروبية القائمة اليوم، احتفظت بمصطلحاتها عربية، يجهلها علماء أوروبا، وأغلب علماء المسلمين.. من ذلك كلمة ARSENAL أي مصنع بناء السفن، وهي تحريف بسيط لكلمة دار الصناعة، جلبها الصليبيون العائدون من الشام، بعد أن لمسوا مستوى بناء السفن العربية في الموانئ المسلمة. والمصطلحات أكثر من أن تحصى، وهي معروفة، من الصفر، إلى الجبر، إلى الخوارزميات، إلى مواقع المجرات والكواكب، إلى أسماء الأدوية، ومسميات الأمراض… إلخ.
أما السر المكنون في أن أوروبا، رغم أنها أخذت مشعل العلوم عن الإسلام لم توفق إلى اليوم إلى إنجاز مجتمعات آمنة سعيدة، فذلك راجع إلى أن أوروبا ورثت عن المسلمين الوسائل، ولم ترث الغايات. أوروبا أخذت عن المسلمين الجانب المادي من العلوم، ولم تأخذ الجانب الروحي. ونحن حينما نقول اليوم: إن أوروبا - أو الغرب عامة - بلغت درجات عليا من التقدم، فإنما نقصد درجات عليا من التحكم في وسائل الإنتاج، والصناعة، ولا نقصد درجات عليا من الحضارة، فالحضارة هي الإنسان قبل كل شيء، والإنسان في المجتمعات الأوروبية، إنسان شقي، مستعبد.
إن بلوغ أوروبا قدراً متقدماً من التكنولوجيا والتصنيع وعلوم الاتصال والإنتاج، وفّر للمجتمع الأوروبي قدرة على الاستهلاك والإنتاج، فتحول الفرد هناك من مواطن حر إلى مجرد أداة إنتاج واستهلاك، أي إلى (برغي) مجهول في ماكينة جبارة، عمياء، صماء، لا ترحم.
وإذا أردت الاقتناع بهذه الحقيقة، فعليك استجلاء الأرقام، لتجد أن السويد، وفرنسا، وألمانيا، تأتي في مقدمة بلدان العالم، من حيث عدد المنتحرين (في فرنسا وحدها إحدى عشر ألف حالة وفاة عقب انتحار عام 1992م، بعدد ضحايا حوادث الطرقات نفسها في هذه البلاد).
وخذ أرقام تعاطي المخدرات، وأرقام جرائم العنف والاغتصاب، والسفاح، لتكتشف أن هذه المجتمعات رغم امتلاكها للوسائل، فإن الغايات مفقودة، بل لا تجتمع الوسائل بالغايات إلا في الإسلام ، وفي الإسلام وحده.
المواطن الأوروبي تعلق بحاكمية السوق، ففقد كل مقومات الإنسانية فيه، ليخرج من رق الإقطاع أو رق الكنيسة، ويدخل في رق المؤسسة المالية أو المؤسسة السياسية. المطلوب منه هو أن يفكر بحرية بل يفكر كيف يكون منتجاً، وكيف يكون ناخباً، وكيف يكون مديناً للبنوك، وكيف يكون مستهلكاً !
خرجت العبودية لديه من الباب لتعود من الشباك.. ثم هل تعلمون أن إحدى معارك المجتمعات الأوروبية اليوم، وأكبرها، هي معركته ضد الربا، الذي حرمه الإسلام؟! صدرت كتب لا تحصى، وخصصت مقالات ودراسات كثيرة في فرنسا وحدها، لتؤكد أن العائلة الفرنسية أصبحت رهينة قروض المصارف، أي ضحية الربا. كل مواطن فرنسي مدين للمصارف بما يجعله يشتغل خمسة أعوام بدون أجر، لتسديد ديونه ذات الفوائد المتصاعدة.
هو الربا، ولكنهم لا يسمونه هكذا، وصفوة المجتمع الفرنسي تقاومه وتطالب بتحريمه قانوناً لا شرعاً، بينما القرآن حسم هذه المظلمة منذ أربعة عشر قرناً.
فماذا فعل العلم المحض لدرء هذه الأخطار عن المجتمعات الأوروبية؟ نعم العلم وفر السيارة وجهاز "السكانير"، وخلاط المطبخ، والكمبيوتر، لكنه لم يوفر السعادة، لا للفرد الذي استعبد، وصودر رزقه، ولا للأسرة التي تفجرت وانفطرت كالحب والنوى، ولا للمجتمع الذي سار بدون هدى نحو حتفه.
الفرد عبد للمصارف، وللمؤسسة السياسية، والإعلامية، وهو ضحيتها ووقود نارها، ولا يساوي فلساً. تحدد له المصارف دخله الضئيل لكي يظل حياً، لا لكي يصبح سعيداً، بعد أن تقتطع سبعين بالمائة من مرتبه، وترهن بيته وأثاثه، وسيارته، فهو لا يملك شيئاً في الحقيقة، ثم تقتطع الدولة مما بقي من مرتبه نسبة النصف (ضرائب مباشرة، وضرائب غير مباشرة، تتمثل في ألعاب الحظ وغلاء المعيشة…) ثم يفرض عليه الإعلام الإقطاعي بواسطة الإشهار، ما يجب عليه أن يستهلكه ( أي أن يقتنيه بقروض إضافية) ثم توهمه المؤسسة السياسية (أحزاب، نقابات)، أنه مواطن حر في اختيار من يمثله في المجالس المحلية والتشريعية.
ثم إن هذه التنينات الثلاثة:
- تنين المؤسسة المصرفية،
- تنين المؤسسة السياسية،
- تنين المؤسسة الإعلامية،
اجتمعت في تحالفات عتيدة مريبة (لعل أحسن مثل لها المافيا الإيطالية، التي تجمع رئيس المصرف ورئيس الحكومة ورئيس تحرير الصحيفة)، تحالفت هذه المؤسسات لتسد طريق النجاة في وجه المواطن الأوروبي، حيث أعلنت أن المجتمع لائكي ولا ديني، فعزلت الكنيسة في دور عبادة، وإقامة طقوس لا تأثير لها في المجتمع، وهذا هو ما يريد الجاهليون المعاصرون في أمتنا المسلمة أن ينفذوه، حتى "نلتحق بركب التقدم الغربي…!" وهم يعلنون حاكمية التنوير أو يزينون لنا "بحبوحة العيش" لدى أهل أوروبا، وهم في الحقيقة يصدون عن سبيل الله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، ويضلون البلاد والعباد، وإنهم إذا ما رفعوا شعار العلمانية - المشتق زوراً وبهتاناً من العلم - إنما هم يخرجون للأمة الإسلامية عجلاً له خوار، مثلما أخرج السامري لبني إسرائيل، لكي يزيغ بهم عن عبادة الله عز وجل، ولعل أبلغ رد على هؤلاء - أصحاب العجل المحدثين - ما جاء في سورة طه: (إنما ألهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كلّ شيء علما ً)(طه:98).(9/123)
وتأتي عبارة العلم هنا في القرآن الحكيم، للرد على العلمانية المزيفة، فالعلم اقترن في تاريخ الإسلام بالوحي الإلهي، لدرجة أن لفظة حكيم كانت إلى زمن قريب تطلق على الطبيب، في أرجاء العالم الإسلامي كافة. إن ا لذي أصاب المسلمين هو التفريط في هذه العبقرية الحضارية الفريدة، الرابطة بين العلم والدين، وبين العقل والوحي، ومثال علم الطب، نموذج صالح للاعتبار. والكثير من أطبائنا الحكماء المسلمين، يأسفون لهذه القطيعة بين الطب والإيمان وللهبوط الذي أصاب رسالة الطب، حينما تحولت إلى صناعة، يوجه إليها الطلبة حسب معدلات الثانوية العامة، فأصبح الطب علماً بلا حكمة، إلا من رحم ربك من ذلك المعدن الإنساني الباقي، والذي لم يجر لاهثاً وراء ربح مادي سريع، وجاه دنيوي زائل. وقد أحسن الدكتور زيدان تفكيراً عندما قرن ذلك الهبوط المؤسف في الحكمة، بهبوط أعم وأشمل في العلاقات الاجتماعية، بين المسلمين، وهبوط في سلم القيم الحضارية، التي تشكل نسيج هويتهم، وهبوط في مستوى التعامل الأخلاقي، بين أفراد الأمة الإسلامية وشعوبها. فلا غرو إذن أن يتحول الطب إلى مهنة عادية، والعلاج إلى صناعة، والاستشفاء إلى تجارة، حتى إن الاستثمار بمعناه المادي الربوي، دخل إلى هذا المجال الشريف، فأخضعه إلى نواميس السوق والعرض، والطلب، مما جعل مجهود الحكومات في العلاج الرخيص، أو المجاني، يصبح كأنه ملجأ للصدقة والزكاة، أمام المستشفيات ذات النجوم الخمسة الاستثمارية.
وأستسمح القراء الكرام أن أستعيد معهم بعض معالم الطب الإسلامي وتاريخه الحافل بالأمجاد، فهو الطب الذي غذاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما يلزم من سمو روحي، ورفعة أخلاقية، جعلته - منذ عهد طبيب الرسول والصحابة حارث بن كلدة الثقفي - أداة مثلى لإنقاذ الجسد والروح، وعلاج الألم والريبة بواسطة الدواء والإيمان معاً. وهذا هو سر حكمة الطب الإسلامي: اكتشاف عظيم للنفس البشرية، التي ألهمها الله سبحانه فجورها وتقواها، وأعلن في السورة نفسها أنه قد أفح من زكاها، وقد خاب من دساها.
كما أن المسلمين هم أول من أعاد بعث قسم أبقراط، ونجد له فصلاً وافياً عند أبي أصيبعة في كتابه: "عيون الأنباء لطبقات الأطباء"، وثبت أن أوروبا لم تعرف قسم أبقراط إلا عن طريق هذا الكتاب الإسلامي في القرن الثالث عشر المسيحي، ثم هلت على العالم أنوار بن سهل الطبري، والرازي، وابن سينا، وسواهم حتى استوت في الدنيا مدرسة الحكمة، بعد أن كانت أوروبا قبل التقائها بالثقافة الإسلامية الأندلسية، تعتبر المرض حلولاً للشيطان في جسم الإنسان، تعالجه بالحرق والمباخر، والتعاويذ.
وجاءت حكمة الأطباء المسلمين، من كونهم فقهاء، قبل التعمق في الطب، فكان الفقه الإسلامي ، يسبق العلم، بإرساء الأسس الأخلاقية، من فضيلة، ورحمة، وصبر، وإيثار، ونصيحة، وتعفف.
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في مقدمة كتاب النجاة: (إن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأرفع البرّ الصدقة، وأزكى السير الاحتمال، ولن تخلص النفس عن الدرن، ما التفتت إلى قيل وقال، ومناقشة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله أول الأوائل…).
وأروع ما في هذه التعريفات الكريمة للطب، ما جاء على لسان رشيد الدين على بن خليفة، حيث قال: "الأمراض لها أعمار، والعلاج يحتاج إلى مساعدة الأقدار، وأكثر صناعة الطب حدث وتخمين، وقلما فيه اليقين، وجزاها القياس والتجربة، لا السفسطة وحب الغلبة، ونتيجتها حفظ الصحة، إن كانت موجودة، وردها إن كانت مفقودة.. ويتميز الفاعل عن الجاهل، والمجد عن المتكاسل، والعامل بمقتضى القياس والتجربة، عن المختال في اقتناء المال، وعلو المرتبة…).
ويضيف القلقشندي درة حكمة، لهذه التعريفات في القرن السابع الهجري، حيث يبدع في الإيجاز والبيان قائلاً: "يشترط في الطبيب أن يتحلى بالإيمان، وشرعة التقوى". أما ثابت بن قرة الحراني، عالم الفلك والرياضيات والطب والفلسفة، الذي نبغ في هذه الفنون في عهد المعتضد العباسي، فيقول: (إن راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام…).
ثم إلى جانب شرف الفضيلة، فإن صفوة من حكماء الطب الإسلامي ضحوا بحياتهم أو بحرياتهم، من أجل مواقف وقفوها، وفي سبيل كلمة حق قالوها في حضرة سلطان جائر، فقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، ومات منهم من مات، في الفاقة والنسيان والإهمال، ومن بين هؤلاء الحكماء المجاهدين: أبو بكر الرازي، وعلي بن رضوان، والحسن بن الهيثم، وإسحاق بن عمران، ولسان الدين بن الخطيب، وابن ماجة، ونجيب الدين السمرقندي، وسواهم أكثر في جميع العهود، رحمهم الله، إن كانوا قضوا ، ونصرهم الله إن كانوا بيننا، وجزاهم عن الإسلام كل خير.
ولعل القارئ الكريم يريد مزيد التعمق في هذه المعاني الجليلة، خاصة وشبابنا المسلم ، يتعطش لمعرفة تراثه العلمي الغني والواسع، أرجو أن يفوز بتلك المعرفة من ينابيعها، أي بالرجوع إلى مؤلفات القمم، التي ذكرت بعضها في هذا الفصل القصير، وإذا تعذر عليه ذلك، فليعد إلى كتب أوجزت هذه العلوم الإسلامية الطبية للقارئ المعاصر، منها كتاب تاريخ الطب الإسلامي، للأستاذ الدكتور سليم عمار، أستاذ الطب النفسي بالجامعة التونسية، وكتاب المستشرق الألماني المنصف يوحنا كرستوف بيرغل بعنوان: الوجه المزدوج للطب في الحضارة الإسلامية، وغيرهما من المؤلفات، وليتأمل القارئ الحصيف كذلك بعض ما بلغه أطباء علماء مسلمون، يعملون في جامعات أوروبية وأمريكية من شأو بعيد، ليدرك أننا لسنا أيتام علم وحكمة، بل إننا أمة تصدر عقولها وتفيد مجتمعات غيرها.
=============
الاقتصاد الإسلامي يؤسس على الفضائل
شهدت السنوات الأخيرة في أمتنا ، رواج فكر علماني سفسطائي ، وجد له منظرين ، ووجد له بخاصة مستثمرين ، فالكلمة السحرية التي أصبح يستعملها أعداء النهج الإسلامي ، هي كلمة اقتصاد ، والدعوى هي أن الخيار الإسلامي لا برنامج اقتصادي لديه ، وثانياً : لا يكون الاقتصاد إلا عالمياً . فكيف نصنع في دوامة الاقتصاد العالمي؟
هاتان في الواقع حيلتان من قبعة المشعوذين الجدد ، كالأرنب والحمامة الذين يخرجهما المهرج للجمهور ، وهما حجتان واهيتان ، اعتمد نجاحهما لا على عبقرية الجاهلين ، بل على جهل قسم من شباب الإسلام ، بأسرار الاقتصاد ومحركاته وثوابته ، مضافٌ إلى عدم إحاطة بالتراث الفكري الاقتصادي الإسلامي.
وعلي شبابنا إذا أراد توخي النجاعة ، أن لا يقع في الدائرة التي يحددها أعداء الإسلام ، في أي جدل حول الاقتصاد ، بل أن يجلبوا هؤلاء إلى الدائرة التي حددها الإسلام ، وذلك لاختلاف تام بين المنظور الاقتصادي الجاهلي الرأسمالي السائد ، وبين المنظور الاقتصادي الإسلامي المنشود ، فهما خطان لا يلتقيان.
نحن ننطلق من أسس أخلاقية وفضائل إنسانية ، وهم ينطلقون من منطق القوة العمياء ، والربح السريع ، والاستغلال الفاحش.(9/124)
إن اقتصادهم يقوم على قانون الغاب، ويبيح كل أشكال الإبادة والقتل، ويصب في خزائن تجار الموت ، وسماسرة السلاح، وقادة العصابات المنظمة، والجريمة المنسقة. كل الهرم الاقتصادي الدولي ، مقام على الجور ، قاعدته نهب ثروات المستضعفين، وإذلال الشعوب الفقيرة ، وبث الفرقة بينها ، وتوكيل الوكلاء على مصائرها ، وإقرار سيادة الدول الكبرى على طاقاتها، وأسعار موادها الأولية.. أما قمة الهرم ، فتمثله المصارف العملاقة ، بفخاخ قروضها ، وفوائدها ، يعلوها جميعاً عرش البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي. كل الهرم مؤسس على أيديولوجية مواصلة الاستخراب ، وتغيير أشكال النهب والسلب ، وتزويق وجه الباطل بمساحيق النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، من أجل تسويق الاعتقاد بأن العالم يخضع لقانون أبدي خالد هو الظلم ، وتحكم الدول الأخطبوطية الكبرى في مصائر الشعوب.
هذه هي الدائرة الفكرية التي يريدون أن يجرونا إليها ويحسبون أننا نسكت عن الكلام المباح ، ونقر لهم بأننا عاجزون عن الخوض في الاقتصاد المكنّى بالعالمي، بينما الحكمة هي أن نشك في أسس هذه الاقتصاد المفروض، ونفند بواعثه الأيديولوجية، ونفضح مروجيه السماسرة، انطلاقاً من فقه الاقتصاد الإسلامي، الذي لا حل سواه، حتى نحمي مصالحنا الحيوية، ونضع مستقبل أطفالنا تحت مظلة ظليلة.
إن الواقع الراهن يثبت أن ما نسميه مقتضيات الاقتصاد العالمي، ما هو إلا تكريس الهيمنة على خيرات الأرض ، من طرف عشرين بالمائة من سكانها ، ولهذه الأقلية وسائل سخرتها لاستمرار المظلمة ، وآخر تلك الوسائل ما فرضته من ضريبة الكربون على إنتاج البلاد المسلمة من النفط ، حتى تخضع لضغوط السوق ، وتقبل بأسعار منخفضة لهذه المادة الحيوية، لا تستجيب لضرورات التنمية في مجتمعاتنا .. وآخر تلك الوسائل ، هذه القرارات الأممية القاضية بفرض حصارات على بلدان مسلمة ، لأسباب شتى حتى تنهار مقدراتها وتنحل الروابط الإسلامية القائمة بينها ، وبين جيرانها، ورهن مستقبل أجيالها لعقود طويلة قادمة.
كما أن آخر تلك الوسائل ، الشروع في الترويج لمشروع الشرق الأوسط الاقتصادي، دون رفع الجور التاريخي المسلط على شعب مسلم ، هو الشعب الفلسطيني، وعلى حساب بلدان عربية مسلمة ، لا تزال بعض أراضيها محتلة جهاراً نهاراً من طرف إسرائيل ، رغم أنف قرارات مجلس الأمن الداعية لتحريرها .. وينادي المروجون للسوق الشرق أوسطية ، بإذلال الشعوب المسلمة وحصرها في دور الأيدي العاملة، وإهانة بعض الدول العربية، بتسخيرها للتمويل ، كأنما هي خزائن مال ، وليست شعوباً أصيلة، لها مجدها، ولها رجالها، ثم تخصيص دور إسرائيل في هذا المثلث، يجعلها العقل التكنولوجي المدبر، والقلب الاقتصادي الحي ، وما نحن إلا الأذرع الرخيصة ، والخزينة المليئة ، والأرض المفتوحة ، والسوق المضمونة ! وذلك يعني أن دار الإسلام ستكون لإسرائيل ، وحماتها ، إذرعاً تصنع ، وبطوناً تبلع ، وصيرفياً يدفع ! فياله من مآل خزي ، ومصير هزيمة ، أهون منهما أن يبدلنا الله سبحانه وتعالى بأمة غيرنا ، ولا تكون مثلنا ، وذلك هو الوعد الذي أنذر به القرآن أمماً هانت على نفسها ، ضربت على مصائرها المذلة ، فهانت على أعدائها والمتربصين بها.
والسؤال هو : بماذا نواجه هذا الاقتصاد ؟ وما هو بديلنا؟
أول ما يجب علينا فعله ، هو تفكيك آليات ذلك النظام الخادع ، وفهم محركاته ، والتدبر في الأيدي التي تديره في الظل ، في مكاتب الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات ، ومكاتب سماسرة السلاح ، ومن تحت هذه الأشباح توجد الأحزاب والحكومات في أوروبا وأمريكا ، ومن تحتها قاعات تحرير التلفزيونات والصحف والإذاعات.
ثلاث مستويات تسيِّر دفة الاقتصاد العالمي : صاحب المال ، وصاحب القرار السياسي ، ثم صاحب الرأي العام .. ونحن كشعوب وصفت بأنها سائرة نحو النمو نقع في هذه الكماشة ، وبين فكيها .
وثاني ما يجب علينا فعله ، بعد الفهم ، أن نرسي قاعدة قوية للاقتصاد الإسلامي ، بفضل عمل متعمق رصين ، يصل بين المثل الأعلى ، وحياتنا اليوم ، وبين النظرية القرآنية ، والتطبيق في عصرنا الحاضر . وأخطر ما سيلاقيه علماؤنا وخبراؤنا المسلمون في هذه المرحلة ، هو حجة الجاهليين والمتغربين القائلة : بأننا بعيدون بعد كوكب المشترى ، عن عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعن زمن نزول القرآن . وهي حجة باطلة ، لأن رجل الاقتصاد الإسلامي يأخذ من روح القرآن وجوهر السنة ، الأسس الأخلاقية الخالدة ، ويطوعها ببصيرته وإيمانه وعلمه ، حتى تلبس مشاكل عصرنا ، ومعضلات واقعنا ، شأنه شأن المربي في عالم التربية الحديثة ، والطبيب في ميدان الطب ، والإعلامي عندما يؤسلم الإعلام .
إن النكبة الحقيقية ، هي أساساً في عدم توفيق المسلمين اليوم ، لابتكار اقتصاد إسلامي ، وأصل هذه النكبة سببان رئيسان : الأول جهل لا إرادي بالقيم الإسلامية في الاقتصاد ، مما جعلنا نتخبط في الأنماط الواردة علينا ، من شرق وغرب ، حتى ضاع جيل كامل من الأمة المسلمة ، في جدل أيديولوجي عقيم ، بين أنصار الشيوعية، ودعاة الرأسمالية، وانقسمت شعوبنا إلى عربات مجرورة من طرف المعسكر الماركسي، وعربات مجرورة من طرف المعسكر الحر ، وتحملنا انتقال الجدل الاقتصادي ، إلى خنادق سياسية، تمركز فيها هؤلاء وأولئك ، وبلغ بنا الحال إلى الحرب الباردة المنسوخة عن أصلها ، الحرب الباردة بين العملاقين ، فانقسمت صفوتنا إلى تقدمية ورجعية ، وذهب كل فريق إلى شطط : الأول إلى شطط التصنيع الثقيل ، والثاني إلى شطط التداين ورهن الإعناق لدى البنك الدولي للإنشاء وإعادة التعمير ، ولم تنج إلا دول مسلمة قليلة ، حاولت الأخذ من هذا وذاك ، وكادت ترسم سياسة اقتصادية غير منحازة ووطنية لولا مؤمرات دولية.
أما السبب الثاني ، فهو انعدام التشاور والتنسيق والتكامل ، وهو سبب داخلي وخارجي ، لسنا بصدد تعداد منطلقاته ، وهي معروفة ، مما جعل سياستنا الاقتصادية ، لا تقوى على تحقيق استقلال قرارها ، ولا تقوى خاصة على تحقيق اكتفائها الذاتي ، لا في التغذية ، ولا في الصناعات الخفيفة المرافقة للزراعة .(9/125)
ويأتي السبب الثالث ، مكملاً لهذه المعوقات ، وهو الداء العضال ، المتمثل في القطيعة بين المؤسسة التربوية ، والمؤسسة الاقتصادية . القطيعة بين المدرسة والمجتمع ، حيث ظلت مدارسنا ، على مدى جيل تخرج العاطلين ، وتدفع بالدفعات البشرية نحو المقاهي ، والشوارع ، كأن المدرسة كوكب صناعي يدور في فضاء رحب ، لا تربطه بأرض الواقع رابطة ، وتوالت في جل دولنا برامج الإصلاح ، تجب برامج الإصلاح، ويتناوب على تخطيط مناهجها التربوية (خبراء) و(متعاونون) من دول أوروبا ، ومن أمريكا، ومن روسيا، بينما الحل الأوحد هوا لخيار الأصيل النابع من إسلامنا، ومن هويتنا، والمنصب في عصرنا، والمتكلم بلساننا العربي ، قبل أية لغة أجنبية ، فلا تغيير لاختياراتنا الاقتصادية، دون البداية بالتربية ، التي هي رحم الاقتصاد، وفيه ينشأ جنين الاستقلال، والهوية والنهضة. فكل بنيان نبنيه على غير أسسه، إنما هو آيل للسقوط، مقدر عليه الانهيار، وجلت كلمة الله تعالى عن حضارة قوم عاد ، التي أقاموها شامخة، لكن بدون التقوى - أي بدون الاستناد إلى أصول الإسلام - (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون )(الشعراء:128-132). (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين )(التوبة:109).
إن مبدأ الانطلاق من شريعة الله في الاقتصاد ، هو تبين التضاد الكامل ، بين المقصد الإسلامي، والمقصد الغربي -وهو الطاغي- فبينما يخضع المقصد الإسلامي ، إلى نظرية الخير والشر ، في شؤون الإنتاج والبيع ، والشراء ، والكسب ، والإنشاء كلها ، يخضع المقصد الغربي ، إلى نظرية الربح والخسارة ، في تنظيم أمور السوق كلها .. وفي حين يرتكز المقصد الإسلامي ، على عقيدة الحق والباطل في كل ما يتعلق بإيجاد الثروة ، وتنميتها ، يرتكز المقصد الغربي القائم حالياً، على عقيدة التوسع ، والتكثيف، ومضاعفة الكم.
ولعله من اليسير علينا ، إذا ما أرخنا لأمتنا الإسلامية ، وللغرب الأوروبي ، أو الغرب الأمريكي اليوم ، أن نتأمل في ما انتهت إليه حضارتنا وحضارتهم .
لقد كانت الحروب الصليبية ، التي دامت قرنين كاملين ، تجسيماً ، عن طريق العدوان والحرب ، لمنظور الغرب الاقتصادي ، أي الربح والغنم السريعان ، بواسطة التوسع والإبادة ، وكانت كذلك أيضاً عمليات غزو القارة الأمريكية ، منذ 1492م على أيدي كرستوف كولمبو ، ثم كانت كذلك الحملات الاستخرابية (المعبر عنها بالاستعمارية!) بداية من حلول جيوش نابليون بالقاهرة يوم 24 يوليو 1798 ، ومروراً باحتلال الشام والمغرب الإسلامي ، والهند ، وأندونيسيا ، تحت شعار توسع السوق الأوروبية -غير الموحدة آنذاك- إلى يوم الناس هذا ، حيث نعاني من ويلات العقيدة نفسها بطرق أخرى ، أي من انعكاسات قانون السوق .
ثم انظر إلى آثار عقيدتنا الإسلامية ، التي أفشلت الحروب الصليبية بسلاح الإيمان والجهاد أولاً ، ثم بتمسك المسلمين بالثوابت الاقتصادية . فكم من حصار لمدن مسلمة ، دام شهوراً ، ثم اندحر على أعقابه ، وانهزم فيه المحاصرون ، بسبب النظام الاقتصادي المتبع ، من الإيثار والصدقة ، وتكثيف الإنتاج والقناعة ، بل وابتكار اقتصاد حرب إسلامي متكامل ، مثل نهاية حصار أنطاكية وأسر حكامها بوهيموند الصليبي سنة 1100م ، وانتصار المسلمين في الموصل سنة 1127م ، واستيلاء عماد الدين زنكي على حلب سنة 1128م ، إلى آخر هذه السلسلة المشرقة ، التي أدى فيها الاقتصاد الإسلامي رسالته الجهادية.
وكان مصير المعتدين الصليبيين الهزيمة ، والعودة إلى نقطة البداية ، بعد قرنين ، فانتهت الصليبية بموت ملك فرنسا القديس لويس في قرطاج سنة 1270م ، وأسر ملوكها ، مثل ريتشارد قلب الأسد ، وكانت نتيجة الحملات الصليبية ، انتقال النظام الاقتصادي الإسلامي في بعض مظاهره إلى أوروبا ، مثل الزراعات ، وتنظيم الأسواق ، والمسالك التجارية . وبعد قرون من ذلك العهد ، انهزمت جيوش نابليون في مصر ، وكانت المقاومة الاقتصادية المسلمة ، للدخيل المحتل ، وجهاً من وجوه الصمود ، مثلما جاء في مذكرات أحد المؤرخين الفرنسيين ، المشاركين في الحملة Vivant-Denon ( فيفان دونان ) وكما أكده الجبرتي في تاريخه ، ولعله من الرموز الناطقة بعزة الإسلام ، أن يتسلل نابليون هارباً ناجياً برأسه من مصر ، تاركاً نائبه كليبر ، الذي قتل على يد الشهيد الإسلامي سليمان الحلبي ، وتولى الجنرال مينو عوضاً عنه قيادة جيش الاحتلال ، فانحاز إلى جانب المسلمين ، وأشهر إسلامه وأصبح اسمه عبد الله مينو .
وهكذا انهارت آخر الحملات الصليبية ، وأولى الحملات الاستخرابية ، إلى أن تقاسمت دول أوروبا المشرق والمغرب الإسلاميين ، بداية من مطلع القرن التاسع عشر ، وأول ما صنعته ، كان تخريب الاقتصاد الإسلامي ، بالتوازي مع مقاومة دين الأمة ولغتها ، ومعالم حضارتها ، وتم بسرعة تذييل قوت الشعوب ، وربط اقتصادها باقتصاديات مركزية أوروبية ، وتمادت هذه الحالة من التبعية المادية والمعنوية ، حوالي قرن ، إلى أن نالت بلداننا استقلالاتها الإدارية والعسكرية ، ولكنها في أغلبها ظلت تعاني التشابك القوى ، بين اقتصادها ، واقتصاد أوروبا وأمريكا وأحيانا روسيا ، وظلت كذلك تعاني زعزعة قواعدها الدينية واللغوية ، وارتجاج ثقة المسلمين في هويتهم وحضارتهم ، ولعلها إلى اليوم تحمل أوزار ضعفها ووهنها ، وتبحث عن الخلاص.
ثم يكفي مقارنة حضارة الإسلام ، بالحضارة الغربية ، في مثل تاريخي واحد ، لتعرف مدى قوتنا ، ومدى هشاشتها . وهذا المثل هو كما أسلفنا الوجود الصليبي في مشرقنا الإسلامي من 1095م إلى 1270م ، واحتوى على ثماني حملات مدججة بالسلاح والمال ، وتعاونت فيها أوروبا كلها ، واستعملت أساليب الإبادة والتهجير والتنصير كلها ، لكنها باءت بالهزيمة النكراء ، ولم تؤسس دويلة ، ولم تترك أثراً عمرانياً ، أو معلماً ثقافياً ، بل غنم الصليبيون النهضة الإسلامية ، لبناء مدنهم ، وتكوين جامعاتهم ، حتى إن أول مستشفى أوروبي ، نشأ بعد أن شهد الصليبيون مستشفى دمشق ، ومصحة شنِرر.
وبالمقابل تأمل وجود المسلمين في الأندلس: ثمانية قرون كاملة، من الحضارة، عمادها اقتصاد راسخ ، وعدالة متسامحة ، ومعمار أصيل ، وأدب رفيع ، وطب مزدهر ، حتى إن نظام الري القرطبي، لا يزال معمولاً به في إسبانبا إلى اليوم.
فشتان بين حضارة الإسلام، القائمة على تسخير الوسائل، من أجل الغايات، وبين حضارة الغرب ، القائمة على تسخير الوسائل ، لمضاعفة الوسائل بلاغايات.
ونحن حينما ندعو إلى الرجوع إلى جوهر الاقتصاد الإسلامي، فإننا لا ندعي الإحاطة بهذا الاختصاص ، بل إن غايتنا تحريك سواكن فقهاء الاقتصاد الإسلامي حتى ييسروا هذا العلم ، ويستنبطوا أسبابه، ويثروا روافده ، وقد شرع المسلمون في هذا العمل الصالح ، فصدرت الدراسات الجامعية ، حول المصارف الربوية ، وفضحت دراسات أخرى مؤامرات تحديد النسل ، وكشفت دسائس إباحة الإجهاض ، وكل ما من شأنه تشويه دار الإسلام ، وتحجيم قوتها ، وخضد شوكتها.
وأول ما يجب الرجوع إليه ، هو أصل عبارة الاقتصاد ، التي جاءت من ( ق ص د ) أي المنهج السوي، ووجوب النيّة، بعكس عبارة Economy التي اشتقت من التوفير.(9/126)
فالجذور الإسلامية للكلمة ، انغرست إذن في تربة الدين ، والفضيلة ، والأخلاق ، باشتراط النية ، وفرضية استقامة النهج ، بينما جاءت الكلمة الغربية من مبدأ جمع المال ، وتوفيره ، وكنز الثروة .
وقد ذكر الله في كتابه المجيد مشتقات القصد ست مرات ، هي كالآتي: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) (لقمان : 19) .
والمعنى هو : اليسير المتعارف أي عدم الإسراف ، ولكن أيضاً إخضاع المشي إلى سلوك أخلاقي ، يوجب التواضع والتعفف .. (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) (لقمان : 32) .
المقتصد في أداء الشكر والحمد لله ، بعد أن نجاه ربه إلى البر ، أي القائم بواجب الشكر ، دون تجاوز ذلك السلوك ، إلى إيفاء حق الله كاملا من العرفان ويفيد معنى الكفاية والتقليل.. (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك )(التوبة : 42).
هنا يعني المولى عز وجل أولئك المنافقين الذين يتأخرون عن الجهاد ، أما لو دعاهم الرسول صلى الله عليه و سلم إلى عرض قريب ، أو سفر قاصد (بمعنى له قصد وغاية) لاتبعوه ، ويلاحظ هنا استعمال القاصد بمفهوم الغاية. (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله )( فاطر: 32).
تلاحظ هنا الدرجات الثلاث ، التي وضع فيها الله سبحانه ورثة الكتاب، ممن اصطفاهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، ويحدد الله منزلة المقتصد كدرجة بين ظلم النفس وهي رزيلة ، وبين السبق بالخيرات ، وهي فضيلة ، وتفيد الوسطية السلوكية ، حيث لا عقاب الأول ينالها ، ولا ثواب الثالث. (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )(المائدة : 66).
وهنا يتعرض الله سبحانه وتعالى لأهل الكتاب ، ويطنب الشيخ الشهيد سيد قطب في شرح معنى الأمة المقتصدة ، غير المسرفة على نفسها ، قائلاً رحمه الله : ( يبدو من خلال الآية ، أن الإيمان والتقوى ، وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية .. لا يكفل لأصحابه جزاء الأخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ، ويحقق جزاء العاجلة ، وفرة ونماء ، وحسن توزيع ، وكفاية ، يرسمها في صورة حسية ، تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ).
ثم نأتي للآية التي ذكرت القصد بذلك المعنى الجليل الذي عرضناه: (وعلى الله قصد السبيل ) ( النحل:9).
ويفيد القصد هنا : تبيان المنهاج ، ورسمه على النية ، وهي أمانة أوكلها سبحانه لذاته العليا: (وعلى الله قصد السبيل ) ، ونحن ندرك أبعاد تلك الأمانة ، فنجعل من قصد السبيل -ما نعبر عنه اليوم بالاقتصاد- وسيلة لبلوغ غاية سامية كريمة ، ألا وهي تحقيق إنسانية الإنسان ، ودعم أواصره بخالقه ، وإعادة ترميم الجسور التي انهدمت ، أو كادت ، بينه وبين السعادة ، وبينه وبين عالم الغيب ، إذ الشهادة مقرونة بالغيب.
هذا هو السر المكنون في الجهاد الاقتصادي الإسلامي ، وهو الذي ينبغي أن يعلو على الأرقام ، والجداول ، والحسابات ، والأرباح ، ومعدلات الإنتاج ، ومسالك التوزيع ، وإلا كان مآلنا مآل الأمم الخاسرة ، مهما كان دخلها ، وهل تجدون تفسيراً لشعب مثل شعب السويد ، حقق رقمين لهما عبرة :
- حقق رابع معدل في الإنتاج الوطني الخام في العالم.
- حقق أول نسبة في الانتحار لدى الشباب ، ما بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين سنة ، وذلك في عام 1992م.
يقوم جوهر الاقتصاد الإسلامي ، على ثوابت خالدة ، صلح بها حال المسلمين في فجر الإسلام وعزه ، ويصلح بها حالهم اليوم ، إذا أعملوا فيها حكمة الاجتهاد ، واخضعوا لها معاملاتهم ، وهذه الثوابت توجز في المباديء التالية:
الملكية : العقيدة المؤسسة للاقتصاد الإسلامي ، هي الإيمان بأن ملكية العالم لله وحده سبحانه ، وما الإنسان إلا مؤتمن عليه: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن )(المائدة:120).
وهنا يراجع الفصل الذي أفردناه ، للخلافة ، والأمانة ، في هذا الكتاب .. وملكية الله للعالم ، تجعل من رسالة الإنسان المستخلف المؤتمن ، رسالة صيانة وحفاظ وتوريث للثروات ، التي في السماوات والأرض، وقد توصل كل علماء الاقتصاد ، والبيئة ، والفيزياء ، والاجتماع ، حتى في الغرب نفسه ، إلى أن معضلات الإنسان المعاصر ، من التلوث ، إلى تخريب الطبيعة ، تعود إلى اعتقاد الإنسان ، بأنه سيد الكون، وما الأحزاب الخضراء الصاعدة في الغرب ، إلا دعوة لهذا النبع الصافي ، لوضع الإنسان في منزلته الحقيقية من الكون ، أي أنه جزء منه ، لا مالكه الأوحد ، وهو أساس الفكر الاقتصادي المسلم.
أما الملكية الصغيرة أي حق التصرف ، وحق التوريث ، فقد بينهما القرآن الكريم والسنة المطهرة بما لا يدع مجالاً للتأويل ، ويبقى الإسلام حضارة اقتصادية متكاملة ، امتازت بذلك عن الأديان السابقة ، وحتى النظريات اللاحقة.
الإنفاق: من أبدع ما عرف به الله سبحانه المؤمن ، صفة الإنفاق مما رزق ، (ومما رزقناهم ينفقون )(البقرة:3). وذلك في أول آيات أول سورة بعد الفاتحة ، حيث وضع الله عز شأنه ، شروط إيمان المؤمن: (آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )(البقرة:1-3).
وصفة المؤمن إذن ، هي عدم حبس المال ، وهي قاعدة قرآنية ، وقاعدة أساسية في علم الاقتصاد الحديث ، إذ أن دور السيولة في مجرى الحياة ، هو الضامن للانتعاش الاقتصادي ، وما نسميه اليوم : تنمية . وقد ربط الله بين الإيمان والإنفاق لجعل المسؤولية الاقتصادية للمسلم ، موازية لمسؤوليته الإيمانية: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) لأن الإنسان المسلم ليس متلقياً للعمل التنموي ، بل هو باعثه ، والمسؤول عنه، والمطالب به ، أي وسيلته وغايته في آن واحد.
وقدر الله درجة الإنفاق فوضعها بين التبذير والتقتير ، أي في الدرجة الوسطى بين رزيلتين ، وكل درجة وسطى هي فضيلة - عدم غل اليد إلى العنق ، وعدم بسطها كل البسط - وهذه الوسطية هي العقيدة الأساسية في النهج الاقتصادي الإسلامي ، لأنها تقف ضد الحرية المطلقة المتوحشة للرأسمالية ، وضد التقييد القاتل المشل للشيوعية.
أليس هذا هو ما وصل إليه علماء الاقتصاد ، في العصر الراهن ، بعد انهيار الماركسية ، وإعادة النظر في الليبرالية؟
المال : إن الإنفاق في القرآن الكريم مقترن بالمال ، أي بعصب الاقتصاد ، فأعلن سبحانه وتعالى أن المال مال الله : (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) (النور:33) .(9/127)
ثم جعل صفة حب المال، صفة شائنة، تقصر صاحبها على حياة البهائم ، وتحط من إنسانيته .. وجعل صفة جمع المال ، وتعداده صفة، ترخص من قدر المرء ، وتزيغه عن سواء السبيل ، حتى ولو ظن أن ماله أخلده ، كما جاء في آيات مبثوثة في الكتاب المجيد. ثم إن الله سبحانه ألغى الفوارق، بين غني ، وفقير ، حيث لا يشفع المال لصاحبه يوم القيامة، ولا يفيده في الدنيا، إلا متى زكى وتصدق ، وأنفق حلالاً ، كما توعد الله الذين يأكلون المال الحرام ، أو يأكلون أموال الناس بالباطل ، أو أموال اليتامى ، في عديد من السو النيرة ، مثل سورة البقرة ، والنساء ، والروم ، وتوج الفكر القرآني ، هذه النظرية الأخلاقية السامية ، لوظيفة المال ، بأن سخره للجهاد ، إلى جانب النفس: (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم )(الصف:11). (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم )(التوبة : 88).
ولم يكتف القرآن بسن هذه القيم العليا الخالدة ، بل فصل سبل صرف المال تفصيلاً عجيباً ، لم يفرط في جزئية ، فقدر توريث المال ، وقنن كفالة الأيتام ، وعين الصدقات ، وحدد الزكاة ، وبين الخراج والجزية ، وأنذر الذين ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله .. وكل ذلك ، وهب للإنسانية منهاجاً للكسب والإنفاق ، يقع داخل إطار أخلاقي فذ ، من التعامل الاقتصادي والاجتماعي ، ولم نجد له نظيراً في الأديان الأخرى على الإطلاق ، وتحت هذه الراية الفريدة ، سبق القرآن كافة المدارس الاقتصادية الحديثة ، برفضه انحصار الثروة في الطبقات ، أو قيام دولة المال على حساب مجموع الأمة: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُوَلة بين الأغنياء منكم )(الحشر:7).
الرزق: أعظم سمة للفكر الاقتصادي الإسلامي ، ربطه المحكم ، بين الكسب والرزق الحلال ، فقد زخر القرآن ، وحفلت السنة ، بهذه المعاني فالله هو الرزاق ، وعطاؤه يُنْعَتُ بالطيبات ، والإنفاق يجري من هذا الرزق ، أي أن معنى الإنفاق يكتسي قيمة الدين ، وإعادة الخير إلى صاحبه ، مما يكبح جماح الطغيان ، بفتنة المال ، فالمؤمن يكسب رزقاً وهبه إياه الله تعالى ، وإنفاقه في وجوه الخير ، هو إرجاع الحق إلى صاحب الحق ، ويتدخل عالم الغيب في عالم الشهادة ، في هذا الميدان ، حيث يعلن الله سبحانه أن: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب )(الطلاق:2-3).
ويقرن سبحانه لفظتي الحلال والطيب ، ليضع حدوده التي لا يتجاوزها المؤمن .. ثم أوضحت السنة النبوية شراكة الناس في مصادر الرزق الأساسية ، وعدم انفراد نفر أو جماعة بها : قال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم: (الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والكلأ ، والنار )، (رواه صاحب مصابيح السنة في الحسان ، وابن داود في التاج ، وابن ماجة في حديث أبي هريرة ، وإسناده صحيح عن سبل السلام).
الأجر: ترددت عبارة الأجر في القرآن الكريم ، بدرجتين ، درجة الثواب المتاح لفاعل الخير المؤمن ، ودرجة المقابل المادي لعمل دنيوي.
مثال الدرجة الأولى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير )( فاطر:7).
ومثال الدرجة الثانية: (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا )(القصص:25).
وبهاتين الدرجتين في القرآن ، يكتسب الأجر معنى روحياً صرفاً ، ومعنى مادياً محسوساً ، فيحافظ الأجر في الإسلام على الصفتين معاً ، ويشحن المصطلح العربي بطاقة دينية أخلاقية، لا تجدها في سواه من الأديان ، ولا في سوى العربية من اللغات . فالله سبحانه قدر الأجر للشهادة في سبيله ، وللصبر، والإحسان، والنجدة، والوفاء، والتقوى، والعفو، والإصلاح، والتصدق ، بدون من أو أذى، إلى غير هذه الصفات الحميدة .. ومن عبقرية المنهاج الاقتصادي الإسلامي ، أننا نجد تلك الصفات نفسها ، مطلوبة لدى الإنسان في تعامله التجاري والاجتماعي عموماً ، كأنما القرآن ، يرجو تنظير الإنسان في عبادته ، بالإنسان في تجارته ، باشتراط الصفات نفسها ، في هذا وذاك ، وهنا يحضر مثال (الميزان) في الذهن، وقد أطلق القرآن المجيد مصطلح الميزان على العدل الإلهي المطلق ، وعلى الجهاز الذي يستعمل للوزن، والمعنيان نفساهما أعطيا لكلمتي القسط والقسطاس.
التجارة : ينزل القرآن التجارة ، منزلة المعاملة مع الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم )(الصف : 10).
ثم يستعمل القرآن الكلمة نفسها بمعنى المعاملة مع الناس ، بل جمعها مع اللهو ، داعياً الترفع عنها: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة )(الجمعة : 11). وأخيراً يستعمل القرآن كلمة التجارة ، بمعنى ثالث محايد ، وهو المعنى الاقتصادي المتعارف إلى اليوم: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )(النساء: 29).
ثم مضى القرآن ومضت السنة في بيان هذه المعاني الثلاثة ، يتطهير التجارة من الربا ، والغش ، والاحتكار ، والرشوة ، والترف ، والطغيان ، والاستغلال ، وذلك بمجموعة من الآيات القرآنية ، والأحاديث القدسية والنبوية ، معلومة لدى كل من عكف على بحث المنهاج الاقتصادي الإسلامي: (يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )(البقرة : 278 - 279 ) .
هذه بعض القيم التي تجعلها حضارة الإسلام عدتها ، لخوض صراع الحضارات إذا لم يكن بد من هذا الصراع المعلن ، وهي قيم تقتضي ، أن يكون الراعي مسؤولاً عن تطبيقها ، بعد سنها ، لا أن نملأ بها خطبنا للتمويه ، ثم ينفذ عكسها .
وقد ضرب لنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أرقى أمثلة المسؤولية - والمسؤولية الاقتصادية بالذات - حين قال: (والله لئن بقيت لأوتين الراعي بجبل صنعاء ، حظه من مال بيت المسلمين ، وهو يرعى مكانه )(مسند الإمام أحمد).
وخلاصة قولنا : أن الاقتصاد الذي اعتبره الجاهلون حجة علينا ، إنما هو حجة لنا ، وإن البرامج الاقتصادية التي يدعي أعداؤنا افتقادنا لها ، إنما هي ميراثنا من الحضارة الإسلامية ، بفضله انتشرت رسالة الإسلام ، وستزداد انتشاراً . كل القضية أننا شربنا من غير حياضنا ، وأننا وردنا من غير نهرنا ، فحسبنا أن قدرنا - الاقتصادي - هو أن نبقى تابعين خانعين ، في حين أن في أيدينا مفاتيح نهضتنا ، وأسرار تقدمنا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد
==============
الاستخلاف والأمانة
إذا بحثنا عن الأصل القديم الأول للمشروع الحضاري في الإسلام ، فإننا نعجز تماماً ، عن قطع الصلة ، بين السياسة والفقه ، بل وحتى بين السياسة والوحي . فأول ما يصادف المرء هو القرآن الكريم ، وتأتي الآيتان (30) من سورة البقرة و(72) من سورة الأحزاب ، كإعلان مباشر واضح ، لما نسميه اليوم بالمسألة السياسية . وتضع الآيتان تبارك قائلهما ، القضية السياسية في منزلتها الإسلامية الأصلية ، أي تحدد ببيان القرآن ، وإعجازه ، التعريف الإسلامي:
(1) لماهية الإنسان فرداً ومجتمعاً.
(2) لرسالته التي اؤتمن عليها.(9/128)
ونورد فيما يلي الآيتين ، اللتين نعتبرهما الينبوعين الأولين ، لكل ماورد بعدهما وحولهما من آيات ، تشرح ، وتوضح المقصد الإلهي ، لرسم صورة المجتمع الإسلامي كما يريده الله سبحانه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة : 30). (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )(الأحزاب:72).
أي تعريف أبلغ ، وأي كلام أعمق يمكن أن يضع الإنسان في منزلته التي أنزله الله إياها بهاتين الآيتين ؟! فسورة البقرة ، حددت في مطلع القرآن الكريم ، معنى الاستخلاف في الأرض ، ومنها نشأ مفهوم الخلافة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . وعندما رد الملائكة بالتعبير عن الاستغراب في شكل سؤال واستفهام : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) ، جاء جواب المولى عز وجل مزيلاً لكل استغراب ، معلناً إرادته العليا ، فارضاً حكمته السامية ، بقوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون ) .
وبهذا الجزم الإلهي دخلت قضية الاستخلاف حوزة الغيب ، أي تجاوزت منطقة الجدل الملائكي ، لتصبح أول ملف رباني يودعه الله في تلك الحوزة الغيبية التي يعلمها الله وحده ، ولا يعلمها خلقه ، ملائكة كانوا أم بشراً .
ونستخلص نحن ، أن استخلاف الإنسان في الأرض ، هو من إرادة الله وحده ، وأن خلافة الإنسان من الله ، قدره لا يحيد عنه .
فالمعنى الجليل لعبارة (الخليفة) ، تحدد وانضبط في تلك الآية الكريمة ، بشكل لا يقبل التحريف والزيغ ، وهو المعنى ، الذي لابد أن نرجع إليه - أي نتخذه مرجعاً - كلما أردنا الخوض في مسألة السياسة الإسلامية ، ونحن إذا ما تخلينا عن هذا الأصل في القرآن -أي معنى الخلافة- فلن نكون مسلمين ، بل ندخل بوعي منا ، أو بلا وعي ، فضاءات فكرية وسياسية ، وتاريخية لأمم أخرى غير مسلمة ، وفي مناطق نفوذ ثقافية غربية أساساً ، سيطرت لمدة قرنين تقريباً ، على عقولنا ، وأخضعت شعوبنا وصفوتها ، لعمل دؤوب وطويل وصبور ، جردها من أصولها المرجعية ، وأوهمها بأن صلاتها بجذورها انقطعت ، وأن عليها أن تبني على أسس غير أسسها ، وأن تنطلق من منطلقات غير منطلقاتها ، وذلك ما تم لهذه القوى الصليبية والصهيونية الغازية - أو كاد يتم - لولا يقظة الأمة من تلك الغفوة المشلة ، التي دامت قرنين ، وخاصة منذ أن وطأ الجيش الصليبي الفرنسي شواطيء مصر بقيادة (نابليون بونابرت) يوم الثاني من يوليو 1798م في الحملة الصليبية التاسعة ، إلى غاية السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
إن مسألة الخلافة حسمت في هذه الآية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) فهو إذن قرار إلهي حاسم لا يسع الإنسان - في الأرض - إلا أن يتدبره ويطوع الواقع على مقاسه ، لا أن يطوع تلك الخلافة على مقاس الواقع ، مثلما رأينا خلال قرون في الدول المسلمة .
وهكذا - وبتلك الطاعة الواجبة لله تعالى - تتحول الدول المسلمة إلى دول إسلامية ، أى تجتاز الحد الفاصل ، بين دول تجمع في كنفها مسلمين ، مثلما هي الحال اليوم ، إلى دول تؤسس على إرادة الله ، وتعاليم دينه القويم ، كما يود المسلمون أن تكون .
ومن الخلافة نبدأ ، لأن الله عز وجل بدأ بإقرارها في الآية المذكورة في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة .
فاستخلاف الإنسان ، يعني تحميله جملة من الفضائل ، كالمسؤولية والحرية والإخلاص لله ، والتلاؤم مع نواميسه ، وسننه ، حتى تنشأ فكرة الخلافة ، لتغذية تلك الفضائل ، وإعلاء شأنها ، وإعلان الولاء لله وحده ، دون الأرباب المزيفين .
وإذا ما استعرضنا كل المفردات القرآنية المنبثقة عن الخلافة ، تأكدنا من خلال المعنى المعطى للعبارة ، أبعادها الأخلاقية والروحية والسياسية . جاء في تفسير مفردات القرآن الكريم لسميح عاطف الدين ما يلي :
(خلف فلان فلاناً قام بالأمر عنه ، والخلافة النيابة عن الغير ، وجاءت في القرآن لتشريف المستخلف .. استخلف الله أولياءه في الأرض):
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض )(فاطر:39)
(ويستخلف ربي قوماً غيركم )( هود:57).
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض )(الأنعام:165).
والخلائف جمع خليفة ، أما خلفاء فجمع خليف:
(وجعلناهم خلائف )(يونس:73).
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح )( الأعراف:69).
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض )(الأعراف:74).
( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض (النمل:62).
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض )(النور:55).
(إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء )(الأنعام:133).
(ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم )(النور:55).
(قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض )(الأعراف:129).
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26).
ومن اليسير على المؤمن قاريء هذه الآيات النوارنية ، أن يستخلص الحكمة الإلهية المستوفاة من معنى الخلافة والاستخلاف . ففي كل الآيات ترد العبارة المشتقة من الأصل (خ ل ف) مقترنة بالتمكين في الأرض ، أي بما نسميه اليوم ممارسة الحكم ، أو القيام بشؤون السلطة .
فبينما انقلب في عصرنا الراهن مفهوم الحكم ، إلى التسلط والاستبداد ، ظل ذلك الجوهر القرآني على معناه الأصلي ، أي ربط الخلافة بالحكمة ، وإقامة العدل ، بل وجعل سبحانه ، الاستخلاف وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فهو إذن جزاء أوفى للمؤمنين ، الذين يعملون الصالحات ، كما أن الله سبحانه جعل نزع الاستخلاف من قوم ، شكلاً من أشكال الإنذار والعقاب .
فيتبين لنا ما وهبه القرآن للخلافة من ارتفاع بالإنسان ، والمجتمع ، إلى منزلة الحق والعدل ، والشعور بالمسؤولية ، وأداء الأمانة ، وقد اشترط سبحانه على نبيه داود قائلاً له : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26) ، فاقترن الاستخلاف ، لا بالحكم المطلق ، بل بالحكم الحق ، وبذلك تنتفي الخلافة تلقائياً إذا ما انتفي الحكم بالحق ، فهما صنوان متلازمان. كما وطد سبحانه الصلة بين الخلافة ، وبين إجابة المضطر ، وكشف السوء ( آية 62 من سورة النمل ).
وهكذا تتجلى الخلافة ، كما أرادها الله في كتابه العزيز ، أنموذجاً فريداً من الحكم السياسي ، لم يأت في غير القرآن ، ولم يشهد له الناس في التاريخ مثيلاً لدى الأمم الأخرى . فالحضارات الكبرى المتتالية ، كالفرعونية ، والإغريقية ، والفينيقية ، والكنعانية ، والرومانية ، كانت تقتسم العالم وتتصارع من أجل التوسع والبقاء ، لكنها لم تهتد إلى ما حدده القرآن الكريم ، وانفرد به دون الأديان ، وإلى ما شرعت في تجسيمه الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام ، دون الحضارات الأخرى.
فهل يمكن أن نبوأ في الأرض - أي أن نستعيد دورنا الريادي في قيادة الحضارة من جديد - بدون الرجوع الجريء إلى الجوهر السياسي في الإسلام ألا وهو استخلاف الله لنا في الأرض بإرادته عز وجل ؟
وهل يمكن أن نتدبر شؤون الحكم في بلداننا وشعوبنا ، بدون أن نعيد الروح لمفهوم الاستخلاف ، فنقيم مؤسسات الدول الإسلامية ، على هذا الأصل الكريم الفريد ، وحسب الشروط والفضائل ، والقيم ، والمثل ، التي أودعها لله في الخلافة ، وخص بها أمته الإسلامية ، دون سواها؟(9/129)
ونأتي بعد ذلك إلى الآية 72 من سورة الأحزاب التي رسمت الخطوط الكبرى للميثاق المعقود بين الخالق والمخلوق ، كأنما أراد الله سبحانه توضيح معنى الاستخلاف بإضافة مفهوم الأمانة عليه .. والأمانة هي كما نعلم ، أساس كل ميثاق - أو عقد ، حسب تعبير فلاسفة السياسة في فرنسا القرن الثامن عشر. (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ).
توجد تلك الأمانة لدى مالكها الأول ، الذي هو الله سبحانه وتعالى ، وأراد أن يعرضها لا أن يفرضها ، فلو اراد فرضها دون انتظار استجابة لفرضها ، لكن الله عرضها ، أي تقدم بها برحمته الإلهية ، وانتظر موقفاً من السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان -وهو مخير في ذلك القرار الحاسم- لكن المولى عز وجل ، عقب على القبول الإنساني ، للأمانة بأن الإنسان كان ظلوماً جهولاً.
إن الصفتين اللتين نعت بهما الله سبحانه الإنسان (الظلم والجهل) هما أصل كل نقص بشري ، وسبب مباشر لأغلب مصائبه في الأرض ، ويقتضي حمل الأمانة المعروضة عليه ، أن يسعى لإصلاح هاتين النقيصتين ، بالعمل السياسي ضمن مجتمع مسلم . فلاحظوا معي ، أن اختيار الله سبحانه للظلم والجهل ، هو الإقرار بالنقائص السياسية، أو الاجتماعية أساساً ، دون النقائص الفردية الذاتية الخاصة بكل إنسان ، مثل الكفر ، والنفاق ، والأنانية ، واللؤم.
أراد الله أن يعدد نقيصتين ، لا يتسم بهما فرد واحد ، وإنما مجتمع بأسره ، فالظلم نقيض العدل ، وهما مفهومان سياسيان ، أي لن يستقيم معنى الظلم ، وكذلك معنى العدل ، إلا ضمن مجتمع سياسي ، والمعنى نفسه لعبارة الجهل نقيض العلم ، فهما أيضاً مفهومان سياسيان ، حيث لا يظلم ، ولا يجهل إنسان ، وهو بمفرده معزول عن الآخرين من أبناء جلدته ، وإنما يصبح معنى الظلم -نقيضه العدل- ومعنى الجهل -أو نقيضه العلم- في مجتمع متكون من خلاياه العائلية ، والقبلية ، والمهنية.
وتأتي آيات عدة لتعطينا مفاتيح ما انغلق من أسرار الأمانة ، كما عرّفها الله تبارك وتعالى:
(فإن أمِنَ بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته )(البقرة:283).
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(النساء:58).
(لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم )(الأنفال:27).
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )(المؤمنون:8).
وكذلك يتضح البعد الأخلاقي والإيماني ، لعبارة الأمانة ، فيربط سبحانه بينهما وبين رعاية العهد ، ويعلمنا بأنها موصولة بعلاقة الإنسان بالله والرسول : وأن عدم خيانة الأمانة ، بمثابة عدم خيانة الله والرسول ، وتكمل سورة النساء هذه الأبعاد الفاضلة بأمر الله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ).
وينطبق هذا المفهوم القرآني على الأمانة التي ذكرها سبحانه في الآية 72 من سورة الأحزاب ، والتي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، ويضيف سبحانه مبيناً ، أنه كان ظلوماً جهولاً ، في قبوله للأمانة ، والعزم على حملها.
ألسنا من خلال الآيتين (آية الخلافة وآية الأمانة) نعبر عن صميم قضية الحكم في الإسلام ، فتبدو المسألة السياسية واضحة يسيرة طيعة ، صفت وتجلت أمام أعيننا في جوهرها الأول المكنون ، أي في القرآن الكريم ، كتاب الله المرسل للمسلمين ، وجاءت السنة النبوية ، وتبعها السلوك الأمثل للخلفاء الراشدين ، ثم التحق الفقهاء والعلماء ورثة الأنبياء ، لتأكيد هذا التعريف القرآني المؤسس للفكر السياسي الإسلامي ، والقائم كما بينا على الثنائية الروحية والأخلاقية والتعاقدية : الاستخلاف ، والأمانة؟!
ونخلص إلى القول : بأن مشروعنا الحضاري الإسلامي ، هو الفريد المتميز ، بانطلاقه من هاتين القيمتين الخالدتين ، الاستخلاف والأمانة ، وهو الوحيد الذي شكل منظومته السياسية ، وأرسى قواعده الاجتماعية والثقافية ، على هاتين المثلين الأعليين . ثم إنه كما أسلفنا ، مشروع تحقق ، أي أننا لا يمكن أن نشك في إمكانية تنزيله على واقعنا الراهن ، كما نزله الرسول الأمين صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه من بعده على واقعهم ، وكما تحقق منه الجزء الأوفر ، أثناء الدول الإسلامية عبر التاريخ ، بفضل اجتماع الكلمة ، والتمكن من أسباب القوة والمنعة .. وتعرض المسلمون كذلك لعهود من الضعف والانحلال والتشرذم ، وكان سببها الرئيس التفريط في القيمتين المذكورتين - الاستخلاف والأمانة - بل بتعبير أدق : كان سبب تلك العهود المظلمة ، تحول الاستخلاف والأمانة من منزلة الحكم ، إلى منزلة المعارضة ، وانتقالها كما سنرى من خانة السلطة إلى خانة الفكر المقموع.
لكن الاستخلاف والأمانة كقيمتين متلازمتين ، ظلتا موجودتين في التراث السياسي والثقافي الإسلامي : أحياناً في موقع المسؤولية وقيادة الدولة ، وبالتحام الراعي مع الرعية ، وأحياناً في موقع الريادة الفكرية ، حين تضل السبل ، بأولي الأمر ، وتشتبه المسالك
=============
قل اللهم مالك الملك
إذا كان قيام الإسلام على التوحيد ، أي الإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى ، فإنه قضى بوحدانية مصدر التشريع . والوحدانية المصدرية نابعة من الوحدانية الإلهية ، فلا شرك بالله ، كشرط أول لإسلام المسلم ، ولا تعدد لمصادر القانون ، كشرط أول لبناء المجتمع الإسلامي . وبذلك يكون التوحيد الأكبر ، أي التسليم بأن الله أحد ، هو شرط إسلام الفرد في سريرته ، ويكون التوحيد الثاني ، أي الاعتقاد بأن الحكم لله وحده ، هو شرط إسلام الفرد في عشيرته وفي مجتمعه.
وتتعدد في القرآن الكريم آيات تحريم اتخاذ الأرباب من دون الله ، وتجريم عبادة الطاغوت: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )(آل عمران:64). (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نُزُلا ً) (الكهف:102). (فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون )(المائدة : 44). (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء )(الأنعام:164).
ذلك هو معنى الانفراد بالألوهية ، الذي سنه القرآن لإعلان مساواة المؤمنين ، فلا يحق لبعضهم اتخاذ بعض أرباباً أو أولياء ، ولا يحق لبعضهم خشية بعض.
ثم جاءت آيات انفراد المولى عز وجل بالتشريع ، واختصاصه وحده بسن القانون الأعلى للحكم: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين )(الأنعام : 106).
( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء )( الأعراف : 3).
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون )(المائدة : 44).
وفي آية أخرى (هم الظالمون ) ، وفي آية ثالثة (هم الفاسقون ) ، وزاد القرآن بياناً، فوضع منهجين واضحين للحكم هما:
(1) حتمية حكم الله .
( 2 ) عقلانية شريعة الله .
1 - سن الله سبحانه وتعالى حتمية القبول بحكم الله ، لكي يكون الإيمان إيماناً كاملاً ، في قوله تعالى :
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) ( النساء : 65 ) .
ويرتبط الإيمان الحقيقي هنا ، بتحكيم الشريعة فيما شجر بين الناس ، بنفس مطهرة من الحرج .
2 - أما توافق الشريعة مع العقل ، فتنص عليه الآية الكريمة :
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ( الجاثية:18).(9/130)
فجاءت الشريعة هنا مناقضة للأهواء، أي منطلقة من خالق الإنسان، العالم به ، المسير للكون، بعيداً عن تقلبات الإنسان ، وتحولات المجتمعات ، كأنما هي الدر المكنون الذي لا تعتريه الشوائب.
وإذا نظرنا اليوم ونحن في قلب القرن الخامس عشر هجري ، إلى أغلب الانحرافات التي حادت بالمجتمعات الإسلامية عن الطريق المستقيم ، وأخلت بتوازنها ، وزعزعت مواطن قوتها لوجدنا أن أسبابها الجوهرية تعود إلى عدم اتباع المسلمين للشريعة من الأمر ، واتباعهم لأهواء الذي لا يعلمون ، حتى ولو ادعوا عكس ذلك نطقاً ، أو ألبسوا سلوكهم الباطل بكلمات حق: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )(الصف:2-3) . وكان ذلك الانقطاع عن الشريعة ، هو السبب المباشر للكوارث التي أصابت الأمة الإسلامية ، منذ الفتنة الكبرى ، إلى فقدان الأندلس ، ومنذ انهيار بغداد تحت أقدام هولاكو ، إلى سقوط الخلافة العثمانية .
وبعكس ذلك لم تكتب للأمة صفحاتها البيضاء الناصعة ، وهي بحمد الله أكثر من صفحات الانكسار والانحدار ، إلا حينما تولى أمر الأمة رجال عضوا على شريعة الله بالنواجذ ، وبدأوا بتطبيقها على أنفسهم وقبائلهم ، فكان لهم النصر ، ومكنهم الله من العنفوان والقوة منذ فجر الإسلام ، وعهد الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وعهد خلفائه الراشدين ، والخلافات المتتابعة ، التي قامت بواجب الجهاد ، وحققت الفتوحات ، إلى غاية الخلافة العثمانية ، حيث امتدت دار الإسلام إلى جزء عظيم من الأرض ، يتحكم في أخطر المضايق ، ويسود أهم البحار، ويملك أبرز الثروات والطاقات.. ( وفي تلك العهود التي كانت الدولة العثمانية تمد ظلالها على امبراطوريتها الشاسعة ، في شرق وشمال أوروبا ، وفي غرب وجنوب آسيا ، كان العربي يسير من عدن على المحيط الهندي ، صاعداً إلى الشام ، ولبنان ، والأناضول ، وآسيا الصغرى ، ومن ثم يسير إلى بلغاريا ، ورومانيا ، ويوغسلافيا ، والمجر ، حتى يصل بعد ذلك إلى أسوار مدينة ( فينا ) عاصمة النمسا ، وفي كل هذه الرحلة لا يحتاج العثماني والعربي حمل جواز سفر ، ولا هوية ، لأنه كان يمشي في بلاده ، وتحت علمها ، إلى أن يصل إلى حوض نهر الداوب في فينا.. ).
فالله سبحانه هو مالك الملك ، وهو صاحب الخلق والأمر ، مما جعل الحضارة الإسلامية في أعز تجلياتها ، حضارة تؤمن بالغيب ، حسب الشرط الذي اشترطه القرآن في المؤمنين ، عند الآيات الأولى من سورة البقرة ، أولى سور الكتاب بعد الفاتحة: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب .. ) فلا إسلام إلا بالإيمان بالغيب . يقول مالك بن نبي رحمه الله: ( إن الحضارة لا تنبعث كما هو ثابت تاريخياً إلا بالعقيدة الدينية ، فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء ، يكون للناس شرعة ومنهاجاً. فكأنما قدّر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقبته ، فحينما يكتشف حقيقة حياته كاملة ، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء ، التي تشكل له مركز الرؤية ، وتتفاعل معها عبقريته ، وهذا لا يتحقق دون معرفة الوحي..).
ولسائل أن يسأل ، وهو محق في سؤاله:
- مادام المسلمون ، انطلقوا في بناء حضارتهم من إيمان بالغيب والوحي ، وما داموا ، أقروا بأن الحاكمية لله ، فما الذي حاد في بعض مراحل تاريخهم ، بتلك الحضارة إلى الانحدار ؟ وما الذي حول مسارهم أحياناً إلى فتن ، وجعلهم في القرن التاسع عشر مسيحي ، مؤهلين لقبول الاحتلال الصليبي ، حسب عبارة مالك بن نبي ؟ ما الذي تسبب في تغير بعض أساليب الحكم لدى المسلمين ، إلى استبداد فج ، لا يختلف عن أي استبداد ، مسيحياً كان ، أو يهودياً ، أو بوذياً ، أم شيوعياً ، أم فاشياً؟
الجواب صعب ومتشعب ، إذا ما تعمقنا في الجزئيات التاريخية كلها ، وملابساتها دينياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، ولكن الجواب واضح ، إذا ما أدركنا ، أن الأسباب نفسها ، تؤدي إلى النتائج نفسها ، من قيام الفتنة الكبرى ، إلى سقوط بغداد ، ومن ضياع الأندلس ، إلى انهيار الخلافة العثمانية ، ومن مقتل حجر بن عدي ، إلى مقتل سيد قطب .
إن السبب يكاد يكون واحداً : القطيعة بين النموذج ، وتطبيقه .. نعم . ظل النموذج المحمدي ، وفروعه لدى خلفائه الراشدين ، نموذجاً حياً في الأذهان ، ولكن تعطل التطبيق . الهوة اتسعت بين المثل الأعلى ، والواقع المعاش .. بين المثال الحي في الضمائر ، وبين جهد العقل البشري ، لتنفيذه في الميدان.
بل الأخطر أن الخطاب الإسلامي كرس تلك القطيعة ، حينما أراد عكس ذلك ، أي تطبيق الشريعة بالاجتهاد ، وإعمال العقل .. فهذا الفكر ، تصدى للتغريب والتنصير ، والاحتلال بسلاح المثال ، وهو سلاح قوي وناجع ، لكنه لم يتصد لإنتاج فقه متجدد ، يضع ذلك المثال موضع التنفيذ ، في حياتنا السياسية ، والتربوية ، والاقتصادية ، والثقافية ، وعلاقاتنا مع غيرنا من الأمم ، مما أتاح لأعدائنا فرصة مقاومتنا ، على أساس أن المثال الذي ندافع عنه ، مستحيل التنفيذ ، أو هو سلفي ، أو نظري ، أو طوباوي ، أو غير ذلك ، مما نقرأه صباح مساء ، في كتابات المنبتين ، وأيتام الحضارة ، والجاهلين الجدد.
إن المقاومة الإسلامية ، ترفع سلاح النموذج ، لطرد المحتل الصهيوني من فلسطين ، وطرد المحتل الصربي من البوسنة والهرسك .. والمقاومة الإسلامية ، تقاوم الفكر الصليبي التنصيري ، والصهيوني العنصري ، داخل المجتمعات المسلمة نفسها ، لدرء الخطر الثقافي والإعلامي والسياسي ، برفع النموذج ، لكن المقاومة لن تكون استثماراً حضارياً مستقبلياً ، دائماً وصامداً ، إلا متى أقمنا بوسائلنا تلك ، الدولة الإسلامية العصرية الحية القوية ، وانصهرنا فيها شعوباً وقبائل ، حتى نثبت لأنفسها ، ثم للعالم من حولنا ، أن النموذج ليس حلماً ، وأن جهادنا لا يقتصر على رفعه شعاراً ، بل الجهاد الحق ، ونحن نتوغل في القرن الخامس عشر ، يتمثل في تحقيقه وتجسيمه ، واستشراف المستقبل ، بتضامن إسلامي ، أصلب عوداً ، ووحدة إسلامية ، أعمق جذوراً ، ووعي إسلامي أكثر اتصالاً بقضايا عصرنا المتشعبة الدقيقة .. أي في النهاية ، قدرة المسلم على تنزيل الإسلام في حياتنا ، وتطويع مصيرنا لتقبل رسالته العظيمة.
تلك هي معركة المستقبل ، لفرض الآية الكريمة القائلة ، بأن الله هو مالك الملك ، وأنه له الخلق والأمر سبحانه.
ولكن على أصحاب الفكر الإسلامي ، أن لا يتخلوا عن عقلية المنتصر ، في أي جدل يفرضه عليهم خصومهم ، حين يدعون أننا نسعى نحو مدينة فاضلة ، لم توجد إلا في فجر الإسلام ، وإننا نحلم بنموذج لا يتحقق .. وردنا على هذا الجدل هو أنهم أنفسهم ، يسعون إلى حلم مستحيل . أليسوا يعتبرون الغرب المسيحي الراهن سدرة منتهاهم ، وغاية منالهم ؟! إنهم في كتاباتهم الجاهلية ، المسماة خطأ ، بالعلمانية ، يرسمون لك صورة المدنية الصناعية المادية الغربية ، كأنها الأمل المنشود والمثل الأعلى ، والخير المطلق ، ثم يلهثون وراء سراب ، يسمونه اللحاق بركب الحضارة.
إنهم يحلمون ، ونحن نحلم.
ولكن شتان ما بين الحلمين ، وشتان ما بين النموذجين..
حلمنا يغرس جذوره في ينبوع حضارتنا الإسلامية ، فيستعيد أمجادها ، ويحي قيم الجهاد ، والعدل ، والمساواة ، والمروءة ، والإحسان ، والتواضع ، الزهد ، والإيثار ، التي أتاحت للإسلام فتوحاته ، ومكنته في الأرض..(9/131)
وحلمهم لقيط ، يجري وراء وهم مستحيل ، إذ يريدون نسخ مجتمعات الغرب نسخاً ميكانيكياً ، وإلباس شعوبنا أثواباً ، لم تفصل على مقياسها ، بل وتجريعها بالعنف دواءً ، لم يصفه حكيم لأمراضها .
ثم متى كانت الحضارات المختلفة تتناسخ ؟ إنهم يحملون أمتنا مصائب تركيبات ثقافية ، وتطورات دينية، وتحولات اجتماعية ، وتقلبات سياسية ، لم تتفاعل معها ، ولم تعرفها قط . وإذا كان الغرب المسيحي اليوم ، يمتلك أدوات نهضته ، ويعاني بالمقابل من تأثير تلك النهضة ، فله مداره الخاص به ، وله وسائله المتميزة ، لعلاج الخلل الطاريء على تقدمه أو سعادته ، أو استقراره ، هو حر في استنباط تلك الوسائل .
لكننا لا يمكن البتة ، أن نؤسس بيوتنا على أسسه هو ، ولا أن ننبت أشجارنا على تربته هو ، وذلك يعني أننا ، لا يمكن أن نبرأ من عللنا بوصفات دوائية ، وضعها التاريخ لعلته هو ، بعد أن أعد له ملفاً يضم فصيلة دمه ، وأمراضه الوراثية ، وكذلك معدل ضغطه ، ونسبة السكر في الدم.
ذلك حالنا ، إزاء الميالين مع رياح النموذج الغربي ، والحالمين بالمستحيل ، ونحن نعلم ، أن لنا عللا ، وأن لنا خللاً ، ولكن العلاج لن يكون بوصفة مستوردة من وراء البحار ، قد تصلح لمجتمع بعينه ، روعيت فيها معطيات خاصة به ، وقدرت له طبيعة الداء والدواء.
ذلك هو ربما جوهر المد الإسلامي الهاديء الرصين الواثق : إيقاف علاجنا كمسلمين بالوصفة الأوروبية ، والأمريكية ، والروسية ، الجاهزة ، والشروع في تشخيص علاتنا - السياسية والثقافية والاقتصادية - في انتظار شفائنا بما يراه حكماؤنا الأصليون ، وأطباؤنا الصادقون من العلاج الملائم ، الموائم . وتلك رحمة من الله ونعمة ، بل هي طريق نجاتنا المفردة الوحيدة.
أما أهل الجاهلية ، المتجهون كطبق (الدش) ، أو كَعبَّاد الشمس نحو الغرب ، فالحجة لديهم ، أننا يجب أن ندخل إلى عصرنا ، ونصبح عصريين . وفي الحقيقة تم مسخ مصطلح العصرية من أصله اللغوي الحضاري ، كنتيجة راهنة لمسار متشعب وبطيء ، إلى مفهوم تغطية النموذج الغربي (العلماني) ، وإسباغ العصرية العالمية عليه ، كنوع من إكسابه الشرعية ، وإفراده بالريادة.
(ولما كان الأكثر تقدماً هو دول أوروبا والغرب بصفة عامة ، سواء رأسمالية أو اشتراكية ، فقد سادت خصائصهم الحضارية ، بحسبانها خصائص العصر ، فكراً وعلوماً وأنماط حياة ، وسلوكاً ، ومذاهب ، وصار حاضر الغرب هو مستقبلنا ، وصارت حياته ، ومجتمعاته ، هي مدينتنا الفاضلة المرجوة .. وأكثر من ذلك ، صار ماضيه ، بما أفضى إليه في حاضرهم ، هو معيار تاريخ العالم ، وبهذا قام مفهوم المعاصرة ، بحسبانه مفهوماً مطلقاً ، يقوم به إطار مرجعي ، ومفهوم شرعي ، يضم المجتمعات والدول التابعة كلها ، إلى الدول والمجتمعات المتقدمة).
ومن هذا المسخ الحضاري لدار الإسلام ، بدأت تدب في أوصالنا أسباب الوهن ، ومن هذا الكهف ، خرج علينا تنين التبعية والإلحاق ، وكان وصول النخب الوطنية ، خريجة جامعات أوروبا ، إلى سدة الحكم ، عند الاستقلال العسكري والإداري ، استقراراً للنموذج الغربي المسيحي ، في بلادنا ، وتخلينا عن حاكمية الله ، معتقدين خطأ أننا اخترنا حاكمية الشعب المسماة باللغة اليونانية (ديمقراطية) ، ولكننا في واقع الأمر ، نفذنا حاكمية النظام الاستعماري الصليبي ، وأردنا لأنفسنا حاكمية قوانين السلب والنهب ، التي وضعت فيها مؤلفات لا تحصى ، من أهل أوروبا أنفسهم.
وبدلاً من أن نقول كما أمرنا الله (قل اللهم مالك الملك ) قلنا : إن الغرب المصنع والمسلح ، هو السيد ، وهو القدوة ، وقوانينه الوضعية هي قوانيننا ، وثقافته هي مطمحنا ، وطريقته في الحياة هي غايتنا ، وانطبقت علينا قولة عبد الرحمن بن خلدون : من أن المغلوب يسعى لتقليد الغالب ، في لسانه ، وملبسه ، ومأكله ، وعيشه ، وسائر شؤونه.
=============
من الخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية
تلك هي روح الإسلام الجديدة في عنفوانها ، وحدة في المشاعر ، وتفاعل مشترك إزاء المتغيرات .. لكنه تفاعل ظل إلى اليوم عاطفياً ، لعله في زحمة العصر وكثافة المعضلات ، لم يجد مجراه ، لكن غياب المجرى مؤقتاً ، لا يمنع من وجود النهر الواثق العظيم .. فكيف يجد النهر مجراه ؟ بل كيف يعود إلى مجراه؟ هذا هو السؤال.
لم يعد خافياً على أحد اليوم ، أن الحلم المشترك ، لمليار ومائتي مليون مسلم ، هو تلك الثنائية الرائعة:
(1) فجر الإسلام في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم وعهد الخلفاء الراشدين الأبرار من بعده ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي.
(2) قوة الخلافة العثمانية ، واتساع دار الإسلام في أزهى عهودها ، وسيطرتها على ثلث مساحات الأرض تقريباً.
هذان الوجهان للحلم الإسلامي ، يمثلان الخلفية الفكرية ، الأكثر عمقاً ، والأوفر تواجداً ، في الضمير المسلم ، مهما كان موقع الصحوة جغرافياً ، وكيفما كانت درجة وعيها حضارياً ، وطبيعة علاقتها بالسلطة القائمة سياسياً .
هذان الأساسان التاريخيان ، هما اللذان يتم عليهما عادة إنشاء الصرح السياسي ، الملقب بالمشروع الإسلامي الحضاري ، مثلما يؤسس المشروع الديمقراطي على تاريخ الثورة الفرنسية (1789م) ، ومثلما يؤسس المشروع الاشتراكي على الثورة الروسية (1917م).
هذان هما المرجعان ، أخلاقياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، وفقهياً.
- فجر الإسلام ، والخلافة العثمانية.
طبعاً عندما تقرأ آلاف الكتب والمقالات ، الصادرة عن الإسلام الراهن ، وعندما تحضر مئات الندوات والمؤتمرات ، المنعقدة عن أمة الإسلام ، سوف تعجب من وفرة المصادر التاريخية ، والمرجعيات الفكرية ، ولابد أن تعثر على تاريخ الدولة الأموية ، والدولة العباسية ، وفتوح هاتين الدولتين ، وأسباب تقدم الحضارة الإسلامية ، في عهديهما ، شرقاً وغرباً ، وشمالاً وجنوباً ، ثم لابد أن تلمس العناية بدول : السلاجقة ، والفاطميين ، والموحدين ، والمرابطين ، وأن تجد اهتماماً فائقاً بمنارات أصبحت رموزاً للإسلام ، أمثال عمرو بن العاص ، وموسى بن نصير ، وعقبة بن نافع ، وصلاح الدين الأيوبي ، وعبد المؤمن بن علي ، وغير هؤلاء الأبطال كثيرون.
لكن الحلم الكامن في الضمير الجماعي ، لدى صفوة المسلمين ، وفي الشارع الإسلامي ، هو بلا منازع المتعلق بالمرجعين : فجر الإسلام في نقائه ، وجلاله وصفاته وسنة رسوله ، وأخلاق خلفائه الأربعة من جهة ، ثم الخلافة العثمانية بقوتها العظمى ، وسيطرتها على البحر والبر ، وسيادتها على المضايق ، وعدم تفريطها في أراضي المسلمين وأعراضهم من جهة ثانية ، كآخر خلافة جامعة للمسلمين حتى العشرينيات من هذا القرن.
ومن الطبيعي أن يكون هذان المرجعان ، هما الحلم الحي ، المنعش لصحوة الإسلام الراهنة ، والمحرك القادر للحركات الفكرية الإسلامية ، في زمن صعب ومتشعب ، يعتبر النقيض تماماً وعلى كل المستويات لهذين المرجعين الكبيرين .(9/132)
يعيش الشباب المسلم ، أينما كان نقيض هذين المرجعين ، فبينما هو يتأمل عدل الرسول صلى الله عليه و سلم وعدل خلفائه البررة رضي الله عنهم ، يعيش واقعاً يتميز بالمظالم على أصعدة كثيرة : سياسية ، وقضائية ، واقتصادية .. وبينما يقرأ عن جهاد فجر الإسلام ، يعيش سلسلة متصلة من الاستسلامات .. وبينما يتذكر الانتصارات والفتوح ، التي انطلقت من جزيرة العرب ، حتى غطت نصف المعمورة ، يعاني من الهزائم المتوالية ، والغزوات الصليبية والصهيونية المتعاقبة ، على أرضه وثقافته وثرواته . وتتحول لديه ، وفي ضميره ، صورة الخلافة العثمانية -آخر الخلافات- إلى غاية منشودة ، بما كانت ترمز إليه ، رغم نواقصها وعثراتها ، من اجتماع المسلمين في كنف واحد ، وتضامنهم شعوباً وقبائل ، مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم.
فالماضي لدى شباب الإسلام ، يكاد يكون مختزلاً في هذين الأصلين ، ويصبح الماضي في الوعي الإسلامي المشترك مستقبلاً ، تتطلع إلى تحقيقه تلك الحركات الفكرية والسياسية ، التي تعتمد الإسلام منطلقاً ، وقاعدة وأداة كفاح .
والخطر المحدق ، هو أن يظل الحلم حلماً ، ولا يتحول إلى واقع.
الخطر أن يجهض الحلم ، وهو بصدد التكوين ، فيقع وأد النطفة ، لكي لا تصبح جنيناً في رحم الحضارة .
الخطر أن يتجمد الفكر المسلم ، ويتجلد ، وهو في مرحة الحلم بالمرجعين الأساسين ، بينما يفرض عليه أعداؤه الأمر الواقع ، بتضافر قوى الردة ، والجاهلية ، والصليبية ، والصهيونية .
كيف يمكن توظيف المثل الأعلى ، لتحديد مصير إسلامي أفضل ؟ فقد أثبت التاريخ الإنساني ، أن المثل العليا يمكن أن تظل مثلاً عليا ، على مدى قرون طويلة ولا تتجسم .. وأسطع مثال على ذلك ، المدينة الفاضلة ، التي رسم ملامحها الفلاسفة الإغريق (بداية من 490 قبل المسيح) فتبارى أفلاطون ، وسقراط ، وأرسطو ، وديمقرطيس ، وأبيقور ، وليوكريتس ، على مدى أربعة قرون ، في تشييد مشروع فلسفي متكامل ، ظل على مدى ألفي سنة ، أي إلى يومنا هذا ، مجرد مشروع .. محض حلم ذهني .
والمدينة الإغريقية الفاضلة (جمهورية إفلاطون) ، تناولت لأول مرة في التاريخ الإنساني المعروف ، قضايا الحرية ، والعبودية ، والأخلاق ، والهمجية ، والطبيعة ، والسلطة ، والدين ، والجنس ، وحدود المقدرة البشرية ، أي تعمقت في كل المستويات الفلسفية المعلومة لدينا .. لكن المشروع ، ظل مشروعاً ، وانتهت أثينا إلى نوع من الحكم القهري ، وإلى انقسام حاد وشرس بين الأحرار والعبيد (150 ألفاً من العبيد في مجتمع يعد 400 ألف من المواطنين) ، وإلى انتحار الفلاسفة ، واضطهادهم ، ونفيهم ، وقتلهم . وخارجياً انهار المشروع الطوباوي ، في حروب طويلة بين أثينا واسبرطة ، وحروب أطول بين اليونان والفرس .
ثم انتهت مغامرة الإسكندر إلى انتصار القوميات ، التي أراد أن يصهرها ، ونشوء الأوطان ، التي أراد أن يقهرها ، وقيام الحدود ، التي أراد أن يمحوها.
وكأن الإسكندر بن فيلبوس المقدوني ، في تلك النهاية ، يشكل تحطم مشروع الفلسفة اليونانية على صخور التاريخ ، وجاءت سورة الكهف في القرآن الكريم تلخص من الآية 83 إلى الآية 99 هذه الجملة من التداعيات ، قال تعال : (ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً * إنا مكنا له في الأرض وءاتيناه من كل شيء سبباً * فأتبع سبباً * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئةٍ ووجد عندها قوماً قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً * وأما من ءامن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً * ثم أتبع سبباً * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً * ثم أتبع سبباً * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً * قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً * قال ما مكنى فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً * ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً * فما اسطعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً * قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً )(الكهف:83-99) .
ولا يفوتنا تمسكاً بالدقة، أن نشير في هذا الباب ، أن اختلافاً كبيراً ، قام بين علمائنا المفسرين ، حول هوية ذي القرنين المذكور في سورة الكهف. فبينما أقر الألوسي ، والثعالبي ، وغيرهما ، أن المقصود هو الإسكندر المقدوني ، نفى ذلك ابن كثير ، ومحمد الطاهر بن عاشور ، وغيرهما ، وقدم كل من الفريقين حججاً وبراهين ، بل إن الشيخ عبد الرحمن الثعالبي (القرن الثاني هجري -الرابع عشر مسيحي) يروي (أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود عليهما السلام، والإسكندر الأكبر، والكافران نمرود وبخت نصر) .
ونميل نحن إلى الاعتقاد إلى ما أكده الشيخ سعيد حوي ، حينما ذكر أن النص القرآني لا يذكر شيئاً عن شخصية ذي القرنين ، ولا عن زمانه ، أو مكانه ، فالمقصود إذن هو العبرة المستفادة من القصة ، والعبرة تتحقق بدون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان.
وإني أستدل بعرض هذه القصة القرآنية ، على أن الله سبحانه وتعالى ، ضرب المثل بها ، على هشيم المشروع الحضاري الإغريقي: (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ).
فالإسكندر كان تمليذا لفلسفة اليوانيين ، وتعلم منهم مجموعة القيم التي انطلق غازياً ، لتجسيمها ، واختلف المؤرخون بعد ذلك في قضايا إيمانه وتوحيده ، لكن العبرة - في نظري المتواضع - من ذكره في سورة الكهف ، هي الإقرار حسب نص الآية الكريمة ، بأن وعد ربي كان حقاً ، حين اندثر صرح الإسكندر الأكبر ، لأسباب عديدة ، أحصت تلك الآيات البينات خلفياتها ، ولسنا في هذا المجال بصدد إفرادها بالتحليل.
لكن هنا تتجلى إرادة الله تبارك وتعالى .. كأنما اندثر الحكم الإغريقي إلى حين أعد الله الأمة الإسلامية ، في خلافة الدولة العباسية لإحيائه ، وتعريبه وتوزيعه ، بل وإثرائه ونقده وتحديثه ، حتى كانت الريادة الحضارية للإسلام الحنيف ، بفضل تفاعل ذلك التراث العلمي والفلسفي اليوناني ، مع العقل المسلم ، الذي تميز بالمغامرة الفكرية الموفقة ، والتسامح الفطري الرائع ، وإرادة الفتح ، والانتشار بالثقافة والعلوم والآداب
=============
الخلاصة
لقد حاولنا في فصول هذا الكتاب ، أن نتجنب الجدل مع صاحب نظرية صراع الحضارات (أو صدام الحضارات) تيمناً بالفقهاء المسلمين الأولين ، الذين يتورعون عن الخوض في صراع شخصي ، أو فكري ، مع صاحب رأي ، مفضلين على الصدام إقامة الحجة ، وإصابة المعنى ، وإيجاز اللفظ.
ولقد رد على صوميل هنتينجتون ، مثقفون مسلمون كثر جزاهم الله خيراً ، كفونا مؤونة المواجهة الفكرية . إننا أردنا هذا العمل ، بياناً لما يمكن للمسلم أن يتحصن به ، من جليل المثل ، وكريم المباديء ، وقوي العتاد ، وهو يسعى لحوار الحضارات ، فلا يتأخر عن نداء المصير ، متمسكاً باحترام صادق لكل الحضارات ، رافع الهامة بكبرياء مشروعة ، معتزاً بذلك الذخر النادر ، والكنز الثمين : تراثه التشريعي ، والسياسي ، والاقتصادي ، والثقافي الإسلامي.(9/133)
ثم إننا لابد أن نستخلص صفوة الاعتبار ، من نظرية هنتينجتون ، لأنها ليست نتيجة اجتهاد ذاتي ، لأحد الأساتذة الأمريكان ، بل هي أرضية لاستراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية ، بإزاء الأمة الإسلامية ، حتى وإن لاحظنا اختلافاً طفيفاً حول الجزئيات ، ثم أنها تترجم يومياً ، في منطق النظام العالمي الجديد ، إلى مواجهة معلنة ، مع تطلعات المسلمين الشرعية ، وحقوقهم الطبيعية ، وتكفي الإشارة إلى مأساة الشعب البوسني المسلم ، وهو يستشهد في قلب أوروبا ، ضحية صراع الحضارات ، ويكفي النظر في فاجعة الشعب الفلسطيني المسلم ، وهو يقاوم الهمجية الصهيونية ، ويسقط شبابه بالعشرات كل يوم ، وكذلك الحال بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا ، حيث تعاني الأقليات المؤمنة بالله ، اضطهاد اليمين المتطرف ، والنزعات الصليبية المرخص لها بالعمل السياسي، والمشاركة في هياكل الحكم ، باسم الديمقراطية .. وتكفي الإشارة أيضاً إلى التيه ، في المجتمعات المسلمة ، بين الحفاظ على الأصول ، والهرولة وراء أوهام اللحاق بركب الشعوب الغربية.
هذه بعض مظاهر الصراع بين الحضارات ، مما يدل دلالة قاطعة ، على أن نظرية صمويل هنتينجتون ، كما أسلفنا ، ليست مجرد طرح شخصي ، قابل للنقاش أو التفنيد ، بل هي تلخيص نظري سياسي ، لمجمل العلاقات الدولية ، بين الغرب والحضارة الإسلامية ، كما يراها الغرب ، ويخطط لتنفيذها .
لذلك وجب علينا اختزال مطالبها ، والتعرف إلى ما تهيئه لنا النظرية ، من سوء العاقبة ، وبئس المصير .
يرى هنتينجتون :
(1) أن الديمقراطية نعمة غربية ، لا يمكن أن يتمتع بها المسلمون ، لأنهم باسمها ينصبون في الحكم الاتجاهات المتطرفة .
(2) أن السلام الدولي ، يجب أن يقتصر على الغرب ، لأن انسحابه على العالم الإسلامي ، يحرم الغرب من بيع السلاح ، وشفط الاحتياطي من الثروات.
(3) أن تحديد النسل عملية استعجالية للعالم الإسلامي ، نظراً لتزايد المسلمين ، واختلال التوازن الديمغرافي مع العالم الغربي.
(4) من الحكمة أن يقع دعم وتأييد ، الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية ، في العالم الإسلامي .
(5) تقوية المؤسسات الدولية ، التي تعكس المصالح الغربية ، وإعطاؤها الشرعية والعمل على دفع الدول غير الغربية ، للانضواء تحت جناح هذه المؤسسات.
(6) مزيد من تكريس الحضارة اليهودية المسيحية ، ذات المباديء المشتركة ، بإزاء الحضارة الإسلامية.
هذه هي أبرز عناصر نظرية صدام الحضارات ، باختصار مفيد ، لأن مقالة هنتينجتون الشهيرة ، تمضي في تحليلها ، وتفسيرها ، بإعطائها أبعاداً استراتيجية عديدة ، ومن اليسير أن يفهم القاريء ، أن إضافة الحضارة الكنفشيوسية ، بجانب الحضارة الإسلامية ، في مواجهة الغرب ، ما هو إلا للتخفيف ، من عنف ذلك الصدام المعلن ، وإنما تفكير صاحب النظرية كله كان متجهاً للإسلام ، وصحوته الجديدة ، التي يصفها هنتينجتون ، بأنها (صحوة متوحشة مفترسة) ، بينما يصف الخطر الأصفر (الصيني اساساً ) بأنه ( خطر بطيء ومعتدل ).
ومن خلال الاستنتاجات الستة ، التي يقترحها المقال ، يمكن أن نستخلص نحن ست مناهج مضادة ، تكون في مصلحة الإسلام ، وتصب في خير المسلمين ، وتجعل الحضارات المستكبرة ، تقرأ لأمتنا حسابها ، كلما سعت الإنسانية إلى تحقيق مصيرها المشترك ، عوض محاولات تهميشنا خارج حركة التاريخ:
(1) إذ اعتبر هنتينجتون الديمقراطية نعمة غربية ، فإن علينا اعتبار الشورى نعمة إسلامية ، وممارستها في كل مستويات مجتمعاتنا ، حتى يقع حل المشكلة الكبرى المطروحة في عالمنا الإسلامي ، ألا وهي مشكلة الشرعية ، فنكون بذلك حققنا إنجازاً سياسياً عملاقاً ، يتمثل في التوافق بين إرادة الحاكم ، وإرادة المحكوم.
فالشرعية هي مصدر قوة الشعوب ، وانعدامها يجعل الراعي في واد ، والرعية في واد ، ولا يلتقيان ، مما يصرف الأمة عن رفع تحدياتها ، ويطلق العنان للاستبداد والضلال ، ويفتح أبواب العنف ، والعنف المضاد، ولما عناه عبد الرحمن بن خلدون حين قال : تصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات.
(2) يقترح هنتينجتون استثناء المسلمين من عملية السلام ، ونرى نحن أن تسعى الشعوب المسلمة ، أولاً إلى إقرار السلام المدني ، في داخلها ، وبين أبنائها ، ثم إقرار السلام ثانياً بين بعضها بعضاً. فصراع الحضارات موجود داخل المجتمعات المسلمة كلها ، ويكاد يكون محتدماً ، داخل معظم الأسر المسلمة ، نظراً لاختلاط القيم ، وامتزاج المفاهيم ، بين الأصالة والمعاصرة . فالسلام مفقود في ذواتنا ، وعلينا استحضاره بيننا ، بعلم تربوي مؤصل ، وحركة فكرية حرة ، والدخول إلى العصر من مسالكنا الأصيلة . وإذا تحقق ذلك ، يصبح السلام بيننا ، وبين الشعوب الأخرى ، ممكناً لأنه يعقد ميثاقاً بين أمم نظيرة ، منيعة ، وإلا فهو سلام هش ، يقوم على الهيمنة والسلب والإخضاع.
(3) كان الموقف الإسلامي في المؤتمر العالمي للسكان والتنمية موقفاً متناسقاً ، ولابد من عمل إسلامي ، مكثف لإلغاء جرائم الإجهاض ، التي ترتكب في بعض المجتمعات المسلمة ، تحت ستار التنظيم العائلي ، وتحرير المرأة ، وهي جرائم رفضتها الضمائر الكتابية ، في أمريكا وأوروبا ، فتنظيم العائلة المسلمة ، له وسائل أخلاقية أخرى ، غير هذه العلميات الإبادية ، الرامية إلى إعدام المسلمين في الأرحام ، قبل إعدامهم في الانتفاضات ، والمداهمات ، والمصادمات.
(4) يدعو صمويل هنتينجتون ، إلى دعم الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية ، في العالم الإسلامي ، وهذا من حقه كمدافع عن حضارته ، ولكن من واجبنا نحن ، دعم الاتجاهات الموالية للمصالح والقيم الإسلامية ، إذا ما تحلت بالفضيلة ، والوسطية ، والاعتدال.
(5) يطرح هنتينجتون بوضوح مباشر ، ما يومئ إليه غيره بتقية ، وهو أن المؤسسات الدولية ، من منظمة أممية ، ومجلس أمن ، ومصارف ، ومنظمات مختصة تابعة لها ، تعكس المصالح الغربية ، وتعطيها الشرعية . وصاحب هذا الاعتراف مشكور على تأكيد ما نعتقده نحن ، وما أشرنا إليه منذ عقدين على الأقل. ولكننا مدعوون كأمة إسلامية ، ذات وزن ، ونمثل خمس الإنسانية ، أن نعود بهذه المؤسسات الدولية، إلى احترام مواثيقها ، والحرص على خدمة قضايا الحق والعدل والسلام ، ونحن نسجل بأسف ومرارة ، استعمال الأمم المتحدة ، أداة لإضفاء الشرعية على عالم المظالم الدولية ، الموجهة ضد المسلمين ، في كل بقاع الدنيا ، حتى أفرغت من محتواها ، وسخرت لعكس ما وضعته لنفسها من رسالة . ولابد كذلك من تفعيل أجهزة إسلامية ، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي ، بعد فشل جامعة الدول العربية .(9/134)
(6) يضيف صمويل هنتينجتون لبنة أخرى إلى هرم شامخ من البهتان التاريخي ، والتزوير الحضاري، بإلحاحه على تكريس ما سماه : الحضارة اليهودية المسيحية . فاليهود شرقيون ، وارتباطهم بالحضارة الإسلامية وثيق وقوي ، ولم يحمهم من اضطهاد المسيحية ، إلا المسلمون ، في أحداث عظمى ، معروفة مثل محاكم التفتيش في الأندلس (1492م) ، حيث التجأوا إلى الخلافة الإسلامية والمغرب الإسلامي ، ثم عمليات إبادة النازية ( 1939 - 1945م ) ، حيث احتضنتهم الشعوب المسلمة ، قبل أن يتحولوا إلى رأس حربة ، للإمبراطوريات الاستخرابية ، عام 1948م ، بتأسيس كيان عنصري ، متوسع باستمرار ، في فلسطين . إن علينا كمسلمين ، اعتبار اليهود أصحاب دين سماوي كريم ، لا يحق لهم العدوان على حقوقنا في القدس الشريف ، وفرض وضع مخز على ملايين المسلمين في فسلطين . فكل سلام لا يؤسس على الحق ، والعدل ، والقسطاس ، سلام قصير هش زائل ، وليست هناك مرجعية للقضية الفلسطينية ، إلا المرجعية الإسلامية ، من جهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى جهاد عز الدين القسام رحمه الله ، مروراً بجهاد صلاح الدين أكرم الله مثواه .
اللهم اجعلنا من عداد (الذي استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) ، واجعل كتابي هذا نصراً لأمتك ، وتعزيزاً لدينك ، واغفر لي ، واعف عني ، إن قصرت ، أو أخطأت ، فغاية مناي أن أثير الأقلام الصادقة ، وأستنفر النفوس المؤمنة ، لتدارس أحوال المسلمين، ونحن في عصر الاتصالات الآنية ، والثقافات الطاغية ، والقوى المهيمنة ، فعسى أن تكون لجيلنا أمانة يؤديها ، ورسالة يبلغها ، حتى يتبين لنا الرشد من الغي ، والخير من الشر ، والحق من الباطل.
سبحانك اللهم أنت مولانا ، ونعم النصير
=============(9/135)
المنهج النبوي و التغيير الحضاري
برغوث عبدالعزيز بن مبارك
* من مواليد رأس العيون، ولاية باتنة، الجزائر.
* دراسات عليا في علوم الوحي والعلوم الإنسانية.
* شارك في العديد من الدراسات المنهجية في الصحف والمجلات.
* عمل محاضراً في الجامعة الجزائرية في قضايا الاقتصاد والحضارة.
* نشرت له عدة دراسات في مجلات وصحف، في مجالات: الاقتصاد الإسلامي، التغيير الاجتماعي، البناء الحضاري، الثقافة.. إضافة إلى دراسات أخرى حول أفكار ابن خلدون، ومالك بن نبي رحمهما الله.
تقديم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله ، الذي أنزل القرآن ، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، ومهيمناً عليه ، وجعله للناس شرعة، ومنهاجاً ، واعتبر العدول عن منهجه ، والالتزام بحكمه ، عدولاً عن الحق ، ووقوعاً في الهوى والضلال، وحذر الرسول صلي الله عليه و سلم ، والسائرين على طريق الاقتداء والتأسي ، من الفتنة التي يكون بها العدول عن بعض ما أنزل الله ، بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآءاتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ، وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )(المائدة:48-49) ، وذلك أن العدول عن بعض المنهج ، عدول عن الكل .. كما أن التعديل في بعض جوانب المنهج ، هو عدول في حقيقة الأمر ، وسقوط في علل التدين ، التي وقعت بها الأمم الماضية ، من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر ، وما لحق بها بسبب ذلك ، من الخزي والسقوط في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب .. )( البقرة : 85) .
ولقد اعتبر الله حال الذين جعلوا القرآن ( الشرعة والمنهاج ) تفاريق وأجزاء ، يؤخذ بعضها ، ويترك بعض - هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين - كحال المقتسمين الذين سبقوهم من الأمم السابقة ، فافسدوا على الأمة منهجيتها القرآنية ، وأوقعوها في الهوى والضلال ، والمعاصي ، والإصابات ، التي تعاني الأمة من آثارها اليوم ، أو التي تشكل أزمتها الحقيقية ، وتتسبب فيما يقع عليها من العقوبات ، وما يمارس عليها من الفتن ، والمساومات من (الآخر) لإخراجها عن بعض ما أنزل الله عليها ، قال تعالى:(كما أنزلنا على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، فوربك لنسئلنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )( الحجر:90-93). والصلاة والسلام على الرسول القدوة ، الذي أصّل المنهج الإلهي ، وبيّنه ، وجسّده ، في واقع الناس ، في ضوء هدايات الوحي الأعلى ، ومن خلال عزمات البشر ، واستطاعتهم ، وتركنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، متمثلاً قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )( يوسف : 108).
وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ). (الأنعام : 153) ، فوضع بسنته ، وسيرته ، منهج الوصول إلى التمكين في الأرض ، وتحقيق مهمة الاستخلاف الإنساني ، والعمران البشري ، في الدنيا ، والفوز والنجاة في الآخرة ، ومثل لسبيله هذا بخط مستقيم واضح ، ودعا لاتباعه على بصيرة ، ومثل للمناهج الأخرى ، من على يمينه وشماله ، بخطوط متعرجة ، يقف على رأس كل منها شيطان ، يغري باتباعها .
وبعد :
فهذا كتاب الأمة الثالث والأربعون : (المنهج النبوي والتغيير الحضاري) ، للأستاذ برغوث عبد العزيز بن المبارك ، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، في دولة قطر ، مساهمة في استرداد شخصية المسلم المعاصر ، وتحقيق الوقاية الفكرية ، والحصانة الثقافية ، وإعادة بناء المرجعية الشرعية ، وتشكيل مركز الرؤية ، في ضوء هدايات ومعارف الوحي ، وتجارب ومكتسبات العقل ، وإعادة بناء الوعي ، بالمنهج النبوي في التغيير ، والتحويل الثقافي ، وتبيّن الأسباب ، التي حالت دون منهج النبوة ، وحسن التعامل معه ، وامتلاك القدرة على إنتاج النماذج المأمولة ، التي تحقق خلود المنهج ، القادرة على حمل أمانة الاستخلاف ، والعمران ، وإدامة البحث والنظر ، في ظروف وشروط ميلاد المجتمع الأول القدوة ، مجتمع خير القرون ، واستيعاب جميع المراحل التي مر بها ، ووسائل توفيرها ، للإفادة منها في عمليات النهوض ، وتجاوز الواقع ، وردم فجوة التخلف ، من أجل أن يستأنف المسلم رسالته ، ويقوم بالدور الذي ناطه الله به ، في إلحاق الرحمة بالناس ، مستثمراً إمكاناته الروحية ، والذهنية ، والمادية كلها ، ومنطلقاً من ذاتيته الخاصة ، ومرجعيته الشرعية ، على طريق النهوض ، وتحقيق الإرادة ، والإفادة من الإمكان الحضاري ، وفك قيود التحكم ، والارتهان الثقافي ، ومعالجة أسباب التقليد الجماعي والتخاذل الفكري .
وقد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، وقد اشتدت الفتن ، وكثر الغثاء والادعاء الثقافي ، وشاع مناخ التضليل والضلال ، وتطبيع الهزيمة ، وتقطيع الرؤية الإسلامية ، لإيجاد المسوغات للسقوط الحضاري ، والفلسفات لتكريس الهزائم على الأصعدة المتعددة .. قد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، إلى اللجوء إلى المنهج النبوي ، والاحتماء والتشبث به ، والعض عليه بالنواجذ ، خوفاً من الاقتلاع والضياع ، ومن ثمّ محاولة استقرائه بوعي وإحاطة ، وقراءة الواقع ، والحال الذي صار إليه ، والتعرف علىأسبابه ، ومحاولة تحديد المكان والموقع المناسب ، الذي يمكن أن يوضع فيه هذا الواقع ، من خلال المنهج النبوي في التغيير ، ومسيرة السيرة النبوية ، من خلال استيعاب المراحل كلها ، لتكون كل مرحلة أنموذجاً ومحل اقتداء للمرحلة التي تماثلها في واقع الأمة ، ابتداءاً من مرحلة الاستضعاف ، والاحتفاظ بالإيمان في القلب ، والاقتصار على كف اليد ، وإقامة الصلاة ، حتى تتوفر الإمكانات ، ويحضر الواقع ، وانتهاءاً بمرحلة التمكين في الأرض ، والدفاع عن إنسانية الإنسان ، وتحقيق حرية اختياره ، والحيلولة دون افتتانه .. أو إبتداءاً من مرحلة : (اقرأ ) كمدخل وسبيل إلى التغيير ، وانتهاءاً بمرحلة الاكتمال والكمال ، التي يشير إليها قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )(المائدة : 3) .
ذلك أن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، وسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم في التعامل مع الواقع ، قد استوعب ، ومر بالحالات كلها ، التي يمكن أن تعرض لها المجتمعات البشرية بشكل عام ، والإسلامية بشكل خاص ، نهوضاً وسقوطاً وحركة وركوداً ، وامتلك الحلول والإجابات الكاملة ، لأصول المشكلات الإنسانية والاجتماعية ، وكيفيات التعامل معها ، وإلا كيف استحق أن يكون خالداً ، وأن يكون محل الأسوة والاقتداء؟!
لذلك فمن الأهمية بمكان - ونحن بسبيل معاودة النهوض - امتلاك القدرة على الوعي بالمنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، وإدراك مراحله بدقة ، ومقاصده في كل مرحلة ، ومرونته في التعامل مع الواقع ، في ضوء تلك المقاصد ، أمراً ونهياً ، وحظراً وإباحة ، ورخصة ، وعزيمة ، بحسب الظروف والأحوال ، والاستطاعات ، وتوفر الأسباب ، ومن ثم القدرة على تحقيق خلوده ، وذلك بتجريده من حدود وقيود الزمان والمكان ، وتوليد الرؤى ، والأحكام الشرعية ، والحلول النبوية ، للحالات ، مع مراعاة الأعمار التي يمر بها المجتمع ، وتنزيل هذه الحلول على الواقع ، في ضوء ظروفه ، وامكاناته ، وموقعه من مسيرة المجتمع الأول وسيرته ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن اعتماد المرحلية والتدرج لا يعني بحال من الأحوال تجزيء المنهج ، وتقطيعه ، بمقدار ما يعيني استصحاب المراحل كلها ، التي مر فيها المجتمع القدوة ، للوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، والإدراك الكامل لأبعاد حركة النهوض الشاملة ، ومستلزماتها ، من خلال المرحلة والموقع ، الذي يكون عليه المجتمع اليوم ، لتجيء هذه المرحلة في عمرها وموقعها ومكانها مستقبلاً ، لبنة في البناء الكامل المأمول.
إن العودة إلى بعض مراحل السيرة ، فيما قبل مرحلة الاكتمال والكمال ، للمجتمع القدوة ، ومحاولة الاستضاءة بها ، لحل المشكلات المشابهة ، من واقع المجتمع ، واستطاعته ، لا تعني هنا النكوص والتراجع ، بمقدار ما تعني المراجعة للواقع ، وظروفه ، واستطاعته ، ومحاولة تحضيره ، والنهوض به ، في ضوء الرؤية الشاملة ، لمسيرة مجتمع القدوة..
وفي ظني : أن الذين يشيعون ، ويدّعون أن أزمة الأمة المسلمة اليوم ، أو أزمة العمل الإسلامي ، هي أزمة منهج ، هكذا بدون تحديد واضح للمصطلحات ، وبيان ما هو المقصود بالمنهج ، الذي نعاني من غيابه ، أو أن غيابه هو سبب الأزمة ، يساهمون أيضاً في الغيبوبة والالتباس .. إن هذا الادعاء ، بهذه المجازفة والعمومية الشديدة ، يحمل من المخاطر والبلايا والطوام ، والتضليل الثقافي ، والإلغاء للانتماء ، والانتهاء إلى الارتماء ، واستدعاء (الآخر) ، أو بشكل أصح استدعاء منهاج (الآخر) ما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى ، سواء صدر عن حسن نية من بعض البسطاء ، الذين انتهت عقولهم إلى آذانهم ، والذين يقْفُون ما ليس لهم به علم - وما أعتقد أن مثل هذه القضايا الشائكة محلها البسطاء - أو من بعض المَكَرة ، الذين يحاولون التسلل إلى الداخل الإسلامي ، من خلال التدليس ، والتلبيس للمصطلحات ، والتأنيس والمقاربة لمصطلحات (الآخر) ، والإيهام بأن القضية قضية إبداع فكري ، ضمن القيم نفسها ، لتمرير طروحاتهم ، بينما الأمر في الحقيقة لا يخرج عن أن يكون بدعاً فكرية ، غريبة عن مرجعية هذه الأمة ، وبعيدة عن منهج وفهم الجيل الأول ، المشهود له بالأهلية ، ليكون هو وحده بفهمه ومسالكه محل الاقتداء.
وهنا قضية لابد من تحرير القول فيها ، ما أمكن ، وهي أننا إذا كنا نريد بالمنهج ، أنه بشكل عام هو : منهجية النظر والبحث ، وعلوم الطريق الموصلة إلى الهدف ، أو بتعبير آخر : أن المنهج هو طريق الوصول ، يصبح من الضروري ، أن نحدد ، ما هي الأهداف ، التي نريد الوصول إليها ابتداءاً ، ومن ثم ، ما هي الوسائل والأدوات والمعارف المطلوبة ، لتحقيق هذه الأهداف؟ مع ضرورة الانتباه إلى أهمية عدم المجافاة بين الوسائل المعتمدة ، في مشروعيتها والأهداف المرجوة.
فإن كان المنهج المقصود هو نظام مسيرة الحياة في هذه الدنيا ، والأهداف هي سعادة الإنسان ، وكرامته ، وحياته الطيبة ، في الدنيا والآخرة ، وما يتطلب ذلك من الوسائل التربوية ، والأوامر والنواهي ، فإن أي ادعاء بأن الأزمة التي نعاني منها ، أزمة منهج ، يمكن أن يخرج عن الملة - والعياذ بالله تعالى - لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) (المائدة : 48) ، فالمقصود بالحكم بما أنزل الله ، المنهج الذي شرع الله التزامه .. والحكم الذي شرعه الله هنا ، لا يخص الجانب السياسي ، أو التشريعي ، أو الأخلاقي ، أو الاقتصادي ، أو التربوي ، وإنما يعني ذلك جميعه ، بكل ما يتطلب المنهج من منطلقات أساسية ، وأهداف مرحلية ، ونهائية واضحة ، ووسائل وأوامر ونواة ، وقيم ومعايير ثابتة ، ليست من وضع الإنسان .. وما يتطلب أيضاً من أنموذج تطبيقي لهذا المنهج ، أشبه ما يكون بوسيلة إيضاح معينة على تنزيل قيم المنهج على الواقع ، وتحويل فكره إلى فعل مجسد في حياة الناس ، أو هو كالمجسمات والنماذج ، والصور ، التي تبين الشكل ، الذي لابد أن تنتهي إليه الوسائل.(9/136)
وهنا نقول : إن الأزمة التي نعاني منها ، ليست أزمة منهج ، وإنما أزمة فهم للمنهج ، وأزمة تعامل مع المنهج .. أزمة تنزيل للمنهج على الواقع ، وتقويمه به .. فالاسلام بمصدريه : الكتاب والسنة ، والسيرة كتنزيل عملي وأنموذج ، هو المنهج ، وأن المعايرة للواقع ، والتحديد للخلل ، إنما يكون في ضوء الكتاب ، والسنة ، والسيرة ، وأن أي معاودة للنهوض ، واستئناف السير ، مرهون بتقويم الواقع ، بمنهج الكتاب ، والسنة ، والسيرة .. فالإسلام هو المنهج ، وهو الصراط ، وهو السبيل ، وهو الحجة ، وهو موثق الاستمساك والتلقي ، والمعايرة ، واكتشاف الخلل ، وتحديد الأزمة ، أو هو بكلمة جامعة : الدين ، الذي يحكم تصرفات الإنسان ، أو يدين له الإنسان بتصرفاته ، ونشاطه ، لأن أي عدول عن هذا ، أو تعديل له - والتعديل هو عدول في الحقيقة ، عن بعض الجوانب ، كما أسلفنا - إنما يعني بالضرورة استدعاء مناهج ونظم معرفية ، ومسالك ومعايير (الآخر) وليس من (آخر) الآن ، سوى المنهج الغربي ، بوسائله ، وأدواته ، ونظامه المعرفي.
إن اعتماد المنهج الغربي ، في النظر ، والتحليل ، والدراسة ، سوف يؤدي بالضرورة أيضاً ، إلى أن يصبح الإسلام ، كتاباً ، وسنة ، وسيرة ، هو مادة التحليل ، ومحل وموضوع النظر ، وليس منهج النظر ، ومعيار التقويم .. ولا يغيب عنا هنا التذكير بالأبجديات الخاطئة في قراءة الإسلام ، من ماركسية ، ورأسمالية وعلمانية ، وكل المقاربات التي تتم وتملأ الساحة الثقافية اليوم ، حيث باتت ، مصطلحات (الآخر) هي أدوات ، ومحددات الفهم ، والقسمات الفكرية ، لأي باحث .. وهنا يبرز التناقض والضياع وتزييف الوعي ، أو التدليس ، عن وعي.
وحتى لو سلمنا بحسن النية - وما نظن ذلك حاصلاً في هذه المواطن الخطيرة - فإن فصل الأدوات المنهجية عن نظامها المعرفي ، ومرجعيتها الفكرية ، ومضمونها القيمي ، هو خلل منهجي ، وتفتيت للنظرية ، وتجزيء لها ، ومحاولة نقلها للتشغيل ، والتعامل مع نسق آخر.
ذلك أن الأدوات المستخدمة ، وعلوم طريق الوصول ، والتبصير بما يمكن أن يتحصل من إصابات في الطريق ، وكيفية الوقاية منها ، هو جزء منبثق من المنطلقات ، والقيم ، والنظرة الكلية الشمولية للأهداف ، وليست جزءاً منفصلاً محايداً ، قائماً بذاته.
ونخشى أن نقول : إن الذين يدّعون بأن الأزمة عندنا ، هي أزمة منهج ، متجاوزين في ذلك الصراط ، والشرعة ، والمنهاج ، والسبيل ، والدين ، الذي أنتج هذه الحضارة ، وتلك العلوم ، سوف يقودهم سعيهم إلى تبني واحتضان المنهج الغربي ، في النظر إلى القيم ، والأفكار ، والمجتمعات الإسلامية ، وحتى إلى إعطاء الكتاب والسنة والسيرة ، واعتبارها كسائر المواد التراثية الأخرى ، حتى لو أعلنوا خلاف ذلك .
وهنا تحفظ لابد من التوقف عنده قليلاً ، وهو أن التراث عند من يعّرفه بأنه اجتهاد ، وكسب بشري ، خارج دائرة الكتاب والسنة والسيرة ، قد يغيب عنه ، أنه أثناء فحصه واختباره ، وتقويمه ، ومحاكمته ، لابد من استخدام المنهج ، الذي تم إنتاج هذا التراث في ضوئه ، ومن ثم بيان فساد أو صواب التنزيل والتطبيق لهذا المنهج في الواقع ، لأن من العقم المنهجي ، والفساد الفكري ، محاكمة واقع حضارة وتراثها ، أو إنتاج حضارة ، بأصول ومناهج وأدوات معرفية لحضارة أخرى مغايرة ، في منهجها ، وقيمها ، ومنطلقاتها ، وأهدافها ، ووسائلها.
وقد يكون أحد الوجوه الخطيرة ، للأزمة الفكرية ، التي نعاني منها ، بسبب عجزنا عن التعامل مع المنهج الذي شرعه الله ، وبينته السنة ، ونزلته ، أو طبقته السيرة ، هو الادعاء بضرورة الاقتصار على النص القرآني ، في التقويم ، والمنهجية ، والمرجعية ، والمعايرة ، والعدول عن السنة والسيرة ، أو عن المنهج النبوي في البيان ، والتطبيق ، والتنزيل على الواقع ، أو تجاوزهما عملياً ، بحجة ظنية السنة ، وضعف المروريات ، من وجه ، أو بأن التنزيل على الواقع في فترة السيرة ، كان باجتهاد بشري ، محكوم بظروف الزمان والمكان والحاجات ، لا علاقة له بالنبوة والوحي ، وأن الرسول النبي صلي الله عليه و سلم الذي يبلغ رسالة ربه (القرآن) ، ويبيّن كيفية عبادته ، غير الرسول الحاكم (!!) فالمهمة الأولى هو مؤيد فيها بالوحي ، ومسدد به ، أما الثانية (السنة) فلا وحي فيها ، وإنما هو اجتهاد جاء مناسباً لعصر معين ، ليس بالضرورة ، أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان ، وأن إلغاءه ، أو تجاوزه ، لا علاقة له بالدين ، أو التدين (!!) وهذه بدعة في التفكير ، خارجة عما أجمع عليه المسلمون في عصورهم المتطاولة ، ووسيلة ماكرة لعلمنة الإسلام ، ومحاصرة المنهج القرآني ، وإقصائه ، بمحاولة إلغاء سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، في التطبيق والبيان ، لكنها اليوم باسم الإسلام ، وهي لا تقل خطراً وأثراً عن الابتداع في العبادة .. إنها مروق من الدين ، كما يمرق السهم من الرقبة.
أما القول : بأن نص القرآن قطعي ، وإلهي ، ومطلق ، والادعاء بأن نص السنة في معظمه ظني ، وبشري ، ونسبي ، يمكن رده .. فهو ادعاء ساقط ، قرآنياً ، ومنهجياً ، وواقعياً ، وقد فند العلماء ذلك ، ولم يبقوا فيه استزادة لمستزيد ، ذلمك أن النص القرآني نفسه ، يعتمد السنة ، مصدراً للتشريع ، والمعرفة ، والأحكام ابتداءاً.
أما ظنية السنة ، من الناحية المنهجية ، فإن السنة محكومة بضوابط القرآن الكريم ، قطعي الثبوت ، بحيث لا يجوز لها أن تخرج على نصوصه ، أو تعارض مقاصده ، أو مرجعيته ، حتى في البيان ، الذي هو مهمتها ، وذلك بنص القرآن ، إلى درجة اعتبر معها العلماء ، أن من علامات الحديث الموضوع ، معارضته لصريح القرآن الكريم ، فالسنة ، على الرغم من ورود معظمها عن طريق خبر الآحاد ، إلا أنها موثّقة بضوابط ومرجعية القرآن ، قطعي الثبوت.
إضافة إلى أن هذه النصوص الظنية الدلالة ، تجسدت ، وتمثلت في واقع أمة ، كاملة ، مشهود لها بالخيرية، في مرحلة السيرة ، والخلافة الراشدة ، الأمر الذي يمنحها التواتر العملي ، أو السكوتي - إن صح التعبير - وهذا لم يتوفر لنص آخر غير نصوص السنة ، التي تضمنت المنهج النبوي ، اللهم عدا النص القرآني ، الذي ثبت بالتواتر ، الذي يفيد القطع ، وعلم اليقين ، وهذا التواتر من حيث المنهجية العملية ، يمنح السنة السياج الواقي ، ويجعل الظنية فيها ، معتمدة في التشريع ، والمعرفة ، والأحكام ، الأمر الذي لم يعان منه جيل الصحابة ، حيث لم تكن هذه الإشكالية مطروحة أصلاً.(9/137)
ولابد أن نعترف أن بعضنا يعيش اليوم مرحلة الأرض الأجادب ، لكن بعضنا الآخر - مع الأسف - يعيش مرحلة الأرض القيعان ، التي أخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث اصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم .. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ... ) (متفق عليه) .. حيث تتقدم عندنا وسائل الحفظ والنقل لقيم الكتاب والسنة ، لكن يصاحبنا العجز عن أن نستنبت منها الكلأ والعشب الكثير ، إلى جانب حفظ الماء ، فنكون من الطائفة الأولى . وقد يكون من المفيد هنا ، أن نورد ما روي عن عثمان وعبد الله بن مسعور وأبي رضي الله عنهم ، من أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان يقرئهم العشر ، فلا يتجاوزها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ، فتعلموا العلم والعمل جميعاً (صحيح سنن أبي داود) ، وما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم في صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة ، يقرأون القرآن ، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (القرطبي 1/40) .
وحتى يكون الكلام واضحاً ، لابد أن نبيّن أن العجز المقصود هنا ، هو عدم القدرة على الإفادة من المنهج النبوي ، في مجال التغيير والبناء الحضاري ، وليس المقصود مجال الفقه التشريعي ، حيث خلف لنا العلماء والمجتهدون ثروة فقهية لا نظير لها ، من الناحية القانونية ، والثقافية ، والتشريعية ، والقضائية .
لذلك نقول : إن الأزمة الحقيقية التي نعاني منها ، أو الأزمة الفكرية ، هي أزمة فهم عملي ، وأزمة تعامل، مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها إلى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية .. أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحي بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوي ، في البناء والتغيير ، سواء في ذلك من ينكرون وجود المنهج ، في الكتاب والسنة ابتداءاً ، ويعتبرون أن الأزمة اليوم ، أزمة منهج ، أو من يسلمون بوجود المنهج ، إلا أنهم عاجزون عن وضع مناهج فهم ، وتعامل ، من خلال القيم نفسها ، ونسقها المعرفي ، وتراثها الممتد ، الذي يشكل عقلها الجماعي ، وشخصيتها الحضارية التاريخية .. لذلك نراهم يتطاولون على التراث ، ويحكموا عليه ، من خلال تشكيلهم الثقافي ، بعيداً عن القيم المعيارية ، التي أنتجته ، وإنما من خلال قيم حضارات ، ومناهج معرفية ، وعقائد أخرى ، لذلك لا يخرج عملهم عن طحن الماء ، على الرغم من الجهد المبذول ، والمال المهدور ، دون أن تكون عندهم القدرة على إيجاد البديل ، أي بديل ، وقد يضطرهم سعيهم في النهاية ، بسبب فقر إنتاجهم - كما أسلفنا - إلى احتضان أشخاص ، قد يفتقرون لأدنى حد من المرجعيات الشرعية ، سواء في دراستهم الأكاديمية ، أو كسبهم الثقافي ، أوفي مسالكهم ، وإنما هم متخصصون ، بالمنهج الغربي ، ونظامه المعرفي ، وأدواته البحثية ، ويحاولون اليوم أن يجعلوا من الإسلام ، والنصوص الإسلامية ، في الكتاب والسنة ، محلاً للتحليل ، والدراسة ، وفق المناهج ، والأنظمة المعرفية : الخارجة عن نسقه ، وقد يلحقون بأعمالهم أي شعار إسلامي ، لتمريرها وتسويقها في عالم المسلمين .. إنهم يجرأون على الفتوى ، في المعرفة ، ويبتدعون في الفكر ، وقد لا يحسنون معرفة فرائض الوضوء ، وأحكام الحلال والحرام ، التي يجب أن تعرف من الدين بالضرورة ، وقد لا يستطيع الكثير منهم أن يقيم لسانه بآية ، أو حديث ، وغاية عملهم اقتطاع بعض النصوص الإسلامية ، وإعمال أدوات المناهج الغربية في فهمها ، وإعادة تفصيلها .. فكيف والحال هذه ستكون النواتج الفكرية والثقافية ، خاصة إذا علمنا أن الأدوات المعرفية ، ووسائل البحث ، ومناهج الفهم والتفكير ، ليس آليات محايدة ، وإنما هي ثمرة لخلفيات عقائدية ، ومرجعيات حضارية ، لا تخرج عن أن تكون جزءاً منها ؟
إنها المرحلة الجديدة للاستلاب الحضاري ، والاختراق الثقافي ، التي يفترض لها أن تكون أكثر قبولاً في عالم المسلمين ، بعد أن سقطت الطروحات السابقة للإسلام ، المعنونة بالمصطلحات الغربية أو الشرقية ، لإيجاد غطاء تراثي لتسللها إلى الفكر الإسلامي.
ونخشى أن نقول : إن هذ المسعى اليوم يعتبر من أخطر البدع الفكرية الخفية ، التي يجب التنبه لها ، والتحصين منها ، لأنها لا تقل خطراً عن البدع في العبادات ، التي نهض فقهاء السلف والأتّباع ، لمحاصرتها والتحصين منها ، وهزيمتها بالسنة.
هذه البدع الفكرية ، التي دخلت علينا باسم وضع الحلول لأزماتنا ومشكلاتنا ، وحاولت اصطيادنا في حالة المعاناة ، نرى أنها خلفت لنا تراكم الأزمات ، بدل أن تضع الحلول .. وقد يكون المطلوب اليوم : أن تصبح مواجهتها من الأولويات ، وهزيمتها إنما تكون بوعي المنهج النبوي ، والتحصن بمعرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، والاجتهاد في إبداع الأدوات المعرفية ، في إطار النسق الإسلامي ، وتصوراته عن الحياة ، ومرجعيته الشرعية.
وقد تكون الإشكالية الحقيقية ، في النظر للمنهج النبوي ، في التغيير والبناء الحضاري ، تكمن في استيعاب مسيرة هذا المنهج ، بمراحله المختلفة ، ومحطاته الكبرى ، والإفادة منه في تحديد وفهم الواقع ، ووضعه في الموقع المناسب من هذه المسيرة ، وامتلاك الفقه والقدرة ، في كل مرحلة ، على ضبط النسب ، وإعادة ترتيب الأولويات ، في ضوء الحال ، وتطور المراحل ، واستصحاب المقاصد ، الأمر الذي يتطلب هضم الجزئيات في شعب المعرفة المختلفة ، وإعادة تجنيسها ، كمعطيات للمنهج النبوي المعرفي ، في كل مرحلة.
نعود إلى القول : بأن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، إذا لم يُدرك بمراحله وأبعاده ، ويميّز بين ثوابته ، ومتغيراته ، ومراحله ، وتدرك الظروف والشروط ، التي توفرت لكل مرحلة ، يمكن أن ينقلب إلى معوق ، بسبب سوء الفهم ، ومن ثم سوء التطبيق ، بدل أن يكون دافعاً للنهوض .. لذلك فالأمر لا يجوز أن يبقى خاضعاً لرؤية فردية ، تدعي الإحاطة بكل شعب المعرفة ، وإنما لابد له من دراسات متخصصة ، بشعب المعرفة المتنوعة ، شريطة أن تكون متحصنة بالمرجعية الشرعية الكافية ، للتمييز بين ما هو من الوسائل ، وما هو من الأهداف ، وما هو من المباديء ، وما هو من البرامج ، وما هو من القيم المعيارية ، وما هو من الاجتهاد الخاضع للتقويم ، لتشكيل رؤية جماعية لكل عصر ، بحسب مشكلاته وظروفه ، وإمكاناته ، وقضاياه ، وموقعه من مسيرة النبوة.
وقد يكون الكثير من مشكلاتنا الفكرية والمنهجية والنهضوية - إن صح التعبير - نابعاً من وجود متخصصين بشعب المعرفة ، لكنهم يفتقدون المرجعية الشرعية ، أو يفتقدون لمعرفة الوحي بشكل أعم سواءاً منهم من تخصصوا في الغرب ، أو تخرجوا على أيديهم في مدارس ومعاهد وجامعات العالم الإسلامي ، المرتهنة للنظام المعرفي الغربي في المرجع ، والمنهج ، والكتاب ، والمدرس ، أو من هم من المتحمسين للقضية الإسلامية ، بعيداً عن أي معرفة أو تخصص.(9/138)