أن صاحب امتياز هذا الاسم " الشرق الأوسط الجديد " هو شيمون بيريز، المسئول الإسرائيلي وقطب حزب العمل الشهير والذي طرحه عبر كتابه الذي حمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" - صدر عن دار نشر(إيليمنت) البريطانية عام ،1994 وأصدرت دار الجيل بعمان الأردن ترجمة عربية له في ذات العام، وفيه طرح بيريز مفهوماً لهذا الشرق الأوسط الذي بدأ أنه علي وشك ولوج حقبة جديدة، في أعقاب إنجاز التسوية الأمريكية للملف الفلسطيني - الإسرائيلي، المتمثلة في اتفاق أوسلو الموقع بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال، اسحق رابين عام ،1993 ومن هنا جاء مشروع " الشرق الأوسط الجديد " متكيفاً مع هذه الظروف المستجدة ، دون أن يتخلي بأي صورة من الصور عن مستهدفاته الإستراتيجية الثابتة، مستهدفات المشروع الصهيوني الإمبريالي الأصلي ، لكنها هذه المرة مع التحوير الضروري والملائم، الذي عبر عنه اسحق رابين رئيس الوزراء الصهيوني المقتول، قبل اغتياله، بقوله ساخراً من فجاجة معارضيه من حزب الليكود وضيق منظورهم! : ( إن هؤلاء يقيسون قوة إسرائيل بمساحة ما تستولي عليه من أراض، أما نحن فنقيس قوة إسرائيل بمقدار ما تسيطر عليه من أسواق ) . وكان أحد الأهداف المهمة لهذا الطرح، هو استبدال الهوية الإسلامية التاريخية والثقافية للمنطقة، بأخري مصطنعة، مشوشة، مائعة، هي الهوية الشرق أوسطية التي تعني إذابة العرب في كيان هلامي غير واضح المعالم ، أوضح ما فيه هو خضوعه للهيمنة الإسرائيلية المباشرة والكاملة، وقد تطور هذا الطرح في أعقاب 11 سبتمبر، وما تلاه من تداعيات أبرزها احتلال العراق وتدمير بنيته المؤسسية، وتحول دولة المنطقة وبالذات الخليجية إلي مستعمرات وقواعد عسكرية ومراكز استخباراتية وإدارية لآلة الحرب الأمريكية ، التي رأت أنه من الصالح لها التدخل المباشر لفرض السيطرة علي منابع النفط العربي ، من غير وسيط !. وتقدم مشروع الهيمنة الأمريكي في هذا السياق بتطوير أمريكي لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" وطرحه في صور مستحدثة باسم " الشرق الأوسط الكبير" ، روج لها الرئيس بوش وأركان حربه، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ، ونائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وغيرهم من أركان الإدارة الأمريكية، وفحوى مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما قدمه الخبراء الأمريكيون يتبلور في عملية مزدوجة، لتفكيك وإعادة تركيب دول المنطقة بإجراء تقسيمات وتخطيطات جديدة تعيد رسم خرائطها على النحو الذي يضمن المصالح العليا الأمريكية، وأساسهاً البترول، وإسرائيل باستخدام القوة والتدخل المباشر، في مسار مشابه لما جرى عام ،1916 حينما تم تقاسم تركة " الرجل العثماني المريض " بين الإمبراطوريات الغربية المهيمنة آنذاك، وبالذات الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية... (2)
ج ) تقسيمات " مشروع الشرق الأوسط الجديد " :
توضح الخارطتان المرفقتان بالتقرير طبيعة التغيير المقترح ، وهاتان الخارطتان ليستا سوى خارطتين من جملة خرائط أخرى متداولة في أوساط البنتاغون ولكنها جميعاً تقوم على المبدأ نفسه ، التقسيم والتمزيق .
فقد نشرت مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" في عددها الأخير، والذي يرسم مستقبلاً للمنطقة يقوم على "إعادة هيكلة الشرق الأوسط" -وكان هذا هو عنوان التقرير- بحيث يجرى تقسيم العراق وسوريا والسعودية، إلى دويلات طائفية متنازعة، فيما يتم توسيع المملكة الأردنية الهاشمية، على حساب العراق والسعودية، وتحافظ "اسرائيل" على سيطرتها على جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، ليكون "السلام" قائما على أساس قوة الردع "الاسرائيلية" من ناحية، وتمزق وتنازع دول المنطقة فيما بينها وفى داخلها من ناحية أخرى.
وبالنظر إلى خارطة المنطقة الحالية وخارطة المشروع الجديد يتبين الفرق وعظم الخطر ، فالخارطة الأولى التي الخارطة الحالية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو و هي كالآتيالآتي:
والتقرير أعده الخبير (رالف بيتر) الكولونيل المتقاعد من الجيش الأمريكي، الذي سبق له أن عمل في سلاح المدرعات وشعبة الاستخبارات العسكرية، وهو ما يزال على صلة وثيقة بمراكز الأبحاث التي يشرف عليها البنتاغون.
والرجل يملك دراية واسعة بتاريخ المنطقة وهو ملم إلى حد كبير بالرؤية الاستراتيجية التي يعبر عنها المحافظون الجدد، ناهيك عن معرفته عن قرب بالعوائق والصعوبات التي يمكن أن تعترض المشروع الأمريكي وتحول دون ترجمته على أرض الواقع.
وكان هذا الخبير العسكري عبر عن مخاوفه بهذا الصدد على مضض في حواره مع جيمي جلازوف رئيس تحرير المجلة الصهيونية الشهيرة Front page بتاريخ 2 أغسطس-آب الجاري بالقول : (أن هذه الحرب أول حرب تخسرها إسرائيل إعلامياً وعسكرياً ). ويتابع : ( إنه لا خيار لإسرائيل سوى تعديل الكفة... ودفع قواتها البرية بأقصى ما تملك للقضاء على حزب الله كلياً. فالمعركة مصيرية وهى مسألة حياة أو موت للكثير من الرهانات في المنطقة ).
فحكومة بوش عملت ما في وسعها لتمنح "إسرائيل" الوقت الكافي لإكمال المهمة وتحقيق الأهداف لكن صلابة المقاومة اللبنانية أثبتت أن حكومة أولمرت تعد الأضعف في تاريخ "إسرائيل" عسكريا. وبيت القصيد في هذا الحوار، كما في كتابهNever Quit the Fight - لا تتخلى عن القتال مطلقا - أن تستمر الحرب على نحو لا يجب إيقافها أبدا كما يبدو من عنوان الكتاب الذي اختاره.
وكان (رالف بيتر) استعار جوانب مهمة من هذا الكتاب في إعداد التقرير الذي قدمته مجلة " القوات المسلحة الأمريكية".
ولكي نقدم أبرز ما جرى في التقرير، تجدر الإشارة إلى أنه لا يتحدث أبداً عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بل عن "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وذلك عطفاً على تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء تعليقها على ما جرى في مجزرة قانا الرهيبة، والذي قالت فيه : ( أن ذلك هو بمثابة الألم الذي لا بد منه للولادة العسيرة لمشروع الشرق الأوسط الجديد ) !.
وكان من الواضح أنها اختارت تعبيراً كان يخضع في الأصل لمداولات وخطط وخرائط داخل المؤسستين العسكرية والسياسية حول شكل البيئة الإقليمية المناسبة لكي تعيش "إسرائيل بأمن وسلام"!.
ـ أهمية " مشروع الشرق الأوسط الجديد " استراتيجياً :
يكشف التقرير أن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المنطقة عمّا عداها، لا يعدم تبريراً وأهميته للآتي :
أولاً : لأن المنطقة تقع على خطوط الممرات الجوية والبرية والبحرية ذات الأهمية الكبرى لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، علاوة على أنها شريان الطاقة العالمي بامتياز طوال خمسين سنة المقبلة.
ثانيا : إن هذه المنطقة تحفل بتهديدات شتى ، سواء تلك التي بدرت رفض شعوب المنطقة للمشروع الأمريكي أم تلك التي ستظهر مع تعاظم دول الشرق الأقصى -الصين، والهند...- العملاقان المقبلان .
ثالثاً : إن تكسير الجدار العربي مقدمة لتكسير أكثر الهويات التاريخية تجذراً وممانعة في تاريخ هذه المنطقة، تمهيداً لتكسير هويات قومية وثقافية أخرى للاستفراد بالعالم وإحلال هيمنة الثقافة الواحدة والنظام السياسي الواحد وتسييج العولمة بثوب ومقاس الإمبراطورية الجديدة.
الوجه الأول : ملامح خارطة "الشرق الأوسط" حالياً :(7/32)
ويبدو أن نشر التقرير كان يعنى فيما يعنيه أن الحرب العدوانية "الإسرائيلية" على لبنان ليست سوى محطة من محطات أخرى للحرب المعلنة والخفية على الشعوب العربية والإسلامية في المنطقة بعامة والدول والتنظيمات الممانعة بخاصة.
ويقترح التقرير، أن يتم تقويض أركان دول وإعادة رسم جديدة لكيانات دول جديدة وابتعاث دول أخرى ، إذ تمثل الخريطة الجديدة المعروضة " للشرق الأوسط الجديد" إعادة رسم جذرية لكيانات الدول الوطنية التي خرجت من معطف الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وستتغير ملامح دول لتندمج بعض مناطقها في دول أخرى من ناحية، كما ينذر المشروع باقتطاع أجزاء من دول وطنية من ناحية أخرى، ناهيك أن حدود الخريطة الجديدة واضحة وتختلف عن الخريطة القديمة في مجملها، إذ إن الخريطة المقترحة تتضمن تعديلاً وتقسيماً يمس الدول التالية: سوريا، إيران، العراق، السعودية، باكستان، الإمارات العربية المتحدة، تركيا. وما يتم اقتطاعه يتم إلحاقه بالدول التالية: الأردن، اليمن وأفغانستان، كما يلوح المشروع بـ" دولة كردستان الجديدة " ، وبداية، يعلن التقرير ضرورة إعادة رسم حدود وكيان الدول التالية على المدى القصير والمتوسط، بحيث تأتى العراق والسعودية وإيران على قائمة الدول المعرضة للبلقنة والتقسيم على أساس طائفي ومذهبي ، وما جرى في العراق أثبت أن "الديموقراطية" التي بشر بها المسؤولون الأمريكيون في مشروعهم الأول، لم تؤد إلى كسب رهان السيطرة على العراق كلياً ، بيد أن العراق يكتوي حالياً بمؤامرة الحرب الأهلية وسياسات فرق تسد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، بطبيعة الحال، تعرض الخريطة الجديدة ميلاد " دولة كردستان الكبرى" تضم شمال العراق -كركوك النفطية- ومحافظات الموصل وخانقين وديالى والمناطق الكردية التي يتم اقتطاعها من تركيا وسوريا وإيران وأرمينيا وأذربيجان. ويتم هذا بدعوى "رد حقوق الأقليات التي هضمت تاريخياً". وبطبيعة الحال، بهدف كسبها لصالح الدفاع عن المشروع الأمريكي- "الإسرائيلي" في المنطقة ، ويعرض التقرير حدود هذه الدولة التي تمتد من ديار بكر التركية إلى تبريز في إيران. ومؤدى هذا المشروع أن ترك الأنظمة العربية كما هو عليه حالها اليوم، لن يمنع عن الولايات المتحدة من أن تتلقى مصالحها ردود فعل شعبية عنيفة في المنطقة، ستكتوي بنارها طال أم قصر الزمن. وبالتالي أصبح الرهان على الديموقراطية مجرد وهم نحن غير جديرين بها على ضوء هذا المشروع الجديد، ما دامت تجربة (حماس) وفوزها في الانتخابات بدَّدت حسابات ورهانات الإدارة الأمريكية حول الديموقراطية في "الشرق الأوسط".
ويمكن القول إن ما تسعى إليه إدارة بوش الجديدة هو وضع لبنات تغيير ملامح "الشرق الأوسط" قاطبة، على نحو يأتي مقاسه يناسب حذاء "إسرائيل": الحليف الوحيد الذي يمكن أن تثق به.
ويقوم عنوان هذه الخريطة الجديدة على تقسيم طائفي ومذهبي وعرقي يشمل خريطة "الشرق الأوسط" برمتها. وينتظر أن يشكل تقسيم العراق إلى دويلة للأكراد في الشمال، دويلة للشيعة في الجنوب ودويلة للسنة في الوسط النموذج الذي سيتم تعميمه في كل المنطقة.
ومن خلال هذا التقسيم يمكن أن تلعب الجماعات "الشيعية" الموالية للولايات المتحدة في العراق دور المساندة والدعم لإخوتهم "الشيعة" في محافظة الأحساء - موطن الأقلية الشيعية في السعودية - تمهيداً لإلحاقهم بـ"دولة عربية شيعية" في جنوب العراق تحول دون حلم "جمهورية إيران الإسلامية" أن تصبح " قبلة كل شيعة العالم".
لا يخفى هذا المشروع أن جمع الأقليات "الشيعية" في دولة يكون عمادها الجنوب العراقي وحكامها من "الشيعة" الموالين لواشنطن، تمكننا من فهم دلالات الحرب الدائرة ضد "حزب الله" في لبنان ومحاولة القضاء عليه للتخلص نهائيا من "مشروع شيعي" يدافع عن القضايا القومية العربية ويقف حائلاً أمام إدماج لبنان في "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
وتمتد حدود هذه "الدولة الشيعية العربية" إلى الجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الغربية من إيران الذي يعرف بالأهواز. ويمكن القول أن هذه "الدولة الشيعية العربية" سيلقى على عاتقها الوقوف في وجه إيران الحالية، فوجود "دولة شيعية" موالية للولايات المتحدة سيكون بمثابة قوة التوازن مع وجود "دولة شيعية" معادية، وستكون الأولى، بما يتوفر لديها من إمكانيات مادية - نفطية بالدرجة الأولى - وبما لديها من "آيات الله" تم ترويضهم لخدمة المصالح "الإسرائيلية"، قادرة على سحب البساط من تحت أقدام النزعة الثورية في إيران.
غير أن ما يتهدد البلدان الأخرى، بخاصة السعودية لا يقتصر على إذكاء نار التفرقة المذهبية والطائفية بين "الشيعة والسنة"، بخاصة في منطقة (الأحساء) التي تقطنها أقليات "شيعية"، فخبايا المشروع تهدف إلى حرمان خزينة المملكة من عوائد النفط التي تزخر بها المنطقة الغنية بالنفط، تمهيداً لتجريد "الدولة السعودية" من أي قوة وأية موارد، و"سيكون ذلك بمثابة العقاب النهائي على قيام سعوديين- وهابيين بتفجيرات 11 سبتمبر 2001"!. فـ"الوهابية" التي تثرى بالنفط اليوم يجب أن تفقر وتنشغل بحروب داخلية بين نجد والحجاز والأحساء لاستعادة أمجاد الماضي - الراهن-.
ويحمل في طياته ظهور "فاتيكان جديد" للعرب في إمارة الحجاز، يوكل الإشراف عليها لأمير هاشمي يعول عليه في إذكاء وإحياء نار الصراع المذهبي الذي حدث سنة 1924، بين آل سعود وآل هاشم حكام الأردن حالياً ، تمهداً لخروج الأماكن المقدسة من سيطرة " الدولة السعودية"، بحيث يتم إعداد لجنة دينية مكونة من المذاهب الإسلامية يعهد لها مهمة الإشراف على مناسك الحج والشؤون الدينية.
بطبيعة الحال، فأن ما يبرر ظهور هذا "الفاتيكان" الجديد في إمارة الحجاز، يجد سنداً في المزاعم التاريخية الآتية :
فالإمارة وقعت بالفعل تحت إمرة الأشراف، فرع بني هاشم الذين حكموها إلى غاية سنة 1924، موعد سقوطها في يد آل سعود. والهدف هو تحجيم التأثير الوهابي المسؤول في نظر واشنطن عن "التطرف الإسلامي"، كما عن امتداده وتغلغله في باقي البلدان العربية والإسلامية.
ويتعمد أصحاب المشروع تناسى الدور الذي قام به آل سعود من جهود لتوحيد قبائل المملكة في حينه وضمان الأمن في ربوع الحجاز ومنع لانتشار الفوضى القبلية، وما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من رد البدع وعدم التمسح بالأضرحة والقبور والدعاء ، ومهما يكن من أمر، فأن هذه الدعوة يتم اتخاذها مطية للتبشير بتقويض دور السعودية الديني ودورها في العالم العربي والإسلامي عبر السيطرة على الأماكن المقدسة، مما يسهل من أمر بعث هذه الإمارة من جديد. وما يتم تقديمه من ذرائع في هذا الباب يستند على ضرورة إحيائها من جديد، بحيث تتم الإشارة التاريخية إلى مؤسس الدولة الهاشمية الحسين بن على وأبنائه - علي، عبد الله، فيصل وزيد -. فابنه علي أكبرهم كان أمير الحجاز قبل سقوط الإمارة في يد سعود الكبير موحد الجزيرة العربية، أما عبد الله فتولى مقاليد الأردن ومن بعده جاء الملك الراحل الحسين . بينما عرف حكم فيصل للعراق فشلا ذريعاً بعد قيام الثورة. وهذا القسم الذي يتم بتره وإلحاقه بالمملكة الأردنية الهاشمية، يمثله الحجاز والقسم المتعلق بشمال وشرق المملكة.(7/33)
مؤدى هذا التحول إغراق السعودية في بحر القلاقل والتوترات وعزل حكم آل سعود في منطقة نجد، ما يرشح المملكة الهاشمية الأردنية أن تمد من نفوذها وتستعيد ماضيها التليد في الحجاز. لكن الهدف من هذا كله هو ضمان عمق جغرافي وغيره "لإسرائيل" عبر هذه الدولة الحليفة، تحول دون أي مفاجآت قد تأتى من منطقة نجد.
ويعتبر التقرير أن المملكة العربية السعودية ليست سوى كيان مصطنع لا يملك شرعية تاريخية ولا مقومات البقاء، بالقياس إلى أن تاريخ نشأة المملكة حديث مقارنة مع تاريخ الدول والممالك.
لذلك تراه يعول بالأساس إلى ركوب موجة التذمر والغضب المستشرية بين الناقمين على آل سعود، بخاصة في منطقة (الأحساء وعسير والحجاز)، فهذه المناطق تعتبر مفتاحاً لإثارة المزيد من التوترات وإشعال فتيل الفتنة الطائفية والمذهبية، بغاية تفجيرها في الوقت المناسب لإعادة صياغة خريطة المملكة.
وما يقدمه التقرير من تعليل لإسناد مشروع التقسيم على أساس طائفي ومذهبي وعرقي يستند في عموميته إلى ما يلي :
إن طبيعة منطقة الحجاز أبعد ثقافيا واجتماعيا ومذهبيا من تمثل المذهب الوهابي الذي تم فرضه بحد السيف والإكراه فيها. فأهل الحجاز تبنوا طويلا مذهب الحنفية المعتدل، بحيث لن العودة لإذكاء نار الاحتراب الداخلي على قاعدة مذهبية يعنى محاولة تقليم أظافر الوهابية وإرجاعها إلى موطنها الأصلي في (الدرعية) وربوع نجد بعد تجريد آل سعود وآل الشيخ من الإشراف على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة على نحو يضمن ويقلل من شرعية آل سعود القائمة على توحيد البلد سياسياً ومذهبياً ، فالحجاز قلب الإسلام، وأي سيطرة على المدينة ومكة يخول لصاحبها دوراً ومكانة رمزية لا يستهان بها، كما أن هوية الحجاز الإقليمية وطباع أهلها في نظر التقرير يؤهلها للاستقلال عن حكم آل سعود، بحيث تتميز مدن جدة والطائف عن سائر مدن المملكة طباعاً وسلوكاً ومذهباً ، علاوة أنهم اعتماداً على التقارير التي استندوا إليها وتصلهم من عين المكان تقوم على دراسة طباع أهل الحجاز، تثبت بالنسبة لهم أن أهلها يختلفون في كثير من تقاليدهم وعاداتهم عن عادات البدو الصلدة وأهل نجد. فأهلها في نظرهم متسامحون دينياً بفعل إتباعهم مذهب الحنفية الوجه النقيض للوهابية، مما ساعدهم على نبذ التعصب الديني. كما أنهم منفتحون ومن أكثر الناس اختلاطاً ، إذ تزاوجوا مع كثير من الوافدين من خارج الجزيرة.
ويتنبه الخبير (رالف بيتر) إلى أهمية استغلال عامل إضافي قد يذكى النعرات القبلية والمذهبية بشدة، فهو يرى "أن آل سعود أحكموا قبضتهم على موارد البلاد، ما وضع أهل الحجاز في مرتبة دونية"، أي جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية يأتي بعدهم "الشيعة" في المرتبة الثالثة. ويطرح الخبير ضرورة بلورة مخطط لفصل الحجاز وانشقاقه بمساعدة عودة الهاشميين إلى الحكم في إمارة الحجاز، فهو يرى أن عودة أمير هاشمي لحكم إمارة الحجاز سيفتح آفاقاً أمام الأسرة الحاكمة في المملكة الأردنية الهاشمية كي تلعب دوراً كبيراً في المنطقة بمساعدة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ومن شأنه إضعاف آل سعود إلى الأبد.
لا يقف هوس العداء إلى أي حد بحيث يتم اتهام السعودية بأنها "تقف وراء الإرهاب"، بخاصة عندما يعتبر "أن انتماء عدد من منفذي أحداث 11 سبتمبر هم من منطقة عسير"، والمقصود من هذه الإشارة التي لا تخلو من مغزى، أن منطقة (عسير) أصبحت في نظرهم خزاناً لتفريغ المتطرفين والإرهابيين، لذلك يجب استغلال هذا الوضع لدفع أهلها لتفجير نقمتهم وغضبهم على آل سعود. ومن ثم التمهيد لانفصال هذه المحافظة عن السعودية وإعادة إلحاقها وإدماجها في اليمن.
أما بخصوص سيناريو الخريطة الجديدة بالنسبة لإيران، فهو يشابه في ضرره ما سيلحق السعودية أو يزيد، بحيث يلحقها الاقتطاعات الآتية :
جزء كردى يلتحق بـ"الدولة الكردية"، و"دولة شيعية عربية"، و"دولة بلوشية"، ودفع "الأقلية الأذربيجانية" للانفصال - حدثت بالفعل توترات كبيرة في هذه المنطقة مؤخرا ، وفي نفس الوقت، يتم اقتطاع جزء من أفغانستان الذي توجد به "أقلية شيعية" كي يتم إلحاقه بإيران الجديدة. كما يرى التقرير ضرورة اقتطاع أجزاء من باكستان وإلحاقها بأفغانستان الجديدة.
وبطبيعة الحال، يتم تبرير هذا التقسيم ومنطق الحدود الذي يتضمنها "مشروع الشرق الأوسط الجديد" استناداً للدعاوى الآتية :
1- لم تعد الحدود الموروثة عن الاستعمار البريطاني والفرنسي تفي بضمان مصالح الإمبراطورية الجديدة وممارستها الوصاية على الممرات البحرية والبرية على نحو كامل، ويتم ترجمة ذلك بلغة دبلوماسية، مفادها "أن الحدود الإقليمية الموروثة غير عادلة وأضرت كثيراً بالعديد من الأقليات والطوائف"...
2- منطق الجغرافيا السياسية الحالية في "الشرق الأوسط" تمت لصالح طوائف ومذاهب بعينها كرست الاستبداد والاستحواذ على السلطة، لذلك يجدر إعادة التوازن برسم "خريطة جديدة تمكن أقليات وطوائف ومذاهب لعب دور التوازن". ومؤدى هذا الأمر إضعاف الدول الوطنية الحالية وتحويل المنطقة إلى أشبه بمقاطعات... دائماً بحاجة إلى الحماية الأمريكية.
3- بدعوى أن العديد من الأقليات والطوائف تتحمل وزر الحدود الحالية، يجب تغيير الحدود السياسية وفق منطق طائفي يجعل في نظرها الحدود الجديدة أكثر ثباتاً وأمن الدول أكثر استقراراً ، ويشير التقرير إلى كثير من الأمثلة مثل ما لحق يوغوسلافيا من تفتيت وما تمخض عنه التقسيم: كوسوفو، صربيا وما جرى أيضاً في القوقاز.
4- الحدود الحالية في "الشرق الأوسط" تخدم أنظمة أقلية تسيطر على الدولة - الأمة وتستفرد بثرواتها على حساب الأقليات القومية والدينية والعرقية، ما يولد رد فعل لدى هذه الأقليات ويدفع العديد من أفرادها لحمل السلاح والتطرف.
وبإيجاز شديد، هكذا، انقلب مشروع "نشر الديموقراطية" على ظهر دبابة إلى مشروع طائفي وعرقي بامتياز، حيث يتم تسويغ مفاهيم حقوق الأقليات والمطالبة بالتوازن ورد الاعتبار للأقليات - الأكراد، البلوش، الشيعة العرب، المسيحيين...- كي يتم صياغة خريطة "الشرق الأوسط الجديد".
وبالعودة إلى ما سبق هذا التقرير من مشاريع سبقته وتحمل نفس المضمون، سنجد دراسة زاشاري لطيف التي تم نشرها سنة 2002، أي قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، لتكون دليلا على أن يتم التخطيط له في البنتاغون ينفذ بالفعل في آخر المطاف. فقد اقترحت هذه الدراسة التي طبق "الحاكم المدني بريمر" بعض ما ورد فيها تقسيم العراق طائفيا وإخراج بدائل سياسية عرقية ومذهبية في كل من شمال ووسط وجنوب العراق، وقد شددت نفس الدراسة على ضرورة إعادة تشكيل خريطة العراق وإيران والسعودية وتقسيمها إلى عدة دويلات.
ـ الوجه الثاني لمشروع (رالف بيتر) :
أنه يجمع في محتوياته أيضاً ما كان قد اقترحه "شيمون بيريز" سنة 1992، للإجهاز على ما تبقى من لحمة "جامعة الدول العربية" المعطوبة وضم دولها إلى حظيرة "سوق مشتركة في الشرق الأوسط" تضمن من خلالها "إسرائيل" الاعتراف والتطبيع والريادة. غير أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وفشل محاولات بيل كلينتون في "الشرق الأوسط" قبر المشروع في ذلك الوقت.
ولكن، يبدو أن الوقت قد حان، للبدء بمحاولات جديدة لمشروع " الشرق الأوسط الجديد " كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس . (3)(7/34)
وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال : 30 ) ، ويقول تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 )
إن هذا المكر الغربي الخادع بهذه المشارع التقسيمية الإحتلالية وغيرها مما سيأتي غداً ، هو بحاجة ماسة من كل مؤمن غيور إن يدفعه بقوة بمشروع مضاد له ، يجمع الأمة الإسلامية ويشد من قوتها ، ويستوعب طموحاتها ، وليس ثمة مشروع يحقق الهدف ممثل مشروع الأمة الإسلامية من جديد ، وهذا المشروع الرباني هو ما تبشر به هذه الرسالة .
المحور الثاني : التعريف بالأمة الإسلامية .
أولاً : في اللسان العربي المقصود بالأمة : الجماعة . (4)
ثانياً : أقسام الأمة :
الأمة قسمان :
القسم الأول : أمة الدعوة ، وتشمل الثقلين جميع الإنس والجن ، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) . (5)
والقسم الثاني : أمة الإجابة ، وهي الأمة التي استجابت للدعوة الإسلامية ، ونسبتها إلى الإسلام لتمسكها به ، وكل من أستسلم لله تعالى بالتوحيد وانقاد له بالطاعة وخلص من الشرك دخل في جماعة المسلمين ، قال الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وعن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إنه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ) .(6)
والأمة الإسلامية بهذا الوصف تشمل البر وغيره ، كما قال تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر : 32 ) وبهذا أفادت الأخبار النبوية ، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق ) . (7) ، وهذه الأمة هي أعز الأمم على الله تعالى ، وآخرها بقاء ، وأكثر الأمم دخولاً الجنة ، كما قال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (آل عمران : 110 ) وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عرضت علي الأمم فأجد النبي يمر معه الأمة ، النبي يمر معه النفر ، والنبي يمر معه العشرة ، والنبي يمر معه الخمسة ، والنبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير قلت : يا جبريل هؤلاء أمتي ؟ قال لا ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قال : هؤلاء أمتك ، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب ، قلت : ولم ؟ قال : كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) . فقام إليه عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( اللهم اجعله منهم ) . ثم قام إليه رجل آخر قال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( سبقك بها عكاشة ) . (8) ، وعلى التحقيق فأول هذه الأمة خير من أخرها وفي كل خير كما جاء عن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلوني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) (9) وأما عن بقائها فقد جاء عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(10)
والجدير بالذكر هنا أن هذه الأمة يدخل فيها ظاهراً من ليس منها باطناً كالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ، وكذا يدخل فيها من أهل البدع طوائف كثيرة ، وهم يقربون ويبتعدون عن الإسلام بحسب قربهم منه وبعدهم عن هدي النبوة النقي ، كما قال تعالى : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )(البقرة : 14) وعن أهل البدع جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) .(11)
وفي الجملة لكل طائفة من الطوائف التي تنتسب للإسلام حقها من الولاء والبراء بقدر قربها وبعدها من السنة النبوية ولا ينكر ما معها من الحق ، وتؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
المحور الثالث : مقومات الأمة الإسلامية .
لم تقم أمة من الأمم قديماً أو حديثاً إلا بمقومات تتظافر في لم شعثها ووحدة كلمتها ومواقفها ، وهذه المقومات كالآتي :
الأول : العقيدة التي تؤمن بها الشعوب وتقدسها وترتبط بها .(7/35)
وعلى وجه اليقين التام ليس ثمة عقيدة تصدق بها النفوس ، وتطمئن لها القلوب ، وتزكي الروح والجسد ، وتبني الدنيا والآخرة ، وتجيب عن كل التساؤلات عن الله تعالى ، وما يجب له وما يمتنع عليه ، وعن الحياة والكون وما فيها ، والموقف من ذلك كله ، وعن المصير ، سوى هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة ، كما قال تعالى على لسان رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام : 161 ) ، وكما قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام : 162 ) ، إن هذه العقيدة هي التي سلمت من التحريف والتغيير والتبديل ، وهي التي تشبع حاجات الروح والجسد معاً ، وهي التي تلبي نداء الفطرة ، كما أكد الشرع الحنيف أن كل إنسان فطر مسلماً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه كان يحدث قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) . ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم : 30 ) ، (12) ، ثم عقب علماؤنا على هذا الحديث العظم ببيان يؤكد هذا المعنى ، فقال النووى ـ رحمه الله تعالى ـ : ( يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً حسب ملتهما بترغيبهما له في ذلك أو بتبعيته لهما ، ( تنتج البهيمة ) تلد الدابة العجماء ، ( بهيمة جمعاء ) تامة الأعضاء مستوية الخلق ، ( تحسون ) تبصرون ، ( جدعاء ) مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك أي إن الناس يفعلون بها ذلك ، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة . ( اقرؤوا إن شئتم ) أن تتأكدوا هذا المعنى . ( فطرة الله ) ملة الإيمان والتوحيد ومعرفة الخالق سبحانه . ( فطر الناس ) خلقهم . ( الآية ) (13) ، إن هذه العقيدة هي التي تحقق للعبد عبوديته لله تعالى كما أراد الله تعالى لا كما أراد العبد والتي مصادرها الكتاب العزيز ، والثابت من السنة النبوية ، بدلالة اللغة العربية ، وفي ضوء فهم السلف الصالح لها لا غير ، وفي معنى العبادة كلام نفيس لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يعلن أن العقيدة الصحيحة هي تحرر العباد من كل طاعة إلا طاعة الله وحده وما أمر بطاعته في المعروف ديناً قال : التحقق بمعنى قوله : " إني أعبدك " : التزام عبوديته من الذل و الخضوع و الإنابة ، و امتثال أمر سيده ، و اجتناب نهيه ، و دوام الافتقار إليه ، و اللجوء إليه ، و الاستعانة به ، و التوكل عليه ، و عياذ العبد لربه ، و لياذه به ، و أن لا يتعلق قلبه بغيره محبة و خوفاً و رجاءاً ، و فيه أيضاً : إني عبد من جميع الوجوه : صغيراً و كبيراً ، حياً و ميتاً ، مطيعاً و عاصياً ، معافى و مبتلى ، بالروح و القلب و اللسان و الجوارح ، و لا حياة و لا نشوراً ، و أن ناصيتي بيدك ، أنت المتصرف فيَّ تصرفني كيف تشاء ، لست أنا المتصرف في نفسي و كيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه و سيده ، و ناصيته بيده ، و قلبه بين أصبعين من أصابعه ، و موته و حياته ، و سعادته و شقاوته ، وعافيته و بلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلي منه شيء ، بل هو في قبضة سيده أضعف من عبد مملوك ضعيف حقير ، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له ، تحت تصرفه و قهره ، بل الأمر فوق ذلك ، و متى شهد العبد أن ناصيته و نواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ، و لم يرهبهم ، و لم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين ، المتصرف فيهم سواهم ، و المدبر لهم غيرهم ، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره و ضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له ، و متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم و لم يتعلق أمله و رجاءه بهم فاستقام توحيده و توكله و عبوديته (14) . و قد أبان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه العقيدة بما لا مزيد عليه .
فقال : أهل السنة و الجماعة : " الفرقة الناجية " وسط في النحل كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله و رسله و عباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى ، و لم يجفوا عنهم كما جفت اليهود ، و هم وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء و يمحو ما شاء و يثبت ما شاء ، كما قالته اليهود ، و لا جوزوا لأكابر علمائهم و عبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا ، و ينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى .
و هم كذلك وسط في باب صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، و النصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به ، هذا في باب يطول حصره .
و أما أهل السنة و الجماعة في الفرق فهم وسط كذلك ، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله و آياته و يعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه ، حتى يشبهوه بالعدم و الموات ، و بين أهل ( التمثيل و التشبيه ) الذين يضربون له الأمثال و يشبهونه بالمخلوقات . و أما هم : فيؤمنون بما وصف الله به نفسه و ما وصفه به رسوله – r – من غير تحريف و لا تعطيل و لا تكييف و لا تمثيل .
و أما في باب الخلق و الأمر ، فهم وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة و مشيئته الشاملة و خلقه لكل شيء ، و بين المفسدين لدين الله الذين لا يجعلون له مشيئة و لا قدرة و لا عملاً فيعطلون الأمر و النهي و الثواب و العقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : ] لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [ [ الأنعام / 148 ] .
و أما أهل السنة و الجماعة فوسطيتهم في إيمانهم بأن الله على كل شيء قدير ، فيقدر أن يهدي العباد ، و يقلب قلوبهم ، و أنه ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد و لا يعجز عن إنفاذ أمره و أنه خالق كل شيء من الأعيان و الصفات و الحركات ، كما يؤمنون في الوقت نفسه أن العبد له قدرة و مشيئة و عمل و أنه مختار ، و لا يسمونه مجبوراً ( أي فيما كلف به ) إذ إن المجبور من أكرة على خلاف اختياره ، و الله سبحانه و تعالى جعل العبد مختاراً لما يفعله فهو مختار مريد ، و الله خالقه و خالق اختياره .
و هم في باب الأسماء و الأحكام و الوعد و الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار و يخرجونهم من الإيمان بالكلية ، و يكذبون بشفاعة النبي – r – و بين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، و الأعمال الصالحة ليست من الدين و الإيمان ، و يكذبون بالوعيد و العقاب بالكلية ، فيؤمن أهل السنة و الجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان و أصله ، و ليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة ، و أنهم لا يخلدون في النار ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان .(7/36)
و هم في أصحاب رسول الله – r – وسط بين الغالية الذين يغالون في علي – رضي الله عنه – و أهل البيت ، فيفضلون علياَّ على أبي بكر و عمر ، و يعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، و أن الصحابة ظلموا و فسقوا ، و كفروا الأمة بعدهم كذلك ، و ربما جعلوه نبياً و إلهاً ، و بين الجافية الذين يعتقدون كفره و كفر عثمان ، و يستحلون دماءهما و دماء من تولاهما ، و يستحبون سب علي و عثمان و نحوهما ، و يقدحون في خلافة علي – رضي الله عنه – و إمامته .
[ وهم وسط في تعاملهم مع الحاكم المسلم بين الغلاة والجفاة }، الغلاة الذين أطاعوا في المعصية وأقروا بالباطل ودعوا إليه ، وبين الجفاة الذين عصوا في المعروف فلم يقدروا المصالح والمفاسد ].
و وسطيتهم في سائر أبواب السنة راجع لتمسكهم بكتاب الله تعالى و سنة رسوله – r – و ما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان (15) .
الثاني من مقومات الأمة : الأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها .
إذا لم يكن هناك أرض يملكها الإنسان ، فيها متاعه وعليها استقراره وتكاثره ، بحيث تستوعب نشاطاته وطموحاته ، فليس ثمة أمة على الحقيقة ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة : 36 ) ، وقد حرص الإسلام كل الحرص على تحقق هذا المقوم حيث عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل ليوفر لأتباعه أرضاً تمكنهم من تكوين أمة فاعلة في الحياة ، وكان السبق والفضل للأنصار في المدينة النبوية مهاجره صلى الله عليه وسلم ، كما حكى الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال : 74 ) وهكذا امتدت الأرض بامتداد الأمة الإسلامية التي رضيت به ديناً ، فكانت كلها أرض للجميع يملكها وينعم بها ويستميت في الدفاع عنها ، ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه أنزلها أحسن أرض وأوسطها ، وأكثرها مقدرات متنوعة ، بحيث تسهم بشدة في استقراره وحسن عيشه .
الثالث من مقومات الأمة : الإنسان الذي تتألف منه الأمة .
والإنسان محور أصل في الأمة إذ بمجموعه تكن الأمة ، وتكاثره وتناسله والحفاظ على وجوده صحيحاً سليماً يمكن من وجود أمة عزيزة منيعة ، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توافره وتكاثره ، فعن معقل بن يسارـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال : ( لا ) ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . (16)
ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنها وبرغم ما يراد لها من تقلص عددي إلا أنها أكثر الأمم قاطبة ، ومن أعاجيب الدنيا الآن أن يصبح تناسل الإنسان المسلم عند من لا بصيرة له كارثة يجب الحد منها خلافاً للأمم الأرض قاطبة التي تسعى بكل ما أوتيت أن تكون كتلة بشرية هائلة تكن مصدر وجود وقوة لها .
الرابع من مقومات الأمة : العزة والحمية الإيمانية القوية .
إن الأمة المنيعة من أطماع الآخرين وبطشهم ، هي الأمة التي حرمت على نفسها الاستخذاء والجبن والخور ، وامتلأت قلوب أفرادها بالعزة والشهامة والشجاعة والحمية الإيمانية ، المقرونة بأسباب القوة المادية والمعنوية ، والتي ترخص الحياة عند أهلها إذا تعرضت لهوان ، كما قال تعالى : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (المنافقون : 8 ) ) وقد نهى الله تعالى عباده الخلص عن الوهن وبشرهم بالعلو و الرفعة إن هم صدقوا في إيمانهم ، فقال جل ذكره : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) وحذر الله تعالى من ابتغاء العزة من الكافرين فقال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء : 139 ) وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (الممتحنة : 1 وأبان جل في علاه أن الإستقواء بغير المسلمين محرم على أهل الإيمان وأنه سمة أهل القلوب المريضة ، كما قال تعالى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة : 52 ) وخروجاً من الضعة والاستعباد لغير الله تعالى أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بأسباب القوة حتى أقام أمة لم تزل مضرب المثل لكل منصف ، ففي حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ) . (17) وكل من مكن لعقيدته ، وعظمت عنده حريته، واستغنى عن غيره ، و رد العدوان عن نفسه وعقيدته ومقدراته ، فهو العزيز القوي حقاً ، وهكذا يجب أن تكون أمة الإسلام اليوم كما كانت بالأمس عزيزة منيعة حرة ، ومن العجب العجاب أن بعض أبناء الأمة الإسلامية يشك في إمكانية عزة الأمة ووحدتها الآن ، وكأنه بمغيب عن تجارب الأمم المعاصرة مع فساد المعتقد وبعد الروابط إلا أنها تمكنت من بناء أمة كالصين والهند وغيرهما .
الخامس من المقومات : النظام السياسي الذي يمثل الأمة :
يختلف النظام السياسي في الإسلام عن غيره من النظم الأخرى جملة وتفصيلاً ، ونجمل ذلك الاختلاف في الآتي :
1 . أن النظام السياسي في الإسلام يجعل الأمر والحكم لله تعالى ، لأنه هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم في العاجل والأجل ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 54 ) ، ومن الأمر الحكم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 70 ) .(7/37)
2 . أن النظام السياسي في الإسلام يتخذ الكتاب العزيز والثابت من السنة النبوية مصدرا التشريع في النظام السياسي الإسلامي ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء : 105 ) ، وقال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة : 44 )
3 . أن النظام السياسي في الإسلام يقيم العدل في الحكم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : 58 ) .
4 . أن النظام السياسي في الإسلام يرعى الدين والدنيا ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج : 41 ) ، وقال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص : 83 ) .
5 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على الشورى ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وقال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران : 159 ) . وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : ( من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين ، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ) . (18)
6 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مبدأ الخلافة أو الإمامة لا الملك العضوض المتوارث ، وهي عقد طرفه بيد الأمة ، وطرف آخر بيد من توافرت فيه شروط الإمامة ، يكون كالوكيل عنها من غير أن يفتات على مشاورتها في ما تتطلبه الشورى ، كما قال تعالى : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص : 26 ) ، وقال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وعن أبي مسعود قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل . فكلمه . فجعل ترعد فرائصه . فقال له: ( هون عليك . فإني لست بملك . إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) . (19)
7 . أن النظام السياسي في الإسلام يوجب إقامة خليفة أو إمام للأمة الإسلامية ، وعلى هذا اتفقت جميع طوائف المسلمين من إقامة إمام عادل يقيم في الأمة أمر الله تعالى ، ويسوسها بأحكام الشريعة . (20)
8 . أن النظام السياسي في الإسلام اشترط شروطاً في الإمام العادل وأوجب توافرها ، وهي : الإسلام ، والذكورية ، والحرية ، والتكليف ، والعلم ، والعدل ، والكفاية ، والسلامة ، والقرشية إن أمكن . (21)
9 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يعقد الإمامة لأحد ما لم تبايعه الأمة عن رضاً واختيار . وكان هذا واضحاً عند الصحابة رضي الله عنهم ، كما جاء عن(7/38)
أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أيها الناس هذا علي بن أبي طالب فلا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار من أمره ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم إياي فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه فلما سمع ذلك علي من قوله تحلل عنه ما كان قد دخله فقال لا حل لا نرى لها غيرك فمد يده فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه وقال جميع الناس مثل ذلك فردوا الأمر إلى أبي بكر ) . (22). وعن أبي السفر أن أبا بكر أشرف من كنيف أو رفيف وأسماء بنت عميس هي ممسكته وهي موشومة اليدين : ( أترضون بمن استخلف عليكم فوالله ما ألوت ولا تلوت ولا ألوت عن جهد رأي ولا وليت ذا قرابة استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا قالوا سمعنا وأطعنا ) . (23) وفي قوله أترضون دلالة على أن البيعة لا تنعقد للإمام إلا برضا الناس واختيارهم ويؤكد ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم ، : ( فلما دفن عمر ـ رضي الله عنه ـ جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ، ويقال في بيت المال ، ويقال في حجرة عائشة بإذنها ، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم ، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، فجلسا بالباب فحصبهما سعد واقامهما ، وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى ، فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ، فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها ، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون ، فقال عبدالرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها ، على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : فأنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أول من رضي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، فقال القوم : قد رضينا ، وعلي ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة ، فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا ألو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله ، فقال : لعلي إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد ؟ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ قال : عثمان ، وخلا بعثمان ، فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن عمه لي سابقة وفضل لم تبعد ، فلن يصرف هذا الأمر عني ؟ ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال : علي ، ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان ، فقال : عثمان ، ثم خلا بسعد ، فكلمه فقال : عثمان ، فلقي علي سعداً ، فقال : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبدالرحمن لعثمان ظهيراً علي ، فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان ، ودار عبدالرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ، وأشراف الناس يشاورهم ، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان ، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل ، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض ، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان ، فقال له : خل ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال : نصيبي لعلي ، وقال لسعد أنا وأنت كلالة ، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال : إن اخترت نفسك فنعم وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي أيها الرجل ، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا قال : يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها علي أن أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل فلم أر فحلا قط أكرم منه ، فمر كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها لم يعرج ، ودخل بعير يتلوه ، فاتبع أثره حتى خرج من الروضة ، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه يلتفت يميناً وشمالاَ ويمضي قصد الأولين حتى خرج ، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ، ولا والله لا أكون الرابع ، ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه ، قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك ، فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي ، فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيهما حتى فرق بينهما أذان الصبح ، فقال عمرو بن ميمون قال لي عبدالله بن عمر: يا عمرو من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبدالرحمن بن عوف علياً وعثمان فقد قال بغير علم ، فوقع قضاء ربك على عثمان فلما صلوا الصبح جمع الرهط ، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد ، فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله ، فقال : أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم ، وقد علموا من أميرهم ، فقال سعيد بن زيد إنا نراك لها أهلاً ، فقال : أشيروا علي بغير هذا ، فقال عمار : إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع علياً ، فقال المقداد بن الأسود : صدق عمار إن بايعت علياً قلنا سمعنا وأطعنا ، قال ابن أبي سرح : إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبدالله بن أبي ربيعة : صدق إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا ، فشتم عمار ابن أبي سرح ، وقال متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقال عمار أيها الناس إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت منكم ، فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبدالرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ، فقال عبدالرحمن : إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ، ودعا علياً ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان ، فقال له مثل ما قال لعلي ، قال نعم فبايعه ، فقال علي حبوته حبو دهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم هو في شأن ، فقال عبدالرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج علي وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله ، فقال المقداد : يا عبدالرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين ، قال إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدا أعلم ولا اقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً ، فقال عبدالرحمن : يا مقداد اتق الله ، فإني خائف عليك الفتنة ، فقال رجل للمقداد : رحمك الله من أهل هذا البيت ، ومن هذا الرجل ؟ قال : أهل البيت بنو عبدالمطلب ، والرجل علي بن أبي طالب ، فقال علي : إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها ، فتقول إن ولي عليكم بنو هاشم(7/39)
لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم ، وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان ، فقيل له بايع عثمان ، فقال : أكل قريش راض به ، قال : نعم ، فأتى عثمان ، فقال له عثمان أنت على رأس أمرك إن أبيت رددتها ، قال أتردها ؟ قال : نعم ، قال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم ، قال : قد رضيت لا أغرب عما قد أجمعوا عليه وبايعه ) . (24) ولما قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ذهب الصحابة ـ رضي الله عنهم إلى علي يعرضون عليه أن يبايعوه ، فقال : ( لا حاجة لي في أمركم ، فترددوا مراراً وصمموا على مبايعته ، فقال : إذن في المسجد ، فاجتمع الناس وبايعوه ) . (25)
10 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يقر توريث الخلافة أو الإمامة ولا ولاية العهد لأحد بعد الإمام ، كما تفعل الملوك ، لأن ذلك مخالفة صريحة للشورى التي أمر الله بها المؤمنين في كل أمر ذي بال ، ولا شك أن أمر الإمامة والخلافة من أهم الأمور ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وهكذا فهمت الأمة هذا الحق ، كما جاء ( أن مروان لما تكلم في البيعة ليزيد بن معاوية قال سنة أبي بكر وعمر فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر بل سنة هرقل ) . (26) وكان خير مثال لرد الأمر إلى نصابه ما فعل عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لما استخلفه سليمان بن عبد الملك ، صعد المنبر وقال : ( إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنتم بالخيار ) وفي رواية ( أيها الناس إني قد
ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ) . (27)
11 . أن النظام السياسي في الإسلام يحدد حقوق الأمة و حقوق الإمام ، فحقوق الأمة على الإمام رعاية الدين ، وسياسة الدنيا به ، وحفظ الأمة وحمايتها ، ورعايتها وحماية مصالحها ، وحقوق الإمام على الأمة السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، في غير معصية الله تعالى .
المحور الرابع : سمات الأمة الإسلامية . وفيه :
أولاً : إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة .
إن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والطاعة هو أعظم سمات الأمة الإسلامية ، وهو أول واجب على المكلف وآخر واجب عليه ، وهو تحقيق لمعنى لا إله إلا الله ، تلك الكلمة العظيمة التي حررت الإنسان من غير طاعة الله تعالى وعبادته ، كما قال تعالى ( قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ) ، وقال تعالى : ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا
عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) (محمد : 21 ) ، وللأسف الشديد فقد خرج عن مفهوم الطاعة لله تعالى من أطاع غيره في معصية الله تعالى وليس في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء : 59 ) حجة له لأن الطاعة في الآية لغير الله تعالى مقيدة بما عرف حسنه شرعاً ، دل على ذلك بوضوح حديث علي ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد ناراً وقال ادخلوها فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا قد فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها : ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة ) وقال للآخرين قولا حسنا وقال ( لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) . (28) وقد أكد المحققون من العلماء أن طاعة غير الله تعالى فيما حرم الله تعالى شرك ، مستدلين على ذلك بحديث عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم و في عنقي صليب من ذهب فقال : ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ) فطرحته فانتهيت إليه و هو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة : 31 ) حتى فرغ منها فقلت : إنا لسنا نعبدهم فقال : ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه و يحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ ) قلت بلى قال : ( فتلك عبادتهم ) . (29) ، ويستوي في ذلك طاعة العلماء والأمراء وغيرهم من أهل الأمر والنهي ، ومع بالغ الأسى فإن هذا النوع من التوحيد يكاد يكون غائباً الآن ، أو يراد له أن يغيب ، ولازم ذلك ما نال جموعاً من هذه الأمة من الخروج عن الطاعة الحق إلى الطاعة المحرمة ، مما جعلها تتنكب الصراط المستقيم ، وترتمي في رغبات وأهواء من لا يستطيع أن يبرها كبرالله تعالى بها ، ولا يرعى مصالحها ، كرعاية الله لها ، إن الطاعة المطلقة لغير الله تعالى في ما حرم الله تعالى ، هي تحكم في عباد الله تعالى ، وتعبيدهم لغيره جل وعز ، والله تعالى يأبى ذلك على المؤمنين مهما نالهم من ذلك ، إن مثل هذه الطاعة في واقعنا المعاصر أفسدت الدين والدنيا معاً ، فغدت أمة الإسلام شذر مذر كل قطر له من يأمره وينهاه ، فتفرقت الجموع وتنازعت الفئات ، ورضي كل فريق بما معهم من الطاعة فما رفعت بذلك رأساً ولا بنت به مكرمة .
ثانياً : إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه .(7/40)
السمة الثانية من سمات الأمة الإسلامية : هي إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، لأنه النبي والرسول والأمام والقائد والمعلم الذي ارتضاه الله لها قدوة ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب : 21 ) ، فطاعته من طاعة الله تعالى ، كما قال تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (النور : 54 ) ، وعن عرباض بن سارية قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب ، قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال : ( ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وان كل بدعة ضلالة ) (30) وهذه القدوة والأسوة يجب أن تكون في جميع مناشط الحياة من عبادة وسياسة واقتصاد واجتماع وغيرها ، وللأسف الشديد فقد انحسر مفهوم القدوة والطاعة النبوية في العبادة فقط دون السياسة والاقتصاد والاجتماع الآن في واقع الأمة الإسلامية ، مما جعلها متذبذبة في القدوة بين المذاهب العالمية ، حتى كاد يستقر بها الحال إلى اتباع الغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، وصدق عليها حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ) ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال ( فمن ) (31) ، وما دام الحال هكذا بعداً عن إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الأمة ستتفرق عن القدوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعندها لن تكون أمة أسلامية واحدة أبداً ، حتى تعود إلى إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً في العبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
ثالثاً : القيام بالعدل والإحسان .
ومن سمات الأمة الإسلامية القيام بالعدل والإحسان ويتأتى العدل في كل مجال من عقائد و شرائع و سير مع الناس في الأمانات و ترك الظلم و الإنصاف و إعطاء الحق (32) .
كما قال الله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ [ النحل / 90 ] فهذه الآية عامة في كل ما يفتقر صلاحه إلى العدل ، لأن الألف و اللام فيه للعموم ، كما يشعر بذلك حذف المعمول (33) .
فشملت العدل بين العبد و بين ربه ، و ذلك بإيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، و تقديم رضاه على هواه ، و الاجتناب للزواجر ، و الامتثال للأوامر ، و ذلك لمقتضى خلق الله تعالى له حيث جعل الغاية من خلقه عبادته تعالت ، كما قال سبحانه : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ [ الذاريات / 56 ] والعدالة تقتضي القيام بعبادة الله على النحو الذي ذكر، و من لم يفعل كان مفرطاً ، و ذلك هو الظلم بعينه .
و شملت العدل بينه و بين نفسه ، و ذلك بمنعها عما فيه هلاكها كما قال الله تعالى : ] وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [ [ النازعات / 40 ] و عزوب الأطماع عن الإتباع ، و لزوم القناعة في كل حال و معنى ، لأنه إذا لم يفعل ذلك جرته نفسه إلى إتباع الهوى، و ارتكاب حدود الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ] إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو?ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي? [ [ يوسف / 53 ] ، و إذا فعل ما أمرته كان مجانباً
للعدل معها ، كما قال الله تعالى : ] وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [ [ الطلاق/1 ] .
و شملت العدل بينه و بين الخلق ، و ذلك ببذل النصيحة لهم ، و ترك خيانتهم فيما قل أو كثر ، و الإنصاف من النفس لهم بكل وجه ، و لا يوصل إلى أحد مساءة بقول و لا يفعل ، لا في سر و لا علن ، و الصبر على ما يصيبه منهم من البلوى و إذا لم يفعل ذلك فلا أقل من الإنصاف من النفس و ترك الأذى (34) . و من الآيات العامة في العدل قوله تعالى : ] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [ [ الأعراف / 29 ] . و قوله تعالى : ] لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [ [ الحديد / 25 ] .
ومن الواضح أن الإحسان درجة أعلى و دائرة أشمل من العدل ، لأن العدل يعني أن يأخذ الإنسان ماله و يعطي ما عليه ، و الإحسان يعني أن يأخذ الإنسان أقل مما له و أن يعطي أكثر مما عليه ، فالإحسان بذلك زائد على العدل ، و العدل يكون في الأحكام و الإحسان يكون في المكارم ، و إذا كان تحري العدل من الواجبات فإن تحري الإحسان ندب و تطوع ، و كلاهما مأمور به في قوله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [ [ النحل / 90 ] . و بالعدل و الإحسان يستحق العبد الخلافة في الأرض و عمارتها ، و غاية الإحسان أن يقع من الإنسان أفضل الإحسان من غير فكر و لا روية كأنه مطبوع عليه (35) .
شمول الإحسان :
من البين للباحث المدقق في النصوص الكريمة الواردة في الإحسان أنه مع العدل يشكل مضامين العلاقة مع الإنسان نفسه و الإنسان الآخر و أحكامها ، و أن دائرة هذا الإحسان تتسع لتشمل النفس و الأسرة و الأقارب ثم المجتمع و الإنسانية عامة ، و الحياة بأسرها .
فالدائرة الأولى : و هي دائرة الإحسان إلى النفس ، و تتضمن كمال الطاعة و إتقانها و إخلاصها لله تعالى على أكمل وجه و كأن الطائع يرى ربه تعالى ، كما تتضمن القيام على شؤون نفسه بما يصلحها في الظاهر و الباطن . قال الله تعالى : ] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [ [ الإسراء / 7 ] .
أما الدائرة الثانية : فتشمل الإحسان إلى القرابة الأدنين و هم الوالدان ، و الزوجة ، و الأولاد . قال الله تعالى : ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو?اْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [ [ الإسراء / 23 ] .
أما الدائرة الثالثة : فإنها تشمل الإحسان إلى القرابة الأبعد من الوالدين ، و الزوجة ، و الأولاد ، و هم الإخوان و الأخوات و الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات و أبناؤهم و بقية الأنساب و الأصهار . قال الله تعالى : ] وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي? إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى [ [ البقرة / 83 ] .(7/41)
أما الدائرة الرابعة : فهي أوسع من سابقتيها فإنها تضم الإحسان إلى المسلم و تشمل الجيران ، و الإخوان في الله و بقية أفراد المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان و الإحسان هذا أكثر ما ينصب على الجانب الفقير في المجتمع ، كاليتامى و المساكين و ابن السبيل و المماليك . قال الله تعالى : ] وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [ [ النساء / 36 ] و في الآية أمر بالإحسان إلى من ذكر ، و نهى عن الترفع عنهم كبراً و اختيالاً .
أما الدائرة الخامسة : و هي الأوسع في العلاقات الإنسانية فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة الذين لا يدينون بدين الإسلام غير المحاربين للمسلمين قال الله تعالى : ] لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (36) [ الممتحنة / 8 – 9 ] .
و أما الدائرة السادسة : و هي الإحسان مع غير الإنسان و تضم الإحسان إلى الملائكة الكرام – عليهم السلام – و النباتات و الحيوانان و الجمادات و غيرها
فلا نؤذي الملائكة بمنظر أو ريح كريه ، ولا النبات والحيوان والجماد بالإفساد .
رابعاً : الحرص الشديد على التعاون البر والتقوى .
ومن سمات الأمة الإسلامية ، الحرص الشديد على التعاون على جميع خصال الخير ، في الدنيا والآخرة ، وعمل كل ما من شأنه تحقيق تقوى الله تعالى بالتواصي بالحق والصبر عليه ، كما قال تعالى : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة : 2 ) ، وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وقال تعالى : (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر : 3 ) ، إن هذه السمة ضرورة لإقامة أمة أسلامية حقيقية ، لأن الإنسان لا يستطيع بمفرده الاستقلال بمصالحه الدينية والدنيوية ، فكان لا بد من تعاون وتكافل وتآزر يمكن من لم الشعث وتحقيق المصالح تعبداً لله تعالى ، وقياماً بواجب الأخوة الإيمانية ، بعيداً عن المتاجرة والمعاوضة ، يؤيد ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس قال : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، قال : والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . (37) ، والسلامى : هي مفاصل العظام في الإنسان ، ونختم هذا المحور بالتأكيد الشديد أن توافر العقيدة التي تطمئن الشعوب إليها ، والأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها ، و الإنسان الذي تتألف منه الأمة ، والعزة والحمية الإيمانية القوية ، وإفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة ، وإفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، والحرص على التعاون البر والتقوى ، هي أهم المقومات والسمات لقيام أمة إسلامية صحيحة الجسد فاعلة في الحياة نشطة ، تستحق خلافة من سبقها من القرون المفضلة في صدر الإسلام .
خامساً : عدم التشبه بالكافرين .
من السمات الفيصل بين أفراد الأمة الإسلامية وجماعتها وأنماط حياتها ، وبين أفراد الأمم الأخرى وجماعاتها وأنماط حياتها ، عدم التشبه بهم ، فيما اختصوا به من عبادة وسلوك و وطرائق حياة ، يؤيد ذلك حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . (38) ، إن الإسلام بهذا الهدي المتميز يلزم أتباعه نهج الصراط المستقيم لا غير ، كما قال تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة : 6 ـ 7 ) ، وهنا يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : ( إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك ، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات ، وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك ، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة ، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ، وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له ، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها :
1. أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين ، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمر محسوس فإن اللآبس لثياب أهل العلم مثلاً يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ، واللآبس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضياً لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع .
2. أن المخالفة في الهدى الظاهر ، توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال ، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان ، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين ، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام ، الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم وبعد عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد .
3. أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية .
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم .(7/42)
وهنا نكتة وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة ، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها ، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة ، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيداً .
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس ، ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة : 3) . (39)
المحور الخامس : واجبنا تجاه الأمة الإسلامية . وفيه :
أولاً : الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية .
الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية يتخذ صوراً شتى منها :
الصورة الأولى : الدفاع عنها بالحجة والبيان والرد على الطاعنين فيها ، وهذا النوع من الدفاع هو أكبر الدفاع وأجله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين :
الأول : جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير.
والثاني : الجهاد بالحجة والبيان .
وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة : 73 ) ، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد : 25 ) فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل :
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... تميل ظباه اخدعا كل ما يل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل . (40)
والجدير بالذكر هنا أنه يجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة ، لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم ، وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر على المسلمين ،لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً ، فيدرسون هذه الآراء ، والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية ، حتى إذا صوب متقصد سهماً منها نحو التعاليم الإسلامية من معتقد وأحكام وأخلاق ، ردوها إلى نحره اعتماداً على حقائق تلك العلوم وتجاربها واستناداً على إبداء نظريات تقضي على نظريات المشككين ـ وجل الدين الإسلامي أن يصطدم مع حقائق العلوم ـ وأقاموا دون تسرب تلبيساتهم سوراً حصيناً واقياً ، وعبأوا الأمة على أنظمة يتطلبها الزمن في غير هوادة ولا توان ،ودونوا ما استخلصوه من تلك العلوم من طرائق الدفاع في كتب خاصة ، بأسلوب يعلق بالخاطر وتستسيغه العامة ، لتكون سداً محكماً مدى الدهر دون مفاجأة جوارف الشكوك ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مواقع خصبة بين المسلمين ، تنبت فيها بذور تلبيساتهم ، بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية ، بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل ، هذا ولقد غزت قلوب كثير من المسلمين عقائد وأفكار ونحل ومبادىء وأحكام وآراء ، واستولت على بعض تلك القلوب التي زين لها الشيطان أن لا تعارض بين تلك الآراء والعقائد ، وبين الإسلام ، وأن لا حرج على المسلم أن يكون مسلماً شيوعياً ، أو مسلماً علمانياً أو لبرالياً في آن واحد ، حتى خرج الإسلام من تلك القلوب وتمكن فيها الإلحاد والزندقة ،
فالواجب على كثير من المسلمين القادرين علماً وقلماً نصيباً من المؤاخذة ، على ما آل إليه قلوب كثير من المسلمين ، إن لم يقولوا ولم يدرسوا ولم يكتبوا وينشروا ، ومن الحق أن يقرأ علماؤنا خاصة ، ويقرئوا في دروسهم ويقولوا ذلك في خطبهم مما هو حق وصريح في رد الإلحاد وقمعه ) . (41)
الصورة الثانية : الدفاع بالقتال عن عقيدة الأمة الإسلامية :
إذا رأت الأمة الإسلامية أن القتال هو الحل الناجع للدفاع عن العقيدة الإسلامية فقد أذن الله بذلك ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة : 193 ) ، وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد ثلاثة أمور :
الأول : بدخول المشركين في الإسلام فتزول فتنتهم فيه .
والثاني : بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين .(7/43)
الثالث : انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم وهذا حل مؤقت في غير جزيرة العرب ، لأن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف ، كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة ، في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل في خيبر ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام ، وإما إفناؤهم بالقتل وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركي العرب الجزية ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ ، وقوله ( ويكون الدين لله ) عطف على ( لا تكون فتنة ) فهو معمول لأن المضمرة بعد حتى أي وحتى يكون الدين لله . أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده ،
فالتعريف في الدين تعريف الجنس لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج ، فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق ، واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص ، أي حتى يكون جنس الدين مختصاً بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : الحمد لله وذلك يؤول إلى معنى الاستغراق ، ولكنه ليس عينه إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصاً لله لا حظ للإشراك فيه ، والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك على الأخص لاختصاص الإسلام بها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحاً إذا كان مخلوط العناصر وتخليص بلاد المسلمين على وجه العموم . (42)
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن فئة من الأمة الإسلامية انطلت عليها دعوات الحوار مع الآخر بزعمهم مع عدم توافر شروطه التي تحقق الغرض من الحوار ، أو أخوة الأديان كما قالوا ، ولعمر الله إنها لغش و لدس للسم في العسل حتى تكون الهلكة الماحقة ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 ) .
ثانياً : الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية .
إن وجود الأمة الإسلامية مرهون بوجود أفرادها ، وزوالها مرهون بزوال أفرادها ، وقد قررت الأدلة الشرعية المتظافرة أن حياة الفرد المسلم عزيزة عند الله تعالى جد عزيزة ، فكيف بحياة جماعات من المسلمين يشردون ويقتلون ، ويسبون ويؤسرون ويفتنون ، على سمع ونظر الأمة جميعاً ، جاء ذلك صريح في حديث عبد الله بن عمروـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) . (43) وإذا كان الحال كذلك فإن الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية واجب شرعي لا مناص منه ، يؤكده الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ففي استفهام إنكاري يقول الله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء : 75 ) وليس الأمر مقتصر على فئة دون فئة بل الواجب أن تكون الأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد يتداعى بعضه لنصرة بعض كما جاء عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) (44) وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) . (45) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) . (46)
، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) . فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال ( تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) (47) ووجه الدلالة هنا وجوب نصرة المسلم و تحريم خذلانه ، وإسلامه للعدو ، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة ، والله تعالى تكفل بالنصر لمن نصر المسلمين ، فقال تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 40 وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً في الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية حيث : صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضا فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن الذين قتلهم خزاعة فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى يبيتوا خزاعة واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور فكان ذلك نقضاً للصلح الواقع يوم الحديبية فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال :
( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( كنت لنا أبا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا )
( فانصر هداك الله نصراً عتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا )
( فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل الشمس ينمو صعدا )
( إن سيم خسفاً وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا )
( إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا )
( وزعموا أن لست تدعوا أحدا ... وهم أذل و أقل عددا )
( هم بيتونا بالوتير هجدا ... و قتلونا ركعاً و سجدا )(7/44)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لا نصرت إن لم أنصر بني كعب ثم نظر إلى سحابة فقال إنها لتستهل لنصر بني كعب ( يعني خزاعة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه : ( إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح ، وسينصرف بغير حاجة ، فندمت قريش على ما فعلت ، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح ، فرجع بغير حاجة ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو معروف من خبره ، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ففتحها الله وذلك في سنة ثمان من الهجرة ) . (48)
ومما يحسن ذكره هنا أنه أذا كان من أحيا نفساً واحدة فأجره كمن أحيا الناس جميعاً فكيف بمن دافع عن وجود الأمة جميعاً ، لا شك أن أجره مضاعف بقدر ما أحيا من النفوس المسلمة ، يقول الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة : 32 ) وهنا وقفة أتسأل فيها لمن بقي في قلبه ذرة من عزة وحمية إيمانية ، أين العلماء الربانيون الذين يربون الأمة على العزة والكرامة ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ،أين العلماء الربانيون الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يبدلون الشريعة نزولاً عند رغبة أحد من الخلق ؟ أين الساسة الصادقون الذين يمثلون طموحات شعوبهم ، أين الساسة الصادقون الذين لا يستقوون بغير الله تعالى ؟ أين الساسة الصادقون الذين لا يعتزون بغير المؤمنين ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يسدون جوعها ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يجهزون الغزاة للدفاع عنها ؟ أين طلاب الحسنات والثواب المقاتلون الصابرون ، عن أنين المستضعفين والمستضعفات ؟ يقول الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج : 39 ) عجباً لأمة ربطت مصيرها بيد غيرها أو بيد واحد منها ، وتخلت عن حقوقها , وأصبحت سوقاً لباعة الكلمة والمواقف على حساب عقيدتها ووجودها ، يقررون عدوها وصديقها ، وحربها وسلمها .
ثالثاً : الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية .
لم يختلف سلف هذه الأمة على أهمية الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية أبداً ، لذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ( الفيء فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير ،ويبدأ بالأهم فالأهم من سد ثغر وكفاية أهله لأن أهم الأمور حفظ بلاد المسلمين وأمنهم من عدوهم ، وحاجة من يدفع عن المسلمين ) . (49)
وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ، و يجب على جميع أهل المكان النفير حتى تتحقق الكفاية ، أما إن كان العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين ، فهنا يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم ،
فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال ووقعة أحد من هذا الباب ، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً . (50)(7/45)
وليس القتال هنا من باب الندب بل من باب الوجوب ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة : 190 ) ، وكما قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (البقرة : 216 ) وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة :24 ) وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات : 15) و قال تعالى : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ) (محمد : 20 ـ 21 ) وهذا كثير في القرآن وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في سورة الصف التي يقول فيها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الصف 10 ـ 13 ) وكقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة 18 ـ 22 )وقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (المائدة : 54 ) وقال تعالى : (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (التوبة : 120 ـ 121 )
والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب والسنة عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ قال : بخ بخ ! لقد سألت عن عظيم ، و إنه ليسير على من يسره الله عليه ، صل الصلوات المكتوبة ، و أد الزكاة المفروضة ، أولا أخبرك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه ؟ أما رأس الأمر فالإسلام من أسلم سلم ، و عموده الصلاة ، و ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) . (51)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، و فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) (52)
وعن أبي عبس هو عبد الرحمن بن جبر ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) . (53)
عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ) . (54) عن أبي صالح مولى عثمان قال : سمعت عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) . (55)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) . (56)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : ( لا أجده ) . قال: ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر ) . قال : ومن يستطيع ذلك ! قال أبو هريرة : إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ) . (57)(7/46)
والجهاد في سبيل الله باب واسع و لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مالم يشتمل عليه عمل آخر والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة ، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما ، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في توقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات . (58)
رابعاً : الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية .
إن الله تعالى بواسع منه وكرمه ، اختار للمسلمين أواسط الأرض التي استودع باطنها الكنوز العظيمة ، وظاهرها كل ما يضمن بقاء الحياة الكريمة ، مما يمكن المسلمين من القيام بواجب الرسالة الإسلامية في يسر وسهولة ، بعيداً عن الخضوع إلى أمة من الأمم ، ولما علم العدو هذه الخاصية للأمة الإسلامية التي لا تتم للمسلمين إلا بوحدتهم الإسلامية ، سعى جاهداً في تمزيق أوصال الأمة حتى يفتقر كل قطر إلى مقوم من مقومات الحياة فلا يجدها ، ثم بحيلة ما وحسب اتفاقيات يضطره إلى تحصيلها من عنده فقط ، وتفرد هو لنهب كنوز الأمة ومقدراتها المتنوعة ، بالسطو عليها عند احتلاله لبلاد المسلمين ، أو بشرائها بثمن بخس تحت قوة الهيمنة على القرار السياسي ، ناهيك عن إفساد التربة والبذور ، والحرب على مصادر المياه ، وقبر النفايات المضرة في بلاد المسلمين مما يفسد الحرث والنسل ، إن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن أضعف قدراتها ، وعرضها لمديونيات هائلة للغرب المادي الربوي ، إن هذا الواقع يستدعي الدفاع عن مقدرات الأمة الإسلامية التي لعب بها السفهاء والحمقى والمغفلون والعملاء الذين ساهموا في سرقة تلك المقدرات وأصبحت أرصدتهم في البنوك الغربية محركاً رئيساً لاقتصادها ، وسرعان ما يغضب الغرب على أحدهم لأمر ما فيجمد أرصدته ، فلا سعد بما سرق ، ولا سلم من أثمه ، هكذا أصبحت مقدرات الأمة الإسلامية نهباً لكل طامع ، وتسعة أعشار المسلمين يعيشون تحت خط الفقر بستين درجة ، ومع هذا الحال المشين قلما تسمع حراً يطالب بحق الأمة في التصرف في مقدراتها وترشيد استهلاكها ، ومن المسلم به أن لصاحب الحق مقال ، وأن المناضلة دون أموال الأمة مشروعة ، فالله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وما يقال في المال الخاص يقال في المال العام ، كما قال تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 188 ) وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني ؟
قال قاتله قال أرأيت إن قتلني ؟ قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته ؟ قال هو في النار) . (59)
خامساً: الدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية .(7/47)
حرص الإسلام كل الحرص على إقامة جماعة واحدة تكون هي النواة الأولى للأمة الإسلامية ، ولأجل ذلك رغب القرآن الكريم في الهجرة إلى المدينة النبوية أجمل ترغيب ، فقال تعالى : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء : 100 ) ، وبهذه النواة الأولى قامت الأمة الإسلامية والدولة الأولى ، وتحددت ملامح الحكم والسياسة الإسلامية ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وقال تعالى : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (المؤمنون : 52 ) ، ويقول تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ) ، وقد امتن تعالى على المؤمنين بهذه الوحدة فقال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال : 63 ) وبهذه النصوص وأمثالها تحددت الوحدة ، وبقوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج : 78 ) ، تحددت التسمية ، فهي الأمة الإسلامية الواحدة ، وجاءت النصوص الأخرى لتبين التركيبة الجسدية والنفسية والروحية لهذه الأمة الفتية التي يتولى بعضها بعضاً بالمحبة والنصرة والتأييد والكون معها باطناً وظاهراً ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . (60) ، وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) . (61) ، ولم تكتف النصوص الشرعية بهدا القدر من الوشيجة بل جسدتها في مصطلح الأخوة الإيمانية السامي ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات : 10 ) وكان من لوازم هذه الأخوة الإيمانية النصح لها ، والقيام بحقوقها ، كما جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) . (62) ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) . (63) ، إن هذه الوحدة الإسلامية الرائعة الجميلة وإلى وقت قريب ، كانت من البدهيات والمسلمات عند المسلمين مما أغنى عن التأليف فيها أو الإطناب في الحديث عنها ، غير أن العدو المحتل مزق أوصالها ، وسدت هذه الحاجة بالقوميات والنعرات الجاهلية ، والتحزبات السياسية ، مثل الجامعة العربية ، وغيرها، فحلت القومية محل الأخوة الإيمانية ، والقطرية محل العالمية ، وملوك الطوائف محل الخلافة الإسلامية ، وفرح كل بما هو فيه ، وأغرقت الأمة في ملذات الحياة في ناحية ، وأشغلت بالسعي لسد رمق الحياة في ناحية أخرى ، وفتح باب التغريب على الجميع ، وروضت الأمة بالإعلام ، والمناهج الدراسية وغيرهما ، حتي ألفت هذا الواقع الممسوخ ، وتعاظم حكامها فكل يحكي التأريخ المجيد له ولآبائه ، وحتى لا نبخس الواقع صدقته فقد أسست رابطة العالم الإسلامي جسداً صغيراً هزيلاً بغير روح ، وزاد الأمر سوء أنها توظف لصالح جهة أو أخرى ، إن هذا الواقع المرير بحاجة ماسة إلى تغيير في الشكل والمضمون ، تغييراً مناسباً في الحال والمقال ، والزمان والمكان ، يحمل هذا التغيير الخلص من أبناء هذه الأمة يتعصبون له ويبشرون به ، ويصبرون على الأذى فيه ، مستصحبين فقه المقاربات ، لا يهدمون النافع من الواقع بل يصلحونه ويبنون عليه إن كان صالحاً ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) (الرعد : 11 ) ، هذا ومن المناسب التأكيد بأن واقع الأمة الإسلامية الآن أقرب للوحدة الإسلامية أكثر من ذي قبل ، وذلك لما رأت من فشل الطروحات القومية ، والعلمانية ، والشيوعية ، والعشائرية ، والأسرية ، التي طمست معالم هويتها الدينية ، وأسلمتها للعدو وشاركت في دفن كرامتها ، وسرقت خيراتها ، وعرضتها للإحتلال من جديد ، فبالله تعالى لا بغيره يكون النصر والظفر، وبالهدى والبينات يزول الضلال والزغل ، وبأيدي العصبة المؤمنة تكون المدافعة والمغالبة ، والله تعالى يقول : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم : 47 ) ، وقال تعالى : (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران : 160 ) ، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه كيف تكون الوحدة الإسلامية ، والمسلمون طوائف عدة ؟ والجواب أن أصول تلك الطوائف كانت في القرون المفضلة ، وقد كان هناك خطاباً شرعياً وسياسياً وقدرات مكنت من القدر الأساس وزيادة في تحقيق مفهوم الوحدة الإسلامية ، وبتحديد معالم ذلك الخطاب والقدرات يمكن أن نحقق القدر الأساس الذي يمكن من الوحدة الإسلامية ، وهذا لا يعني أن يذوب الحق في غيره بل الحق هو المثال الذي يؤمر به ويدعى إليه .(7/48)
ومن المؤكد إن الوحدة الإسلامية عائدة حقيقة ، لأنها وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد بأن الاستخلاف والوراثة في الأرض للمؤمنين ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) ، وقال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور : 55 ) ، إن هذا الوعد أنجزه الله تعالى للمؤمنين السابقين ، وهو منجز وعده الحق بالوراثة في الأرض للمؤمنين اللاحقين كما قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وبهذا الجزم صرحت السنة النبوية ، فعن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(64)
إن هذا الوعد الحق أمل لاحت بيارقه ، وسطعت شمسه ، وتهللت أساريره ، وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف : 21 )
سادساً : الدفاع عن حق الأمة الإسلامية في اختيار من يحكمها وعزله .
إن للأمة الإسلامية الحق الشرعي في اختيار من يحكمها وعزله ، وهذا الحق تقرره النصوص الشرعية بوضوح تام ، كالآتي :
1 . أنه مقتضى الشورى التي أمر الله بها ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) .
2 . أنه مقتضى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده في الحكم والإمامة ، فعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) . (65) وفي الحديث ثلاث مسائل مهمة :
الأولى : أن من الناس من فهم الحديث بوحوب الطاعة لمن تولى على المسلمين بالغلبة ، وإن لم تتوافر فيه الشروط وهذا مخالفة صريحة للنصوص
المحكمة التي تعارض ذلك ، ومن ذلك آخر الحديث الذي يفسر أوله بقوله : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، فسنة الخلفاء الراشدين تقر ولاية من توافرت فيه شروط الإمامة وتنفي من لم تتوافر فيه ، مع رفضها الشديد لتوريث الإمامة .
الثانية : المبالغة و التأكيد الشديد على السمع والطاعة لمن توافرت فيه الشروط ، وبايعته الأمة عن رضاً واختيار ، لا إقرار إمامة العبد والمتغلب على الأمة ووجوب السمع والطاعة له ، وذلك نظير قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف : 81 ) فهو من باب ضرب المستحيل ، لا إقراره ، والمعني على فرض جواز أن يكون لله ولد تعالى الله عن ذلك وتنزه وهذا مستحيل ، فأنا أول المؤمنين بعبودية الله تعالى ، وعليه فمعنى الحديث على فرض جواز إمامة العبد الآبق وهذا مستحيل ، فاسمعوا وأطيعوا لمن توافرت فيه الشروط .
الثالثة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على وجه الإلزام بإمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من بعده ، يدل على ذلك اختلاف الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة إذ كيف يختلفون على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان هناك أمر فلما لم يكن ساغ الاختلاف حتى حصل الإتفاق على بيعة أبي بكر عن رضاً واختيار كما سبق بيانه . يؤيد ذلك مقالة عمر ين الخطاب رضي الله عنه كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :
قيل لعمر ألا تستخلف ؟ قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال راغب وراهب وددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي لا أتحملها حيا وميتا ) . (66) ولا يفهم من الحديث في الاستخلاف الإلزام بل هو الترشيح من عمر ـ رضي الله عنه ـ وهذا حق له يرشح من يراه مناسباً كما سبق بيانه في نظام الإسلام في الحكم ، ويكفي في تأييد ذلك قول عبدالرحمن ـ رضي الله عنه ـ : ( يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ) . (67)
وأما حق الأمة في جواز عزل الأمام أو عماله ، فمن أجاز لهم حق اختيار يجيز لهم حق العزل إذا كان هناك مصلحة من عزله فللوكيل أن يفسخ الوكالة عن موكله إذا لم يتحقق الغرض من الوكالة.
هذا وإذا انظم ما هنا من تقرير على ما سبق في نظام الإسلام في الإمامة تقرر بوضوح حق الأمة في اختيار من يحكمها ، وإن الدفاع عن هذا الحق مشروع لأنه هدي النبوة الراشدة ، وسنن الخلفاء الراشدين ، فعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : ( إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان فاستجاب له من استجاب فحيى بالحق من كان ميتا ومات بالباطل من كان حيا ثم ذهبت النبوة فكانت الخلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملكاً عضوضاً فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه والحق استكمل ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده وشعبة من الحق ترك ومنهم من ينكر بقلبه كافا يده ولسانه وشعبتين من الحق ترك ومنهم من لا ينكر بقلبه ولسانه فذلك ميت الأحياء ) . (68)
وفي الختام : فإن الدفاع عن الأمة الإسلامية مسئولية الجميع كل بحسب قدراته ، وعندما تتظافر الجهود ، وترسم الخطط ، وتحدد الأهداف والوسائل ، ويعطى المشروع حقه من الوقت الكافي لإعادة ما دمرته الدول والهيئات والأشخاص من وحدة الأمة ، كما قال تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم : 4 ) يفرح المؤمنون بالتمكين ، كما قال تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (القصص : 5 ) ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
وكتبها :
الدكتور/ أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
فهرس الموضوعات
م الموضوع الصفحة
1 المقدمة 2
2 مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية 6
3 التعريف بالأمة الإسلامية 24
4 مقومات الأمة الإسلامية 27
5 العقيدة التي تطمئن الشعوب إلها 27
6 الأرض يملكها الشعب ويدافع عنها 31
7 الإنسان الذي تتألف منه الأمة 31
8 العزة والحمية الإيمانية القوية 32
9 النظام السياسي للأمة الإسلامية 33(7/49)
10 سمات الأمة الإسلامية 40
11 إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة 40
12 إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه 24
13 القيام بالعدل والإحسان 43
14 الحرص على التعاون البر والتقوى 45
15 عدم التشبه بالكافرين 47
15 واجبنا تجاه الأمة الإسلامية 50
16 الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية 50
17 الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية 53
18 الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية 56
19 الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية 61
20 الدفاع وحدة الأمة الإسلامية 62
21 الدفاع عن حق الأمة في اختيار من يحكمها 66
=============
الدعوة إلى الله بالمجادلة
الدعوة إلى الله بالمجادلة
مفهومها ومشروعيتها وضوابطها
الدكتور/ إبراهيم بن صالح الحميدان
قسم الدعوة والاحتساب ـ كلية الدعوة والإعلام
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مقدمة :
الحمد لله حمداً يليق بجلال ربنا وعظمته , والشكر له على ما أنعم به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى ؛ والتي من أعظمها وأجلها نعمة الإسلام ؛ أخرجنا به من الضلالة إلى الهدى , وفضلنا به على كثير ممن خلق تفضيلا .
والصلاة والسلام على خير خلقه ومبلغ وحي ربه نبينا محمد بن عبد الله , خير من وطئت قدمه الثرى , مع علو المقام والقدر فوق الثريا , صلاة ربي وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه , الذين صبروا وجاهدوا في الله حق جهاده فمنهم المجاهد بسنانه ومنهم المجاهد بلسانه وبيانه ؛ فاستنارت بدعوتهم ظلمات الأرض , وانقشعت ظلمات البصائر , وثقفت بحججهم المبنية على ما في الكتاب والسنة موارد الأفكار ومقاطع الأفهام .
وما زال الدعاة المخلصون بهم يقتدون ويهتدون , وإلى ميراث النبوة يتسابقون تعظيماً والتزاماً , وإليه يدعون أمماً وأقواماً , فصدق فيهم ما جاء في قوله تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل} ( (1).
أما بعد :
فإن من الظواهر الملحوظة والأمور المشاهدة المعروفة وجود الجدل في حياة الإنسان أينما وحيثما وجد وكان , ولقد قال العليم بخلقه الحكيم في أمره ونهيه :{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) سورة العنكبوت ( (2) ، فهو لا ينفك في الغالب يغالب كل جديد أو طارئ عليه , أو كل مختلف معه .
وإن من ملامح ربانية هذا الدين وكونه تنزيلا من رب العالمين ؛ تعامله بواقعية مع طبيعة الإنسان وما جبل عليه من هذا الجدل الغالب في جنسه , فكان أن وجه ربنا تبارك وتعالى إلى الجدل وندب إليه ؛ لكن بقدر الحاجة , وبشكل غير الذي اعتاده الناس وربما مارسوه وعرفوه من مطلق الجدل .
أما الحاجة إليه فهي في الدعوة إلى الدين الحق وإقامة الحجة على الخلق .
والحاجة بشكل أخص مع أولئك الذين يحتاج إليه معهم وليس مع كل أحد ، إذ تسبقه وتتقدمه الحكمة والموعظة الحسنة .
والخالق سبحانه يعلم أن من الناس من يبقى متردداً , أو متشككاً في الحق الذي جاءت به النبوة الخاتمة , أو أنه يكون معانداً جاحداً له ؛ مع وضوح دلائله وصفاء موارده ومصادره , فهذا الذي يدعى بالجدل .
أما شكل هذا الجدل وصفته فهو ليس بالجدل الذي قعد له اليونان , أو مارسه وفق هواه وشهوته أي إنسان , وإنما هو شكل مختلف وإن تشابهت الأشكال , ووصف معين وإن تقاربت الأسماء , إنه باختصار , وكما عبر عنه كتاب ربنا جل شأنه بأوجز لفظ وأجزل عبارة ( بالتي هي أحسن ) , وذلك في قوله تعالى : ({وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) سورة العنكبوت.
وهذا البحث المتواضع هو في هذا الموضوع الدقيق , ويهدف الكاتب فيه إلى محاولة الإسهام في تجلية المفهوم , وبيان المشروعية , والإشارة إلى أبرز الضوابط , وذلك في ثلاثة فصول، شملت تسعة مباحث على النحو الآتي :
الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :
المبحث الأول : الجدل في اللغة .
المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح .
المبحث الثالث : رؤية تحليلية لتاريخ الجدل .
الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها :
المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم .
المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية .
المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة .
الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :
المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة .
المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة .
المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة .
أسأل الله الكريم بمنه وجوده وفضله أن يتقبله بقبول حسن , وأن يجعله خالصاً لوجهه , نافعاً لعباده , وأن يعفو عما فيه من الخطأ والزلل .
والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :
المبحث الأول : الجدل في اللغة :
تعود كلمة ( جدل ) إلى الأصل الثلاثي الصحيح ( الجيم والدال واللام )،
هذا الأصل " أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه , وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام "(5) .
والجدل - بسكون الدال - يعني شدة الفتل للحبل والشعر، فيقال جديل وجديلة
كما يعني الصرع يقال : جدله أي صرعه , ورجل مجدل ومجدال أي يصرع غيره , والجدالة الأرض .
أما كلمة الجدل - بفتح الدال - فتعني شدة الخصومة ومراجعة الكلام , ويقال لصيغة المفاعلة مجادلة , ولاسم الفعل جدل وجدال .
جاء في لسان العرب (6) :
" الجدل - بسكون الدال - شدة الفتل , وجدلت الحبل أجدله جدلا إذا شددت فتله وفتلته فتلا محكماً , ومنه قيل لزمام الناقة الجديل ".
__________
(1) سورة يوسف الآية 108.
(2) سورة الكهف الآية 54.
(3) سورة النحل الآية 125.
(4) سورة العنكبوت الآية 46.
(5) ابن فارس معجم مقاييس اللغة 1 / 433 .
(6) لسان العرب 11 / 103 , 104 , 105 .(7/50)
و" الجدل : الصرع . وجدله جدلا , وجدله فانجدل وتجدل : صرعه على الجدالة . وهو مجدول , وقد جدلته جدلا .
وأكثر ما يقال جدلته تجديلا ."
"و الجدل - بفتح الدال - اللدد في الخصومة والقدرة عليها , وقد جادله مجادلة وجدالا .
ورجل جدل و مجدل و مجدال : شديد الجدل .
ويقال : جادلت الرجل فجدلته جدلا أي غلبته.
ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام .
و جادله أي : خاصمه مجادلة وجدالا .
والاسم الجدل وهو شدة الخصومة ... " .
وجاء في القاموس المحيط (1) :
" وجدله فانجدل وتجدل صرعه على الجدالة ...
والجدل محركة : اللدد في الخصومة والقدرة عليها ".
وجاء في العين (2) :
" ورجل جدل مجدال أي خصم مخصام.
والفعل جادل يجادل مجادلة .
وجدلته جدلا - مجزوم - فانجدل صريعا ".
المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح :
للجدل في الاصطلاح معنيان :
الأول : المعنى العام للجدل أو مطلق الجدل أو الجدل المحض .
الثاني : المعنى الخاص الذي جاء في النصوص الشرعية مندوباً إليه في مقام الدعوة .
وغالب المراجع وبخاصة كتب التعريفات تشير إلى المعنى الأول .
فنجد مثلا أن الجرجاني يورد عدداً من المعاني الاصطلاحية للجدل فيقول :
" الجدال عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها "(3).
ويقول : " الجدل هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات , والغرض منه إلزام الخصم , وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان "(4) .
ويقول : " دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبه .
أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة "(5).
كما تنحو بعض المراجع المتأخرة في تعريفه بما هو قريب من ذلك فنجد على سبيل التمثيل التعريفات الآتية :
" المنازعة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم "(6) .
" المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم "(7) .
وهذه التعريفات للجدل في أصله وعلى إطلاقه أو ما يمكن أن يسمى بالجدل المحض , ويظهر فيه أمران رئيسان :
- شدة الخصومة واللدد فيها .
- وقصد الغلبة والإلزام والإفحام في الهدف .
وهذا ليس بالجدل الشرعي في دين الإسلام, الذي جاء في قوله تعالى: ( {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل( (8).
وفي قوله تعالى :{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) سورة العنكبوت( (9).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " وقوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن ( أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ( الآية فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون "(10) .
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيةً إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا , ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "(11).
وقال رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "(12) .
فيتبين بذلك أن الجدل الشرعي هو غير مطلق الجدل أو الجدل المحض السائد في الحدود الاصطلاحية للجدل والتي أوردنا طرفاً منها آنفاً , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ولهذا ذم السلف أهل الكلام , وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضاً "(13) .
والجدل الشرعي بمعنى المناظرة التي يقصد منها إظهار الصواب في كلام المختلفين .(14)
وقد نص بعض العلماء على أن الجدل بالتي هي أحسن هو المناظرة. (15)
ولعل هذا يفسر استخدام البعض للفظة الجدل بأنها مرادفة للمناظرة أو أنها بمعنى المناظرة .(16)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الجدل هو أحد أشكال الحوار الذي يعني تردد الكلام ومراجعته بين طرفين أو أكثر دون أن يكون بالضرورة خلاف بينهما .
فإذا كان خلاف وقصد إظهار الحق بين الطرفين المختلفين فهي المناظرة والجدل الشرعي .
وإذا كان خلاف وكان القصد المغالبة والإلزام والإفحام فهو الجدل المحض .
أما علم الجدل فهو : " علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد ونقض أي وضع كان .
وهو - كما يقول صديق حسن - فرع من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف "(17) .
ويبدو أن هذا التعريف لعلم الجدل متصل بمعناه العام الذي هدفه الإلزام والغلبة
ولذا يمكن أن نقول إن علم الجدل الشرعي هو : علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إظهار الحقائق والاستدلال عليها في مقام الاختلاف بغرض الدعوة إلى الله تعالى .
المبحث الثالث : نظرة في تاريخ الجدل في الحياة البشرية :
وجود الجدل في حياة الإنسان مسألة بدهية ؛ لا تحتاج إلى الاستدلال في إثباتها وتأكيدها , ولم تخل أمة من الأمم قديمها وحديثها منه .
__________
(1) 1261 .
(2) 6 / 79.
(3) التعريفات للجرجاني 1 / 101.
(4) المرجع السابق والصفحة نفسها وانظر التوقيف على مهمات التعاريف 1 / 236.
(5) التعريفات 1 / 101 وذكر قريبا منه في الحدود الأنيقة 1 / 73.
(6) رسالة الآداب في علم آداب البحث والمناظرة لمحمد محيي الدين عبد الحميد ص 175.
(7) مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي 24.
(8) سورة النحل الآية 125.
(9) سورة العنكبوت الآية 46.
(10) تفسير القرآن العظيم 2 / 592 .
(11) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 452.
(12) المرجع السابق 632.
(13) منهاج السنة النبوية 3/ 58.
(14) أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام , رسالة دكتوراه غير منشورة , ص 7 وفيها تفصيل ونقولات ومقارنات حول تعريف المناظرة .
(15) انظر التقريب لحد المنطق لابن حزم ص 186 وضوابط المعرفة للميداني ص 371 وانظر استخدام جمع من المفسرين لكمة مناظرة مقابل الجدل وعبارة ناظرهم مقابل جادلهم عند تفسيرهم لقوله تعالى ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) في أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام ص 55 .
(16) انظر الكافية في الجدل للجويني ص 4 , والمعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي ص 7 .
(17) أبجد العلوم 2 / 208 .(7/51)
وقد نبه عليها سبحانه وتعالى فقال :{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (54) سورة الكهف(1) .
قال الثعالبي : " وقوله تعالى : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( الإنسان هنا يراد به الجنس وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العموم في مروره بعلي ليلا وأمره له بالصلاة بالليل، فقال علي: إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله , أو كما قال، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب فخذه بيده ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا "(2) .
وقال الزجاج : " كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل , والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا "(3) .
وقال الألوسي : " ( وكان الإنسان ) بحسب جبلته ( أكثر شيء جدلا ) أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل ... والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل "(4) .
ولذلك فلعل النظر هنا يكون إلى تحليل وتصنيف تاريخ الجدل بدلا من السرد التاريخي لشواهده , وذلك في الأطر الآتية :
الأول : الجدل الإنساني بعامة ؛ أي ممارسة الجدل من الإنسان وفق طبيعة البشرية الغالبة , وهذا في تاريخ الإنسان أينما وحيثما وجد .
وهو أمر مشاهد ومحسوس وملاحظ , كما يمكن في ذلك التذكير بالآية السابقة ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( ويمكن اعتباره من بدء الخليقة إلى قيام الساعة , بل إلى أن يفصل بين العباد , فقد جاء ما يدل على أن كل نفس تجادل يوم القيامة عن نفسها قال تعالى : {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (111) سورة النحل (5).
قال الإمام الطبري في تفسير الآية : " يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها وتحتج عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شر أو إيمان أو كفر "(6) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله : " قوله تعالى : ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ( أي : إن الله غفور رحيم في ذلك , أو ذكرهم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أي : تخاصم وتحاج عن نفسها .
جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة : نفسي نفسي من شدة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته ، وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا، فقال له كعب: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو أنت وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي .قال : يا كعب أين تجد ذلك في كتاب الله ؟ قال : قوله تعالى: ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون( .
وقال ابن عباس في هذه الآية :" ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني، فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى به ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلا ؛ أعمى ومقعداً , دخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى: ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب ؟ قال: عليكما جميعاً العذاب "(7) .
الثاني : الجدل في البيئة اليونانية , ونخصها بإطار مستقل في هذه النظرة التحليلية لتاريخ الجدل لأن وضع قواعد الجدل والمنطق كما تتناقله المراجع بدأ في هذه البيئة , ولا يعنى هذا عدم وجوده من قبل فهو جبلة غالبة في الإنسان كما أسلفنا , لكن الذي حدث في البيئة اليونانية هو أن الجدل صار علماً يدرس وفناً يكتسب بالصنعة حيث قام سوقه واشتد عوده لمواجهة الحركة السوفسطائية التي تلبس على الناس عقائدهم , بل وتشككهم في الحقائق والبدهيات مما دعا القوم إلى وضع قواعد في الجدل بقصد قطع أولئك السوفسطائيين وإفحامهم ومغالبتهم(8) , وهؤلاء عندهم حق وباطل ومن أبرع من غربل نتاجهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدد من مؤلفاته .(9)
ولما ورثت الحضارة الإسلامية خلافة العالم في عصورها الذهبية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف , ولم تكن الحضارة الإسلامية تقوم بدور الوسيط والناقل فقط بل غربلت في أحايين كثيرة علوم الأمم السابقة ومن ذلك علم الجدل الذي يقابله عند المسلمين علم المناظرة , أو علم البحث والمناظرة , سواء في المصنفات المستقلة أم في الكتابات المتفرقة .
ويميل بعض الباحثين إلى أن علم المناظرة صناعة إسلامية لم يسبقهم إليه أمة من الأمم قبل ذلك .(10)
ومع هذا بقيت آثار من الفكر اليوناني لم يسلم بعض المسلمين منها حتى في فهم كلام الله عز وجل وتفسيره , ومنه فهم بعضهم لما في قوله تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل((11).
__________
(1) سورة الكهف الآية 54.
(2) الجواهر الحسان في تفسير القرآن 2 / 387 , وانظر معالم التنزيل للبغوي 3 / 168 , والحديث في صحيح البخاري كتاب التهجد ، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل 1 / 379 , وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين , باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح 1/ 537 .
(3) زاد المسير لابن الجوزي 5 / 157 .
(4) روح المعاني للألوسي 15 / 300.
(5) سورة النحل الآية 111.
(6) جامع البيان 14 / 185.
(7) الجامع لأحكام القرآن 10 / 193 , وانظر معالم التنزيل للبغوي 3 / 87 .
(8) مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي 35, والملل والنحل للشهرستاني 2 / 119.
(9) انظر مجموع الفتاوى 12 / 349 ودرء تعارض العقل والنقل 7 / 334 , وغيرها من كتبه .
(10) انظر ما قاله الأستاذ علي مصطفى الغرابي في مقدمته للرسالة الرشيدية ص 4 - 5 .
(11) سورة النحل الآية 125.(7/52)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان بكون المقدمة مشهورة أو مسلمة غير يقينية , بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة أو مسلمة فلا بد وأن تكون يقينية , فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة أو بمجرد كونها مشهورة وان لم تكن صادقة فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله الذي كله حق وصدق وهو أصدق الكلام وأحسن الحديث .
فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن لما فيه من إدراك الدِّق واتباع الحق .
وصاحب الموعظة يدعى من المقدمات الصادقة بالمشهورة لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق ولا ينازع في المشهورة .
وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة مشهورة كانت أو لم تكن إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه "(1).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وأما ما ذكره بعض المتأخرين أن هذا إشارة إلى أنواع القياسات، فالحكمة هي طريقة البرهان، والموعظة الحسنة هي طريقة الخطابة، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة الجدل، فالأول بذكر المقدمات البرهانية لمن لا يرضى إلا بالبرهان ولا ينقاد إلا له وهم خواص الناس، والثاني بذكر المقدمات الخطابية التي تثير رغبة ورهبة لمن يقنع بالخطابة وهم الجمهور، والثالث بذكر المقدمات الجدلية للمعارض الذي يندفع بالجدل وهم المخالفون فتنزيل القرآن على قوانين أهل المنطق اليوناني واصطلاحهم وذلك باطل قطعاً "(2).
كما امتد تأثير الجدل اليوناني إلى تطبيقات بعض المسلمين وتسببت الترجمة لعلوم اليونان في نشوء الجدل الكلامي المخالف للجدل الشرعي وذلك بعقد مجالس للجدل بقصد المغالبة والإلزام ودفع الخصوم حتى قال بعضهم لبعض : " لا تعلق تكثيراً مما تسمع مني في مجالس الجدل فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته , فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا إلى الكلام " .(3)
إلا أن ذلك كله لا يعني عدم وجود المجادلات والمناظرات المنضبطة بالضوابط الإسلامية كما سيتبين في الإطار الآتي .
الثالث : الجدل في مقام الدعوة إلى ما جاءت به الرسالات السماوية باعتباره أسلوبا يحتاج إليه مع بعض المدعوين الذين يمكن أن يكون فيهم منكرون للنبوات وما جاءت به من العقائد والشرائع , أو مترددون لديهم نوع ممانعة تزول بالإقناع وإقامة الحجة الصحيحة لهم , وهؤلاء موجودون أينما وجدت رسالة والأمثلة على ذلك كثيرة جداً .
وقد ورد في كتاب الله الكريم عدد من تلك المواجهات بين الأنبياء وأقوامهم .
وكان موقف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكذا الداعون بدعوتهم مواجهتهم بالحق المؤيد من الله تعالى فيما أنزل عليهم من الهدى والنور والدلائل القطعية التي تفوق احتجاج البشر ومنطقهم .(4)
... وقد بين الله تعالى فضله على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوة حجته وخصمه لقومه فقال:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام( (5).
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : " تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة "(6).
أما عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان فيها الكثير من ذلك , وسنتبين طرفا منها عند الحديث عن المشروعية بإذن الله , قال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول : " ومناظرة الرسل لأعداء الله يطول ذكرها , ومقامات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة أشهر من أن تذكر , فمن شاءها فليقرأ المصحف من فاتحته إلى خاتمته "(7).
وقد أورد ابن كثير رحمه الله عدداً من مجادلات المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت باب سماه : " باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً "(8) .
وكان اليهود من أكثر الناس جدلا بالباطل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : " كانت أحبار يهود يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتون باللبس ليلبسوا الحق بالباطل فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه "(9) , وهذا ليس جديداً منهم فقد جادلوا موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وما قصة بقرة بني إسرائيل منا ببعيد.
وقد استمر الجدل بين الدعاة إلى الإسلام وغيرهم إلى يومنا هذا , وذلك لعالمية هذا الرسالة وشمولها للناس كافة , إذ تمثل الدعوة مسؤولية عامة وخاصة لا يكاد يعفى منها من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً , فهي سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه من بعده قال تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف (10).
وكلما احتاج الدعاة إلى ممارسة المناظرة والجدل مارسوه بالضوابط الشرعية التي جاءت بها البعثة النبوية , والتي أحدثت نقلة في الحياة البشرية لتعيدها إلى ما ينبغي أن تكون عليه وفق هدي خالقها وموجدها الأعلم بما يصلحها .
وهذه النقلة شملت مناحي الحياة المختلفة بدءاً بالعقائد ومناهج التفكير وانطلاقاً إلى المعاملات والأخلاق والآداب والقيم .
__________
(1) مجموع الفتاوى 2 / 45 _ 46, وانظر الرد على المنطقيين ص 445، وروح المعاني للألوسي 14/ 255 .
(2) مدارج السالكين 1 / 446.
(3) انظر الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية للدكتور قاسم السامرائي ص 42 - 43.
(4) انظر البداية والنهاية لابن كثير 3 / 60 ومعارج القبول لحافظ الحكمي 1 / 64 .
(5) سورة الأنعام الآية 83 .
(6) الجامع لأحكام القرآن، 7 / 30.
(7) معارج القبول 1 / 68 , وقد أورد عددا منها .
(8) البداية والنهاية 3 / 60 .
(9) السيرة النبوية لا بن هشام 2 / 155.
(10) سورة يوسف الآية 108 .(7/53)
ومن ذلك ضبط سلوك الحوار والمناظرة والجدل عند المسلمين عن ما سواه من السلوك , والذي يمكن أن نذكر أبرز ملامحه في ما يلي :
1- توجيه سلوك المسلمين في اختلافهم فيما بينهم ومع غيرهم ليكون بقصد الوصول إلى الحق وبأساليب تجمع ولا تفرق وتقرب ولا تبعد، وعندما لا يكون الجدل نافعاً فيعرض عنه إلى غيره فهو وسيلة لا غاية .
2- الاعتراف بالاختلاف لكن مع النهي عن التنازع , ومن ذلك اختلافات الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم بل ومراجعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف والمسائل والتي كانت على سبيل المشاورة والمناصحة ولم تكن على سبيل الجدل بمعناه المطلق الذي يعني المغالبة والمنازعة والإلزام .
3 - تخصيص معنى الجدل المقبول عن مطلق الجدل ليكون كما جاء في كتاب الله ( بالتي هي أحسن ) وهو يقرب من معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب , وتعريف الجدل بالتي هي أحسن بأنه المناظرة مما قال به عدد من العلماء كما سبقت الإشارة إليه .
بل إن بعض العلماء ينزع إلى استخدام لفظة المناظرة لدلالتها المباشرة على الجدل المشروع وبخاصة عندما يشار إلى جدل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , ولهذا نجد الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله يقول في عنونته لأحد مباحثه في كتابه القيم معارج القبول : " مناظرة الرسل لأعداء الله "(1) وذلك في وصف فعل الأنبياء , كما نجد ابن كثير رحمه الله يصف فعل المشركين بالجدل فيقول : " ومجادلة المشركين لأنبيائهم "(2) .
ولقد غلب في الثقافة الإسلامية مصطلح المناظرة بدلا من الجدل .
4- التأثير في التطبيقات العملية للمجادلات والمناظرات من قبل الأطراف الإسلامية , ومن ذلك ما حمله لنا التراث الإسلامي من مناظرات فيما بين المسلمين أنفسهم كمناظرة ابن عباس للخوارج أو مع غيرهم من اليهود والنصارى والمشركين , بل حتى ما شهدناه في عصرنا هذا وبخاصة ممن يحمل علماً بالشريعة أكثر من غيره(3), كل ذلك ظهر فيه أثر الضبط الإسلامي للجدل وتوجيهه ليكون للوصول إلى الحقائق والدلالة عليها تحت إطار التوجيه الرباني ( بالتي هي أحسن ( مما يجعلنا نصل إلى نتيجة هامة هي : أن نظرة تحليلية لتاريخ الجدل تدلنا أن الإنسان كلما كان أقرب إلى الوحي الإلهي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلم به فإنه أكثر انضباطاً وأحسن اختلافاً وأعدل مع غيره ممن لا يوافقونه في المعتقد أو الرأي , وأن البعد عن التوجيه الرباني في ذلك يجعل حظوظ النفس وأهواءها حاضرة ظاهرة في كثير من الحوارات والاختلافات , والله المستعان .
الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها:
المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم :
باستقراء النصوص الواردة في القرآن الكريم عن الجدل نجد أنه يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف :
أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل .
ب-النصوص التي وردت فيها مجادلات ومناظرات الرسل وصالحي البشر .
ج - النصوص التي تعلي من شأن الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق.
وسيكون تفصيل ذلك فيما يلي بعون الله وتوفيقه :
أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل :
جاءت لفظة الجدل وما تصرف منها في كتاب الله الكريم في 29 موضعاً , وباستقرائها بالنظر إلى المشروعية نجد أنه يمكن تصنيفها في ثلاثة أطر :
الإطار الأول : النصوص الواردة في المدح والندب لاستخدام الجدل :
وهذه النصوص محصورة فيما جاء في قوله تعالى :
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل(4).
وفي قوله تعالى: ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) [العنكبوت/46، 47](5).
الإطار الثاني : النصوص التي ورد فيها ذم الجدل وهي كثيرة ويمكن إجمالها بما يلي :
1 - ما ورد في ذم الجدل بغير علم كقوله تعالى :
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) [الحج/3-5](6).
2 - ما ورد في ذم المجادل في الحق بعدما تبين كقوله تعالى :
( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) [الأنفال/6، 7] (7).
3 - ما ورد في ذم الجدل بالباطل لرد الحق كقوله تعالى :
( مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) [غافر/4، 5] (8).
4 - ما ورد في ذم الجدل في آيات الله - على وجه المخاصمة والاعتراض - كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) [غافر/5] (9).
__________
(1) معارج القبول 1 / 64.
(2) البداية والنهاية 3 / 60 .
(3) انظر نتائج دراسة تحليلية لعدد من المناظرات مع النصارى في هذا العصر في ( أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام , دراسة تحليلية تقويمية للمناظرات التي جرت في أمريكا الشمالية من 1400 - 1410هـ) رسالة دكتوراه غير منشورة مقدمة لقسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإعلام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ص 238 .
(4) سورة النحل الآية 125.
(5) سورة العنكبوت الآية 46.
(6) سورة الحج آية 8 وسورة لقمان الآية 20 .
(7) سورة الأنفال الآية 6.
(8) سورة غافر الآية 5.
(9) سورة غافر الآية 4.(7/54)
وقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) [غافر/35] (1).
وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) [غافر/56، 57] (2).
وقوله تعالى : ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) [الشورى/35] (3).
وهذه النصوص - الواردة في الإطار الثاني - يلحظ فيها أن لفظة الجدل مطلقة غير مقيدة ولا مستثناة , كما أن سياقها يدل على ما هو شائع من معنى الجدل الذي هدفه المغالبة والمنازعة والاعتراض الذي يكون به دفع الحق ورده إذا لم يوافق هوى المجادل .
كما أن في هذه النصوص أيضاً معاني أخرى في الجدل المحض مثل أن يكون بلا علم أو الجدل في الحق بعدما تبين , مما يؤكد على أن الاستثناء والقيد بالتي هي أحسن الوارد في الإطار الأول يعني خلاف ذلك تماماً .
الإطار الثالث : نصوص قد لا يظهر فيها المدح أو الذم وربما حصل توهم في فهمها وجعلها في المدح وربما الاستدلال بها في المشروعية وهي ليست كذلك .
وهذه النصوص هي :
قوله تعالى : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) [هود/74] (4).
وقوله تعالى : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) [هود/32، 33](5).
وقوله تعالى : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) [المجادلة/1، 2](6).
أما الآية الأولى فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يقر على جداله ذلك , فقد قال تعالى بعد تلك الآية : ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) [هود/76، 77](7) قال الإمام الطبري : " يقول تعالى ذكره مخبراً عن قول رسله لإبراهيم: يا إبراهيم أعرض عن هذا , وذلك قيلهم له حين جادلهم في قوم لوط فقالوا : دع عنك الجدال في أمرهم والخصومة فيه فإنه قد جاء أمر ربك بعذابهم وحق عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء "(8).
وأما الآية الثانية فإن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قصدوا ذمه فوصفوه بالجدل والإكثار منه , وليس هذا الوصف منه لنفسه وليس من الله عز وجل له، بل إنه عليه الصلاة والسلام يصف فعله بالنصيحة , فيقول كما ذكر الله تعالى عنه : ( وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) [هود/34](9) وكما في قوله تعالى: ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) [الأعراف/62، 63](10).
أما الآية الثالثة الواردة في سورة المجادلة فلا تعدو أن تكون وصفاً دقيقاً لشدة مراجعة هذه المرأة وهي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة ظهار زوجها لها , فلا تقتضي المدح ولا الذم .
ويدل على ذلك الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : " تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ؛ إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع له ولدي ظاهر مني , اللهم إني أشتكي إليك . قالت عائشة : فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ( قال : وزوجها أوس بن الصامت " أخرجه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , ووافقه الذهبي .(11)
يقول الشوكاني رحمه الله : " والمجادلة هذه الكائنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كلما قال لها : حرمت عليه , قالت : والله ما ذكر طلاقاً , ثم تقول أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا , وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك "(12) .
كما أن ( تجادلك ) فيها قراءة أخرى وهي ( تحاورك)(13) .
__________
(1) سورة غافر الآية 35.
(2) سورة غافر الآية 56.
(3) سورة الشورى الآية 35 وانظر درء تعارض العقل والنقل 1/ 4 و 7 / 170.
(4) سورة هود الآية 74.
(5) سورة هود الآية 32.
(6) سورة المجادلة الآية1.
(7) سورة هود الآية 76.
(8) جامع البيان 12 / 80.
(9) سورة هود الآية 34.
(10) سورة الأعراف الآية 62 .
(11) المستدرك على الصحيحين 2 / 481.
(12) فتح القدير 5 / 18.
(13) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 / 272 والجواهر الحسان للثعالبي 4 / 276 .(7/55)
وذكر ابن جرير الطبري فيها قراءة أخرى أيضاً وهي ( تحاولك )(1) .
ومعلوم أن المحاورة أو المحاولة لا يقتضي أن تكون جدلا .
لكن مع هذا فهذه الآية بالقراءة المشهورة ( تجادلك ) تدل على دقة الوصف القرآني لحال هذه المرأة وشدة مراجعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك لا يقتضي الذم ولا المدح ولا تبنى عليه المشروعية وإنما هو الخبر والوصف الدقيق عن الحادثة والله أعلم .
ولو قلنا إن السياق الوارد فيه هذه اللفظة ( تجادلك ) يقتضي المدح لكان سائغاً مراجعة أحكام الله ورسوله والأمر خلاف ذلك تماما فإن الله تعالى يقول : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65] (2).
وبذلك يتبين أن مشروعية الجدل في القرآن الكريم بالنظر إلى الآيات الوارد فيها لفظة الجدل تنحصر في الآيتين التي ورد فيهما قيده بالتي هي أحسن دون ما عداهما .
ب- النصوص التي وردت فيها مناظرات الرسل لأقوامهم ومجادلة المشركين لأنبيائهم :
ومن ذلك ما ذكر في القرآن الكريم عن مناظرات أولي العزم من الرسل مثل مناظرات نوح عليه الصلاة والسلام لقومه , ومناظرات إبراهيم عليه الصلاة السلام للنمرود وعبدة الكواكب , ومناظرات موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون وللسحرة ومناظرات عيسى عليه الصلاة والسلام لقومه ومناظرات محمد صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب ولليهود والنصارى .
وغيرها من المناظرات لبقية الرسل وصالحي البشر الذين ورد ذكر محاوراتهم ومناظراتهم في القرآن الكريم .
وحيث إننا أمرنا باتخاذهم أسوة وقدوة كما قال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) [الممتحنة/6، 7] (3)
فإن من التأسي بهم القيام بالمناظرة والمجادلة الشرعية عند الحاجة إليها في مقام الدعوة إلى دين الله عز وجل .
ج - النصوص التي تشير إلى فضل الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق , ومعلوم أن ذلك هو ما تقوم عليه المناظرات والمجادلات الشرعية . ومن ذلك :
... قوله تعالى : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) [البقرة/111، 112] (4).
... وقوله تعالى : (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) [الفرقان/33] (5).
... وقوله تعالى : ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) [الزخرف/18](6).
... وقوله تعالى : ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) [آل عمران/66] (7).
وقوله تعالى : ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) [الأنعام/149] (8).
وغيرها من الآيات التي استدل بها عدد من العلماء في القديم والحديث في هذا السياق (9).
المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية :
يمكن النظر إلى مشروعية الجدل في السنة النبوية من خلال جوانب السنة الثلاثة : قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام .
أما في قوله عليه الصلاة والسلام فلم أقف على أحاديث تأمر بالجدل ولكن هناك أحاديث عامة تأمر بمجاهدة المشركين والمبطلين بأنواع المجاهدة ومنها المجاهدة باللسان , ومعلوم أن الجدل الشرعي والمناظرة في مقام الدعوة ومع المبطلين خاصة من أظهر أنواع المجاهدة باللسان مع شمول ذلك لأنواع الكلام من النصيحة والتعليم والوعظ وغير ذلك .
ومن هذه الأحاديث :
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره , ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(10) .
ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(11)
__________
(1) جامع البيان 28 / 6.
(2) سورة النساء الآية 65.
(3) سورة الممتحنة الآية 6.
(4) سورة البقرة الآية 111 , وسورة الأنبياء الآية 24 , وسورة النمل الآية 64 .
(5) سورة الفرقان الآية 33.
(6) سورة الزخرف الآية 18 .
(7) سورة آل عمران الآية 66.
(8) سورة الأنعام الآية 149 .
(9) انظر جامع بيان العلم وفضله 2 / 99 والتقريب لحد المنطق لابن حزم 186 , وشرح الكوكب المنير للفتوحي 370 , وضوابط المعرفة للميداني 373 , وأدب الحوار والمناظرة للدكتور علي جريشة 29 .
(10) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الإيمان , باب كون النهي عن المنكر من الإيمان 1 / 70.
(11) المرجع السابق 1 / 69 وانظر في وجه الاستدلال به درء تعارض العقل والنقل 1 / 51.(7/56)
ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم "(1).
أما فعله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ناظر أصنافاً من الناس ؛ من المشركين من قريش والعرب وناظر اليهود في المدينة وناظر وفد نصارى نجران وغيرهم .
وقد أشرنا إلى شيء من ذلك آنفاً في المبحث الثالث من الفصل الأول .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فقه قصة وفد نصارى نجران : " ومنها جواز مجادلة آهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليول ذلك إلى أهله وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها "(2) .
أما تقريره عليه الصلاة والسلام فقد ورد أنه أقر عمر رضي الله عنه في مناظرته لليهود وعندما رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن جبريل قد سبقه بالوحي " فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) [البقرة/97-99] (3) , قال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك "(4).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعليقاً على هذه الحادثة : " فهذا مما صدق الله فيه قول عمر واحتجاجه "(5) يقصد رد عمر رضي الله عنه على اليهود تركهم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لكون صاحبه الذي يأتيه بالوحي جبريل وليس ميكائيل , وكلاهما مقرب من الله عز وجل , فمن كان عدواً لأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدواً لهما فهو عدو لله .
وقد أكد أئمة الإسلام هذه المشروعية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس "(6) .
وهذا موجه إلى القادر عليها أما العاجز فقد قال الشيخ رحمه الله : " وقد ينهون - أي السلف - عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "(7).
وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم وتناظروا وتجادلوا لكن كان على وجه المشاورة والمناصحة (8) .
المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة :
لا شك أن أول ما ينظر إليه في أهمية المجادلة في مجال الدعوة هو كونها مشروعة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وفق ضوابطها التي تميزها عن مطلق الجدل .
وهناك جوانب أخرى تؤكد هذه الأهمية وتوضحها , وسنعرض لها في ثلاثة محاور :
الأول : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين.
الثاني : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل.
الثالث : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة .
أولا : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين :
خلق الله الخلق وفطرهم على الحنيفية , كما أرسل سبحانه رسله وأنزل كتبه ليدلوا الخلق على مراد الله تعالى منهم , وعندما تكون الفطر سليمة فإنها أقرب ما تكون لقبول الحق الذي تدعى إليه , وعندما تكون قد تأثرت أو حصل لها نوع تشويش فإننا تتردد فيه , ولربما عاندته وردته , ولذلك فإن من ملامح صحة هذا الدين ودلائل ربانيته وكماله وصلاحه أن تعامل بواقعية مع هذه المسألة , بأن ندب إلى الجدل مع هؤلاء بضوابط وشروط معينة .
وقد تحدث العلماء عن موقف الناس من الحق بأنهم ثلاثة أصناف : قابل وغافل ومعاند وذلك في معرض تفسيرهم لقول الله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) [النحل/125] (9).
وأفضل من فصل في هذه المسألة - فيما اطلعت عليه - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , يقول في ذلك :
" الناس ثلاثة أقسام :
إما أن يعترف بالحق ويتبعه فهذا صاحب الحكمة.
وإما أن يعترف به لكن لا يعمل به فهذا يوعظ حتى يعمل .
وإما أن لا يعترف به فهذا يجادل بالتي هي أحسن لأن الجدال فيه مظنة الإغضاب , فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منفعته بغاية الإمكان كدفع الصائل "(10) .
ويقول رحمه الله :
" فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به فهذا تنفعه الحكمة .
و الإنذار لمن يعرف الحق، و له هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه وهو خوف العذاب و هذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة .
و آخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل فيجادل بالتي هي أحسن "(11).
ويقول في موضع آخر :
" الإنسان له ثلاثة أحوال :
إما أن يعرف الحق ويعمل به .
وإما أن يعرفه ولا يعمل به .
وإما أن يجحده .
فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به .
والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به .
والثالث من لا يعرفه بل يعارضه .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجهاد باب كراهية ترك الغزو 3 / 32 , 33 وصححه النووي في رياض الصالحين , كتاب الجهاد ص 477 .
(2) زاد المعاد 3 / 42.
(3) سورة البقرة الآية 97 , 98.
(4) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 101 - 102 وجامع البيان للطبري 1 / 434 , 435 والبداية والنهاية لابن كثير 1 / 117 .
(5) جامع بيان العلم وفضله 2 / 102.
(6) درء تعارض العقل والنقل 1 / 357.
(7) المرجع السابق 7 / 171.
(8) انظر الشريعة للآجري ص 66 , ودرء تعارض العقل والنقل 7 / 170.
(9) سورة النحل الآية 125.
(10) مجموع الفتاوى 2 / 45.
(11) مجموع الفتاوى 16 / 585.(7/57)
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به ، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة .
والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة .
فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته , فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا .
وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال ( وجادلهم ) فجعله فعلا مأموراً به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن .
وقال في الجدال: ( بالتي هي أحسن ) ولم يقل: بالحسنة، كما قال في الموعظة،لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة , والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل .
فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن "(1) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :
" قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) [النحل/125](2) فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو :
فإنه إما أن يكون طالباً للحق راغباً فيه محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال .
وإما أن يكون معرضاً مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب .
وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن "(3).
وكلامهما رحمهما الله متفق في أن المدعوين تتنوع أساليب دعوتهم , وكلها يحتاج إليها بحسب موقفهم من الحق الذي يدعون إليه .
ثانياً : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل :
لا شك أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يسنده ويظهره في مواجهة المبطلين والمخالفين , والقيام بذلك من لوازم الإيمان ومقتضياته .
وإذا تأملنا في بعض الأدلة التي سبق إيرادها في المشروعية يتبين ذلك بجلاء .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
" لمناظرة المبطل فائدتان : أحدهما أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق .
الثانية أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل .
وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه .
وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج , وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهاناً وأبعد من كل شبهة وتشكيك "(4) .
ثالثاً : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة :
تتأكد أهمية المناظرة والجدل في مجال الدعوة بنظرة تأمل لشيء من روائع المناظرات في تاريخ الدعوة .
ولا شك أن القدح المعلى والنصيب الأوفى في ذلك هو لصاحب الرسالة ونبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فهو المؤيد بالوحي من ربه , قال تعالى : ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (( - - رضي الله عنه - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - - - عليه السلام - قرآن كريم - - ( - - - ((( ( تمت ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - - صدق الله العظيم ( { (((- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (- رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم - قرآن كريم ( - ( (5) , وقد ظهر باحتجاجه ومناظراته صلى الله عليه وسلم على المشركين واليهود والنصارى كما أسلفنا .
وهناك مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج إذ رد الله بها خلقاً كثيراً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين " (6) .
وهناك مناظرات الإمام أحمد " في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها من الجهمية والمعتزلة والنجارية مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات "(7).
ومناظرة عبد العزيز الكناني لبشر المريسي في خلق القرآن إذ كانت من أسباب ارتفاع محنة عظيمة كان قد ذهب بسببها خلق من المسلمين فأزهقت أنفس معصومة وانتهكت حرمات مصونة (8).
ومن ذلك مناظرة جرت بين المسلمين والنصارى أمام أحد ملوك التتار وهو الملك بركة خان فكان من نتائجها أن أسلم الملك , ويعد أول ملوكهم إسلاماً .(9)
وفي الهند إبان الاحتلال الإنجليزي لها نشطت حركة التنصير وبث الشبهات بين المسلمين وبسبب ذلك عقدت مناظرة كبرى بين الشيخ رحمت الله الهندي والقس فندر واتفقا على أن المهزوم يدخل في دين المنتصر ويترك دينه , وبدأت المناظرة وفاقت حجج الطرف الإسلامي حجج خصمه , وأثبت الشيخ رحمت الله في اللقاء الأول التحريف في كتاب النصارى في ثمانية مواضع , فلم يتابع النصراني هذه المناظرة وغادر مدينة أكبر أباد التي عقدت فيها المناظرة سراً في اليوم الثالث , فتشجع المسلمون وارتفعت معونياتهم في مواجهة المنصرين .(10)
ولو ذهبنا نستقرئ المواقف التي رفعت فيها راية السنة مقابل البدعة وراية الإسلام مقابل الكفر في مثل هذه المناظرات والمجادلات الشرعية لطال بنا المقام، ولكن حسبنا الإشارة فيما ذكر .
ومما يجدر التنبيه عليه هو أن الانتصار ليس هدفاً ولا غاية , وإنما الهدف ظهور الحق وإقامة الحجة ( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) [الأنفال/42] (11).
===================
الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :
توطئة :
__________
(1) الرد على المنطقيين 1 / 468.
(2) سورة النحل الآية 125.
(3) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 4 / 1276.
(4) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 4 / 1276.
(5) سورة النجم الآية 3 , 4.
(6) درء تعارض العقل والنقل 7 / 173.
(7) درء تعارض العقل والنقل 7 / 257.
(8) انظر المناظرة كاملة في كتاب الحيدة .
(9) انظر الدعوة إلى الإسلام لتوماس أرنولد ص 258 .
(10) انظر الحوار الإسلامي المسيحي لبسام داود عجك ص 193 - 196.
(11) سورة الأنفال الآية 42 .(7/58)
إن استقراء النصوص الشرعية وتطبيقات السلف رضوان الله عليهم تقودنا إلى أن الدعوة بالمجادلة لها ثلاثة جوانب :
ما قبل قيام الجدل، وأثناءه، وبعده .
وسنعرض لهذه المراتب الثلاث بشيء من التفصيل في هذه الفصل بإذن الله .
المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة :
تبين مما سبق ما هو الجدل المشروع فهو أسلوب لإقامة الحجة وإظهار الحق بين الناس على من خالفه أو جهله , وبالتالي فليس استخدام هذا الأسلوب في التعامل مع المخالف أو في مقام الدعوة في كل حال .
بل لا بد من النظر في أمور عدة قبل قيام هذا الجدل .
... ويمكن أن نجملها بالأمور الآتية:
أولا : تقديم أسلوبي الحكمة والموعظة الحسنة والبدء بهما , وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) [النحل/125](1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما دام الرجل قابلا للحكمة والموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة , فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن "(2) .
وبذلك يتبين أن الحكمة والموعظة الحسنة قد تكفي مع المدعو , وإن كان مجادلا جودل بضوابط الشريعة وليس بأعراف أهل الجدل .
وهذا مظهر من مظاهر عظمة هذا الدين وربانيته , ودليل على ما فيه من الواقعية بحيث لا يغفل أن فئات من الناس قد يحتاج معهم إلى الجدل ولذلك وجه إلى مجادلتهم .
ثانياً : ليس كل من دعا إلى الجدل أو المناظرة يجاب في كل حال فلا بد من النظر إلى المصلحة وظهورها أو رجحانها .
فقد يكون طالب الجدل أو المناظرة صاحب باطل ليس قصده طلب الحق , وإنما نشر باطله أو رغبة في شهرته ونحو ذلك . فهذا لا يجاب إليها فله أحكام أخرى تحكمه من الهجر أو التعزير بعقوبات أخرى .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والكلام الذي ذموه - أي السلف - نوعان :
أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذباً ؛ وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب , فإن أصدق الكلام كلام الله .
والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم , وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم , فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك , فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه ؛ أو قتل كما قتل المسلمون الجعد ابن درهم وغيلان القدري وغيرهما ؛ كان ذلك هو المصلحة ، بخلاف ما إذا ترك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه , وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين "(3).
أما الإعراض عن المبتدع والمبطل ففيه قول الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) [الأنعام/68] (4).
قال الإمام القرطبي رحمه الله : " في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية، وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .
قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل، قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمناً كان أو كافراً، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ومجالس الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة ومثله عن أيوب السختياني، وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له"(5).
وفي النهي عن مجادلة المبتدعة ومناظرتهم إذا علم أنها تتسبب في ظهور دعوتهم يقول الإمام اللالكائي رحمه الله : " فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة , ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً , ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا , حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً , وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا , حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة "(6).
ويقول رحمه الله في مكان آخر: " أخبرنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا زايدة بن قدامة عن هشام قال كان الحسن يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم "(7) .
وكان الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله يرى أن مناظرة المعتزلة بدعة " لأن السلف كانوا يرون مكالمة أهل البدع ومناظرتهم خطأً وسفهاً ... فلما ظهرت فيما بعد أقوال أهل البدع واشتهرت وعظمت البلوى بفتنتهم على أهل السنة وانتشرت انتدب للرد عليهم ومناظرتهم أئمة أهل السنة لما خافوا على العوام من الابتداع والفتنة "(8).
المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة :
إذا ترجحت مصلحة قيام المجادلة في مقام الدعوة إلى دين الله تعالى فإن هناك عدداً من الأمور التي يجب أن تصحب ذلك , ويمكن أن نجملها في الأمور الآتية :
__________
(1) سورة النحل الآية 125.
(2) الرد على المنطقيين ص 468.
(3) درء تعارض العقل والنقل 7 / 172 , 173.
(4) سورة الأنعام الآية 68.
(5) الجامع لأحكام القرآن 7 / 12 , 13.
(6) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة، ت أحمد سعد حمدان 1 / 19.
(7) المرجع السابق 1 / 133.
(8) تبيين كذب المفتري 1 / 99.(7/59)
أولاً : أن يحرص المسلم أن يكون جدله شرعياً وقد بينا أن الجدل الشرعي غير مطلق الجدل وأنه هو الوارد مقيداً في كتاب الله تعالى بأن يكون بالتي هي أحسن وهو في معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام .
ثانياً : أن يكون الطرف الإسلامي قادراً على المناظرة .
فإذا ترجحت مصلحة قيام المناظرة فلا بد من تحقق شروط القدرة في من سيتولى المناظرة أمام صاحب الباطل والبدعة .
فليس كل من عرف الحق قدر على تعريف غيره به , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ليس كل من عرف الحق إما بضرورة أو بنظر أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه , فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرفه به غيره نوع , وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به ؛ فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة ، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به "(1)
ويقول رحمه الله : " وقد ينهون - أي السلف - عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "(2) .
وهذه القدرة أظهر ما تكون في ثلاثة جوانب :
*القدرة العلمية في الموضوع المتناظر فيه .
*القدرة الذهنية والفطنة في سرعة استحضار الأدلة والردود المناسبة .
*القدرة التعبيرية التي تحقق جزالة العرض والاستدلال وبلاغته ووجازته .
يقول ابن عبد البر رحمه الله : " قال بعض العلماء : كل مجادل عالم وليس كل عالم مجادلا , يعني أنه ليس كل عالم يتأتى له الحجة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة , ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة , والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم "(3) .
ثالثاً : إخلاص النية لله تعالى في المجادلة , والحذر من أن يدخل فيها شيء مخالف أو مضاد أو مفسد للإخلاص , فمقام الجدل والمناظرة مظنة للزلل وغلبة الهوى وطلب الشهرة وغير ذلك من الأخلاق الذميمة في دخائل النفوس .
يقول الإمام الغزالي ناصحاً تلميذه بأمور منها : " أن لا تناظر أحداً في مسألة ما استطعت ؛ لأن فيها آفات كثيرة ، فإثمها أكبر من نفعها إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها " ثم يعقب بحل هذه المعضلة بجواب في غاية الدقة بأنك إذا كنت لا بد فاعلا فلتتبين صدقك في إرادة الحق من خلال علامتين :
" إحداهما : أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك .
والثانية : أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ "(4).
رابعاً : العدل مع الخصم في المجلس والهيئة والوقت وإعطاء الفرصة في عرض الأدلة وقبول الحق منه والعودة عن الخطأ , بل والتأسيس على فرضية أن الحق أو الخطأ يمكن أن يكون في كلام أي من الطرفين كما قال تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) [سبأ/24] (5) وذلك على وجه الإنصاف في المجادلة , وليس من باب الشك فيها , قال الإمام البغوي :
" ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل للآخر، أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب , والمعنى ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال "(6) لا سيما إذا تبعه المطالبة بالدليل على الدعوى وهو من الإنصاف والعدل أيضاً كما قال تعالى : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) [البقرة/111، 112] (7) .
خامساً : رد التنازع والاختلاف إلى حكم الله ورسوله قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) [النساء/59] (8) , وهذا يعني أن المعول عليه أولا وأخيراً في الأمر المتنازع عليه أو المختلف فيه هو حكم الله تعالى الوارد في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وليس أعراف الناس أو مذاهبهم أو آراءهم أو عدد أصواتهم ونحو ذلك , وهذا فيما بين المسلمين واضح , وهو كذلك فيما يقبله المسلم ويوافق عليه مع غير المسلم إذ يكون مرجعه في التصويب والتخطئة والقبول والرد ما يوافق مراد الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
سادساً : اصطحاب الآداب الرفيعة والأخلاق الحسنة , وذلك أمر يسنده الشرع ويزكيه , كما يرتضيه العقلاء ويقدرونه(9) , وهذه الآداب متضمنة في نصوص شرعية كثيرة منها قوله تعالى: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) [النحل/125](10). وقوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) [المؤمنون/96]) وقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) [البقرة/83] (12) وقوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) [الإسراء/13، 14] (13).
... قال ابن كثير رحمه الله : " وقوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن ( أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ( الآية فأمره تعالى بلين الجانب , كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون "(14) .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 7 / 171.
(2) المرجع السابق 7 / 173.
(3) جامع بيان العلم وفضله 2 / 107.
(4) أيها الولد ص 65.
(5) سورة سبأ الآية 24.
(6) معالم التنزيل 3 / 558.
(7) سورة البقرة 111 , وسورة النمل 64.
(8) سورة النساء الآية 59.
(9) انظر في تفصيلها أدب الحوار والمناظرة للدكتور علي جريشة ص 69 , ومعالم في منهج الدعوة للدكتور صالح بن حميد ص 229 , وأسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام ص 137 .
(10) سورة النحل الآية 125.
(11) سورة المؤمنون الآية 96 وسورة فصلت الآية 34.
(12) سورة البقرة الآية 83.
(13) سورة الإسراء الآية 53.
(14) تفسير القرآن العظيم 2 / 592.(7/60)
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيه إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا من ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "(1).
ويقول رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "(2) .
وهذه الأخلاق والآداب ظاهرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع المخالفين , فمثلا في مناظرته مع عتبة بن ربيعة , كان عليه الصلاة والسلام ينصت باهتمام لما يقوله عتبة , بل إنه يتأكد من انتهائه في عرض ما لديه , ويقدره بمناداته بكنيته : " أقد فرغت يا أبا الوليد "(3) .
ولا شك أن اصطحابها في مقام المجادلة والاختلاف سبب بإذن الله في فتح قلب الخصم لقبول الحق ومعين على الرجوع عن الخطأ , فإذا ظلم الآخر ساغ مقابلة ظلمه بغير التي هي أحسن , كما قال تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) [العنكبوت/46، 47] (4) وذلك بالإخشان والمغالظة أو الانتقال معه من الجدال إلى الجلاد , كما سنبينه في المبحث الثالث بإذن الله .
المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة :
كثيراً ما ترد على الأذهان مسألة تتصل بنهاية الجدل والمناظرة , وفي هذا المبحث يمكن التفصيل من جهتين :
الأولى : النهاية الطبيعية للجدل والمناظرة باعتبارها حدثا ينتهي وقته المحدد، أو ينتهي التناظر فيه لانتهاء المتناظرين وتسليم أحدهما للآخر .
فإذا كان التسليم هو نهاية المناظرة فإن المتوقع ظهور الحق وتسليم المخالف له، وهو الغالب بفضل الله لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه , لا سيما مع توافر الأسباب التي أشير إلى شيء منها في المبحثين السابقين , وهذه الظهور للحق من أعلى درجات إقامة الحجة على المخالف , وغاية عمل الداعية ومسؤوليته , ولا يستلزم ذلك بالتأكيد التزام المخالف للحق الذي سلم به , إلا في حالات يكون فيها هذا الالتزام شرطاً مسبقاً بين الطرفين بعضهما أو أمام طرف ثالث راع لمناظرتهما .
وإذا كان التسليم لا يعني بالضرورة الالتزام بنتيجة المناظرة والجدل ؛ فإن أقل ما فيه ظهور الحق للخلق وإقامة الحجة بأجلى صورها , وقد حدث ذلك في قصة وفد نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن حجر في فتح الباري : " وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام "(5).
الثانية : الإنهاء المقصود للمجادلة والمناظرة أو تغييرها إلى أسلوب مواجهة آخر , وهذا أيضاً مظهر آخر من مظاهر واقعية هذا الدين وتشريعاته العظيمة , فليست المناظرات والمجادلات هدفاً لذاتهاً أو ترفاً وعبثاً لا قيمة له بل هي أسلوب يقصد منها إقامة الحجة على الخلق وإظهار الحق والدلالة عليه لمن كان متردداً أو شاكاً فيه .
وهنا لا نعني بإنهاء المجادلة والمناظرة الترك والانسحاب المفاجئ الذي يكون سببه العجز عن المواجهة ، فالعاجز عن المواجهة لا يجوز له التقدم في هذا المقام ابتداء .
وإنما المقصود أن الداعية بذل وسعه وجادل بالتي أحسن وأبان حجته بما لا يدع شبهة لمشتبه , فظهر الحق لكل عاقل ومنصف ، ولكن الخصم ظهر منه أحد هذه الأمور :
أولاً : استمراره - الخصم - في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .
ثانياً : وقوع الظلم من المجادل فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .
ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وبخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .
وسنعرض إلى هذه المسائل بالتفصيل : ...
أولاً : استمرار الخصم في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في النهي عن الاستمرار في المناظرة إذا كان الآخر معانداً مع ظهور الحق له :
" وقد ينهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله وهو السوفسطائي فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق ولا مضرة فيه تركوه وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر "(6) .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 452.
(2) المرجع السابق 632.
(3) انظر النص كاملا في السيرة النبوية لابن هشام 1 / 362 والبداية والنهاية 3 / 62 , 64 .
(4) سورة العنكبوت الآية 46.
(5) فتح الباري 8 / 94.
(6) درء تعارض العقل والنقل 7 / 173 , 174.(7/61)
وقال ابن القيم رحمه الله : " وقد تكون الحجة بمعنى المخاصمة ومنه قوله تعالى : ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى/15] (1) أي قد وضح الحق واستبان وظهر ؛ فلا خصومة بيننا بعد ظهوره , ولا مجادلة فإن الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة , والجدال على بصيرة مخاصمة المنكر , ومجادلته عناء لا غنى فيه , هذا معنى هذه الآية "(2).
وقال البيضاوي في التفسير: " ( لا حجة بيننا وبينكم ) لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد "(3) .
وقال الثعالبي : " وقوله ( لا حجة بيننا وبينكم ) أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم تعاندون وفي قوله ( الله يجمع بيننا ) وعيد بين "(4).
وقال أبو السعود: " ( لا حجة بيننا وبينكم ) لا محاجة ولا خصومة لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محل سوى المكابرة " (5).
كما يمكن أن ينهى التنازع بالمباهلة وذلك لقطع الاحتجاج فيما لو استمر الخصم بالمجادلة مع ظهور الحق وجلائه .
والمباهلة : " الدعاء على الظالم من الفريقين "(6) وفيها قول الله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) [آل عمران/61] (7) ، وهي شريعة قائمة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في قصة أهل نجران :" وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ووقع ذلك لجماعة من العلماء ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة , ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين "(8).
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فقه قصة وفد نصارى نجران : " ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة , وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك , ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ولم ينكر عليه الصحابة , ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك وهذا من تمام الحجة "(9) .
ثانياً : وقوع الظلم من المجادل , فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .
ودليله ما جاء في قوله تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) [العنكبوت/46] (10) .
وقد أورد الإمام القرطبي قول مجاهد واستحسنه فقال: " قال مجاهد هي محكمة - يعني هذه الآية وأنها غير منسوخة - فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة وقوله على هذا ( إلا الذين ظلموا منهم ( معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق ... وقوله إلا الذين ظلموا منهم معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية "(11) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 15.
(2) مفتاح دار السعادة 1 / 144 , 145 .
(3) تفسير البيضاوي 5 / 125 , 126.
(4) الجواهر الحسان للثعالبي 4 / 105.
(5) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ( تفسير أبي السعود ) 8 / 28.
(6) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 1 / 214.
(7) سورة آل عمران الآية 61.
(8) فتح الباري 8 / 94.
(9) زاد المعاد 3 / 346 .
(10) سورةا العنكبوت الآية 46.
(11) الجامع لأحكام القرآن 13 / 350 , 351.(7/62)
وقال الجصاص في أحكام القرآن : " وقوله تعالى ( إلا الذين ظلموا منهم ) يعني - والله أعلم - إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم وهو نحو قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) [البقرة/191، 192]( (1)
وقال مجاهد ( إلا الذين ظلموا منهم ) بمنع الجزية وقيل ( إلا الذين ظلموا منهم ) بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم "(2) .
إذا فالأصل في الجدال أن يكون بالتي هي أحسن كما قال تعالى أيضاً في سورة النحل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ( وعندما يحصل الظلم ينتقل إلى غير التي هي أحسن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ( " فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقاً من المشركين وأهل الكتاب بالتي هي أحسن , وقد قال تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ( فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن بخلاف من لم يظلم فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن "(3) .
ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه ، وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين .
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف ؛ وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس ؛ قوبل بالعقوبة , قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) [الشورى/16، 17] (4) " (5).
وقال رحمه الله : " فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة قال تعالى : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء/15، 16] (6) ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب "(7).
ومعلوم أن العقوبات التي يواجه بها صاحب البدعة على أنواع ؛ فمنها ما هو ممكن لكل أحد مثل : الهجر والمقاطعة والاجتناب والإعراض ونحو ذلك .
ومنها ما هو ممكن لولي الأمر وصاحب السلطة وذلك في مثل العقوبات التعزيرية البدنية , والله المستعان .
خلاصة البحث وأهم النتائج والتوصيات:
اشتمل هذا البحث الذي عنوانه ( الدعوة إلى الله بالمجادلة: مفهومها ومشروعيتها وضوابطها ) على ثلاثة فصول :
الفصل الأول وفيه بيان لمفهوم الجدل في اللغة والاصطلاح بلفظه المطلق وبقيده الوارد في نصوص القرآن الكريم , تلا ذلك تحليل لتاريخ الجدل في ثلاثة أطر : الإطار الإنساني , وإطار البيئة اليونانية وما دار فلكها , والإطار الإسلامي بالمعنى العام والخاص للإسلام .
وفي الفصل الثاني جرى تناول المشروعية من خلال ما ورد في الكتاب والسنة , وتبع ذلك إيضاح لأهمية المجادلة في مجال الدعوة إلى دين الله عز وجل .
أما الفصل الثالث وهو الأخير فقد حوى الضوابط للدعوة بالمجادلة وجاء تناول ذلك بالحديث عن الضوابط قبل حصول الجدل وأثناءه وبعده
ويمكن أن نشير إلى أهم النتائج في النقاط الآتية :
الجدل المشروع غير مطلق الجدل فهو أقرب إلى المناظرة التي تهدف إلى إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام , وهو شكل من أشكال الحوار , وهو - أي الجدل - غالب في جنس الإنسان بدلالة النقل والعقل .
للمسلمين عناية خاصة بالجدل استفادوها من توجيهات الكتاب والسنة سواء في المفهوم أو المشروعية أو الضوابط .
الدعوة بالمجادلة لها أهمية تتمثل في أن بعض المدعوين يحتاج إليها معه لإقناعه بالحق وإزالة شبهته بها وإقامة الحجة , ومن جهة أخرى لها أهمية لأثرها في إظهار الحق وقطع الباطل بعامة , كما أن أهميتها تظهر بالنظر إلى نتائجها فعلا في تاريخ الدعوة عند المسلمين ومجادلاتهم ومناظراتهم مع المخالفين في الدائرة الإسلامية أو خارجها .
للدعوة بالمجادلة ضوابط تسبق إقامتها فقد يستغنى عنها بالحكمة والموعظة الحسنة إذا كان المدعو قابلا , أو قد يعدل عنها ويعرض عن إقامتها ابتداء حتى لو طلبها المخالف إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك .
للدعوة بالمجادلة ضوابط تصاحب قيامها يكون التزامها سبباً بإذن الله في نجاحها .
للدعوة بالمجادلة ضوابط تتبع قيام الدعوة بالمجادلة إذ هي أسلوب لإظهار الحق ودعوة الخلق , ومتى تحقق البيان , أو ظهر من المخالف ظلم أو مقصد سيئ في نشر البدعة وطلب الشهرة ؛ كان من المصلحة قطع الاحتجاج بالمباهلة أو إيقاع العقوبة أو الانتقال من الجدال إلى الجلاد .
أبرز التوصيات :
لا شك أن طبيعة هذه البحوث الاختصار والاقتصار على المهمات , وإلا فالموضوع جدير بالتوسع والتناول من زوايا ومداخل شتى , ومن أبرز ما يراه الباحث جديراً بالتوسع عدة أمور أهمها :
إجراء استقراء لتاريخ الدعوة بالمجادلة والمناظرة في تاريخ الدعوة إلى الإسلام .
القيام بدراسات متعمقة وتحليل دقيق للمناظرات في مجال الدعوة بأطر ومداخل متعددة منها : الموضوع , ومنها العصر ومنها طبيعة المخالف أو دينه أو مذهبه أو غير ذلك .
توظيف قواعد الشريعة وضوابطها في مسائل الحوار المستجدة في هذا العصر من حوار الأديان وحوار الحضارات وغيرها , سواء من حيث الأسلوب أم المضامين .
__________
(1) سورة البقرة الآية 191.
(2) أحكام القرآن 5 / 217.
(3) الجواب الصحيح 3 / 72.
(4) سورة الشورى الآية 16.
(5) درء تعارض العقل والنقل 7 / 173.
(6) سورة الإسراء الآية 15.
(7) مجموع الفتاوى 3 / 240.(7/63)
وهذه الأمور في غاية المنفعة للدعوة والدعاة ؛ مؤسسات وأفراداً في هذا العصر , ومن المصالح الظاهرة فيه اختصار فهم القضايا وأدلتها واستيعاب محل الخلاف مع الغير , وأبرز العوامل المؤثرة في النجاح والفشل في مجال الجدل والمناظرة بخاصة والحوار بعامة , لا سيما مع تقارب الناس بوسائل الاتصال المختلفة وشيوع ثقافة الحوار والمطالبة به من أمم وطوائف شتى في هذا العصر .
والحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قائمة المصادر والمراجع :
القرآن الكريم .
أبجد العلوم , صديق حسن القنوجي , تحقيق د. عبد الجبار زكار , دار الكتب العلمية , بيروت , 1978 م .
أدب الحوار والمناظرة , د. علي جريشة , دار الوفاء , المنصورة , ط1, 1410 هـ .
أحكام القرآن , أحمد بن علي الرازي الجصاص , تحقيق محمد الصادق قمحاوي , دار إحياء التراث العربي , بيروت , 1405 هـ .
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم , محمد بن محمد العمادي أبو السعود , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية , د. قاسم السامرائي , دار الرفاعي , الرياض , ط1 , 1403 هـ .
أسلوب المناظرة في دعوة النصارى إلى الإسلام , دراسة تحليلية تقويمية للمناظرات التي جرت في أمريكا الشمالية في المدة من 1400 - 1410 هـ , إبراهيم بن صالح الحميدان , رسالة دكتوراه غير منشورة , قسم الدعوة والاحتساب , كلية الدعوة الإعلام , جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1416 هـ .
أنوار التنزيل وأسرار التأويل ( تفسير البيضاوي )، تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة , دار الفكر , بيروت , 1416 هـ.
أيها الولد , أبو حامد الغزالي , تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي , دار الاعتصام , القاهرة , ط2 , 1405 هـ .
البداية والنهاية , إسماعيل بن عمر بن كثير , مكتبة المعارف , بيروت .
تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري , علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي , دار الكتاب العربي , بيروت , ط3 1404 هـ .
التعريفات , علي بن محمد بن علي الجرجاني , تحقيق إبراهيم الأبياري , دار الكتاب العربي , بيروت , ط1 , 1405 هـ.
تفسير القرآن العظيم , إسماعيل بن عمر بن كثير , دار الفكر , بيروت , 1401 هـ.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان , عبد الرحمن بن ناصر السعدي , تحقيق عبد الرحمن بن معلا بن لويحق , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط1 , 1423 هـ .
التقريب لحد المنطق , علي بن أحمد بن سعيد بن حزم , تحقيق د. إحسان عباس , دار مكتبة الحياة , بيروت .
التوقيف على مهمات التعاريف , محمد بن عبد الرؤوف المناوي , تحقيق د. محمد رضوان الداية ,دار الفكر المعاصر, دار الفكر, بيروت,دمشق , ط1, 1410 هـ.
جامع بيان العلم وفضله , يوسف بن عبد البر النمري القرطبي ,دار الكتب العلمية,بيروت .
جامع البيان , محمد بن جرير بن يزيد الطبري , دار الفكر , بيروت , 1405 هـ .
الجامع لأحكام القرآن , محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي , تحقيق أحمد عبد العليم البردوني , دار الشعب , القاهرة , ط2 .
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية تحقيق د. علي حسن ناصر وزملائه , دار العاصمة , الرياض , ط1 , 1414 هـ .
الجواهر الحسان في تفسير القرآن , عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي مؤسسة الأعلمي للمطبوعات , بيروت .
الحدود الأنيقة , زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري , تحقيق د. مازن مبارك دار الفكر المعاصر , بيروت , ط1 , 1411 هـ
الحوار الإسلامي المسيحي - رسالة ماجستير - بسام داود عجك , دار قتيبة , ط1 , 1418 هـ .
الحيدة , عبد العزيز بن يحيى الكناني , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء الرياض .
الدعوة إلى الإسلام , توماس أرنولد , ترجمة إبراهيم حسن وزملائه , مكتبة النهضة العصرية , القاهرة , ط3 , 1970 م .
درء تعارض العقل والنقل , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , تحقيق د. محمد رشاد سالم , دار الكنوز الأدبية , الرياض , 1391 هـ .
الرد على المنطقيين , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , دار المعرفة , بيروت .
رسالة الآداب في علم آداب البحث والمناظرة , محمد محيي الدين عبد الحميد المكتبة التجارية الكبرى , القاهرة , ط7 , 1387 هـ .
الرسالة الرشيدية , عبد الرشيد الجونغوري الهندي , تحقيق علي مصطفى الغرابي , مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده , القاهرة , 1369 هـ .
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني , محمود الألوسي , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
رياض الصالحين , يحيى بن شرف النووي ,دار الكتاب العربي, بيروت, ط1 1993 م .
زاد المسير في علم التفسير, عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي , المكتب الإسلامي , بيروت , ط3 , 1404 هـ .
زاد المعاد في هدي خير العباد ، محمد بن أبي بكر الزرعي ( ابن قيم الجوزية ) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط , مؤسسة الرسالة , مكتبة المنار الإسلامية , بيروت , الكويت , ط 14 , 1407 هـ .
سنن أبي داود , دار الحديث , حمص , ط1 , 1391 هـ .
السيرة النبوية , عبد الملك بن هشام, دار الريان للتراث, القاهرة , ط1, 1408 هـ .
شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة , هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي تحقيق أحمد سعد حمدان , دار طيبة , الرياض , 1402 هـ .
شرح الكوكب المنير , محمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم الفتوحي , تحقيق محمد حامد الفقي , مطبعة السنة المحمدية , القاهرة , ط 1 , 1372 هـ .
الشريعة , أبو بكر محمد بن الحسن الآجري , تحقيق محمد حامد الفقي , مطبعة السنة المحمدية , القاهرة .
صحيح البخاري , محمد بن إسماعيل البخاري , تحقيق د. مصطفى ديب البغا دار ابن كثير , بيروت , ط3 , 1407هـ .
صحيح مسلم , مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء , الرياض , 1400 هـ .
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة , ابن قيم الجوزية , تحقيق د. علي ابن محمد الدخيل الله , دار العاصمة , الرياض , ط 3 , 1418 هـ .
ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة , عبد الرحمن الميداني , دار القلم بيروت , ط2 , 1401 هـ .
العين , أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي , تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي , دار ومكتبة الهلال .
فتح الباري شرح صحيح البخاري , أحمد بن علي بن حجرالعسقلاني , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب , دار المعرفة , بيروت , 1379 هـ .
فتح القدير , محمد بن علي بن محمد الشوكاني , دار الفكر , بيروت .
القاموس المحيط , محمد بن يعقوب الفيروزبادي .
الكافية في الجدل , إمام الحرمين أبو المعالي الجويني , تحقيق د. فوزية حسين محمود , مطبعة مصطفى البابي الحلبي , 1399 هـ .
لسان العرب , محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري , دار صادر , بيروت , ط1
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين , ابن قيم الجوزية , تحقيق محمد حامد الفقي , دار الكتاب العربي , بيروت, ط2 , 1393 هـ .
المستدرك على الصحيحين , محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري , تحقيق مصطفى عبد القادر عطا , دار الكتب العلمية , بيروت ط1 , 1411 هـ .
معارج القبول , حافظ الحكمي , الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء , الرياض .(7/64)
معالم التنزيل , الحسين بن مسعود الفراء البغوي , تحقيق خالد العك ومرون سوار , دار المعرفة , بيروت , ط2 , 1407 هـ .
معالم في منهج الدعوة , د. صالح بن عبد الله بن حميد , دار الأندلس الخضراء ط1 , 1420 هـ .
معجم مقاييس اللغة , أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا , تحقيق محمد عبد السلام هارون , دار الكتب العلمية , قم .
المعونة في الجدل , أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي , تحقيق د. علي بن عبد العزيز العميريني , جمعية إحياء التراث الإسلامي , الكويت , ط 1, 1407هـ .
مفتاح دار السعادة , ابن قيم الجوزية , دار الكتب العلمية , بيروت .
الملل والنحل , محمد بن عبد الكريم بن أبي بكرأحمد الشهرستاني , مصطفى البابي الحلبي , القاهرة .
مناهج الجدل في القرآن الكريم , د. زاهر بن عواض الألمعي , ط3 , 1404 هـ .
منهاج السنة النبوية , أحمد بن عبد الحليم بن تيمية , تحقيق د. محمد رشاد سالم , مؤسسة قرطبة , ط1 , 1406 هـ .
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ,علي بن أحمد الواحدي ,تحقيق صفوان عدنان داوودي , دار القلم والدار الدمشقية , دمشق وبيروت , ط1 , 1415 هـ
==============
أطفالنا وحب الإسلام
د . أماني زكريا الرمادي
تمهيد
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه،حمداً يوازي نعمته علينا بالإسلام... إذ أنزل إلينا خير كتبه،وأرسل إلينا أفضل رسله وشرَع لنا أفضل شرائع دينه ،وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس...والصلاة والسلام على خير البرية ،وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد.
فإن طفلك هو هبة الله تعالى لك،هو بضعة منك،وهو ثمرة فؤادك،وفلذة كبدك،ومعقد آمالك،وحلمك الذي لم تحققه بعد...لذا فمن الطبيعي أن تحلم له بكل خير...بالتفوق في الدراسة،والنشاط الذي يمارسه، ثم الوظيفة المرموقة،ثم الزواج السعيد، والرفاء، والبنين...إلخ
ومن أجل ذلك فأنت تبذل كل غال وثمين لتساعده على تحقيق كل هذه الأحلام ،أو بعضها،أو حتى أحدها!
ولكن؛ هل فكرت يوماً في أن إمكانات طفلك قد لا تتناسب مع تحقيق هذه الأحلام؟
ولو فرضنا-جدلاً- أن تلك الأحلام قد تحققت جميعاً ،فماذا لو أصبح المجتمع يكتظ بذوي الوظائف المرموقة؟!
هل تستقيم الحياة بدون المُزارع، والصانع، والخبَّاز ،والنجار، والحداد، وعامل النظافة... وغيرهم من ذوي المهن التي لا تتمناها لطفلك؟!
فما هو الحل في رأيك؟؟؟
إن الله تعالى كما قسَّم الأرزاق،" فقد قسم المواهب وجعلها مختلفة لكي يتكامل الناس، ويتعاونون ،ويحتاج بعضهم إلى بعض حتى يعمروا الكون"(1)،لذلك فإن بداية الحل هي أن تحلم لطفلك أحلاماً لا تتعارض مع مواهبه ،وفي نفس الوقت لا تحتاج لتحقيقها إلى أن تدفعه دفعاً يحطم نفسيته ،ويطمس مواهبه الطبيعية المعبِّرة عن ذاته،ويضعف شخصيته؛فإذا أردت له السعادة ،فدعه يكون نفسه!!! وليس أنت أو أي أحد آخر ممن تُعجب بهم.
وبقية الحل هي أن تهتم بمستقبله في الآخرة ،كما تهتم بمستقبله الدنيوي،بل أكثر!
فكما تخشى عليه من هبَّات النسائم الرقاق في الدنيا ، كذلك يجب أن تخشى عليه من عذاب الله في الآخرة.
مرة أخرى ، كيف؟؟؟
ذلك بأن تحلم له بإيمان قوي، وعقيدة راسخة ، وهمة عالية...فإن ساعدته على تحقيق ذلك أصبح طفلك متفوقاً في كل نواحي حياته ،عزيز النفس ،عالي الهمة،مرموقاً في أي وظيفة يقدرها الله سبحانه له، يعرف كيف يسعد نفسه ويسعد غيره ؛ فيكون لك قرة عين؛ ومن ثم يكون مسلماً حقاً....فهل يراودك هذا الحلم؟
إذا كانت إجابتك هي "نعم" فتعال معي عبر السطور القادمة لترى محاولة لتحقيق هذا الحلم،عسى الله الكريم أن ينفع بها ...فله الحمد ومنه وحده التوفيق، والمنة ،والفضل .
د.أماني زكريا الرمادي
1- ما هو الإسلام؟
هو أجل وأعظم وأشرف نعم الله على الإنسان.
وهو الاستسلام الكامل لأوامر الله سبحانه ،والانتهاء عن نواهيه؛استسلام الواثق بحكمته ،المعتمد على قدرته؛ الطامع في رحمته .
2- ما هو حب الإسلام؟
هو أن تكره أن تخرج عنه؛ فتعود إلى الكفر، كما تَكره أن تُقذف في النار.
3- لماذا نحب الإسلام وننتمي إليه ؟
أ- لأنه الدين الخاتم الذي قال عنه سبحانه تعالى في قرآنه المعجز في كل مكان وزمان:" إنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلام"وقال عمن يتبعون غيره: " ومَن يبتَغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"
ب- لأنه الدين القيِّم ،كما قال عنه جل وعلا في قرآنه -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- في كثير من المواضع ؛ أي الدين الثابت الذي لا عوَج فيه، ولا زيغ ،ولا ضلال.
ج- لأنه دين الحرية الذي حرر الإنسان من العبودية لغير الله ، ومن الخوف إلا مِنْه، ومن الحاجة إلا إليه ومن الذل إلا له،ومن التوكل إلا عليه،فإذا كان مَن نعبده ونخشاه،ونذل له،ونتوكل عليه هو أرحم الراحمين،وأكرم الأكرمين،ومالك الملك،والقادر المقتدر، والعزيز الجبار،وذو الجلال والإكرام،و الحي القيوم،والحفيظ المقيت،فهنيئاً لنا بهذا الدين.
ب- لأنه دين الاعتدال الذي رفع الإصر والأغلال عمن اتبعوه ،بعكس الأمم التي كانت من قبلهم،( يقول العلامة سليمان الندوي: «ما من دين خلا من العبادة لله، لكن الأديان القديمة حسب أتباعها أن الدين يطالبهم بإيذاء أجسامهم وتعذيبها وأن الغرض من العبادة إدخال الألم على الجوارح وأن الجسم إذا زادت آلامه كان في ذلك طهارة للروح ونزاهة للنفس! وقد جاءت الشريعة الإسلامية برفع هذه الآصار فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: «إياكم والغلو فإنما اهلك من كان قبلكم الغلو» وهو الغلو الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب ونهاهم عنه: «قل يا أهل الكتاب لا تغْلُوا في دينكُم غيرَ الحق ولا تتَّبعوا أهواءَ قومٍ قد ضلوا من قبل وأضَلوا كثيراً وضلُّوا عن سواءِ السبيل».
وقد عُرف الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين بالأوصاف المميزة التالية: «يأمُرُهم بالمعروف وينهاهُم عن المُنكر ويحِلُّ لهمُ الطيباتِ ويحرِّم عليهم الخبائثَ ويضع عنهم إصرَهم والأغلالَ التي كانت عليهم"؛ وقد امتن الله برسوله على الناس فقال: «لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم»، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «بُعثت بالحنيفية السمحة"، فهي حنيفية العقيدة، سمحة في التكاليف والأحكام وإنما خصها الله بالسماحة والسهولة واليسر لأنه أرادها رسالة الناس كافة والأقطار جميعا، والأزمان قاطبة... ورسالة هذا شأنها من العموم والخلود لابد أن يجعل الله الحكيم في ثناياها من التيسير والتخفيف والرحمة ما يلائم اختلاف الأجيال وحاجات العصور وشتى البقاع... وهذا واضح في شريعة الإسلام عامة وفي العبادات خاصة ؛يقول الله تعالى في بيان رسالة المسلم في الحياة: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون، وجاهِدوا في اللهِ حقَّّ جهاده هو اجتَباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج»؛ويقول في أعقاب ما ذكره من المحرمات في النكاح وإباحة ما وراء ذلك بشرطه «يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الانسانُ ضعيفا»)(2)(7/65)
د- لأنه دين التيسير الذي يتناسب مع الفطرة البشرية، فلا يكلف النفس إلا وسعها ،ولا يحمِّلها إلا ما تطيق،بل وينهى عن المغالاة والتنطع والتشدد،خاصة في أمور الدين،يقول المولى جل وعلا:"لا يكلِّف اللهُ نفساً إلا وُسعها"،كما يقول:" يريدُ اللهُ بكم اليسرَ ولا يريد بكم العُسر»؛ ويقول الرسول الكريم:" إن هذا الدين شديدٌ فأوغل فيه برفق"،ويقول:"روِّحوا القلوب فإن القلوب إذا تعبت كلَّت وإذا كَلَّت مَلَّت " ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: «ان الدين يسر ولن يشادد الدين أحد إلا غلبه ،فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا» ونراه صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أميرين الى اليمن كان من وصيته لهما: «يَسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا ،وتطاوعا ولا تختلفا». ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه ما خُيِّر بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .
وإذا كانت وجهة الإسلام هي التيسير فكل مسلم يبغي التشديد والتعنت إنما يعاند روح الإسلام ولهذا وقف الرسول الكريم في وجه المتعنتين والمتشددين وأخبر بهلكتهم ووبالهم فقال:" ألا هلك المتنطعون ،ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون» ولم يكن يكرر الكلمة ثلاثاً إلا لعظم خطر مضمونها.
ج- لأنه دين العطاء الذي يعطي الأجر الوفير على مساعدة الغير والتخفيف عنهم وإدخال السرور على قلوبهم،وإطعامهم ،وعيادة مريضهم وإعانة ضعيفهم،وكفالة يتيمهم ،وإغاثة ملهوفهم،وتعليم جاهلهم،وتوقير كبيرهم ،والعطف على صغيرهم ،والعفو عن مسيئهم.
د- لأنه دين النظافة، والطهارة الظاهرة والباطنة، والخُلُق الكريم،والرقي والسمو والحضارة بنوعيها : المادية والروحية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ؛قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة"،و قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء، رواه مسلم.ويقول الله تعالى:" إن الله يحب التَّوَّابين ويحب المتطهرين "
أما الطهارة الباطنة فهي" تطهير النفس من آثار الذنب والمعصية ، وذلك بالتوبة الصادقة من كل الذنوب والمعاصي ، وتطهير القلب من أقذار الشرك والشك والحسد والحقد والغل والغش والكبر ، والعُجب والرياء والسمعة ، وذلك بالإخلاص واليقين وحب الخير والحلم والصدق والتواضع ، وإرادة وجه الله تعالى بكل النيات والأعمال الصالحة .
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن أهمية طهارة القلب :"تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم. وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام ينهى أن يبلغه عن أصحابه ما يسوؤه ،فيقول لهم:"لا يبلِّغني أحد منكم عن أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"رواه أبو داود
هـ- لأنه الدين الوحيد الذي عرف للمرأة قدرها وأعطى لها من الكرامة، والحقوق مالم نر مثله لدى أي دين أو ملة أو عقيدة أخرى(للاستزادة في هذا الموضوع إستمع لدرس مكانة المرأة في الإسلام للأستاذ عمرو خالد)(3)
و-لأنه الدين الوحيد الذي اهتم بأتباع الأديان الأخرى ،وكفل لهم حرية العقيدة،(فقد قال تعالى " لا ينهاكُم الله عن الذين لم يقاتِلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبَرُّوهم وتُقسطوا إليهم إن اللهَ يحب المقسطين " 8- الممتحنة ،والآية الكريمة ترخص للمؤمنين في البر والصلة قولا وفعلا للذين لم يقاتلوهم لأجل الدين ولم يلحقوا بهم الأذى ولم يُخرجوهم من ديارهم ،وترخص لهم ببرهم والإحسان لمن أحسن منهم والعدل في معاملاتهم وهذا خالد بن الوليد يعاهد أهل الحيرة في زمن أبو بكر رضي الله عنه على ألا يهدم لهم بيعة أو كنيسة وعلى ألا يُمنعوا من نواقيسهم أو إخراج صلبانهم وأن يُعال العاجز هو وأولاده من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الإسلام)(4)
كما يسوي الإسلام في الحقوق( بين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى؛ فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من ظلم معاهدا أو أنقصه حقه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فانا خصمه يوم القيامة " لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصى عمرو بن العاص وهو وال على مصر، يقول له " أن معك أهل الذمة والعهد فاحذر يا عمرو أن يكون الرسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك " ونراه حين فتح بيت المقدس يعقد معاهدة مع أسقفها جاء فيها: " هذا ما أعطى عمر أهل إيلياء ( بيت المقدس ) من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضار أحد منهم ...فكان لغير المسلمين في بلاد الإسلام ما للمسلمين من حقوق عامة وعليهم ما على المسلمين كذلك)(5)
ز- لأنه دين الرحمة الذي أوصى بالضعفاء كالأطفال، واليتامى والنساء، وكبار السن، والمساكين ، والخدم ؛ فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بهم قائلاً:
" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا"
"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" مشيراً بإصبعيه السبابة والوسطى .
"خير البيوت بيت فيه يتيم مُكرم"
" من أضحك أنثى كان كمن بكى من خشية الله"
" استوصوا بالنساء خيرا"
" من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن، وضرائهن،وسرائهن دخل الجنة" فقال رجل :"وثنتان يارسول الله؟" قال:" وثنتان"،فقال آخر:" وواحدة؟" قال: "وواحدة"
وعن الخدم يقول:" إنهم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم،فأطعموهم مما تطعمون ،واكسوهم مما تلبسون"...ولك أن تتأمل عظمة الإسلام في كلمة إخوانكم؛ فهو يحترم آدمية وكرامة الخادم لأنه-في النهاية- إنسان له مشاعر وأحاسيس.
كما يعتبر الإسلام أن من زار مريضاً كان كمن زار الله تعالى ، ومن امتنع عن زيارته عاتبه الله! و نراه-صلى الله عليه وسلم- يوصي بحُسن اختيار الزوج والزوجة كأحد حقوق الطفل،ثم بحسن اختيار أسمائهم،وحسن تأديبهم،والتصابي لهم،وإكرامهم والعطف عليهم ؛ثم يجعل من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم!!!! كما نرى الله تعالى يوصي المؤمنين قائلاً:" واعبدوا الله َ و لاتُشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين"،ونراه صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويحسن إليهم ويدعو ربه أن يحشره في زمرتهم ! فأي دين هذا؟؟!!
ح- لأنه دين المعاملة الحسنة الذي يجعل من الكلمة الطيبة صدقة،و التبسم في وجه الغير صدقة، ومن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ويعطي أعظم الأجر على إفشاء السلام، بل ويجعل مما يحط الخطايا عن المسلم : مصافحةأخيه المسلم،والمسح على رأس اليتيم،وإطعام الرجل زوجته في فمها،وتزينه لها كما تتزين له،والحرص على عدم إيذاء الآخرين بالقول أو الإشارة أو الصوت المرتفع،فيقول المولى عز وجل:" وقولوا للناس حُسنا"،ويقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:" المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده"،بل ويجعل المعاملة الحسنة من أساسيات الدين ،إذ يقول صلى الله عليه وسلم:" الدين المعاملة"!
ط- لأنه الدين الوحيد الذي يعطي أعظم الأجر على أفعال يسيرة يقوم بها المسلم؛منها على سبيل المثال لا الحصر:(7/66)
• التصدق من المال الحلال،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربى أحدكم فلوه - أي مهره - حتى تكون مثل الجبل) متفق عليه.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)
• قول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" فقد روى البخاري و مسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من قالها مائة مرة في يوم كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك"
• صوم الأيام الست من شوال، فقد قال صلى الله عليه وسلم أن" من صامها كان كمن صام الدهر"
• من قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً كان كمن قرأ القرآن كله.
ي- لأنه دين الوفاء الذي يعطي للمريض، والمضطر،والمسافر، وأمثالهم من الأجر مثل ما كان يعطي كلاً منهم وهو سليم ،معافي،ومقيم.
ك- لأنه دين الحلم الذي لا يحاسب الإنسان الذي غاب عنه عقله أو وعيه، حتى يفيق أو يعي؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رُفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة بإسناد صحيح) ومعنى رفع القلم: امتناع التكليف ؛ أي ليسوا مكلفين.
ل-لأنه دين العلم الذي تميز بمعجزة القرآن، وكان أول ما نزل منه هو كلمة "إقرأ"،كما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن العلم الكثير من الأحاديث منها:
" طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"
" مداد العلماء أفضل عند الله من دماء الشهداء" !!!
" من سلك طريقا يلتمس فيه علما كان في سبيل الله حتى يرجع"
"إن الله وملائكته والكائنات،حتى الحوت في بطن الماء لتصلي على معلم الناس الخير"
وقد التزم المسلمون الأوائل بهذه التعاليم حتى سادوا العالم بعلمهم و تتلمذ على أيديهم الطلاب الذين كانوا يأتونهم من شتى بقاع الأرض...ولكنهم لما ابتعدوا عن دينهم بتتابع الأجيال بدأت حضارتهم في التدهور،بينما بدأ الغرب في بناء صرح حضارتهم العلميه على أنقاض الحضارة الإسلامية المنصرمة .
م- لأنه دين المودة والترابط الأسري،والاجتماعي الذي يجعل عقوق الوالدين من الكبائر ،ويوصي بهما بعد عبادته تعالى،قائلاً: " واعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً" ،ويحرم الجنة على قاطع الرحم،كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا يدخل الجنة قاطع رحم"،ويوصي بالجار؛ قائلاً: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورِّثه"،كما يوصي بالصديق،فيقول صلى الله عليه وسلم:" خير الصاحبَين عند الله تعالى خيرهم لصاحبه"،بل ويوصي سبحانه بالصاحب في السفر ، قائلاً:" والصاحب بالجنب"،كما نراه صلى الله عليه وسلم يحض على الجماعة فيقول:" يد الله مع الجماعة"،ويقول:"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" ،بل ويعطي ثواباً على صلاة الجماعة أكثرمن صلاة الفرد،ويشرع لهم صلاة الجمعة وصلاة العيدين، والحج لكي يلتقون ببعضهم البعض ويتعارفون،فيتعاونون...ويصدق ذلك قوله تعالى :
" وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارَفوا"
م- لأنه دين الرفق بكل الكائنات حتى أنه يُدخل بغياً الجنة لأنها سقت هرة ،بينما يُدخل امرأة أخرى النار لأنها حبست هرة دون أن تطعمها أو تطلق سراحها؛ويُدخل رجلاً الجنة لأنه آثر على نفسه كلبا عطشاناً،فاجتهد ليسقيه قبل أن يشرب ؛(بل أن المسلمين في عهد الدولة الأموية كانوا يخصصون –في دمشق بسوريا- مكاناً لرعاية الحيوانات المسنة حتى تموت)(6)
ويصدق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما خلا منه شيء إلا شانه"وقد تجسد هذا الرفق في سلوكه صلى الله عليه وسلم مع الجمل لذي شكا له من صاحبه الذي يجيعه ويجهده ،فقال لصاحبه:" ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي أملكك الله إياها؟!"
3- لماذا نحبب الإسلام إلى أطفالنا ؟
أ- لأنهم لن يصبحوا مسلمين حقاً إلا إذا أحبوا الإسلام وعاشوا به، وله.
ب- لأن الأبناء( رعية استرعاهم الله آباءَهم ، ومربيهم وأسرهم ، ومجتمعهم ، وهؤلاء جميعاً ، مسئولون عن هذه الرعية ، ومحاسَبون على التفريط فيها ، كما أنهم مأجورون إن هم أحسنوا إليهم واتقو الله فيهم ) (7)
ج- لأن مرحلةُ الطفولة( مرحلة صفاء وخلو فكر ، فتوجيه الطفل للناحية الدينية يجد فراغاً في قلبه ، ومكانا في فكره ، وقبولاً من عقله .
د- لأن مرحلة الطفولة مرحلة تتوقد فيها ملكات الحفظ والذكاء ، ولعل ذلك بسبب قلة الهموم ، والأشغال التي تشغل القلب في المراحل الأخرى ، فوجب استغلال هذه الملكات وتوجيهها الوجهة الصحيحة
هـ- لأن مرحلة الطفولة مرحلةُ طهر وبراءة ، لم يتلبس الطفل فيها بأفكار هدامة ، ولم تلوث عقلَه الميولُ الفكرية الفاسدة ، التي تصده عن الاهتمام بالناحية الدينية ، بخلاف لو بدأ التوجيه في مراحل متأخرة قليلا ، حين تكون قد تشكلت لديه أفكار تحول دون تقبله لما تمليه الثقافة الدينية الإسلامية ؛ يقول الشاعر:
وينفع الأدب الأحداث في صغر ***وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت *** ولن تلين إذا قومتها الخشب
و - لأن العالَم أصبح في ظل العولمة الحديثة ، كالقرية الصغيرة ، والفردُ المسلم تتناوشه الأفكار المتضادة والمختلفة من كل ناحية ، والتي قد تصده عن دينية ، أو تشوش عليه عقيدته ، فوجب تسليح المسلمين بالثقافة الدينية ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، ويواجهوا هذه الأفكار بعقول واعية... لذا فإن غرس الثقافة الدينية في مرحلة الطفولة يؤثر تأثيرا بالغا في تقويم سلوك الطفل وحسن استقامته في المستقبل ، فينشأ نشأة سليمة ، باراً بوالديه ، وعضواً فعالا في المجتمع ) (8)
4- كيف نحبب الإسلام لأطفالنا ؟
بأن نحب الإسلام أولاً - لأن الطفل يرى بعيون والديه أو مربيه- ثم نراعي ظروف الطفل ،ومشاعره، واحتياجاته، وإمكاناته في كل مرحلة عمرية ؛حتى يصبح –بعون الله -مسلماً سوياً نافعاً لنفسه وأهله ومجتمعه ودينه ، ولنتذكر جيداً أن (التربية النفسية للطفل تعتمد على أنه :
عندما يعيش في ظل النقد المستمر فإنه يتعلم أن يُدين الآخرين
وعندما يعيش في ظل الأمن فإنه يتعلم أن يجد الثقة في نفسه
وعندما يعيش في ظل العداوة فإنه يتعلم الهجوم
وعندما يعيش في ظل من يتقبلونه،فإنه يتعلم الحب
وعندما يعيش في ظل الخوف فإنه يتعلم ترقب الشر
وعندما يعيش في ظل الاعتراف به فإنه يتعلم أن يكون له هدف
وعندما يعيش في ظل الشفقة الزائدة عليه فإنه يتعلم أن يتحسر على نفسه
وعندما يعيش في ظل التأييد له فإنه يتعلم أن يحب نفسه
وعندما يعيش في ظل الغيرة الزائدة،فإنه يتعلم الشعور بالإثم
وعندما يعيش في ظل الصداقة فإنه يتعلم أن العالم مكان جميل)(9)
وفيما يلي نرى مراحل تعليمه حب الإسلام:
مرحلة ما قبل الزواج :(7/67)
إن أبسط حقوق طفلك عليك أيها الرجل هي أن تختار له أم طائعة لله ،(وأن تختاري له أيتها المرأة أب يعينك على طاعة الله- لكي يسهل عليك طاعته كزوج، فتضمني الجنة بإذن الله-)(1)واستمعا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لكَ :" ...فاظفَر بذاتِ الدين ترِبَت يداك"؛ويقول لكِ ولأولي أمرك:" إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلُقه فزوجوه"
وإنه لمن الحكمة ألا يغامر المرء بسعادته- في حياة تملؤها طاعة الله - أو بمستقبل أولاده ؛على أمل أن يهتدي الزوج أو الزوجة بعد الزواج ،فهي مخاطرة غير مأمونة العواقب لأن الله تعالى يقول:" "إنك لا تهدي مَن أحببت ولكن الله يهدي مَن يشاء"!
وللمقبلين على الزواج تهدي كاتبة هذه السطور كتاب "بيتٌ أُسس على التقوى" لفضيلة الشيخ"عائض القرني" ،عسى أن ينفعهم الله تعالى به.
مرحلة الأجنة:
إن الطفل ليستشعر حب الإسلام وهو لا يزال في رحم أمه ،وذلك من خلال حبها وإخلاصها لدينها، وممارستها لهذا الدين كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ودوام استماعها للقرآن الكريم بقلبها قبل أذنيها؛فإن مشاعرها تنتقل إليه –بقدرة الله- لا محالة .
مرحلة ما بعد الولادة وحتى السنة الثانية :
ينبغي أن يكون أول ما يطرق سمع المولود هو الأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى؛ تطبيقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وحماية له من الشيطان.
وفي هذه المرحلة يستطيع الطفل أن يحب دينه من خلال ما يراه في عيون وتصرفات من حوله-خاصة الوالدين- واتجاهاتهم الذهنية نحو الإسلام، فلن يشب مسلماً حقاً إلا إذا كانوا هم هكذا،يقول صلى الله عليه وسلم:" كل مولود يُولد على الفطرة،فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه"…فإذا كان الطفل يسمع دائماً أمثال العبارات التالية:
• " الحمد لله على نعمة الإسلام"
• "رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا ً"
• " اللهم يا مقلِّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"
• "ربنا لا تُزِغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدُنك رحمة إنك أنت الوهاب"
• " اللهم أدِم علينا نعمة الإيمان بك وشرف الإسلام لك،واجعلنا مِمَّن عبدك حتى يأتيه اليقين"
وإذا كان يرى والديه يصليان بحب وخشوع؛ وينتشيان بسماع القرآن الكريم؛ويبتهجان بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم،ويشتاقان لزيارته وزيارة الكعبة؛ويسعدان بالتصدق على المحتاجين ،ولسان حالهما يقول:" مرحباً بمن جاء يحمل زادَنا إلى الآخرة بدون أجر "(كما كان يقول الحسن البصري رضي الله عنه)؛ويتمنيان لو كانت السنة كلها رمضان؛ويقتصدان من قوتهما لتوفير المال اللازم لأداء فريضة الحج،ويرددان دائماً:" الحمد لله على كل حال"، و"قدََّر الله وما شاء فعل"... فإن هذا الطفل سينشأ إن شاء الله على حب دينه،بل وسيضيف إلى أفعال والديه أو مربيه -بما وهبه الله من إمكانات ومواهب- ما يزيده طاعةً لله وخدمة ً لدينه.
مرحلة الثالثة،وحتى السادسة:
في هذه المرحلة يمكن أن نردد أمامه مثل الأناشيد التالية حتى يحفظها:
"أنا يا قومي مسلم ٌ أنا يا قومي مسلمٌ
إن سألتم عن إلهي فهو رحمن رحيم
أو سألتم عن نبيي فهو ذو خُلقٍُ عظيم
أو سألتم عن كتابي فهو قرآنٌ كريم
أو سألتم عن عدوِّي فهو شيطانٌ رجيم"
*********
"الكتكوت يقوم الصُبح يقوم يسبّح
والعصفور يشوف النور يطير ويفرح
والصلاة يا حلوين هيّ عماد الدين
يا لا بينا نقوم نصلي عشان نفلح
والصوم في رمضان صحة للإنسان
يا لاّ نصوم وندعي ربي علينا يفتح
واللي ماله كتير يعطف عالفقير
ربنا يبارك له رزقه وماله يربح
والحج المبرور ده ذنبه مغفور
يرجع زي يوم ولادته طفل يمرح"(10)
*****
" اللهُ ربي ، محمدٌ نبيي ، وهو أيضاً قدوتي، والإسلامُ ديني ، والكعبةُ قبلتي ، والقرآن كتابي ، والصيام حصني ، والصَدَقة شفائي ، والوضوء طَهوري ، والصلاة قرة عيني ، والإخلاص نِيَّتي ، والصِدق خُلُقي ، والجَنَّةُ أملي ، ورضا الله غايتي "
كما ينبغي أن نوضح لأطفالنا أن( الإنسان دائماً ما يكون بحاجة إلى من يعتمد عليه ويتوكل عليه ،وبحاجة إلى قوة عظمى عادلة تكفل له العيش الكريم، والأمن والاطمئنان ..قوة تعطيه ما يسأل، وتمنع عنه ما يخاف ،وتفصل بينه وبين غيره بالحق،قوة تحقق له أمانيه، وتحفظ روحه وجسده من الهلاك،هذه القوة العظمى هي الله سبحانه وتعالى... ثم نشرح له ببساطة قوله تعالى:" إن ربَّكم اللهُ الذي خلق السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الليلَ النهارَ يطلبه حثيثا والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والأمر،تبارك اللهُ رب العالمين"
كما نخبره أن الإيمان بالله تعالى هو الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة أي الأعمدة التي يقوم عليها الإسلام، وقد أمرنا الله تعالى أن نتفكر في مخلوقاته التي تدل على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى،فهذه السماء وما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك ومجرات وهذه الأرض وما عليها من كائنات ونباتات وما فيها من كنوز ،وهذه البحار وما فيها من عجائب وغرائب كلها من آيات الله المبهرة.وقد سُئل أعرابي عن الدليل على وجود الله تعالى فقال:
" الماء يدل على الغدير وأثر الأقدام يدل على المسير،فسماء ذات أبراج(نجوم وكواكب)،وأرض ذات فِجاج(طرق واسعة)وبحار ذات أمواج...أما تدل على الصانع العليم الحكيم القدير؟)(11)
من الممكن أن نحكي لهم أمثال القصص التالية التي تترك أعظم الأثر في نفوسهم الصغيرة:
ربي موجود
(في يوم من الأيام حضر رجل لا يؤمن بوجود الله تعالى إلى أحد الخلفاء وقال له في ثقة:
" إنني لا أجد أحداً يقنعني بوجود إله وأتحدى أكبر عالم عندكم وإني واثق من النصر عليه،فسكت الخليفة قليلاً،وقال في نفسه:" إن أمرتُ بقتله فسوف يقول الناس أنني لم أستطع مواجهته بالدليل،ثم نادى وزيره ليستدعي له الإمام أبو حنيفة النعمان،فلما جاءهم طلب منه الخليفة إقناع هذا الرجل بوجود الله تعالى.
قال له الإمام أبو حنيفة :" سوف أثبت له ذلك ولكني أستأذنك لكي أنهي أمراً ضرورياً في القرية المجاورة، ثم أعود سريعاً، فأذن له الخليفة، ولكنه تأخر كثيراً، فأحس الرجل بالغرور والكبر و قال للخليفة : "إئذن لي بالانصراف ، فقد هرب أبو حنيفة لأنه عاجز عن إقناعي"، ولكن أبو حنيفة ما لبث أن عاد،واعتذر عن التأخير،ثم أخبرهم أنه وجد في طريقه نهراً ،ولم يجد قارباً، فجلس ينتظر حضور قارب ،وطال انتظاره ،ثم فجأة رأى أبو حنيفة أمراً عجيباً..رأى أخشاباً تتجمع ومسامير تقف فوق الخشب وظهرت مطرقة وأخذت تدق على المسامير،حتى رأى أمامه قارباً متقن الصنع ، فركبه وحضر.
فأخذ الرجل يضحك وقال :" إن هذا الكلام لا يقوله إلا مجنون، ولا يصدقه أحد، فكيف تطير المسامير والألواح في الهواء ،وتتجمع على الماء ويتكون منها قارب دون أن يصنعه أحد؟!"
وهنا تبسم أبو حنيفة وقال:" إذا كان وجود قارب صغير بدون صانع لا يصدقه عقل، فهل يصدق العقل أن هذا الكون بكل ما فيه من أرض وسماء وشمس وقمر قد وُجد بنفسه دون أن يخلقه خالق؟!!!"
فبهت الرجل ثم قال:" صدقت، فلابد أن يكون لهذا الكون من خالق هو الذي خلقه ونظمه،هو الله) (11)
*****(7/68)
(كان بعض الزملاء يجلسون معا ً في فصلهم بالمدرسة فدخل عليهم أحد الزملاء ممن لا يؤمنون بوجود الله تعالى ، وقال لهم :" هل تروني؟ قالوا نعم،قال إذن أنا موجود ثم قال : "هل ترون اللوح؟" قالوا: "نعم" قال:" إذن اللوح موجود"،ثم قال :" أترون الكراسي؟" قالوا:" نعم"،قال:" إذن الكراسي موجودة"،ثم قال لهم في مكر:" أترون الله؟" قالوا :"لا "قال:" فأين الله إن لم نكن نراه؟!"
فقام احد التلاميذ الأذكياء وقال لزملائه:" هل ترون عقل زميلنا ؟ فقالوا:"لا"،قال: "إذن فعقله غير موجود!! )(11 "بتصرف" )
ربي رحيم
(كان يعيش في قديم الزمان رجل كثير الذنوب يداوم على معصية الله تعالى واستمر على ذلك حتى حضرته الوفاة، فقال لأبناءه إذا مِتُّ فاحرقوا جثتي ثم اسحقوها حتى تكون رماداً،ثم انفخوا هذا الرماد في الجو في أماكن كثيرة من البحر حتى يذوب رمادي في ماءه وتتناقله الأمواج فلا يكون لي أثر،ثم قال لهم:" فو الله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً"
فلما مات فعلوا ما أمرهم أبوهم ؛فقال الله تعالى للأرض أدِّي ما أخذتِ فتجمعت ذرات الرماد وقام الرجل ماثلاً أمام الله سبحانه فسأله عن السبب الذي من أجله أوصى أولاده بذلك –وهو سبحانه اعلم- فقال الرجل:" خشيتك يارب"؛فغفر الله تعالى له بسبب خشيته له!!! ) (11)
****
(كان تاجر يعيش في زمن بعيد ،فكان يبيع للآخرين ويشتري مهم،وذات يوم تُوفي هذا التاجر ،فاستقبلت الملائكة روحه،وقالوا له:"هل فعلت من الخير شيئا"؟
فقال لهم :" كنت أرسل فتياني إلى مَن لي عليه دين ليجمعوا لي هذه الديون ولكني كنت أوصيهم بأنهم إذا وجدوا أحدا ً مُعسراً (أي لا يستطيع دفع دينه) أن يتجاوزوا عنه ولا يأخذوا منه شيئا وكنت أقول لهم: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا"فغفر الله تعالى له وتجاوز عنه بسبب تجاوزه عن المعسرين)(11)
ربي قادر
في يوم من الأيام دخل الغني مع صديقه الفقير حديقة الغني الواسعة وقد امتلأت بأشجار العنب والنخيل وفجر الله تعالى في وسطها نهراً، فاغتر الغني باتساع الحديقة وكثرة ثمارها ،فقال لصاحبه:" ما أظن أن تنتهي ثمار هذه الحديقة ،وزاد غروره فادعى أنه لو مات فلن يحرم من خيراتها بعد مماته،فنصحه صديقه الفقير بألا يكفر بالله،وألا يتكبر بنعمه ،وقال له:"أنظر إلي أنا أقل منك في المال والولد،ولكن عسى ربي أن يعطيني خيراً مما أعطاك،فلماذا لا تقول" ما شاء الله ،لاقوة إلا بالله"؟(أي أن كل هذا من فضل الله ولا يستطيع الحفاظ عليه غير الله)لكن الغني لم يستمع لنصيحته وفي الصباح دخل الغني حديقته ليتمتع بما فيه من خيرات وجمال،فوجد مفاجأة قاسية في انتظاره ،فقد وجد حديقته بلا ثمار ولا أوراق ،فقد فسدت ثمارها وتساقطت أوراق أشجارها،فأخذ يضرب كفا بكف من هول المفاجأة وندم على ما قاله لصديقه وقال:" يا ليتني لم أشرك بربي أحدا،وهكذا تكون كل من اغتر بنعمة الله ولم يشكره على نعمه ،ولم يعتمد على ربه ليحفظها له)(11)
ومثل هذه القصة أيضاً قصة "أصحاب الجنة" التي وردت في سورة القلم.
مرحلة السابعة حتى العاشرة
في هذه المرحلة ينبغي أن نحبب إليهم الإسلام من جانبين:
أولاً: كدين له أركان:
1- شهادة التوحيد:
( فإذا عرفوا الله تعالى في وقت مبكر تنامت هذه المعرفة ، وتراكم هذا العلم ، وتعمقت تلك التجربة ، وكلما ازدادوا يوماً في عمرهم ، ازدادوا قرباً من الله عز وجل ، فالذي يشب على طاعة الله شيء ، والذي يتعرف إلى الله في وقت متأخر شيء آخر ، وكُلاًَّ وعد الله الحسنى )(12)
فالله ربنا واحد لا شريك له ولا نظير ولا وزير،فلا يصح أن يكون هناك أكثر من قائد للمجموعة الواحدة و إلا اختلفا وفسد أمر هذه المجموعة ،كما أننا لا نراه بأعيننا لأننا لن نحتمل ذلك،لأن نوره أقوى من أن تتحمله أعيننا،ويمكن أن نحكي لهم قصة موسى عليه السلام والجبل.
ولكننا نستطيع أن نراه سبحانه في الجنة فقط؛ فهذه هي أعظم نعمة يمن بها الله تعالى على عباده المتقين في الجنة.
أما في الدنيا فهو-سبحانه- يرانا ويسمعنا أينما كنا ،ونحن نشعر به ونراه في كل شيء جميل من مخلوقاته، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حين يرى الهلال أول كل شهر ينظر إليه قائلاً:"ربي وربك الله"!!
2- الصلاة: إن الصلاة عماد الدين،بها يقام ،وبدونها يهدم- والعياذ بالله-لذا فإن تعليمهم إياها وترغيبهم فيها من أهم واجبات الوالدين التربوية،وفي تفصيلات هذا الموضوع يتحدث مقال بعنوان "كيف نحبب الصلاة لأبناءنا؟"-وهومنشور على موقع طريق الإسلام www.islamway.com -تحسبه كاتبة هذه السطور نافعاً.
3- الزكاة : في هذه المرحلة يتم تدريب الطفل على الزكاة من خلال تدريبه على الصدقة،فنتصدق أمامه بما تيسر،ونخبره أن الصدقة تطفيء غضب الرب وأن المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضلها :
"كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس"
"تصدقوا ولو بتمرة؛ فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"
"داووا مرضاكم بالصدقة" .
فالمال الذي نملكه هو مال الله عز وجل استودعه لدينا ليختبرنا به،ويرى ماذا سنصنع ؟كما ينبغي أن نشرح له الآية القرآنية:" مَثَلُ الذين يُنفقون أموالَهم في سبيل اللهِ كَمَثَل حبةٍ أنبَتَت سبعَ سنابلَ في كل سنبلةٍ مائةُ حبة ،واللهُ يُضاعفُ لمن يشاء"
و أن نعطيه الصدقة ليعطيها بنفسه للفقير والمحتاج ،ليشاركنا الأجر،ويشعر بحلاوة ذلك ويعتاده.
ونعلِّمه أن التصدق لا يكون بالمال فقط،وإنما بالملابس، والأحذية والكتب ،والحلوى،والآنية، والأدوات المدرسية...وما إلى ذلك من الأغراض التي تزيد عن حاجتنا ،و يمكن أن يحتاجها الفقراء.
وجدير بالذكر أن الطفل في نهاية هذه المرحلة يكون أكثر حرصاً على ممتلكاته،وأشد اهتماماً بأناقته وحسن مظهره من ذي قبل،فإذا رفض التصدق من ملابسه وأحذيته مثلاً،تركناه كما يشاء ،و اقترحنا عليه أن يتصدق من لعبه أو كتبه،أو غير ذلك مما يختاره هو، ولا ينبغي أبداً أن نُكرهه على الصدقة،أو غيرها،ولنتذكر قول الله تعالى : " لا إكراهَ في الدين"
ويمكن أن نخصص في البيت صندوقاً للصدقات يضع فيه الوالدان والأولاد ما هم في غنى عنه أو ما يستطيعون التصدق به،وكلما امتلأ قاموا بترتيب هذه الأغراض وأعطوها لمن يستحقها.
وينبغي أن نخبره بأن الصدقة (تحفظ المال من الآفات والمُهلكات والمفاسد، وتحل فيه البركة، وتكون سبباً في إخلاف الله على صاحبها بما هو أنفع له وأكثر وأطيب ،وقد دلت على ذلك النصوص الثابتة والتجربة المحسوسة؛ فمن النصوص الدالة على أن الصدقة جالبة للرزق قول من لا تنفد خزائنه:" وما أنفقتُم من شيء فهو يُخلفُه وهو خير ُالرازقين" {سبأ: 39)
كما نخبره بأن الأمر لا يقتصر على المجازاة على الصدقة بمثلها؛ بل يتجاوز ذلك إلى حال المتصدق عليه؛ إذ بمقدار إدخالها للسرور عليه، وإزالتها لشدائده، وتفريجها لمضايقه، وإصلاحها لحاله، ومعونتها له وسترها عليه؛ ينال المتصدق أجره من الله من جنس ذلك، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من يلقَ أخاه المسلم بما يحب لِيَسُرَّه بذلك، سرَّه الله يوم القيامة"(7/69)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه" )(13)
وينبغي أن نحكي لهم أمثال القصص التالية:
( قوله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة يقول:"إسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة( أرض ذات حجارة سوداء)؛ فإذا شرجة( ساقية ) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ، فقال له:" يا عبد الله لِمَ تسألني عن اسمي؟" فقال: "إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان ـ لاسمك ـ فماذا تصنع فيها؟" قال: "أما إذ قلتَ هذا؛ فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه" وفي رواية: "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين )(13)
***
وقصة الرجل الذي اشترى حُلة،فتصدق بحُلتة القديمة،ثم جاءه مسكين،وفي يده رغيفاً ،فأعطاه كسرة منه، ثم رأى أعمى قد ضل الطريق ، فمشى معه وأرشده حتى وصل إلى غايته؛ فلما لقي ربه ورأى ثواب أعماله تلك؛ قال متحسراً:"يا ليتها كانت الجديدة(أي الحُلة)،يا ليته كان كله(أي رغيف الخبز)، يا ليته كان بعيداً(أي المشوار)
***
وقصة الأبرص ،والأقرع ،والأعمى الذين عافاهم الله تعالى ورزقهم ؛ثم نسوا فضل الله عليهم ولم ينفقوا مما رزقهم،إلا الأعمى فرضي الله عنه وسخط على صاحبيه.
فإذا استقر حب الصدقة في قلب الطفل ونفسه ورأيناه بدأ يتصدق من مصروفه أعلمناه أن الله تعالى فرض على المسلم أن يعطي المحتاجين نسبة قليلة ينبغي حسابها بدقة ،هذه النسبة تعد أقل بكثير من الصدقات التي ننفقها،هذه الفريضة هي الزكاة،ونحن لسنا مُخيَّرين في أن ننفقها وإنما نحن مخيرون في الصدقة فقط !
كما ينبغي أن يعلم الطفل أن زكاة القوة أن نعين الضعفاء،وزكاة العلم أن نعلِّم الجاهلين،وزكاة الصحة أن نعود المرضى ونقضي حوائجهم... وهكذا ؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال صلىالله عليه وسلم:" أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دينا،أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أناعتكف في هذا المسجد (يعني المسجد النبوي) شهرا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يومتزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- الصوم:
لقد فرض الإسلام تعليم الصبي الصلاة منذ السابعة من العمر حتى العاشرة، أما الصيام فهو أشق على النفس من الصلاة...ولكنه أحياناً يكون لدى بعض الأطفال الكسالى - الذين يُعرضون عن الطعام بطبيعتهم- أيسر من الصلاة!!! بينما نجده مشكلة لدى الطفل الأكول،لذا فإنه من واجبنا أن نعلِّمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" ونعينهم على تنفيذه اتباعاً للسنة،وتمهيداً لتيسير الصيام عليهم بالتدريج، ثم صيانةً لهم من الأمراض في المستقبل.
وبشكل عام ، فإن تدريبهم على الصيام ينبغي أن يتم تدريجياً،ووفق الظروف الصحية للطفل ؛ففي شهر رمضان من كل عام، يرى الطفل والديه، و الكبار من الأقارب والجيران والمدرسين يصومون فيشعر بالغيرة والرغبة في تقليدهم،لذا يجب أن نعينه على ذلك وننتهز هذه الفرصة بأن نشجعه و نتركه يصوم لمدة ساعتين مثلاً،ثم نزيد عدد الساعات حسب قدرة الطفل، وإذا رغب في الطعام تركناه حتى يشعر أن هذا أمر يخصه وأنه شيء بينه وبين ربه،ولا ينبغي أبداً أن نخاف عليه من الضعف أو الهزال؛ فشهر رمضان كالعطر يتبخر سريعاً، كما أن الطفل إذا اشتد به الجوع، فسيكون أمامه أحد أمرين:
إما أن يأكل لأنه لم يعد يتحمل الجوع،وبذلك نطمئن عليه.
وإما أن يحاول أن يتحمل الجوع ويجاهد نفسه ،وبذلك يتعود مجاهدة النفس والصبر على طاعة الله ،فنطمئن عليه أكثر!!!
ولا ينبغي أن ننسى مكافأته على اجتيازه فترة الصوم المحددة بنجاح ،ويكون ذلك بزيادة مصروفه مثلاً،أو أن تقول له الأم مثلاً:"أنا فخورة بك،فقد أصبحت الآن مثل الكبار تستطيع مجاهدة نفسك ومقاومة الشعور بالجوع والعطش"
وإذا جاء شهر رمضان في أيام الدراسة فللطفل الذي لا يزال في مرحلة التدريب أن يختار أن يصوم في فترة وجوده بالمدرسة ،ثم الإفطار بقية اليوم ؛أو العكس...حتى يستطيع أن يتم اليوم،خاصة وأن بعض المدارس تقلل ساعتين من فترة الدوام في رمضان بينما تتوقف الدراسة في هذا الشهر في البعض الآخر .
ولنتذكر أن مستقبل الطفل الحقيقي هو الآخرة،لذا ينبغي أن نعده لها خير إعداد وأن نخاف عليه من مخالفة أوامر الله أكثر مما نخاف عليه من الضعف أو التقصير في الدراسة.
5-الحج
مما يساعد على تهيئة نفس الطفل لحب فريضة الحج والشوق إليها أن نصحبه معنا لأداء العمرة بعد أن نتحدث معه عن مشاعر المسلم هناك و مدى كرم الله تعالى لضيوفه وترحيبه بوفده ،والرحمات التي تحيط بالكعبة ومواطن إجابة الدعاء حولها ، وفضل وحلاوة زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والبقاء في الروضة الشريفة...والأهم من ذلك أن يرى الوالدين مشتاقين إلى هذه الرحلة ويسمعهما يتحدثان عنها ،ويعدان لها بفرحة .
وبعد ذلك يمكننا أن نخبره بأن الحج -وهو صورة مكبرة من العمرة- فرض على كل مسلم ومسلمة في العمر مرة وأنه واجب على كل مستطيع بالغ عاقل،والاستطاعة تكون بالمال، والصحة، وتوفُّر الأمن حول طريق الحج.
وأن "الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب"كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولفضيلة الشيخ الشعراوي –رحمة الله تعالى عليه- قول في هذا ،وهو أن" المسلم لا ينبغي أن يعيش مرفهاً مترفاً ثم يقول:" أنا لست مستطيعاً من الناحية المادية إذن ليس لي حج" ولهؤلاء أقول أن الاستطاعة المادية تعني أنك لديك ما يفيض عن سد حاجاتك الأساسية ،فإذا كان لديك جهاز تبريد (ثلاجة ) مثلاً،فعليك ببيعها وادخار ثمنها للحج"!!إنتهى حديث فضيلة الشيخ.
ولمثل هؤلاء تقول أيضاً كاتبة هذه السطور: "أن من نوى طاعة ربه أعانه تعالى بقدرته على ذلك،ومن تكاسل وماطل وكَّله الله إلى نفسه"
وقد ثبت بالتجربة أن من يدَّخر من قوته ولو بمقدار جنيه مصري كل يوم بنية تأدية فريضة الحج أو حتى الذهاب للعمرة ؛فإن الله تعالى يبارك له في هذا المال، ويزيده له بما يكفيه لذلك، و بشكل يتناسب مع قدرته تعالى...وصدق الله العظيم القائل:"و من يتَّقِ اللهَ يجعل له مخرجا،ويرزقه من حيث لا يحتسب"
ومثل هذه الأفكار يجب أن يسمعنا أطفالنا ونحن نقولها ونحكيها لغيرنا حتى تترسب في عقولهم الباطنة ويشبَّوا عليها، فيصبحون مسلمين حقاً.
ثانياً: الإسلام كمنهج وسلوكيات:(7/70)
من الممكن أن نعرِّفهم بآداب وسلوكيات الإسلام في هذه المرحلة عن طريق بعض أشرطة الفيديو من أمثلة:" سلام وفرسان الخير"، وسلسلة "الإبن البار"،ومجلات الأطفال الهادفة مثل "ماجد" ،و"سعد"اللتان تصدران في الإمارات العربية،و"العربي الصغير" الكويتية ،و سلسلة كتب "أخلاقيات من حكايات"التي تنشرها "المصرية للنشر والتوزيع"(* - )- وهي سلسلة مفيدة يشرف عليها المركز الفني للطفولة وتحكي قصصاً تغرس القيم ا لدينية في قلوب الأطفال بلطف ،وسلسلة "أخلاق من حكايات"،وسلسلة "من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال" التي تصدر عن "دار الإيمان للنشر والتوزيع" (**) ،وسلسلة كتب سفير،وغير ذلك مما يتيسر.
كما ينبغي أن نبدأ تعليمه ذكر الله تعالى بأن يقول حين يصبح:" أصبحنا وأصبح المُلك لله، والحمد لله"؛وحين يمسي:" أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله"، و" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" كما نعلمه أن يبدأ كل عمل له ببسم الله ،وأن يختمه بالحمد لله،كما نعلِّمه ما يقول حين يدخل الخلاء وحين يخرج منه،وأن يتلو آية الكرسي قبل أن ينام لقوله صلى الله عليه وسلم:" من قرأ آية الكرسي ليلاً لم يزل عليه من الله حافظاً حتى يصبح"
وكما نشجعه على طاعة الله ، فينبغي أن نشجعه أيضاً على اللعب وممارسة الرياضة،ونخبره أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسابق السيدة عائشة ،وهي صغيرة السن،وكان يأمر صغار الصحابة قائلا:
" إرموا فإن أباكم كان راميا"،و يعقد بينهم السباقات والمبارزات المختلفة،وأن عمر بن الخطاب-أميرالمؤمنين- قال :"علِّموا أولادكم السباحة ،والرماية، وركوب الخيل" .
ومما يعين الوالدين على تحمل الجهد والمشقة من أجل لعب الأولاد وممارستهم الرياضة أن تكون نيتهم من ذلك هي تربية جيل مسلم صحيح النفس والجسد ؛وإدخال السرور على قلوب أبنائهم ،فيهون التعب،وينالا الأجر والثواب على ذلك إن شاء الله.
مرحلة الحادية عشر ة حتى الرابعة عشرة
في هذه المرحلة يكون النصح والإرشاد عقيمين إن لم نتعامل معه كأصدقاء، وإن لم يأخذ الحديث شكل الحوار الهادىء الهادف، بدلاً من إصدار الأوامر والتعليمات ، مع الاستفادة من الجلسات الجماعية التي تضمه مع أصدقاءه أو المقربين إليه… ومن خلال ذلك ينبغي أن نقوم بشرح معاني الأركان الخمسة للإسلام كما يلي:
1- شهادة التوحيد: (فشهادة التوحيد هي بداية الطريق،والاستجابة لله هي معالم هذا الطريق)(14) فينبغي أن نتحدث إليه عن الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك له،فهو وحده كل شيء وما عداه لا شيء،(فالإنسان به موجود، وبدونه لا وجود له... أو بعبارة أخرى هو صفر لايساوي شيئاً،والناس كلهم أصفارٌ،مهما كثر عددهم،ولا يكون لهم مدلول إلا إذا وُضعوا عن يمين الواحد القهار!!! فعندئذٍ فقط يصيرون بعونه –تعالى- ذوي قيمة )(15)
كما ينبغي أن يعرف الطفل أن المسلم يؤمن بوجود الملائكة التي هي جند الله ينفذون أوامره ولا يعصونه،يسبحونه ليل نهار ولا يفترون؛
كما يؤمن بالكتب السماوية التي أنزلها على رسله لتمهد لنزول القرآن الكريم ؛الكتاب المعجز الجامع المانع،وأن الرسل كلهم عباد الله إخواناً،أرسلهم الله تعالى ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
وأن المسلم لابد أن يرضى بقضاء الله مهما بدا له أنه شر،فعسى أن يكره الإنسان شيئاً وهو خير له،ونضرب له الأمثال على ذلك من حياتنا اليومية؛مع التوضيح بأن الله تعالى يحب الصابرين ويكون معهم ؛وأن هؤلاء الصابرين ينالون أجرهم يوم القيامة بغير حساب!!!
2-الصلاة:
ينبغي أن يعي الطفل أن الصلاة ليست إسباغ الماء على مواضع الوضوء،ثم الإتيان بحركات متكررة وتلاوة بعض الآيات المتكرر بعضها أيضا،لأنهم لو صلوا بهذه الطريقة فسرعان ما يصيبهم الملل؛ فيسأموها والعياذ بالله... بل ينبغي أن يعرفوا أنها لقاء مع رب الأرباب ،مع مالك الملك، مع الغفور الودود ،ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد!!!
ومن ثم ينبغي أن يعرفوا مراتب الناس في الصلاة التي صنَّفها الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد" في كتابه"عبادات المؤمن" (16)، ليختاروا المرتبة التي يحبونها لأنفسهم...
وهذه المراتب هي:
1- الذي لا يحافظ على الصلاة، ولا على وقتها، ولا وضوءها ،ولا أركانها الظاهرة من القيام والركوع والسجود والخشوع ...فهذا معاقَب بإجماع العلماء.
2- الذي يحافظ على الوضوء ووقت الصلاة والأركان الظاهرة بلا خشوع ...وهذا محاسَب على صلاته حساباً شديدا.
3- الذي يحافظ على الوقت والوضوء والأركان الظاهرة ،ثم يجاهد شيطانه،فيخشع لبعض الوقت،ويسهو لبعض الوقت؛ فالشيطان يختلس من صلاته ويسرق منها ...فهذا في صلاة وجهاد، فله أجران!!!
4- الذي يحافظ على الوقت ،والوضوء،والأركان الظاهرة والخشوع...فأجره عظيم؛وهو نوع نادر.
5- الذي يحافظ على الوقت والوضوء والأركان الظاهرة ،ولكنه قد خلع قلبه وأسلمه لله عز وجل ...فهذا أعلاهم مرتبة!
الصلاة في المسجد:
من الواجب أن نشرح له معاني الآية الكريمة:: " في بيوتٍ أذِن اللهُ أن تُرفع و يُذكَر فيها اسمُه " سورة النور؛ وأن نوضح له أن من صلى في المسجد فقد زار الله تعالى في بيته ، وحق على المَزور أن يكرم زائره،فإذا كان المَزور هو الكريم، الجواد، خير الرازقين...فما أجملها من زيارة ؛ وما أعظمه من أجر!!!
كما نرغِّبه فيها من خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الصلاة ؛ مثل:" من غدا إلى المسجد أو راح،أعد الله له نُزُلاً في الجنة كلما غدا أو راح"،و" من تطهر في بيته ثم غدا بيتا من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداها تحط خطيئة و الأخرى ترفع درجة. "
3- الصوم : في هذه المرحلة يكون الطفل قادراً على إتمام اليوم من حيث تحمل الجوع والعطش، ولذلك يجب أن يتقدم عن المرحلة السابقة بمعرفة روح الصوم وأنه لم يُفرض لتعذيب المسلمين، وأن أحد أهداف الصوم هو الشعور بجوع الفقراء،وترويض النفس على الصبر وتحمل الشدائد،وتغذية الروح بطاعة ربها مع الإقلال من تغذية الجسد، والوصول بالمسلم إلى تقوى الله في السر،والعلن ، كما ينبغي أن يعرف أن الصوم يعني كف أذى اللسان والجوارح عن الغير،وغض البصر عن محارم الله تعالى ،و أن ثواب الصائمين لا حدود له وأن الله سبحانه هو وحده الذي يقرر مقداره لأن الصوم عبادة إخلاص لله عز وجل ولا يعرف مدى صدقها والإخلاص فيها إلا هو.
4- الزكاة:
في هذه المرحلة ينبغي أن نتلو عليه آية مصارف الزكاة :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ،وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل "(التوبة-60) ونكررها معه حتى يحفظها،مع شرح معانيها .
وينبغي أن نعرِّفه أن الإنفاق على ذوي الأرحام والجيران أفضل وأعظم أجراً من الإنفاق على غيرهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)
كما ينبغي أن نوضح له معنى الآية الكريمة:" ولا تيمَّمُوا الخبيثَ منه تنفقون،ولستُم بآخذيهِ إلا أن تُغمضوا فيه" فالصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد الفقير، لذا فقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعطِّر الدراهم قبل أن تتصدق بها!!!
5- الحج:(7/71)
في هذه المرحلة يستطيع الطفل أن يفهم الحكمة من الحج،فهو المؤتمر الإسلامي الأكبر الذي يجمع المسلمين من شتى بقاع الأرض ،ومن كل فج عميق ؛على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ،ولا يتبقى لهم لغة إلا لغة التوحيد والإخلاص لله تعالى والتجرد له وحده، دون الأهل والولد والمال ،وغيرهم؛ "ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" فيختلطون ويتعارفون ويؤْثرون بعضهم بعضا ويتعاونون، ويعلمون أنهم جميعا في دين الله إخوانا.
(وأنه رحلة الاتجاه إلى الله وحده بالنفس والقلب والحواس،وهي بداية عهد وميثاق جديد مع مالك الملك الغني عن العالمين،وهي رحلة إعلان الرفض للشيطان ،ومناهجه وخطواته،وهي تعبير عملي وإعلان عن بدء حياة جديدة في طريق الحق،وعن الخضوع المطلق لله ...فهي شرف لا يطاوله شرف آخر، فتلبية دعوة الله شرف وتكريم من الله تعالى للحاج،فمن قصد البيت شهد الجدران وكسوة الأركان،ومن قدِم على رب البيت شهد من جلاله ما هو أهل له) (14)
وأن (الحج هو جهاد النساء،فقد سألت عائشة رضي الله عنها قالت:
" يارسول الله ،هل على النساء من جهاد؟"
قال:"عليهن جهاد لا قتال فيه ..الحج والعمرة "
ويقول صلى الله عليه وسلم:" الحُجاج والعُمَّار وفد الله ،إن دعوه أجابهم وإن سألوه أعطاهم،وإن استغفروه غفر لهم"
وفي هذه المرحلة يمكن أن نفهمهم المزيد عن آداب وأخلاقيات الإسلام ،ومنها ما حواه هذا الحديث الشريف من منهاج جامع للمسلم :" إتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها،وخالق الناس بخُلقٍ حسن"(فهو يحدد علاقة الإنسان مع ربه أولاً،فيقول له: إجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية من خلال خشيته في السر والعلن،فإن كان الخلق لا يرونك في موضع،فالله يراك في كل المواضع؛ثم علاقته مع نفسه قائلاً له : لا تقسُ كثيراً على نفسك إذا وقعت في معصية وإن كبُرَت، فأنت بشر، وكل ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون، فإياك أن تتصور أن ذنبك أكبر من عفوه تعالى،إذا عصيته فلا تيأس وإنما سارع بالتوبة والأعمال الصالحة قبل أن يتلقاك الشيطان وأعوانه فيصدوك عن سبيل الله ؛وفي النهاية تعامل مع الناس -كل الناس- باخلاق نبيك الكريم،الذي كان أعداءه يحبونه ويشهدون بحسن خلقه قبل أصدقاءه،ولنا فيه الأسوة الحسنة)(17)
ومن المفيد أن نهدي إليه كتيب يحوي الأدعية الخاصة بالنوم والاستيقاظ وتناول الطعام والدخول للخلاء والخروج منه ودخول البيت والمسجد...إلخ ؛أو نلصق ملصقات بها هذه الأدعية في أماكنها المختلفة بالبيت،حتى يحفظها.
مرحلة الخامسة عشرة حتى الثامنة عشرة
في هذه المرحلة يجب أن نوجه أبناءنا-بالحُسنى- إلى أن:
• شهادة التوحيد يجب أن تكون بالقلب واللسان، فالمسلم قد ينطق بالشهادة بلسانه،ولكنه يشرك مع الله تعالى ماله أو وولده،أو زوجته ،أو أهواءه، أو عمله،أو الموضة، أو الناس...إلخ ،وذلك بأن يحب أحد هؤلاء أكثر مما يحب الله عز وجل،أو يفضل ما يمليه عليه هؤلاء على مراد الله وأوامره ونواهيه.فينبغي أن يدرب نفسه –بمساعدة الوالدين أو المربين-على الإخلاص لله في القول والفعل؛و أن يعلم أن مادون الله باطل ،وأنه ينبغي أن يؤْثِر الله الباقي على كل ما هو دونه مما هو فانٍ.
ويمكن أن نناقش معه بعض معاني آية الكرسي-التي جمعت أصول التوحيد كلها على أتم وجه وأبلغ أسلوب في جمل موصولة من غير فاصل بينها بحرف من حروف العطف،فهي موصولة المبنى والمعنى،ويفسر بعضها بعضاً-كما ذكرها الدكتور "محمد بكر إسماعيل" : ( فالله هو المعبود بحق،ولا معبود سواه وهو الحي الباقي بقاءً سرمدياً ،حياة لا يشاركه فيها أحد،وهو مدبر الأمر الذي يسوس المُلك بعلمه المحيط وإرادته التامة،وقدرته المهيمنة،فمن شأن المعبود بحق أن يقوم على حاجات عباده وتصريف شؤونهم!!
ومن المنطقي أن المعبود بحق الذي يدبر الأمر لا تقهره غفلة ولا نوم عن تدبير ملكه،وهذا توكيد على قيامه سبحانه على كل شيء وقيام كل شيء به.
وهو الذي له الملك كله إيجاداً وخلقاً وتقديراً وتدبيراً فهي ملكية لا ينازعه فيها أحد،و من ثم فإن كل ما في ملكه – ولا ملك إلا ملكه- فهو عبد له،ناصيته بيده ماض فيه حكمه،عدل فيه قضاؤه.
وهو المتفرد بأمر العباد ،فلا يشفع أحد لأحد في شيء إلا بإذنه،فالعبيد جميعا يقفون في الحضرة الإلهية موقف العبودية ،وهو موقف الخضوع والخشوع والاعتراف المطلق له بالهيمنة على خلقه...وما يتفاضلون بينهم إلا بالتقوى ؛وفق ميزان الله الدقيق.
وهو العليم الذي لا تَخفى عليه خافية من مكنونات الصدور و مطويات الضمير،بل أنه يعلم من أنفسهم ما لا يعلمون منها...هذا العليم لا يدرك أحد –بعقله القاصر-من علمه تبارك وتعالى إلا بمشيئته وحده وبالوسيلة التي يختارها لهم،فلا يدعي مُكابر أنه قادر على تحصيل شيء من العلم بملكاته الذاتية،أو يُفتتن بما أذن الله له فيه من علمه،سواء كان هذا الذي أذن له فيه علم شيء من نواميس الكون،أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة إلى حد معين.
أما كرسيه تعالى فهو من الأخبار التي يحملها السلف الصالح على ظاهرها من غير تأويل فيقولون:" لله كرسي دون العرش ، لا يعلم حقيقته إلا هو جل شأنه"
وهذا الملِك القائم على شؤون خلقه الذي دبر ملكه تدبيرا محكما يخلو من التفاوت والخلل ،لا يُعجزه حفظ السماوات والأرض وما فيهما،فكل ما في ملكه في حيز قدرته التامة.
و بناءً على ما سبق ؛فهو المتفرد بالعلو والعظمة لا ينازعه فيهما أحد، فالكبرياء رداؤه والعظمة إزاره من نازعه أحدهما أصابه الهوان وداسته الأقدام)(15)
كما ينبغي أن نوضح أن الله تعالى يبسط على عباده من رزقه وفضله ورحماته ، في أحيان ،ثم يقبضها عنه في أحيان أخرى...وهكذا يقلبه بين حال وحال،كي لا يغتر بنفسه أو يطيب له البسط فيبتعد عن ربه ويطمئن إلى الدنيا،وفي نفس الوقت كي لا يضيق بحياته إن استمر به القبض طويلاً...فينبغي على المسلم أن يظل عابداً للقابض الباسط وليس للأحوال، وأن يرضى بما قسمه الله له...يقول الإمام الغزالي رحمه الله:" ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع،ولو أن كل إنسان انزعج من شيء ساقه الله إليه،ثم كشف الله تعالى له علم الغيب لما تمنى إلا أن يكون كما هو!!!)(18)
كما بمكن إهداؤه كتاب "فاعلم أنه لا إله إلا الله" للشيخ عائض القرني، الذي يشرح بعض جوانب العقيدة من كتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
• وأن الصلاة في المسجد سنة مؤكدة للرجال إلا بعذر، أما النساء فعليهن بالصلاة بالمسجد ما استطعن،و إلا فعليهن بالصلاة في أول الوقت(أي لا تؤخرها أكثر من ثلث ساعة بعد الأذان)(19) وأن الزكاة فرض على المسلم-أي أنه لا اختيار له في هذا الأمر-وينبغي أن يحسبها بدقة ، وألا يخلطها بأموال الصدقة،وأن ينفقها في مصارفها التي حددها الله في القرآن.
و أن الزكاة تطهر النفس من البخل ،كما تطهر المال مما قد يختلط به من المال المشبوه ،و تزكِّي المؤمن فتزيد من حالته الإيمانية،وترفع درجاته عند ربه تبارك وتعالى.
كما ينبغي أن يعرف أنواع الزكاة ؛ وأن لكل نوع طريقة في الحساب.
• وأن الصوم ليس إمساك عن الشراب والطعام والشهوة فقط،وإنما هو التزام يؤدي على التقوى،وهو عطية غالية من الجواد الكريم، فلا ينبغي أن نضيعها.
ويمكن أن نستمع معه إلى درس يتحدث في ذلك بشمولية وإيجاز وهو درس "كيف تستقبل رمضان" (20)(7/72)
وأن من يترك أداء فريضة الحج وهو مستطيع فإنما يأتي عملاً من أعمال الكفر ،والدليل قوله تعالى:" وللهِ على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا،ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين"(آل عمران-97)(فمناسبة مجيء الكفر بعد ذكر الحج هو أن المسلم الرافض لأداء فريضة الحج يدخل في دائرة خطيرة)(16)؛ فهو يهدم ركناً قوياً من أركان دينه،وعموداً أساسياً من أعمدة إ يمانه.
(يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تاركي الحج :"والله لقد هممت أن أكتب في الأمصار أن من كان غنيا ويجب عليه الحج فافرضوا عليه الجِزية!!"،ويقول سعيد بن جبير –وهو عالم وفقيه من أئمة السلف- لو علمت أن في البلدة التي أعيش فيها غني من الأغنياء كان يستطيع الحج ولم يحج ومات على ذلك ما صليت عليه الجنازة!!
وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءت له صلى الله عليه وسلم فرفعت صبياً-ما يدل على أنه صغير السن خفيف الوزن-وقالت:" يا رسول الله ألهذا حج؟ قال :" نعم ،ولك الأجر")(16)
(وفي الحج استشعار حقيقي لمشاهد من يوم القيامة حيث الزحام الشديد،والملابس التي تشبه الأكفان،والأذان بالحج يشبه النفخ في الصور،والكل في خشية ووجل من الله تعالى طمعاً في المغفرة والثواب؛وكيف لا ،والله تعالى يقول في مطلع سورة الحج:" ياأيها الناسُ اتقوا ربَّكُم إنَّ زلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيم" ؛ فالحج صورة مصغرة من يوم الزلزلة.
كما أن الحج يدرب المؤمن على الجهاد والمثابرة ابتغاء مرضاة الله، حين يجرده من كل الرفاهية التي يعيشها في بيته وبلده.
وفيه تقوية لأواصر الوحدة بين المسلمين بشتى جنسياتهم واختلاف ألوانهم، وفيه إشارة لوجوب استمرار هذه الوحدة بعد الحج
كما أن الحج تربية أخلاقية عظيمة ،فالحاج لا يرفُث ولا يفسُق ولا يجادل ولا يصخب ولا ينتصر لنفسه،ولا يكذب...إلى آخر الأخلاق الإسلامية الحميدة)(16)
وفي هذه المرحلة ينبغي للطفل أن يعلم فضل أذكار الصباح والمساء المأخوذة عن السنة النبوية الشريفة ،وأنها حصنه من الشيطان والنار،فنهديه كتيب مثل "حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة" لسعيد بن علي بن وهف القحطاني" ونشجعه على أن يهديه لأصحابه ومعارفه لنيل الأجر والثواب.
وبالإضافة إلى تعليم أولادنا أركان الإسلام وتحبيبهم فيها ينبغي أن نعلمهم ما يدعم هذه الأركان ،ومن ذلك ما يلي:
حب الله ورسوله:
(يقول الإمام بن تيمية:" مساكين أهل الدنيا ،خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها،قيل وما أحلى ما فيها؟ قال:" حب الله عز وجل")(16)
"ومن أمثلة المحبين لله تعالى حقاً وصدقاً ابن القيم –رحمه الله- الذي يقول:" في القلب شعث(تمزق) لا يلُمُّه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأُنس بالله وفي القلب خوف وقلق لا يُذهبه إلا الفرار إلى الله ") (16)
ولزرع حب الله تعالى في قلوبهم الصغيرة طرق كثيرة وفي ذلك يمكن قراءة مقالة تتحدث عن "أطفالنا وحب الله عز وجل" على موقع طريق الإسلام.
بر الوالدين
ينبغي أن يعرف الطفل فضل والديه والمراحل التي لم يرها من عمره وهو جنين، ثم وليد، ثم رضيع،من خلال القصص المشوقة،ومن خلال من يراهم ممن حوله من أبناء الأقارب والجيران وغيرهم.
كما ينبغي علينا أن نعينه على برنا كوالدين من خلال برنا به وإعطاءه حقوقه عندنا من الحب ،والاحترام، والتقدير، والعطف،والشعور بالأمان...وغير ذلك؛كما قال صلى الله عليه وسلم:" لاعبه سبعاً ، وأدِّبه سبعاً ،وصاحبه سبعاً".
هذا بالإضافة إلى أن نكون لهم قدوة،فنبر نحن آباءنا ليبرنا أبناءنا!
كما ينبغي أن نعلمهم الدعاء للوالدين في حياتهم وبعد مماتهم.وأن نعلمهم أن رضاهما من رضا الله سبحانه،وأن الإحسان إليهما مقترن بطاعة الله تعالى ،لقوله سبحانه:" واعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحسانا"
ويساعد على ذلك أن نحكي لهم من القصص الواقعية التي تبين فضل برهم،ومنه قصة أصحاب الغار الذين حُبسوا فيه بصخرة،ثم ظل كل منهم يدعو الله تعالى أن يخلصهم بفضل عمل صالح قام به ،فكان أولهم يطعم والديه ويسقيهم قبل أولاده وزوجته ،فلما عاد ليلة ووجدهما نائمين كره أن يوقظهما وفي نفس الوقت لم يرد أن يؤثر أولاده عليهما فترك أولاده يصطرخون من الجوع وهو جالس إلى جوارهما يحمل إناء اللبن حتى استيقظا؛فسقاهما ثم سقى أولاده؛فدعا الله قائلاً: اللهم إن كنت قد فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً عن الغار بفضل صنيعه هذا.
ذكر الله
والذكر في هذه المرحلة لا يكون فقط باللسان وإنما بالقلب، والله تعالى يقول:"إذكروني أذكركم"،فهنيئاً لذاكر الله تعالى بالخير والرحمة والبركة والمغفرة،فإن من نسيه الله صار مغموراً ضائعاً لا ذكر له في الأرض ولا في الملأ الأعلى) (14)
ويمكن أن نقول لأولادنا:(لك أن تتخيل أنه إذا ذكرك بالخير مدير المدرسة مثلا أو مدير النادي،أو محافظ البلدة التي نسكن بها، أو رئيس الجمهورية،فماذا يكون شعورك؟ أما إذا ذكرك ملِك الملوك جل شأنه فماذا أيضاً يكون شعورك؟!!!)(21)
مراقبة الله في السر والعلن
وهو أدب يتعلمه الطفل من خلال الصيام، ثم نقوِّيه لديه من خلال رواية بعض القصص الواقعية التي حدثت معنا وآثرنا فيها رضى الله حتى ولو لم يكن أحد يرانا غيره،ومثل قصة بائعة اللبن التي كانت أمها تريدها أن تغش اللبن بالماء،فلما رفضت وقالت لها الأم:" لماذا؟ إن عمر لا يرانا،فردت الإبنة :" إذا كان عمر لا يرانا فإن الله يرانا"،فأُعجب عمر بن الخطاب -الذي سمعهما حين كان يتفقد أحوال الرعية - بقوة إيمانها وحرص على أن يخطبها لابنه ،فكانت ثمرة الزواج هو خامس الخلفاء الراشدين الأمير "عمر بن عبد العزيز"!!!
إخلاص النية في العمل لله:
من المفيد أن يعلم الطفل أنه إذا نوى بكل ما يفعله مرضاة الله تعالى؛ فإنه سينال عظيم الأجر على كل ما يمارسه من أمور حياته:( فيروِّح عن نفسه لكي يقوى على الطاعة؛ ويمارس الألعاب الرياضية ليكون مسلماً قوياً؛ ويأكل باعتدال ليكون مسلما صحيحاً معافى في نفسه وبدنه،ويذهب إلى الأماكن الخلوية والمتنزهات ليتفكر في خلق الله ويَذْكره بين أناس غافلين؛ويتعلم العلم الدنيوي والشرعي ليفيد المسلمين وغيرهم بعلمه ؛ولا يضر نفسه وغيره بجهله،ولأن العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة؛ويتعلم اللغات ليأمن مكر أعداءه وليدافع عن دينه،ويدعو إليه،ويستمع إلى الأخبار المحلية والعالمية ليهتم بشؤون غيره من المسلمين ؛ويحاول مساعدتهم ولو بالدعاء، وينوي بالزواج أن يكوِّن أسرة مسلمة تعبد الله وتذكره...وهكذا)(22)
التوكل على الله(7/73)
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليم الغلمان من أولاد الصحابة كيف يتوكلون على الله حق التوكل،فقد كان يركب وراءه ذات مرة ابن عباس،فقال له:"يا غلام إحفظ الله يحفظك،إحفظ الله تجده تجاهك،واعلم أن الأمة لو اجتمعت لينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،وأن الأمة لو اجتمعت ليضروك بشيء فلن يضرونك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،رُفعت الأقلام وجفت الصحف"...فما أعظمه من حديث ،لذا ينبغي أن يعلق في إطار على الحائط ليراه أهل البيت ويبث فيهم روح اليقين في الله، والرضا بقضاءه،والشجاعة والإقدام وحسن التوكل عليه تعالى،مع أهمية أن نشرح له أن التوكل يعني الأخذ بالأسباب بالجوارح مع التوكل على الله بالقلب،أي التيقن من أن تحقيق الغاية لن يتم إلا بأمر الله؛فإذا لم يكن هناك أسباب يمكن اتخاذها فالأمر لله، وهنا ينبغي التضرع والدعاء له تعالى لتحقيق تلك الغاية، مع الثقة في حكمته وأن كل ما يأتي به الله خير.
ومما يعينه على ذلك أن نحكي له من مثل القصص الواقعية التالية:
لما فتح القائد "عمرو بن العاص" مصر منع عادة عروس النيل التي تقضي بإلقاء فتاة شابة مزينة بالحلي في النيل ليفيض عليهم ،فتوقف النيل عن الجريان لمدة ثلاثة شهور،فأرسل عمرو بن العاص إلى عمر ليستشيره،فأرسل يقول له: حسناً فعلت وأرجو أن تلقي في النيل رسالتي التالية:" هذه رسالة من عمر بن الخطاب إلى نيل مصر أما بعد،فإن كنت تجري من لدن الله فنسأل الله أن يجريك... وإن كنت تجري من لدنك،فلا تجري فلا حاجة لنا فيك"،فجرى النيل وفاض!
ويقول الداعية الإسلامي الأستاذ "عمرو خالد":
كان لي صديق يعمل في إحدى الفنادق الكبيرة بالقاهرة،وكان من ضمن مهام مهنته أن يعد لحفلات يرتكب فيها محرمات،وبينما هو يعد قائمة بالمطلوب لإحدى هذه الحفلات،نظر أمامه فإذا بالشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- يتناول الطعام أمامه في المطعم، فتيقظ ضميره وشعر أنه يأتي مُحرَّماً ،فما كان منه إلا أن ترك ما بيده وذهب إليه يسأله،هل ما أفعله بوظيفتي حلال أم حرام؟ فقال له:" إنه حرام"،فقال له "فماذا أفعل ؟" فقال له:" إتركها"،فرد الشاب "إن لي زوجة وأولاد،فمن أين سنجد قوتنا؟"،فرد عليه الشيخ الجليل:" يابني إنه (من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)"،فقال له:" إذن أظل بوظيفتي حتى أجد غيرها ثم أتركها"،فرد الشيخ الشعراوي بحزم:" يا بني إنه يقو ل:من يتق الله (أولاً) يجعل له مخرجاً (بعد ذلك)...فكيف تريده أن يجعل لك مخرجاً وأنت لم تتقه؟"
فظل الشاب يفكر حتى هداه الله تعالى إلى كتابة الاستقالة والتوكل عليه سبحانه،ولكنه قبل أن يتم كتابتها إذا بمدير سلسلة الفنادق التي ينتمي إليها هذا الفندق يتصل به ويقول:"أريد أن أخبرك بشيء،فرد الشاب وأنا أيضاً أريد أن أخبرك بشيء-يعني الاستقالة- ولكن المدير قال له: "سأقول لك أنا أولاً: لدينا وظيفة شاغرة لمدير فرعنا بالمدينة المنورة وقد اخترتك لها،فما رأيك؟!!!"(23)
وهذه قصة واقعية أخرى لمسلم توكل على الله وافتخر بانتماءه للإسلام واعتز بتفضيل مراد الله على مراده:
يقول الدكتور "عبد الله الخاطر" الذي كان يعيش في انجلترا لدراسة الدكتوراه:"إلتقيت بشاب إنجليزي يعيش في جنوب لندن،وقد أسلم حديثاً،وبعد إسلامه بثلاثة أسابيع عثر على وظيفة ، فحاول غيره من الشباب المسلمين أن يحذروه من أن يقول أنه قد أسلم حين يذهب للمقابلة الشخصية،حتى لايكون ذلك سبباً في عدم قبوله،فيتأثر نفسياً فيرتد عن دينه،إلا أن هذا الشاب توكل على ربه ولم يخشهم،فذكر لأصحاب العمل أنه قد أسلم وكان اسمه"رود"، فاصبح "عمر"،وقال لهم أيضاً بفخر:"لقد غيرت ديني واسمي وأريد وظيفة تتيح لي وقتاً للصلاة، فما كان منهم إلا أن قبلوه في تلك الوظيفة!!! وكان الأمر أعجب عندما قالوا له:" إننا نريد في هذه الوظيفة رجلاً عنده القدرة على اتخاذ القرارات وأنت عندك قدرة عظيمة جداً في اتخاذها،فقد غيرت اسمك ودينك وهذا إنجاز كبير!!! (24)
كما يمكن أن نسمع معهم قصصاً أخرى بنفس المعنى في درسي "التوكل" و"اليقين"(ضمن سلسلتي: إصلاح القلوب،ودروس أخرى على موقعه www.forislam.com)
وينبغي أن نحكي لهم عن نماذج مشرفة عرفت الله حق معرفته فارتاحت وقنعت وسارت على الدرب الصحيح من أمثال "حاتم الأصم" الذي تتلمذ على يد "شفيق البلخي" ،(وسأله معلمه يوما:" كم صحبتني؟" فقال له:"منذ ثلاث وثلاثين سنة"،فقال له:" وما تعلمتَ مِنِّي ؟" قال: "ثمان مسائل"،قال شفيق :" إنَّا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب عمري معك ولم تتعلم مني إلا ثمان مسائل؟! قال:" يا أستاذ لم أتعلم غيرها و إني لا أحب أن أكذب"،فقال له:" هات ماهي حتى أسمعها"،قال حاتم:
• نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر،فإذا وصل إلى القبر فارقه،فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي.
فقال أحسنت يا حاتم فما الثانية؟ قال:
• نظرت في قول الله تعالى:" وأما من خاف مقامَ ربه ونَهى النفس عن الهوى،فإن الجنةَ هي المأوى"فعلمت أن قوله تعالى هو الحق،فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت في طاعة الله تعالى.
• الثالثة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله تعالى :" ما عندكم ينفَد وما عند اللهِ باق"فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
• الرابعة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال والشرف والنسب،فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قوله تعالى :" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما.
• الخامسة أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض،ويلعن بعضهم بعضاً،وأصلُ هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قوله تعالى:" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا"فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة عند الله فتركت عداوة الخلق عني.
• السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يظلم بعضهم بعضا فرجعت إلى قوله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوٌ فاتَّخِذوهُ عدواً"فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدوٌ لي فتركت عداوة الخلق غيره.
• السابعة نظرت إلى هذا الخلق فرأيت الواحد منهم يطلب كسرة الخبز فيذل بها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى:"وما من دابَّةٍ في الأرض إلا على اللهِ رزقُها " فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.
• الثامنة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت منهم متوكلين،على مخلوق،هذا على عقاره وهذا على تجارته،وهذا على صناعته،وهذا على صحة بدنه،فرجعت على قوله تعالى:" ومن يتوكل على اللهِ فهو حسبُه" فتوكلت على الله فهو حسبي.
قال شقيق:" يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور،والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة تدورعلى هذه الثمانية،فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة") (25)
مجاهدة النفس(7/74)
يعد جهاد النفس أقوى واشد من مجاهدة العدو ،ومما يعين عليه أن يحدد الإنسان هدفه،فهل يريد الدنيا الفانية التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟أم رضا الله والجنة؟ وإذا كان يريد الجنة فعليه أن يعلم أنها سلعة الله الغاليه، ومن أجلها يجب أن يقدم الغالي والنفيس من الأوقات والأموال والجهد؛ ويتنازل عن الهوى والشهوات،ويستعين بالله على نفسه الأمارة بالسوء، ليطوِّعها ويجعل منها نفساً لوامة،وذلك بتربية الضمير لديه ومساعدته على الصبر على الحق والترفع عن الدنايا منذ نعومة أظفاره،كما ينبغي أن نحبب إليه الجميل من الأفعال ونبغِّض إليه القبيح منها.
فإذا عرف هدفه- وهو الفوز برضا الله –وأحبه؛ عاش له وبه ،وأراح والديه وأسرته ومجتمعه واستراح.
دوام الاستغفار:
يجب أن نعلمه أن للاستغفار فوائد أخرى غير ستر الذنوب والخطايا ومحوها،وهي التي جاءت في الآيات( 10-12 )من سورة نوح:" فقلتُ استغفروا ربَّكم إنَّهُ كان غفَّارا ،يرسل السماءَ عليكم مدرارا ،ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا" .
تجديد التوبة:
يجب أن يذكِّر الوالدين أبناءهم على الدوام بأن اليأس من رحمة الله وعفوه ذنب في حد ذاته لأنه يعطل أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى مثل: العفو، والغفور، والغفار، والغافر، والتواب. كما يذكِّرونهم بأن اليأس مدخل شيطاني يدخل به إبليس على قلب المؤمن ليعود به إلى المعصية ،ثم الكفر – والعياذ بالله-رويداً رويدا،وينبغي أن يقولوا لهم دائما:" لا تيأسوا أبداً من رحمة الله ،إن "الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"، فالحذر من ارتكاب المعاصي واجب ولكن إن غلبت على الإنسان نفسه فعليه بالمسارعة بالتوبة،ولا ييأس من كثرة ذنوبه،فباب التوبة مفتوح للإنسان مادام لم يغرغر(أي يدخل في مراحل الموت)وأن يلزم باب الكريم ولا يبتعد عنه فينفرد به الشيطان وأعوانه؛كما يجب أن يسمع الأولاد من والديهم قول "ابن القيم":
(لا تسأم من الوقوف على بابه ولو طُردت
ولا تقطع الاعتذار ولو رُددت
فإذا فُتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين
وقل يارب مسكين فتصدق علي فإنما الصدقات للفقراء والمساكين!!!) (16)
كما ينبغي أن يسمعهما يتضرعان إلى الله بمثل هذه الأدعية:
" اللهم إن عظُمت ذنوبي فأنت أعظم وإن كبر تفريطي فأنت أكبر وإن دام بُخلي فأنت أجود"
" اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجَى عندي من عملي"
عبادة الدعاء
وهي التوجه لله سبحانه- دون غيره -بطلب ما يحتاجه المؤمن ،وهي الاعتراف العملي بالافتقار إلى الواحد القهار...فهل هناك أحد يعيش بدون مشاكل تؤرقه؟
وهل هناك أحد ليس لديه آمال يحلم بتحقيقها؟
وهل هناك أحد يستطيع أن يستغنى عن ربه؟
أم هل هناك أحد لم يرتكب ذنباً ويخشى أن يؤاخذه لله عليه؟)(16) وإذا علمنا أن الجنة لن يدخلها أحد-حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعمله، إلا أن تتداركه رحمة ربه ؛(فهل هناك أحد يستطيع أن يستغنى عن رحمة ربه ؟!!! )(16)
هل هناك أعز من الذل بين يديه والتمسح بأعتابه حتى يرضى؟
وهل هناك أذل ممن يرجون عباد الله فإن شاءوا أعطوهم وإن شاءوا منعوهم؟وإن أعطوهم منُّوا عليهم،وإن أعطوهم مرة أو اثنان فهل يعطونهم الثالثة؟
(فهل يتعلق الغريق بغريق آخر؟وهل يرجو الفقير فقير مثله؟،وهل يلوذ ضعيف بضعيف مثله؟) (16)
وينبغي أن نعلِّمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يسأل الله يغضب عليه"،و قول الشاعر الحكيم :
"لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة *** وسَل الذي أبوابه لا تُحجب
فالله يغضب إن تركتَ سؤله *** وبُنيَّ آدم حين يُسأل يغضب!!
كما ينبغي أن نعلمهم آداب الدعاء، ومنها اليقين في الإجابة،وألا يستعجل الإجابة وأن يعلموا أن الدعاء منه ما يجاب ومنه ما يُدفع به البلاء،ومنه ما يُدَّخر ليوضع في ميزان الحسنات يوم القيامة... والمؤمن حيت يرى دعاءه يوضع في ميزان حسناته يوم القيامة يتمنى لو لم تُجب له دعوة في الدنيا!!!
كما ينبغي أن يعرفوا أن الدعاء خيرٌ كله،كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى حيِيٌ كريم ،يستحي أن يرفع العبد يديه ،ثم يردهما صُفراً خائبتين"
فنذكرهم دائماً بفضيلة الدعاء قائلين:"إن الله الواجد جل شأنه قريب مجيب رحيم ودود ،فادعوه مخلصين له الدين ،وأنتم موقنون بالإجابة ؛فإن من سأله أعطاه ومن توكل عليه كفاه،ومن اعتصم به هداه إلى صراط مستقيم،فهو الواجد الذي لا تنفد خزائنه ،ولا تنتهي نعمه ولا تضيق رحمته بالعالمين"(15)
وما أحلى الدعاء القائل:" اللهم إنا قد جئنا جوارك
وأنخنا مطايانا ببابك
نرجو رحمتك ونخشى عذابك
فلا تبعدنا اللهم عن جنابك
وافتح لرجاءنا رحابك،
ولدعاءنا أبواب السماء
ودعاءه صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أسألك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنى"
من تجارب الأمهات:
فيما يلي قصصا واقعية ترويها الأمهات عن خبرتهن في تحبيب أبنائهن في الإسلام.
في حب الإسلام:
فوجئت الأم بطفلها البالغ من العمر إحدى عشر عاماً يسألها قائلاً:"أنا مسلم ،نعم، ولكن لماذا يوجد أناس آخرين غير مسلمين؟ ولماذا لا أكون أنا أيضا غير مسلم؟" فرأت أن الإجابة المباشرة لن يكون أثرها عميقا كما تريد،فاقترحت عليه أن يحاول البحث بنفسه عن إجابة،وأن يقوموا بعقد مسابقة بينه وبين أقرانه من الأقارب والجيران والأصدقاء للإجابة على سؤال محدد :" ماذا لو لم أكن مسلماً؟" ،ونصحتهم بالاستعانة بمكتبة البيت أو النادي أو المدرسة،وتم تحديد يوم ليعرض كل منهم إجابته،فوجدت الأم إجابات مقنعة ، منها ما قاله الأولاد:
لو لم أكن مسلماً لما وجدت مكاناً محدداً أفزع إليه حين تصيبني مشاكل ، ولما وجدت قوة تحميني حين أواجه مصاعب ..فمن سأنادي إن لم يكن معي أبي أو أمي أو مثلهم من البشر؟
و لسماني أبي أسما قبيحا، ولفرق أبي وأمي بيني وبين إخوتي في الحب والعطاء ،ولاحتقرني الناس وهجروني بسبب شكلي أو لوني أوديني أو فقري أو جهلي ،ولما وجدت من يرحمني حين أكون صغيراً،أوضعيفاً أو مريضاً،ولما احترمني غير ي حين أكون كبير السن ، ولظللنا نعيش بدون أمان يُغير بعضنا على بعض دون ضوابط ،ولظللنا نبيت يقتلنا الهم والقلق على رزقنا و حياتنا ومستقبلنا،ولأكلنا الحيوانات الميتة،ولظل الفقير فقيراً يحقد على الغني،ولظل الغني غنياً يحتقر الفقير ويخاف من حسده وحقده ،ولظللت أعيش بلا هوية أو هدف،أعطل عقلي ولا أحترمه، وأتبع أهوائي ولو كان على حساب غيري.
وقالت البنات: لولا الإسلام لوأَدني أبي فور ولادتي ،ولامتُهنت كرامتي، واستُبيحت حرمتي ،ولظللت جاهلة بلا قيمة،ضعيفة بلا حول ولا قوة ،ولتزوجني أخي وعمي وابني، ولفقدت اسمي بعد زواجي،ولما عرف أبنائي قيمتي وحقي عليهم، ولطلقني زوجي دون سبب وفي أي وقت، ولتزوج علي أي عدد من النساء في أي وقت شاء،ولظللت محرومة من حقي في الميراث،ولنسيني أبنائي بعد موتي.
فنظرت الأم في النهاية إلى ابنها فرأت في عينيه أن إجابة سؤاله قد وصلت إلى قلبه قبل عقله،فحمدت الله الهادي.
طفولة العظماء:
رأت الأم أبناءها منبهرين بشخصيات الرسوم المتحركة والمجلات والأفلام الغربية من الأبطال،فعز عليها ذلك وقالت لهم:" إن هؤلاء أبطال غير حقيقيين،فهل أحدثكم عن أبطال حقيقيين؟" فكانت إجابتهم بالفعل هي الإيجاب،فظلت تحكي لهم كل يوم قصة قبل النوم من قصص أبطال المسلمين من الأطفال أمثال:
"علي بن أبي طالب" الذي نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وهو ابن عشر سنين.(7/75)
و "الحسن" و"الحسين" الذين رأيا شيخا يتوضأ –وكانا غلامين- فلم يريدا جرح مشاعره بأن يقولا له أنه لا يحسن الوضوء ،فقالا له: يا عماه لقد اختلفت وأخي فيمن يحسن الوضوء منا فهلا حكمت بيننا؟ وأرياه كيف الوضوء الصحيح .
و"عبد الله بن الزبير" الذي عُرف عنه منذ صغره قوة في الحق وصراحة في الكلمة يعترف إذا أخطأ ويتحمل الجزاء إذا دعا الأمر،وقد كان يوما يلعب مع الصبية-وهو لا يزال صبي- وإذا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يمر بهم،ففروا من أمامه-لأنه كان يسألهم عن صلاتهم فإذا كانوا قد أدوها تركهم وإذا لم يؤدوها أمرهم بأدائها- أما "عبد الله" فوقف مكانه ،فلما سأله "عمر" عن عدم فراره معهم قال:" لَم أرتكب ذنباً فأخافك،وليست الطريق ضيقة فأوسعها لك"، فسأله:" هل أديت فرضك؟" قال " نعم يا أمير المؤمنين،وتلاوة ما عليَّ من قرآن وحديث وأنا الآن أروِّح عن نفسي،فقال له:" جزاك الله خيرا يا ولدي".
و"أسامة بن زيد" الذي علم أن رسول الله صلى الله عليه سلم يتجهز للغزو فأصر – وهو بعد لم يتجاوز العاشرة من عمره- على أن يكون له دور،فذهب يعرض نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم،إلا أن الرسول الكريم أجابه بأنه ما يزال صغيرا لم يُفرض عليه القتال ،فعاد باكياً،ولكنه عاود الكرة مرة ثانية وثالثة ،وفي الثالثة طلب منه أن يطيِّب الجرحى من المقاتلين،ففرح فرحاًً شديداً،ولما كبر أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى أسامة قيادة أحد جيوش المسلمين ،فتم ذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
و"معاذ" و"معوِّذ" الغلامان الذين نالا شرف قتل "أبي جهل" رأس الكفر الذي طالما آذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه،فقال لهما :"أيكما قتله؟"،فقال كل منهما :" أنا قتلته" فقال لهما:" هل مسحتما سيفيكما؟" قالا :"لا" فنظر صلى الله عليه وسلم في السيفين وقال:" كِلاكما قتله"!!!
و"أسماء بنت أبي بكر" التي تشرفت -دون الخلق- بحمل الطعام والشراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها في مخبأهما أثناء الهجرة،والدفاع عنهما بشجاعة وصلابة أمام أبي جهل الذي لطمها على خدها لطمة أطاحت قرطها.
وأروى بنت الحارث التي قادت كتيبة من النساء وقد عقدت لواءً من خمارها كخدعة حربية،ففعلت من معها من النساء مثلها واندفعت بالكتيبة إلى حيث كان المسلمون يواجهون عدوهم في "ميسان"،فلما رأى الأعداء الرايات مقبلات عن بعد ظنوا أن مدداً للمسلمين في الطريق إلى أرض المعركة ،ففروا مولين الأدبار،وتبعهم المسلمون يطاردونهم حتى قتلوا منهم أعدادا ًكبيرة.( ( -
في التعرف على الدين: لما اقترب أولادي من سن المراهقة إستأذنتهم في أن أضع بعضاً من كتبي في مكتبتهم الخاصة بغرفتهم لأن مكتبتي مكتظة،فلم يعترضوا.فاخترت مجموعة من الكتب مثل :( رأيت الله للدكتور مصطفى محمود، ورياض الصالحين للإمام النووي ،وحياة الصحابة للكاندهلوي ،وفقه السيرة ،والمهذَّب من إحياء علوم الدين للإمام محمد الغزالي، ومنهاج المسلم للشيخ أبو بكر الجزائري، وتفسير القرآن للشيخ الشعراوي رحمه الله ، والحلال والحرام في الإسلام ،والإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي،،ولا تحزن لعائض القرني،وعلو الهمة لمحمد أحمد المقدم، وبدائع القصص النبوي الصحيح لمحمد بن جميل زينو)
ولم أتحدث معهم عنها على الإطلاق،بل كنت أراقب الموقف من بعيد ...وما هي إلا أسابيع حتى امتدت أيديهم الغضة إلى تلك الكتب واحداً تلو الآخر وأصبحوا-بحمد الله تعالى - يستفسرون عن بعض ما يقرءونه ويناقشونني فيه.
في الترغيب في الزكاة من خلال الصدقة :
قامت الأم بتخصيص صندوق كبير يضع فيه أفراد الأسرة ما زاد عن حاجتهم ،أوما يريدون التصدق به،ويتركونه حتى يمتلىء فيقومون بترتيب الأغراض ووضعها بشكل لائق،ثم ترسلها الأم مع طفليها إلى المسجد القريب من المنزل الذي ينفقها على مستحقيها؛ وكانت توضح دائماً أن الله يعطي كل منفق خلفا، وأنه يعطيه أفضل مما تصدق به في الدنيا والآخرة...وذات يوم وضع طفلها حذاءه الرياضي القديم في صندوق الصدقة دون أن يخبر أمه،ولما عاد أبوه وجدته الأم يقول لها وهو يكاد يطير فرحا:" أنظري يا أمي لقد رزقني الله بحذاء رياضي جديد أفضل من الذي تصدقت به،حتى قبل أن يصل إلى المسجد؛ أرسله لي صديق أبي الذي عاد من السفر!!!"
في الترغيب في الحج من خلال العمرة:
لم يتيسر الذهاب للمصيف قبل العمرة،وكان الأولاد يتوقون إليه،ولكنهم لما عادوا من العمرة لم يطلبوا الذهاب للمصيف واكتفوا بمزاولة رياضة كل منهم المفضلة، حتى انتهت العطلة الصيفية!!!ثم صاروا يسألون في العطلة التالية عن موعد الذهاب العمرة ويقولون :"نفضلها على المصيف"!!
والعجيب أن الأم فوجئت بأصغر أولادها(سبع سنوات) تسأل عن الحج قائلة: لقد جربنا العمرة وأريد أن أجرب الحج ،متى نحج يا أمي؟!!!
***
وختاماً ، فإن الحديث في هذا الموضوع لا يكتمل إلا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع حارثة رضي الله عنه -وكان لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره-، يروي حارثة أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوماً: (( يا حارثة ، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال له المصطفى: "وما حقيقة إيمانك؟" قال:" أصبحت أرى عرش ربي بارزا، وأصبحت أرى أهل الجنة وهم يتزاورون، وأهل النار وهم يتعاوون(يصطرخون) فقال له : عرفتَ فالزم!!))
***
"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" ،
وآخر دعوانا" أن الحمد لله رب العالمين"
======
الهوامش :
(*) بالقاهرة(ت5720027 ) www.dar_aleman@hotmail.com 17 شارع خليل الخياط بالإسكندرية
(**) يمكن أن نجد هذه القصص وغيرها في الصفحات 109-122 ، و140-148من كتاب فن تربية الأولاد في الإسلام-الجزء الثاني لمحمد سعيد مرسي. القاهرة،دار النشر والتوزيع الإسلامية،ص ب 1636، ت:3911961
======
المصادر
1- فضيلة الشخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في تفسيره للقرآن.
2- اليسر ورفع الحرج .مقالة منشورة على موقع:
www.albayan.com.ae/albayan/2001/126/mnw/8.htm
3- ضمن سلسلة "دروس أخرى" على موقعهwww.forislam.com
4- من كنوز الإسلام : الإسلام دين السماحة مع أهل الأديان الأخرى مقال على موقع
www.gn4me.com/fatawa
5- من كنوز الإسلام: الإسلام دين يسوي في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين،مقال على الموقع www.gn4me.com/fatawa
6- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .من روائع الحضارة الإسلامية:درس ألقاه ضمن حلقات "يوميات حاج"،وهو متاح ضمن دروسه على موقع www.islamway.com
7- محمد بن سعيد المسقري.تنمية الثقافة الدينية للطفل:مقالة منشورة على موقع
www.islamway.com/bindex/section=articles @artic_id=175
8- المصدر السابق
9- محمد سعيد مرسي. فن تربية الأطفال في الإسلام: الجزء الثاني .القهرة:ار التوزيع والنشر الإسلامي،2001.
10- أغنية أركان الإسلام ،وهي منشورة على موقع www.islamweb.net/family/sons/sons15.ht m
11- حسن سعودي. ربي ، القاهرة،أطفالنا،1999.
12- فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي .جعفر بن أبي طالب :الدرس رقم 16/50 من دروس السيرة على موقعه www.nabulsi.com/download/sirah/sahabi/sahabi16.doc
13- فيصل بن على البعداني. سنابل الخير: مقالة من جزئين منشورة على الموقع: http://www.saaid.net/Minute/mm30.htm )
14- فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب- الحج معسكر رباني-القاهرة-دار المنار،1993 .(7/76)
15- فضيلة الشيخ محمد بكر إسماعيل. أسماء الله الحسنى :آثارها وأسرارها.- القاهرة: دار المنار،2000م .
16- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .عبادات المؤمن،بيروت،دار المعرفة،2002
17- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد . خواطر إيمانية- ج1، على قناة الفردوس www.ferdaws.com)
18- فضيلة الشيخ راتب النابلسي.درس التربية الإسلامية: شرح الحكم العطائية: الجزء الأول؛ مقالة متاحة على موقعهwww.nabulsi .com)
19- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد درس صلاة الجماعة-سلسلة العبادات على موقعه www.forislam.com)
20- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد .كيف نستقبل رمضان ،ضمن دروس رمضان 1422 هـ على موقعه www.forislam.com
21- فضيلة الشيخ "صفوت حجازي" في محاضرة له عن حب الله .
22- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد.درس الإخلاص من سلسلة إصلاح القلوب،على موقعه www.forislam.ccom
23- الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد.التوكل درس من سلسلة إصلاح القلوب على موقعه www.forislam.com
24- الدكتور عبد الله الخاطر.الهزيمة النفسية عند المسلمين،تأليفه ومراجعة وتقديم د.عبد الرازق محمود ياسين الحمد-استشاري الطب النفسي بكلية الطب-جامعة الملك سعود بالرياض ص 20-21،صدر عن المنتدى الإسلامي
25- كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء شرح السيد بكري المسكي ابن السيد محمد شطا الدمياطي على منظومة هداية الأذكياء إلى طريق الأولياء للشيخ زين الدين بن علي المعبري
===============
دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية
د. عبد الحليم عويس
إهداء
لا أزال أؤمن بأن ثمة دورا كبيرا ينتظر الأمة المسلمة ، ولا أزال أؤمن بأن حركة التاريخ التي هي من سنن الله سوف توقف هذه الأمة أمام قدرها المحتوم . . لتؤدي واجبها نحو البشرية التائهة . .
فإلى الذين يساعدون التاريخ ، كي تقف هذه الأمة في مكانها الصحيح . . وكي تؤدي دورها الصحيح . . .
إليهم . . وحدهم . . أهدي هذا الكتاب
بين يدي هذه الصفحات
المكتبة الإسلامية والتاريخية حافلة بالدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من تاريخنا . ولكم كتب الكاتبون حول صناع الحضارة الإسلامية ، ولكم أطنبوا في الحديث عن أبطالنا ، وعن فضلنا على أوربا . . وغير أوربا .
ولقد ظهر تاريخنا من خلال التركيز ، وكأنه تاريخ أسطوري ، وكأن الذين عاشوه وأسهموا في صنعه ملائكة ليسوا بشرا . . ! !
ولقد كان هذا المنهج في التناول خطيرا من عدة وجوه :
أولا : لأنه ترك مهمة التحليل العلمي لتاريخنا كتاريخ بشر لهم مزايا وغرائز - لأعداء هذا التاريخ ، فراحوا يركزون على الجوانب السلبية في هذا التاريخ ، وصادف هذا هوى من بعض العقليات التي كانت تسأم التركيز على الماضي بهذه الصورة غير الموضوعية ، وبالتالي . . انساقت هذه العقليات وراء جماعة المستشرقين الذين يدرسون تاريخنا . . . من نقطة الانطلاق المحددة ، وهي تشويه هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ ! !
ثانيا : وفي غمرة الانبهار العقلي بالمناهج الاستشراقية . . ضاعت بحكم رد الفعل حقائق موضوعية تتصل بهذا التاريخ ، وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمين : قسم يرفضه بالجملة ، ويراه عقبة في طريق التقدم والمستقبل ، وقسم آخر يراه كل شيء ، ويراه من جانبه العالمي الإيجابي هو النموذج الحرفي الذي يجب إعادته وتكرار نمطه .
وبين طرفي النقيض . . يمكن أن توجد الحقيقة ، ويمكن أيضا أن تسقط الحقيقة . ! !
ثالثا : لقد صرفنا منهج التركيز على المدح عن الاستفادة الحقيقية من تاريخنا ، ولعل بعض الناس قد وقر في أذهانهم بفعل هذا التركيز ، أن ما نعانيه في هذا القرن من مشكلات حضارية ، ومن تحديات مصيرية ، هو نموذج لم يتكرر في تاريخنا . . وهم يشعرون - لذلك - بيأس شديد ، ولعلهم يحسون ، وإن كانوا لا يفصحون بأننا لن نعود إلى استئناف مسيرتنا - نحن المسلمين - وبأننا لم يعد لدينا ما يمكن أن نعطيه للحياة في عصر القوة النووية والمركبات الفضائية ، نحن الذين نستورد الساعات والسيارات والآلات البسيطة ! ! .
إن هذا الكتاب . . يتناول " أوراقا ذابلة من حضارتنا " من خلال تركيزه على سقوط دول إسلامية بعضها كان درسا أبديا حين كانت الأمراض خبيثة وفتاكة ، وحينما ذهبنا نطلب الدواء من عدونا . . فكانت فرصته لإعطائنا السموم القاتلة . . ولعل هذا الدرس لم يتضح بجلاء إلا في الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية . .
ولعل من الملاحظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة - آخر مصارعنا في الأندلس ( 1492م ) كان نفسه الذي شاهد سنة 1453م - الفتح الإسلامي الخالد للقسطنطينية ، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية المسلمين لفترة تزيد على خمسة قرون . .
لقد سقطت الأندلس . . كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ، وكان لا بد من بتره . . فحقت عليه كلمة الله ! !
ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبني للإسلام تاريخا جديدا . . ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل .
إن درس الأندلس لا يجوز أن يغيب عن بالنا ، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة :
أولا : الصراع العنصري الجنسي
ثانيا : ارتفاع رايات متعددة بعيدة عن راية الإسلام الواحدة المتصلة بالنفوس والعقول .
ثالثا : استعانة مسلمي الأندلس بالأعداء ضد بعضهم البعض . . .
وكل العوامل الأخرى . . تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ! ! ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم : دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في " أغمات " بالمغرب الأقصى ؟ ؟ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم " ألمرية " وهو يموت : " نغص علينا كل شيء حتى الموت " ؟ وهل ننسى دموع . . أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة . . حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا . . رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة . . وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه : " ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال " ! !
ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك . ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان ! !
على أن " الأوراق الذابلة من حضارتنا " كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها . . مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم .
ونحن لا نستطيع القول : بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح . . كما أننا كذلك لا نميل إلى القول : بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية . . فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق .(7/77)
إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي . . سواء إلى أعلى أو على أسفل . . عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود . . الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية . ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل . . ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار " صلاح دين " أو " سيف دين " مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة .
لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم . . لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت لفطرتها وتراثها وقيمها وحضارتها التي غرسها ورعاها الإسلام . . لو تم هذا لكان في الإمكان أن تحدث منعطفات كثيرة في تاريخ هذه الأمة . هي لصالحها . . ولحساب رقيها وازدهارها .
لقد حاولت من خلال هذه الأوراق الذابلة أن أمد الطرف - في تاريخنا الإسلامي - إلى آفاق ثلاثة : الأندلس ( أوروبا ) ، والمشرق العربي بخلافتيه الكبيرتين ( العباسية والفاطمية ) والدول التي تبعتهما ، ثم المغرب العربي . . وهي الأجنحة الثلاثة الشهيرة التي تزعمت العالم الإسلامي ، ومثلث القيادة الفكرية والسياسية بالنسبة لمسلمي العالم .
ولم تكن الأوراق التي اخترتها إلا مجرد نماذج من هذه الأجنحة . ولربما كانت هناك دول أخرى كفيلة بمدنا بشارات من شارات طريق السقوط . . لكن الاستقصاء ، فضلا عن صعوبته ، لم يكن من أهداف هذه الصفحات .
إن هذا البحث . . وجبة خفيفة من وجبات تاريخنا . لكنها وجبة من نوع خاص . . ليست زاخرة بأنواع الدسم والمشهيات ، فإن جسم الحضارة كأجسام الأفراد - لا يستقيم بالدسم الدائم ! !
وهذا البحث دعوة لتشريح تاريخنا من جديد . . وبجرأة ، فلأن نشرحه نحن - بإنصاف - أولى من أن نتركه لأدعياء المنهج العلمي يشرحونه - بحقد وعنف وإجحاف . . ! !
وهو كذلك بحث للذين يقرءون تاريخنا . . ليتعلموا ، أو ليناقشوا ، أو ليعرفوا معالم المستقبل .
وتبقى في النهاية كلمة :
لسوف تبقى هذه الأمة ، ولسوف تؤدي دورها ، لسوف تقوم من عثرتها . . هكذا يقول لنا معلمنا العظيم . . " تاريخنا " ذو الأربعمائة وألف سنة - أطال الله عمره ! !
ولقد كبونا كثيرا . . ثم قمنا
ولقد حاربنا العالم كله ذات يوم . . ونجونا . . وانتصرنا . . فقط ثمة شرط واحد : أن نعرف من أين نبدأ ، وإلى أية غاية نريد ! ! ودائما يعلمنا تاريخنا أن آخر أمتنا لن يصلح إلا بما صلح به أولها .
القسم الأول : من قصص سقوطنا في أوروبا
* آخر خطواتنا في أوروبا
* أحفاد صقر قريش يسقطون
* وسقط ملوك الطوائف
* قصة الفردوس المفقود
* وقصة أخرى من الأندلس
* ركن من الفردوس يسقط
* سقوط غرناطة " آخر مصارعنا في الأندلس "
آخر خطواتنا في أوربا
قصة " الغنيمة " في تاريخنا غريبة ، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك - أغرب ! !
لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة ، ولقد وقفنا مرغمين - عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا ، بسبب الغنيمة - كذلك ! !
فقصة الغنيمة . . هي قصة الهزيمة في تاريخنا .
كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام . . وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة . . فكانت " أحد " وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلا من خيرة المسلمين . . بسبب الغنيمة . . نعم بسبب الغنيمة ! !
وكان قائد المعركة الأخيرة " عبدالرحمن الغافقي " آخر مسلم قاد جيشا إسلاميا منظما لاجتياز جبال البرانس ، ولفتح فرنسا ، وللتوغل - بعد ذلك - في قلب أوروبا .
وهزم الغافقي . . سقط شهيدا في ساحة " بلاط الشهداء " إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة . . وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا ، وطووا صفحتهم في هذا الطريق . . وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة . . أعني بسبب الغنيمة .
ومنذ تم الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية ، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفتح ما وراءها ، هكذا أراد " موسى بن نصير " لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك " خشي أن يغامر بالمسلمين في طريق مجهولة ثم فكر على نحو جدي " السمح بن مالك الخولاني " والي الأندلس ما بين عامي ( 100 - 102 هجرية ) ، وتقدم فاستولى على ولاية ( سبتماية ) إحدى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا ، وعبر - بذلك - " السمح " جبال البرانس ، وتقدم فنزل في أرض فرنسا منعطفا نحو الغرب حيث مجرى نهر الجارون ، مستوليا في طريقه على ما يقابله من البلدان ، حتى وصل إلى - تولوز - في جنوب فرنسا - لكن لم يستطع أن يستقر فيها ، وقتل السمح ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده ( عبد الرحمن الغافقي ) فكأن السمح لم ينجح إلا في الاستيلاء على سبتماية .
ثم واصل الوالي الجديد بعد ( عنبسة بن سحيم الكلبي ) التقدم نحو أوربا ، وإن كان قد غير طريق السير ، وتمكن من الوصول إلى " أوتان " في أعالي نهر الرون ، لكنه لم يكن حذرا فلم يؤمِّن طريق عودته فانتهى الأمر بقتله وعاد جيشه إلى أربونة في سبتماوية .
لكن عبد الرحمن الغافقي ، كان الشخصية الحاسمة التي أرادت التقدم نحو أوربا وحرصت عليه ، وكان عبد الرحمن مشبعا بروح الإيمان والرغبة في الثأر لما أصاب المسلمين من قبل حين قتل " السمح " وحين رجع هو بالجيوش الإسلامية إلى سبتماوية ( وقد أعلن الغافقي الدعوة للجهاد في الأندلس كلها وفي أفريقية ، وقد جاءته وفود المتطوعين من كل مكان ، كما أنه من جانبه استعد استعدادا كبيرا لهذا الغزو ) .
ولقد التقى المسلمون ( عربا وبرابرة ) بالمسيحيين بين بلدتي " تورو " و " بواتيه " على مقربة من باريس ، وكان قائد النصارى ( شارل مارتل ) وزير دولة الفرنجة وأمين القصر ، بينما كان ( عبد الرحمن الغافقي ) - يقود جيوش المسلمين . وكانت المعركة شديدة قاسية استمرت قريبا من سبعة أيام ، وكان الجيش الفرنجي وحلفاؤه أكثر من جيش العرب ، ولكن المسلمين أحسنوا البلاء في القتال ، وكاد النصر يتم لهم . . لولا أن ظهرت قضية " الغنائم " ! !
لقد عرف المسيحيون أن لدى الجيش الإسلامي غنائم كثيرة حصل عليها من معاركه أثناء تقدمه من قرطبة حتى " بواتيه " . .
وقد أثقلت هذه الغنائم ظهور المسلمين ، وكان من عادة العرب أن يحملوا غنائمهم معهم ، فيضعوها وراء جيشهم مع حامية تحميها .(7/78)
وقد فهم النصارى هذا ، ونجحوا في ضرب المسلمين عن طريق التركيز على هذا الجانب ، لقد شغلوهم من الخلف . من جانب الحامية المكلفة بحراسة الغنائم . . ولم يفطن المسلمون للتخطيط النصراني ، فاستدارت بعض فرقهم لحماية الغنائم . . وبالتالي اختل نظام الجيش الإسلامي . . ففرقة تستدير لحماية الغنائم ، وأخرى تقاتل النصارى من الأمام . .
وعبثا حاول عبدالرحمن الغافقي إنقاذ نظام الجيش الإسلامي ، إلا أن سهما أصابه وهو يبذل محاولاته المستميتة . . فوضع حدا لمحاولات الإنقاذ ، وأصبح جيش المسلمين دون قيادة . . وتقدم النصارى فأخذوا بخناق المسلمين من كل جانب وقتلوا من جيشهم الكثير ! !
لقد كانت " بلاط الشهداء " سنة 114 هجرية آخر خطوات المد الإسلامي في اتجاه أوربا ، أو على الأقل آخر خطواته المشهورة .
ثم توقف المد . . لأن بريق المادة غلب على إشعاعات الإيمان ! !
والذين يسقطون في هاوية البحث عن الغنائم لا يمكن أن ينجحوا في رفع راية عقيدة أو حضارة .
أحفاد " صقر قريش " يسقطون
خلافة ولدت من خلافة . . ولئن كان أبو مسلم الخراساني ، وأبو عبيد الله السفاح قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132 هـ ، وأن يقتلا مروان بن محمد بحلوان مصر ، فيقتلا بقتله آخر خليفة أموي في المشرق العربي، فإن هذه الخلافة المنهارة ، قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرض تفصلها عنها بحار ، وآلاف الأميال .
وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، أن يكون هو الفارس لهذه النبتة في الأندلس ، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملا روائيا عظيما . .
ونجح " صقر قريش " العجيب في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتى وصل إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين . . .
لقد كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عن العباسيين ، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل وتجمعات عبدالرحمن الداخل ، لكنه هزم أمامه عندما التقيا سنة 139 هـ ، ودخل عبد الرحمن قرطبة ، فتأسس بذلك للأمويين الذين سقطوا في دمشق على يد العباسيين ، ملك جديد في الأندلس الإسلامية . لم تنجح كل محاولات العباسيين على عهد جعفر المنصور في استرداد الأندلس ، كما لم تنجح محاولات ملك الصليبيين ( شارلمان ) في استغلال الظروف والقضاء على صقر قريش ، واستتب بذلك الأمر للفرع الأموي الذي تكون في الأندلس .
لقد عاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك .
فلما مات سنة 172 هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده . . تولاها هشام ابنه ، ثم عبد الرحمن الثاني ، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر ، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم .
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان . نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الإسلام ، وطلبت ود الدولة المماليك النصرانية المحيطة بها ، وأصبحت قرطبة ، والمدن الأندلسية الأخرى ، كعبة العلوم ، ومقصد طلاب العلم، وعواصم الثقافة العالمية الراقية . .
وفي سنة 350 هـ مات عبد الرحمن الناصر هذا ، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة أم الخليفة " صبح " وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة ، مكونا خلالها الدولة المنسوبة إليه ، والمسماة بالدولة العامرية .
ثم عادت أمور الأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة ، إلى أن قضي عليهم قضاء أخيرا في الأندلس سنة 422 هـ ، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف ، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككا وضعفا وانحدارا نحو هاوية السقوط .
لقد قضى على الأمويين في الأندلس عاملان بارزان - أولهما : أن هؤلاء الأمويين لم يفهموا طبيعة التكوين الأندلسي ، أو فهموه ولم يقوموا بما تتطلبه طبيعته ، وأبرز سمات هذا التكوين ، وجود النصارى في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها ، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم ، لا يجمعها إلا أقوى وشيجة في التاريخ وهي الإسلام . ولم يكن هناك من حل حضاري لمواجهة طبيعة هذا التكوين إلا تعميق " الإسلامية " وتجديدها بين الحين والحين ، بحركات جهاد مستمرة ضد المماليك النصرانية المتحفزة . . وحركات جهاد تمتص المشاكل الجنسية الداخلية ، وفي الوقت نفسه توقف النصارى عند حدودهم وتجعلهم في موقف الدفاع لا الهجوم .
والعامل الثاني البارز كذلك ، هو ترك بعض هؤلاء الخلفاء الأمور لحُجَّابهم أو نسائهم ، مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد .
ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه ، أن الدولة التي لا تفهم طبيعة تكوينها ، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية ، تكون معرضة للزوال . . وهذا هو الأمر الذي آلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعد حياة دامت قريبا من ثلاثة قرون . .
وسقط ملوك الطوائف
عندما أوشكت الخلافة الأموية في الأندلس على السقوط ، لم تسقط دفعة واحدة .
لقد جرى عليها ما جرى على الفاطميين بعد ذلك في مصر ، وما جرى على المماليك أيضا . . لقد ضاعت الزعامة منهم عبر انقلاب سلمي لم ترق فيه قطرة دم - بالمعنى المباشر للانقلابات الدموية - ! !
لقد ولي أمر الخلافة طفل في السابعة من عمره يدعى " هشاما " ولما لم يكن بإمكانه حكم البلاد ، فقد كانت أمه " صبح " وصية عليه ، ولم تستطع صبح هذه أن تنفرد بالسلطة ، فقد أشركت معها في الأمر رجلا من أغرب الرجال وأقدرهم يدعى " المنصور بن أبى عامر " . .
وقد نجح هذا المنصور في أن يعبر الانقلاب السلمي بنجاح ، ويحول الخلافة الأموية في الأندلس إلى ملك ينتسب إليه ، ويرثه أبناؤه من بعده ! ! وإن كان لبني أمية الاسم الرمزي والخلافة الصورية .
ولم يمض أكثر من أربعين سنة حتى كانت دولة العامريين قد أصبحت آخر ومضة تمثلت فيها دولة الخلافة الأموية في الأندلس ، وبسقوط دولة العامريين التي قامت على غير أساس ، انفرط عقد الأندلس ، وظهر بهذه الأرض الطيبة عصر من أضعف وأردأ ما عرف المسلمون من عصور الضعف والتفكك والضياع .
لقد ورث خلافة الأمويين أكثر من عشرين حاكما في أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة ، وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب ، وكانت بينهم حروب قومية لم يخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها ، ولقد ترك هؤلاء الملوك المستذلون الضعاف الملوك النصارى يعيشون بهم ويتقدمون في بلادهم ، وانشغلوا هم بحروبهم الداخلية ، وباستعداء النصارى ضد بعضهم البعض ، وتسابقوا على كسب النصارى ، وامتهنوا في ذلك كرامتهم وكرامة الإسلام ، فدفعوا الجزية وتنازلوا طوعا عن بعض مدنهم للنصارى ، وحاربوا في جيوش النصارى ضد المسلمين من إخوانهم في المدن الأخرى من أرض الأندلس الإسلامية .
ولا يستطيع المرء أن يزعم أن باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف .(7/79)
ولقد أدى التنافس بين هؤلاء الملوك إلى رفعة منزلة الشعراء والأدباء والمطربين ، ولم يكن ذلك حبا في الأدب ، ولا إعجابا بفن الطرب ، وإنما كان ذلك من جملة أساليبهم في حرب بعضهم البعض ، وفي محاولة تحصيل المجد والشهرة المزيفين .
وقد اشتهر من بين هؤلاء الملوك المتنافسين أسرة بني عباد ، التي نبغ فيها المعتمد بن عباد كأمير مشهور عاطفي ، وكشاعر كبير ذي قلم سيال ! !
ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك ، كما استفحل كذلك ضعف كل منهم ، وكان من نتائج ذلك طمع النصارى في إشبيلية وفي المدن الأندلسية الأخرى .
ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل ، فإن ذلك الفضل لن يكون إلا في محاولته مقاومة هذا الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين .
ولم يكن أمامه من مخرج غير الاستعانة بقوة المغرب العربي . . فاستعان بالمرابطين في المغرب الأقصى ، وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من المعتمد ، قال لهم كلمته المشهورة : " لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين " .
ولقد تقدم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين فعبر البحر و ( جبل طارق ) لنجدة المسلمين في الأندلس وحقق في ( معركة الزلاقة ) سنة 479 هـ ( 1086 م ) انتصارا كبيرا ساحقا على النصارى كان من أثره مد عمر الإسلام في الأندلس فترة أخرى من الزمن .
ولقد تبين ليوسف بن تاشفين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس ، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزالي بوجوب الاستيلاء على الأندلس فاستولى على الأندلس وأعاد إليها وحدتها ، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه ، ويفضل بعضهم النصارى عليه .
وفي مدينة ( أغمات ) بالمغرب الأقصى عاش ( ابن عباد ) أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيرا ذليلا لا يجد ما يكفيه ! !
إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر ، فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم ، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم ووجود أمتهم . . سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون .
ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق . . فنغص الله كل شيء عليهم حتى الموت ، كما قال ابن صمادح الطائفي حاكم ( ألمرية ) وهو يحتضر ويسمع أصداء الهجوم على قصره ، فليبحث ملوك الطوائف في كل عصر عن الحياة ، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه ، وحتى لينغص الله عليهم كل شيء حتى الموت . . فتلك سنة الله .
ولن تجد لسنة الله تبديلا . . .
قصة الفردوس المفقود
كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشر الميلادي " تحمل في أحشائها وباء خطيرا على الأندلس الإسلامية .
لقد سقطت الدولة العامرية ، آخر حامية للدولة الأموية في الأندلس ، ولقد ظهر أن أحفاد عبد الرحمن الداخل الأمويين أقل من أن يقوموا بعبء حماية الإسلام الأندلسي .
وكان البربر قد هاجر كثير منهم إلى الأندلس بحثا عن سلطة أو زعامة ، وكان الصقالبة وهم مجموعة من النازحين إلى الأندلس من طوائف مسيحية مختلفة ، كان هؤلاء الصقالبة يشكلون بدورهم عنصرا من عناصر الوجود في الحياة الإسبانية الإسلامية .
ومن هذه القوميات المتناطحة تشكل الوجود الأندلسي غرة القرن الخامس الهجري . . فلما سقطت خلافة الأمويين الإسلامية في الأندلس ، نتيجة امتصاص طاقتها في مشاحنات داخلية . . تحركت كل هذه الطوائف المقيمة فوق أرض الأندلس الإسلامية تبحث عن السلطة والامتلاك .
وبدلا من أن تتحد قواهم في وجه المسيحيين المجاورين لهم وبدلا من أن يرفعوا راية الإسلام والجهاد . . كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصليبي المتربص بهم . . بدلا من هذا . . أعلنوا أحقاد القومية الطائفية والنعرات الجنسية ! !
وظهر في الأندلس أكثر من عشرين دولة يتقاسمها الأندلسيون والبربر والعرب والصقالبة . . ففي كل مدينة دولة ، بل ربما اقتسم المدينة أكثر من طامع ومنافس .
واستمر أمر هذه الدول أو هذه المدن المتنافسة التي عرف حكامها بملوك الطوائف . . استمر أمرها أكثر من خمسين سنة . . امتهن فيها الإسلام والمسلمون ، وتوسل كل ملك منهم بالنصارى ضد إخوانه المسلمين ، ووقف ابن حيان " - مؤرخ الأندلس - يستشف ما وراء الحجب ويقول لأبناء جنسه :
يا أهل أندلس شدوا رواحلكم ** فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب الجزيرة منسولا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه ** كيف الحياة مع الحيات في سفط
لقد فشل ملوك الطوائف في أن يلموا شعثهم ، وأن يتكتلوا ضد النصارى . . ومن عجيب المقادير أن " ألفونسو السادس " ملك قشتالة وليون واستوريا ، كان يتظاهر بحماية هؤلاء الملوك المسلمين ، ويأخذ منهم الجزية والإتاوات التي يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى ، واستطاع أن يعد عدته من الإتاوات التي يفرضها عليهم ليلتهمهم بها كلهم . . وكان آخر ما التهمه ألفونسو من أرض المسلمين تحت سمع وبصر هؤلاء الإسلاميين بل وبمساعدة بعضهم . . مدينة طليطلة سنة 478 هـ 1085م .
وعند هذه الموقعة تأكد لدى أكبر ملك من ملوك الطوائف " المعتمد بن عباد " أن ألفونسو يريد الالتهام . . ولا أقل من الالتهام الكامل . . وفكر المعتمد في وسيلة الإنقاذ . . وضعته الأقدار أمام حل واحد لم يكن له خيار فيه .
لقد قرر أن يستنجد بالمرابطين المسلمين الموجودين في المغرب الأقصى كقوة إسلامية ناشئة . .
وقد نجح المرابطون في إيقاف الزحف النصراني ، وأذلوا كبرياء ألفونسو ، واستردوا كثيرا من مدن الإسلام ، ولم يحاول الأندلسيون بناء أنفسهم . . لم يحاولوا صنع التقدم من خلال الذات . . لقد اعتادوا تسول النصر واستيراد البقاء من إخوانهم المغاربة المسلمين .
وحقيقة . . نعم حقيقة . . بقيت الأندلس إسلامية باستيرادها النصر أيام المرابطين ثم أيام الموحدين ثم أيام بني مرين . . وبقيت مملكة غرناطة الإسلامية وحدها أكثر من مائتي سنة تصارع الموت - كوهجة الشمس قبل الغروب .
ولكن قانون الحضارة كان قد قال كلمته . . فإن الذين فشلوا في أن يخلقوا من أنفسهم قوة قادرة على الحياة ما كان ينفعهم أن يشتروا النصر أو يستوردوه .
وفي سنة ( 897هـ ) 1542م سقطت غرناطة آخر ممالك الإسلام في الأندلس ، وطرد المسلمون شر طردة . وكانت هذه هي النهاية التي تنبأ بها الشاعر ابن حيان وغيره من هؤلاء الذين أدركوا قانون البقاء الذي هو من سنة الله .
نعم : أدركوا أن التاريخ لا يقوم بالاستيراد ، ولا تنتصر حركة تقدمه بالمتسولين !
وقصة أخرى من الأندلس
كانت الحالة سيئة للغاية . . وعندما تصل حركة التاريخ إلى طريق مسدود بعد أن يفسق أهل القرى ويخلعوا طاعة الله . . في هذه الحال يكون لا أمل إلا في شيء واحد . . هو الزوال . . وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ : خروج على قوانين الله . . إمهال نسبي من الله قد يغري الخارجين على القانون بالتمادي . . تجمع لعوامل الفناء . إغلاق لباب العودة . إبادة وموت في شكل مجموعة من الكوارث ! !
وإلى الحالتين الأخيرة وما قبلها . . وصلت حال الأندلس في القرن السابع الهجري . . ذلك القرن الذي شهد سقوط معظم القلاع والمدن الإسلامية الأندلسية ، ولم تفلت منه - إلى حين - سوى مملكة غرناطة ، التي لم تلبث بعد قرنين - أن لقيت حتفها .(7/80)
وعلى امتداد الأندلس - شرقيه وغربيه - بدأت حركة ما يسمى بالاستيراد الصليبي تسوق المسلمين المفككين ، المتناطحين بالألفاظ ، المقسمين في ولائهم بين ملوك النصارى . . تسوقهم إلى حتفهم الأخير .
وبعد سقوط الموحدين في الأندلس ، انفرط عقد هؤلاء ، فلم يعد يجمعهم جامع من خلافة إسلامية جامعة ، أو من استجابة لتحد خارجي ، أو من عقيدة متفوقة تشتعل أعماقهم بها ، ويبحثون عن رفعها أكثر مما يبحثون عن رفعة أنفسهم . . ولذا ؛ فقد تبع سقوط الموحدين التمهيد لسقوط كثير من مدن الأندلس كمرسية وبلنسية وقرطبة والشرق الأندلسي . . ثم الغرب الأندلسي الذي كانت عاصمته إشبيلية ! !
لقد عرف أهل إشبيلية بعد سقوط الموحدين ، أنهم لا بد لهم من حماية خارجية بعد أن فشلوا في الاعتماد على الذات . . وقد أرسلوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا الحفصي أمير الحفصيين في تونس هؤلاء الذين لمعوا بعد سقوط الموحدين ، لكن الرجال الذين أرسلهم الأمير الحفصي إلى إشبيلية أساءوا معاملة الناس وأظهروا الفساد . . فاضطر أهل إشبيلية لإخراجهم ، وبدءوا في الاعتماد على أنفسهم ، وألغوا معاهدة ذليلة كانت قد عقدت بينهم وبين ملك قشتالة النصراني فرناندو الثالث ، وقتلوا " ابن الجد " صاحب مشروع المعاهدة المذكورة ونصير السياسة المستذلة للنصارى .
وكان هذا نذيرا ببداية النهاية لإشبيلية ، إلا أنهم قد فقدوا العون الإسلامي الخارجي . . وأعلنوا - بقطعهم المعاهدة - حربا على قشتالة ، لم تكن ظروفهم مهيأة لدخولها .
وقد شهدت سنة 644هـ بداية التحرك النصراني ضد إشبيلية ، واستولى الصليبيون على حامية إشبيلية في هذا العام . . وكان ذلك بمساعدة ابن الأحمر ملك غرناطة وفقا لمعاهدته مع فرناندو . . !
وفي العام التالي تقدمت الجيوش النصرانية مرة أخرى على إشبيلية ، وقد نجحت في الاستيلاء على عشرات من المدن الإسلامية بفضل تدخل ابن الأحمر ، ومنعه هذه المدن من القتال بحجة أن القتال عبث . . . ! ! !
وتم حصار إشبيلية وتطويقها من جميع الجهات بالكتائب النصرانية . وبالكتيبة التي يقودها ابن الأحمر المسلم ، مشتركين جميعا - باسم وحدة الطبقة العاملة فيما نظن ! ! - في تشريد أهلها وسحق دعوة الإسلام بها . . ولعل وجود راية محاربة إسلامية يلمحها المسلمون المحاصرون . . كان أشد ضربة تلقاها بعيون وقلوب باكية أهل إشبيلية المستبسلون ! !
لقد وقف أهل إشبيلية الشرفاء نحوا من سنة يدافعون الحصار النصراني المدعوم من ابن الأحمر . . وقد نجحوا في إيقاع النصارى في أكثر من كمين وأصابوهم بالهزيمة غير مرة .
وقد حاولوا - وهم في حصارهم ، الاستنجاد بالمغرب دون جدوى . . بينما توالت النجدات على النصارى ، حتى نجحوا بسببها في منع المؤن عن المسلمين المحاصرين في إشبيلية . . فنفدت الأقوات وبدأ شبح الجوع يدب في أوصال المدينة المجهدة . . . ! !
وكان قضاء الله . . وخرج المسلمون الإشبيليون من مدينتهم وفق شروط المعاهدة . . خرجوا نازحين إلى مدن إسلامية أسبانية أخرى لم تلبث أن أسقطت ! !
لو كان هؤلاء المسلمون في مئات المدن التي استسلمت دون قتال بواسطة ابن الأحمر أو خوفا من الموت . . لو كان قد اتحدوا وقاتلوا . . أو لو أنهم قاتلوا تحت أي ظرف . . أكانت النتيجة ستصبح شرا من هذا الحال الذي لقيه المسلمون في الأندلس ؟
لكنها سنة الله في حركة التاريخ . . فعندما يتم الخروج على قوانين الله تتجمع عوامل الفناء فيغلق باب العودة . . فتتحقق الإبادة . . ويتحقق الموت في شكل مجموعة من الكوارث . . سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ! !
ركن الفردوس يسقط
حين تذهب إلى التاريخ تتلقى منه تلقي التلميذ المتعلم ، وليس تلقي التلميذ المتحجر المكابر ، يروعك أنك تقرأ نفسك ومجتمعك وأحداث عصرك في بعض صفحاته ، وتكاد تحس بأن ما يدور حولك ليس إلا آخر طبعة من كتاب التاريخ ، وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ - أي أفضلها - أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ . . هؤلاء وأولئك قوم مخدوعون ، يمتازون بالغباء الشديد والسذاجة المفرطة .
إن قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا . . قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضا .
وكان سقوط ( قرطبة ) أكبر معاقل الإسلام في الأندلس سنة 633هـ النهاية لسقوطنا التام في الأندلس .
وقد اضطر ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة إلى أن يهادن ملك قشتالة الصليبي، وأن يعقد معه صلحا لمدة عشرين سنة ، وأن يسلم له - بناء على شروط الصلح - مدينة جيان وما يلحق بها من الحصون والمعاقل ، وأن ينزل عن أرجونة وبيع الحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة . . واعترف بالطاعة لملك قشتالة وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدي ( العملة الإسبانية ) وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه ( المسلمين ) ! وعندها استغل ملك قشتالة هذا الصلح ليتفرغ لضرب المسلمين الآخرين ، هاجم مدينة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله . . وكانت هناك كتيبة إسلامية أرسلها ابن الأحمر تهاجمها معه ( باسم التقدمية ! ! ) فسرعان ما سقطت إشبيلية الإسلامية حاضرة الثقافة الإسلامية الرفيعة - بيد فرناندو الثالث ملك قشتالة سنة 646هـ وبمعونة ابن الأحمر 0- مؤسس مملكة غرناطة العظيم ، . . ولم تعد إشبيلية إلى الإسلام منذ ذلك اليوم ! !
وعندما كاد أمد الصلح بين ابن الأحمر وبين ملوك قشتالة ينتهي بعد ( العشرين سنة ) سعى ابن الأحمر لتجديد الصلح . . وفي سبيل ذلك تنازل لقشتالة عن عدد كبير من بلاد الإسلام قيل إنها بلغت أكثر من مائة بلد وحصن !
وأنا لا ألوم ابن الأحمر وحده . . إنما ألوم ملوك الطوائف جميعا . . لقد كان كل شيء ممكنا بالنسبة لهم - وفي عرفهم - عدا شيئا واحدا . .
كان الترامي في أحضان العدو ممكنا . . وكان التنازل له عن الأرض ممكنا . . وكان الخلاف بين بعضهم وبعض لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنا . . أجل . . كان كل هذا ممكنا إلا شيئا واحدا . . إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا . . . والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة . . كل شيء كان ممكنا - في عرفهم - إلا هذا .
وبالطبع . . فإن لنا أن نتوقع ظهور كثير من الحركات التقدمية والقومية والجدلية في مثل هذا المناخ الفاسد . . وبالتأكيد . لولا بروز مثل هذه النزعات التي لا شك في أن النصارى قد ساعدوا على ترويجها ، لولا هذا لأصبح المكان خاليا وملائما لبروز الحل الوحيد الصحيح . . الحل الإسلامي .
وفي الشرق الأندلسي كان شيء من هذا يحدث على نحو أعتى وأقسى ، ففي " بلنسية " . . كان آخر أمراء الموحدين هناك " أبو زيد بن أبي عبد الله " يلجأ بعد انهيار ملكه في بلنسية تحت ضربات منافسه " أبي جميل زيان " . . وكان هذا الموحدي العاق الجاحد يشهد مع ملك أرجوان كل غزواته ضد المسلمين . . ولم يكتف بهذا المصير التعس . . فاتخذ قراره الثوري الحاسم " باعتناق النصرانية " . . . ! !
وبينما كانت مدن بلنسية الكبرى وقراها وحصونها تتداعى ما بين سنوات ( 63-636هـ ) كان ( أبو زيد ) يبذل جهوده مع النصارى في حروبهم ضد الإسلام . . ويعاونهم في التعرف على نقاط الضعف لدى أبناء دينه السابق . وفي الوقت نفسه كان ابن الأحمر يساعد ملك قشتالة بكتائبه ضد إخوانه المسلمين .(7/81)
وتسألني لماذا طردنا من الأندلس ؟ فأقول لك : لأن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون . . ثم أقول لك عبرة التاريخ . . قانون سقوطنا : " حين يبحث كل عضو منا عن نفسه تسقط سائر الأعضاء " .
سقوط غرناطة
كان بقاء مملكة غرناطة الإسلامية في الأندلس قرنين من الزمان معجزة من معجزات الإسلام .
فهذه الجزيرة الإسلامية العائمة فوق بحر الصليبية المتلاطم الأمواج والطافح بالحقد والمكر التاريخيين . . هذه الجزيرة ما كان لها أن تصمد صمودها المشهور إلا لأن طبيعة الصمود كامنة في العقيدة والمبادئ الإسلامية . وبدون العقيدة الإسلامية . . ما كان لهذه الجزيرة أن تصمد وحدها في الأندلس بعد أن سقطت كل المدن والقلاع الإسلامية منذ قرنين من الزمان .
كان قانون " الاستجابة للتحدي " هو الذي أبقى غرناطة حية زاخرة بالفكر الإسلامي والرقي الحضاري هذين القرنين . . وكان شعور الغرناطيين بأنهم أمام عدو محيط بهم من كل جانب ، ينتظر الفرصة لالتهامهم ، وبأنه لا أمل لهم في استيراد النصر من العالم الإسلامي ، وبأنه لا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم . . كان هذا الشعور باعثهم الأكبر على الاستعداد الدائم . ؟ ورفع راية الجهاد والتمسك بإسلامهم .
وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة 1492م ( 897 هـ ) سيدة الأندلس الإسلامي ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الإسلامية الباقية في أوربا .
لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية . . فعلى المستوى النصراني بدأ " اتحاد " كبير يضم أكبر مملكتين مسيحيتين مناوئتين للإسلام . . وهما مملكتا أرجوان وقشتالة ، وقد اندمج الاثنان في اتحاد توجاه بزواج " إيزابيلا " ملكة قشتالة من " فرناند " ملك أرجوان . . وكان الحلم الذي يراود الزوجين الملكين الكاثوليكيين ليلة زفافهما هو دخول غرناطة . . وقضاء شهر عسلهما في الحمراء ، ورفع الصليب فوق برج الحراسة في غرناطة - أكبر أبراجها - وعلى المستوى الإسلامي . . كان " خلاف " كبير قد دب داخل مملكة غرناطة ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة ، وتم تقسيم مملكة غرناطة المحدودة قسمين ، يهدد كل قسم منهما الآخر ويقف له بالمرصاد . . قسم في العاصمة الكبيرة ( غرناطة ) يحكمه أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري ( آخر ملوك غرناطة ) وقسم في ( وادي آش ) وأعمالها يحكمه عمه أبو عبد الله محمد المعروف بالزغل .
وقد بدأ الملكان الكوثوليكيان هجومهما على ( وادي آش ) سنة 894 هـ ، ونجحا في الاستيلاء على وادي آش وألمرية وبسطة . . وغيرها ، بحيث أصبحا على مشارف مدينة غرناطة .
وقد أرسلا إلى السلطان أبي عبد الله النصري يطلبان منه تسليم مدينة الحمراء الزاهرة ، وأن يبقى هو حيا في غرناطة تحت حمايتها . . وكما هي العادة في الملوك الذين يركبهم التاريخ وهو يدور إحدى دوراته ، كان هذا الملك ضعيفا . . لم يحسب حسابا لذلك اليوم . . ولقد عرف أن هذا الطلب إنما يعني الاستسلام بالنسبة لآخر ممالك الإسلام في الأندلس فرفض الطلب ودارت الحرب بين المسلمين والنصارى واستمرت عامين . . يقودها ويشعل الحمية في نفوس المقاتلين فيها فارس إسلامي من هؤلاء الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب " موسى بن أبي الغسان " .
وبفضل هذا الفارس وأمثاله وقفت غرناطة في وجه الملكين الكاثوليكيين عامين وتحملت حصارهما سبعة أشهر . .
لكن مع ذلك . . لم يكن ثمة شك في نهاية الصراع . . فأبو عبد الله الذي لم يحفظ ملكه حفظ الرجال . والانقسام العائلي والخلاف الداخلي في المملكة في مقابل اتحاد تام في الجبهة المسيحية . . مضافا إلى ذلك حصاد تاريخ طويل من الضياع والقومية الجاهلية والصراع بعيدا عن الإسلام . . عاشته غرناطة وورثته مما ورثته عن الممالك الإسلامية الإسبانية الساقطة .
كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر شمعة إسلامية في الأندلس .
وعندما كان أبو عبد الله ( آخر ملوك غرناطة هذا ) يركب سفينته مقلعا عن غرناطة الإسلامية ، مودعا آخر أرض تنفست في مناخ إسلامي في أوروبا بعد ثمانية قرون عاشتها في ظلال الإسلام . . .
في هذا الموقف الدرامي العنيف . . بكى أبو عبد الله ملكه " وملك الإسلام المضاع، وتلقى من أمه الكلمات التي حفظها التاريخ ( ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال ) .
والحق أن أمه بكلمتها تلك ، إنما كانت تلطمه وتلطم حكاما في الإسلام كثيرين . . بكوا مثل النساء ملكا لم يحفظوه حفظ الرجال ! ! ! .
القسم الثاني : سقوط خلافات ودول شرقية
* الأمويون - أصحاب دولة الفتوحات - يسقطون
* سقوط الدولة الطولونية في مصر
* الصفاريون ، وقصة سقوطهم
* الإخشيديون على خطى الطولونيين
* سقوط السامانيين في فارس
* البويهيون الذين سطوا على الخلافة . . يسقطون
* سقوط الانفصاليين في طبرستان
* وقصة سقوط الحمدانيين
* السلاجقة . منقذو الخلافة . يسقطون
* سقوط دولة الفاطميين
* سقوط دولة صلاح الدين
* من عوامل سقوط العباسيين
* المماليك . . أبطال عين جالوت يسقطون
الدولة الأموية - دولة الفتوحات - . . تسقط ! !
في عام ( 41 هـ - 661م ) ويسمى عام الجماعة - تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن حرب معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان واليا على الشام منذ عهد عمر بن الخطاب ، والذي رفض مبايعة علي بن أبي طالب - رابع الخلفاء الراشدين - متذرعا بأن عليا قد فرط في الثأر من قتلة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين . . . رضي الله عنهم جميعا .
وبتنازل الحسن استقر الأمر لمعاوية فأصبح خليفة المسلمين ، وقامت دولة بني أمية التي تنتسب إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، فحكمت نحو تسعين عاما ( 41 - 132هـ ) ( 661 - 750م ) ونقلت عاصمة الحكم من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاز إلى دمشق بالشام .
كان نظام الحكم في عهد بني أمية عائليا ، وقد تداول الحكم أربع عشرة خليفة أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد الذي قتله العباسيون في " أبو صير " من حلوان مصر . .
الخلفاء الأمويون :
1 - كان معاوية أول الخلفاء الأمويين ومؤسس دولتهم ، وكان مولده بالخيف من منى قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وأمه هند بنت عتبة، وأبوه أبو سفيان ، وقد أسلموا جميعا في فتح مكة .
وأصبح معاوية من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشترك في حروب الردة مع أخيه وأبيه ، ثم ولاه عمر جزءا من بلاد الشام ، فلما جاء عثمان رضي الله عنه جمع الشام كلها تحت حكمه .
2 - وبموت معاوية سنة 60هـ بايع المسلمون ابنه يزيد ، ما عدا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر ، وقد وقف الأولان منه موقف العداء ، وقتل في عهده الحسين ، في كربلاء ، وحكم ثلاث سنوات ثم مات سنة 64هـ ، وعمره ثمانية وثلاثون عاما .
3 - ثم تولى معاوية بن يزيد ، بوصاية أبيه ، لكنه كان ورعا زاهدا فتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة أشهر .
4 - وقد وقعت حروب انتهت في ( مرج راهط ) بين الأمويين وعبد الله بن الزبير ، وأصبح مروان بن الحكم خليفة على الشام وحدها ، وبقي ابن الزبير خليفة على سائر الأمصار ، حتى ظهر عبد الملك بن مروان ، فتمكن من توحيد العالم الإسلامي الشرقي تحت إمرته ، ولذا اعتبر المؤسس الثاني للدولة الأموية .(7/82)
5 - وكانت لعبد الملك أياد عظيمة ، فقد عرب الدواوين وضرب العملة ، وبقي في الحكم اثنين وعشرين عاما ، وتوفي سنة 86هـ ، فتولى بعده ابنه الوليد بن عبد الملك ، الذي حكم عشرة أعوام ، وتمت في عهده إصلاحات داخلية عظيمة وفتوحات إسلامية كبرى على يد قادة عظام مثل محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند، وموسى بن نصير فاتح الأندلس .
6 - ثم جاء بعده أخوه سليمان بن عبد الملك فحكم ثلاثة أعوام لم تتقدم فيها الدولة شيئا ، لا من الداخل ولا من الخارج ، ومات سنة 99هـ ، فوسد الأمر لأعظم شخصية في تاريخ بني أمية ، على الرغم من أنه لم يحكم إلا عامين ، وهو عمر بن عبد العزيز ، الذي اعتبره البعض ( خامس الخلفاء الراشدين ) لكثرة ما عمل من إصلاحات خلال الفترة الوجيزة التي حكم فيها .
لقد راقب عمر الولاة بحذر ، وأخذ على أيديهم وطرد القساة منهم ، وانتشر الإسلام في عهده انتشارا كبيرا لأنه وضع الجزية عمن يعتنق الإسلام ، وكان ولاة السوء لا يفعلون ذلك ، ويروي ابن عبد الحكم ، ملخصا عهد عمر بن عبد العزيز ، في قوله الوجيز " إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا فذلك ثلاثون شهرا ، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس " .
7 - ثم ولي الأمر بعده يزيد بن عبد الملك ، بعهد من أخيه سليمان بعد ابن عمه عمر بن عبد العزيز ، وهو ابن تسع وعشرين سنة . فدامت خلافته أربع سنوات وشهرا ، ثم مات بعدها دون أن يترك أثرا ذا بال اللهم إلا إخماده لفتنة يزيد بن المهلب .
8 - وولي بعده هشام بن عبد الملك ، فمكث في الخلافة عشرين عاما حاول فيها تقليد عمر بن عبد العزيز ، ولم ينجح في ذلك نجاحا كبيرا ، وإن كانت الدولة قد اتسعت في عهده ، ففتحت قيسارية وبلاد الخزر ، وأرمينية ، وشمال آسيا الصغرى ، وجزءا كبيرا من بلاد الروم .
لكن الأحوال الداخلية لم تكن مستقرة على عهده وتوفي في عام 125هـ ، وترك الحكم للوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي يعتبر عهده - الذي لم يدم أكثر من عام إلا قليلا - من أسوأ عهود الدولة الأموية ، ظلما وانتقاما من أبناء سلفه هشام فضلا عن عنصريته وخلاعته .
9 - ولم يكن للخليفتين اللذين وليا بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، وإبراهيم ابن الوليد أثر يذكر ، ولم يدم حكم كل منهما إلا ثلاثة أشهر ، ولم تستقم لهما الأمور ، وكانت أيامهما ، وأيام سابقهما الوليد بن يزيد ، فرصة ذهبية نجح فيها العباسيون في تعبئة النفوس وتنظيم الصفوف ، للانقضاض على الدولة .
10 - فلما آلت الخلافة لمروان بن محمد - آخر خلفاء بني أمية في المشرق لم يستطع أن يقر قواعد الدولة ، على الرغم من أنه " كان أشجع بني أمية وأقدرهم على تحمل الأخطار " . . فسقطت الدولة في عهده ، بعد فتنة واضطرابات دامت خمس سنوات ، وكان سقوطها في سنة 132هـ .
وكانت دولة بني أمية دولة عربية تتعصب للعرب وللتقاليد العربية ، وللغة العربية ، ولم يستطع معظم خلفائها أن يرتفعوا على مستوى المساواة والعدل في الإسلام .
لكن مع ذلك كان لهذه الدولة أياد طولى على المسلمين لعل من أهمها جهودها العظيمة في مجال الفتوحات الإسلامية .
فتوحات الدولة الأموية :
اتسعت فتوحات الدولة الأموية اتساعا عظيما ، منذ عهد معاوية الذي لم تكد تستقر له الأوضاع حتى جهز الجيوش وأنشأ الأساطيل ، وأرسل قواده إلى أطراف الدولة لتثبيت دعائمها ، بعد أن حاول الفرس والروم استغلال فترة الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .
*وقد أخضعت هذه الجيوش ثورة فارسية هدفت إلى الامتناع عن دفع الجزية . ثم توغلت جيوشه شرقا ، فعبرت نهر جيحون ، وفتحت بخارى وسمرقند وترمذ .
*ومن الجهة الرومانية ، كان الرومان قد أكثروا من الغارات على حدود الدولة الإسلامية في الناحية الشمالية الغربية ، فأعد معاوية لهم الجيوش ، وانتصر عليهم في مواقع كثيرة .
وبأسطوله الذي بلغت عدته ( 1700 ) سفينة ، استولى على قبرص ورودس وغيرهما من جزر الروم - كما قام بالمحاولة الأولى لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية سنة 48هـ ، فأرسل جيشا بإمرة ابنه يزيد ، وجعل تحت إمرته عددا من خيرة الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري ، لكن المحاولة لم تنجح ! !
ومن الشمال الإفريقي ( تونس والجزائر والمغرب الأقصى ) امتد الفتح الإسلامي، فأرسل ( معاوية ) عقبة بن ابن نافع سنة ( 50هـ ) في عشرة آلاف مقاتل ، لتثبيت فتحها، وقد عمل عقبة على نشر الإسلام بين البربر ثم بنى مدينة القيروان ، وفي عهد ابنه الخليفة ( يزيد ) وصل عقبة في اكتساحه للشمال الإفريقي حتى المحيط الأطلسي غربا ، وقال هناك كلمته المأثورة " والله لولا هذا البحر لمضيت في سبيل الله مجاهدا " .
وفي الشرق اتجهت جيوش عبد الملك بن مروان - الخليفة الأموي الخامس - إلى التوسع في بلاد ما وراء النهر ، وكانت القيادة في هذا الركن للمهلب بن أبي صفرة وليزيد بن عبد الملك . وكان من أبرز الفتوحات في عهد الوليد بن عبد الملك فتح بلخ ، والصفد ، ومرو ، وبخارى ، وسمرقند ، وذلك كله على يدي قتيبة بن مسلم .
أما محمد بن القاسم الثقفي فقد فتح السند ( باكستان ) . وفتح مسلمة بن عبد الملك فتوحات كثيرة في آسيا الصغرى ، منها فتحه لحصن طوالة وحصن عمورية ، وهرقلة ، وسبيطة ، وقمونية ، وطرسوس . . كما حاصر القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك .
وفي أوربا فتح موسى بن نصير الأندلس ، وبقيت في حوزة المسلمين ثمانية قرون ( 92-898 . . هـ ) وكان جزاؤه من بني أمية جزاء سنمار ! !
وقد حاول عنبسة بن سحيم الكلبي غزو جنوب فرنسا وفتح سبتماية ، وبرغونية ، وليون - ونجح المسلمون في ذلك نجاحا مؤقتا ، حتى انتهت هذه المحاولات بعيد موقعة بلاط الشهداء التي قادها عبد الرحمن الغافقي - بقليل . ولم يكن لهذه الفتوحات صدى حقيقي ، لأنها كانت أشبه بحملات جهادية فردية .
ولماذا سقط هؤلاء العظماء ؟
كان معاوية رضي الله عنه - بلا ريب - أحد دهاة العرب القلائل ، وكان رجل دولة وخبير سياسة بمعنى الكلمة . . بيد أنه كانت هناك حقيقة حضارية ينبغي عليه إدراكها وهي : أن الحضارة حين ينفصل جسدها عن دماغها لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء . . حين يحدث انشقاق بين روح الأمة وجهاز عملها المادي تحدث الآلية القاتلة وتسير القافلة بلا روح . . تماما كما يسير الذي قطع رأسه من جسده . . إنه لا بد من أن يسقط بعد خطوات ! !
ومنذ قامت الدولة الأموية ، واعتمد فيها نظام وراثة الخلافة كرها عن الأمة . .
منذ هذا الحدث وثمة انفصال بين جسد الأمة وروحها ذاقت منه الأمة الإسلامية مر الأهوال . . وكان أحد الأسباب ، بل أهم الأسباب في سقوط الدولة الأموية .
لقد تشكلت طبقة تعطي نفسها امتيازا جنسيا غريب الشكل . . فهي لمجرد أنها من البيت الأموي ، حتى ولو افتقدت كل صلاحيات الوجود والحكم بعد ذلك ، لا بد أن تقف في الصف الأول . . وأن تقود وتحكم . . ! ! والأدهى من ذلك أن هذه الدولة اعتمدت العنصرية العربية المستعلية حقا تتكئ عليه في سيادتها . . وظلمها ! !(7/83)
وهذه الظاهرة . . تلد أمراضا حضارية خبيثة كلها شؤم وبلاء . . فإن هذه الطبقة سرعان ما يحاول كل واحد منها الحصول على حق . . أكثر شرعية جنسية . . لكي يصل إلى الحكم ، وبالتالي يلجأ إلى الدس والخديعة والقتل والاغتيال ويسود الطبقة الحاكمة جو من الصراع الداخلي يمنعها عن أن تؤدي للأمة أي شيء ، ويكون كل هم الحاكمين أن يحافظوا على الموقع الذي يقفون فيه . . هكذا كان الأمر بين الأمويين ولا سيما في الأيام الأخيرة من عمرهم . . أيام الوليد بن يزيد، ومروان بن محمد .
ومن الأمراض الخطيرة التي تلدها ظاهرة الانفصام المشئومة استعانة هؤلاء الحاكمين بطبقة تتولى هي في الحقيقة الأمر ، وتستبد بالأمة ، وحين تستغيث الأمة لا تجد من يغيثها ، إذ يكون الحكام في واد آخر بعيد عنها ، بل إن هؤلاء الحكام يعتقدون أنهم بوجودهم في مراكز السلطة مدينون لهؤلاء العمال أو الولاة الغاشمين الظالمين .
وقد زخرت صفحات التاريخ بعديد من هؤلاء الجبابرة الذين أساءوا إلى المسلمين والإسلام إساءات بالغة كالحجاج بن يوسف الثقفي في المشرق ، والوالي عبد الله ابن الحبحاب في المغرب .
ولقد أساءت هذه الطبقة المصطنعة العازلة إلى تاريخ الأمويين نفسه أيما إساءة ، وزينت للخلفاء الأمويين كل جور ، وعملت في المسلمين عمل كسرى وقيصر في شعبيهما . . وكانت - يعلم الله - بلاء على المسلمين أي بلاء ! ! وقد كانت سببا في نجاح الخوارج ، وفي إشعال ثورات بربرية ، في ساحة الأندلس والمغرب .
وبتأثير الطغيان الذي ساس به الولاة جماهير المسلمين ، انصرف الناس إلى أمورهم ، تاركين أمور الدولة في يد الفئة الحاكمة بل انصرفوا إلى الاندماج في كل حركات الخروج على الدولة . . وقد تمخض كل ذلك عن ميلاد تنظيم من أدق التنظيمات في تاريخ الانقلابات السياسية ، وهو التنظيم العباسي الذي رفع الراية العلوية ( الرضا من آل البيت ) أيام سريته . . إلى أن وصل إلى الحكم .
ولم يك هذا التنظيم لينجح ويجد المناخ والعناصر الصالحة إلا نتيجة سياسة الولاة الغريبة عن روح الإسلام .
وقد اختلف المؤرخون في سقوط هذه الدولة العظيمة . . دولة الفتوحات . . وقد رأى بعضهم ، وهم محقون ، أنه النزاع بين المضرية واليمانية ، الذي ابتدأ منذ أيام مؤسس الدولة الأموية معاوية ، قد أدى إلى ضياع بني أمية .
ويرى بعضهم أن مصرع الحسين بن علي في كربلاء كان الداء القاتل الذي تفاقم حتى قضى عليها .
ورأى آخرون أن العامل الهام الذي أدى إلى سقوط بني أمية هو تعصب الأمويين للعرب، مما أدى إلى خروج الموالي على الدولة الأموية وهم غير العرب الذين دخلوا في الإسلام عقب الفتح العربي في فارس ومصر والمغرب .
وما لبث هؤلاء أن أصبحوا أعداء للعرب من بني أمية ولا شك أن سلوك الوليد ابن يزيد الذي أدى إلى مصرعه كان من أبرز الأسباب المباشرة في فساد الأحوال .
كما أن الاستبداد الفردي عامل من عوامل سقوط الدولة قال به كثيرون .
وقد تكون كل هذه الأسباب صحيحة ، بل قد تكون متداخلة ، لكننا نميل إلى سبب جوهري نراه أكبر الأسباب وأبرزها ، وهو العنصرية الأموية التي جعلتهم يرفعون العرب على حساب غيرهم، ويثيرون الأحقاد في بقية الطوائف المسلمة ! !
وتبقى عبرة التاريخ الأخيرة في سقوط الدولة الأموية . فإن نصر بن سيار ( والي خراسان ) كان على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين . . وكان نصر هذا . . كما كان مروان . . كان كلاهما من خيرة من أنجبت الدولة الأموية . . هذا في الولاة ، وذلك في الخلفاء .
لكنهما ظهرا بعد أن اتسعت خروق الدولة على أي راقع ، وكان رصيد الدولة من الفساد والتحلل والظلم والضعف ، قد أصبح أكبر وأضخم من طاقة أي إنسان .
لقد كانت حركة التاريخ التي هي من سنة الله قد قالت في الدولة الأموية كلمتها . . وقد حاول " نصر " أن يستعمل ذكاءه في إنقاذ الدولة ، إذ كان يستشف ببصيرته الوقادة أن ثمة أمورا تبينت للدولة ، وأن دولة الأمويين على وشك الرحيل ، وكم كاتب الخليفة الأموي الأخير " مروان " في ذلك . . ولكن دون جدوى . . لقد اتسع الخرق ووجب أن ينهار البناء ! !
وكان مروان . . مشغولا بسداد " شيكات " سابقيه من الديون . . في بنك الضياع . . فلم يمكنه أن يستجيب لا " لنصر " ولا لضميره الذي كان يحس بقرب الكارثة . . هكذا تفعل الدول بنفسها . . نتيجة ظلمها . وتراكم هذا الظلم .
وعندما سقطت الدولة الأموية سنة 132هـ ، ولقي مروان المسكين مصرعه في حلوان بمصر . . كان كتاب التاريخ يطوي إحدى صفحاته . . يطويها بعنف لأن أبطالها أرادوا لأنفسهم هذا . . . حين راحوا ينفصلون عن ضمير الأمة ووجدانها ، ويعزلون أنفسهم عن شعوبهم - بطبقة من العمال الظالمين الغاشمين وبعنصرية عربية قومية ظالمة . . لقد فتحوا كثيرا من الأراضي ، لكنهم فشلوا في أن يفتحوا القلوب . . . والعقول ! !
سقوط الدولة الطولونية في مصر
الانتصار في معركة . . والحصول على مكسب وقتي . . . والوصول إلى السلطة . . هذه كلها ليست هي قضية التاريخ . . ولا معركة التقدم البشري . . بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم . . إن الانتصار في معركة . . قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر . . يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية . . هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته . . كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر !
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم . . دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته . . يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم . . !
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !
وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .
ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .(7/84)
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم . . فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية . . ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى . . من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض . . وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة . . إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج . . بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض . وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم . . وفي هذه الحال . . لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية . . فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة . . ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية . . وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين . . ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم . . لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف . . ودائما . . . دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب . . وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " ! !
الصفاريون وقصة سقوطهم
تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر .
وهو معلم عظيم . . اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة . . ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب . . بل لأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ، ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ . .
إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا . . أبدا . . فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين .
والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون . . أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية . . والعقدة . . والنهاية .
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصف الثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها . . كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي " حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة " بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمرد علني . . بل وخروج على الأيديولوجية العباسية .
ومن الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254هـ وهي السنة نفسها التي برزت فيها الدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم " الدولة الصفارية " ! !
وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاء الخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم " أبا مسلم الخراساني " هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء " سنمار " حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاء العباسيين أبا مسلم هذا .
وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء والمجاملة ، وتركت " لطاهر بن الحسين " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم في خرسان . . له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة . . حربا وسلما .
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة . تمكن " يعقوب بن الليث الصفري " من الاتصال بها . . والسيطرة عليها . . وتحويلها إلى جماعة خادمة له . . نجح بها في تأسيس " الدولة الصفارية " .
وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ، فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها . . اصطداما فاشلا كاد
يلقى حتفه فيه . . بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التي ولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256هـ في سابور .
وخلفه أخوه عمرو بن الليث . . وأقرت الخلافة ولايته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان . . فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك مع السامانيين في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصر الساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد . . وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات في سجنه سنة 287هـ .
واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها .
ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم أن " الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطور لا مصير له إلا الموت السريع " ! !
الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون ! !
في قوانين الحضارة : أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا . . وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا . . وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام . . . لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر .(7/85)
وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن " الخمر العتيقة " لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة . . تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك . . ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى . . أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد . . فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي . . تتحول إلى خميرة حضارة لروما . والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية .
وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى . زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين . . الجامعة . متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت . . لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية .
وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين ، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية . . فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها " محمد بن طغج " والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ( 323 - 358هـ ) ( 935 - 969م ) .
وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولة الطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها . . فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضم مكة والمدينة إلى دولته .
وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه . . وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور " " أبا المسك " - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير .
وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر . . ( وكانت له مع شاعر العصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة ) كما أن هذا العبد الخصي نافس دولة الحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية .
وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعة في طريقها إلى الموت المحقق . . فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ( أبي الفوارس أحمد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358هـ .
ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم . . يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجدير بالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة ! ! وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " تأشيرة خروج " ولقي حتفه جزاء له . . بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته :
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية " كافور " .
ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر ، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود . . لا يكون ثمة مبرر للبقاء . . ولا تفعل القوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة " بمبرر الوجود . . . ومؤهل البقاء " !
سقوط السامانيين في فارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ، وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم . . لئن كان هذا قد تم لهم . . فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم . . وأصبح الشذوذ هو القاعدة . . وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية والجنسية . . ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كان يمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .
فحيثما حل العنف واللامشروعية . . وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة . . فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية . . وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع .
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين،فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ " قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر . ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريين والصفاريين . . وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هو إسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة .
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع من ملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا . . وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها . . وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة . . . ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخلي بين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .(7/86)
بالإضافة إلى هذا وذاك . . ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم . . ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة . . تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية . . وارتفع نجمها في الدولة ، وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي . . وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب ، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق " الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعد تسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية ! ! .
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثها الخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان ! !
البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون ! !
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا . . كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل . . وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ .
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية . . لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير . . . لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة . . لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها . . ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء . . يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل . . وليس هذا وحسب . . بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء . . وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد . .
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .
فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ( المستكفي ) ولقبه معز الدولة . . وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول .
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة . . وقيادة المسلمين . . وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا . . . فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي . . فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي . . ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له ! !
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال .
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة . . أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي . . وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير .
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها . . . هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .
لكن تاريخنا . . الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم . . .
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل . . وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد . . أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين .
وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ . . وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب . . لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه " بانفصال رأس الأمة عن جسدها . . تتعطل طاقات الحياة فيها " .
سقوط الانفصاليين في طبرستان
في كل دولة جامعة كالدولة العباسية ، يمكن لأي راغب في السلطة أن يجد مندوحة للقيام بثورة ولرفع راية الانفصال ، وإقامة حكم ذاتي له ولأبنائه .
فثمة قوميات مختلفة . . من السهل استجاشة عواطف كل منها القومية . . .
وثمة أوطان مختلفة . . من السهل الضرب على وتر الاستقلال ودعوى الحرية الذاتية فيها .
وثمة عقائد مختلفة . سواء عقائد مخالفة تماما ، أو عقائد منشقة على العقيدة الأصل ، وبالتالي يمكن الضرب على وتر من ينضمون إلى هذه العقيدة المضادة أو المنشقة ، من أجل سيطرة العقيدة المضادة على العقيدة الأصل .
وثمة لافتات أخرى كثيرة يمكن أن يجد فيها كل راغب في التمرد - التبرير الذي يسهل له أمام الجماهير - لاسيما الغوغاء الذين يجرون وراء كل ناعق بدون وعي - عملية الثورة والانفصال . . وكانت هذه أكبر التحديات التي واجهت الدولة العباسية الجامعة .(7/87)
وكان طابع الانفصال في طبرستان وبلاد اليمن مختلفا عن محاولات الاستقلال بالسلطة فقط ، كان يحمل بذرة الانشقاق الروحي عن الخلافة العباسية . . كان يحمل بين يديه دعوى آل البيت والترويج لأحقيتهم في الخلافة .
وفي طبرستان في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة ضغط على الفلاحين الإقطاع المتزايد ، وقد أقطع الخليفة العباسي محمد بن عبد الله بن طاهر - حاكم بغداد - أراضي في طبرستان لم تكفه ، فقام بوضع يده على الأراضي المجاورة له، مما جعل الفلاحين يضجون من ذلك .
وقد استغل بعضهم هذه الفرصة ، فقاموا بإعلان الثورة على الإقطاع ووعدوا السكان برفع الإجحاف والظلم وفي سنة 250هـ وبالتحديد - قام الحسن بن زيد بإعلان ثورته وجمع حوله عددا كبيرا من الفلاحين ، واستولى على طبرستان وجرجان ، ونجح في إقامة إمارة مستقلة باسمه - وظلت دولته قائمة حتى سنة 287هـ حين ظهر السامانيون فأزاحوها - بسهولة - عن المنطقة كلها .
ومع ذلك ظلت هذه الدعوة الشعار المسكين أو قميص عثمان الذي يتمسح فيه الراغبون في السلطة . . وهم يصلون إلى أغراضهم عن طريق رفع رايات مختلفة بحسب الظروف . . ليكن الشعار القضاء على الاستغلال ، أو محاربة الإقطاع المهم الوصول إلى الغاية .
ولم يمض إلا قليل . . أربعة عشر عاما فقط . . حتى ظهر متمسح جديد في آل البيت ! ! ومن الغريب أن هذا الثائر الجديد " حسن بن علي الأطروش " الذي لقب نفسه " بناصر الحق " سار على نفس الطريق الذي سارت فيه الحركة السابقة التي تزعمها الحسن بن زيد . . فقد قام في طبرستان . . وقد رفع شعار " القضاء على الإقطاع " وأبرز سلاح آل البيت ، وكما هو المرتقب ، التف حوله الفلاحون . . . ونجح في الوصول إلى السلطة .
وكما هو المنتظر كذلك ، لم تلبث هذه الحركة على مسرح السلطة في طبرستان أكثر من ثلاثة عشر عاما ( 301 - 314هـ ) وانكشفت حقيقتها . . ولقيت حتفها بفعل عاصفة " الزياريين " الذين أطاحوا بحكم الأطروش ، وحكموا جرجان وطبرستان بين أعوام ( 315 - 417هـ ) ثم زالوا كما زال غيرهم .
وفي جنوبي الجزيرة العربية ظهرت دعوة الزيديين رافعة راية آل البيت ، متمسحة في شعار القضاء على الإقطاع . . وقد نجح يحيى بن الحسين من أحفاد القاسم الرسي أحد كبار علماء المذهب الزيدي في إقامة حكم لنفسه متخذا من ( صعدة ) عاصمة له . وقد حكمت الدولة الزيدية مدة طويلة بلغت قريبا من أربعة قرون ونصف . واعتمدت هذه الدولة في تكوينها على أسس أكثر أصالة من مجرد " القضاء على الإقطاع " . . وبذا حققت لنفسها انتصارا وشهرة كبيرة على امتداد العالم الإسلامي . . وكانت في الحق من الحركات الممتازة في التاريخ الإسلامي .
وأيا كان الأمر ، فقد كان شعار " القضاء على الإقطاع " قميص عثمان الذي تمسحت فيه دول كثيرة وحركات أكثر . . ولم تتضح الرؤية عند هذه الحركات أو تلك الدول إلا أن تحقيق علاج اقتصادي مؤقت لا يكفي لإقامة دولة ، فضلا عن أن ينشئ حضارة لا تضيف جديدا لموكب البشرية .
إن حجم العلاج لا بد أن يكون مساويا لحجم المرض . كما أن من الضروري أن تكون نوعية الدواء مناسبة لنوعية المرض . . . أما علاج ظاهرة اقتصادية بالوصول على قمة السلطة السياسية . . فهو جرعة كبيرة من العلاج قد تكفي للقتل والموت .
ومن هنا أخفقت كل الحركات الزاعمة القضاء على الإقطاع ، لأنها بعد أن نجحت، أو أصدرت قرارها بإصلاح الوضع الاقتصادي - إذا حدث - تجد نفسها في فراغ ، وتجد أن مبرر وجودها قد انتهى ولم يعد ثمة ما وجب الاستمرار والبقاء
قصة سقوط الحمدانيين
من " تغلب " - إحدى قبائل العرب الكبرى - انبثقت دولة بني حمدان ، جاعلة من الموصل - أول الأمر - عاصمة لها . . وكان ذلك سنة 317هـ ( 929م ) على يد زعيم الدولة حمدان بن حمدون .
كان على هذه الدولة الناشئة أن تلعب دورا مصيريا في عدة جبهات :
في محاولة تضميد جروح الدولة العباسية من الطعنات المتتالية من الأتراك الذين استبدوا بها، وحولوا خلفاءها إلى دمى للتسلية واللهو . . وأيضا من الطعنات الانفصالية التي تصيب الدولة من كل صوب .
في مقاومة الغارات البيزنطية التي يقودها الإمبراطور الروماني ( شميشق ) رغبة في الاستيلاء على بيت المقدس، وفي مقاومة الإمبراطور البيزنطي " نقفور فوقاس " الذي حاول بكل قوته السيطرة على حلب والثغور المتاخمة لحدود الدولة الرومانية .
في مقاومة الحركة الانفصالية التي تحكم مصر الإخشيدية ، وتريد فرض سيطرة كاملة على مصر وبلاد الشام والحجاز ، وتناوئ بالتالي أية حركة انفصالية أخرى تحاول بناء نفسها على حسابها .
لقد نجح الحسن بن عبد الله الحمداني في أن يشل نفوذ الترك . وأن ينقذ الخليفة العباسي المتقي بالله من استبداد الأتراك به ، وقد رضي الخليفة العباسي عن صنيعه ومنحه لقب أمير الأمراء ومنح أخاه المرافق له لقب " سيف الدولة " لكنهما سرعان ما هزما أمام الأتراك وخرجا من بغداد عائدين إلى عاصمتهما الموصل . . سنة 331هـ " 942م " . ولما تولى سيف الدولة - وكان شجاعا كريما - قام بعدة غارات لصد البيزنطيين ، ونجح في أن يطردهم من المناطق التي تسللوا إليها ، وواصل زحفه حتى دخل بلادهم واستولى على بعض حصونهم . . والمهم، زرع هيبته في نفوسهم . . وجدد شباب الإرادة القتالية ، ولم تستطع بيزنطة أن تمد نفوذها إلى بلاد الشام وفلسطين .
وفي الجانب الإخشيدي استمر الحمدانيون في مقاتلتهم تتبع نفوذهم ، لكنهم أيام سيف الدولة خسروا أمامهم معركة في قنسرين . . وانتهى الأمر بصلح وضع حدود الصراع المستمر بين جبهتيهما .
كانت هذه هي التحديات التي واجهتها دولة الحمدانيين . . وقد نجحت الدولة في بعضها وأخفقت في أكثرها ، ولقد بدا سيف الدولة الحمداني . . وكأنه الرجل الوحيد الممثل لهذه الدولة .
كان سيف الدولة بحق يملك أكبر رصيد من أمجاد الدولة . . ولم يرفعه في سجل التاريخ ما قام به من حروب خارجية وحسب ، بل كانت له في مجال الحضارة والعمران الداخلي مجالات برز فيها أكثر من بروزه في المجالات الخارجية .
ولقد يبدو سيف الدولة في أعين كثير من المؤرخين وكأنه هارون الرشيد أو المأمون ، وإنه ليعيد إلى الأذهان ذكرى تلك الساحة العلمية الفكرية التي مثلتها بغداد . . في عصرها الذهبي . . لكن الساحة كانت على عهده . . حلب الشهباء ! !
كان سيف الدولة - الذي احتضن المتنبي وأبا الفرج الأصفهاني والفارابي وابن نباتة فضلا عن أبي فراس الحمداني " شاعر الدولة " - كان هذا الرجل يمثل قوة الدولة وقمة ما وصلت إليه من رفعة .
وظهرت الدولة بعده وكأنها بناء مائل للسقوط .
وقد تولى الحكم بعد وفاة سيف الدولة ثلاثة خلفاء ضعاف حتى زالت في عهد أبي المعالي شريف سنة 394هـ . . أي أنها لم تعش بعد سيف الدولة الذي مات سنة 356هـ أكثر من أربعين سنة ! ! .
لقد تمثلت قوة الدولة الحمدانية في شخص ، وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم . . وكان أكبر عامل حضاري زحزح الدولة الحمدانية عن مكانتها في التاريخ أنها فشلت في الاستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها ، ولم تنهج النهج السليم في مقاومته . . عن طريق إيجاد وحدة إسلامية تتجاوز الصراعات الجزئية لتواجه الخطر الحضاري الكبير . . وعندما تفشل دولة في الاستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها . . فإنها ، وإن قاومت قليلا ، فإنها لا بد أن تسقط من قطار التاريخ .
السلاجقة . . الذين أنقذوا الخلافة يسقطون(7/88)
في تركستان - بدولة الاستعمار السوفيتي - نشأت هذه الأسرة . . ولظروف ما هاجرت هذه الأسرة بقيادة كبيرها " سلجوق " الذي تنسب الأسرة إليه . . وبين خراسان ، وبخارى ، وأصبهان ، تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها . . وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي . . نجل سلجوق الكبير ، وكان هذا في سنة 433هـ .
ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى الري وإلى خوارزم ، وبدأ تاريخهم يظهر كقوة لها كيانها المستقل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس للهجرة .
وقد نجحوا في السيطرة على بلاد كثيرة . . كخراسان وأصبهان وهمذان وبخارى ، وامتد نفوذهم حتى العراق . والتحموا بالدولة العباسية ، ثم أتيحت لهم فرصة ذهبية . إذ استنصر بهم الخليفة العباسي " القائم " ضد ثائر شيعي يدعى " البساسيري " عجزت الخلافة العباسية عن مقاومته ، فأسرعوا إلى انتهاز الفرصة التاريخية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصرا على البساسيري سنة 447هـ وكان هذا العام حدا فاصلا في تاريخ السلاجقة إذ اعتبر بداية عصر نفوذ السلاجقة وسيطرتهم على مصير الخلافة العباسية الكبرى .
امتاز السلاجقة الأتراك في معاملاتهم بالتدين ، وكانوا مظهرا للإنسان الفطري الذي هذبه الإسلام ، وإذا ما استثنينا صورا قليلة تحتمها الطبيعة البشرية التي لا تخلو من بعض القصور ، فإن هؤلاء السادة كانوا نموذجا طيبا حتى في معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه . . إنهم لم يكونوا كالذين انتصر بهم المعتصم ، ولم يكونوا كالبويهيين حينما سيطروا على الخلافة وأذلوا كبرياء الخلفاء . . أبدا لقد احترموا الخلفاء وأجلوهم ، وكان لهم - كذلك - فضل كبير في رفع راية الإسلام ، وفي مد عمر الخلافة العباسية أكثر من قرنين من الزمان ، كما أنهم بدأوا مرحلة جديدة من التوسع الإسلامي في اتجاه آسيا الصغرى ، ويقال إن هذا التوسع كان أحد أسباب قيام الحروب الصليبية .
ومن الظواهر المتعلقة بسياسة هؤلاء القوم الاجتماعية والفكرية . . إلغاء أشهر ملوكهم " ألب أرسلان " لنظام المخابرات ولجوء أحد ملوكهم " نظام الملك " إلى نظام الإقطاع . . بإعطاء الشخصيات السلجوقية والشخصيات الأخرى الكبرى إقطاعات أو " أتابكيات " لحسابها الخاص . ومن الظواهر كذلك الحملات الجهادية شبه المنتظمة التي كانت خير علاج للفوضى الداخلية . . كذلك من الظواهر صراع السلاجقة المستمر ضد حركات الإسماعيلية ، ونجاحهم في تقليم أظفارهم .
وبعد صفحة تاريخية رائعة من صفحات الحضارة الإسلامية امتدت بين سنوات _ 433 - 619 ) قدر للسلاجقة أن يأفل نجمهم وأن تغرب شمسهم بعد أن حكم منهم واحد وثلاثون زعيما سلجوقيا ، وبعد أن قدموا للخلافة الإسلامية الكبرى أجل الخدمات وحموها من كثير من عثرات السقوط ، وقدموا للحضارة الإسلامية يدا من أروع ما قدمت الدول الإسلامية من أياد .
بيد أن السلاجقة ، وقعوا ، وهم يسيرون في الطريق ، في أخطاء ظنوها خيرا . . فانقلبت على دولتهم شرا .
لقد لجأ السلاجقة - كما ذكرنا - إلى نظام الإقطاعات وأسندوا معظمها إلى شخصيات سلجوقية ، وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السلاجقة عن التفكير في الحكم ، وأن يرضيهم بالبعد عن السلطة ، لكن الإقطاعيين السلاجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارة صغيرة حاولت كل منها الانفصال عن السلطة وهو عكس ما كان يهدف إليه السلاجقة الحكام ، وقد أدى هذا إلى تفكك وحدة السلاجقة وإلى إجهاد السلطة السياسية الحاكمة ، وإلى توزع الدول بين عديد من الأمراء .
كما أن هذا الخطأ أدى إلى عدول السلاجقة عن طريقة اختيار زعمائهم القديمة التي كانت تعتمد على الكفاءة . . إلى طريقة جعل الزعامة ووراثية . نظرا لكثرة تنازع أمراء الإقطاعات عليها .
ومن المضاعفات كذلك تهاون السلاجقة - في ظل تفككهم - أمام حركات التمرد الباطنية لا سيما الحركة الإسماعيلية بزعامة قائدها الحسن الصباح . . وقد قدر لهذه الحركة أن تستنفذ طاقة كبرى من طاقات السلاجقة التي كان في الإمكان استخدامها في القضاء على حركات التفكك التي أصيبت بها الدولة أو الزعامة السلجوقية للخلافة العباسية .
وتبقى كلمة التاريخ الموحية : فإن السلطة غير الحازمة ، والتي تقبل التهاون في وحدة الدول إرضاء لبعض العناصر أو الشخصيات . . هذه السلطة ستدفع ثمن تهاونها يوما .
إن عقال بعير يمنع من الحاكم - بغير حق - هو انتقاص لسيادة الدولة . . هكذا فهم أبو بكر رضي الله عنه الأمور . . وبهذا نجح في القضاء على المتمردين .
وهكذا كان يجب أن يفهم السلاجقة وغيرهم من زعماء الدول . . الذين يقبلون نصف الحكم . . أو شيئا من الحكم دون وعي منهم بأن سيادة الدولة لا تتجزأ ، وبأن أنصاف الحلول أو أرباعها . . مقدمة طبيعية لزوال الحكم كله .
هكذا علمنا تاريخنا الإسلامي العظيم .
سقوط دولة الفاطميين
حين تستعين بعدوك التاريخي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة . . فلا ضير في أن تموت . . فأنت ـ في البدء ـ إنسان منتحر . . ! !
والتسامح قضية كبرى من قضايا حضارتنا ، ومبدأ عظيم من مبادئ إسلامنا ، لكن هذا التسامح ـ بترك الناس يحيون وفق معتقداتهم ـ شيء ، وتسليمك مقاليد الأمور لهذا الذي ينتمي روحيا إلى أعدائك ، ويشعر بتعاطف نحو من تحارب ، وتقل حضانته ـ مهما يكن ـ عن أخيك المسلم . . تسليمك هذا شيء آخر بعيد عن التسامح . . إنه نوع من الغفلة والحماقة . . أو بتعبير آخر نوع من الانتحار ! !
وفي الدولة الفاطمية التي قامت في المغرب العربي سنة 298هـ وانتقلت قيادتها إلى مصر سنة 362هـ . . كانت ظاهرة الاعتماد على اليهود والنصارى سمة من سمات الحكم في الدولة ، فمن هؤلاء كان كثير من الوزراء وجباة الضرائب والزكاة، والمستشارين في شؤون السياسة والاقتصاد والعلم ، ومنهم الأطباء والثقات لدى الحكام، وإليهم تحال معظم الأعمال الجسام .(7/89)
ولقد أحدثت هذه الظروف انفصاما بين الفاطميين والشعب ـ إلى جانب عوامل أخرى هامة ـ حتى لقد كان الناس يستجيرون من تسلط اليهود في البلاد فلا يجارون ، وقد ظهرت في ذلك أشعار كثيرة معروفة ، بل إن الناس قد اضطروا إلى أن يلفتوا نظر العزيز ( الحاكم الثاني في مصر ) إلى هذه الظاهرة التي كان يبدي تغافلا عنها ، وقد وضعوا له صورة من الورق لرجل يطلب حاجة أثناء مرور موكبه . . وقد مد الرجل يدا بورقة مكتوب فيها : " بالذي أعز اليهود بمنشا، وأعز النصارى بعيسى ، وأذل المسلمين بك إلا ما قضيت ظلامتي " وقد لمعت في سماء الدولة الفاطمية أسماء كثيرة من هؤلاء ، فقد لمع يعقوب بن كلس ( وسنورد تفصيلا عنه بعد ) ، ومنصور بن مقشر النصراني الطبيب صاحب الكلمة السامية في قصر العزيز ، وعيسى بن نسطورس الكاتب ، والمنجم ابن علي عيسى ، ويجين بن وشم الكواهي ، ومنشا اليهودي الذي كان نائب العزيز في الشام . . وغيرهم كثير . وعندما وصل الحاكم بأمر الله إلى الحكم . . وهو رجل أجمع المؤرخون على اضطراب عقله حتى أنه كان يأمر بالشيء وينهى عنه ـ أمر بهدم الكنائس التي بمصر ، لكنه سرعان ما عاد فأمر ببنائها ، وأطلق من جديد يد اليهود في البلاد ، واستمر أمر اليهود والنصارى في عهد الظاهر ، وعندما قدر للحاكم الفاطمي السادس في مصر " المستنصر بن علي الظاهر " أن يصل إلى الحكم سنة 427هـ كانت الحالة قد بلغت قمتها من التدهور . وفي ظل سياسة اليهود وتحكمهم في مرافق البلاد أصبح قصر هذا الحاكم زاخرا بالدسائس التي يحيكها القواد ورجال البلاط والخصيان والنساء ، ويقف وراء كل هؤلاء هذه الطوائف يديرون المعارك لصالحهم، ويرقبون الفائز، ويفسحون في شقة الخلاف .
وقد ذاقت البلاد من الجوع والبؤس والنزاع على السلطة ما أحالها إلى فوضى لم يشهد تاريخ مصر مثلها . وقد صور المقريزي هذه الحالة في قوله : " لم تجد البلاد صلاحا ولا استقام لها أمر ، وتناقضت عليها أمورها ، ولم يستقر عليها وزير تحمد طريقته . . " على آخر كلامه الطويل الذي قال في آخره بأنه : " تلاشت الأمور واضمحل الملك " وقد فكر ابن حمدان زعيم الأتراك في مصر في تغيير الخلافة الفاطمية إلى العباسية ، وكانت حال البلاد والفاطميين تسمح بتحقيق كل ذلك . . لولا سوء سياسة ابن حمدان لأتباعه وانقلابهم عليه . . وفي هذه السنوات أكل الناس بعضهم بعضا ، وبيع الرغيف بمائة دينار ، وأكل الناس لحوم الكلاب والحمير ، ولم ينته الأمر إلا بسقوط الدولة الفاطمية السقوط الحقيقي حين ترك حكامها السلطة تماما وقبعوا في قصورهم ، وحمل أمانة الحكم الوزراء العظام الذين كان أولهم وأعظمهم " بدر الجمالي " .
وقد أصبح بيد هؤلاء الوزراء كل مقاليد الأمور حتى أنهم لم يدعوا للخلافة ولا للخليفة في أغلب الأوقات إلا بالاسم ، وكانوا يتحكمون في اختيار الخلفاء وفي عزلهم ، والمؤرخون المنصفون يعتبرون سقوط الدولة هو تاريخ تولية بدر الجمالي أمور مصر سنة 464هـ . . ولم يفعل صلاح الدين الأيوبي حين أسقط الخطبة للفاطميين دون أية معارضة أو مقاومة حقيقية سنة 567هـ ـ إلا إسقاط عهد الوزراء العظام الذين كان آخرهم شاور . . أما الفاطميون فقد سقطوا منذ مدة طويلة أي قبل ذلك بقرن .
ومن الغريب أن العزيز الفاطمي . . بلغ من حبه لوزيره يعقوب بن كلس اليهودي أن ترك له أمر الدعوة إلى المذهب الفاطمي ، وكان هذا الأخير يجلس بنفسه يعلم الناس فقه الطائفة الإسماعيلية ، وقد ألف نفسه كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز والعزيز الذي قال له : " وددت لو أنك تباع فأبتاعك بملكي " ولم يدرك العزيز أن ملكه كان قد بيع فعلا بهذه السياسة التي جعلت عهد الفاطميين في مصر عهد شدة وتناطح وبؤس . ووقف هؤلاء يستثمرون كل هذا ويتملقون الغرائز . . وبقيت عبرة التاريخ عبرة للذين يطلبون النصر من الأعداء ، والذين يطلبون الحياة من السم ، والذين ينسون " الاستراتيجية الإسلامية العالية " : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " ! ! .
سقوط دولة صلاح الدين
من أسرة كردية من أذربيجان هاجرت إلى العراق ، انبثق فجر قائد هذه الدولة ـ التي لعبت بقيادته ـ دورا من أروع أدوار تاريخنا .
ولعل " صلاح الدين الأيوبي " أروع بطل قدمته الحضارة الإسلامية على امتداد القرنين السادس والسابع للهجرة ، وبه أفلت المسلمون وأفلتت الحضارة الإسلامية من غزو عالمي صليبي كاسح كان يقوده أخبث صليبي عرفته أوروبا الهمجية في عصورها المظلمة " بطرس الناسك " .
وقد كان لاشتراك صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه في الحملات العسكرية التي كان يرسلها نور الدين إلى مصر ، أثر كبير في تعميق خبرته وإبراز مواهبه ، وما إن مات عمه أسد الدين سنة 564 هـ حتى أسند إليه الخليفة الفاطمي في مصر " العاضد " الوزارة ، ولقبه بالملك الناصر ، فظفر صلاح الدين بحب الشعب واحترامه نظرا لحزمه وعدالته .
ولم تأت سنة 567هـ أي بعد توليته الوزارة بثلاث سنوات ـ حتى مات الخليفة العاضد " فطويت صفحة الخلافة الفاطمية في مصر وغيرها ، وعادت مصر ـ العاصمة الفاطمية الأولى ـ عاصمة كبرى للعباسيين تحت قيادة الدولة الأيوبية وقائدها صلاح الدين الأيوبي .
كان أمام صلاح الدين تحديات داخلية في مصر ، فإن الآثار الفكرية التي خلفتها الدولة الفاطمية كانت تحتاج إلى إعلان ثورة فكرية .
وكان أمام صلاح الدين خلل اقتصادي منذ أيام المجاعة العظمى . . أيام " المستنصر " وما جر على مصر والعالم الإسلامي الحكم الفاطمي من ويلات تسلط الوزراء العظام منذ " بدر الجمالي " ( 464 هـ ) إلى شاور وضرغام .
وكان بإمكان صلاح الدين ، لو أنه قائد مخادع ، أن يعلن ثورة اقتصادية واجتماعية ، ويلهي الناس عن حقيقة الخطر الصليبي الذي يواجهونه ! !
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع ، بحيث يشغل الناس لحساب الأعداء عن معركتهم الحقيقية بمعارك جانبية .
وكان بإمكان صلاح الدين أن يبحث عن " اتفاقية جلاء " مع الصليبين أو عن " حل سلمي استسلامي " حتى تنتهي فترة تثبيته في الحكم ، ثم يعلن للناس أن الحكام السابقين يتحملون المسؤولية ، وأنه جاء إلى الحكم بعد فوات الأوان ، وبالتالي يخضع العالم الإسلامي لهذا الغزو الخبيث ! !
لكن صلاح الدين لم يكن هذا القائد المخادع .
وفي مواجهة غزو صليبي عالمي أعلن صلاح الدين ثورة إسلامية عالمية ، وأصبح هو رمزها ومحورها ، وكان هذا هو الطريق الوحيد ولا يزال هو الطريق .
لقد جاء توحيد العالم الإسلامي جنبا إلى جنب مع الجهاد المستمر ضد الصليبية العالمية الحاقدة ، ولم يكن صلاح الدين بالأبله الذي يبحث عن أي حل بديل للجهاد، فوسط الحروب التي تهز الكيان المادي والمعنوي والفكري للأمة لا يمكن إنجاح أي هدف بعيد عن الهدف الأول ، وكل الأهداف تأتي من خلال هذا الهدف، لأن الجماهير تعتقد أنها عملية تلهية وخداع . . وقد دخل صلاح الدين عديدا من المعارك قبل حطين الشهيرة . . كموقعة " مرج عيون " جنوب لبنان سنة 575 هـ وموقعة " مدينة صفد " في السنة نفسها .
وعلى امتداد كل السنوات كانت هناك معارك لا تحصى بين صلاح الدين والصليبين .(7/90)
وقد شن صلاح الدين على الصليبيين حروبا واسعة من أجل استخلاص إمارات إسلامية استولى عليها الصليبيون وأسسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيلائهم عليها قريبا من تسعين سنة كأنطاكية وطرسوس والرها وبيت المقدس وطرابلس . . لم يكن صلاح الدين ساذجا ضعيفا متهاونا فيدعو إلى حدود ما قبل " معركة " ما ، أو . . " اتفاقية " ما . . ! !
لقد كان الحق الإسلامي في عقيدته مقدسا لا يقبل التفريط والمساومة ! !
هكذا كان هذا الرجل العظيم . صلاح الدين الذي انتصر في حطين واسترد بيت المقدس ! !
وبوفاة صلاح الدين بقيت الدولة الأيوبية التي تنسب إليه تؤدي دورها قريبا من ستين سنة .
لكن هؤلاء الحكام كانوا أقل من صلاح الدين ، فلم يستطيعوا لعب الدور الذي لعبه . . وكان بعضهم متخاذلا يؤمن بإمكانية المفاوضات مع العدو الصليبي التاريخي ، كالملك الكامل الذي استجلب سخط العالم الإسلامي كله ، حين قام بتسليم القدس للصليبيين ، وقد تمكن الصالح أيوب الذي جاء بعده من استردادها .
ومن الغريب أن هذه الدولة التي بدأت بعظيم من أعظم الرجال هو صلاح الدين . . وانتهت بملك عظيم كذلك هو الملك الصالح ، كانت نهايتها على يد امرأة مملوكة من هؤلاء اللائى يظهرن في عصور الضعف ، ويساعدن على سقوط الدول .
إنها واحدة من هؤلاء النسوة القويات اللائى يجدن اللعب في خفاء القصور ودستورها ، متجردات من كل خصائص الأنوثة الحقيقية ، مستغلات مظاهر هذه الأنوثة في القتل والتدمير . . إنها شجرة الدر . . التي قتلت ابن زوجها " توران شاه " لكي تنفرد بالحكم ، ثم شربت من نفس الكأس حين قتلها المماليك أخذا بثأر زوجها منها .
وعجبا . . لقد قضي على الدولة التي قامت على أكتافها واحد من أعظم الرجال على يد مملوكة ـ مهما اختلفنا حولها ـ فإنها كذلك من أبرز نساء العالم .
من عوامل سقوط العباسيين
من أعرق الصفحات التي قدمناها للحضارة الإنسانية ، وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية .
خمسة قرون وأكثر ( 132 هـ ـ 656 هـ ) مرت على التاريخ البشري ، وهو يحني جبهته لهذه الدولة .
وبالطبع . . فليس من خصائص المسيرة البشرية أن تظل على وتيرة واحدة ، وهكذا كان شأن الدولة العباسية في مسيرتها ، يتعاورها المد والجزر ، واختلف عليها الحماة بين أتراك وبويهيين وأتراك سلاجقة ، لكنها بقيت مع ذلك رمز الهيبة التاريخية التي تفرض نفسها على كل القوى ، مستمدة هذه الهيبة من رصيد الخلافة الإسلامية التي مثلت وحدة الوجود الإسلامي إلى فترة قريبة من عمر التاريخ .
كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على تخطيط ، لعله لم يتوفر للمسلمين في كل تاريخهم . . دقة وعمقا . . وصبرا على النتائج ، واستغلالا لكل القوى وسرية ، وتوافر لكل مقومات النجاح .
ثم كان السير التاريخي لهذه الدولة معجزة عجيبة ، فوسط بحار متلاطمة الأمواج، وعالم إسلامي فسيح لا يمكن ، بل يتعذر استمرار تماسكه . . وأعداء خارجيين من عناصر متباينة المذاهب والجنس والميول .
وسط هذا كله شقت الدولة طريقها . . ولا شك في أنها كانت بين الحين والحين تتعرض لحركة تفكك من هنا، وحركة تمرد من هناك ، وبروز لحركة خروج في ناحية ثالثة . . وغلبة عنصر من العناصر في مكان رابع .
ولكن مهما يكن . . فهذه هي طبيعة المسيرة البشرية ، ولم يقدم لنا التاريخ على كثرة ما قدم مدينة فاضلة خلت من كل النوازع البشرية وخلت من الصراع . . والمد والجزر ! !
وعبر القرون الخمسة تقلب في الحكم عشرات من الحكام . . بلغوا سبعة وثلاثين خليفة، أولهم أبو العباس السفاح ثم أبو جعفر المنصور . . وقد برز منهم كثيرون كالمأمون والرشيد والمعتصم والواثق والمتوكل والمهدي .
وكان آخرهم ـ ومن أشأمهم ـ أبو أحمد المستعصم الذي استسلم للتتار .
وظهرت أسر قوية وعناصر كبيرة سيطرت على الدولة أحيانا كالبرامكة وبني بويه والسلاجقة .
وتمتعت دول كثيرة بالاستقلال الفعلي عن الدولة كالطولونيين والإخشيديين في مصر ، وبني طاهر في خراسان ، وبني سامان في فارس وما وراء النهر ، والغزنويين في أفغانستان والبنجاب والهند ، وبني بويه ـ الذين لم يستقلوا وحسب ـ بل تحكموا في الخلفاء أنفسهم في شيراز في فارس . . ثم السلاجقة .
وهكذا ـ كما ذكرنا ـ تعاورت كل ظروف المسيرة التاريخية هذه الدولة ذات القرون الخمسة ! .
وخلال رحلة الدولة العباسية الطويلة في التاريخ ، لم يجد المؤرخون بدا من تقسيم هذه الدولة إلى عصور ثلاثة : العصر الأول ( 132هـ ـ 232 هـ ) وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا المغرب والأندلس . والعصر الثاني ( 232 ـ 590 هـ ) وفيه ضاعت السلطة من الخلفاء لتكون في يد الأتراك والبويهيين والعصر الثالث ( 590 ـ 656 هـ ) وفيه عادت السلطة إلى أيدي الخلفاء في حدود بغداد وما حولها، دون بقية أملاك الخلافة التي سطا عليها الطامعون .
وفي مثل دولة جامعة كبيرة ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إلى رأي أخير في أسباب انحلالها . . .
ـ أكانت حركات الانشقاق عن الدولة سبب هذا الانحلال ؟
لا : إن حركات الانشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل الانحلال .
أكان ظهور أو تحكم عناصر غير عربية في الحكم من أسباب هذا الانحلال ـ لا ، فهذه العناصر قد وجدت في حضارات كثيرة وأين هي الدولة التي تخلو من خدمات عناصر ليست منها ؟ . . ثم إن هؤلاء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا في ظل مظاهر الانحلال الحقيقية ، وأدى معظمهم خدمات للدولة كانت سببا من أسباب بقائها وصمودها .
أكان ظهور حركات التمرد الديني كالقرامطة والحشاشين وغيرهم هو السبب الأقوى في تحلل الدولة ؟
ومما لا شك فيه أن لهذه الحركات أثرها الكبير في ضياع " الوحدة العقائدية " وفي ضياع كثير من مثل الإسلام الصافية خلال هذه العصور . . وفي خلق جو من الفوضى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، لكن مع ذلك ، وإن كان هذا سبب قويا ، فليس هو السبب الأقوى في سقوط الدولة العباسية . فما هي إذن ـ عوامل تحلل الدولة العباسية ودخولها في طور الاضمحلال ؟
لا شك في أن العوامل السابقة وغيرها ، كان لها تأثيرها الكبير في اضمحلال الدولة العباسية وفي دخولها مرحلة الأفول .
بيد أن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين ، إهمالهم لركن هام من أركان الإسلام . . وهو ( الجهاد ) ، فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة ( 833م ) لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة ، ولم يكن مبدأ " الجهاد الدائم " حماية لهذه الدولة المترامية الأطراف أحد أركان السياسة العباسية .
لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية . . فحصرتهم مشاكلها . . وماتوا ببطء ، ولو أنهم وجهوا طاقة الأمة نحو " الجهاد " ضد الصليبيين ، لتغير أمر الحركات الهدامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر ، وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد ، والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية ويذيب المعدن الرخيص .
لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة في ضرورة رفع راية الجهاد ، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للانشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكون والاستسلام .
لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم . . فذلوا ، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد العدو الخارجي . . فارتفعت رايات العصيان الداخلي .(7/91)
وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة والوثنيات المختلفة . . لكنهم لم يفعلوا ، فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتت الدولة، وتقسم جسمها تحت رايات مختلفة ليست لها بالإسلام أو الجهاد صلة .
وفي سنة 656هـ ( 1258م ) كان هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يؤدب الذين اتجهوا إلى كل الطرق إلا طريق الجهاد . . وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية القوية الخالدة .
وقد هاجم هولاكو بغداد وهدم أسوارها ، وأعمل المنجنيق فيها ، وحصد بغداد ، حتى لم يعد ممكنا الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة ، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلما بصحبة ثلاثمائة من أصحابه وقضاته دون شرط ، أمر هولاكو بقتلهم جميعا ، وطويت صفحة الخلافة العباسية .
ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات . . فالذين لا يملكون إرادة الهجوم . . يفقدون القدرة على الدفاع ! !
المماليك أبطال عين جالوت يسقطون
كانوا دائما أهل طعان ونزال . . كانوا أشقاء للسيف والرمح ، هو هويتهم وهو مؤهلهم للحياة والبقاء . . وعلى امتداد تاريخهم كان السيف مقرونا بهم . وكانوا عضد الدولة الإسلامية في كثير من المواقف ، وكانوا حماتها من أعدائها .
وفي مقابل ذلك عاشوا . . وتحملتهم شعوب مصر والشام ، وسمحت لهم بالسيطرة عليها . . وهم بدورهم كانوا جيشها وأسطولها وحماتها أمام كل غزو خارجي ، وكانوا يخضعون لتقاليد البلاد ولا يعرفون لهم ولاء إلا للدين الذي عاشوا به وربوا على تعاليمه ، وإلا للسلطان الذي يحكم . . .
ثم مع تطورهم الداخلي أصبح ولاؤهم للسلطان الذي يحكمهم منهم . .
ولقد شكلوا مجتمعا ذا هوية خاصة ، له أسلوبه الخاص في الحياة ، وله تربيته الخاصة وله فكره الخاص . . لقد كان مجتمعهم أشبه ما يكون بالمجتمع العسكري أو المجتمع البحري الذي يعيش للبحر أو الجندية ، فالجندية عقله وهي عاطفته . . ولا ولاء عنده لسواها .
وعندما مات فجأة آخر سلاطين الأيوبيين الملك الصالح أيوب . . تكتمت زوجه شجرة الدر الخبر لأن بلاد مصر كانت في حرب مع لويس التاسع الذي هزم وأبيد جيشه في دمياط والمنصورة ، ثم استدعت الزوجة الملكة ابن زوجها " توران شاه " لينقذ البلاد ، فلما جاء توران وأنقذ البلاد من الصليبيين ، وحاول أن يستأثر بالسلطة دبرت المرأة قتله . . ثم أقامت نفسها بمساعدة المماليك ملكة على مصر ، وقد اختار المماليك كبيرهم عز الدين أيبك ليقوم بمساعدة " المملوكة " التي صارت " ملكة " ( شجرة الدر ) في إدارة شؤون مصر ، وتطور الأمر فتزوجت شجرة الدر من مساعدها عز الدين ، وتنازلت له عن السلطة .
وهكذا تم تنازل آخر من ينتسبون إلى دولة الأيوبيين بنسب إلى كبير المماليك ، ومع أن شجرة الدر تعتبر البداية التاريخية لدولة المماليك ، لكن البداية الأكثر عمقا وأحقية هي التي مثلها هذا التنازل ، ثم استأثر عز الدين أيبك بالسلطة سبع سنوات أحست فيها المملوكة القاتلة بأنها سلبت كل سلطة ، فقامت بقتل زوجها الجديد مثلما قتل من قبل ابن زوجها القديم .
لكن المماليك سرعان ما قتلوها ثأرا وانتقاما . . واستقر الأمر لدولة المماليك في مصر والشام .
والمماليك قسمان : برجية نسبة إلى أبراج القلعة التي كانوا يسكنون فيها بالقاهرة . . وبحرية نسبة إلى جزيرة الروضة المطلة على النيل التي كانوا يسكنون فيها كذلك ، ومن أشهر المماليك الأول برقوق . . وآخرهم قانصوه الغوري الذي سقط تحت سنابك خيل السلطان سليم سنة 1527م . .
ومن أشهر المماليك البحرية عز الدين أيبك وبيبرس والمنصور قلاوون . . وقد انتهى هؤلاء من قبل المماليك البرجية بحوالي قرنين وكان المماليك البرجية ـ أبطال عين جالوت ـ يمثلون امتدادهم التاريخي .
لقد لعب المماليك البرجية بخاصة في تاريخنا دورا لم تقم به إلا دول قليلة في التاريخ . . لقد صدوا غارتين حضارتين من أكبر وأشهر الغارات التي عرفها تاريخنا وتاريخ الإنسانية .
كانت الأولى يمثلها زحف هولاكو الذي ينتمون إليه جنسيا ، لقد صدوه بعقيدتهم الإسلامية التي لم يعد لهم ولاء إلا لها ( الحمد لله أن نظرية القومية العنصرية لم تكن ظهرت بعد ) وقد وقفوا أروع وقفاتهم في صده في عين جالوت الشهيرة رافعين راية واإسلاماه ! !
ثم كانت الثانية في معاركهم الدائمة ضد الصليبيين الذين كانت لهم بقايا بعد صلاح الدين ، فعلى يد السلطانين المنصور قلاوون الذين تسلم الحكم سنة 678 هـ والسلطان الأشرف خليل ـ الذي تولى الحكم سنة 689 هـ . . على يد هذين السلطانين ـ فضلا عن جهود بيبرس ـ تهاوت قلاع الصليبيين الباقية والتي كانوا قد تقدموا في بعضها بعد صلاح الدين كحصن المرقب وعكا وغيرهما ، وطويت على يد المماليك آخر صفحات الغزو الصليبي الذي استمر قرنين من الزمان وكان ذلك سنة 960 هـ .
وقد تضافرت ظروف عالمية ، كاكتشاف رأس الرجاء الصالح ـ وظروف إسلامية كبروز الأتراك ـ ثم محمد علي ، وظروف داخلية كانقسام الأتراك على أنفسهم .
تضافرت كل هذه الظروف على إنهاء الدور الذي قام به المماليك ، لكن كان أكبر سبب هوى بالمماليك وزحزحهم من مكانهم في التاريخ ، هو أنهم نسوا الرسالة التي عاشوا من أجلها وتعاقدوا مع الشعوب التي حكموها بشأنها .
نسو رسالتهم في الدفاع الخارجي . . نسوا السيف ، وتبلدوا عند أسلوب معين ، ولم يطوروا أنفسهم ، ثم تطوروا فانقلبوا من حماية خارجية للأمة إلى متسلطين داخليين عليها يمنعون حركتها وتطورها .
وبذا فقدوا دورهم في التاريخ . . وسقطوا بعد أن أدوا للحضارة الإسلامية الكثير . . وأنقذوها من أكبر خطرين عالميين وهما التتار والصليبيون . .
القسم الثالث : دول مغربية تسقط
*سقوط الأغالبة في تونس
* سقوط دولة الخوارج في الجزائر
* غروب الأدارسة في المغرب الأقصى
* سقوط صقلية الإسلامية
* سقوط المرابطين بالمغرب
* سقوط دولة صنهاجة في تونس
* سقوط بني حماد في الجزائر
* والموحدون . . يسقطون
سقوط الأغالبة في تونس
الحركات الانفصالية في العالم الإسلامي ارتكزت على عديد من الأسس المتباينة ، وجنحت كل منها إلى حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء ، فبعضها قد التمس السبب في الانفصال من نزعة سياسية ، وبعضها قد التمسه من نزعة مذهبية ، وبعضها قد التمسه من نزعة قومية ، وبعضها قد التمسه من ( ضعف الخلافة ) .
ولم نجد في تاريخ هذه الحركات ذلك الشجاع الصريح الذي يعلن أن رغبته في الانفصال ترجع إلى سبب حقيقي واحد هو الرغبة في الوصول إلى السلطة . . وتملك الحكم . . والمجد الأدبي والمالي .
وفي فترة متقاربة بدأت الحركات الانفصالية تظهر في العالم الإسلامي ، وكأنها خصيصة جديدة من خصائص التطور التاريخي لهذه الفترة ، فالأندلس انقسمت عن الخلافة العباسية بقيادة عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) ومثلت بوجودها آخر ومضة من ومضات وجود بني أمية ، وظلت باقية ثلاثة قرون تمثل هذه الومضة ، وانقسم بنو طاهر في خراسان انقساما تبعوا فيه دولة الخلافة العباسية عكس بني أمية في الأندلس ، وانقسم في مصر ابن طولون في تاريخ قريب من هذا .
وكان لا بد للمغرب العربي ، وهو الأرض الواقعة كجسر تاريخي بين الامتداد العقائدي الذي وصل إلى مشارف باريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بلاط الشهداء و استشهاد عبد الرحمن الغافقي . . بينه وبين مركز الإسلام الأصيل ومهبط الوحي وأرض العرب أن تظهر فيه هذه الظاهرة .(7/92)
والحق أن الحركات الانفصالية في المغرب العربي كانت تملك المبرر في الانفصال ، فإن عمال بني أمية كانوا قد أساءوا السيرة فيهم وعاملوهم " كبربر " أي كمواطنين من الدرجة الثانية ، كما أن أهل العراق بكل ما أثير بينهم من جدل كلامي وفتن عقائدية . . قد حملوا هذا الجدل وهذه الفتنة إليهم وحرضوهم على خلفاء بني أمية ، وولدوا فيهم الرغبة في الانفصال . وعلى مشارف القرن الثالث الهجري كانت هناك دول ثلاث منفصلة تحكم المغرب العربي ولا تخضع للخلافة العباسية إلا اسما . . وهي : الأدارسة والأغالبة والرستميون . . وكانت هذه الدول بوضعها ذاك تمثل الأرض القابلة لأي امتداد طموحي . . ووجد فيها الفاطميون فيما بعد الأرض الصالحة لغرس بذورهم .
وكانت دولة الأغالبة التي قامت في تونس سنة 184 هـ أبرز الدول الانفصالية في المغرب العربي .
وكان مؤسسها إبراهيم بن الأغلب الذي أرسله الخليفة العباسي هارون الرشيد لخلق الاستقرار في المغرب العربي في ظل حماية العباسيين ، يتمتع بقدر كبير من الشجاعة والذكاء ، وقد اتخذ إبراهيم مدينة القيروان عاصمة له ، وبعد وفاته سار بنو الأغلب على منواله في توطيد أمن المغرب وتقوية أسطوله وجيشه وتنمية موارده .
وكان أبرز ما قدمه الأغالبة للإسلام هو فتحهم لصقلية وضمها إلى أرض الإسلام ، بقيادة قائدهم أسد بن الفرات في عهد أميرهم زيادة الله بن إبراهيم الأغلب ، الذي تولى الحكم سنة 201 هـ ، كما أنهم تقدموا فاستولوا على جنوب إيطاليا ، ويقال : إنهم واصلوا زحفهم حتى دقوا أبواب روما .
وقد ازدهرت الحركة الاقتصادية والعمرانية في أفريقيا التونسية على عهدهم ، كما أن الأمن قد ساد البلاد وأصبحت تونس ـ على الجملة ـ عامرة مزدهرة ازدهارا عظيما . . وقد أسسوا بالقيروان عدة مساجد لعبت دورا كبيرا في تدعيم الحضارة الإسلامية ، ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح في المغرب كالأزهر في الشرق ولعب دورا مهما في الحياة العلمية الإسلامية .
وقد اشتهر بعض ملوك الأغالبة بالقسوة الشديدة ، وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب الماء ، ولعل هذا من أبرز ما أخذ عليهم ، وقد مد من عمرهم في المغرب انصراف الخلافة العباسية إلى مشكلاتها المشرقية . . وعدم قطعهم لكل أواصر المودة مع الخلافة العباسية ، وبالتالي رضيت الخلافة في ظل ظروفها بالقدر الذي يدينون به بالطاعة لها . كما أسكتها انتصارات الأغالبة في معارك الجهاد ضد الصليبيين في أوروبا والساحل الجنوبي الأوروبي وجزر البحر الأبيض المتوسط .
هذا كله قد غفر لهم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها ، ويحكمون صقلية ويفرضون هيبتهم على الدول الأوروبية .
لكن الدول الانفصالية لا يمكن أن تقف أمام الحضارات الجامعة التي تمثل كيانا وجوديا له أبعاده الحضارية المتكاملة .
ومن هنا فلم يستطع الأغالبة الصمود أمام الفاطميين الذين برزوا في المغرب بقيادة داعيتهم أبي عبيد الله المهدي . . فسقطوا على يد الفاطميين هؤلاء سنة 296 هـ .
لقد سقطوا ـ أولا وقبل كل شيء ـ باعتبارهم حركة انفصالية لا تستطيع أن تصمد أمام كيان حضاري زاحف له راية الأيديلوجية يقف تحتها ، مهما اختلفنا في أبعاد هذه الراية . . أو هذه الأيديلوجية .
سقوط دولة الخوارج في الجزائر
منذ خرج " الخوارج " عن طوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتسببوا في قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وهم يشكلون على امتداد التاريخ الإسلامي المادة الخام لكثير من الحركات الثورية . لقد انتشر الخوارج على امتداد الأرض الإسلامية ولقد دخلوا في عديد من المعارك واجهوا في بعضها تصفية جسدية هائلة . . لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة في الأرض الإسلامية ، وشعارهم قول أحد روادهم " قطري بن الفجاءة " :
فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع
سبيل الموت غاية كل حي ** فداعيه لأهل الأرض داع
وبالطبع لم يكن المغرب الإسلامي ، وهو تلك الأرض الإسلامية العذارء ليفلت من أيدي الخوارج .
لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسلامية خارجية ينشرون من خلالها مبادئهم الخارجية .
وقد كان أهم بروز لهم سنة 122 هـ في طنج برئاسة " ميسرة المطغري " ، وقد عرف المغرب من مذاهب الخوارج : الصفرية والإباضية ، وقد انتشرت الصفرية في الجهات الغربية ، بينما انتشرت الثانية في النواحي الشرقية ، وكانت أكثر القبائل البربرية ( المغربية ) الموالية للخوارج زناتة وهوارة .
بيد أن حركاتهم ظلت حركات ثورية فوضوية ، لم يقدر لها إلى منتصف القرن الثاني الهجري أن تنتظم في دولة . . ولذا فمعظم حركاتهم ماتت وكانت تذوب في بوتقة المجتمعات المنظمة ، لا سيما وقد أصيبت كثير من حركاتهم بما أصيبت به الحركات التي تقف على الطرف الآخر منهم . . أي أنهم أصيبوا بكثير من المغالاة والتطرف ، والميل إلى نزعة التكفير وإراقة الدماء والقتل لأوهى الأسباب .
لكن مع بروز سنة 144 هجرية بدا وكأن الخوارج يستمتعون بإقامة دولة مستقرة لهم بالمغرب .
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم الإباضي عبر سلسلة من المغامرات والتعرض للموت غير مرة ، والتحايل على جذب القبائل البربرية . نجح في إقامة دولة خارجية تعتمد على البربر وعلى العرب والعجم وتتمركز في مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراء الجزائرية أكثر من مائتي كيلو متر ، وتقع في منطقة النجود ، وتتبوأ مكانا جيدا يحميها من الإغارات ، ويحميها كذلك من الشمس التي لا تكاد تظهر في سمائها ( ! ! ) وهي مدينة " تاهرت " .
وقد نجح عبد الرحمن بن رستم هذا في توطيد دعائم دولته خلال الفترة التي قدر له أن يحكمها ( 144 ـ 168 هـ ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذي بقي في حكم الدولة التي تنسب إلى أبيه " الدولة الرستمية " عشرين سنة . . ثم " أفلح ابن عبد الوهاب " الذي عمر أطول مدة عمرها حاكم رستمي ، فقد بقي في الحكم أكثر من خمسين سنة ( 188 ـ 238 هـ ) ، ثم تتابع في حكم الدولة الرستمية خمسة من الأمراء ( أبو بكر بن أفلح . . فأبو اليقظان ، فأبو حاتم ، فيعقوب بن أفلح ، فاليقظان ابن أبي اليقظان آخر أمرائهم ) والذي لم يتمتع بالحكم أكثر من عامين عاشهما في اضطراب ، ثم غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه في شوال سنة 296 للهجرة ، وانتهت به الدولة الرستمية التي حكمت جزءا كبيرا من أرض الجزائر " تيهارت وما حولها " قرنا ونصف قرن من الزمان ( 144 ـ 296 هـ ) ( وكان ظهورها الذي دعمه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي أبرز مثل لبروز دولة خارجية ) .
إن الخوارج الذين اشتهروا بالحمية والتفاني في سبيل المبدأ ، قد تحولوا في ظل دولتهم الرستمية إلى رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة .
وقد عاشت طوائف كثيرة مختلفة النزعة في ظل دولتهم الرستمية حياة رغدة طيبة سهلة . . وبعد أن كان الخوارج أرباب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبو بكر بن أفلح ، وقد رضوا بسلم يمكن لهم البقاء في حدود ما حول تاهرت ، عقدوه مع جيرانهم الأغالبة والأدارسة .
وجلي أن الذي لا يتقدم يكون عرضة للتأخر . . وهكذا تأخر الرستميون بعد أن فقدوا روحهم النضالية . . ودعنا من انحرافات كثيرة منهم لدرجة المغالاة والتطرف . . ودعنا كذلك من سذاجة آخر ملوكهم " اليقظان " واضطراب الملك في يديه .(7/93)
لقد عمل ذلك عمله في سقوط الدولة الرستمية . . كما عمل في سقوطها كذلك أخطر قانون من قوانين الحضارة . . وهو أن الدولة التي تفتقد راية حضارية جديرة بالانتشار والبقاء . . دولة جديرة بالانحسار والفناء
غروب الأدارسة في المغرب الأقصى
في تخوم السنوات التي تصل شطري القرن الثاني الهجري تفككت وحدة المغرب العربي ( تونس ـ الجزائر ـ مراكش ) وبدلا من خضوعه للدول الإسلامية الجامعة سواء دولة الأمويين أو دولة العباسية . . بدلا من هذا انقسم المغرب الإسلامي على نفسه إلى قوى ثلاث تحكمها زعامات ثلاث . . الرستميون في تيهارت ( الجزائر ) والأغالبة في تونس ، والأدارسة في المغرب الأقصى .
وليس من السهل تلمس الأسباب الحقيقية لهذا الانفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض شخصية ومذهبية .
بيد أن كثيرا من المؤرخين لا يفوتهم البحث عن أسباب لكل الظواهر ، حتى ولو كانت الظاهرة مجردة حادث مفتعل يخلف نتائج مضادة ويكون حصاده وبالا على الأمة التي خضعت له.
وليس من شك في أن الحياة ليست سلبا كلها . . وبالتالي ليست إيجابا كلها . . فنحن لن نعدم أن نجد في الدولة الحضارية الجماعية سلبيات . . كذلك لن نعدم أن نجد في كل الحركات الانفصالية التي تمثل ـ في رأينا ـ بوادر غروب للحضارة الجامعة . . لن نعدم أن نجد فيها إيجابيات ، بيد أنه لا السلبيات تصلح للحكم على الدولة الجامعة بالموت وبالانقضاض عليها من داخلها ، ولا الإيجابيات تصلح كمبرر للوجود . . إذا قيست هذه الإيجابيات الجزئية بما تخلفه حركات الانشقاق من هدم في روح الحضارة . . ومن صراع يجهد الدولة الجامعة والبلد المنفصل معا .
وكان إدريس بن عبد الله بن الحسين هو ( قائد حركة الانفصال عن دولة العباسيين في المغرب الأقصى )
وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويين في إشعال ثورة الحجاز ضد العباسيين ، لكن الثورة فشلت ، وأخمدت فهرب إدريس إلى بلاد المغرب ، وهناك استطاع أن يجمع حوله بعض قبائل البربر ، وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوالي قرنين من الزمان . . وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري . . أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركتي الرستميين في الجزائر والأغالبة في تونس .
وقد نجح الخليفة العباسي هارون الرشيد في أن يدس على إدريس من يدس له السم في العسل ، وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله " إن لله جنودا من عسل " لأنه سمه بواسطة العسل .
وقد ترك إدريس زوجته حاملا فولدت بعد موته ذكرا التف البربر حوله وبايعوه باسم إدريس الثاني . وفي عهد إدريس الثاني هذا حاول العباسيون بواسطة ولاء الأغالبة الموجودين في تونس لهم ، حاولوا القضاء على الأدارسة . . لكنهم فشلوا . . وركن العباسيون إلى السكوت . . واستمرت الدولة الإدريسية ـ كما ذكرنا ـ قرنين من الزمان .
وكان من أعظم حكام الأدارسة يحيى الرابع بن إدريس الذي حكم ثماني عشرة سنة ( 292 ـ 310 هـ ) وازدهر المغرب الأقصى في حكمه أيما ازدهار .
كما بلغت مدينة فاس عاصمة الأدارسة ذروة مجدها ، وأصبحت مركزا هاما من مراكز الحضارة الإسلامية في أنحاء المغرب العربي . وأيضا قد ساعد الأدارسة على رسوخ قدم الإسلام في بلد المغرب بين البربر ، وانتشر الإسلام بواسطة البربر في أفريقيا الغربية .
وكانت جامعة القرويين التي قامت بدور بارز في نشر وإنماء الثقافة الإسلامية من أهم آثار الأدارسة في المغرب الإسلامي ، وقد قامت في المغرب بما قام به الأزهر ـ أو على نحو قريب منه ـ في المشرق العربي .
لقد كان الأدارسة أول دولة لها هذا الطابع في التاريخ وفيما نعتقد لم تكن دولتهم شيعية إلا بمقدار حب آل البيت والولاء لهم . . وهي صفة يشترك فيها السنة والشيعة معا . . فحب آل البيت من حب الرسول عليه الصلاة والسلام ما كانوا قائمين على كتاب الله وسنة رسوله . . أما إذا خالف أحدهم كتاب الله وسنة رسوله . . . فإنه يقف من الله موقف أي إنسان " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا " هكذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام ! ! .
ولهذا الوضوح في دولة الأدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت بهم ، وكانت القبائل البربرية السنية في المغرب حاميتهم وعماد دولتهم .
ولهذا السبب عاشت دولة الأدارسة نحوا من قرنين من الزمان وأدت دورا حضاريا لا بأس به في المغرب الإسلامي .
بيد أنها كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مبرر الوجود والبقاء . . فظلت على الرغم من " قرنيها " مجرد حركة انفصالية . ولم تستطع ـ لا جغرافيا ولا فكريا ـ أن تزيد على حدودها التي ضمها إدريس الأول شيئا ذا بال .
وقد وقعت كذلك بين عديد من القوى الراغبة في الابتلاع . . وقعت بين الأمويين في الأندلس ، الذين كثيرا ما سددوا إليها الطعنات . . وبين مصر التي انتقلت إلى الفاطميين منذ سنة 359 هـ . . فوجهوا إلى الأدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة المذهبية . .
ولا يمكن إغفال ضربات القبائل البربرية الراغبة في حكم نفسها، لا سيما قبائل زناتة وهوارة .
وقد أدى ذلك كله على غروب شمس الأدارسة عام 375 هـ .
فانتهت إحدى الحركات الانفصالية في تاريخنا الإسلامي . . لأن السقوط ـ وإن كثرت المقويات والمساعدات ـ هو مصير كل الحركات الانفصالية .
سقوط صقلية الإسلامية
بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 212 هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول . . كانت الأندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم المؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن تاشفين .
وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون تعقل .
وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوا نضارتهم كذلك ، بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبة لعلها لم تحدث في تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت لحوم الكلاب في الأسواق .
كان هذا هو الجو المحيط بصقلية الأغلبية الإسلامية . . الجو الذي يطلق عليه مؤرخونا عبارة " الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري " ! ! !
لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلى اليوم . . لقد كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى .
كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد التي تدلف منه كل الهزائم الواردة . . كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات والمتمسحون في أمجادهم العائلية .
كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضي والفقيه والقائد والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية .
وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر بإعجاب إلى الجنوب الأوروبي ، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب . . وعندما حلت الهزيمة الداخلية على هذا النحو . . كان من السهل أن يدخل روجار بجيوشه ، وأن تتحول صقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام .
كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقب فرصة الوثوب على الجزائر وتونس . . فضلا عن صقلية ، وكما هي العادة في تاريخنا لم يستطع روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها ، من خلال الهزيمة الداخلية . . فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين ، أما حين تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أي شعار .(7/94)
وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هزم أحدهم . . ويسمى ابن الثمنة . . ولم يجد هذا الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم على خفايا الجزيرة ، ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها .
وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية . . ولم تكن القوى الإسلامية المفككة المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء . . بالرغم من أن تونس قد حاولت تقديم المساعدة .
وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرة التي قدمت للإسلام والحضارة الإسلامية عديدا من الأبطال في كل المجالات .
سقطت " مسنة " . . وسقطت " بلرم " العاصمة . " وماذر " .
وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبل المغيب " ابن عباد " سقطت سرقوسة ، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس ، وسجلت سنة 484 هـ 1091 م السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان . .
وكما تمثلت الهزيمة الأولى ـ في بداية الهزيمة ـ . . كما قدمتها ـ في شخص ابن الثمنة ـ كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين :
في صورة ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكان هذا الرجل يزعم النسب إلى العلويين . . لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه ( بالعلوي الدنيء الرخيص ) مسلما بقضية علويته ، ولربما كانت صحيحة ، فكثير من دعاة العلوية كانوا خونة ! !
وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرة كلها .
ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية ، إلا أنه حرصا على مزيد من الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلى إيطاليا ليقضي بقية حياته هادئا آمنا ، وذهب الخائن ، ومع ذهاب الإسلام من أعماقه وأعماق أمثاله من المنهارين ذهبت صقلية . . والصورة الثانية . . تقدمها لنا صفحات التاريخ في شكل رسالة بعث بها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحمل تشفيا وتهنئة بالنصر المسيحي ، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كل أوصافه للزعماء المسلمين في الجزيرة ، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبوا طريق الخبرات واجترءوا في الطغيان ، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي .
بعد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق بأن تكون الرحمة نائية عنه ، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية .
وهذا الكلام . . صحيح . بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار في مصر المتمسح ـ كذبا ـ في شرف النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة الإسلام ـ تابعا لحكمه ـ دون أن يحرك ساكنا . . ثم يخرج علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها .
ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة في قصره بيد الوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية ، وإنه بدوره كان حلقة في سلسلة مصائبنا الكثيرة .
وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس ، ولهم بها قاض وجامع . .
ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله :
" وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم . . " .
وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة ، وسادتهم الفاطميون المارقون . .
والمهم :
سقطت صقلية الإسلامية ! !
سقوط المرابطين بالمغرب
بدأت دولة المرابطين بالمغرب العربية بداية طيبة قوية . . كانت هذه الدولة بحق انبثاقة فكرة إسلامية عظيمة الأثر في حياة الدعوة الإسلامية . . هذه الفكرة تقوم على إبراز دور محدد قيادي للمسجد الإسلامي ، فالمسجد ليس مجرد دار لأداء صلوات خمس مبتوتة الصلة بالحياة ، وإنما المسجد الإسلامي دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها في كل مرافق الحياة . . فهو إلى جانب كونه دار عبادة هو كذلك دار علم ، وهو دار قضاء وهو مكتبة ، وهو مجلس شورى . . أي أن المسجد في الحقيقة نموذج لكل الوزارات والدواوين التي تقود شؤون الناس وتوجه مصالحهم ، وعلى هذا الأساس قامت فكرة الأربطة التي أنشأها المرابطون والتي من خلالها تكونت طليعة إسلامية استطاعت أن تنشئ دولة المرابطين التي حمت المغرب الإسلامي والأندلس قرابة قرن من الزمان .
ومضت فترة القوة في هذه الدولة عندما مات أكبر شخصية مرابطة هي شخصية يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة ، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة .
وبعد يوسف ، ومع الجهود الضخمة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول .
وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب . . كان ذلك لأن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير ، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس ، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهما مغلوطا للإسلام بل إنه وقع في خطأ كبير . . حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته ، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم .
ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا ، وانصراف الفقهاء إلى تكفير الناس وجمع الثروات ، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة .
كانت الخمر تباع علنا في الأسواق ، وكان النبيذ يشرب دون حرج ، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام ، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها ، واستولى النساء على الأحوال " وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور " .
وكان ثمة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد الخلفاء الضعاف المرابطين . . هذا المظهر هو تحجب الرجال ، حتى إن الرجل لا تبدو منه إلا عينه ، وبروز النساء وظهورهن في الأسواق العامة سافرات ، واختلاطهن بالرجال . لكن مفتاح المصائب الكبرى على المرابطين كانوا هم الفقهاء
لقد ذهبوا إلى تكفير كل من يحاول تأييد القواعد والأصول الشرعية ، لا سيما العقائد بأدلة عقلية . وقد يكونون على خطأ أو على صواب ، فلسنا نعرض لآرائهم أو لآراء غيرهم ، وإنما الذي نقصده أن نظرية التكفير هي دلالة إفلاس وتحجر ، وليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر . . إذ ليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر . . إذ ليس الكفر مفتاحا يملكه الناس ما لم تظهر أدلته المادية التي لا تقبل الشك . . أما الخلاف على رأي فليس مجال تكفير .(7/95)
وقد ذهب هؤلاء الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري . . وهي شخصية الإمام " أبي حامد الغزالي " المعروف بحجة الإسلام بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب ، فحرصا على امتيازاتهم التي يكتسبونها من جدلياتهم في علوم الفقه التي تمثل الفروع . . أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي لا سيما كتابه الشهير " إحياء علوم الدين " وكانت حجتهم في ذلك اشتمال الكتاب على بعض المسائل الفلسفية الكلامية . . مما اضطر السلطان علي بن يوسف الخاضع لتأثيرهم إلى إصدار أمره بوجوب إحراق الكتاب " إحياء علوم الدين " في جميع أنحاء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء ، ثم أنذر بالوعيد الشديد . . . بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب ! ! .
وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازات الشخصية التي أظهرها الفقهاء .
وقد بلغ الحنق بالإمام الغزالي مبلغه ، فدعا على علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي أن يمزق الله ملكه . . حين علم بالأمر ! .
لقد كان منهج الفقه الذين تصدروا شؤون الدولة المرابطية يقوم على الابتعاد عن المصدرين الرئيسيين للتشريع وهما القرآن والسنة ، والتمسك الشديد بآراء الفقهاء . . حتى ولو لم يعرفوا لها سندا من الكتاب والسنة . . وقد بلغ الأمر بهم في هذا الأمر مبلغه ، حتى أن أحد الناس قال لرجل وهما في الطريق : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا . . فرد عليه الآخر . . لكني أعتقد أن الإمام مالكا يقول كذا ( ! ! ) وهكذا ذهبت آراء الفقهاء في نظرهم مذهب التقديس والغلو المبالغ فيه .
وقد أمات الفقهاء واجب " الحسبة " . . وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة ، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها . . لكنهم جاروا العامة في غرائزها وبحثوا عن أنفسهم ، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهم بالتكفير والمروق .
بقي أن نقول : إن الفقيه أبا القاسم بن حمدين زعيم الفقهاء في هذه الفوضى . . وأكبر المكفرين للإمام الغزالي ، بل المكفر لكل من قرأ كتاب الإحياء كان يمثل نموذجا لكثير من الدجالين المتاجرين بالإسلام ، والإسلام منهم براء .
ومع ألسنة النار المندلعة من نسخ كتاب الإحياء التي أحرقت في مشهد علي بجامع قرطبة ، كانت ألسنة نيران حركة التاريخ التي تقودها سنة الله التي لا تتخلف ، تأكل دولة المرابطين التي تركت أمرها لمجموعة من ضيقي الأفق ومرتزقة الكلمة ، هؤلاء الذين لا يفهمون أصول الإسلام ولا روح الإسلام . . ولا أصول الحكم في الإسلام . . ولا روح الحكومة الإسلامية الحقيقية . . .
سقوط دولة صنهاجة في تونس
عندما رحل الفاطميون إلى مصر سنة 360 هـ ، بعد أن أسسوا دولتهم بالمغرب العربي وعاشوا فيها أكثر من نصف قرن ، خلفوا وراءهم قبيلة بربرية كبرى تدعى صنهاجة كي تحكم المغرب العربي ( تونس والجزائر ) نيابة عنهم وباسمهم .
لقد كان انتقال الفاطميين إلى مصر وتسليمهم الأمور لهذه القبيلة البربرية الكبرى حدا فاصلا في أحداث المغرب العربي ، إذ كان إعلانا ببداية عهد يحكم فيه البربر أنفسهم ويستقلون بحكم بلادهم ، في ظل اعتراف بسلطة الدولة الفاطمية وهو اعتراف من النوع الذي يمكن نقضه ، لأنه لا تساعده قوى متمركزة عسكرية، ولا ولاء جماهيري عقائدي ، وبالتالي فقد اعتبر هذا الحدث بداية عهد " حكم البربر للبربر " ! ! .
وقد نشأت بعد رحيل الفاطميين أول دولة بربرية كبرى في الجزائر وتونس هي " دولة الصنهاجيين " التي عرفت باسم " دولة بني زيري " نسبة إلى أول حكامها " بلكين بن زيري الصنهاجي " ، وقد نجح بلكين هذا في أن يقضي على الفتن الداخلية وعلى الثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد ، وحقق استقرارا كبيرا بالبلاد إلى أن مات سنة 373 هـ ( 984م ) فخلفه ابنه المنصور بن بلكين ، وكان من أعدل بني زيري ، فاستعمل السياسة والعنف معا ، ونجح في تصفية خصومه باللين والحكمة والترهيب كذلك .
وقد لمس الفاطميون النية لدى حكام بني زيري في الاستقلال ، فحاولوا وضع العراقيل في وجه المنصور ، إلا أن سياسته قد امتصت محاولاتهم .
وعندما مات سنة 387 هـ خلفه ابنه باديس بن المنصور فسار على سياسة أبيه ، ونجح في تحقيق الاستقرار للدولة . حتى مات سنة 406 هجرية ( 1015م ) .
لقد تولى الأمر بعد باديس أعظم ملوك بني زيري على الإطلاق " المعز بن باديس " ولقد واجه المعز بن باديس وضعين جديدين كان لهما تأثير كبير في مستقبل الدولة : أما الوضع الأول . . . فهو قيام حركة انشقاق في الدولة قادها أحد أعمام أبيه ويدعى " حمادا " وكانت قد بدأت منذ عهد أبيه واستنفذت من طاقة أبيه الكثير ! ! وأما الوضع الثاني فهو ميول المعز نفسه ، إذا كان المعز قد تربى على يد رجال من رجالات السنة المالكية ، ونشأ محبا للمالكية والسنة . وقد حاول منذ ولي تغيير مذهب الدولة ، ففي سنة 407 تغاضي ، بل أوعز بطريقة غير مباشرة، بقتل عدد كبير من مخالفي السنة والجماعة في مذبحة كبيرة .
لقد كان ابن باديس واقعيا مع ظروفه وظروف دولته ، وبالتالي فقد قبل انشقاق جزء من دولته في ظل سيادته ، هذا في الجانب الأول .
وفي الجانب الثاني كان واقعيا مع ظروفه كذلك ، فتمهل في الأمور ، ولم يقم بتغيير المذهب الشيعي ، حيث كانت دولة الفاطميين في القاهرة قوية تستطيع تأليب القوى عليه من داخل بلاده وخارجها .
ولقد عاش المعز يحكم دولته في هدوء ، قريبا من خمس وثلاثين سنة ، أي إلى سنة 441 هـ . . وفي السنة الأخيرة التي كان حاكم الدولة الفاطمية فيها هو المستنصر ، أعلن انفصاله عن دولة الفاطميين ، إذ كان المستنصر يعاني من تدهور كبير في الأوضاع ، وكان المعز يعيش فترة تألق شديد .
لكن الفاطميين في مصر لم يستسلموا للضربة التي سددها إليهم المعز ، وهم في الوقت نفسه ، كانوا عاجزين عن توجيه ضربة مقابلة له ، خضوعا لظروفهم التي كانت تجنح إلى التدني والسقوط والأزمات الاقتصادية الشديدة .
ولم يعدم المستنصر الفاطمي ـ أطول خلفاء الإسلام بقاء في الحكم وسيلة يضرب بها المعز .
وكانت الوسيلة التي رآها هي إطلاق القبائل العربية " الهلالية " كي تزحف على المغرب العربي ، وقد استدعى رؤساءهم وأقنعهم بمحاولة امتلاك المغرب وأرسل إلى المعز خطابا بذلك .
وكانت هذه القبائل حجازية استوطنت مصر ، وتعيش بطريقة شبه فوضوية ، وقد تقدمت نحو المغرب في أعداد كبيرة يبالغ بعض المؤرخين فيزعمون أنها تتجاوز المليون .
لقد أتيح للمعز بن باديس فرصة ترويض هذه القبائل ولكنه لم يوفق إلى هذا النهج وكانت هذه أكبر أخطائه . وبالتالي فقد تقدمت هذه القبائل تهلك الحرث والنسل وتخرب المدن والقرى ، حتى قضت على حضارة القيروان العظيمة .
كما أن المعز لم يوفق في إعلان مواجهة حضارية في مقابل غزوة حضارية ولقد كانت وشيجة الإسلام كفيلة بترويض هذه القبائل وباستغلالها ، وبالتالي بإحباط الهدف الذي سعى إليه المستنصر ، في إيثار الجماعة والسنة .
وعندما يفشل المغزوون حضاريا في إحداث غزو حضاري مضاد ـ لا سيما وأن هذه القبائل كانت تجنح إلى ما جنح إليه المغرب العربي ـ يفقدون عنصر القدرة على البقاء .
إن الغزو الحضاري لا يقاوم بمجرد المقاومة ، بل لا بد من امتصاصه بغزو حضاري مضاد .(7/96)
وهذه القاعدة قد غابت عن ذهن بني زيري في تونس ، فتهاووا وتهاوت حضارتهم، وللأسف الشديد فإن هذه القاعدة لا تزال غائبة عن ذهن كثير من المخدوعين والمهزومين .
وسقوط بني حماد في الجزائر
لا يلد الانفصال إلا انفصالا ، والسير ضد سنة الله محاولة انتحارية ومن سمات حركة التطور البشري أن الروح العامة تؤدي دورا مهما في عملية السير التاريخي .
فإذا كانت الروح العامة متجهة إلى الخير تسابق الناس إلى الخير ، وهكذا تقدمت حركات الإصلاح ، وهكذا استقطبت أجيالا في أيامها ، والأمر نفسه ينطبق على الشر ، ولم تمت الأمم إلا بالروح الشريرة العامة التي جعلت التحلل " مودة " والتفسخ الخلقي " فضيلة " ، والسقوط تقدمية . . وهكذا تحللت الأمة الإسلامية في فترات تداعيها . . فمن انفصال إلى خلافات كبرى ثلاث ( عباسية ببغداد ، أموية بالأندلس ، فاطمية في مصر ) وإلى انفصال آخر في الأندلس بين ملوك الطوائف، وفي المشرق بين الشام ومصر واليمن ، وهكذا ، وفي المغرب العربي بين بني زيري في تونس وزناتة ثم المرابطين في المغرب الأقصى ، وبني حماد في الجزائر .
ولقد كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشر الميلادي " مسرحا لمعارك طويلة دارت بين بني زيري الذين يحكمون تونس ، وبني حماد الذين أحبوا تكوين إمارة مستقلة بهم في الجزائر ، بعد أن كان بنو زيري يحكمون تونس والجزائر معا .
وعبر حروب طويلة خاضها حماد مؤسس الدولة مع بني زيري في ناحية . . ومع زناتة في المغرب الأقصى من ناحية أخرى ، عبر هذه الحروب استطاع حماد بمساعدة ظروف كثيرة منها عنصر المصادفة . . . أن يستقل بجزء كبير من أرض الجزائر الإسلامية وكان ذلك سنة 408 هـ ( 1016م ) حين نجح في عقد صلح مع المعز بن باديس حاكم تونس - ( 405 ـ 454م ) وأصبح الرجل الأول في الجزائر .
ولقد عاشت هذه الدولة قريبا من مائة وأربعين سنة وتعاور الحكم فيها تسعة من الملوك كان من أشهرهم حماد نفسه ( 408 ـ 419 هـ ) والقائد بن حماد ( 408ـ 466 هـ ) والناصر بن علناس ( 454 ـ 481 هـ ) والمنصور بن الناصر ( 481 ـ 498 هـ ) .
إلى أن وصل الحكم ليحيى بن العزيز الذي حكم ما بين ( 515 ـ 547 هـ ) فكان سلوكه ومجموعة ظروف أخرى من أسباب سقوط الدولة على يد الموحدين سنة 547 هـ 1152م .
لقد كانت دولة بني حماد انفصالا من انفصال . . وسارت في طريقها فكان طريقها على امتداده زاخرا بالمشاكل ، وعلى امتداد هذا التاريخ كانت الحروب شبه دائمة بين الحماديين وقبيلة زناتة وبني زيري .
مضافا إلى ذلك أن هذه الدولة لم تكن لها أهداف محددة ، اللهم إلا هدف البقاء والسيطرة .
وكان كثير من ملوكها يمتازون بالقسوة الشديدة ، بل إن مؤسسها حمادا نفسه استعمل أسلوب الدم كي يبني دعائم دولته .
ولقد دمر مدنا وقرى أمنت لعهده ووثقت في كلماته ، وكان مكروها من جنوده ، وقد تتابع هذا النهج في كثير من أحفاده كبلقين بن محمد ، وباديس ، وبعض أيام يحيى آخر الأمراء .
لقد كان يحيى بن عبد العزيز ( آخر الأمراء الحماديين ) عابثا لاهيا ، وربما كان لهوه ومجونه هذا هو السبب المباشر لسقوط الدولة .
وأيضا من المحتمل أن بروز قوة كبرى في المغرب وهي قوة دولة الموحدين بقيادة محمد بن تومرت ثم خليفته " عبد المؤمن بن علي " يحتمل أن يكون هذا كذلك هو السبب المباشر في السقوط . . لكن مع ذلك يبقى أن كل هذا لم يكن إلا المرحلة الأخيرة في السقوط وهي تلك المرحلة التي تركبها عجلات التاريخ لتقفز بها قفزتها الأخيرة . . أما الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة فتتلخص في سياسة الدولة الخارجية التي كانت أكبر عار في تاريخها وأكبر لطمة في وجهتها إلى نفسها .
فلقد انتهجت هذه الدولة نهجا سياسيا ذاتيا يعتمد على البحث عن النفس حتى ولو سقط العالم الإسلامي كله .
وسقطت تكريت ، وسقطت رودس ، وسقطت صقلية وعاصمتها العظيمة " بلرم " ، وسقطت المهدية عاصمة أبناء عمومتهم في تونس .
سقط كل هذا فلم تتحرك عواطف زعماء هذه الدولة ، بل إنهم كانوا يعقدون معاهدات صداقة مع المسيحيين . ظنا منهم أن للصليبيين عهدا أو شرفا أو أمانة ، وناسين قوله تعالى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " .
ولقد أثبت لهم الصليبيون صدق منطق القرآن فهاجموهم بالرغم من معاهداتهم معهم سنة 524 هـ وهاجموهم في المهدية سنة 529 هـ .
وسقطت دولة الحماديين ، لأن كلمة التاريخ التي هي جزء من سنة الله تقول :
إن الدول كالأفراد ، تتآكل بالتدريج ما لم تبحث عن شملها المبعثر ، أو كما يقول المثل العربي الصادق : " إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " .
وسقطت دولة الحماديين سنة 547 هـ على يد قوة إسلامية جديدة .
والموحدون . . . . . . . . يسقطون
إنك تستطيع أن تنتصر في معركة ، وأن تقهر عدوك وأن تحكم بالموت على مدينة بريئة ، وقد يكون ذلك انتصارا لك ويمد التاريخ في عمرك عدة سنوات ! ! .
لكن . . أن تصنع حضارة وأن تبني دولة تبقى . . أن تمد التاريخ بصناع مبدعين . . أن تفعل ذلك وأكثر منه ، فهناك طريق آخر . . طريق ليس " الدم " من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه .
هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ ! ! .
لكن هذه الحقيقة غابت عن بناة دولة الموحدين التي قامت في المغرب والأندلس قرابة قرن ونصف القرن ( 524 ـ 668 هـ ) .
ومنذ تأسيس هذه الدولة سواء فكريا " أيديلوجيا " على يد زعيمها الروحي " محمد بن تومرت " أو زعيمها السياسي والعسكري " عبد المؤمن بن علي " وأسلوب الدم هو أبرز الأساليب التي اعتمدت عليها هذه الدولة في إرساء دعائمها .
لقد كانت دولة المرابطين هي أبرز الدول التي قامت على أنقاضها هذه الدولة الموحدية . وقد استعمل الموحدون أقسى الوسائل الدموية في تصفية دولة المرابطين التي لم تكن أكثر من دولة مسلمة ، مهما قيل عن حكامها الأخيرين ، وقد أخذوا الناس بجرائر الحكام وقتلوا مع المحاربين والنساء والشيوخ ، وحكموا على مدن بأكملها بالموت . . هكذا فعلوا في " وهران " فقد قتل الموحدون فيها كل من وجدوهم مع المرابطين ، وعندما التجأت جماعات مرابطية على حصن من الحصون قطع الموحدون عنهم الماء فلجأ المرابطون إلى التسليم بعد ثلاثة أيام ، ومع أنهم استسلموا فقد قتلهم الموحدون كبارا وصغارا ، وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ ! ! .
والشيء نفسه أو قريب منه قام به الموحدون عند استيلائهم على مدينة " مراكش " ، فعندما سقطت المدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل الموحدون من أبناء المدينة من الجنود والمدنيين على حد سواء نيفا وسبعين ألف رجل ، ولم يكتفوا بهذا العدد من الرجال ، بل إنهم استباحوا المدينة ثلاثة أيام فاستحر برجالها القتل الذريع هذه الأيام الثلاثة الكئيبة ، لم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره ، وقد قيل إنه عند الانتهاء الأيام الثلاثة وإعلان العفو عن الباقين من الأحياء من أهلها لم يظهر حيا إلا سبعون رجلا ! ! وباعهم الموحدون بين أسارى المشركين .(7/97)
وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة الخاطئة لدولة الموحدين التي نجحت في إنقاذ الأندلس في موقعة " الأرك " سنة 591 هجرية من التداعي وقامت على نحو ناجح بتوحيد المغرب العربي والأندلس . . ومع ذلك بقيت لعنة " الدم " وراءها لقد بقي قانون الله يطالب بالقصاص العادل ، قوانين الله أكبر من أن يحيط بها هذا الإنسان المحدود التصور والرؤية ، لقد قضى الله بعقوبة هذه الدولة من داخلها ، لقد تحول أسلوب " الدم " إلى وسيلة داخلية قتل بها الموحدون بعضهم بعضا . . وخضعوا ـ بذلك ـ لقانون الله الذي لا يتخلف .
ولم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عاما حتى انتكس الموحدون نكستهم التي كانت من أسباب تحطيم الوجود الإسلامي في الأندلس كلها ، وكان ذلك سنة 609 هجرية حين هزموا شر هزيمة في " العقاب " التي أبيدت فيها جيوش الموحدين، وسحق نفوذهم في الأندلس من جرائها ، ومنذ هذا الوقت وصرح الموحدين يتداعى تحت ضربات " الدم " وعلى امتداد خمسين سنة ( 609 ـ 668 هـ ) والموحدون يقضون على أنفسهم بأيديهم في معارك أهلية داخلية . . فالمأمون " الخليفة " الموحدي العاشر ـ والرشيد " الحادي عشر " ويحيى المعتصم " التاسع " ويوسف المنتصر " الخامس " وغيرهم قد استنفدت قواهم في قتال داخلي أباد كثيرا من عناصر الموحدين بل إن جهاز الدولة ، والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل الخلفاء في الآونة الأخيرة . . فتم قتل الخليفة الموحدي " أبي محمد ، عبد الواحد الرشيد " والخليفة العادل " ، بل إن الخليفة المأمون قتل أشياخ الموحدين الذين خالفوه ، وكانوا أكثر من مائة ، فقضى بهذا الأسلوب الدموي على خلاصة الزعامة الموحدية .
ومن خلف مسيرة الدم والعنف بقي قانون الله في القصاص عبرة للذين يعتبرون ، فالدم هو طريق الدم . . أما الذين يحاولون صنع الإنسان أو صنع حضارة فلهم طريق آخر . . طريق آخر كريم ونظيف .
القسم الرابع : سقوطنا في العصر الحديث
* سقوط آخر خلافة إسلامية
* سقوط القومية العربية ( المعادية للإسلام )
سقوط آخر خلافة إسلامية
عندما تتشقق الحضارة تتحول إلى ذرات متناثرة متنافرة ، شأنها شأن الجدار المتداعي الذي أصابه التآكل فتحولت لبناته إلى لبنات منفصلة تسقط عقب بعضها لبنة لبنة .
ويأخذ الانهيار في العملية الحضارية شكلا غريبا . وبدلا من الانسجام الذي كان سمة الحضارة الناهضة تتنافر أجزاء الحضارة الساقطة أو السائرة في طريق السقوط ، ويكاد ينطبق على عملية السقوط التاريخي قول الله ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ) .
وعجيب كل العجب أمر هذا العصر، وليس العجب في هذا العصر كثرة ما بليت به الأمة الإسلامية من هزائم أو انتكاسات . وليس العجب كذلك أن الأمة أصبحت تطلب دواءها من عدوها ، وترفض " الصيدلية والطبيب " الحقيقيين ، كذلك ليس العجب في إصرار عناصر من هذه الأمة ـ بيدهم الأمر ـ على أن يتجنبوا الصواب ـ ويلهثوا وراء طريق الفناء والدمار .
نعم : ليس أمر كل هذا بعجيب . . فعملية السقوط التاريخي تشهد مثل هذه الانقلابات في المعايير .
تشهد انقلاب الحق ـ في العقول ـ إلى باطل ، وانقلاب المعروف ـ في السلوك ـ إلى منكر ، وانقلاب السفلة إلى قادة ، وارتفاع السخافة وانخفاض العلم والنور . . نعم : ليس كل هذا بعجيب في العملية التاريخية .
وإنما العجيب أن تتنكر أمة لليد الكريمة التي أنقذتها ، وأن تبحث جادة عن نفسها، عن طريق لعن الذين أنقذوها لمدة خمس قرون ، كأنها كانت تريد الغرق من قديم . . وبدلا من البحث عن حلول عملية ، وشكر الذين وقفوا معها في دورانها التاريخي والذين تربطهم بها صلات عقيدة وتاريخ وحضارة .
بدلا من هذا تحرف تاريخا لتلعنهم ، وتزيف الحقائق لتحيل إليهم وحدهم أسباب تخلفها . . مع أنها لم تستطع بعدهم أن تتقدم شيئا . بل وقعت في أحابيل أشرار البشر .
كان هذا بالتحديد هو موقف بعض العرب من الدولة العثمانية ، التي حمت الحضارة الإسلامية والعرب خمسة قرون من الزمان ! !
يرجع نسب الأتراك العثمانيين إلى قبائل الغزو التركية في بلاد تركستان ، وعندما اجتاح المغول تركستان لجأت هذه القبيلة التركية إلى جنوب القوقاز حيث توفي زعيمها " سليمان " وتسلم القيادة بعده ابنه ( أرطغول ) الذي أنجب عثمان بن ( أرطغول ) الذي تنتسب الدولة إليه .
وعلى يد عثمان هذا تحولت الجماعات العثمانية من أسلوبها القبلي إلى أسلوب " الدولة " على حساب أملاك الدولة البيزنطية ، وخلف عثمان ابنه " أورخان " سنة 726 هـ واستمر ملوكها يتتابعون " مراد الأول " بايزيد ابنه ، محمد بن بايزيد ، مراد الثاني بن بايزيد ، محمد الثاني " ( ومحمد الثاني هذا هو المعروف في التاريخ بمحمد الفاتح الذي ولي الأمور سنة 854 هـ ( 1451م ) والذي نجح في الاستيلاء على القسطنطينية وقتل الإمبراطور البيزنطي " قسطنطين الحادي عشر " سنة 1453 م فقضى بذلك على الإمبراطورية البيزنطية ) .
في ذلك الوقت كان المماليك في البلاد العربية في حالة اجترار ماضيهم ولم يعد لديهم ما يمكن أن يعطوه للوجود الإسلامي ، وكان رأس الرجاء الصالح قد اكتشف ، وبدأت مصر تفقد جزءا كبيرا من أهميتها ، كما أن قانصوه الغوري لم يستطع إيقاف البرتغاليين الذين بدأوا يسيطرون على البحر الأبيض المتوسط عند حدود احترام الأمة الإسلامية .
وفي عهد سليم الأول سنة 1516م ـ 922 هـ " وزحف على مصر وقتل قانصوه الغوري ( تحت سنابك الخيول ) وشنق طومان باي ـ على باب زويلة ـ بعد أن هزمه سليم في موقعة الريدانية . . واستولى على مصر والشام .
ولم يتوان سلطان الحجاز ، فأرسل مفاتيح الكعبة للسلطان سليم ، وحكم الحجاز باسم العثمانيين . . وفي عهد خليفة سليم الأول ( سليمان القانوني ) دخلت معظم البلاد العربية ( اليمن ـ الجزائر ـ تونس ، مراكش ـ العراق ـ ليبيا ) في حوزة العثمانيين .
ولم تمض أكثر من عشرين سنة على اتجاه العثمانيين نحو البلاد العربية حتى كان المشرق العربي كله خاضعا لهم ، نعم : المشرق العربي الذي كان آيلا للسقوط ومفكك الوصال في مطلع العصر الحديث وبداية النهضة الأوروبية ، والذي لولا ظهور العثمانيين الذين كانوا يخيفون أوروبا ويتقدمون في أراضيها ، لولا ظهورهم هذا لتحول المشرق العربي إلى أرض بكر لمغامرات الغرب الأوروبي الخارج من أوحال العصور الوسطى كما فعل بعد ذلك بأربعة قرون بعد أن أسقط الخلافة العثمانية . . أو بعد أن انتهى مما كان يسميه تهويلا لأمره وخوفا منه : " المسألة الشرقية " .
خمسة قرون في حماية المسلمين :
لمدة خمسة قرون ظلت الخلافة العثماني تؤدي الدور الأول والوحيد في حماية المسلمين والعرب .
والغريب أن هذه القرون الممتدة من القرن الخامس عشر حتى مشارف القرن العشرين لم تحظ من المؤرخين باهتمام كاف ، بل إنها ووجهت بتفسيرات غريبة عنصرية أو جدلية مادية أو شعوبية متطرفة . ولم يحدثنا هؤلاء المتطرفون عن حالة العرب مثلا لو لم تكن هناك دولة عثمانية . أو لم يكن من المحتم أن تقع الدولة الإسلامية ـ والعربية ـ تحت براثن الغزو الصليبي قبل وقوعها المعروف بهذه القرون ؟ ! !
لقد كان الأوروبيون قد سيطروا على البحر الأبيض المتوسط ، وقد نجحوا في إخفاء صوت الشرق ، وبدأ النهضة تنطلق من أوروبا . . من مصانعها ، ومن تطور وسائل التقنية بها ، وتقدم الفكر الاجتماعي والسياسي .(7/98)
ولم يكن بقدرة العروبة النائمة، والتي لم تستطع إلى الآن أن تستيقظ اليقظة المرجوة ـ أن تقف في وجه هذا الزحف . وعلى الرغم من تخلف العثمانيين في بعض النواحي ـ كما هو معلوم ـ فقد كانت قوتهم العسكرية تدوي في أوروبا ، وكانت هذه القوة بالنسبة للأوربيين هي القوة التي لا تغلب ولا تهزم ، حتى إن أوروبا لم تجتمع على مسألة إلا على اجتماعها على المسألة الشرقية أو مسألة التهام الرجل المريض ( الخلافة العثمانية ) . وبالطبع فإن العثمانيين لم يستطيعوا ـ شأنهم شأن العالم الذي كان قد بدأ يدخل في طور عملية انقلاب داخلية جديدة ـ تمهيدا لميلاد جديد ـ لم يستطع العثمانيون ـ بدورهم ـ أن يواجهوا هذه الثورة العلمية الزاحفة .
وكما هي عادة المتخلف حضاريا ، والمتقدم عنصريا وعشائريا . . ذهب العرب . . وذهب غيرهم . إلى رمي الخلافة العثمانية ـ حاميتهم ـ بأنها المسئولة عن تخلفهم الذريع . وعندما ماتت هذه الخلافة موتها الحضاري قبل موتها التاريخي سرعان ما سقط هؤلاء في وهدة الغزو الصليبي ولم تنفعهم عنصريتهم القومية ، ومع ذلك لا يزالون يكيلون للخلافة العثمانية الطعنات .
لقد كانت الدولة العثمانية قوية بلا شك طيلة القرون التي حكمت فيها وإلي بداية اضمحلالها ، فلما بدأت سنوات الاضمحلال تحولت أسباب قوتها إلى أسباب ضعف . وهذا هو الشأن في قوانين الحضارة . . إن عوامل القوة تتحول برتابتها وعدم تجديدها لنفسها إلى عالة على حركة التطور ، ولقد أصبحت الإنكشارية ، وأصبحت وسائل الحرب التقليدية عالة على حركة التقدم العثماني ، وانقلبت العسكرية العثمانية التي قدمت ما قدمت للحضارة الإسلامية إلى عبء تنوء به الدولة . وفي ظل قرون القوة التي عاشتها الدولة تمتعت بأنظمة ممتازة من حكومة مركزية ، إلى مجلس وزراء يرأسه الصدر الأعظم، إلى ديوان سلطاني مكون من الوزراء وكبار الموظفين ، على القضاء الذي يرأسه شيخ الإسلام ، على نواب عن الجيش . أما في الولايات فكان يتولى أمر كل ولاية والي ( الباشا ) الذي يعين من قبل الخليفة ، ويعاونه في أعمال إدارة الولاية ( الديوان ) . أما القضاء فكان يتولاه قاضي القضاة ( قاضي العسكري ) . وقد قسمت الولايات إداريا إلى سناجق ، عين على كل منها حاكم سمي بالسنجق، مهمته الإشراف على شئون الأقاليم والحفاظ على الأمن ، وجمع الضرائب ، وفي كل ولاية كان يوجد حاكم عسكري وحامية عسكرية تساعد الباشا على حفظ النظام والأمن . . .
كانت هذه هي خلاصة تنظيمات الدولة ، وكانت هذه التنظيمات وسائل قوة ، فلما انقلبت دفة الحضارة ، وظهر أن حركة التاريخ لم تكن في صف الدولة العثمانية تحولت هذه التنظيمات من أدوات قوة إلى أدوات ضعف . . وقد ساعد هذا الضعف على تحقيق أغراضه في تعجيز الدولة عن حماية الأراضي الخاضعة لها عدة عوامل :
أولا : ضعف بعض السلاطين وانغماسهم في الترف .
ثانيا : فساد أجهزة الدولة وانتشار الرشوة .
ثالثا : تدخل رجال الحاشية في شئون الحكم .
رابعا : وثمة عوامل أخرى كثيرة عملت عملها في إفساد الحياة السياسية والعقائدية والفكرية . . وجرت على الخلافة الويلات .
خامسا : ومما لا شك فيه أن " الأعداء " الصليبين ، والأعداء اليهود ـ كجماعات الدونما والماسونية ـ لا شك أن هؤلاء جميعا كانوا عوامل إضعاف للخلافة العثمانية .
وكان أكبر عوامل نجاح اليهود والصليبيين في ضرب الخلافة العثمانية الإسلامية . . هو بعثهم لما يسمى بالنزعات العنصرية . القومية ، الطورانية للترك ، والقومية الكردية ، والبربرية وعشرات القوميات المعروفة الأخرى .
وجروا هؤلاء جميعا إلى ترك الخلافة العثمانية في محنتها ، بل جروا إلى ضرب الخلافة والتجمع ضدها تحت قيادات قومية عميلة للجمعيات اليهودية ، وقد نجح بعض أفراد هذه القيادات نجاحا كبيرا في تبوؤ مناصب كبرى ، وبالتالي في ضرب العثمانيين والإسلام في الصميم .
الصراع العنصري كان سببا في انهيار آخر خلافة إسلامية :
تعتبر قصة سقوط الدولة العثمانية من القصص الغامضة التي لا زالت تحتاج إلى الدرس العميق والتمحيص الموضوعي . . ونحاول إجمال أبرز عناصر هذه القصة في هذه السطور . . . . . في خلال القرن الثامن عشر كانت أوروبا تكتل أحقادها للانقضاض على الخلافة العثمانية واقتسام أملاك " الرجل المريض " تركيا ـ وأطلقت على هذه النزعة اسم " المسألة الشرقية " باعتبار تركيا العقبة " الشرقية " الوحيدة التي تشكل خطرا على الصليبية الدولية . وحماية حقيقية لبلاد الإسلام المتناثرة .
ولم يكد ينتهي هذا القرن حتى كانت القوى الصليبية الكبرى في ذلك الوقت " بريطانيا وفرنسا والروسيا " تحاول الوصول إلى صيغة ملائمة للانقضاض واقتسام الغنائم . لا سيما وقد اكتشفوا ضعف الجانب التركي في معركة " سان جوتار " وعلى أبواب " فيينا " عموما . . عندما ظهر تخلف العسكرية العثمانية .
وفي سنة 1798 م كان صبي الثورة الفرنسية التي وقف اليهود وراء مبادئها " نابليون بونابرت " يزحف على مصر ليلقنها بمدافعه وخيوله وتحويله الأزهر الشريف إلى إسطبل لخيوله ، وتدميره القرى والمدن على امتداد الطريق بين القاهرة والإسكندرية . . يلقنها بهذه الوسائل وبغيرها من الوسائل الهمجية الأوروبية كالخمور والتحلل الخلقي وإغراء الخادمات المصريات . . يلقن مصر والعالم الإسلامي أو دروس القومية ، والمدنية والمبادئ الثلاثة الماسونية المزيفة التي رفعتها الثورة الفرنسية ! !
ولم يكد يمضي على ذلك الحادث أكثر من ست سنوات حتى كانت بريطانيا تحاول غزو العالم العربي مستهلة وجودها فيه بغزو مصر سنة 1807 فيما يسمى بحملة فريزر " . . وبين هذه السنوات ، وبالتحديد في سنة 1803 نجح عميل فرنسي في أن يصل إلى الحكم ، ويعلن أكبر محاولة للانفصال عن الدولة العثمانية . . وكان هذا العميل الفرنسي " محمد علي باشا " صدى باهتا رديئا للغزو النابليوني لمصر . . وكما أهان نابليون بونابرت الأزهر ـ بدل إيقاظه لو كان قائد ثورة ، كذلك أهان محمد علي ـ الأزهر وعلماءه ـ وعلى الرغم من أن محمد علي كان مجرد " عبد " مملوك لا ينتمي إلى الدم العربي ، إلا أنه رفع راية القومية باعتبارها السلاح البراق الذي يمكن به ضرب الوحدة الإسلامية والشعور بالمصير الإسلامي الواحد . . ثم يتبع ذلك وضع العرب على انفراد ـ كما حدث فعلا ـ ، ولعل بعث " محمد علي " غير العربي للفتنة القومية لضرب الخلافة العثمانية ـ لمصلحة فرنسا ـ أكبر دليل على حقيقة جذور هذه اللعبة التي اخترعها تطور الفكر الأوروبي في عصر النهضة ، لكي يقضي على الشعوب ذات الوحدة الأيديولوجية كي تنفرد أوروبا بالتقدم وحدها ، بينما تضيع الدول والأيديولوجيات الأخرى في زحمة الانشقاقات القومية والجنسية ، وهذا ما حدث ! !
وبعد أن كانت دولة الخلافة المسكينة تقف على تخوم القرن التاسع عشر تحاول أن تفيق من سكرة لقائها المفاجئ لمنتجات الحضارة الصناعية ، وتحاول أن تبحث عن حل حضاري مضاد . . وجدت دولة الخلافة نفسها متخمة بالمشاكل العنصرية التي أثارها عملاء الغرب . . هؤلاء العملاء الذين أنهكوا قواها ، وحاولوا أن يفرضوا عليها الدواء الأوروبي لعلاج أمراضها دون تبصر بحقيقة أمراضها . وبحقيقة اختلاف بنائها المادي والمعنوي ، ودون وعي بالعلاج الحضاري الناجع !(7/99)
وامتدادا للخروج الشاذ الذي أعلنه المملوك الآبق " محمد علي " ظهرت محاولات أخرى للخروج وقام بها " بشير الشهابي " في لبنان ، وحركات في المغرب العربي ، بل وحركات داخل تركيا نفسها ترفع القومية الطورانية .
هذا فضلا عن حركات الخروج التي سبقت حركة " محمد علي " تحت تأثير دوافع انفصالية مختلفة ، كحركة علي بك الكبير سنة 1773م في مصر ، وحركة الشيخ ضاهر العمر سنة 1775م في فلسطين ، وفخر الدين المعنى في لبنان قبل سنة 1635م . . . . وهكذا . . كانت الدولة العثمانية تعاني من الداخل أشد المعاناة ، وتواجه من الخارج بتحديات صليبية غربية . . ففقدت على الطريق ـ بالتالي ـ أملاكها في أوروبا " هنغاريا ، وبلغراد ، وألبانيا ، واليونان ، ورومانيا وصربية ، وبلغاريا " .
وأكبر الظن أن بعض أتباع " لورانس " في ذلك الوقت قد فرحوا لسقوط هذه البلاد من يد الإمبراطورية الإسلامية الكبرى .
فهذا هو الهدف الحقيقي الذي ساقهم إليه أسيادهم من الصليبيين والماسون ! . .
سقطوا حين ساعدوا على سقوطها :
يدرج بعض الكتاب في العالم العربي على وصف الحركات المناهضة للدولة العثمانية ( بالحركات الاستقلالية ) . . ! !
وهذا التعبير يوازي بين حركات الاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي والفرنسي مثلا وبين حركات التمرد على الخلافة العثمانية . وفي تصور أصحاب هذا التعبير أن الدولة العثمانية لا تعدو أن تكون استعمارا . تماما كالاستعمار الإنجليزي ، وبالتالي يعتبر الانفصال عنها استقلالا ، والانشقاق عنها تحررا دون أية تفرقة بينها وبين الاستعمار الأوروبي .
وهؤلاء الكتاب الذي يفرضون هذه الروح على دراسة ( الخلافة الإسلامية العثمانية ) يتعمدون الوقوع في عدة أخطاء !
أولها : التجاهل التام لوشيجة ( الإسلام ) التي تربط العثمانيين بالعرب ، وهي وشيجة غير متوفرة في الاستعمار الأوربي .
ثانيها : ويتجاهل هؤلاء كذلك أربعة قرون ( أربعة أخماس ) ويذكرون قرنا واحدا هو فترة وقوف الدولة العثمانية في موقف الدفاع عن حياتها ، وتعلقها في سبيل ذلك بأي خيط ، وتخبطها تخبط المشرف على الغرق ! !
ثالثها : وهؤلاء يتجاهلون كذلك أن الانفصال عن العثمانيين كان لحساب الاستعمار الأوروبي ، وأنه هو الذي كان يقوده مغذيا في العرب روح الانفصال لمصلحته ! ! وأن الوعي الديني والقومي الصحيح لو كان موجودا لأوجب التمسك بالخلافة وقيادتها في هذه المرحلة على الأقل كضربة للاستعمار الأوربي ! !
لقد قدمت حركات الانفصال هذه أكبر خدمة للاستعمار الأوربي ، وفي الوقت نفسه جرت على الأمة العربية أكبر الويلات . وكان أكبر ويلاتها مأساة فلسطين ثم ما تبعها من هزيمة سنة 1967م .
ولم يقف أمر خطأ هذه الحركات عند هذا الحد ، بل إنها وقعت في خطأ ( أيديولوجي ) آخر ، فتركيا الإسلامية لم تكن أبدا حين بدءوا ينشقون عنها في مرحلة ( استعمار ) فالاستعمار مرحلة تاريخية معينة بحسب تعريفهم له ، تقف في قمة الهرم الرأسمالي أي أنها مرحلة اقتصادية تعني توفر رءوس الأموال لدرجة تتطلب فتح أسواق جديدة وتوفير أيد عاملة ومواد خام ، فهل كان العثمانيون يعيشون ( مرحلة الاستعمار ) هذه ؟ أم أنهم كانوا بحاجة إلى مجرد إصلاح اقتصادي بداخل تركيا نفسها ؟
إن كثيرا من المصلحين لم تفتهم هذه الحقيقة وعلى رأسهم : " الزعيم مصطفى كامل ـ في مصر ، وعبد العزيز جاويش ، ومحمد فريد ، وغيرهم ، بل إنني أشك كثيرا في أن أكثر الزعماء الإسلاميين الإصلاحيين كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده . . أشك في أن هذه الحقيقة فاتتهم . وما كانت دعوة هؤلاء دعوة انفصالية عن الخلافة ، وإنما كانت دعوة إلى إصلاح أمر الخلافة الذي كان يميل إلى التداعي بفعل مؤثرات خارجية كثيرة ، ومؤثرات أخرى داخلية .
وقد وقعت هذه الحركات في خطأ آخر كبير .
فمنذ أواخر القرن التاسع عشر أخذت الحركة الصهيونية التي بدأت تأخذ شكلا تنظيميا واضحا مرتكزا على الأيديلوجية " الصهيونية " محاولة الوصول إلى أهدافها في إقامة دولة يهودية .
وفي سنة 1897م ( والسلطان عبد الحميد رحمه الله ـ هو الحاكم ) عقد المؤتمر الصهيوني بزعامة هرتزل في مدينة " بال " بسويسرا وهو المؤتمر المعروف باسم " مؤتمر بال " ووضعت خطة إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين .
وقد حاول الصهاينة بقيادة هرتزل إقناع ( السلطان عبد الحميد ) العثماني عدو القوميين العرب ـ بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين . . فرفض السلطان رفضا قاطعا ولم يكتف بهذا ، بل وأصدر قانونا بمنع الهجرة اليهودية وبمنع إقامة مستعمرات لليهود في فلسطين .
وكان هذا هو ( قشة البعير ) كما يقولون التي قصمت ظهر الرجل المظلوم ، فقد حرك الصهاينة . . حركات التحرر والحركات القومية ، والاستعمار الإنجليزي ، ووجدت الإمبراطورية العثمانية نفسها أمام طوفان من المشاكل لا ينتهي ، كان أشدها وأبعدها أثرا حركات التمرد الداخلي ، ومن الغريب جدا أن يكون مشعلو الثورات ضد الخلافة الإسلامية في داخل البلدان العربية من الطوائف الإسلامية أو الإسلامية المتطرفة التي تحركها أيديولوجيا وحركيا ـ أيد أجنبية ، لكن مع ذلك ، وبتأثير شعارات براقة صنعها اليهود ، بتأثير هذا وغيره من الوسائل اندمج في هذه التجمعات المضادة للخلافة بعض العناصر الإسلامية .
ولم تأت سنة 1918م إلا وكان السلطان عبد الحميد المظلوم قد سقط ، ووقعت جميع الأٌقطار العربية كمناطق نفوذ لبريطانيا وفرنسا . . وأيضا صدر ( وعد بلفور ) المشئوم في 2 نوفمبر 1917م ، وبدأت فلسطين تقع تحت الظروف الممهدة للزوال ، وكانت أولى الخطوات في ذلك وقوعها تحت الانتداب البريطاني في عام 1920م .
وبين الحربين العالميتين " 1918م ـ 1939م " كان التطبيق العملي للمؤامرة العالمية ، وأيضا في الجانب الآخر الحركات الداخلية الممتصة للطاقة والمبددة لها والصارفة عن الخط الحقيقي لاستهلاكها . . كان ذلك كله يعمل على سقوط الخلافة
العثمانية ، وسقوط العرب بدءا من فلسطين ! !
وطوى اليهود . . آخر صفحاتنا المشرقة !
كان رفض السلطان العظيم " عبد الحميد " تهويد فلسطين لطمة لم ينس اليهود أن يردوها للخلافة ردا سخيا لم يكن بوسع السلطان عبدالحميد أن يتخيله ! 1
فإلى جانب ما ذكرناه من تحريك للقوى المناوئة للدولة ، ومن غرس لبذور الفكرة العنصرية المحاربة للراية الإسلامية الموحدة لربع البشر ! !
إلى جانب هذا . . هجم اليهود من الداخل على الدولة العثمانية بواسطة الأسلحة نفسها التي استعملوها في كل بلدان العالم الإسلامي، وهي أسلحة العنصرية والتحضرية، والحرية ، والإخاء ، والمساواة . . وهلم جرا من الشعارات التي اصطنعها الماسون ، وروجوا لها ، واستعملوا بعض المخدوعين لإذاعتها وتفتيت راية الأمة وقبلتها وأهدافها ! !
وكانت جماعة تركيا الفتاة ثم الاتحاد والترقي هما الأداتين اللتين سخرهما اليهود وطوعوهما لهذا الغرض . وكانت الكاتبة " خالدة أديب " إحدى المروجات على المستوى الأدبي والفكري لفكرة القومية الطورانية ، بينما كان زعماء تركيا الفتاة هم المنفذون على المستويات الأخرى لعملية إحداث الانقلاب نحو تخلي تركيا عن هويتها ورسالتها الإسلامية . .
وقد أقحم هؤلاء تركيا في الحرب العالمية الأولى دون مبرر معقول أو سبب يتعلق بها . فلما هزم الألمان ، أذعنت تركيا للهزيمة بنفسها ، وسجل رسميا سقوط الكرامة العثمانية الإسلامية بهدنة رودس في 1918م .(7/100)
وقد غادر زعماء تركيا الفتاة البلاد ، فقصد أحدهم " أنور باشا " روسيا ، وقصد " طلعت باشا " ألمانيا ، ولقد شاء الله أن يقتص منهم قصاصا دنيويا عاجلا ، فلم يلبث " أنور باشا " أن قتل اغتيالا في تركستان ، وأن يصرع طلعت في برلين ، ويغتال جمال في تفليس " أما الكاتبة خالدة أديب . . التي طال بها العمر فترة . . فلم تلبث أن طردت شر طردة ، من تركيا بعد خلاف حاد بينها وبين الزعيم اليهودي الكبير مصطفى كمال أتاتورك ! !
ولم تكد الحرب العالمية الأولى توشك على الانتهاء حتى كانت الدول الأوروبية قد أتمت المسرحية الهزلية . . لاقتسام أملاك الخلافة الإسلامية الأخيرة ، ولإبراز رجل ينفذ مخططاتهم وأطماعهم بحذافيرها . . وعلى الرغم من أن الكتابات الاستشراقية والكتابات الصليبية واليهودية والشيوعية تجمع على إخفاء هذه الحقيقة ، فإن الأحداث بطبيعة تطورها تثبت هذه الحقيقة ، ويكاد يصرح بهذه الحقيقة المستشرق " كارل بروكلمان " على الرغم من ذكائه الحاد في تطويع الحقائق ، وبترها وإضفاء جو إنشائي حماسي عليها ، نعم ، يكاد يصرح بهذا في كتابه الشهير " تاريخ الشعوب الإسلامية ـ الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى " وهو يقول : " عند ذلك . . هيأت الدول الحليفة لتركيا ـ لاحظ الحليفة ـ الفرصة السانحة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركية الحديثة ـ يقصد اليهودي الدونمي أتاتورك ـ " ولنا أن نتساءل : أي دول حليفة لتركيا تلك التي حولتها من زعيمة روحية ـ على الأقل ـ لربع البشرية إلى دولة هزيلة تعيش بلا ماض وبلا حاضر وبلا مستقبل ؟ وأي دول هذه التي ساعدت هذا اليهودي على إلغاء الحروف العربية ، وإزالة الأوقاف ، وإغلاق المساجد ، وقصر علماء الدين على ثلاثمائة واعظ في طول البلاد وعرضها ، وتحويل مسجد " أياصوفيا " الشهير إلى متحف ، ومسجد محمد الفاتح إلى مستودع ، وإلغاء الشريعة الإسلامية ، واستبدال القبعة بلباس الرأس الوطني السابق " الطربوش " وفرض اللباس الأوربي بالقوة ،وحذف اللغة العربية واللغة الفارسية من مناهج التعليم بالمرة ، وبيع الكتب والمخطوطات العربية بأبخس الأثمان ، فضلا عن التعليم العلماني الأوروبي ، ليس في المجال التقني كما يجب أن يكون ، بل ـ فقط ـ في المجال الإنساني والأدبي والديني ! .
إن إلغاء الخلافة الإسلامية وإعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر سنة 1923م ، وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك من قبل جمعية لقبت نفسها " بالجمعية الوطنية " ، إن هذا كله لم يكن يعني سقوط تركيا الإسلامية في الحقيقة ، فكم من شعارات براقة زائفة ترفع ثم لا تلبث أن تزول . لكن تمكن الأتاتوركي " الغازي " من السيطرة على البلاد ، بمساعد ( الدول الحليفة لتركيا ) كما يقول بروكلمان وأمثاله ، ثم الاجراءات الخطيرة التي ذكرناها والتي اتخذها أتاتورك بعد ذلك .
هذه في الحقيقة كانت الإلغاء الحقيقي لتركيا الإسلامية وللخلافة العثمانية .
ولم يكن الخليفة العثماني محمد السادس الذي عاصر هذا الانقلاب ، كما لم يكن الخليفة الذي وضعه الانقلابيون مكانه عبد المجيد بن عبد العزيز " لم يكن هذا وذاك أكثر من تحفتين تاريخيتين . . تحملان معالم صورة هزيلة مهتزة ، لحقيقة كانت ـ يوما ما ـ عظيمة قوية ترعب أوربا كلها .
ومع ذلك فلقد أدرك مصطفى كمال الدونمي اليهودي أن البقاء الرمزي الصوري لهذه الحقيقة القوية العظيمة يشكل في حد ذاته خطرا على مخططاته الصهيونية . . ولذا فلم يكد يملك السلطة في يده ويتربع بتؤدة على عرش السيطرة لمدة خمسة أشهر ، حتى أعلن إلغاء الخلافة الإسلامية ، ثم طرد آخر خليفة للمسلمين من البلاد في اليوم الثالث من مارس سنة 1924م .
ولعل العقلاء وحدهم هم الذين يسألون : ماذا استفادت تركيا من هذه الخطوة ؟ وماذا كان يمكن أن تكسب لو أنها مضت في طريق الإصلاح مبقية على مركزها كزعيمة روحية إذا كانت هناك نية إصلاح حقيقية ؟ .
ولعل هذا وذاك يفسران للعقلاء وحدهم أن هناك أمرا كان مبيتا ، وأن العالم الإسلامي والعالم العربي كانا من الأهداف الرئيسية لضرب الخلافة الإسلامية ، ولم تكن أبدا تركيا هي المقصودة وحدها .
وفعلا تداعت تركيا وسقطت ، فلم تقم لها قائمة حتى اليوم وتداعى بعدها ومعها العالم الإسلامي بلدا بلدا ، وفكت أواصر الحب والوحدة . . ونال العرب حظهم من كل ما أصاب العالم الإسلامي . . ولعل الأقدار قد لقنتهم أقسى الدروس ، حين زرعت في قلبهم شوكة الصهيونية .
تؤرق مضجعهم ، وتنتقم للخلافة الإسلامية وتطلعهم بجلاء على حقيقة كمال أتاتورك ، وحقيقة مخططاته . . وأيضا على حقيقة الذين ساروا على هدى أتاتورك في فلسطين العربية وفق انقلابات يقف وراءها اليهود مستترين في كلمات الشيوعية أو الحرية أو " القومية " . . ليزرعوا في القلب العربي أشواكا أخرى ! ! .
سقوط القومية العربية
بعد سقوط آل عثمان على يد جمعية الاتحاد والترقي وسادتها اليهود ـ يهود الدونما ـ تفككت أوصال العالم الإسلامي . . ونجح ساطع الحصري ـ وهو رجل أعجمي لا يستطيع الكلام بالفصحى ويضمر عداء شديد للإسلام بتأثير تربيته الصهيونية ـ نجح هذا الرجل في نشر فكرة القومية بمفهومها العلماني الإلحادي المعادي للإسلام بين العرب .
وكانت إنجلترا ـ سيدة العالم آنذاك ـ قد ساعدت على إنشاء ما يسمى بجامعة الدول العربية ، وهي مؤسسة لم ير منها العرب خيرا ، ولم تسهم في حل أية مشكلة ، أو في تحقيق أي تقدم للعرب في حاضرهم الأسيف ، وحسبها أنها فصلت العرب ـ رسميا ـ عن العالم الإسلامي وأشعرتهم بكيان مستقل وهمي .
وفي ظلال المد العربي ـ على يد حفنة من الثوريين والمقامرين الشبان ـ خسر العرب جزءا كبيرا من أرضهم ، وساحت في بلادهم دويلة يهودية ، ودرعها الغرب بأحدث الأسلحة . . والمعارف . . والخبائث الأخلاقية .
وأما هذه الدويلة الهزيلة التي لا يزيد سكانها عن 1 / 35 من سكان العرب ـ سقط القوميون العرب أبشع سقوط . .
وكان المقدمة الطبيعية لنجاح هذه الدويلة أنها ساعدت هؤلاء القوميين الثوريين وحدهم على الصعود إلى الحكم ، لأن وجودهم هو وحده الكفيل بتحقيق ما تريد إسرائيل من ضمانات بقائها التي أهمها :
1 - إبعاد العرب عن عقيدة جامعة روحية تقاوم اليهودية التي يتسلحون بها .
2 - ضمان إبقاء الأمة العربية في حالة استيراد دائم ، لأن الذين لا عقيدة لهم لا يستطيعون إبداع شيء ذاتي .
3 - ضمان تفكك العرب ، تفككا دائما ، لأن هؤلاء القوميين والثوريين مجرد شبان مغامرين ، لا رصيد لهم من عقيدة أو أصلة أو وعي تاريخي، ومن السهل تلقينهم بعض شعارات . . أو ( شعارات مضادة ) يصرخون بها ، وتضيع معها عقولهم وعقول الجماهير التي يقودونها .
وقد قامت هذه القوى الحاكمة الثورية بالواجب نحو العرب وإسرائيل على النحو المرسوم لها :
1 - فصادرت حريات المواطنين وإرادتهم ، بحيث لم يعد للشعوب العربية من الأمر شيء وأصبحت هذه الشعوب نسبة عددية مهيأة تقوم بالموافقة للحكام على كل شيء بنسبة ( 99 . 999% ) وهي تقوم بالتصفيق الحاد لكل خطيب ، وتؤيد كل القرارات .
2 - أعلنت هذه الحكومات الحرب على الإسلام وقد نجحت هذه القوى في إبعاد الإسلام عن مجال التأثير تماما . . على الأقل في مستوى توجيه الأمور وقيادتها .(7/101)
ففي عصر الطاغية جمال عبد الناصر ، أمكن من جعل الصلاة شبهة ، وقراءة القرآن من طالب جامعي أمرا يضعه في القائمة السوداء ، وأمكن نشر الرعب ، وفرض الشيوعية ، حتى قضى الله عليه ، وخلص البلاد من شروره ، بعد أن خلف تركة أخلاقية ومادية وهزائم تحتاج لأجيال طويلة كي تزال آثارها . . وهيهات ! !
ولما جاء خلفه أمكن تحوير الأسلوب بعض الشيء ، ووضع على رأس العمل الإسلامي المتصوفة والدجالين وحدهم ، كما ظل الخط الراعي للتحلل الأخلاقي في طريقه ، وعومل الإسلاميون وحدهم بقوانين استثنائية وعسكرية .
ـ أما حزب البعث بجناحيه السوري والعراقي فعداؤه للإسلام وتنكيله بأهله وفقا لتوجيهات الصليبي الحاقد ميشيل عفلق ـ أمر مقرر كجزء من سياسة الحزب وأساسياته الفكرية والحركية .
3 - نجحت أساليب هذه النظم في الوصول إلى النتيجة الطبيعية ، وفي إقرار قواعد إسرائيل عسكريا وسياسيا ، كدولة ذات سيادة تفصل العالم العربي عن بعضه البعض ، وتقف بالمرصاد لأية بادرة نهضة حقيقية سواء في مجال البعث الإسلامي والوحدة العربية الإسلامية .
وأصبحت إسرائيل بفضل هذه النظم ، التي قتلت شعوبها وشلت قواها ـ كابوسا ثقيلا يؤمن أكثر أبناء هذا الجيل ـ باستثناء المؤمنين منهم ـ بأن زواله أمر شبه مستحيل .
وكان هذا هو حصاد التخطيط العالمي الصليبي الصهيوني الشيوعي الثوري . . القومي المشترك ! !
ولأنهم بلا عقيدة . .
ولأن القومية شعار لا يصلح لصناعة حضارة ولا لإيجاد وحدة جامعة شاملة .
ولأن التبعية الفكرية أوسع أبواب التبعية العامة التي تفرض الهزيمة والذل .
لهذا ولغيره أصبح العرب أشبه بدول عظمى ، الوحدة بين الدول العربية والأخرى أصعب من الوحدة بين الدولة العربية وإسرائيل ، أو الوحدة بين بعضها وأمريكا . . أو روسيا . . كما هو قائم فعلا .
لقد أصبح معظم العالم العربي دولا متقطعة الأوصال ، أسيرة نظم يمينية وأخرى يسارية وليس للإسلام نصيب فيها سياسيا أو إداريا . وقد تمزقت وسائل التوحيد كلها ، فلا تكامل اقتصادي ، ولا تكامل اجتماعي ، ولا تنسيق سياسي ، أو إعلامي ، وهلم جرا .
وهم كأسلافهم سلالة " أبي جهل " يتقاتلون لأتفه الأسباب ، ويقطعون العلاقات بلا مبرر كاف ، ويسيرون في طريقهم دون مشورة وتكامل ، بل كل حسب مصالحه وتوجيهات سادته . . وقد أصبح العربي لا يأمن على نفسه في أي بلد عربي آخر ، بل أصبحت بلاد الغرب هي المثوبة والأمن ، كما أن الملجأ والأمن لأموالهم هي بنوك اليهود في أمريكا وأوروبا ، والمنتجع لتعليم أبنائهم ولاستراحاتهم وجولاتهم هي مرفأ الأمن والحرية . . أوربا العظيمة . . وتقوم بينهم الحواجز الجمركية وإجراءات الزيارة والإقامة بدرجة تجعل زيارة الدول الأوربية أسهل من زيارة عربي دولة عربية أخرى .
وقد بلغ الانحطاط بالعرب إلى أن صنفوا أنفسهم طبقيا على جنسيات مختلفة تفصل بعضها بعضا ، فبعض دول الخليج تصنف الشعوب العربية على هذا النحو :
1 - خليجي درجة أولى ( وله سائر الحقوق السياسية والمادية ) .
2 - خليجي درجة ثانية ( وله الحقوق المادية فقط )
3 - إيراني ( وله حق الحصول على الجنسية بعد فترة وجيزة ) .
4 - عراقي
5 - سوري
6 - فلسطيني وأردني
7 - مصري . . وهكذا ! !
. . وهكذا . . تتوالى التصنيفات التي تتبعها حقوق مادية غير متكافئة ، بالرغم من تساوي المؤهل والخبرة ، كما يتبعها احترام بقدر الدرجة الطبقية المحددة .
لقد انحطت القومية العربية بالعرب إلى أسفل سافلين ، ومن الغريب أنهم على الرغم من درس لبنان ، ومن درس فلسطين ، ومن الدروس المتكررة التي يلقنها لهم الاستعمار ولا يتعلمون ، فإنهم إذا تخاصموا لا يلجئون إلى العلاج إلا بإثارة النعرة الإقليمية الوطنية الضيقة . . ( مصر للمصريين ـ الهلال الخصيب ـ وحدة المغرب العربي ) . . فبدلا من أن يبحثوا عن دين يغير نفوسهم وأخلاقهم ، وبدلا من البحث عن مركز آخر للوحدة في عصر " الوحدات الكبرى " ـ ( الأمريكتان ـ السوق الأوربية المشتركة ـ دول حلف وارسو ـ الكتلة الشرقية ـ الكتلة الغربية ) . . بدلا من هذا ينزوي كل منهم كأطفال ، مكتفيا بلعبة الوطنية . . ممزقا شمل العرب تمزيقا جديدا .
وعلى أية حال . . فكما سقطت النزعة الوطنية ، وأقام الاستعمار النزعة القومية بديلا للوحدة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبدالحميد . وكاد يقضي بها على مخططات الاستعمار وينقذ العالم الإسلامي كله ، حتى جاء " جماعة الاتحاد والترقي " وأعوانهم من الماسون في العالم العربي . . فقضوا على الخليفة المجاهد العظيم .
أجل . . كما سقطت النزعة الوطنية بعد فترة تاريخية حالكة ـ نسجل هنا . سقوط القومية العربية ) بعد فترة تاريخية ثورية لا تقل حلكة وظلاما عن الفترة الاستعمارية ! !
ولم يبق إلا الحل الحضاري الشامل . . الإسلام ! !
===============
تعَرَّف على الإسلام
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، وبعد
فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، حيث أرسل الله رسله وأنزل كتبه بدعوة جوهرها واحد، وهي الدعوة إلى توحيده وعبادته والتمسك بطيب الاخلاق وحسن السلوك.
ولما بعث الله محمداً r أمره بما أمر به إخوانه من الانبياء، وأرسله إلى الناس أجمعين، وارتضى دينه للعالمين ديناً، فكمل به الدين، وتم ببعثته الفضل العميم.
ولأن الإسلام دين الله الخاتم، فقد امتاز بخصائص ذاتية جعلته في الماضي وتجعله اليوم أسرع الأديان انتشاراً على وجه الأرض، فقد غطى الإسلام نصف الأرض بحضارته، وتسابقت الأمم إلى الدخول فيه لما قرأت فيه من توافق مع الفطرة ومواءمة مع العقول، وسماحة في المعاملة، ويسر في المعتقد.
لكن هذا النجاح الذي حققه المسلمون بإسلامهم دفع البعض للإساءة إلى الإسلام ، فما من دين ولا نحلة أصيب بما تعرض له الإسلام العظيم من تشويه أسهمت به جيوش من المفكرين الذين تعمدوا أحياناً الإساءة إليه بطمس حقائقه وإلصاق النقائص به زوراً وبهتاناً، بينما أخطأوا في أحيان أخر في فهمه، فانحرفوا بعيداً عن حقائقه وأصوله.
ولسنا نبرئ أنفسنا نحن المسلمين من الإساءة إلى ديننا بتصرفات بعضنا التي يبرأ منها الإسلام الذي أضحى أسيراً بين مطرقة أعدائه وسندان جهل محيط ببعض أبنائه.
والواجب على العاقل الحصيف إذا ما أراد التعرف على دين ما؛ النظر في أصوله بعيداً عن تصرفات أبنائه واتهامات أعدائه، فما من دين ولا فكر إلا ويوجد خطأ وجنوح في بعض المنتسبين إليه، من غير أن يجنح أحد إلى تعميم الأحكام، فالحكم على الهيئات فضلاً عن الأديان إنما يرجع فيه إلى الأصول، لا إلى السلوك الأرعن أو الخاطئ من بعض الأتباع، لذا كان من الواجب أن نفهم الإسلام كما هو، كما أنزله الله بعيداً عن الأحكام المسبقة المثقلة بأوهام الاستشراق وإفكه.
وإذا أردنا التعرف على الإسلام عن طريق أصوله؛ فإنا لن نجد مدخلاً أفضل من تدبر الحوار الذي جرى بين جبريل عليه السلام أمين الوحي من أهل السماء، والنبي محمد r أمين الوحي من أهل الأرض، حيث أتى جبريل النبي r فسأله عن مراتب الدين، ليُسمع الصحابة إجابته، فيفقهوا دينهم، قال جبريل: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله r: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله r، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقت. قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه!.(7/102)
قال جبريل: فأخبرني عن الإيمان؟ فأجابه r : ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال: صدقت.
قال جبريل: فأخبرني عن الإحسان؟ فقال r: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).(1)
فهذه أصول الإسلام بإجمال، فأي شيء يعاب منها؟
ولسوف نشرع في التعريف والتفصيل في شرح هذه الأصول ، لنقف على الأبعاد الأخلاقية والحكم الإلهية في تأسيس الإسلام والإيمان على هذه القواعد.
كما سنعرض بالشرح والبيان لكشف حقيقة ما يردده البعض عن اتهام الإسلام بالإرهاب والحض على الكراهية، وبأنه ظلم المرأة وعطل طاقتها، فنجيب في هذا الصدد عن بعض ما يثار عن الإسلام، ونهديه لمن أراد التعرف على الإسلام عن طريق أصوله ومبادئه.
ونتقدم بهذه الرسالة التي تبتغي منها التعريف بالحق الذي انشرحت به صدورنا، وارتضته عقولنا، فهي دعوة للتامل في تعاليم الإسلام ثم اللحاق برهط المؤمنين الفائزين عند الله ?إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ^ جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ? (البينة: 7-8).
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الإسلام وأركانه
وقبل الشروع في تبيان حقائق الإسلام وأركانه؛ فإن من الواجب أن نتحدث عن اسم (الإسلام).
لفظة الإسلام في اللغة مصدره أسلم يسلم، ومنه السلامة والسلام.
وحين نتحدث في هذه الدراسة عن الإسلام، فإنا نعني الدين الذي أنزله على نبيه محمد r، وسماه بذلك لما تضمنه من الدعوة إلى الاستسلام لله وحده والانقياد والخضوع بالطاعة .
وهذا الاسم لا يستمد اسمه من اسم نبي أو وطن، بل مشتق من خصيصته الأساس التي لم تفارقه في طور من أطواره طوال تاريخ الإنسانية، فهو الاستسلام لله تبارك وتعالى وحده دون سواه.
والإسلام هو دين الله الذي أنزله على جميع الأنبياء، فقد دعوا جميعاً إلى أصول واحدة، تقوم على توحيد الله وتعظيمه وعبادته والاستسلام لأوامره والخضوع لأحكامه والدعوة إلى حراسة فضائل الأخلاق والارتقاء بالسلوك الإنساني.
وأما ما نجده اليوم من تباعد واختلاف بين أتباع الأديان؛ فسببه اندراس الحق وما مرج في رسالات الله السابقة من الباطل.
وقد أطلق الله هذا الاسم الشريف (الإسلام) على المؤمنين في كل حين، كما قال تعالى: ?هو سماكم المسلمين من قبل? (الحج: 78)، لأن المسلم - المؤمن بأي نبي من أنبياء الله - يمتثل حقيقة الإسلام، فيستسلم لله، وينقاد له بالطاعة، ويقف عند حدوده وشرائعه.
فأبو الأنبياء نوح عليه السلام يقول لقومه: ?وأمرت أن أكون من المسلمين? (يونس: 72).
وما فتئ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام يدعوان الله أن يجعلهما من المسلمين: ?ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك? (البقرة: 128).
وقبيل وفاة يعقوب عليه السلام جمع أبناءه، وأوصاهم بالاستمساك بملة إبراهيم الحنيف المسلم ?إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ^ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ^ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون? (البقرة:131- 133).
كما طلب موسى عليه السلام من قومه الإذعان لمقتضيات الإسلام الذي دخلوا فيه، فقال: ? يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين? (يونس : 84)، فاستجاب لندائه سحرة فرعون وقالوا: ?ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين? (الأعراف: 126).
وبمثل هذا دعا يوسف عليه السلام ربه حين طلب من الله أن يميته ويحشره مع المسلمين الصالحين: ?توفني مسلماً وألحقني بالصالحين? (يوسف: 101).
ولما دخلت ملكة سبأ بلاط سليمان، ورأت علامات نبوته؛ نادت بنداء الإيمان فقالت: ?رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين? (النمل: 44).
وقد أوضح خاتم النبيين محمد r وحدة دين الأنبياء فقال: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)).(2)
وهكذا فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، بني على أساس واحد يدعو إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة، والاستسلام لأوامره، فهو الإسلام دين الله تعالى: ? إن الدين عند الله الإسلام ? (آل عمران: 19)، وهو الدين الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه ? ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين? (آل عمران: 85).
وقد صدق الله إذ قال لنبيه r ?قل ما كنت بدعاً من الرسل? (الأحقاف: 9) فأصول جميع ما أتى به النبي r قد سبقه إلى الإتيان بها إخوانه من الأنبياء ?إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبوراً? (النساء: 163).
أركان الإسلام
إن الإسلام بنيان كبير يشمل الحياة الإنسانية برُمتِّها، وهو يقوم على أركان خمسة، ويوضحها النبي r بقوله: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).(3)
وسوف نمضي سراعاً مع هذه الأركان ومقاصدها، ونتجاوز تفصيلاتها وأحكامها التي يمكن للقارئ أن يطلع عليها في مظانها من كتب التوحيد والفقه.
الركن الأول: الشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله محمد r بالرسالة
أولاً : الشهادة لله بالتوحيد
إن أهم مسألة توافق الأنبياء على الدعوة إليها وتعريف الناس بها؛ هي الشهادة لله رب العالمين بالوحدانية، والتعريف بصفات الإله العظيم الذي أبدع الكون وخلقه على هذا النسق المذهل العجيب، ومن ثم التأكيد على استحقاقه وحده للعبادة دون سواه.
وبداية؛ فإن مسألة إثبات وجود الله لم تشغل حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، ذلك أنها قضية بدهية وحقيقة يجدها المسلم وغيره في أعماق كيانه، فكل شيء في هذا الكون المحيط بنا يدعونا - ضرورة - للاعتقاد الجازم بوجود خالق حكيم مدبر متصف بصفات الكمال، فكل مخلوق حولنا هو في حقيقته شهادة لله على وجوده، بل على عظمته وكماله.
إن البشرية لم تنكر يوماً وجود هذا الإله -وإن اختلفت في تسميته ووصفه - ، فقد اتفقت معتقداتها على وجود خالق مبدع للكون، سماه البعض بواجب الوجود الذي أوجد هذه الممكنات جميعاً.
وحتى ما يسمى بالمذاهب المادية الإلحادية هي في حقيقتها لا تنكر وجود هذه القوة الإلهية التي نسجت الكون وفق قوانين محكمة، بيد أنها هربت من الاسم الذي تدعيه الكنيسة لهذه القوة العظيمة (الله)، ونسبتها إلى تسمية مبتدعة تفتقر إلى الوضوح (الطبيعة وقوانينها)، فاسم الطبيعة لا يدل على شيء محدد، إذ لا يمكن أن يفهم منه أن الإنسان الأول خلق نفسه وهو أحد مكونات الطبيعة، ولا أن ما نراه من بحار زاخرة قد أبدعت نفسها في زمن ما، بينما عمدت الطيور والحيوانات إلى إنتاج الأجناس الحيوانية الأولى، بل وحتى المخلوقات الأبسط كالبكتيريا لا تستطيع أن تهب نفسها وقود الحياة الذي يدبُّ فيها.(7/103)
إن أحداً لا يخالف في أن هذا الكون من خلق وإبداع خالق عظيم حكيم، هو ربنا ?الأعلى ^ الذي خلق فسوى ^ والذي قدر فهدى? (الأعلى: 1-3)، ولو صدقوا في تسميته لأسموه خالق الطبيعة ومدبر شؤونها ?أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون ^ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ^ أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون? (الطور: 35-37).
ولما سمع الصحابي جبير بن مطعم هذه الآية قال: (كاد قلبي أن يطير).(4)
إن الإلحاد المتمثل في إنكار الخالق شذوذ يستبشعه العقل البشري وتأباه الفطرة السوية، فما الإنسان بخالق نفسه، وإذا كان الإنسان الذي يتميز عن كل الموجودات بما يمتاز به من العقل والإرادة والتسخير عاجزاً عن خلق نفسه؛ فغيره من المخلوقات أعجز، لذا فلا مناص من التسليم بوجود الإله العظيم ، ففي كل زاوية من زوايا الكون آية تدل على وجوده، لا بل تشهد له بالكمال والجلال والعظمة.
وأهم ما توافق الأنبياء على الدعوة إليه؛ وحدانية الله وإفراده بالعباده دون سواه، فهو جوهر رسالاتهم جميعاً ?وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون? (الأنبياء: 25).
وسجل القرآن الكريم مضمون هذه الدعوة على لسان عدد من الأنبياء، فهاهم رسل الله - نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم - يقولون بلسان واحد: ?يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره? (المؤمنون: 23)، (هود: 50، 60)، (الأعراف: 85).
وكما دعا الأنبياء إلى توحيد الله الواحد؛ فإنهم حذروا أقوامهم من الشرك - سواء أكان المعبود مع الله بشراً أم حجراً أم حيواناً أم ملاكاً - لأن الله أوحى إليهم جميعاً بذلك ?ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ^ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين? (الزمر: 65-66).
وكان المسيح عليه السلام من هؤلاء الأنبياء الذين حذروا أقوامهم من الشرك: ?وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار? (المائدة: 72).
ولما كانت معرفة أسماء الله وصفاته تعجز عن التنبؤ بها العقول وتحار في إدراكها الأفهام وتختلف؛ فإن الله تبارك وتعالى - بمنِّه وفضله - خلّص البشرية من حيرتها، فعرّفها بأسمائه وصفاته حين بعث بوحيه أنبياءه وأنزل على العالمين كتبه، فكان أهم ما حملته النبوات إلى الإنسانية تعريفها بخالقها.
وقد ذكر الله في كتابه الأخير، القرآن الكريم، أن له تبارك وتعالى أسماء حسنى، غاية في الحسن والجلال والكمال ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى? (طه: 8)، وهي تدل جميعها على ذات واحدة يدعوها المسلم في صلاته ودعائه ?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها? (الأعراف: 180).
ومن أسماء الله الحسنى ما جاء في قوله تعالى: ?هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ^ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ^ هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم? (الحشر: 22-24).
وهذه الأسماء الإلهية مع دلالتها على الذات الإلهية فإنها تثبت لله تبارك وتعالى غاية ما تدل عليه من أوصاف الكمال والتنزيه ، فهو الملِك الذي لا نِدَّ له في ملكه، وهو الحكيم الذي لا يُدانى في حكمته، إنه الله العظيم الذي جلَّ عن النظير والمثيل والشبيه ?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير? (الشورى: 11)، وهو الله الواحد الأحد ? قل هو الله أحدٌ ^ الله الصمد ^ لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحدٌ ? (سورة الإخلاص)، ?فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون? (النحل: 74).
إن الإيمان بالله الموصوف بصفات العظمة والكمال يهذب السلوك الإنساني، حين يستحضر معية الرب له، فيعلم باطلاع الرب عليه، وهو العليم المحيط القادر على كل شيء، فيستحي المؤمن به أن يراه ربه ومولاه على حال المعصية؛ وهو القوي ذو البأس والبطش الشديد، وأولى منه أن نعبده ونسعى في مراضيه، لنفوز بجنته وعظيم جزاء الرب العفو الغفور الكريم الودود.
وهكذا فالمؤمن يستقيم سلوكه خوفاً من الله وعقابه، وطمعاً في ثوابه وجزائه، وهذا هو حال المؤمنين الذين امتدحهم ربهم ?إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين? (الأنبياء: 90).
إن المسلم حين يؤمن بالله الواحد الخالق الرازق الذي بيده مقادير الأمور؛ فإنه يلجأ إليه وحده في السراء والضراء، في الصغير من أموره والكبير، ليقينه بمعية الله تعالى للمؤمنين وقربه منهم وإطلاعه على سرائرهم وأعمالهم، وأنه تعالى وحده القدير الذي بيده مقاليد الأمور ? إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ^ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون? (يس: 82-83)، وهو تبارك وتعالى الذي ? له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيءٍ عليمٌ? (الشورى: 12).
فإذا نظر المرء إلى ما أولاه الله من نعمه وآلائه التي لا تحصى؛ فإنه يفيض قلبه بمحبته ? والذين آمنوا أشد حباً لله ? (البقرة: 165)، وكيف لا يحبه، والله العظيم قد سبق فأحب عباده المؤمنين الطائعين ? إن الله يحب المحسنين ? (البقرة: 195)، ?إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? (البقرة: 222) ? والله يحب الصابرين? (آل عمران: 146) ? إنه هو يبدئ ويعيد ^ وهو الغفور الودود? (البروج: 13-14).
وهذه المحبة لله تجعل المسلم معلق القلب بالله، يرجو رضاه، ومن أعظم ما يتطلع إليه المؤمن نوال الجنة دار الخلود التي أعدها الله لمن أحبه من عباده ?فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون? (السجدة: 17).
ومحبة المسلم لربه تجعله يمتنع عن كل يغضب الرب الذي يحبه ، فيكره ما كرهه محبوبه، والله لا يكره ولا يمقت إلا السيء من القول والعمل والخلق ?إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً? (النساء: 107) ?والله لا يحب المفسدين? (المائدة: 64) ?ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? (المائدة: 87).
ثانياً: الشهادة بأن محمداً رسول الله
وحتى تقوم حجة الله على خلقه أرسل الله الرسل، وختمهم بمحمد r، وجعله رسوله إلى العالمين ? وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ? (سبأ: 28)، فهي مزيته r على سائر إخوانه من الأنبياء ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)).(5)
والنبي r هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، ولد يتيماً بمكة المكرمة عام 571م، ونشأ فيها، وحين بلغ الأربعين من العمر آتاه الله النبوة، حين نزل عليه الملاك جبريل بالوحي وهو في غار حراء شرق مكة المكرمة، فدعا قومه إلى الإسلام، فآمن به رهط قليل، وامتنع عن الإيمان به سادة قبيلته (قريش) الذين خافوا من ذهاب زعامتهم وزوال امتيازاتهم، فكذبوه وآذوه، وقتلوا بعضاً من أصحابه وعذبوهم بأشد أنواع النكال والعذاب.
فهاجر النبي r والمؤمنون معه إلى يثرب (المدينة المنورة)، وأقام فيها المجتمع الإسلامي الممتثل بهدي الله، وكان أول ما صنعه النبي r فيها أن بنى مسجده فيها وآخى بين المسلمين بآصرة العقيدة على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ثم عقد مع يهود المدينة معاهدة للتعايش المشترك الآمن فيها والتعاضد على حماية المدينة.(7/104)
وفي المدينة المنورة دعا النبي r العرب والعجم إلى الإيمان به، فأرسل الرسل إلى ملوك الأرض وحكامها يشرح لهم مبادئ دينهم، فآمن به بعضهم، وناوأه غيرهم، وأرسلوا إليه الجيوش، فقاتل r من عاداه وأعاق دعوته، حتى نصره الله بنصره، ولم يغادر النبي r الدنيا عام 633م حتى أقر الله عينيه بانتشار الإسلام في سائر الجزيرة العربية.
وقد أيد الله النبيَّ r بما يشهد على نبوته من دلائل وبراهين، كما أُيد بذلك من سبقه من إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وخصه الله عنهم بدليل ساطع يدوم بدوام رسالته r، فلا تنقضي دلالته بتقادم الأزمان، ولا تبلى بتصرم الأيام، وهو القرآن العظيم، الكتاب المعجِز الذي بهر العالمين، وعجز عن الإتيان بمثله الأولون، ولن يأتي بسورة من مثله الآخرون ? قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً? (الإسراء: 88) ، يقول r: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)).(6)
فقد حوى القرآن من العلوم ما حير بأسبقيته وعمقه العلماء، كيف لا وقد أنزله الله العليم بكل شيء ? لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً? (النساء: 166).
فقد سبق القرآن العلم الحديث إلى وصف نشأة الخلق في الماضي السحيق، حين أشار إلى ما يسميه العلماء اليوم بنظرية الانفجار الكبير (bang Big)، فقال تعالى: ?ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ? (فصلت: 11)، وقال تعالى: ?أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي أفلا يؤمنون? (الأنبياء: 30).
كما تحدث القرآن عن اتساع الكون وتمدده في قوله تعالى: ?والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون? (الذاريات: 47)، وذكر دوران الشمس والقمر والأرض في أفلاك مستديرة ?والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ^ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ^ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون? (سورة يس: 38-40)، فهذه الأخبار وغيرها علوم دقيقة لم تعرفها البشرية قبل ولا بعد إلا في أواسط القرن المنصرم.
ومما يبهر العقول من أخبار القرآن التي سبق فيها العلم الحديث؛ إخباره بمراحل تطور الجنين في بطن أمه وصور تخلقه: ?يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغة مخلقةٍ وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ? (الحج: 5).
إن هذا الوصف الدقيق لمراحل الجنين أذهل البرفسور مارشال جونسون رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، فقال: "إنني كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن أراها بالتحديد، أستطيع أن أفهم علم الأجنة وتطور علم الأحياء، أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم لي من القرآن .. إنني لا أرى شيئاً، لا أرى سبباً، لا أرى دليلاً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد [r] الذي لابُد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان ما، ولذلك إنني لا أرى شيئاً يتضارب مع مفهوم: أن التدخل الإلهي كان مشمولاً فيما كان باستطاعته أن يبلغه".
ويضيف البرفسور كيث ل مور مؤلف الكتاب الشهير "أطوار خلق الإنسان" (The Developing Human) الذي يعتبر مرجعاً معتمداً في كليات الطب العالمية: "يتضح لي أن هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله، لأن كل هذه المعلومات لم تكشف إلا حديثاً وبعد قرون عدة، وهذا يثبت لي أن محمداً رسول الله".(7)
?قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً? (الفرقان: 6).
وهكذا فإن هذه الأخبار الغيبية العلمية - وغيرها مما يطول الحديث بذكره - دليل الله الساطع على نبوة النبي r ، فمثل هذه العلوم يستحيل تحصيلها في تلك الأزمنة ، وخاصة من رجل أميّ نشأ في بيئة جاهلة ?ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد? (سبأ: 6).
ومما يشهد له بالنبوة r ما أوتيه من حسن سيرة وخلق عظيم ، فقد وصفه ربه تبارك وتعالى: ?وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ? (القلم: 4)، وقد غلب لقبه (الصادق الأمين) على اسمه، فصار علماً عليه بين أهل مكة، لذا قال ملكُ الروم هرقل لأبي سفيان عدو النبي r حينذاك: "أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف .. فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه".(8)
إن مدعيي النبوة إنما ينتحلونها سعياً وراء الكسب الدنيوي الرخيص، سواء أكان هذا الكسب مالاً يسابقون إلى جمعه ليستمتعوا به أو ليورثوه إلى أهليهم من بعدهم، أم كان جاهاً بين الناس يرفع من قدرهم، فيشار لهم بالبنان، ويوسع لهم في المجالس....
فهل كان النبي r من هذا الصنف أو ذاك؟
إن نظرة سريعة على سمته r تكشف لنا ما كان عليه النبي محمد r من تواضع وزهد في الدنيا جمعهما النبي r ، فأوضح خلالهما نبل أخلاقه وطهر سلوكه، بل ودلل على نبوته ورسالته.
ومن زهده r أنه: (ما ترك عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً؛ إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة).(9)
وهذه الأرض هي أرض فدك التي منعها خليفة النبي r أبو بكر الصديق من ورثته، وقال لهم: إن رسول الله r قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة))، وأضاف الصديق: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله r يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".(10)
إن الذي تركه النبي r ليس ميراثاً يغتنون به من بعده، بل دَيْناً يؤدونه من بعده، فقد مات r ، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير.(11)
لقد كان r يحذر أن يغادر الدنيا وقد أخذ منها مغنماً ، إذ تذكر زوجته عائشة رضي الله عنها أنه كان في بيتها بعضُ قطعٍ من ذهب، فقال لها رسول الله r: ((ما فعلتْ الذهبُ .. ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده؟ أنفقيها)).(12)
وليس تعففه r عن شهوة الجاه بأقل من تعففه عن شهوة المال، فقد قال له رجل: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)).(13)
وكان r يمقت كل مظاهر الكِبْر والترفع على الناس، ومنه كراهيته أن يقوم له أصحابُه إذا دخل المجلس، يقول صاحبه أنس بن مالك: (ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله r ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك).(14)(7/105)
إنه رسول تتلألأ عليه صفات الكمال الإنساني، أتاه رجل فجعلت فرائصُه ترْعَد، فقال له r: ((هون عليك، فإني لست بملِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ تأكل القديد)). (15)
وتحكي زوجه عائشة رضي الله عنها عن حاله داخل بيته، فتكشف لنا أن تواضعه r ليس خلقاً يتزين به أمام الناس، بل خَلَّة شريفة لم تفارقه، فقد سُئلت : ما كان r يصنع في بيته؟ فقالت: (كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية: (كان بشراً من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويخدِمُ نفسَه).(16)
وأما صاحبه ابن مسعود، فيحكي عن تناوب النبي r على الراحلة - وهو منطلق إلى بدر – مع اثنين من أصحابه، وكانا يودان لو بقي النبي على الراحلة، وأنهما يمشيان عنه، لكنه r كان يقول لهما: ((ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكُما)). (17)
وهنا نسأل: ماذا أفاده دعواه النبوة من متاع الدنيا؟ أفهكذا يصنع الأدعياء؟!
وإن من دلائل نبوته r ما آتاه الله من المعجزات الحسية التي خرق الله فيها لنبيه نواميس الكون إظهاراً لنبوته، وقد فاقت هذه المعجزات في عددها الألف، منها أن الله أطعم ببركته يوم الخندق زهاء ألف رجل من بهيمة واحدة وجِراب فيه صاعٌ من شعير لا يربو وزنه على ثلاث كيلوات.(18)
كما تفجر الماء من بين أصابعه، حتى سقى الله من يديه الجموع الكثيرة من أصحابه.(19)
وشفى الله على يديه المرضى، ومنهم محمد بن حاطب، فقد انكفأ على ذراعه قدر ماء يغلي، فتفل النبي r في فيه، ومسح على رأسه، ودعا له، فقام صحيحاً ما به بأس ولا علة(20) ، وكذلك مسح على رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري لما كُسرت، فقام من بين يديه وقد شفيت.(21)
ومما يشهد بالنبوة لمحمد r بشارة الكتب السابقة به، فهذه الكتب رغم ما تعرضت له من تغيير وتبديل؛ فإنها ما تزال تحمل شهادات صادقة تدل على نبوة النبي محمد r، ومن ذلك بشارة النبيين موسى وحبقوق به r، حين بشرا بنبي قدوس طاهر يخرج من بلاد فاران، ففي سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل قبيل وفاته: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران" (التثنية 33/2)، فقد أخبرهم عليه السلام بأنه كما جاءت رسالة الله إليه على جبل الطور في سيناء، فإن النبوة ستشرق من جبل سعير في وسط فلسطين، وذلك بنبوة عيسى عليه السلام، ثم ستتلألأ النبوة من فوق جبل فاران بنبي عظيم يخرج فيها.
وأكد سفر النبي حبقوق البشارةَ بالنبي المبعوث في فاران، فقال: "والقدوس من جبل فاران، جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه" (حبقوق 3/3)، فمن هو هذا العبد الطاهر ذو الهيبة الذي يخرج من فاران، وتمتلئ الأرض من تسبيحه وتسبيح أتباعه؟ وأين هي فاران التي تلألأت النبوة على جبلها؟
وحتى لا نتيه بعيداً نذكر أن اسم فاران تستخدمه التوراة في حديثها عن مكة المكرمة، فقد جاء في سفر التكوين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وتربى في برية فاران، يقول السِّفر عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر .. وسكن في برية فاران " (التكوين 21/21)، ففاران هي الحجاز التي لا تختلف المصادر التاريخية على نشأة إسماعيل في ربوعها.
وبهذا وأمثاله قامت حجة الله على خلقه في نبوة محمد r.
والإقرار بنبوته r يستلزم من المسلم الاعتراف باطناً وظاهراً أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك، بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع، ?وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً ^ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً? (النساء: 79-80)، وقال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً? (النساء: 59).
ومن مقتضيات الإيمان به r التأسي بهديه وسلوكه وأخلاقه r ?لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً? (الأحزاب: 21).
الركن الثاني: إقام الصلاة
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين وركنه الركين.
وقد فرضها الله عز وجل على المسلمين، ومنها ما شرع وجوباً، وهو الصلوات الخمس، فهي أول حق الله على عباده، ومنها ما يؤديه المسلم تطوعاً وتحبباً إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بآلائه التي لا تحصى.
والصلاة لما لها من الأثر العظيم البالغ في تهذيب النفوس وتقويم السلوك وفي تقوية الإيمان؛ فرضها الله على الأنبياء والأمم السابقة، فلم تخل منها شريعة من الشرائع، وقد حكى القرآن وصاة الله بها لأنبيائه وأقوامهم، فقد دعا إبراهيم أبو الأنبياء ربه فقال: ?ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيتي? (إبراهيم:40)، فاستجاب الله دعاءه فكان ابنه إسماعيل من المصلين ?وكان يأمر أهله بالصّلاة والزّكاة وكان عند ربّه مرضيّاً? (مريم: 55).
ومن بعدهما خاطب الله نبيه موسى عليه السلام فقال: ?إنّني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري? (طه: 14)، وأوصى العذراء البتول بالصلاة فقال: ?يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الركعين? (آل عمران: 42)، وبيَّن المسيح عليه السلام أمر الله تعالى له بالصلاة، فقال وهو في المهد: ?إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ^ وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّاً? (مريم: 30-31).
وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يحافظوا على الصلاة ?وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة? (البقرة: 83).
ومن بعدهم جاء نبينا r يدعو إلى ما دعا إليه إخوانه الأنبياء من تعظيم الله وعبادته والصلاة له، وقد أمره الله بها، فقال: ?وأمُر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها? (طه: 132)، وامتدح الله في وحيه إليه عباده المصلين فقال: ?الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ^ أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون? (لقمان: 4-5)، ووعدهم بالجنة جزاء عليها: ?والذين هم على صلواتهم يحافظون ^ أولئك هم الوارثون ^ الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون? (المؤمنون: 9-11).
وما زال النبي r يوصي بالصلاة لله وعبادته حتى فاضت روحه إلى باريها، يقول خادمه وصاحبه أنس: كان آخر وصية رسول الله r وهو يُغرغر بها في صدره، وما كان يفيض بها لسانه: ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)). (22)
وحين شرع الله الصلاة وغيرها من العبادات؛ فإنه تبارك وتعالى لم يكن يستكثر بها من قلة، ولا يستقوِ بها من ضعف، فهو عز وجلّ لا تزيده طاعة الطائعين، ولا تنقصه معصية العاصين، وإنما شرعها لمنفعة العباد وتزكية أنفسهم وتهذيب ضمائرهم وتقويم سلوكهم وصلاح دنياهم وأخراهم.
وأول ما تحققه الصلاة في المؤمن أنها تنير حياته وتؤنسها بذكر الله، فقد وصفها النبي r بأنها نور، فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة)). (23)
وقال: ((والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)). (24)
وقوله r: ((والصلاة نور)) معناه: أنها تمنع المصلي من المعاصي، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتهديه إلى الصواب كما النور الذي يستضاء به.(7/106)
فأما اجتناب المسلم للكبائر من الذنوب والفواحش، فسببه أن الصلاة تذكره - فينة بعد فينة -بحق الله عليه وبمراقبته له، فيرعوي وينزجر عن محارمه، قال تعالى: ?اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون? (العنكبوت: 45).
ولما أُخبر النبي r عن رجل يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنه سينهاه ما يقول)). (25) أي في صلاته ما سيزجره ويقوِّم سلوكه.
وكما تبعد الصلاة المؤمن عن الكبائر والفواحش؛ فإنها سبب في مغفرة الله للصغائر من الذنوب التي يلم بها المرء عامداً أو جاهلاً، فيعود بصلاته قريباً من الله العفو الكريم، لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، فقد كان r يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنَّ؛ إذا اجتنب الكبائر)). (26)
وفي حديث آخر سأل النبي r أصحابه: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟)) فقالوا: لا يبقى من درنه شيء، فقال r: ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). (27)
والصلاة فرصة للمسلم للاستجمام من أتعاب الدنيا، فالمسلم حين يقوم للصلاة يناجي ربه ومولاه؛ يطمئن قلبه بهذه الصلة مع ربه ?الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب? (الرعد: 28)، لذلك كان r يقول لمؤذنه بلال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)). (28) وكان يفزع إليها كلما حزبه أمر، ويقول: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)). (29)
وأخيراً؛ فلأهمية هذه العبادة سماها النبي r عمود الدين، وأخبر أنها أول ما يحاسب الله الناس عليه يوم القيامة، فقال: ((إنّ أول ما يُحاسبُ به العبدُ يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر)). (30)
الركن الثالث : إيتاء الزكاة
يتقلب الناس في هذه الدنيا في نعم الله التي آتاهم، ويستمتعون فيها بما منحهم الله من المال والسعة واليسار الذي به تزدان الحياة وتزهو.
وحتى يسعد الجميع في أرض الله؛ فإن الله جعل النصيب الأوفر من رزقه لبعض الناس ابتلاء واختباراً، وأوجب لإخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم حقاً معلوماً في أموال الأغنياء التي آتاهم الله إياها ?وآتوهم من مال الله الذي آتاكم? (النور: 33)، وهذا الحق المعلوم هو الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وما يدفعه المسلم من ماله فإنما هو طهرة له من ذنوبه وآثامه، وهو سبب في تزكية نفسه وسموها في معارج الطاعة ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها? (التوبة: 103).
وأما الامتناع عن أداء الزكاة فهو خيانة لحق الفقير، يتوعد الله فاعله بأليم العذاب: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليمٍ ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون? (التوبة: 34-35).
وفي الحديث أن النبي r قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)). (31)
وكما أوجب الله هذا الحق؛ فإنه بيَّن أنصبته ومقاديره والأموال التي يجب فيها، ولم يترك الأمر إلى أذواق الأغنياء وسعة إحسانهم ?والذين في أموالهم حق معلوم ^ للسائل والمحروم? (المعارج: 24-25).
وقد راعى الإسلام في مقدار الزكاة مصلحة الغني والفقير، فالغني إنما يدفع 2.5% فقط من أمواله النقدية وتجاراته التي مر عليها عام وهي في حوزه، أي هي مما زاد عن حاجاته ومصروفاته، فهذا هو الحق المعلوم، وأما ما عداه فهو الصدقات غير الواجبة التي يستبق بها المسلمون إلى محبة الله وعظيم رضوانه.
وأما الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة فهي الذهب والفضة وما يقابلهما من النقود والأسهم والتجارات، وكذلك ما يعطيه الله للمسلم من زروع وثمار وأنعام ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض? (البقرة: 267).
وأما المستحقون لأخذ الزكاة فهم أصناف ثمانية، جمعتهم الآية القرآنية: ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيمٌ? (التوبة: 60).
وأداء الزكاة ينبغي أن يصان بضوابط أخلاقية عالية تجعل من هذا الإنفاق عبادة سامية لله لا يخالطها كِبر ولا استعلاء ولا مِنَّة على الفقير، فقد وصف الله المؤمنين بقوله: ?الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى والله غني حليمٌ ? (البقرة: 262-263).
والمسلم يقصد بصدقاته وزكاته مرضات الله وجميل ثوابه، وأما المنفق للسمعة والمفاخرة فإن نفقته مردودة عليه ، لا بل هو متوعد بالعذاب في الآخرة، ففي الحديث عن النبي r أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكر منهم رجل تصدق لا ليرضى عنه الله، بل ليقال عنه جواد (32)، وهو ما يحبط هذه العبادة، ويوجب العقوبة عليها بدلاً من المثوبة ?من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون? (هود: 15-16).
إن هذه الشرعة الربانية صورة من صور التراحم والتلاحم، تحفظ للمجتمع وحدته وتحقق تماسكه، حتى يكون الجميع فيه كالجسد الواحد، قال r: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). (33)
الركن الرابع : صوم رمضان
الصيام هو رابع أركان الإسلام، وهو عبادة فرضها الله في شهر رمضان(34)، وفيه يمتنع المسلم عن الطعام والشراب والجماع ومقدماته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والصيام فرضه الله على المسلمين وعلى الأمم قبلهم لغاية عظيمة، يجليها قول الله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون? (البقرة: 183)، فغاية هذه العبادة تدريب المؤمن على حياة التقوى واجتناب المناهي، وتربيته على السيطرة على إرادته وضبطها، وعدم الانسياق وراء الرغبات الجسدية، وتحريره من أسر الشهوات والعبودية للملذات، فالمسلم الذي يترك في نهار رمضان الحلال من الطعام والشراب والمتع؛ فإنه من باب أولى يمتنع عن الحرام منها في ليل رمضان وفي سائر الأيام والليالي.
وقد أخبر النبي r بأثر الصيام في ضبط الغرائز بقوله: ((من كان منكم ذا طول فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا فالصوم له وجاء)).(35)
ويصف النبي r الصيام بأنه وقاية للمسلم، بما يحتمه عليه من معاني فاضلة وأخلاق سامية: ((والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).(36)وفي حديث آخر: ((الصوم جُنة ما لم يخرقها)). (37)
وقد فقه الصحابي جابر بن عبد الله قول النبي r فقال: (إذا صُمتَ؛ فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء). (38)(7/107)
وأما إذا لم يعطِ الصيام ثمرته السلوكية فقد أضحى عملاً ميتاً لا روح فيه، وقد قال رسول الله r: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). (39)
وهذا العمل الذي لا روح فيه لا يؤجر المسلم عليه ((رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر)). (40)
ومما يتعلمه المسلم في مدرسة رمضان تحسس مشاعر الفقراء والإحساس بمعاناتهم، وما يستجيشه ذلك من بذل وكرم وإنفاق في سبيل الله، فقد حكى ابن عباس ابن عم النبي r عنه، فقال: (كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان .. فلَرسول الله r أجود بالخير من الريح المرسلة). (41)
وقد شرع الإسلام لأولئك الذين لا يقدرون على مشاركة المسلمين صيامهم لمرض ونحوه، شرع لهم إطعام المساكين فدية للصيام الذي عجزوا عنه، فلئن فاتهم مشاركة الفقراء والمحرومين في ألم الجوع، فلن يفوتهم المساهمة في إطعامهم ورفع جوعهم ?وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون? (البقرة: 184).
ولتعدد حكم هذه العبادة فإن النبي r ما فتئ يوصي بها أصحابه، فقد قال له أبو أمامة: مُرني بأمر آخذه عنك؟ فقال r: ((عليك بالصيام؛ فإنه لا مِثل له)). (42)
الركن الخامس : حج بيت الله الحرام
الحج عبادة بدنية فرضها الله على المسلم في العمر مرة واحدة، حيث يفد المسلمون من أصقاع الأرض إلى قبلتهم في مكة المكرمة، ليؤدوا مناسك حجهم في أيام معلومات، يحققون فيها المقاصد التي أرادها الله من تشريع هذه العبادة التي أمر بها أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين قال له: ?وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميقٍ ^ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير? (الحج: 27-28).
فنادى إبراهيم، ولبى المؤمنون من كل حدب وصوب، وأدوا المناسك كما أداها إبراهيم عليه السلام، وحافظوا على سنة الخليل إبراهيم عليه السلام، كما قال r للمسلمين في مناسك الحج: ((كونوا على مشاعركم؛ فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم)).(43)
والحج دورة تدريبية للمسلم على ممارسة السلام، فمناسكه تؤدى في البلد الحرام الذي يأمن فيه الطير والشجر والإنسان، قال r: ((إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها)).(44)
والحج أيضاً مظهر من مظاهر المساواة والوحدة بين المسلمين ، حيث يجتمع فيه المسلمون من كل حدب وصوب، في لباس واحد، على صعيد واحد، لا يتقدم فيهم غني على فقير، ولا أبيض على أسود، وقد خطب النبي r أصحابه في أيام الحج ، فقال: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)). (45)
ومن مقاصد الحج ذكر الله تعالى وتعظيمه واستغفاره مما سلف من الذنوب والعصيان ?فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ^ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم? (البقرة: 198-199).
وكما كان المشعر الحرام لذكر الله، فإن أيام مِنى هي أيضاً كذلك ?واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى? (البقرة: 203).
فإذا انتهت مناسك الحج؛ فإن المسلم مطالب بلزوم ذكر الله في سائر أيامه ?فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً? (البقرة: 200).
ومن مناسك الحج وشعائره ذبح الهدي قرباناً لله عز وجل، قال تعالى: ?والبُدْن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير? (الحج: 36)، وفي مقدمة هذا الخير تحقيق تقوى الله وتمثلها في حياتنا السلوكية ?لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم? (الحج: 37).
ومن أعظم مقاصد الحج تهذيب سلوك المسلم الحاج، قال تعالى: ?الحج أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب? (البقرة: 197)، فالحاج ينبغي عليه اجتناب المعاصي ليتحقق له الغفران والخلوص من الذنوب والمعاصي، قال r: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه)). (46)
والحج الذي تتوافر فيه هذه الشروط ويحقق تلك المعاني يسميه الرسول r بالحج المبرور، فيقول: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). قيل: وما بره؟ قال: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)).(47)
وهكذا فإن أركان الإسلام تهدف جميعاً إلى تزكية المسلم وتهذيب سلوكه وربط قلبه بربه تبارك وتعالى.
لكن الإسلام ليس هذه الأركان فحسب، إنه هبة الله للبشرية ، إنه الدين الذي يعالج مشكلات الإنسانية على اختلافها، فينظم علاقة الإنسان بربه، ثم بأخيه الإنسان، ثم بالكون من حوله، وهو الدين الذي يقوم على تحقيق التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، ويشبع العقل ويروي العاطفة.
ولسوف يتجلى لنا بهاء هذه الحقيقة ونحن نتحدث عن مفهوم العبودية في الإسلام.
مفهوم العبادة في الإسلام
خلق الله الإنسان على هذه الأرض لغاية شريفة، تسمو بوجوده عن سائر المخلوقات التي تعيش على الأرض للأكل والشرب والجنس، هذه الغاية هي عبادة الله تبارك وتعالى ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ^ ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون ^ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين? (الذاريات: 56-58).
لكن مفهوم العبادة في الإسلام ليس محصوراً في صلوات وتمتمات وطقوس تمارس في أوقات محددة، بل هو أوسع من ذلك بكثير، إنه منهج للحياة الإنسانية برُمَّتها ? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ^ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين? (الأنعام: 162-163)، فلا يعرف المسلم لحظة يقضيها بعيداً عن عبادة مولاه.
ويرفض مفهوم الإسلام للعبادة وجود وسطاء بين الله وعباده، فليس في الإسلام كهنوت أو رجال دين، فالمسلم يصلي وحده وفي جماعة المسلمين، في المسجد أو في البيت أو في أي مكان طاهر تدركه فيه صلاة؛ من غير حاجة إلى وسيط أو بناء محدد، قال r: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ فليصل)). (48)
وإذا ما قصر المسلم في حق الله أو طمع في خير عنده؛ فإنه يطلب من الله بُغيته من غير وسيط يعترف له، ولا شفيع يرجو شفاعته ?والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ^ أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين? (آل عمران: 135-136).
وأيضاً يرفض الإسلام قصر الدين على العلاقة بين العبد وربه فحسب، ويعتبر هذا قصوراً يقعد بالدين عن الغاية التي أنزل الله لأجلها الكتب وبعث لتحقيقها الأنبياء، وهي إصلاح الحياة الإنسانية، والقيام بواجب الاستخلاف في أرض الله وفق منهجه وشرائعه ، فلأجل هذا خلق الله أبانا آدم ? وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً ? (البقرة: 30)، وهذا الاستخلاف لآدم يمتد ليشمل ذريته من بعده ? هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ? (فاطر: 39)، ويسميه الله في آية أخرى بعمارة الأرض ? هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ? (هود: 61).(7/108)
وهكذا، فإن الواجب المطلوب من الإنسان هو عمارة الأرض، وهذا المطلب الكبير لن تحققه أديان لا تتناول في نظرتها وتشريعاتها الحياة الإنسانية بمناشطها المختلفة.
ومن هنا كان مفهوم الإسلام للعبادة شمولياً، فالعبادة في الإسلام هي فعل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فهي لا تتوقف عند مظاهر الشعائر الظاهرة، بل تتناول أفعال القلب واللسان والجوارح.
تغطي هذه العبادة دوائر عدة في حياة المسلم، أولها: علاقته مع الله خالقه، وثانيها: ما يتعلق بالإنسان من آداب خاصة كالنظافة الشخصية وآداب الممارسات الحياتية، كالطعام والشراب والنوم والجنس وقضاء الحاجة واللباس، وثالثها: علاقته مع أسرته ومجتمعه، ورابعها: علاقته مع الأسرة الإنسانية، وأخيراً: علاقته مع بيئته والكون من حوله.
وبموجب المنهج الرباني للعبادة في الإسلام يترابط بنيان الإيمان ليشمل الأصول ويمتد إلى الفروع والآداب، كما قال r: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).(49)
وكل ذلك في ترابط فريد، وتمازج متناغم لا يقبل الفصام النكد الذي يعزل الدين عن مناحي الحياة الإنسانية، ويحبسه داخل المعبد، فقد قال الله مبكتاً صنيع السابقين: ?أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافلٍ عما تعملون ^ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون? (البقرة: 85-86).
وفي مقابله أمر الله المسلمين بأخذ الدين بكل شرائعه وتفصيلاته، وحذرهم من تجزئته والإدبار عن شيء منه؛ لأنه فعل ذميم يقوم على منازعة الله حقه في الهيمنة على كافة شؤون حياتنا الإنسانية، وهو في حقيقته اتباع للشيطان واستجابة لطريقته في الإضلال ، حيث يتدرج بالمرء، فيغريه بترك البعض، وما يزال به حتى يترك الكل، قال تعالى: ? يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافةً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبينٌ? (البقرة: 208).
إن التمازج في الإسلام بين الدين والدنيا، والروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع؛ حقيقة ساطعة عبرت عنها آيات عديدة في القرآن ، فعلى سبيل المثال تجمع الآيات القرآنية العلاقة مع الله جنباً إلى جنب مع الأخلاق والمعاملة مع الناس من غير تفريق، كما في قوله تعالى: ?ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون? (البقرة: 177).
ومثله في قوله تعالى: ?واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ^ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ^ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً ? (النساء: 36-38).
ويؤكد الإسلام على شموليته بالتنبيه على بعض العبادات المتعلقة بحقوق العباد، فيقول r: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).(50)
ويضع النبي r ميزاناً للخيرية، يقدم العبادة بمفهومها الشمولي، حين يجعل بعض صورها المختصة بالعباد مقدمة على أخرى مما يتعلق برب العباد، وتجعل صاحبها محبوباً عند الله: ((أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً)).(51)
إن حرص المسلم على هذه المحبة الإلهية يدفعه لبذل الخير والمسابقة فيه حتى للحيوان الأعجم، فقد قال r: ((ما من مسلم يغرِس غرساً إلا كان ما أُكِل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلتْ الطيرُ فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ [أي يسأله] إلا كان له صدقة)).(52)
ولكي يعمق النبي شعور المسلم بأهمية جميعوحدة أنواع العبادة – حتى وإن كانت مرتبطة بحق الحيوان – فإنه أخبر أصحابه والمسلمين من بعدهم عن قصة رجل من السابقين رأى كلباً يأكل الثرى من العطش، ((فأخذ الرجل خُفَّه، فجعل يغرف له به، حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة))، فسأله الصحابة فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((في كل ذي كبد رطبة أجر)).(53)
وأما ثمرات العبادة التي يؤديها المسلم لربه، فهي كثيرة، منها اطمئنان قلبه واستقامة جوارحه، وهو ما يُكسب المرء سعادة الدنيا، وهي عاجل نصيبه من الخير ، الذي ليس آخره ما نشهده من استقرار نفسي واجتماعي في حياة المسلمين الملتزمين بهدي الإسلام، فهو ثمرة من ثمرات الطاعة والإيمان ?من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون? (النحل: 97).
وفي المقابل فإن ما تشهده بعض المجتمعات من جرائم اجتماعية وأمراض نفسية وحالات اكتئاب أدت إلى نسب مرتفعة ومقلقة في الانتحار(54)، إنما هو ثمن عادل تدفعه البشرية جزاءً وفاقاً لتنكبها هدي الله وإعراضها عنه ?فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى? (طه: 123-124).
لكن الجزاء الأكبر الذي يحوزه المؤمن - بعبادته لربه - هو جنة الله ورضوانه ? يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار ^ من عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حسابٍ? (غافر: 39-40).
العبادة والأخلاق
ومن أهم ما بعث الله الأنبياء من أجله؛ تزكية عباده وتحليتهم بالخُلق الحسن والسلوك الأقوم، وقد امتن الله على البشرية بمحمد r الذي دعا إلى تزكية نفوسهم وخلوصها من عيوبها وآفاتها ?لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين? (آل عمران: 164).
فتزكية النفوس بالأخلاق الفاضلة هدف رئيس في بعثة الأنبياء ، ومنهم محمد r القائل: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)). (55)
وقد قدم r القدوة الحسنة لأصحابه حين تمثل جميل الأخلاق وصفات الكمال، ممتثلاً ما يوحي الله إليه في القرآن ، فكان في خُلقه كما وصفه ربه ?وإنك لعلى خلق عظيم? (القلم: 4)، وصادقت على هذا الوصف زوجه عائشة فقالت: (كان خلقه القرآن)(56) ، وأكده صاحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بقوله: لم يكن النبي r فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)).(57)(7/109)
إن الأهمية البالغة للأخلاق جعلت النبي r يربط خيرية المسلم عند الله بحسن الخلق الذي يثقل في الميزان حسنات المؤمن ويحببه إلى الله، فقد قال r: ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء))(58)، فحسن الخلق يحسب للعبد في ميزانه بمثابة عبادتي الصوم والقيام لله في الليل، وهما من أفضل العبادات وأرفعها في ميزان المسلم، يقول r: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).(59)
ووفق هذه الحيثية فإن حسن الخلق أوسع باب يوصل إلى الجنة، ولما سئل رسول الله r عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).(60)
إن صاحب الخلق الحسن ليس في الجنة فحسب، بل هو في أعلاها، ففي الحديث عن رسول الله r أنه قال: ((أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).(61)
وأعلى الجنة هو جزاء الله للأنبياء، فينعم صاحب الخلق الحسن برفقتهم كما قال r: ((إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون).(62)
وهذه الأهمية للأخلاق تنبع من كونها جزءاً من الإيمان، فلا يكمل إيمان المسلم إلا بالتزامه بها، ولا يزهر إيمانه إلا بمقدار ما يتحقق فيه منها، فإذا نقصت أخلاق المرء نقص إيمانه، وإن زادت زاد، يقول أنس بن مالك: ما خطبنا نبي الله r إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (63)، وكان r يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). (64)
وكان r يقول: ((خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)).(65)
والأخلاق الفاضلة التي صانها الإسلام وتعبَّد المسلمين بتمثُلِها كثيرة، وليس بأقل منها ما حذر منه من أخلاق مستقبحة مستبشعة، ونكتفي بإيراد بعض النصوص المتحدثة عن الأخلاق، فلعله يغني عن الكثير من الشرح والتطويل:
قال تعالى: ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون? (النحل: 90).
وقال: ?يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون? (الأنفال: 27).
وقال: ?إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً? (النساء: 58).
وقال: ?يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين? (التوبة: 119).
وقال: ?الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار? (آل عمران: 17).
مراتب الأحكام التكليفية
وتدور تشريعات الإسلام بمناحيها المختلفة في خمس مراتب من جهة إلزاميتها:
أولاها الفروض والواجبات، وهي ما طلبه الله ورسوله من الطاعات على جهة الإلزام، فالمطيع فيها مثاب مأجور، والعاصي مأزور، ومن ذلك الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الخلق والتوبة من الذنوب وكسب المال من الحلال والإنفاق على الزوجة والأولاد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعاون مع الآخرين على أعمال البر والتقوى، وكذلك حجاب المرأة من الرجال الأجانب عنها.
والثانية هي السنن المستحبة، وهي ما طلبه الله ورسوله على جهة الندب والاختيار، لا الأمر والإلزام، فيأجر الله المطيع فيها، ولا يؤاخذ المقصر، لكن الإتيان بالمستحبات برهان على محبة العبد لربه وتشوقه إلى طاعته ومرضاته، فيقابل الله صنيعه بمحبة العبد وتوفيقه، فقد روى النبي r عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).(66)
والسنن المندوب إليها باب واسع من أبواب الخير، ومنه التنفل في العبادات بالصوم في غير رمضان، والصلوات - غير الصلوات الخمس - والإحسان إلى الفقراء والأيتام والمحتاجين في غير الزكاة الواجبة، وزيارة المريض، وكثرة الاستغفار، وذكر الله، والتطوع في المشاركة في الخدمات العامة.
والثالثة هي المباحات التي لا يترتب عليها جزاء أخروي بالثواب أو العقاب، كالطعام والشراب والنوم والبيع والشراء والزواج، ولكن هذه وأمثالها من السلوكيات اليومية تصبح عبادة مأجورة إذا اقترنت بنية صالحة واستحضار قلبي مشروع ، فترتفع العادات إلى منزلة العبادات، ويوضح ذلك قول النبي r عن إتيان الرجل أهله بنية الاستعفاف عن الحرام: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)).(67)
والرابعة هي المكروهات التي لا يليق بالمسلم التلبس فيها، لكنها مما يعفو الله عنه ولا يحاسب عليه، ومن ذلك التشاغل عن ذكر الله بالإغراق في الدنيا، والإكثار من المباحات، والتهاون في الآداب الإسلامية للطعام والشراب والحديث والزيارة.
والخامسة هي المحرمات التي يثيب الله على تركها ويعاقب على فعلها، كالشرك والفواحش والمعاملات القائمة على الربا والغش والاحتيال والاستغلال ?قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ? (الأعراف: 33).
? قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ? (الأنعام: 151-152).
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها
إن المفهوم الإسلامي للعبادة قد تجسد في الشريعة الإسلامية العظيمة، التي أمر الله المؤمنين بتحقيقها في الأرض وجعلها دستوراً لحياتهم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ?ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون? (الجاثية: 18)، فالشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعاً إلى قيام الساعة.
أولاً: خصائص الشريعة الإسلامية
وتمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص، أهمها:
أ. ربانية المصدر والغاية
أول خصيصة للشريعة الإسلامية أنها ربانية المصدر والغاية، فهي من الله ، وتهدف إلى بلوغ رضاه، فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين، هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله بحروفه، ثم السنة النبوية، وهي أقوال النبي r وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله تعالى: ? وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ? (الحشر: 7)، فالنبي يحمل رسالة الله إلى الناس، وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله وأمره ? وما ينطق عن الهوى ^ إن هو إلا وحي يوحى ? (النجم: 3-4).(7/110)
ومن هذين المصدرين وتأسيساً على قواعدهما اشتق العلماء عدداً من المصادر الفرعية للشريعة كالإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والعرف وغيرها.
والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى خصائصه تبارك وتعالى ? ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين? (الأعراف: 54)، فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده.
ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق الله بالتشريع، وهو استعباد لخلق الله، لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي r سمعه يقرأ قوله تعالى: ?اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله? (التوبة: 31)، فاستغرب عدي ، حتى فسَّره النبي بقوله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) (68)، فعبادتهم لأحبارهم، ليس سجودهم وركوعهم لهم، بل الإذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع الله.
وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شرَّع بحكمته البالغة للإنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها ?كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد? (إبراهيم: 1)، وشريعته خير كلها، لأنها صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا ? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير? (الملك: 14)، وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور الإنسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية، كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية.
أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها لا تحابي في أحكامها جنساً أو عرقاً أو لوناً، فالجميع عبيد لله متساوون أمام أحكامه ? وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ^ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون? (المائدة: 48-50).
إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة وسلطاناً في النفوس والضمائر لا تجده في قانون ما، فالناس منقادون إليها بسلطة الإيمان الذي يملأ قلوبهم، منقادون إليها ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يلتزم حدودها، طمعاً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة، ثم هو موعود بحسن الجزاء في الآخرة، بالجنة التي أعدها الله للأتقياء من عباده، فلأجلهما معاً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به.
وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعزمت على تحريمه، وأصدرت تشريعاً بذلك، ثم بذلت الملايين لتنفيذ هذا القانون، وبعد سنوات من النفير في الأمن والمحاكم ، وبعد سجن الألوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر، مع يقينها بما فيه من الفساد، لكنها عجزت وعجز قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولاً.
وفي مقابله فإن الإسلام حين حرم الخمر، لم يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم، ولم يجد عنتاً ولا مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات الإنسانية، بابتعاده عن المسكرات بأنواعها، إن طهارة المجتمع من هذه الآفة لم يتطلب سوى آية أنزلها الله في تحريمه، وهي قوله: ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون? (المائدة: 90).
فالتزم أصحاب النبي r بذلك، بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل تحريمها، يقول أنس بن مالك: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال أنس: فخرجتُ، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.
قال أنس: فجرتْ في سِكك المدينة.
فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: ? ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ? (المائدة: 93)(69)، أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لأنه لا عقوبة إلا بتشريع.
ب. العدل والمساواة
العدل اسم من أسماء الله تعالى، وهو صفة لازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر عدل الله في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه ? لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ? (البقرة: 286)، فشرائع الله مبناها على اليسر والسهولة ? يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ? (البقرة: 185) ?ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون? (المائدة: 6)، والنبي r يقول: ((أحب الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحةُ)).(70)
ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن الأطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل الذي يجيز محاسبتهم، كما أسقطه عمن حُرِم نعمة العقل ابتداءً ، يقول r: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))(71)، كما يعفو الله عمن وقع في الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرهاً أو ناسياً تحريمه، فقد قال r: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).(72)
وإذا كانت الشريعة لا تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها - من باب أولى - لا تحاسبه على ذنب غيره، فالمرء مسؤول عن عمله الشخصي ? قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيءٍ ولا تكسب كل نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون? (الأنعام: 164).
وعليه فالإسلام لا يقر بالذنب الأصلي المتوارث عن الأبوين [آدم وحواء]، فالأبوان تحملا وزريهما بنفسيهما، واستغفرا الله منه، فتاب عليهما، ولا علاقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد، بل كلٌ مسؤول عن عمله ?فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ^ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 37-39).
وأيضاً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت - لعدالتها - الفروق بين الذكر والأنثى، فلم تكلف المرأة بما لا يلائم طبيعتها كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب والإنفاق، وغيرهما مما لا يتناسب وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها.(7/111)
ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، فالجميع متساوون أمام شرائع الله، فقد خطب النبي r في ما يربو على مائة ألف من أصحابه، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى))(73)، فالخيرية مبناها على العبادة والاستقامة، لا الحسب والجاه، ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبيرٌ? (الحجرات: 13).
وقد طبَّق النبي r بنفسه عدل الإسلام وقِيَمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع، فقد حكم r على سارقة من أشراف قريش بقطع يدها الخؤون، فاستشفع الناس لها، طلبوا من أسامة بن زيد - بما له من مكانة عند النبي r - أن يشفع لها عنده، فقال له r: ((أتشفع في حد من حدود الله)).
ثم قام فخطب الناس، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ [أي ابنته r]؛ لقطعتُ يدها)).(74)
وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به وشرعه بين خلقه ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون? (النحل: 90).
ج. الشمول والتوازن
لما كان الإسلام رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة، فإن الله تلطف فيه على الإنسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها، فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً? (المائدة: 3).
والإسلام بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة المختلفة، فهو دين عبادة، وهو أيضاً منظومة من الشرائع الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم الآخرة.
إن الإسلام ينظم علاقات الإنسان المختلفة من لدن ميلاده إلى وفاته، وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميلاد وما بعد الوفاة، وأما ما بينهما فإنه يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات وآداب، وهو يرشِّد أيضاً علاقة الإنسان مع أسرته ومجتمعه، لا بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ?وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ? (الأنعام: 38).
أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع الإسلام تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم، وتنظم علاقة الدولة والأمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد ?ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين? (النحل: 89).
وتلبي هذه الشرائع حاجات الإنسان المختلفة، فهي تعنى بجسده، ولا تهمل روحه، تبتغي الآخرة، ولا تفرط في الدنيا، تربط المجتمع ولا تغفل مصالحه، وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس مصالحه وحقوقه، توازن عجيب، لا إفراط فيه ولا تفريط، وأي عجب ، فذلك تقدير اللطيف الخبير.
إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ?وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين? (القصص: 77) فلئن كانت الآخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة والمعاش، ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ولا تقتير يمنع النفع: ?والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً? (الفرقان: 67)، وقال الله لنبيه r: ?ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً? (الإسراء: 29).
وقال r موجهاً عثمان بن مظعون لما رغِب في ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد، فأراد هجر النوم والنساء والدوام على الصيام: ((يا عثمان أرغبتَ عن سنتي؟.. فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)).(75)
وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ^ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون? (الجمعة: 9-10).
ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال r: ((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية: ?يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? (المائدة: 87).(76)
د. المثالية الواقعية
كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع ، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به r بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).(77)
وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.
واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها ? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير? (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق ?وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً? (النساء: 130).
ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى: ? وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ? (الشورى: 40-41).
وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي r في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام: ?يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون? (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.(7/112)
ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها ? يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون? (النساء: 43).
لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر t الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون? (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). (78)
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).(79)
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."(80)
ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية
وتهدف الشرائع الإسلامية في جملتها إلى تحقيق ما يصلح أحوال الإنسان في الدنيا ويسعده في الآخرة، وفق قاعدة درء المفاسد عنه وجلب المصالح له، فما تأمر الشريعة بأمر إلا وفيه خير للإنسان، وما حرم فيها من شيء إلا وفيه ضرر عليه ?ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? (البقرة: 222).
والشريعة جاءت تفصيلاتها لحفظ مقاصد خمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وهي في حقيقتها أهم حقوق الإنسان ومصالحه في هذه الحياة:
أ. حفظ الدين
لما كان الدين المقوِّم الأعظم الذي يهيمن على مجالات الحياة الإنسانية كان من الطبيعي أن تسعى شرائع الإسلام إلى حفظه ، باعتباره حقاً للإنسان، بل هو أغلى الحقوق وأهمها، وذلك بتشريع كل ما يساعد على حفظه والنهي عن كل ما يضر به ويضعفه أو يقضي عليه.
فقد حث القرآن على عبادات كثيرة تثبت الإيمان وتحرسه في صدور المؤمنين، بعضها ذهني فكري كالتفكر والتدبر في خلق الله للاستدلال على عظمة الخالق، وبعضها ذهني بدني كالصلاة، أو بدني الصيام، أو مالي كالزكاة والصدقة، أو ذهني مالي بدني كالحج.
ولحراسة الإيمان والدين حرَّم الله الشرك اعتقاداً وعملاً ، كما حرَّم ما يفضي إليه كالغلو بالأنبياء والصالحين، واعتقاد وجود وسطاء بين الله وعبيده، واعتقاد النفع والضر لغير الله.
كما أوجب الله على المجتمع والدولة حماية الدين وتسهيل سبل التدين والتشجيع عليه، وكذلك فإن من الواجب عليها الذود عنه ومنع سبل الغواية والإغراء بالفسق والعصيان والكفر، بالأخذ على يد المضلين المفسدين، وتطبيق العقوبات الشرعية على المرتدين.
ب. حفظ النفس الإنسانية
الحياة الإنسانية هبة الله للإنسان، وليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، ولا الإنسان نفسُه، فالله خلق الإنسان وكرمه، ليحقق واجب الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وليبتليه ويظهر مدى تحقيقه العبودية لله رب العالمين.
ولأجل ذلك صان الإسلام الوجود الإنساني بما شرعه من شرائع تكفله وتحفظه، فأوجب على المجتمع رعاية الضعيف وتأمين ضرورياته من سكن وطعام وشراب ولباس، وغيرها من ضروريات الحياة، وشرع في تأمين ذلك الزكوات الواجبة والصدقات المندوبة التي تندرج ضمن منظومة واسعة من شرائع التعاون على البر والتقوى بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بغية تحقيق التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.
وكفل الإسلام الحياة الكريمة للإنسان، فحرم إهانته وإيذاءه ?والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً? (الأحزاب: 58).
واعتبر الإسلام الاعتداء على النفس الإنسانية من أقبح الجرائم، وعدَّه من الموبقات السبع التي تفسد الدين والدنيا، فقد قال r محذراً منها: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).(81)
ولعظم الاعتداء على النفس الإنسانية جعل الله الاعتداء على نفس واحدة بمثابة الاعتداء على الجنس البشري برمَّته ?من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون? (المائدة: 32).
وتوالت الآيات تصف المؤمنين بأنهم يجتنبون قتل الأبرياء الذين يسميهم القرآن بـ (النفس التي حرم الله): ?والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً? (الفرقان: 68).
تتهدد الآيات من يعتدي على الأبرياء، وتعطي لولي المظلوم حق المطالبة بالقصاص العادل من خصمه ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً? (الإسراء: 33).
وسلطان القصاص العادل هو أحد أهم الضمانات التي تمنع تفشي الجريمة، فيرعوي المجرم عن عتوه؛ ليقينه بأن اعتداءه بالقتل على الآخرين مستوجب إزهاق نفسه، فيأمن الجميع ويستمتع الجميع بحقهم في الحياة ? ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون ? (البقرة: 179).
وصوناً لهذا المبدأ العظيم (حفظ النفس) شرع القرآن الجهاد في سبيل حماية المستضعفين من الاضطهاد والقتل، فقال تعالى: ?وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ^ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً? (النساء: 75-76).
ولن يفوتنا -أن نذكر هنا -أن أول نفس حرم الله الاعتداء عليها نفس الإنسان التي هي وديعة عنده، وتفريطه فيها بالانتحار أو التساهل في صونها يعرضه لأليم العذاب في الآخرة، فقد قال r: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سُمَّاً فقَتل نفسه؛ فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).(82)
ج. حفظ العقل(7/113)
العقل أهم خصائص الإنسان التي بموجبها فضّل الله الجنس الإنساني على سائر المخلوقات ?ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً? (الإسراء: 70).
ويعتبر الإسلام العقل مناط التكليف في سائر المسؤوليات الدينية والدنيوية، إذ به يهتدي الإنسان إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله إلى الوصول إليها بالبراهين العقلية، لا بمجرد الإيمان الأعمى : ?أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين? (الأنبياء: 24)، فالعقل يرشد كل من تدبر في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته ?إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب? (آل عمران: 190).
ولا يجوز للمرء تغييب العقل عن أداء واجبه في الدلالة على الحق والخير وتبصير الإنسان فيما يصلح له دنياه وأخراه، ولأجل ذلك حرم الله السحر والشعوذة والكهانة وغيرها مما يتلاعب بالعقل ويزدريه ويعطل طاقاته، ولأجل ذلك أيضاً حرم الإسلام الخمر، واعتبرها دنساً شيطانياً وكيداً منه للإنسان، يريد به إفساد علاقة الإنسان بربه بشغله بالخمر عن الصلاة والعبادة، كما يصبو بواسطتها إلى تدمير العلاقات الاجتماعية ?يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون? (المائدة: 90-91).
د. حفظ النسل
التناسل وسيلة بقاء النوع الإنساني ، ولأجله ركَّب الله الغريزة في الجنسين، ودعاهما إلى إقامة الأسرة عن طريق الزواج الذي يعتبره الإسلام المحضن الذي يحقق حفظ النسل، ويديم المسيرة الإنسانية السوية.
وقد رغَّب الإسلام في النكاح، ووضع ضوابطه ومتطلباته عبر نظام اجتماعي محكم ينظم العلاقة بين الزوجين خصوصاً، وأبناء الأسرة عموماً.
ويُلزم الإسلام الأبوين بجملة من الواجبات تجاه أبنائهما، منها حسن تربيتهم وتعهدهم بالحنو والرعاية والإنفاق وغيرها من مقتضيات الأبوة والأمومة السليمة.
وحرم الإسلام أشد التحريم الاعتداء على الطفل بوأده أو إجهاضه ?ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً? (الإسراء: 31).
وصوناً للأسرة ورعاية لأفرادها حرَّم الله الزنا والفواحش عموماً ?ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً? (الإسراء: 32)، وحرم أيضاً ما يؤدي إلى هذه الفواحش من اختلاط الرجال بالنساء، كما ألزم المرأة بالحجاب حال بروزها أمام الأجانب درءاً للفتنة، فالمرأة في الإسلام جوهرة مصونة عن العبث والابتذال ?يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً? (الأحزاب: 59).
هـ. حفظ المال
المال قوام الحياة، والإسلام يعتبر ما يتداوله الناس مالَ الله الذي استخلف عليه الإنسان، وشرع له تكسبه وحيازته من الطرق المشروعة ، كما أمره أن ينفقه ضمن حاجاته وحاجات مجتمعه من غير إسراف ولا تقتير.
وقد حث الإسلام على العمل والإنتاج واكتساب المال بالطرق المشروعة ?هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور? (الملك: 15)، ورغب r بالعمل واعتبره من القربات إلى الله، فقال: ((ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)).(83)
ولما مر رجل على النبي r ؛ رأى أصحاب رسول الله r من جَلَده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله؟، فقال رسول الله r: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)).(84)
لكن الكسب نوعان: طيب وخبيث، فالطيب هو الرزق الذي يكتسبه المرء بوسائل الكسب المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة والوظائف العامة والخاصة ?يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون? (البقرة: 172).
وأما الخبيث من الكسب فهو حيازة المال بالطرائق الملتوية كالربا والرشوة والغش والغبن والحيلة أو المتاجرة بالسلع الضارة للإنسانية ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون? (البقرة: 188).
وللإسلام قاعدة جامعة في هذا الشأن ?ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث? (الأعراف: 157)، فكل كسب للمال لا يؤذي صاحبه ولا الآخرين فهو حلال طيب، وكل ما عداه حرام خبيث.
وكذا يوجه الإسلام إلى المصارف الصحيحة للمال، فامتلاك الإنسان للمال لا يسوغ له إنفاقه كيفما اتفق، فالإسراف والتبذير في إنفاق المال، والتقصير في إخراج حقوق الفقراء عمل شيطاني بغيض ?وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً? (الإسراء: 26-27)، وقال r: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال))(85)، فهذا المال عطية الله، وقد استخلفنا عليه لننفقه في الأوجه المشروعة، وأعظمها الصدقة على الفقراء والمساكين ?وآتوهم من مال الله الذي آتاكم? (النور: 33)، ?وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبيرٌ[ (الحديد: 7).
وهكذا فهذه الضرورات الخمس التي تمثل أهم حقوق الإنسان في الحياة تدور على حفظها سائر تشريعات الإسلام، فمن التزمها أكرمه الله بالسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ومن تنكبها شقي في الدنيا بمقدار ما أعرض عن هدي الله وناموسه العادل والكامل ?فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ^ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ^ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى? (طه: 123-126).
أركان الإيمان
الإيمان هو المرتبة التي يسمو إليها المسلم بعد إسلامه، فيرنو إلى الارتقاء بإسلامه إلى مرتبة الإيمان، فلا يقف في دينه عند عتبة العبادات الظاهرة، بل يترقى في كمالات الإيمان بمقدار ما يتمثل في سلوكه من شُعَبِه التي تشمل الاعتقاد والعبادة والأخلاق، قال r: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). (86)
وأما أركان الإيمان فهي ستة يوضحها حديث جبريل حين سأل النبي r عن الإيمان فأجاب النبي r: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).(87)
وهكذا فأول الإيمان أن ينعقد قلب المسلم على التصديق بهذه المسائل الست، ثم يبرهن بعمله على صحة إيمانه بها، فالإيمان اعتقاد وقول وعمل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ولما كنا قد تحدثنا عن الأولى منها، وهي الإيمان بالله، نشرع بذكر بقية الأركان.
الإيمان بالملائكة
الملائكة مخلوقات نورانية فريدة، خلقها الله من نور، فقد قال r: ((خلقت الملائكة من نور))(88)، وهم جند الله الذين لا يعرف عددهم إلا هو ?وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر? (المدثر: 31).(7/114)
وبسبب طبيعتهم النورانية اللطيفة فإن الملائكة يقدرون على التشكل في هيئة أجسام كثيفة، كصورة البشر، فقد ظهرت الملائكة بصورة بشرية لإبراهيم ثم لوط ، وكذا ظهر الملاك جبريل لمريم عليها السلام على صورة رجل: ? فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ^ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ^ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً? (مريم: 17-19).
وهذه الصورة البشرية في الظهور الملائكي يأنس لها قلب الإنسان، لذا كثيراً ما نزل بها جبريل على النبي r ، فقد سأل الحارث بن هشام رسول الله r: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله r: ((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول)).(89)
والملائكة عباد لله مكرمون مفطورون على عبادة الله بلا كلل ولا فتور، فهم ?يسبحون الليل والنهار لا يفترون? (الأنبياء: 20)، وكذلك فإنهم لا يسأمون من عبادة الله ?يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون? (فصلت: 38).
لقد استحقوا وصف الله لهم بالكرام البررة (عبس: 16)، فهم ?لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ? (التحريم: 6).
وللملائكة أفعال تختص بالإنسان، منها مرافقة الإنسان في حياته وتسجيل أعماله، والشهادة عليه بما صنعه يوم القيامة ?وإن عليكم لحافظين ^ كراماً كاتبين ^ يعلمون ما تفعلون? (الانفطار: 10-12)، فالملائكة تسجل عليه سائر أقواله وأفعاله: ?إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ^ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد? (سورة ق: 17-18)، ومعرفة المؤمن بمعية الملائكة له أدعى في الحياء منهم أن يسجلوا عليه سيئة وهم الأبرار الذين لا يفترون من عبادة الله.
والملائكة جند الله المنفذون لأوامره وحكمه في أعدائه، فينزلون العقوبة بالمجرمين المستحقين لعذاب الله، كما أرسلهم الله لعذاب قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
ومن وظائف الملائكة قبض الأرواح التي ختم الله آجالها ?وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون? (الأنعام: 61)، ?قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون? (السجدة: 11).
والملائكة يحبون ما أحبه الله، فيحبون المؤمنين والاتقياء من عباد الله، ويستغفرون لهم، قال الله تعالى: ?الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم? (غافر: 7).
وقال r: ((فإذا صلى [أي المؤمن] لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)).(90)
ويتواصل استغفار الملائكة ليشمل جميع المؤمنين كما قال الله: ? والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم? (الشورى: 5).
وأما من كفر وعصى فالملائكة تدعو عليه باللعنة ?إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين? (البقرة: 161).
فإذا قامت القيامة استقبلت الملائكة المؤمنين في الجنات، وساقت المجرمين والكافرين إلى الدركات، فعن استقبالهم للمؤمنين وتهنئتهم إياهم يقول الله تعالى: ?والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ ^ سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار? (الرعد: 23-24)، وأما الكافرون فتعذبهم الملائكة في نار ?وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون? (التحريم:6).
الإيمان بالكتب
ولما كانت وظيفة الرسل حمل الهداية الإلهية إلى البشرية فقد أنزل الله عليهم هديه ووحيه، ليستنقذ به البشرية من ضلالها وتيهها ?كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه? (البقرة: 213).
وهذه الكتب الإلهية تحمل رسالة الله إلى الإنسان، وتبعاً لذلك فهي تتصف بصفات منزلها، فهي الهدى والنور، وقد وصف الله توراته التي أنزلها على موسى بقوله: ?إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور? (المائدة: 44)، ومثله قال في وصف الإنجيل الذي أنزله على عيسى عليه السلام: ?وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظةً للمتقين? (المائدة: 46)، وهكذا فالهدى والنور صفة لازمة لكل وحي يوحيه الله إلى نبي من أنبيائه.
والمسلم يؤمن بكل وحي لله امتثالاً لأمر الله وتصديقاً لكلامه: ?يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً? (النساء: 136)، فالكفر بأحد كتب الله هو كفر بها جميعاً.
ويأمر الله نبيه r والمؤمنين به، فيقول: ?قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون? (البقرة: 136). (وانظر آل عمران: 84).
وقد أمر الله جل وعلا الأمم السابقة بحفظ ما أنزل الله إليهم من كتاب، كما قال سبحانه: ? إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء? (المائدة: 44)، فأضاعها الأولون، ولم يكونوا أمناء عليها، فصارت نهبة للتحريف والتبديل ، فتعرضت للزيادة، حين أضيف إليها ما لم ينزله الله ?وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون? (آل عمران: 78).
وقد توعد الله بعذابه الذين فعلوا ذلك: ?فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون? (البقرة: 79).
كما تعرضت هذه الكتب للنقصان والضياع المتعمد الذي توعد الله أيضاً فاعله بأليم العذاب فقال: ?إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناَ قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم? (البقرة: 174).
ومما ضاع من الكتب السابقة؛ الإنجيل(91) الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ?ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به? (المائدة: 14).
ولتبيان الحقيقة الضائعة من الكتب السابقة أو المطموسة بالتحريف والتبديل فيها؛ أرسل الله محمداً برسالته الخاتمة، وأعطاه القرآن الذي جعله أيضاً نوراً وهدى ورحمة للناس جميعاً، فدعاهم الله إلى الإيمان به ?يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين? (المائدة: 15).
وبهذا أصبح القرآن خاتمة وحي الله المصدق لما سبقه والمهيمن عليه بما خصه الله من الحفظ والبيان قال تعالى: ?وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً? (المائدة: 48).(7/115)
وتكاملت نعمة الله على عباده بهذا الكتاب الذي سماه الله القرآن العظيم، وبالرسول الذي يبلغ إلى العالمين، فلله في ذلك المِنَّة البالغة ?لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين? (آل عمران: 164).
وحتى تبقى كلمة الله شاهدة على خلقه جيلاً فجيل؛ تكفل الله جل وعلا بحفظ كتابه الأخير ?إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون? (الحجر: 9)، وقال لنبيه r: ?إن علينا جمعه وقرآنه ^ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ^ ثم إن علينا بيانه? (القيامة: 17-19)، وهكذا أضحى القرآنُ الكتابَ الإلهي الوحيد المحفوظ بحفظ الله له ?وإنه لكتابٌ عزيزٌ ^ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ? (فصلت: 41-42).
وحتى يحفظ الله كتابه يسَّره للحفظ، وأنزله في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وإنما تعتمد الحفظ وسيلة للمحافظة على تراثها وتاريخها وأشعارها وأنسابها ?ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر? (القمر: 17)، وأنزله منجماً مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، ليسهل حفظه ومدارسته على النبي r وأصحابه.
وقد حفظ النبي r القرآن، وتعهده الله بمدارسته مع جبريل عليه السلام من كل عام في شهر رمضان، يقول ابن عباس: (كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة). (92)
ويخبرنا القرآن عن حرص النبي r على حفظ النص القرآني، فقد كان يردده حال سماعه له من جبريل عليه السلام، خشية أن ينسى بعضاً منه ، فطمأن الله روعه، وأعلمه أن القرآن محفوظ بحفظ الله: ?ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً? (طه: 114)، وقال له: ?لا تحرك به لسانك لتعجل به ^ إن علينا جمعه وقرآنه? (القيامة: 16-17).
وقد حرص النبي r على تعليم أصحابه القرآن، وكانوا يتعاهدون به من أسلم حديثاً، فيبادرون إلى تعليمه ما نزل من القرآن، يقول عبادة بن الصامت: (كان رسول الله يُشغَل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله r دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن).(93)
وكان الصحابة يتابعون باهتمام بالغ يومياً ما ينزل من القرآن، يقول عمر بن الخطاب t : كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة -وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله r ينزل يوماً، وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك.(94)
وحث النبي r أصحابه على تعلم القرآن، فقال مستحثاً لهممهم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))(95)، وأخبرهم أنه ((يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه)) (96)، فقراءة القرآن وحفظه من أفضل العبادات، و((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق؛ له أجران)).(97)
وقد سارع الصحابة إلى حفظ سور القرآن ومدارستها وتعلم ما فيها من معان وأحكام، فكان منهم مئات القراء، وقد أتم بعضهم حفظ كامل القرآن في عهد النبي r، فقد سأل قتادة خادمَ النبي r أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي r؟ فقال أنس: (أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد). (98)
وممن حفظه من نساء الصحابة أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، فأمرها النبي r أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، فكانت تؤم أهل دارها. (99)
وقد نقل القرآن الكريم بحفظ الجموع عن الجموع في كل عصر، وكان القرآن كما وصفه الله لرسوله، حين قال له في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن ربه تبارك وتعالى: ((ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)).(100)
يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: ((أناجيلهم في صدورهم))".(101)
وحتى نقف على كثرة هؤلاء القراء من الصحابة يكفينا أن نذكر أنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، يقول أنس: (جاء ناس إلى النبي r فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون .. فبعثهم النبي إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم).(102)
وبعد وفاة النبي r قتل في وقعة اليمامة الكثير من القراء، حتى خشي عمر من ضياع شيء من القرآن، فقال لخليفة المسلمين أبي بكر: (إن القتل قد استحر [أي كثُر] يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن).(103) فكان هذا سبباً في مبادرة الصحابة إلى جمع القرآن في مصحف واحد مكتوب في عهد الخليفة أبي بكر الصديق.
وجمع القرآن في عهد الصديق إنما كان جمعاً للمكتوب بين يدي النبي r الذي حرص على جمع القرآن في عهده ليتكامل حفظ السطور إلى حفظ الصدور.
يقول عثمان بن عفان: إن النبي r كان إذا نزلت عليه الآيات يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: ((ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)).(104)
وكان الصحابة يكتبون كل ما نزل، بل ويسارعون إليه مهما كثر، ومثاله مسارعتهم إلى كتابة سورة الأنعام، وهي من أطول سور القرآن، نزلت دفعة واحدة في مكة زمن الاضطهاد، يقول ابن عباس t: ((نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات؛ فإنها نزلت في المدينة)).(105)
وقد أولى النبي r المكتوب بين يديه اهتماماً بالغاً، إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه، يقول زيد بن ثابت كاتب الوحي: كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله r وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: ((اقرأه))، فأقرأُه، فإن كان فيه سقط أقامه. (106)
وخوفاً من تداخل المكتوب من القرآن مع غيره من كلام النبي r أمر أصحابه، فقال: ((لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه)).(107)
ثم لحق النبي r بالرفيق الأعلى قبل أن يجمع هذا المكتوب بين يديه في مصحف واحد، يقول كاتب الوحي زيد بن ثابت: (قبض النبي r، ولم يكن القرآن جمع في شيء). (108)
قال الخطابي: "إنما لم يجمع r القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته؛ ألهمَ الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر". (109)
وبعد وفاة النبي r بدأت حروب المرتدين، وكان أشدها معركة اليمامة التي قتل فيها قرابة الألف من أصحاب النبي r، وبينهم كثير من القراء.(7/116)
فجاء عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر الصديق، يقترح جمع القرآن في مصحف واحد، خشية ضياعه بوفاة المزيد من القراء، ووافق الخليفة على المقترح ، وانتدب لجنة لذلك العمل العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن ثابت، الذي يروي لنا الخبر بتمامه فيقول: (أرسل إلي أبو بكر مقتلَ أهل اليمامة وعنده عمر، فقال: أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر.
فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبع القرآن فاجمعه.
قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر.
فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: ?لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم? (التوبة: 128) إلى آخرهما.
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر).(110)
وتبين لنا رواية أخرى المنهج الذي اتبعه زيد في جمعه، إذ لم يعتمد على محفوظاته ومحفوظات الصحابة، بل بحث عن المكتوب بين يدي النبي r ، والموثق بشهادة شاهدين يشهدان بكتابته بين يدي النبي r، يقول يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: (قام عمر بن الخطاب في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان).(111)
قال أبو شامة المقدسي: (وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة).(112)
وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي النبي r موثقاً بشهادة شاهدين على الأقل، يشهدان أنه كتب بين يدي النبي r.
وفي عهد عثمان t أمر الخليفة بتكوين لجنة تعيد نسخ المجموع في عهد أبي بكر، كان عمادها أربعة من حفاظ القرآن (113)، وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي بكر وكتابته وفق لسان قريش، يقول حذيفة: (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.
فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم).(114)
وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية كتابة كلمة واحدة، يقول حذيفة: (فاختلفوا في "التابوت" و" التابوة " ، فقال القرشيون بالأول، وقال زيد بالثاني ، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بالتابوت، فإنه نزل بلسان قريش). (115)
وتكامل الجمع العثماني بكتابة سبع نسخ من المصحف، أرسل كل واحد منها إلى قطر من أقطار المسلمين، ليكون إماماً للناس، يضبطون وفقه مصاحفهم، وأمر عثمان من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق).(116)
والسبب الذي دعا الخليفة إلى طلب إحراق الناس لما بين أيديهم من الصحف والمصاحف أن بعضها قد كتب قبل العرضة الأخيرة للوحي في السنة الأخيرة من حياة النبي r، ففيها ما نسخت تلاوته، كما يمكن أن يقع في مصاحف الصحابة الخاصة نقص آية أو كلمة أو زيادة ناسخ لشرح كلمة وسواها، فيخشى أن يظن من يأتي بعد ناسخها أنه من القرآن، كما كانت مصاحف الصحابة مختلفة في ترتيب سورها، فمصحف علي t مثلاً كان ترتيبه بحسب النزول، فلهذه الأسباب أمر عثمان بإحراق المصاحف.
وقد فعل الصحابة ذلك وامتثلوا أمر الخليفة ، واتفقوا على صحة صنيعه، يقول علي t: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً .. والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل). (117)
ويقول مصعب بن سعد t: (أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعب ذلك أحد).(118)
وامتثال الصحابة وفعلهم؛ إقرار لعثمان على صحة ما فعله، لأن ما فعله عثمان هو إعادة نسخ مصحف أبي بكر وفق حرف قريش ولسانهم، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، كما ثار عليه من ثار لأمور أقل منها كتوليته بعض أقاربه على بعض مدائن المسلمين.
ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق من المسلمين مصحفه ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.
وهكذا وُثِق النص القرآني كتابة، فاجتمع إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي r ، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه في كل عصر الألوف المؤلفة منهم، فوصل إلينا القرآن الكريم محفوظاً من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
الإيمان بالأنبياء
ولكي تبلغ رسالة الله إلى العالمين اصطفى الله خيرة من خلقه، فجعلهم رسلاً له، أولاهم تعريف الناس بدينهم وإبلاغهم ما يريد ربهم منهم، فمن أطاعهم وآمن بهم بشروه بالسعادة والرضوان، ومن عصاهم أنذروه غضب الملك الديان ?رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً? (النساء: 165).
فبهؤلاء الرسل قامت حجته تبارك وتعالى على خلقه: ((وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل)).(119)
والرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله كُثُر، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها رسولاً يقيم حجته عليها ?وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ? (فاطر: 24).
وقد ذكر القرآن والسنة أسماء بعضهم ، وهم : آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى وهارون ويوشع وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لكن ثمة كثيرين غيرهم لم يذكرهم القرآن، كما قال تعالى: ?ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك? (النساء: 164).
وجميع الأنبياء من البشر، وهم لا يتميزون عن غيرهم إلا بما خصهم الله من النبوة وأنوارها وعبقها ?وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ^ وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين? (الأنبياء: 7-8)، فكلهم يجري عليه ما يجري على البشر من عوارض جسدية كالطعام والشراب والمرض، ومن أقدار علوية كالبلاء والموت.(7/117)
وهم لا يملكون من القدرة أكثر مما أمكنهم الله منه ?قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون? (إبراهيم: 11).
وقد أيد الله هؤلاء الأنبياء بالدلائل التي برهنت لأقوامهم على صدقهم في دعوى النبوة والرسالة، قال r: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)). (120)
ولما كان الرسول على قدر مرسِله؛ فإن الله اصطفى هؤلاء الأنبياء من بين سائر خلقه، يكونوا رسله وسفراءه إلى خلقه، فهم خيرتهم خُلقاً، بل وخَلقاً.
ومن صفاتهم عليهم السلام تحملهم المشاق والبلاء في سبيل إقامة دينه ?الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً? (الأحزاب: 39)، وهم في بلاغهم لرسالة الله لا يطلبون الأجر من الناس، فقد قال نوح عليه السلام: ?ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله? (هود: 29)، وقد أمر الله نبيه r أن يقول للناس ما قاله إخوانه الأنبياء: ?قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً? (الفرقان: 57).
ولما تمثل بهؤلاء الأنبياء من الكمالات؛ فإن الله أمر نبيه محمداً والمؤمنين من بعده بالتأسي بهم، فقال بعد أن عدَّد أسماء ثمانية عشر رسولاً: ?أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ^ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ? (الأنعام: 88-89)، فتمثل النبي r هديهم، ومشى على غرزهم، فرفع الله قدره، وأعلى ذكره، وجعله أسوة حسنة للعالمين ?لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً? (الأحزاب: 21).
وقد كانت دعوة هؤلاء جميعاً واحدة في أصولها، وهي الدعوة إلى عبادة الله الواحد دون سواه ?وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون? (الأنبياء: 25)، كما أن أصول شرائعهم وجوهرها واحد ?شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه? (الشورى: 13).
وعليه فالمسلم يؤمن بجميع الأنبياء بلا تفريق بينهم ?آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير? (البقرة: 285).
والكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل وبمن أرسلهم وبالرسالة الواحدة التي يحملونها ?إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ^ أولئك هم الكافرون حقاً? (النساء: 150- 151).
أما طرائق الوحي التي يوحي الله بها إلى هؤلاء الأنبياء، فتتلخص في ثلاثة طرق: الأول: خطاب الله المباشر، كما كلم الله موسى في الوادي المقدس، والثاني: الوحي الذي يقذفه الله في قلب النبي، والثالث: ما يحمله ملاك الله إلى النبي من وحي الله، سواء ظهر له على شكل بشري إيناساً له أو على صورته الحقيقية، قال تعالى: ?وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء? (الشورى: 51).
وجميع هؤلاء الرسل من أهل الفضل والكمال، لكنهم متفاوتون في أقدارهم عند الله ?تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس? (البقرة: 253).
وأفضلهم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله بقوله: ?وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم? (الأحزاب: 7)، وقد أمر الله نبيه بالصبر على الدعوة ومشاقها اقتداء بمن سبقه من أولي العزم من الرسل ?فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل? (الأحقاف: 35).
وأفضل هؤلاء الأنبياء عند الله خاتمهم الذي ارتضاه الله للبشرية كلها نبياً ورسولاً، محمد بن عبد الله الذي قال مخبراً عن منزلته عند ربه: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))، وفي رواية: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر)). (121) أي لا أفخر على أحد بذلك، إنما أبلغ بما خصني الله من الشرف والمنزلة.
ولكي لا توهم المفاضلة بين الأنبياء نقصاً في المفضول؛ فإن النبي r نهى عنها، فقال لمن قال بأنه خير من موسى: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)).(122)
الإيمان بالقضاء والقدر
وسادس أركان الإيمان هو الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يجري في هذه الدنيا من خير أو شر إنما يجري بقضاء الله الذي لا راد له ولا مانع منه، فقد كتبه الله قبل أن يخلق الخلق بدهر طويل.
وتتضمن عقيدة المسلم في القضاء والقدر ثلاث مسائل:
الأولى: أن الله عز وجل عليم بكل شيء، وأن كل ما يحصل منا من خير أو شر قد علمه الله أزلاً، وهو مصداق قوله تعالى: ?الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً? (الطلاق: 12).
الثانية: أن الله كتب ما علمه، قال الله تعالى: ?ألم تعلم أن لله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير? (الحج: 70)، وقال: ?وكل شيء أحصيناه في إمام مبين? (يس : 12)، وما كتبه الله إنما كتبه قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال r : ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)).(123)وقال أيضاً : ((وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)).(124)
الثالثة: أن ما كتبه الله في كتابه كائن لا محالة، ولا يمكن لأحد أن يغيره ?وكان أمر الله قدراً مقدوراً? (الأحزاب : 38)، وما يقع من الناس من شر وخير إنما يجري بعلم الله ومشيئته الأزلية ?وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين? (التكوير: 29).
لكن الفعل الإنساني لا يصدر من الإنسان جبراً وقهراً، فالإنسان أكرم مخلوقات الله، كرّمه الله ، فمنحه القدرة على التمييز ? ألم نجعل له عينين ^ ولساناً وشفتين ^ وهديناه النجدين ? (البلد: 8-10)، ثم دعاه تبارك وتعالى لاختيار الحق وهجر الباطل، من غير إكراه منه على ذلك.
فإذا ما اختار الإنسان خير النجدين، فسلك سبيل الهداية؛ زاده الله من أنوار الهدى ?والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم ? (محمد: 17)، وإن تنكبها واختار الضلالة والعماية زاده الله ضلالاً، كما وصف الله تعالى المنافقين : ? في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون ? (البقرة: 10).
وهكذا فالإنسان يختار فعله وفق اختياره وإرادته، لذلك نسب الله فعله إليه بقوله: ?وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليمٌ ? (البقرة: 215)، لكن اختياره وفعله ليس جبراً لله أو قهراً، بل هو بقدرة الله الخالق الذي أقدره على ذلك ? والله خلقكم وما تعملون? (الصافات: 96).
ويشمل الإيمان بالقضاء والقدر، التصديق بجملة من القضايا التي قدرها الله بسابق علمه.(7/118)
أولها: ما يصيب الإنسان من خير وشر، يقول النبي r: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه))(125)، وبذلك يتعلق قلب العبد بربه مسبب الأسباب، لا بالأسباب المنظورة التي جعلها الله طريقاً لتحقيق قدره المكتوب، وهذا يُحل بالمؤمن راحة النفس وطمأنينة القلب عند نزول البلاء، ومحبة المنعم ورجاء المزيد من نواله عند الرخاء ?ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ ^ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ? (الحديد: 22-23).
ومنها أيضاً: تقدير أرزاق الخلق ، فكل ذلك مسطور في علم الله أزلاً، يقول الله تعالى عما يقدره من أرزاق للناس: ?وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم? (الحجر: 21).
وبسبب هذا الإيمان فإن المؤمن أشجع الناس بما أوتي من يقين بالله الذي هو وحده يملك أرزاق الناس وآجالهم، ?قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون? (التوبة: 51)، وهو يعلم أيضاً ((أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام وجفَّت الصحف)).(126)
وبسبب إيمان المسلم بأن الرزق مقسوم من الله بسابق قضائه، فإنه لا يطلب الدنيا بنَهَم عُبَّاد المال الذين لا يعرفون في الكسب حلالاً ولا حراماً، إنما يطلبه بوجوهه المشروعة، يقول r: ((لا تستبطئوا الرزق ، فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له ، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال ، وترك الحرام))(127)، وفي حديث آخر يقول r: ((وإن الروح الأمين قد نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). (128)
وكذلك فإن الله قدر آجال الناس وأعمارهم في سابق علمه ?الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى? (الزمر: 42).
وإيمان المسلم بذلك يعرف الإنسان بقْدره الضعيف، وينبؤه عن ضعفه الكبير، وعن عظيم حاجته إلى ربه، قال r: ((لو أن الله سبحانه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله تعالى ما قبله منك؛ حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك؛ وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار)).(129) فيستقبل المؤمن بالقضاء والقدر مصائب الدنيا بالبشر، ويراها منحة حملتها إليه محنة ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).(130)
الإيمان باليوم الآخر
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا ليعمرها وفق منهج الله ، فإذا ولَّت وانقضت؛ جمع الله الأولين والآخرين في يوم جديد، هو يوم الحساب والجزاء، حيث يجازى كل إنسان على عمله، وهذا هو ما تقتضيه حكمة الله وعدله، وإلا لاستوى الطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، وهذا من العبث الذي يتنزه عنه الله الحكيم ?أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ^ فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ? (المؤمنون: 115-116).
وقد تولى القرآن إثبات معقولية البعث والنشور، وردَّ بالبرهان على مكذبي البعث الذين ضعف تصورهم لقدرة الله العظيمة، فتساءلوا مستنكرين: ?وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً ^ قل كونوا حجارةً أو حديداً ^ أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة? (الإسراء: 49-51).
وضرب الله لهؤلاء المنكرين الأمثالَ العقلية التي تقرِّب فكرة البعث إلى أذهانهم، فقال جل ذكره: ?وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ^ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ^ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون ^ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ^ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ^ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون? (يس: 78-83).
والقيامة تشمل جميع البشر، مؤمنهم وكافرهم ?وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً? (الكهف: 47)، فلا مناص من ذلك اليوم ولا مهرب كما قال تعالى: ?أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً? (البقرة: 148).
والقيامة تقوم في زمن لا يعلم موعده إلا الله ، قال تعالى: ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير? (لقمان: 34).
فإذا أذن الله بانتهاء الدنيا وانصرامها، تنحلُّ – بأمر الله - سنن الكون ويختل نظامه وترابطه وتقوم الساعة ?يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار? (إبراهيم: 48).
ويرافق قيام الساعة أهوال شديدة، منها ما ذكره الله بقوله: ?إذا الشمس كورت ^ وإذا النجوم انكدرت ^ وإذا الجبال سيرت ^ وإذا العشار عطلت ^ وإذا الوحوش حشرت ^ وإذا البحار سجرت ^ وإذا النفوس زوجت ^ وإذا الموءودة سئلت ^ بأي ذنبٍ قتلت ^ وإذا الصحف نشرت ^ وإذا السماء كشطت? (التكوير: 1-11).
وأول ما يكون من أحداث القيامة نفختا الصور، حيث تصعق الخلائق في الأولى منهما، وتقوم إلى ربها بعد النفخة الثانية ?ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون? (الزمر: 68).
وقال تعالى: ?ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ^ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ^ إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون ^ فاليوم لا تظلم نفسٌ شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون? (يس: 51-54).
فإذا ما جمع الله الأولين والآخرين، وآذن ببدء الحساب؛ أمر بإعطاء البشر صحفهم فرأوا فيها أعمالهم، الصالح منها والطالح، فيوم القيامة يوم عدل الله ودينونته.
ويصف القرآن مشهد تطاير الصحف ووقوعها في أيدي أصحابها، فأما المؤمنون منهم فيأخذون صحفهم بأيمانهم، ويهتفون بالبشرى والفرح لما وجدوه فيها من صالح العمل ?فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه ^ إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه ^ فهو في عيشةٍ راضيةٍ ^ في جنةٍ عاليةٍ ^ قطوفها دانيةٌ ^ كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية? (الحاقة: 19-24).
وأما الذين كفروا بالله واليوم الآخر فيأخذون كتبهم بشمائلهم، ويتنادون بالحسرات على المسطور فيها من سيء القول والعمل ?وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ^ ولم أدر ما حسابيه ^ يا ليتها كانت القاضية ^ ما أغنى عني ماليه ^ هلك عني سلطانيه? (الحاقة: 25-29).
وهذه الصحف يجد فيها المرء كل ما عمله من عمل ?يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ^ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ^ ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره? (الزلزلة: 6-8)، ?ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً? (الكهف: 48).(7/119)
ويحاسب الله الخلائق على أعمالهم ?والله سريع الحساب? (البقرة: 102)، وينصِب لهم في المحشر ميزاناً، لا يزن الناس بأطوالهم ولا أثقالهم، بل ميزان عدل وحق ، يزن العبد بمقدار عمله ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرؤوا: ?فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً?))(131) (الكهف: 105).
وهذا الميزان الأخروي مظهر من مظاهر عدل الله وعلمه المحيط ، فهو يزن الصغير من العمل كما يزن الكبير ?ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين? (الأنبياء: 47).
ثم تكون النتيجة: ?فأما من ثقلت موازينه ^ فهو في عيشة راضية ^ وأما من خفت موازينه ^ فأمه هاوية? (القارعة: 6-9).
ومما يثقل ميزان العبد يوم القيامة ما يأتي به من الحسنات والأعمال الصالحة، ومنها ذكر الله عز وجل ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده ))(132)، ومثلها الصبر والتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، لقوله r: ((ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم؛ فيحتسبه))(133)، وأما حسن الخلق فالبشرى لصاحبه، فإنه ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)).(134)
وينصب الصراط على جهنم ، وهو جسر يرِد عليه الجميع ، فيمرون عليه على قدر أعمالهم، فسعيد ناج إلى الجنة، أو مخدوش، أو شقي مكردس في النار، قال r: ((ويضرب الصراط بين ظهري جهنم .. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان .. غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله؛ تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، أو الموثق بعمله، ومنهم المخردل أو المجازى)).(135)
والمكردسون في النار هم الكافرون، ومن غلبت عليه سيئاته من عصاة المسلمين، فأما الكافرون فيخلدون فيها ولا يخرجون، وأما غيرهم من المسلمين، فيخرجون منها إذا طهرتهم النار من سالف أفعالهم ?والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 39).
ويصف الله بعض حسرات أهل النار وعذابهم فيها: ?والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ^ وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير? (فاطر: 36-37).
وحتى لا يتوقف العذاب عن أهل النار فإن الله يهيئ من الأسباب ما يجعله مستمراً ?إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً? (النساء: 56).
وتصور آيات القرآن مشاهد من عذاب أهل النار ليهلك من هلك عن بينة: ?فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ^ يصهر به ما في بطونهم والجلود ^ ولهم مقامع من حديد ^ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها? (الحج: 19-22).
ويخبرنا النبي r بأهون أهل النار عذاباً ، ففيه غنية ومزدجر لكل من ألقى السمع وهو شهيد، يقول r: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار, يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)).(136)
وأما أهل السعادة من أهل الإيمان فهم في الروح والريحان، ?وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون? (البقرة: 25).
إن نعيم الجنة فاق كل وصف، وتعالى عن كل شبه ، فليس له في الدنيا مثيل ولا نظير، ولا يشتبه شيء مما في الجنة مع شيء مما في دنيانا إلا في الأسماء، وأما الحقائق فتتباين ، فالجنة لا يشبهها شيئاً من الموصوفات والمدركات، وهي كما وصفها الله في الحديث القدسي الذي يرويه النبي r عن ربه: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: ? فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون?)) (السجدة: 17).(137)
ومن نعيم الجنة ما جعله الله فيها من أنهار طيبة الشراب عذبة المذاق ?مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم? (محمد: 15).
ومن نعيمها ما بشَّر الله به أهل طاعته بقوله: ?وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ^ في سدر مخضود ^ وطلح منضود ^ وظل ممدود ^ وماء مسكوب ^ وفاكهة كثيرة ^ لا مقطوعة ولا ممنوعة^ وفرش مرفوعة? (الواقعة: 27-34).
ويبشر النبي r أهل الجنة بمزيد فضل الله لهم، فإن داخلها ((ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه))(138)، بل يصرف الله عنه كل سوء مما كان يصيبه في الدنيا، فقد قال r: ((لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان؛ يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً)).(139)
ومن أعظم ما ينعم به أهل الجنة دوامه وأبديته، فالجنة دار نعيم لا ينفد ولا ينقطع: ? إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ^ جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ? (البينة: 7-8).
وينقل النبي r البشارة لأهل الجنة بالخلود فيها حين: ((ينادي مناد: إن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل: ?ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون? (الأعراف: 43)).(140)
وأما النعيم الأعظم الذي لا يدانى والشرف الذي لا يبارى فهو رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى، فلطالما عبدوه في الدنيا ولم يروه، فيتجلى لهم الله يوم القيامة منّة وتفضلاً وإحساناً ?وجوه يومئذ ناضرة ^ إلى ربها ناظرة? (القيامة: 22-23).
والإيمان باليوم الآخر له أكبر الأثر في تهذيب وتقويم سلوك المسلم، الذي يطمع برضوان الله ويخشى عقوبته، فيمتثل أوامر الله ويستكين لها، وهو موقن بأن ما يصنعه اليوم يلاقيه غداً، وأن امتثاله لأمر ربه في دنياه سبب في عاجل سعادته، ويعقبه الفرح والثواب في أخراه ? يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ^ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ^ ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره? (الزلزلة: 6-8).
وهكذا فإن أركان الإيمان هي صمام أمان للمجتمع الإنساني بما تغرسه في صدور المؤمنين من موجبات الرحمة والسكينة والإخبات، وما تثمره في دنيا المؤمنين من بذل وإحسان وتراحم، تسعد به البشرية في دنياها، وترضي به ربها ومولاها.
ردود على أباطيل(7/120)
لقد بُلي المسلمون اليوم بتحديات كبيرة، لعل أهمها تلك الهجمة التي تتنادى إليها دوائر دينية وصحفية وسياسية، وكلها تنصب في باب الافتراء على الإسلام؛ بغرض إقامة السدود التي تحول دون تعرف العالم على حقيقة الإسلام الذي تصوره هذه الدوائر على أنه دين يجمع بين الهمجية والوثنية ، يظلم المرأة، ويقتل الأبرياء، ويعادي الحضارة، ويبث الكراهية، إلى غيره من الافتراءات التي تفتقد أدنى معايير الموضوعية العلمية والإنصاف.
وهذه الرسالة في أصلها للتعريف بالإسلام، وليست للرد على ادعاءات الآخرين عليه، لكن قد يكون من المناسب أن نعرج فيها سريعاً على بعض ما قيل، ليكون أنموذجاً يقيس فيه القارئ الغائب على الشاهد، فتستبين بعض أطراف الحقيقة التي يرنو إليها كل عاقل وحصيف.
أولاً : الإسلام والمرأة
مما يروجه البعض زوراً عن الإسلام أنه امتهن المرأة وحط من منزلتها، وتنقصها وهضم حقوقها لصالح الرجل ...
إن هذا الزعم ليس من الحقيقة في شيء ، فما عرف العرب ولا غيرهم تكريماً للمرأة يماثل تكريم الإسلام لها، يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: (والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً؛ حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم).(141)
وقبل زمن مديد من اعتراف بعض الأمم بإنسانية المرأة ؛ قرر الإسلام تساوي الذكر بالأنثى في إنسانيتهما وكافة الأمور العبادية، ولم يميز بينهما في شيء إلا حال التعارض مع الطبيعة التكوينية والنفسية والوظيفية للذكر أو للأنثى.
فأما تساويهما في الإنسانية، فقد قرره النبي بقوله: ((إنما النساء شقائق الرجال)).(142) كيف لا وهما معاً أصل الجنس البشري ?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى? (الحجرات: 13)، ويشملهما جميعاً تكريم الله للجنس البشري ?ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً? (الإسراء: 70).
ويقرر القرآن الكريم أهلية المرأة للإيمان والتكليف والعبادة، ومن ثم المحاسبة والجزاء، وهي في كل ذلك مثل الرجل سواء بسواء ?من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون? (النحل: 97) ويقول تعالى: ?فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ? (آل عمران: 195).
ولم يعتبر الإسلام المرأة مصدر الشرور، ولم يوافق على اعتبارها سبباً في وقوع آدم في غواية الشيطان ، فالقرآن الكريم يجعل آدم وزوجته شريكين في اقتراف الخطيئة الأولى ، شريكين في جزائها ?فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه? (البقرة: 36)، وكما اشتركا في الخطيئة فقد اشتركا في التوبة منها ?قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين? (الأعراف: 23).
وهذا التساوي بين الوالدين يسري في المسؤولية الشرعية لذريتهما، حيث إن الله يساوي بين الرجال والنساء في ثواب وعقاب أفعال الإنسان، بلا تمييز لجنس على جنس ?إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً? (الأحزاب: 35).
وقد حذر القرآن من صنيع الجاهلية التي كانت تنتقص المرأة وتعتبرها عاراً تتخلص منه بوأدها حال الطفولة ?وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ^ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون? (النحل: 58-59).
وفي إزاء هذا الواقع الجاهلي الظالم خص النبي r البنات والأخوات بالمزيد من وصاته فقال: ((من يلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن؛ كُنَّ له ستراً من النار)).(143)
وبشّر بالجنة من أحسن رعاية الإناث من أخوات وبنات، فقال: ((من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو ابنتان أو أختان؛ فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن؛ فله الجنة)).(144)
ويرتفع الجزاء في حديث آخر ليبلغ بالمحسن إليهن إلى أعلى الجنة، حيث أنبياء الله والصالحون من عباده، يقول r: ((من عال جاريتين حتى تبلغا؛ جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه.(145) أي أنه يجاور النبي r في الجنة كما تتجاور الأصبعان في يد الواحد فينا.
كل هذا الترغيب والحث من الإسلام ليبطل شرعة الجاهلية في انتقاص المؤنسات الغاليات اللاتي يرغِّب النبي r بمحبتهن فيقول: ((لا تكرهوا البنات، فإنهن المؤنسات الغاليات)).(146)
ويبرأ الإسلام من تفضيل الذكر على الأنثى، ويعد بالجنة من أكرم الأنثى وأنصفها، قال رسول الله r: ((من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها؛ أدخله الله الجنة)).(147)
وكما أوصى الإسلام برعاية الابنة؛ فإنه أمر بذلك لكل أنثى، سواء كانت زوجة أم أمّاً؛ بل وأكد على رعاية حقوقها حتى في حال العبودية، ففي حديث الثلاثة الذين يؤتيهم الله أجرهم مرتين ذكر r ((الرجل تكون له الأمة، فيعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها، فله أجران)).(148)
وأما المرأة حين تكون أمّاً فللإسلام معها شأن آخر، فلئن كانت النصوص التي تأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما كثيرة في القرآن والسنة؛ فإن النبي r قدَّم حق الأم على حق الأب، فاعتبرها أحق العالمين بحسن صحبة الابن وأولى الناس ببره وإحسانه، فقد جاء رجل إلى رسول الله r فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك)).(149)
وأما الزوجة فهي شريكة الرجل في بيته، تشاركه السراء والضراء، وما فتئ النبي يوصي بها مرة بعد مرة، حتى إذا اجتمع أمامه مائة ألف من أصحابه في حجة الوداع قام فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم [أي مثل الأسيرات عندكم] .. ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً)).(150)
وما زال r يوصي بحق المرأة، ويحذر الرجل من الاغترار بقوته وظلمها والإضرار بها، فيشهد الله على تأكيده على حقها وبراءته ممن آذاها: ((اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة)).(151)
والزوجة درة مصانة، لا يلزمها أن تكدح وتشقى بالعمل لتضمن مكاناً لها في بيت الزوجية، فهذا ليس من واجباتها ولا هو متناسب مع أنوثتها وطبيعة مهمتها السامية في إدارة بيتها وتربية أبنائها وإعطائهم حقهم من الحنو والرعاية ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته. .. والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)).(152)
والأنثى - في الإسلام - مكفولة النفقة، أمّاً كانت أو زوجة، أختاً كانت أو ابنة، فمن واجب الرجل الإنفاق على الأسرة عموماً وعلى الزوجة خصوصاً، ولو كانت ذات مال ووظيفة، فقد أمر النبي r بذلك في خطبة يوم عرفة العظيم وفي أكبر اجتماع لأصحاب النبي r، فقال: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).(153)
وأوجب الله تعالى للزوجة السكن الكريم المتناسب مع قدرة الزوج المالية: ?أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم? (الطلاق: 6)، وكذا أوجب لها العشرة بالمعروف حال الحب وفي حال الكراهية ?وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ? (النساء: 19).(7/121)
وهذه العشرة للزوجة بالمعروف تصبح ميزاناً للخيرية عند الله يستبق فيه المسلمون إلى محبة الله ورضاه، فقد قال r: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))(154)، وفي رواية: ((إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)).(155)
وهكذا فالعلاقة الزوجية سلسلة متبادلة من الحقوق والواجبات، وهي قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء ?ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ? (البقرة: 288)، وهذه الدرجة هي القوامة.
وليس هذا التفضيل بسبب قعود جنس النساء عن جنس الرجال ، بل تفضيل متناسب مع ما أودعه الله في الرجل من استعدادات فطرية تلائم مهمته وتتناسب أيضاً مع دوره في إدارة الأسرة والإنفاق عليها، كما قال تعالى: ?الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم? (النساء: 34).
تقول الصحفية الإنجليزية روز ماري هاو: "إن الإسلام قد كرم المرأة وأعطاها حقوقها كإنسانة، وكامرأة، وعلى عكس ما يظن الناس من أن المرأة الغربية حصلت على حقوقها.. فالمرأة الغربية لا تستطيع مثلاً أن تمارس إنسانيتها الكاملة وحقوقها مثل المرأة المسلمة. فقد أصبح واجباً على المرأة في الغرب أن تعمل خارج بيتها لكسب العيش. أما المرأة المسلمة فلها حق الاختيار، ومن حقها أن يقوم الرجل بكسب القوت لها ولبقية أفراد الأسرة. فحين جعل الله للرجال القوامة على النساء كان المقصود هنا أن على الرجل أن يعمل ليكسب قوته وقوت عائلته. فالمرأة في الإسلام لها دور أهم وأكبر مجرد الوظيفة، وهو الإنجاب وتربية الأبناء، ومع ذلك فقد أعطى الإسلام للمرأة الحق في العمل إذا رغبت هي في ذلك، وإذا اقتضت ظروفها ذلك".(156)
ويصر البعض على أن الإسلام ظلم المرأة حين أباح للرجل أن يتزوج عليها، وفي هذا إضرار بمصلحتها.
وقبل التعرف على حكم الإسلام في تعدد الزوجات نجد أن من الواجب التذكير بأن الإسلام لم يكن أول من شرع هذه الشرعة التي عرفتها ومارستها الأمم والملل قبل الإسلام، ويكفي في ذلك أن نذكر بأن العهد القديم - الذي يؤمن به اليهود والنصارى - يذكر بأن سليمان النبي كان له ألف زوجة (انظر الملوك (1) 11/4)، فالتعدد وفق العهد القديم أمر مشروع، وهو واقع عاشه الأنبياء وأممهم قبل الإسلام.
والإسلام حين يبيح للرجل التعدد؛ فإنما يسيجه بجملة من الضوابط، وهو يشرعه لأمر واقعي ملموس، وهو حاجة بعض الأزواج إلى الزواج بغير زوجته لمرضها أو لعدم قدرتها على الإنجاب، أو لغير ذلك من الأسباب، فتزوج الزوج بأخرى أولى من طلاق الأولى ليتزوج بغيرها، وأولى أيضاً من العلاقة المحرمة خارج نطاق الزوجية، فالتعدد المشروع يغلق الباب أمام تعدد العشيقات غير المشروع الذي يجتاح المجتمعات الإنسانية التي تمنع تعدد الزوجات، واستبدلته بتعدد العشيقات.
إن البشرية لا غناء لها عن تعدد الزوجات إذا شاءت أن تحيى حياة العفة والطهر، وهذا ما ستقودنا إليه نظرة عابرة إلى الإحصاءات العالمية التي تشير إلى زيادة مطردة في نسبة النساء، فإذا كان عدد الإناث في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد على عدد الذكور بأربعة ملايين امرأة، فإن المجتمع مخير بين القبول بأربعة ملايين بغي أو الرضا بأربعة ملايين أسرة شرعية تتعدد فيها الزوجات.
يقول المؤرخ غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": "إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقوم به ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراها في أوروبا، ولا أرى سبباً لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوروبيين، بل إنني أبصر بالعكس ما يجعله أسنى منه".
ويقول: "إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من تعدد الزوجات الريائي عند الأوروبيين، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين".(157)
أما حين نسمح بتعدد الزوجات فالأمر مختلف، فالكل يعيش ضمن إطار الأسرة الشرعية الطبيعية، لذا يقول مونتكومري وات في كتابه "محمد في المدينة": "إن الفكرة الرائدة في القرآن، هي أنه إذا تبنى المسلمون تعدد الزوجات، فإن جميع الفتيات اللواتي هن في سن الزواج يمكنهن الزواج بصورة حسنة". (158)
وواقعية الإسلام في تشريعه للتعدد؛ لم تخل بمثاليته في التشريع، فقد حدده بأربع زوجات، وفرض على الزوج العدل بينهن: ?فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم? (النساء : 3)، وتوعد النبي r من ظلم إحدى زوجتيه بعقوبة خاصة يوم القيامة تتناسب وميله إلى واحدة منهن: ((من كان له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط)).(159)
إن تعدد الزوجات الذي يبيحه الإسلام ليس شهوة عابرة، ولا نوعاً من التمييز والتفضيل، بل هو تهذيب لواقع، يقنن لمسألة اجتماعية، يضفي فيها الرجل المزيد من المسئوليات التي يلزمه القيام بها والوفاء بمتطلباتها المالية والاجتماعية والإنسانية.
ونتساءل في خاتمة هذا المبحث: ألا يكفي إزاء المزاعم الكذوبة عن وضع المرأة في الإسلام أن نتامل الشهادة المنصفة للمفكر الفرنسي مارسيل بوازار في كتابه "إنسانية الإسلام": "أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد أنها حامية حمى حقوق المرأة".(160)
ثانياً: الإسلام والإرهاب
أرسل الله نبيه r إلى العالمين بشيراً ونذيراً، ووصفه بقوله: ?وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين? (الأنبياء: 107)، كما وصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة في قوله: ?لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ? (التوبة: 128)، فمحمد r هو رحمة الله المسداة إلى خلقه.
وقد امتن الله على البشرية ببعثته r لما طواه من الأحقاد المريرة؛ التي أنّت المجتمعات الإنسانية منها طويلاً: ?واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون? (آل عمران: 103).
كما وصف الله كتابه الأخير - القرآن العظيم - بالرحمة والشفاء بقوله: ?يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين? (يونس: 57)، وأكد عليه بقوله: ?هذا بصائر للناس وهدىً ورحمةٌ لقومٍ يوقنون? (الجاثية:20).
والرحمة كما هي صفة الله ونبيه وكتابه؛ فإنها صفة لازمة للمؤمنين أيضاً ، فالله الرحيم يرحم الرحماء من عباده، و ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله))(161)، والمتواصون بهذا الخلق العظيم هم أهل السعادة يوم القيامة ?ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ^ أولئك أصحاب الميمنة? (البلد: 17-18).
وقد أمر r المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان ، فقوله r : ((من لا يرحم الناس))(162)، لفظ عام يشمل كل أحد ، دون تمييز لجنس أو لون أو دين .
ومن صور الرحمة لغير المسلمين التصدق على مسكينهم ، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا ، فنزلت : ? ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم? (البقرة: 272). (163)(7/122)
وتمتد الرحمة لتشمل المحاربين الذين وقعوا في أسار المسلمين، يقول أبو رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية: ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً? (الإنسان: 8).
يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله r : ((استوصوا بالأسارى خيراً))، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله r إياهم. (164)
وإذا كان الإسلام دين رحمة، فمن أين أتى القول الذي تروج له بعض الدوائر التي دأبت على وصف الإسلام بالإرهاب والقسوة؛ متذرعة بما جاء في القرآن العظيم من نصوص تأمر المسلمين بإعداد العدة والتأهب لصد العدوان، بل والقتال والتضحية بالنفس ذوداً عن الدين والوطن والنفس والإنسان.
إن رحمة الإسلام ليست استكانة ولا خنوعاً للباطل على الضيم، ليست استخذاء أو مهانة، بل هي رحمة القوي القادر على حماية حقه من العدوان.
حقاً لقد أمر القرآن بالقتال، لكن شتان بين القتل والقتال، بين الإرهاب والجهاد، فالإرهاب هو استهداف الضعيف العاجز أو البريء الذي لا حول له ولا طول بالقتل والترويع، فقتل الأبرياء إرهاب دنيء وإفساد في الارض، وهو - في الإسلام - من أعظم الجرائم وأنكرِها.
لقد استبشع القرآن إرهاب فرعون واعتداءه على الأطفال والمستضعفين من اليهود، واعتبره من المفسدين في الأرض العاتين فيها: ?إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين? (القصص: 4).
ونقل القرآن أيضاً بغض الله للمفسدين: ?ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين? (القصص: 77)، وحكى عن حال أهل البغي والفساد محذراً من صنيعهم مستنكراً فعالهم: ?وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد? (البقرة: 205).
إن قتل نفس بريئة واحدة إفساد في الأرض، وهو أمر جلل مستبشع، كيف لا وهو مشبه بالاعتداء على جميع الجنس البشري ?من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً? (المائدة: 32).
وقد حرم الله قتل النفس إلا بحق - كقصاص ونحوه - في آيات كثيرة من القرآن ، منها قوله تعالى: ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق? (الأنعام: 151، الإسراء: 33)، ووصف عباده المؤمنين بأنهم : ? لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق? (الفرقان: 68).
ومن وقع في قتل نفس بلا حق؛ فقد أدخل الخلل على دينه ، قال r: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً))(165)؛ وكما يقول الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله).(166)
وحرمة النفس لا تختص بالمسلم دون غيره، بل تشمل كل نفس من غير أهل الحرب والعدوان، وهذا بيّن لمن تأمل وعيد النبي r لمن اجترأ على دم محرم من غير المسلمين؛ فقد قال r متوعداً من يفعل ذلك من المسلمين: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً)).(167) فهؤلاء المسالمون من غير المسلمين لهم عهد وذمة الله ورسوله، والوعيد النبوي شديد لمن أخفر هذه الذمة ((ألا من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر ذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)).(168)
إن الإسلام لم يحرم قتل أمثال هؤلاء فحسب، بل حرم ظلمهم وانتقاص حقوقهم والإضرار بمصالحهم، والنبي r - وهو الرحمة المسداة - يحاج يوم القيامة المسلمين الذين يظلمون هؤلاء، ويجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فيقول: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).(169) فالظلم -لأي أحد -يغضب الله الذي يقبل شكاة المظلوم على ظالمه -ولو كان المظلوم غير مسلم ، فالله يجيب دعوته على ظالمه المسلم، يقول r: ((اتقوا دعوة المظلوم -وإن كان كافراً -فإنه ليس دونها حجاب)) (170)، فالله حرم الظلم على ذاته العلية، وكذلك حرمه كذلك على سائر خلقه، ففي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول مخاطباً البشر جميعاً: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)).(171)
إن ظلم الحيوان يستوجب لصاحبه النار، فما بالنا بظلم الإنسان لأخيه الإنسان، قال r : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)).(172)
وهكذا فالإسلام أبعد الأديان عن الظلم وأكثرها تنديداً به وامتناعاً عنه، لكن ذلك لا علاقة له من قريب أو بعيد بشرعة الجهاد التي يقررها الإسلام، ردعاً للظالم وزجراً للباغي وصوناً للإيمان وحرية العباد في عبادة الله.
إذا أردنا الحديث عن الجهاد فإنه يحسن بنا أن نقرأ – ولو سريعاً – بعض الأحداث في فجر الإسلام، حين بعث الله محمداً r رسولاً للعالمين، فتصدت له قريش، وآزرتها قبائل العرب، فأوقعوا النكال والتعذيب والقتل بالمؤمنين، والمؤمنون صابرون محتسبون ملتزمون بنهي الله لهم عن القتال، لقد أمرهم الله بالصبر: ?ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة? (النساء: 77).
لكن الباطل أزبد وأصر على البغي، فأذن الله للمؤمنين المضطهدين بالقتال والذب عن أنفسهم ?أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقديرٌ ^ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله? (الحج: 39-40).
وبينت الآية نفسها مبلغ الفساد الذي يلحق البشرية على اختلاف أديانها إذا قصرت في رد المعتدي وزجره بالقوة التي يندفع بها عدوانه وتأمن بها المجتمعات ?ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لهدمت صوامع وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيزٌ ? (الحج: 40).
وبينت الآية التي تلتها الصفات التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان الذين ينصرهم الله، فهم ?الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور? (الحج: 41).
ونهى الله نبيه والصحابة عن الاعتداء والبدء بالقتال ?وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ^ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ^ فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيمٌ ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ^ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين? (البقرة: 190-194).
ولو انزجر هؤلاء المعتدون بغير القتال لأراحوا الأرض من عناء الحروب وويلاتها ?فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً? (النساء:90).
وحين أعلن المشركون الحرب الشاملة على المسلمين؛ قابلهم الإسلام بمثلها، فأمر الله في القرآن بالتوحد لقتالهم: ?وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً واعلموا أن الله مع المتقين? (التوبة: 36).
وهكذا فإن القتال في الإسلام فرض وفق أسباب شرعية ومبررات واقعية.(7/123)
إن الحرب ليست أمراً محبباً إلى النفوس، لكنها - على كل حال - مبضع الجراح الذي لا غناء عنه إذا أردنا صحة الجسم العليل ?كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ? (البقرة: 216).
والنبي r يوجه أصحابه إلى دعاء الله والالتجاء إليه لصرف العدو وقطع شره من غير قتال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)).(173) وقد امتن الله تعالى على نبيه r حين صرف عن المدينة الأحزاب من غير أن يقع بينهم قتل وقتال ?ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً? (الأحزاب: 25).
إن غاية الحرب في الإسلام ليست الاستعلاء في الدنيا والتسلط على الآخرين، فمن كان همه الدنيا وزخارفها خسر الآخرة وكرامتها ?تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين? (القصص: 83).
ولما جاء أعرابي إلى النبي r يسأله عن غايات الجهاد المشروع الذي شرعه الله، ويقول: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، ويقاتل ليُرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال r مبيناً فساد القتال إذا كان للدنيا ومتاعها وغاياتها الخسيسة: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).(174)
إن المتدبر لما ورد في القرآن والسنة وتاريخ المسلمين لن تخطئ عينه رؤية مقصدين نبيلين شرع الله الجهاد لحفظهما:
أولهما: دفع العدوان الواقع على الدين، ذلك العدوان الذي يحول بين الناس ودعوة الحق سماعاً لها أو إيماناً بها، كما قال تعالى : ?وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين? (البقرة: 193)، يقول ابن عمر t : (قد فعلنا على عهد رسول الله r إذ كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه: إما يقتلونه وإما يوثقونه حتى كثر الإسلام).(175)
إن المسلم يمضي قُدُماً بجهاده ليحرر الإنسان ، ويضمن له حرية القرار والاختيار، ويدفع بذلك من يحول بين الناس واختيارهم، يدفع شر أولئك الذين يبغون الفتنة والبوار، فقتال هؤلاء مشروع مبرور ?والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? (البقرة: 217).
وقد جلّى ربعي بن عامرٍ يوم القادسية هذا الهدف النبيل حين قال لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وقد سأله: ما جاء بكم؟ فأجاب ربعي: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه".(176)
إن الإيمان أغلى ما يملكه المسلم، وهو أحق ما بذل له وضحّى من أجله، وقد أنصف الكاتب بيجي رودريك ولم يجاوز الحقيقة حين قال: " الإسلام أذن لرسوله بالجهاد لرفع الظلم والاضطهاد .. ولإزالة العقبات التي تقف في وجه الدعوة للإسلام، تلك الدعوة التي لا تكره أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما تدعو الناس إليه وتترك لهم الحرية الكاملة للاختيار .. إن الإسلام هو دين السلام ، السلام مع الله والسلام مع الناس جميعاً".(177)
الثاني: رد العدوان الذي يستهدف أوطان المسلمين وينتهك حرماتهم، وتحرير الإنسان من الظلم والاضطهاد، فالظلم يمقته الله، والبغي تستنكفه الضمائر، ولا ترى بُداً من نصرة المظلوم وإحقاق الحق وإقامة العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، قال الله تعالى: ?وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً? (النساء: 75).
ويقول r مبشراً ومثبتاً من قُتِل وهو يدفع عن ماله وأهله ودينه: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)).(178)
وحين يجاهد المسلم فإنه يلتزم في جهاده جملة من الضوابط التي يتميز بها عن الإرهاب، منها:
- القبول بالسلم والهدنة إن طلبها العدو المقاتل، قال تعالى : ?وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ^ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ? (الأنفال: 61-62).
- الامتناع عن قتل المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال ومن في حكمهم من المدنيين المعصومين كالخدم والأُجراء ورجال الدين وغيرهم ممن لا يشارك في القتال، فقد ورد النهي عن قتل النساء والشيوخ والصبيان في حديث النبي r، يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله r، فنهى رسول الله r عن قتل النساء والصبيان).(179)
وكان رسول الله r إذا بعث جيشاً يقول : ((انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين)).(180)
ومما جاء في النهي عن قتل النساء والأجراء والعمال الذين لا يحاربون، حديث الصحابي رباح بن الربيع قال : كنا مع رسول الله r في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء؟)) فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال r: ((ما كانت هذه لتقاتل))، وكان على المقدمة خالد بن الوليد، قال: فبعث رسول الله r رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً)). (181)
وفي رواية، فقل: إن رسول الله r يأمرك فيقول: ((لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً)).(182)
ولما بعث رسول الله r سرية يوم حنين قاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله r مستنكراً: ((ما حملكم على قتل الذرية؟)) فقالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين. فقال r معلماً ومصححاً مفهومهم الخاطئ: ((أوهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها)).(183)
وهكذا نهى النبي r عن قتل أبناء المشركين، لا بل أخبر أنهم مولودون على الفطرة المؤمنة، وحكمهم كذلك إلى أن يكبروا، فيختاروا الكفر الذي عليه آباؤهم.
وممن يمنع قتله؛ الرهبان لأنهم لا يشتركون في القتال، وقد أوصى الخليفة أبو بكر قائد جيش المسلمين إلى بلاد الشام بقوله: (إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ).(184)
وهكذا فالإسلام بريء من الإرهاب، وكذلك المسلمون الذين التزموا خلال تاريخهم الجهادي بضوابط الإسلام، ولم يكونوا كغيرهم من المحاربين المفسدين في الأرض، وبين أيدينا شهادات عديدة منصفة تؤكد هذا وتجليه:
يقول المؤرخ الشهير ول ديورانت: "إن المسلمين – كما يلوح – كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلّما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099م". (185)
وأما غوستاف لوبون فيقول : "فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ".(186)(7/124)
ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير المسلمين فيقول : "وكان عرب أسبانيا -خلا تسامحهم العظيم -يتصفون بالفروسية المثالية، فيرحمون الضعفاء ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم وما إلى ذلك من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربا منهم مؤخراً". (187)
وهكذا تبين لنا عظيم الفرق بين الجهاد المشروع في الإسلام والأساليب الإرهابية التي تمارس من بعض المسلمين وغيرهم اليوم، والتي يعتبرها الإسلام إفساداً في الأرض، وتنسب إلى الإسلام جوراً وظلماً!
إن اتهام الإسلام بالإرهاب زور وظلم يفتقد الموضوعية ويجافي الحقيقة، والزاعمون له أدعياء تجردوا عن المصداقية والصدق حين كلّت أقلامهم وبحّت حناجرهم من لمز الإسلام بالإرهاب، ولم ينطقوا ببنت شفة عن أديان أخرى ، تسوغ كتبها قتل النساء والأطفال والرضع وغيرهم ممن لا علاقة له بالقتال " هكذا يقول رب الجنود: ... فالآن اذهب، واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً " (صموئيل (1) 15/2-3).
إنا لا نطالب هؤلاء باتهام الآخرين، إنما الذي نطالبهم به أن يفهموا نصوصنا المقدسة بفهمنا لها، لا بخلطهم وجهلهم، وأن يشيحوا بأقلامهم عنا حين تغيب عنهم الفهوم الصحيحة، وإلا فالأحرى أن يلتمسوا لنا من الأعذار ما التمسوه للآخرين وكتبهم.
ونختم بشهادة للكاتب الأمريكي آندرو باترسون حيث يقول: " إن العنف باسم الإسلام ليس من الإسلام في شيء، بل إنه نقيض لهذا الدين الذي يعني السلام لا العنف".(188)
ثالثاً : الإسلام والتعامل مع الآخر
ما فتئت بعض الدوائر الإعلامية تتعرض للإسلام وتتهمه بالعنصرية في تعامله مع غير المسلمين، وتزعم أن الإسلام أرغم الكثيرين على اعتناقه، وأنه يحث على كراهية الآخرين ويشجع على ظلمهم.
وهذه الدوائر جهلت الإسلام وأحكامه أو أنها تعمدت تشويه حقائقه وتشريعاته، وأياً كان؛ فإن الإسلام بريء من هذه الفرية، فالتاريخ يشهد أن المسلمين طوال عطائهم الحضاري العظيم لم يعمدوا إلى إجبار الشعوب أو الأفراد على اعتناق دينهم ، فقد أيقنوا أن اختلاف البشر في شرائعهم واقع بمشيئة الله تعالى ومرتبط بحكمته، يقول الله: ?لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً? (المائدة: 48)، ولو شاء الله لخلق الناس أو جعلهم مسلمين فطرة، من غير اختيار منهم ولا اقتدار ?ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ^ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ? ( هود : 118– 119).
ولذلك أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، وأن واجبهم الدأب في دعوة واستمالة الناس إلى الحق وطلب أسباب هدايتهم، فقد أخبرهم الله بأن مهمتهم هي البلاغ فحسب، وأنه تعالى هو من يتولى حساب المعرضين في الآخرة، قال الله مخاطباً نبيه r: ? فإن تولوا فإنما عليك البلاغ? (النحل: 82). وقال: ?فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد? (آل عمران: 20)، ?ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين? (يونس: 99).
وقد رفض الإسلام ابتداء فكرة إلغاء الآخر، وأعلنها صريحة: ? لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي? (البقرة: 256) ، ? وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها? (الكهف: 29).
إن الإسلام يرفض إسلام المكره لأسباب بسيطة واضحة، منها أن المكره ليس بمؤمن حقيقة، ولا تلزمه تشريعاته في أحكام الدنيا، ولا ينفعه ذلك في الآخرة، ومنها أن ذلك ليس مقتضى الحكمة والمشيئة الإلهية.
وقد شهد المؤرخون بالتزام المسلمين بتعاليم دينهم في هذا الصدد، فيقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة" متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبِيَع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها".(189)
ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح ".(190)
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: "العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟".(191)
إن السبب الحقيقي لانتشار الإسلام في الأرض هو تسامحه مع الآخرين، وليس عنفه المزعوم، لقد قرأت الأمم الحق في تسامح المسلمين، وعرفته في طيب معشرهم وحسن تعاملهم، خلافاً لما يشيعه الآخرون ظلماً وزوراً، يقول المؤرخ غوستاف لوبون: "إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى".(192)
ويقول: "وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ". (193)
ويوافقه المؤرخ وول ديورانت فيقول: "وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها". (194)
إن هذا التسامح الإسلامي هدي قرآني لازم للمؤمن الذي ينصاع لقول الله: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).(7/125)
فالآية تنوه بفضيلتين، وهما حق لكل من لم يقاتلنا ولم يعتدِِِِ علينا من غير المسلمين: أولاهما: التخلق بخصلة البر، وهذا البر الذي رغبَّ به القرآن تجلى في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثير من المواقف الفياضة بمشاعر الإنسانية والرفق.
فقد أوجب القرآن حسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين ، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في رد ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقهما في بره وحسن صحبته: ?وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً? (لقمان: 15).
ولما جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول الله r تقول: يا رسول الله ، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة ، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها الرحمة المهداة : ((صِلِي أُمَّك)).(195)
ومن البر والتسامح الذي لا يمنعه اختلاف الدين؛ عيادة المريض ، فقد عاد النبي r عمه الكافر أبا طالب في مرضه (196)، وعاد أيضاً جاراً له من اليهود في مرضه، فقعد عند رأسه.(197)
كما أهدى النبي r إلى بعض أعدائه ومخالفيه في الدين، لما للهدية من أثر في كسب القلوب واستلال الشحناء؛ فقد أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة، وهو بمكة، وكتب إليه يستهديه أُدماً (198)، كما قبِل النبي r هدايا الملوك إليه، فقِبل هدية المقوقس، وهدية ملك أيلة أكيدر، وهدية كسرى.(199)
وعلى المستوى الاجتماعي قبِل r دعوة زينب بنت الحارث اليهودية، حين دعته إلى شاة مشوية في خيبر (200)، كما قبِل وأجاب دعوة يهودي دعاه إلى خبز شعير وإهالة سنخة. (201)
وأما الفضيلة الثانية التي رغّبت فيها آية سورة الممتحنة فهي: العدل الذي هو أهم مكارم الأخلاق التي جاء الإسلام لحمايتها وتتميمها؛ وهو غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف ويتراحم له البشر.
لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، لذا فقد أمر القرآن الكريم بالعدل بين البشر عموماً، وخصَّ - بمزيد تأكيده – العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى? (المائدة: 8).
يقول الدكتور نظمي لوقا : "ما أرى شريعة أدعى للإنصاف، ولا أنفى للإجحاف والعصبية من شريعة تقول: ? ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى? (المائدة: 8)، فأي إنسان بعد هذا يكرم نفسه وهو يدينها بمبدأ دون هذا المبدأ، أو يأخذها بدين أقل منه تسامياً واستقامة؟!". (202)
وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، ومنه خصومة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب t مع يهودي في درعه التي فقدها، ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى قاضي المسلمين شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي، وقال: "أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي t: (أما إذ أسلمت فهي لك). (203)
ومن صور العدل مع المخالفين قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة عمر بن الخطاب للقبطي في مظلمته من أمير مصر وابنه، وقال مقولته التي أضحت بين الناس مثلاً: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟".(204)
إن أمثال هذه المواقف الرائعة دفع بطريك بيت المقدس في القرن التاسع للقول عن العرب في كتابه إلى بطريرك القسطنطينية: "إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف".(205)
ولو أنصف الزاعمون لرددوا مع جوستاف لوبون قوله: "الإسلام من أكثر الأديان ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيباً للنفوس وحملاً على العدل والإحسان والتسامح".(206)
وصدق الدكتور لويس يونغ في كتابه "العرب وأوروبا" حين قال: "إن أشياء كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من الحضارة الإسلامية منها نظرة العرب المتسامحة وعدم تمييزهم فروق الدين والعرق واللون".(207)
وهكذا فالإسلام بريء بشهادة النصوص والتاريخ مما يزعمه القائلون بأن الإسلام رعى العنصرية الدينية، بل على العكس من ذلك، لقد قدم المسلمون نموذجاً حضارياً فريداً ما تزال البشرية ترنو إلى مثله ، وهي أشد حاجة إليه اليوم في ظل تصاعد حملات الكراهية للمسلمين من أولئك الذي ما فتئوا يبشرون بصدام الحضارات والخطر المزعوم الذي تحمله الحضارة الإسلامية.
رابعاً : المسلمون والتحديات المعاصرة
إن نظرة سريعة في واقع المسلمين اليوم لن تخطئ في رؤية الكثير من التحديات التي تواجهها الأمة المسلمة في مطلع القرن الواحد والعشرين.
ولعل أول هذه التحديات قبوع الأمة التي قادت ركب الحضارة الإنسانية ثمانية قرون في ذيل القائمة في سلم الحضارة والعلم.
يستغل البعض هذا الواقع المرير للربط بين حال المسلمين ودينهم، متناسين أنه ليس من العدل والنصفة في شيء الحكم على دين بواقع أهله في برهة من الزمان، فالإسلام دين العلم والحضارة ، وحين تمسك المسلمون بدينهم كانوا أكثر الأمم عطاء في ركب الحضارة وأعظمها علماً وإبداعاً، لكنهم حين بعدوا عن دينهم واستبدلوه أو خلطوه بالغث الوافد عليهم من هنا وهناك تردوا عن السبق والحظوة التي منحها الله لهم بالعلم والمعرفة.
إن القرآن منذ نزلت أول آياته ?اقرأ باسم ربك الذي خلق? (العلق: 1) ما فتئ يدعو المسلمين إلى التعلم، ويثني على العلماء ويمتدح صنيع العقلاء ?يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ ? (المجادلة: 11)، ?قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب? (الزمر: 9).
لقد كرم الإسلام العلم، وأعطى لأهله من الفضل والمنزلة بوناً شاسعاً على سائر الناس، بما فيهم العُبّاد الذين نذروا أنفسهم لعبادة الله تعالى، يقول r : ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير)). (208)
وحين تمسك المسلمون بدينهم والتزموا شرائعه سبقوا أمم الدنيا ، وحملوا مشعل العلم والحضارة، وأبدعوا حضارة فريدة، يكفينا عن العرض المسهب لإنجازاتها أن ننقل بعض اعتراف العلماء المنصفين بسبقنا وإبداعنا، فقد سجلت كلماتهم بالإعجاب بعضاً من مآثر حضارتنا، وكانوا شهود عدل على مآثرنا.
ومن ذلك قول الدكتور ستانلي لين بول في كتابه "تاريخ العالم" : "لم يحدث في تاريخ المدنية حركة أكثر روعة من ذلك الشغف الفجائي بالثقافة الذي حدث في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فكان كل مسلم، من الخليفة إلى الصانع، يبدو كأنما قد اعتراه فجأة شوق إلى العلم وظمأ إلى السفر، وكان ذلك خير ما قدّمه الإسلام من جميع الجهات". (209)(7/126)
ويضيف المؤرخ جوليفيه كستلو في كتابه "قانون التاريخ" بأن "التقدم العربي بعد وفاة الرسول [r] كان عظيماً، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعداً لانتشار الإسلام، فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم. وقبض العرب بأيديهم - خلال عدة قرون - على مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشرية .. فأصبحوا سادة الفكر، مبدعين ومخترعين، ولا بالمعنى المعروف، بل بما أحرزوه من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية، وكانت المدنية العربية قصيرة العمر، إلا أنها باهرة الأثر، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها".(210)
وإذا كان حال المسلمين فيما مضى كذلك، فكيف توارت الأمة المسلمة عن الشهود؟ ولم تقبع في ذيل الركب اليوم؟!
إن ما نشهده اليوم من ضعف حضاري للأمة المسلمة يرتبط بعاملين اثنين: أولهما هو بُعدُ المسلمين عن دينهم، فلئن كان تقدم أوربا مرهوناً بتخلصها من دينها المبدَّل؛ فإن نهضتنا لن تكون إلا بعودتنا إلى ديننا، فالمفارقة بين حالنا وحالهم، تنبع من الاختلاف بين خصائص أدياننا.
والعامل الثاني الذي أسهم في تردي أحوال الأمة المسلمة هو الاستعمار الغربي الذي غزا الشرق الإسلامي عقوداً من السنين، ولم يبرحها إلا وقد ترك فيها من العقد المستعصية ما تعجز عن حلها الأجيال ، ليضمن بذلك استمرار تفوقه ورواج سلعه في الشعوب التي جعلها أسواقاً استهلاكية لبضائعه، فارتهن مقدراتها ليضمن تفوقه ودوام سيطرته.
وأما المظهر الثاني من المظاهر التي تزري بواقع المسلمين اليوم، فهو اختلافهم وتناحرهم بل واحتراب طوائفهم وتراميهم بالتكفير والتبديع، وهم في ذلك أيضاً قد خالفوا أمر ربهم وهو يدعوهم إلى الوحدة والاعتصام ? واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا ? (آل عمران: 103)، فقد خالفوه وهو يدعوهم إلى التوحد في أمة واحدة ? وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ? (المؤمنون: 52).
إن تشرذم المسلمين وتناحرهم يرجع إلى عوامل كثيرة، لكن أهمها تدخل أياد خفية تكيد لإخوتهم، وتتربص بوحدتهم الدوائر، فالكثير من خلافات المذاهب الإسلامية لم تؤثر في وحدة المسلمين طوال تاريخهم؛ لأنها بقيت في منأى عن الهجمة الاستعمارية المغذية للنعرات المذهبية، كما هو الحال في العلاقة بين السنة والزيدية، أو بين أتباع المذاهب الفقهية الأربعة.
إن المسلمين حين افترقوا لم يفترقوا بسبب اختلافهم حول أصول دينهم، فهذا ما لم تخالف فيه طائفة من طوائفهم المعتبرة، فالكل يؤمن بالله الواحد وصفاته وكتبه وأنبيائه ، وأصول شريعته وأركان دينه، وخلافهم بقي بعيداً عن أصول الدين التي لم يختلفوا فيها، فخلاف السنة مع الشيعة – وهو الخلاف الأقوى بين المسلمين اليوم – إنما هو خلاف حول الشخص الأحق باستحقاق الخلافة بعد النبي r، فهو خلاف سياسي تاريخي في جذوره، ولم تمس امتداداته أصول الدين من قريب أو بعيد.
وافتراق المسلمين أيضاً قدر الله لكل الأمم ، وفيه مصداق نبوءة نبوية لنبينا r حين قال: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين، فرقة واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار)) قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: ((الجماعة)). (211)
وهكذا فالتفرق ميراثنا من الأمم السابقة، وتناحر بعضنا واقتتالهم مذموم لنكوصه عن هدي الإسلام إلى سبل الضلال والكفر ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم .. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).(212)
إن حاضر المسلمين لن يصلح إلا بما أصلح ماضيهم، إن الإسلام هو الذي جعل من أوزاع العرب وغيرهم أمة واحدة، وأحالهم من أمة أمية جاهلة إلى أمة قادت ركب الحضارة الإنسانية ثمانية قرون.
إن الرصيد الذي يمتلكه الإسلام في مبادئه وتصوراته ما يزال الأمل الذي يتطلع إليه العقلاء، فكل سؤدد وشرف وحضارة في الاستمساك بالإسلام، في حين أن مظاهر التخلف والتفرق نتاج قدري حتمي لبعدنا عن الإسلام، فما أحرانا أن نسارع في العود إليه والاستمساك بهديه القويم.
خاتمة:
وهكذا يتبين الحق لكل منصف، فمن قبِل هبة الله التي تبينت له؛ شرح الله صدره للإسلام ? أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه? وأما من قسى فلبه وكبُر عليه الإذعان للحق، فنصيبه تمام الآية: ?فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مبينٍ ? (الزمر: 22).
وبعد، ما الذي يمنع المرء من الولوج في الإسلام، أيشينه أن يعبد الله وحده، وأن يكون على دينه الذي بشر به الأنبياء وارتضاه الله لعباده ديناً.
ما بال بعضنا -في القرن الواحد والعشرين -يفضل ميراث الآباء وإلفِه على الحق الذي آمن بصدقه عقله؟
إن الكثيرين من العقلاء قد سبقوا إلى هذا الحق فاعتنقوه، منهم النجاشي رحمه الله، ملك الحبشة الذي عرض عليه الصحابة الإسلام فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.(213)
لكم أشرق الإسلام في صدور أناس؛ فأخرجهم الله به من ضيق الصدر وضنك الدنيا وقتامة الحياة إلى رحابة الدنيا وسعادتها ونعيم الآخرة، ولكم تنكب طريق الحقيقة آخرون، فعاشوا في ضيق الدنيا واستحقوا أيضاً عذاب الآخرة ? فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ? (الأنعام: 125).
إن الإسلام بما أوتي من حق وبصيرة ووضوح يملأ الكون بهديه القويم، وتشير الدراسات والإحصاءات إلى أنه أكثر الأديان انتشاراً رغم الضعف الذي ينتاب الأمة الإسلامية عموماً، ورغم الحملات المسمومة التي ما فتئت تفتري على الإسلام على صفحات الإعلام وشاشات القنوات وغيرها من وسائل الاتصال، ليتحقق من بعد ذلك كله موعود الله ?يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون? (التوبة: 32).
ولو أنصف المرء لردد ما قاله الدكتور نظمي لوقا عن النبي r: "أعرض بوجداني عن تلك النظرة الجائرة أو المتجنية التي نظر بها كثيرون من المستشرقين وغيرهم إلى الرسول العربي، ولكني حين أحتكم إلى العقل أرى الخير كل الخير فيما جنحت إليه .. فما كان كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت إليه آلاء الرسل، وهمة البطل، فكان حقاً على المنصف أن يكرم فيه المُثل ويحيي فيه الرَّجل".(214)
إن البشرية اليوم أحوج ما تكون إلى الإسلام، إذا ما أرادت أن تتخلص من مشكلات عصرنا المتفاقمة، فالإسلام وحده كفيل بالقضاء على أمراضنا النفسية والاجتماعية، وهو وحده من يملك العصا السحرية التي تخفض معدلات الانتحار وتعيد لحياة البائسين المعذبين جمالها ورونقها في ظلال الإسلام.(7/127)
يقول دوجلاس أرثر: "لو أحسن عرض الإسلام على الناس لأمكن به حلّ كافة المشكلات، ولأمكن تلبية الحاجات الاجتماعية والروحية والسياسية للذين يعيشون في ظل الرأسمالية والشيوعية على السواء. فقد فشل هذان النظامان في حلّ مشكلات الإنسان. أما الإسلام فسوف يقدم السلام للأشقياء، والأمل والهدى للحيارى والضالين. وهكذا فالإسلام لديه أعظم الإمكانات لتحديث هذا العالم وتعبئة طاقات الإنسان لتحقيق أعلى مستوى من الإنتاج والكفاية".(215)
وأما الكاتب الهندي كوفهي لال جابا فيقول في كتابه "رسول الصحراء": "الإسلام بوسعه تلبية كافة حاجات الإنسان في العصر الحاضر، فليس هناك أي دين كالإسلام يستطيع أن يقدم أنجح الحلول للمشكلات والقضايا المعاصرة. فمثلاً أشد ما يحتاج إليه العالم اليوم الأخوة والمساواة، وهذه وجميع الفضائل لا تجتمع إلا في الإسلام، لأن الإسلام لا يفاضل بين الناس إلا على أساس العمل والبذل". (216)
ولا نجد أخيراً إلا أن نردد مع أديب ألمانيا يوهان غوته هتافه الصادق: "إذا كان هذا هو الإسلام، أفلا نكون جميعنا مسلمين؟". (217)
قائمة المصادر والمراجع
* القرآن الكريم .
* الكتاب المقدس . طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط .
ــــــــــــــــ
* الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، 1408هـ.
* الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، محمد بن سورة الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، مكة المكرمة، المكتبة الفيصلية.
* الخصائص العامة للإسلام، يوسف القرضاوي، ط4، القاهرة، مكتبة وهبة ، 1409هـ.
* زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
* السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.
* سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، بيت الأفكار الدولية، عمان.
* سنن أبي داود ، أبو داود السجستاني، دار الحديث ، 1391هـ .
* سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، ط2، حلب، مكتب المطبوعات الإسلامية ، 1406هـ.
* صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، في تحقيقه لكتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ط2، القاهرة، دار الريان للتراث، 1407هـ.
* صحيح الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدين الألباني، ط5، الرياض، مكتبة المعارف.
* صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، ترقيم : محمد فؤاد الباقي، دار إحياء التراث العربي . بيروت ، 1375هـ .
* قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، طبع الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412هـ.
* قصة الحضارة، وول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، ط2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1964م.
* محمد الرسالة والرسول، نظمي لوقا، ط2، مطابع دار الكتاب العربي، 1959م.
* المدخل إلى دراسة الشريعة، عبد الكريم زيدان، ط5، جامعة بغداد، 1396هـ.
* المصاحف، أبو بكر بن أبي داود السجستاني، تحقيق: محب الدين عبد السبحان واعظ، ط2، دار البشائر الإسلامية، 1423هـ.
فهرس الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة ...
الإسلام وأركانه ...
الركن الأول: الشهادة لله بالتوحيد ولرسوله محمد r بالرسالة ...
الركن الثاني: إقام الصلاة ...
الركن الثالث: إيتاء الزكاة ...
الركن الرابع: صوم رمضان ...
الركن الخامس: حج بيت الله الحرام ...
مفهوم العبادة في الإسلام ...
العبادة والأخلاق ...
مراتب الأحكام التكليفية ...
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها ...
أولاً : خصائص الشريعة الإسلامية ...
أ. ربانية المصدر والغاية ...
ب. العدل والمساواة ...
ج. الشمول والتوازن ...
د. المثالية الواقعية ...
ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية ...
أ. حفظ الدين ...
ب. حفظ النفس الإنسانية ...
ج. حفظ العقل ...
د. حفظ النسل ...
هـ.حفظ المال ...
أركان الإيمان ...
الإيمان بالملائكة ...
الإيمان بالكتب ...
الإيمان بالأنبياء ...
القضاء والقدر ...
اليوم الآخر ...
ردود على أباطيل ...
أولاً : الإسلام والمرأة ...
ثانياً : الإسلام والإرهاب ...
ثالثاً : الإسلام والتعامل مع الآخر ...
رابعاً : المسلمون والتحديات المعاصرة ...
خاتمة ...
المصادر والمراجع
=============
التصور السياسي للحركة الإسلامية
تأليف
الشيخ رفاعي سرور
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. وبعد...
فإن الحقيقة التي يجب أن نفهمها قبل طرح النظرية السياسية الإسلامية هي أن الحركة الإسلامية هي القادرة وحدها على تكوين نظرية سياسية صحيحة.
ذلك لأن للنظرية السياسية شروطا علمية، وهي تكوين النظرية في بداية مرحلة إنشاء الأمة1 "الدعوة"، ومن خلال المضمون الحضاري لهذه الأمة دون انقطاع للوجود التاريخي لها2.
والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تكونت نظريتها السياسية من خلال منهجها مع تمام نشأتها.
والأمة الإسلامية هي الأمة التي لم ينقطع وجودها التاريخي لحظة واحدة على هذه الأرض3.
والأمة الإسلامية هي الأمة ذات المضمون الحضاري المطلق... وهو الحق.
ورغم ذلك فإن المستقر في الأذهان أن الدعوة الإسلامية لا تملك تصورا سياسيا... وقد جاء هذا الادعاء ف الابتداء كأسلوب خطير من أساليب التنقص الجاهلي بالدعوة... ولكن الادعاء استقر في الأذهان في الانتهاء؛ لأن الدعوة لم تعلن عن تصورها السياسي بعد، ولم يستطع هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الادعاء التفريق بين عدم وجود نظرية سياسية، وبين وجود نظرية سياسية لم تطرح بعد.
ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الحركة الإسلامية - في الواقع القائم - تصورها السياسي حتى الآن؟
والإجابة؛ إن طرح التصور السياسي للحركة هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية... العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحركة هي أن تبلغ الحركة مرحلة القوة السياسية... فهل بلغت الحركة الإسلامية هذه المرحلة؟ ونبدأ بمناقشة هذا التساؤل، وأول حقائق هذه المناقشة أن القوة السياسية تعرف بشواهدها.
وإن مواقع الدعوة المنتشرة في العالم المستضعفة أمام الحكومات الجاهلية... تتراوح بين الوصول إلى مرحلة القوة السياسية التي تنطبق عليها هذه الشواهد وبين مرحلة الاستضعاف الأولى التي يعبر عنها بالمرحلة الفردية.
مرورا ببعض المواقع التي ينطبق فيها بعض هذه الشواهد دون غيرها... ووصول واقع الدعوة إلى مرحلة القوة السياسية، والتي تتوافر فيها جميع هذه الشواهد يقتضي أن يطرح أصحاب هذا الواقع تصورهم السياسي... ويسيروا ملزمين بالدخول في مرحلة الممارسة السياسية لدعوتهم...
أما الشواهد العامة للقوة السياسية فأهمها أن أعداء الدعوة يفكرون بمنطق التعامل مع أصحابها لا منطق القضاء عليها، وهذا هو الشاهد الأول؛ لأن نشأة القوة السياسية تأتي من خلال نظرة أعدائها لها وأسلوب التعامل معها.
أن تكون قضية أصحاب القوة السياسية مؤيدة على مستوى الرأي العام اجتماعيا وفكريا وأن يكون التعاطف مع أصحابها ثابت ومؤكد، ويلاحظ في هذا الشاهد أن لا يحسب فقط من خلال التأييد والتعاطف القائم بل يشمل مدى قابلية غير المؤيدين لأن يكونوا مؤيدين.(7/128)
أن يمثل المعتنقون لقضية القوة السياسية كثرة عددية تبلغ مستوى القاعدة الجماهيرية، بحيث يصل مستوى تلك القاعدة إلى أنها تكاد تمثل موقف " الشعب " أو الأمة.
أن تمثل هذه الكثرة نماذج متعددة من جميع المستويات الاجتماعية بحيث لا يمكن تقييده بمستوى اجتماعي معين أو فئة اجتماعية، ويشمل هذا الشاهد وجود عناصر اجتماعية متميزة من كل مجالات المجتمع.
أن تحقق الكثرة العددية بعناصرها المختلفة اختراقا واضحا لمستوى السلطة القائمة4.
أن تملك هذه القوة دائما رد الفعل المناسب إذا حاول أعداؤها التأثير في قوتها أو إضعافها بحيث يتطلب رد الفعل المطلوب الإمكانيات المادية اللازمة والاستعداد للبذل والتضحية بصفة دائمة ويقظة5.
أن يؤكد حجم القوة السياسية في الواقع المفاوضات والمعاهدات الاتفاقات السرية والعلنية بين القوة السياسية وأعدائها أصحاب السلطة.
فإذا بلغ موقع من مواقع الدعوة مرحلة القوة السياسية بشواهدها المذكورة على أصحاب هذا الموقع بدء الممارسة السياسية ابتداء من طرح التصور السياسي لهم والمنطلق من واقعهم القائم ومرحلتهم العملية.
وإذا كان طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية عند وصولها إلى مرحلة القوة السياسية... شرطا أساسيا فإن هناك شروطا أخرى تمثل في الحقيقة حماية (مهمة الطرح) من عدة أخطاء أساسية:
الخطأ الأول: طرح التصور السياسي للحركة من خلال النظريات السياسية غير الإسلامية ادعاءً للصفة العلمية للنظرية المطروحة.
الخطأ الثاني: طرح التصور السياسي للحركة من خلال تجربة إسلامية تاريخية، مثل مرحلة الدولة الإسلامية التاريخية للأمة6، فيتكلم صاحب هذا الخطأ دائما في شكل الدولة الإسلامية في الماضي بكل مصطلحاتها ونمطها الشكلي.
الخطأ الثالث: طرح التصور السياسي للحركة من خلال البرنامج الإسلامي للإصلاح والذي سيكون عندما تقوم الدولة الإسلامية.
وتصحيح الخطأ الأول هو تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية من خلال المنطلق السلفي...
وتحديد النظرية السياسية بالحق الشرعي والدين الخالص... وهو الرد المباشر على أصحاب الخطأ الأول.
وتحديد التصور السياسي العام للحركة الإسلامية من خلال المرحلة التي تمر بها الدعوة فعلا في كل موقع من هذه المواقع تحديدا دقيقا هو الرد على أصحاب الخطأ الثاني.
أما الخطأ الثالث... فهو الذي يتطلب مناقشة مباشرة.
فالبرنامج خطة تفصيلية موقوتة منبثقة عن تصور ومحققة في واقع، فكيف يتحدد برنامج بغير واقع؟
إن الجاهلية تريد أن تُحَمِّل التصور الإسلامي كل مشاكلها الجاهلية لذا كان لابد من تعريف للمشكلة التي يجب أن نواجهها بالتصور السياسي الإسلامي.
فالمشكلة الإسلامية هي المشكلة التي تقابل الفكر الإسلامي في طريقه إلى الواقع الإسلامي.
وأي مشكلة خارج هذا الإطار وهذا المسار هي مشكلة جاهلية لا يعالجها إلا التفجير الإسلامي للواقع وترتيبه من جديد حسب التصور الصحيح.
والاستفزاز الجاهلي للحركة الإسلامية بأنها لا تملك برنامجا سياسيا أمر لا يجب الاستجابة له.
نحن نملك التصور السياسي.
نحن نملك النظرية السياسية.
أما البرنامج السياسي... فلابد لكي يطرح أن نملك الواقع، وكل من يريد برنامجنا السياسي عليه أولا أن يعطينا الواقع ويسلم قيادته، وليكن شعارنا في الرد على أصحاب هذا الاستفزاز " أعطني واقعك أعطك برنامجي ".
قيمة الممارسة السياسية (تمهيد):
ولأجل أن نبدأ تقييم الممارسة السياسية يجب أن نقارن بين طبيعة هذه الممارسة مع أساليب الحركة الإسلامية.
وقد اتفقنا أن الأساليب الأساسية للحركة الإسلامية هي: التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وإقامة السلطة... أما الهجرة والعزلة فهي تصرف اضطراري يتحتم عند اليأس من الاستجابة، والفرق بينهما: أن الهجرة تصرف اضطراري جماعي، والعزلة تصرف اضطراري فردي... ولا تخرج أساليب العمل عن هذا الإطار العام.
أما العلاقة بين هذه الأساليب... فيثبت فيها أن استفاضة البلاغ وإقامة الحجة والدعوة بالكلمة هي الخط الأصلي للحركة، وأن خط القوة هو في الابتداء لإنشاء فرصة الدعوة بالكلمة عندما تمنع الجاهلية هذه الفرصة... وفي الانتهاء لإقامة السلطة وإنشاء الدولة.
أما موقع الممارسة السياسية من هذا الإطار فهو:
أن الممارسة السياسية تحقق ضبط العلاقة بين أساليب الحركة ذاتها من ناحية وأساليب الحركة بالنسبة للواقع من ناحية أخرى.
فهي التي تفرض أسلوب التبليغ بالكلمة بعد تحليل الواقع وموضع الدعوة.
وهي التي تفرض أسلوب القوة عندما تُمنع الدعوة من فرصة الاتصال بالناس.
وهي التي تحلل آثار القوة في الواقع وتؤكد تلك الآثار لتحقيق غاية الحركة الأصلية، وهي إقامة دولة الدعوة والهداية.
إذًا فالممارسة السياسية ليست أسلوبا قائما بذاته... ولكنها الضابط لكل أساليب الحركة... بحيث يتحقق الهدف الأساسي للدعوة من خلال أي أسلوب.
فهناك مثلا أسلوب الدعوة وأسلوب القوة.
وهناك السياسة الضابطة للعلاقة بين هذين الأسلوبين التي تضمن بها الدعوة الاتجاه بالأسلوب المناسب نحو تحقيق الهدف النهائي.
فقد تفرض الممارسة السياسية إيقاف أسلوب استخدام القوة وقد تحتمه، وفي كلا الافتراضين يكون تحقيق الهدف هو الأمر القائم المطلوب.
هذه هي قيمة الممارسة السياسية على مستوى أساليب الحركة.
أما قيمة الممارسة السياسية على مستوى الكيانات المتعددة في الواقع الواحد... فإنها قيمة ضخمة وهي إدخال الكيانات المتعددة للدعوة ضمن إطار الحركة الواحدة... دون علاقة حركية مباشرة بين هذه الكيانات باعتبار صعوبة تلك العلاقة منهجيا وحركيا، بل إن فرض التصور السياسي الصحيح للحركة هو الذي سيعطي لكل كيان بمنهجه الذي يتبناه مساحته الصحيحة في الواقع الحركي، ويصبح ضبط هذه المساحة وتلك العلاقة بالزيادة أو التحجيم مرتبط بهذا التصور وتلك الممارسة.
أو بمعنى آخر طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية الذي يرى فيه كل كيان منهجيته التي يتصورها وحركته التي يمارسها، بحيث ينشأ الموقف الواحد لجميع كيانات الحركة بصورة سياسية صحيحة.
وكذلك فإن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية سيسد ثغرات خطيرة في منهج الدعوة... وأخطرها: ثغرة الخروج عن الأحكام الشرعية في ممارسة الدعوة بادعاء "مصلحة الدعوة" حيث يسد التصور السياسي للدعوة بصبغته السلفية هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وأخطرها أيضا الارتداد عن خط المواجهة بالقوة بادعاء العمل السياسي وتحديد التصور السياسي بأبعاده المتعددة - بما فيه بُعد الممارسة بالقوة - يسد أيضا هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وبذلك لا تصبح السياسة لافتة فوق أي موقف باطل أو مرحلة ضعف... بحيث يصبح التصور السياسي للحركة الإسلامية ضابط لكل العبارات7 والمصطلحات التي تشكل خطرا كبيرا على الدعوة إذا أصبحت عنوانا للأهواء والتراجع والخلل.
فلا تصبح عبارات عائمة... بل تتحدد وتستقر وتنضبط.
أولاً
النظرية السياسية الإسلامية
والآن... ما هي النظرية السياسية للحركة الإسلامية؟
إن الأسلوب الأفضل في طرح النظرية هو البدء بتعريف " السياسة " الإسلامية، وبتحليل عناصر التعريف يتم طرح النظرية... فما هي السياسة الإسلامية؟
السياسة: هي حكمة (الجماعة) المنشئة (لدولة) الدعوة العالمية (الخلافة) المقيمة (لحضارة) الحق.
حكمة الجماعة:
اتفقنا أن الحكمة: هي حاسة الصواب الكامنة في كيان الداعية محددة له في واقع الدعوة سبيل الوصول إلى الغاية8.
وهذا هو المفهوم الفردي للحكمة.(7/129)
فإذا تحدد المفهوم الجماعي للحكمة... كان هذا المفهوم هو السياسة... فإذا قلنا: إن الحكمة هي سياسة الفرد كانت السياسة هي حكمة الجماعة، وعلى هذا... فإن النظرية السياسية الإسلامية تتحدد أساسا بعناصر الحكمة الأربعة: " الواقع، الحق، الإنسان، الغاية ".
وارتباط هذه العناصر بالمستوى الجماعي للدعوة حيث يتحدد الإطار العام للنظرية السياسية للحركة.
بحيث يكون غياب أي عنصر من عناصر الحكمة الأربعة سببا في عدم تحديد هذا الإطار.
أ) تحليل الحركة السياسية (الواقع):
ومن هنا كان ابتعاد العلماء عن الحياة العامة جعلهم بعيدين عن السياسة نظريا وعمليا، وقد سجل هذه الظاهرة المؤرخ ابن خلدون... فذكر أن العلماء أبعد عن السياسة ومذاهبها؛ والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والخوض في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات.
ويقصد ابن خلدون أن كثيرا من العلماء – لعيشهم مع الكتب – ينظرون إلى الأمور من خلال الكتب، مع أن الواقع الخارجي (الدول وأحوال الناس الاجتماعية والخارجية والاقتصادية) يكون مغايرا أو محتاجا إلى تدقيق في التفاصيل.
أما وضع الشيء الذي في الخارج في قالب الكتب فهذا يؤدي إلى الخطأ بالتأكيد، فالذي لا يعرف الواقع يظن – مثلا – أن الحكام المعاصرين مثل بعض حكام الدولة الأموية والدولة العباسية... مع أن الفارق كبير، فالسياسة – كما يقول ابن خلدون – تحتاج إلى مراعاة إلى ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال فإنها خفية.
هذا إذا كانت السياسة بمعنى معرفة الواقع تماما ومحاولة للنهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، أما إذا كان المقصود بالسياسة المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق فلا (9 ".
والإطار الواقعي للنظرية السياسية يتحقق مقتضاه في الممارسة من جانبين: الواقع الذي نمارس فيه الدعوة، وواقع أصحاب الدعوة ذاتها.
فتتم الممارسة من خلال: التقييم السياسي للواقع وهو التصور الذي يختلف عن التحديد الفقهي المباشر في الحكم على هذا الواقع...
مثال ذلك: التفريق بين الروم والفرس باعتبار أن الروم ينتسبون إلى دين سماوي والفرس مجوس؛ مما جعل المسلمين يفرحون لنصر الروم رغم أن الحكم الشرعي في الدولتين هو الكفر.
ومثال ذلك أيضا: اختيار الرسول عليه الصلاة والسلام الحبشة لتكون موضعا للهجرة الأولى قائلاً: " اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد "10. رغم مساواته في الكفر مع غيره؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيه كان قبل إسلامه.
ومن هذين المثالين يتضح الفرق بين التصور الفقهي المجرد والتصور السياسي.
التصور الاجتماعي: وبهذه القاعدة يكون الاستفادة بطبيعة أي واقع، مثل الاستفادة بتقاليد الجوار... كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار أحد المشركين11، وكما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع العرب قبل الإسلام على أن لا يظلم بينهم أحد، وهو المعروف بحلف الفضول الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دعيت إليه لأجبت "12.
الموقع الجغرافي:
ويدخل ضمن الاستفادة بالواقع والاستفادة بكل عناصر هذا الواقع حتى جغرافية الواقع... ولقد كان موقع غفار في طريق تجارة قريش مانعا لقريش من قتل أبي ذر... وهذا نص الحديث كما رواه أبو ذر الغفاري، يقول أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فقاموا، فضُربتُ لأموت فأدركني العباس فأكب عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم... تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار؟! فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فصُنع بي مثل ما صُنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب عليَّ وقال مثل مقاله بالأمس13.
وكان موقع أبي ثمامة من أهل اليمامة وموقع اليمامة من أهل مكة مانعا لقريش من قتله، وتقول السيرة: فلما أسلم أبو ثمامة خرج إلى مكة معتمرا، حتى إذا كان ببطن مكة قال: فكأني أول من دخل مكة. أخذته قريش وقالوا: لقد اختبأت علينا. وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه؛ فإنكم محتاجون إلى الطعام من اليمامة. فتركوه، فقال لهم: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 14.
التصور التاريخي:
وأهم مقتضيات التصور السياسي للواقع هو الاستفادة من تجاربه، فتنطلق الممارسة السياسية من مجموع التجارب السابقة على المستوى التاريخي للأمة.
ولقد احتج مؤمن آل فرعون على فرعون احتجاجًا تاريخيًّا صحيحًا عندما قال له: " وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ "15.
وباعتبار أن السياسة وظيفة جماعية... فإن إدراك الواقع يجب أن يكون هو الآخر وظيفة جماعية.
وهذا يعني أن تجتمع كل إمكانيات الحركة الإسلامية بكل اتجاهاتها في مهمة إدراك الواقع.
ويصبح نظام جمع المعلومات ومتابعة الواقع الجاهلي بكل الوسائل والأساليب لصالح الحركة الإسلامية أهم واجبات الممارسة السياسية للحركة بكل كياناتها.
هذا من حيث الواقع الجاهلي الذي ستمارس فيه الدعوة... أما واقع الدعوة ذاتها فهو الذي يبدأ بتاريخها.
وتحقيق ذلك يحتم مناقشة قضية التراث باعتبارها سجل التجربة الإسلامية.
التحليل السياسي للتراث:
وقضية نقل الخبرة وهي قواعد الاستفادة بالتجربة المسجلة في كتب التراث ومناقشة قضية التراث تكون بالمنطق السياسي ذاته... بمعنى أن التعامل مع كتب التراث لا يكون تعاملا مع نصوص مجردة، بل يجب ربط النص التراثي بصاحبه وواقعه وهدفه، وبذلك يؤخذ التراث بمنطق الحكمة... حيث يتوفر في التعامل عناصر التعريف الأساسية لمعنى الحكمة... (النص وصاحب النص وواقع النص والهدف منه ".
وبذلك تتحقق مهمة إحياء التراث وتنبع من طبيعة وحقيقة التصور الصحيح لوظيفة ذلك الإحياء... أما الاقتصار على الوظيفة اللغوية أو حتى التاريخية فإنه يجعل الإحياء قاصرًا... أما الإحياء الكامل فهو الإحياء بالحكمة، أو الارتفاع بالإحياء إلى مستوى الوظيفة السياسية.
والتحليل اللفظي لنصوص التراث يسمح باكتشاف حقيقة المدركات الكامنة في الألفاظ.
والتحليل التاريخي يحدد الواقع من حيث الزمان والمكان
أما التحليل السياسي فهو ربط المدرك بالواقع... والإنسان هو الذي يقوم بذلك الربط فينطبق مفهوم الحكمة على مهمة التحليل.
ولذلك يقول حامد ربيع: " التحليل السياسي للتراث يلغي عنصر الزمان إذ يفرض على المحلل أن يسعى لإدراج التراث في إطار أكثر اتساعًا حيث يصير النص التقاءً بين ماضٍ وحاضر ومستقبل بحيث يكشف الحقائق الثابتة الدائمة وتمييزها عن الأخرى المؤقتة... ".
ونحن إذ نركز على الإنسان المحلل فإنما يكون ذلك بسبب أن الإنسان نفسه هو الذي يربط بين النص وواقع صاحبه... وهو الذي قد يضطر إلى تجريد النص التراثي من تلك العوامل إذا كانت نتيجة التحليل هي الوصول إلى حقيقة مطلقة يجب الاستفادة بها مجردة من ظروفها التاريخية.(7/130)
ومهمة ربط النص بظروفه لإدراكه بصورة صحيحة.
وتجريد النص من ظروفه لاستخلاص حقيقته المطلقة والثابتة16 هو ما يسمى بـ "الوعي السياسي ".
إذن: الوعي السياسي هو مجموعة الحقائق المطلقة المأخوذة من التحليل السياسي للتراث التاريخي للأمة.
ومن هنا يجب ألا نتعامل مع النص التراثي كمجرد استجابة إلى نوع من أنواع الفضول، إنما من منطلق الحركية العلمية وهي أهم خصائص التنظيم السياسي. والحركة العلمية كخصيصة من خصائص التنظيم السياسي هي التعامل مع النص التراثي بمقتضى مفهوم الحكمة أو التصور السياسي.
وفي إطار تحليل الواقع التاريخي للدعوة تتحدد أخطر قضاياها تحديدًا سياسيًّا: وهي قواعد نقل الخبرة.
وأهم هذه القواعد:
تقييم الخبرة الإسلامية وعناصرها:
- الصواب الشرعي.
- بلوغ حد الاستطاعة المادي والتنظيمي لتحقيق الهدف.
- أثر التجربة المتحقق قدرًا.
- الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق مستوى الصواب أو الخطأ.
- ربط التجربة بالواقع.
فعند تقييم أي عمل إسلامي في واقع الدعوة نسأل أولاً عن الحكم الشرعي في هذا العمل، فإن كان صوابًا شرعيًّ نسأل: هل بلغ أصحاب هذا العمل حد الاستطاعة المادي والتنظيمي قبل القيام به؟ فإن لم يبلغوا فيكون الحكم عليهم بالتقصير من هذه الناحية، وإن كانوا قد بلغوا فلا بأس عليهم، فإذا توافر الدليل الشرعي بالصواب من حيث الحكم وتوافر حد الاستطاعة المادي والتنظيمي من حيث العمل، ثم كان الخطأ في الممارسة... فإننا نواجه هذا الخطأ بعدة واجبات:
الأول: معالجة هذا الخطأ وأثره في الواقع.
الثاني: قد يحدث خطأ باعتبار الخطة وبالقياس إلى الهدف المحدد، ولكن قد يكون لهذا الخطأ بالاعتبار القدري جانب إيجابي بالقياس إلى الواقع، فعندئذ يجب التنبيه لهذا الخطأ والاستفادة منه في واقع الممارسة.
الثالث: ربط آثار التجربة بكل جوانبها الإيجابية المحددة تخطيطًا أو المحققة قدرًا أو السلبية الناشئة عن الممارسة... بواقع الدعوة وتقييم الوضع النهائي للتجربة.
الرابع: الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق اعتبار الخطأ والصواب... بعد الاطمئنان إلى الاجتهاد، وفوق اعتبار النتائج؛ لأنها بقدر الله وحده.
ب) بناء النظرية السياسية (الحق):
سبق القول بأن السياسة هي المفهوم الجماعي للحكمة... وعلى أساس هذه الحقيقة يكون بناء النظرية السياسية هو الارتفاع بجوانب الحكمة إلى المستوى الجماعي، وذلك بمقتضى الحق.
ويصور الإمام ابن القيم جانب الحق في بناء النظرية، فيقول (بتصرف): السياسة ما كان فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يصنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسية إلا بما نطق به الشرع؛ فقد غلَّط الصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن... وكفى تحريق علي الزنادقة17، وتحريق عثمان المصاحف، ونفيُ عمر نصر بن حجاج.
ويقول ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوا مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه مطابق للواقع ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى أولياء الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك...
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله... وكلا الطائفتين أُتِيَت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط... وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا أظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل من أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه وتعالى بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له... فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل وجزء من أجزائه، ونحن نسميها " سياسة " تبعًا لمصطلحاتكم وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات. أهـ 18.
ومن بناء النظرية السياسية تحققت:
1) شواهد الحق في الممارسة السياسية فكان أهمها:
العقيدة: وتتحقق كشاهد من شواهد الحق في ارتفاعها فوق الممارسة السياسية والحركية ونظام الدولة.
القوة: التي تفرض الحق كمضمون للنظرية والممارسة السياسية.
الثبات: وأهم شواهد انطلاق الممارسة السياسية من الحق هو ثبات الخط السياسي لهذه الممارسة؛ لأن الحق يرفع الممارسة السياسية فوق ظروف الواقع وزعاماته حتى يبلغ الأمر أن يصبح الخط السياسي هو الذي ينخرط به الواقع وتنتظم به الزعامات.
إن أكبر دلائل البعد عن الحق هو التفاف الخط السياسي حول منحنيات الواقع والالتواء فوق عقباته: وكذلك التلون بلون كل زعامة جديدة والاصطباغ بصبغتها.
وقد قدمت الفترة الإسلامية الأولى نموذجًا لهذا الثبات.
ابتداءً من أخطر مستويات المواقف السياسية.
مثال: إصرار أبي بكر الصديق على جعل أسامة بن زيد على رأس الجيش الذي جهزه الرسول صلى الله عليه وسلم واختار أسامة لقيادته.
وانتهاءً بأبسط مستوياتها.
مثل المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني19.
المفاصلة النظرية: بين السياسة الإسلامية والجاهلية.
فللنظرية السياسية الإسلامية مصطلحاتها... وكذلك للنظرية الجاهلية مصطلحاتها الخاصة بها.
وهناك مصطلحات مشتركة. قد تُقرر من جانب النظرية الإسلامية من حيث اللفظ؛ فيصير الأمر الخطير أن تفهم بمدلولها في السياسة الجاهلية. مما يصير به الأمر أشد خطرًا أن تفرض هذه المصطلحات بمدلولها الجاهلي فتنتفي دلالتها الصحيحة في النظرية الإسلامية. ولهذه المصطلحات أمثلة مشهورة أهمها مصطلح الثورة والحرية.
فالثورة في النظرية الجاهلية... تعني رفض الواقع بصورة مطلقة...
كما تعني بصورة مطلقة... الغضب.
وكذلك تعني العنف...
فإذا انتقلنا بمصطلح " الثورة " إلى النظرية السياسية الإسلامية فإننا نرى وجوداً لعناصر مصطلح الثورة ولكنه وجود صحيح.
حيث نرى الرفض موضوعيًا. والغضب واعيًا. والعنف منضبطًا.
فإذا ما أصبح مصطلح " الثورة " بهذه العناصر الصحيحة كان مصطلح الثورة إسلاميًا، وأصبح من الجائز إضافته إلى النظرية السياسية الإسلامية كمصطلح من مصطلحاتها.(7/131)
حيث سيكون الرفض الموضوعي للواقع في التغيير والغضب الواعي في التعامل والعنف المنضبط في المواجهة... فمصطلح الثورة الإسلامية ليس مجرد رفض للواقع ولكن للباطل في هذا الواقع بحيث إذا كان في هذا الواقع حق أخذت به الثورة الإسلامية وأقره الإسلام وأصبح جزء من نظامه... مثل الزواج الذي أقرته الشريعة وقد كان نوعًا من الزواج في الجاهلية...
وأما الغضب فهو قمة الوعي؛ لأنه غضب لله... وليس غضبًا شخصيًّا يفقد فيه الغاضب وعيه ويصبح إغلاقًا.
وأما العنف فهو الأمر المنضبط بسياسة القوة وأحكامها الشرعية.
وبذلك يتحقق مصطلح الثورة الإسلامية بمنطلق خاص للتغيير يتميز بالحسم المتأني مثل معالجة مشكلة الرق20.
إن التقابل المطلق بين النظرية السياسية الإسلامية والجاهلية يقتضي الحذر الشديد من المحاولة الخاطئة للخلط بين مصطلحات النظرية السياسية الإسلامية وغيرها...
وابتداءً بالمصطلحات الضخمة كالثورة.
وانتهاءً بأدق التعبيرات البسيطة مثل رفض تعبير الإمبراطورية الإسلامية بدلاً من الخلافة.
مرورًا بأمثلة الخلط بين المفاهيم الإسلامية وغيرها مثل الخلط بين الشورى والديمقراطية... بما بينهما من فوارق جوهرية محددة حتى في الأساس المشترك بينهما؛ فالشورى قائمة على إجماع الرأي، وكذلك الديمقراطية، ولكن لصاحب الرأي في الشورى اعتبار كبير في هذا الإجماع... وليس إجماع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ كما في الديمقراطية21.
وانطلاق الممارسة السياسية من التصور السياسي بنظريته وأبعاده ومصطلحاته لايعني الاتفاق المطلق بين مفكري السياسة الإسلامية ومحلليها؛ لأن عنصر التفكير العقلي وإدراك الواقع والتصور المرحلي للهدف داخلة ضمن هذه الممارسة. وهي الأمور التي يكون فيها الاختلاف شيئًا طبيعيًّا. مما يجعل الممارسة السياسية سببًا في تحقيق أكبر اتساع لنطاق الاختلاف بين مفكري الحركة الإسلامية.
ومواجهة هذا الخطر تتمثل بصورة أساسية في تحديد:
2) ثوابت الفكر السياسي:
أ) تأصيل الفكر السياسي.
وأول ثوابت هذا التحديد هو إدراكنا للعلاقة بين الفقه والسياسة الذي تتحدد به طبيعة الممارسة.
وهي الحكمة ذاتها.
ذلك لأن الحكمة كما اتفقنا هي المفهوم الفردي للسياسة.
والحكمة هي الفقه.
وبذلك تصبح كل أصول الفقه أساسًا في الممارسة السياسية.
ب) الإطار السياسي للفكر الحركي:
والذي يُحدَّد بالإجابة على هذا السؤال:
ما هي الكتابات التي تكوِّن في مجموعها إطار الفكر في واقع الحركة الإسلامية...
إن هذا التحديد شرط جوهري في تنظيم العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة...
إن فقد هذا التحديد يجعل الدعوة معرضة لخطر التحول إلى مجرد ظاهرة فكرية ضخمة تتضاءل بجانبها واقعية الحركة حتى تضيع.
وتحديد هذه الكتابات بأصحابها قد يحقق فائدة السهولة في الرجوع إليها.
ولكن الأفضل هو إثبات القاعدة التي يتحدد بها هذه الكتابات ليصبح هذا التحديد أساسًا للفكربصورة مطلقة.
والقاعدة الأساسية:
- أن يكون صاحب الكتاب سلفي الفهم.
- أن يكون صاحب الكتاب هو نفسه من أصحاب التجارب الواقعية والعملية في مواجهة الجاهلية، وأن تكون كتاباته مرتبطة بواقعه وتجاربه ومواجهته بصورة مباشرة.
مع مراعاة أن ينطبق على جميع هذه الكتابات وأصحابها... قاعدة: أن كل إنسان يخطئ ويصيب ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.
- وأن تتجرد في نفس الوقت عملية الأخذ والرد من عوامل الغيرة والحسد والأحاسيس الحقيرة التي قد تسعى بصاحبها إلى التفكير في هدم شوامخ الفكر ورؤوس الهدى والرشاد22.
ج) التنظيم السياسي للفكر:
وحرية الفكر في إطار الجماعة مكفولة في حدود الكتاب والسنة وأنه لا حرية خارج هذه الحدود.
وإعلان الرأي حق شرعي بشرط واجب شرعي مقابل؛ وهو أن تنقطع علاقة الفرد برأيه بمجرد الاطمئنان إلى وصول هذا الرأي إلى ولي الأمر.
وعندئذ ينطبق على هذا الرأي قواعد الجماعة في الحكم علي الرأي... والوصول إلى الصواب.
وبذلك يصبح الواجب شرطًا يقابل حقًّا؛ لأن تجاوز هذا الشرط ذلك يُسلم الفرد إلى مرحلة الانشقاق الفكري والمنهجي إذا تبنى رأيه بعد حكم الجماعة فيه بالبطلان.
ثم تُسلمه هذه المرحلة إلى الخروج عن الجماعة إذا أخذ موقفًا مبنيًّا على رأيه المحكوم عليه بالبطلان.
وبعد تحديد ثوابت الفكر السياسية المحققة للاتفاق على الحق ننتقل إلى مقتضيات الاتفاق على الحق في تلك الممارسة.
وأهم مقتضيات انطلاق الممارسة السياسية من الحق التعامل مع المعارضين للجماعة.
3) المعارضة السياسية:
والتصور السياسي الإسلامي يعتبر أفضل النماذج السياسية في التعامل مع أصحاب المعارضة السياسية...
فهناك مصطلحات أساسية متعلقة بمفهوم الجماعة:
1) الجماعة بمعنى الحق.
2) الجماعة بمعنى الأمير.
3) الجماعة بمعنى العامة.
4) الجماعة بمعنى العلماء.
ونضيف إلى هذه المصطلحات بخصوص المعارضة السياسية مصطلحين أوليين:
مصطلح الفرقة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الحق الاعتقادي.
ومصطلح الطائفة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الأمر العملي.
بمعنى: أن الفرقة: هي خروج عقيدي...
والطائفة: خروج عملي...
ولكل منهما أسلوب في التعامل:
فأسلوب التعامل مع الفرقة: بحسب قضية خروجهم عن الجماعة سواء كانت كفرًا أوبدعة.
وأسلوب التعامل مع الطائفة: بحسب قضية خروجهم عن الإمام أو الأمير.
وتعدد معاني الجماعة قائم على أساس الحفاظ عليها في كل الظروف...
أما المعنى الأساسي للجماعة فهو الجماعة بمعنى الحق والوارد فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة "23.
ولكن عند تعدد الحق في الأفهام في إطار قضايا التوحيد تكون المفاصلة وتكون الفرقة، وإذا تعدد الحق في غير هذا الإطار كان رأي الأمير هو المعيار الذي تتبناه الجماعة في تلك القضية؛ ويتحقق بذلك الجماعة بمعنى الأمير... والوارد فيه حديثه صلى الله عليه وسلم: " من أطاع الأمير فقد أطاعني "24.
وعند غيبة الإمارة يكون إجماع العامة المسلمة هو معيار الحق وهو الوارد فيه قول رسول الله: " عليكم بالسواد الأعظم... "25.
وعند عجز السواد الأعظم عن الإجماع يكون للعلماء حق الطاعة، ويتحقق فيهم معنى الجماعة.
ولكن السواد الأعظم الذي يعتبر معيارًا للحق له صفات محددة وأهمها: توطين النفس على هذا الحق.
ولذلك لايكون هناك تقليد في مهمة إنشاء العامة المسلمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تسيئوا "26.
ومن هنا أيضا فإن للعامة في منهج الدعوة مسئولية خطيرة.
فليس في التعامل مع العامة نمط الهياج والصور المزيفة...
وعندما يكون المطلوب معرفة إجماع العامة أو الرأي العام لهم؛ فإن المهمة تبدأ بإثبات رأي الفرد.
يقول ابن إسحاق: إن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل من بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.(7/132)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يارسول الله، خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل تُردُّ إلينا نساؤنا فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال: المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم 27.
وفي رواية: " فقال الناس. قد طبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم28. فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن. فإنه أبى أن يرد عجوزًا صارت في يديه منهم، ثم ردَّها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي نبطية قبطية ".
وعندما يكون الحديث في أمر العامة فلا بد أن يكون للمتحدث صفات ضرورية ولازمة أهمها نفي السفه الذي يثبت الحكمة كما في الحديث: " سيأتي علي الناس سنوات خدّاعات يُصدّقُ فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"29.
ومن ناحية أخرى: فإن مصطلح العامة المسلمة يتحدد بانتفاء صفة الهمج الرعاع وحديث علي بن أبي طالب يبين الصفة الأساسية للهمج الرعاع.
الناس ثلاثة: " عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي رعاع أتباع كل ناعق"30.
وبذلك يتبين منهج الارتفاع فوق مستوى هؤلاء الهمج الرعاع.
إن الهمج الرعاع قوم لا يفقهون ولا يعلمون.
لا يدركون أصول التفكير فهم لا يفقهون.
ولا يعلمون صواب الواقع. وليسوا على سبيل النجاة.
وصواب التفكير وإدراك الواقع هي النجاة من صفة الهمج الرعاع.
بعدتحديد النظرية السياسية في إطارها الواقعي، وتحديد بناء النظرية السياسية بمقتضى الحق، نأتي إلى المحصلة بين الواقع والحق، أو:
4) العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة:
وبادى ذي بدء نريد أن نوضح معنى " العلاقة الجدلية31 بين الفكر والحركة ".
ففي البدء تكون الفكرة ثم تكون بها الحركة، فتضيف الحركة خبرة جديدة تضاف إلى الفكرة الأصلية، فيتسع نطاق الفكرة فنتحرك به حركة أوسع؛ فتضيف إلينا الحركة الأوسع خبرة أكبر تضاف إلى نطاق الفكر ليتسع فنمارس بة حركة أوسع وهكذا. هذا هو تفسير جدلية العلاقة بين الفكر والحركة.
وعندما يزداد حجم الفكر دون أن نمارس به حركة مناسبة فإن هذا يمثل خللاً سياسياً إذ قد تتحول الدعوة بسبب هذا الخلل إذا تضخم إلى ظاهرة فكرية بحتة.
ومن هنا يلزم كضرورة سياسية تحديد إطار الفكر الذي ينشأ من خلال العلاقة الجدلية الصحيحة مع الحركة وهو ما يسمى فكر الحركي.
والإطار الأساسي لهذا الفكر هو قضايا حد الإسلام " قضايا الحكم والنسك والولاء ".
ويضاف إليها كل قضايا الفكر المستفادة من خبرة التحرك بقضايا حد الإسلام في الواقع.
وقد سبق تقرير أن الفكر في تطوره مع الحركة مستفاد من خبرة الحركة وأن تحديده يكون باعتبار أصحابه؛ فيصبح أي فكر ناشئ عن خبرة عملية مستفادة من مواجهة صاحبه مع الجاهلية يصبح هذا الفكر داخلاً في إطار الفكر الحركي.
وكما تحدد الفكر تتحدد الحركة.
والإطار الأساسي لهذه الحركة هو التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وقيام السلطة؛ فيجب تحديد إطار الحركة الصحيحة التي تنشأ من خلالها العلاقة الجدلية الصحيحة مع الفكر. ومعنى هذا التحديد أن أي كيان لا يتبنى أسلوب التبليغ وإقامة الحجة ورفع اللتباس وتصحيح المفاهيم وأسلوب المواجهة القوية الهادفة إلى إقامة السلطة الإسلامية... أي كيان لا يتبنى هذه الأساليب يكون خارجاً من إطار التحديد السياسي للحركة...
وليكن معلوماً أن الخلل في العلاقة بين الفكرر والحركة خطر عظيم يسبب الفتنة، في مرحلة الحركة والجماعة ويسبب الانهيار32 في مرحلة الدولة.
وأبرز قضايا العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة هي: قضية المرحلة المكية والمدنية، وتفسير لتلك العلاقة من أساسها.
وهذه القضية لها عناصر يجب إدراكها ابتداًء...
أن مرحلة الدعوة بعد تمام نزول القران تجاوزت المرحلة المكية والمدنية شرعاً.
أن اعتبار الدعوة في مرحلة مكية أو مدنية بعد ذلك اعتبار حركي.
فإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المكية اعتبرناها مرحلة مكية، وإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المدنية اعتبرناها مرحلة مدنية، ومارسنا تطبيق الأحكام المنهجية لكل مرحلة.
وعندئذ نكون ملزمين بدراسة علة الختلاف المنهجي بين المرحلتين من حيث الواقع.
وبمجرد البدء في الدراسة نجد أن الحد الفاصل البين في هذا الاختلاف هو حد القدرة والاستطاعة.
فإذا كان الأصل في الدعوة هو الإعلان فإن عدم القدرة عليه يجعلنا نمارس حكما منهجياً مكياً وهو السرية.
وأهم مثال عن الإعلان وإظهار الدين باعتبار القدرة:
هو جواز إقامة الجمعة والجماعات في غير ديار الإسلام.
فبالرغم من أن إقامة الجمعة التي تحدد لإقامتها شروط فقهية مباشرة أن تكون الدار التي تقام فيها الجمع هي دار الإسلام؛ فإنها تقام في غيرها من باب الجواز إذا كان هناك قدرة على إقامتها.
ولا يحتج لعدم إقامتها بانتفاء الوجوب لانتفاء الشرط الفقهي؛ لأن إقامتها باعتبار القدرة يكون من باب الجواز مثل إقامة الجمعة للمرأة والغلام والعبد من باب الجواز عند القدرة رغم عدم الوجوب بالنسبة لهم؛ لانتفاء شروط وجوبها عليهم.
غير أن السيرة تحفظ لنا حدثاً ثابتاًعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الدليل على اعتبار القدرة في التفريق بين المرحلة المكية والمدنية وهو محاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي بن أبي طالب كسر الأصنام ليلاً دون أن يراهم أحد. 33
وبعد تحديد المحصلة بين الواقع والحق نكون قد انتهينا من تحديد عنصرين من عناصر الحكمة في تحديد النظرية السياسية؛ لنأتي بعدهما إلى العنصر الثالث وهو الإنسان الذي يمثل الجانب الإنساني في النظرية.
ج) المنطلق الإنساني للممارسة السياسية (المسلم السياسي):
أما جانب " الإنسان " في النظرية السياسية فإنه يتمثل في مصطلحين:
الأول: المفكر السياسي: وذلك باعتبار أن الفكر مهمة إنسانية صادرة عن الإنسان المرتبط بالحق والناظر في الواقع والمدرك للغاية.
لتصبح جوانب الحكمة هي بذاتها عناصر الفكر السياسي.
وبذلك أصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي الالتزام بالأساس الشرعي؛ ليكون الحق هو القيمة العليا التي منها وبها تتحدد جميع أبعاد الممارسة السياسية.
وأصبح لزاماً على الفكر السياسي الإسلامي الارتباط بالواقع بجانبيه: الاجتماعي والحركي؛ وذلك من خلال الارتباط بالواقع الدعوة، وكذلك من خلال الالتزام بقواعد الحركة لهذا الواقع... أيضاً.
وأصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي اعتبار قضية الخلافة هي منطلقة الوحيد في بناء وتصور الحقيقة السياسية وذلك على أساس أن الخلافة هي الغاية النهائية للحركة.
وبذلك يكون الفكر السياسي علاقة تفاعل بين التأمل بالحق من جانب الإنسان في الواقع، وإدراك الغاية(7/133)
وإذا كان التأمل يعكس النبوغ الفردي والحساسية الذاتية...
فإن الواقع ترجمة للمعاناة اليومية من خلال الممارسة...
والاستمرارية الفكرية تفترض التتابع المستمر والمعاناة المنتظمة في علاقة ثابتة بين الفكر والحركة؛ حتى تتحقق الغاية.
الثاني: الزعامة السياسية:
والزعامة السياسية تعني باختصار: القدرة الذاتية على اتخاذ القرار السياسي المحقق لأكبر احتمالات الصواب وأقضى درجات الاطمئنان النفسي " يعني الجانب الإنساني للقرار السياسي ".
وعلى هذا فإن الزعامة السياسية تتطلب بهذا الاعتبار عدة صفات أساسية:
الإخلاص الملهم للصواب والمجبر للخطأ والمحقق للثواب في كلا الأمرين والمحقق في نفس الوقت للتجرد من الصراعات النفسية والمؤثرات العاطفية والمصلحة الشخصية.
التوكل المعين على خوض التجربة قبل بدئها وعلى تحمل اثارها بعد تمامها.
الذكاء المحقق للإحاطة بالقرار واثاره واحتمالاته وبدائله؛ بدقة ذهنية واستشفاف مستقبلي يستوفي حق التفكير في القرار بأسرع وقت ممكن بحيث لا يصل صاحب التفكير إلى مرحلة الاستغراق النظري المضل والمحير.
الخبرة المستخلصة من تجارب الماضي المشابهة للتجربة القائمة لتحقيق كل عناصر الصحة والصواب بأسهل الأساليب، وتحقيق أكبر العوامل النبهة للتجربة إلى المزالق والثغرات التي دفع ثمنها أصحاب التجارب السابقة حتى لا يتضاعف الثمن وتتضاءل الحصيلة.
العزم الذي يجعل صاحب القرار منطلقاً بقراره بأقصى الاطمئنان الشرعي والحركي والنفسي... اطمئناناً يملؤه ويتعداه منه إلى جميع المحيطين به فيطمئنوا كما اطمأن اطمئناناً واثقاً، بغير غرور يعمي عن الحقيقة، وبغير تردد يضيع الهدف ويحير المشاركين له في الموقف.
القوة الشخصية التي يأخذ بها فرصته الكاملة في اتخاذ قراره ويتنبه بها ألى المحاولات الطبيعية المصاحبة لكل قرار جديد والتي يحاول فيها أصحابها نقد أو رفض القرار من المحيطين بصاحب القرار عندما يكون حوله المخلص غير الذكي والذكي الفاقد للخبرة؛ حيث سيتمثل كل فقد لأي عنصر من عناصر الإخلاص والذكاء والخبرة في محاولة معاكسة لصاحب القرار...
القوة الشخصية التى ينشئ بها واقعاً جديداً، ويدخل بها في مرحلة جديدة، ويحدث بها متغيرات جديدة بقرار واحد يتطلب رجلاً قوياً وزعيماً سياسياً.
صدق الإيمان الذي يجعله يتعرف على مصلحة الدعوة بكل كيانه ومواهبه.
تخطر له الفكر ويلهم الأمر. ويعيش الصواب.
يعيش قضيته... يغير ظروفه وينهض بأمته ويحيي حضارته.
الصبر الذى يتحمل به المناوأة من المختلفين معه داخل كيانه السياسي، والمتربصين به خارج كيانه، والضاغطيت عليه من العقول غير الفاهمة، والحاقدين عليه من النفوس غير السوية... الصبر الذي يحقق المرحلية المنبطة بلا بطء الخائف، ولا تهور المتحمس.
الحبوالألفة: التي تعين علي الأطمئنان لقراره وتخفف من وطأة الخطأ إذا حدث وتعين علي تحمل المعاناة المترتبة علي الخطأ... الحب الذي يجعل الجميع يبذل كل ما في وسعه؛ لإنجاح قرار يحبون صاحبه " خير أمرائكم من تحبونهم "34.
الربانية التي تحمي الزعيم من أي تناقض بين الحق المطلق وإنسانيته.
البصيرة التي تحمي الزعيم من غيبة الغاية عن تصوره.
العلم الذي يحمي الزعيم من الغفلة بالواقع وطبيعة الأمور.
وبذلك تجتمع في الزعامة السياسية كل العناصر المحققة لمضمون النظرية السياسية.
فتصبح الزعامة هي المحصلة النهائية للممارسة.
كما تصبح الزعامة السياسية أساساً في بناء النظرية السياسية مما يجعل هذا الأساس مقدمة ضرورية لتحقيق الإحكام بين جوانب بناء النظرية السياسية...
وذلك بعد تمام الوصول إلي الغاية.
د) أهداف العمل السياسي (الغاية):
وجانب الغاية في التصور السياسي، له معني جوهري وهو الهداية؛ لأن الهداية هي غاية الدعوة وحكمتها.
وباعتبار أن السلطة هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الهداية. (إن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقران)35.
وباعتبار أن للسلطة حداً نهائياً وهو الخلافة؛ أصبحت الخلافة هي الصيغة السياسية لغاية الهداية.
ولكن إقامة السلطة ابتداًء، والخلافة كحد نهائي لها تقتضي القوة... والقوة تقتضي الشهادة.
والشهادة تقتضي الجنة...
فأصبحت الشهادة والجنة غاية نهائية علي المستوي الفردي لأصحاب الدعوة.
وبذلك يتحدد مجموع الغايات بصورة مرتبة:
الهداية: كغاية نهائية للدعوة.
الدولة والخلافة: كصيغة سياسية لتلك الغاية.
الشهادة والجنة: كمقتضي؛ لتحقيق تلك الصيغة. وهذه الحقائق الثلاث هي التي تمثل في التصور السياسي جانب الغاية.
وبحسب ترتيب حقائق الغاية في التصور السياسي.
أصبحت غاية الهداية هي الهدف التي ترتبط بها كل الأساليب.
وهذا الأرتباط حقيقة بارزة في التصور الإسلامي العام حيث أن الغاية والأسلوب ليس بينهما في التصور الإسلامي أي تناقض.
ومن هنا أصبحت غاية الهداية هي المحصلة النهائية لكل أبعاد التصور السياسي.
فالهداية هي محصلة البعد العسكري بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "36 وقوله: " عجبت لقوم يجرون الي الجنة بالسلاسل "37.
والهداية هي محصلة البعد القتصادي بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار "38 وقول الله: " والمؤلفة قلوبهم... ".
والهداية هي محصلة البعد الجماهيري39...
غير أن نقطة الضوء المكثفة حول حقيقة الغاية في التصور السياسي هي حق هذه الغاية علي مستوي كيانات الحركة المتعددة التي تتبني جميعها الهداية كغاية واحدة لتلك الكيانات.
فيجب أن يكون لهذه الغاية الواحدة – وهي الخلافة – حق مفروض علي طبيعة العلاقة بين الكيانات المتعددة الهادفة إلي هذه الغاية الواحدة.
ثانياً
الصيغة السياسية لحركة الهداية
أ) دولة الدعوة:
والسعي للخلافة كصيغة سياسية للغاية، يبدأ بإقامة الدولة المرتبطة بالهداية.
فالدولة الإسلامية أساسها نشر الدعوة والعقيدة، والدعوة الإسلامية محورها ووظيفتها خلق القناعة بحقيقة الدين.
وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعوة: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "... هذه الطبيعة المتميزة كان لا بد وأن تكوِّن بخصائصها جميع عناصر ومتغيرات النموذج السياسي الإسلامي... فالدولة وظيفتها الدفاع عن العقيدة، وأساس شرعية السلطة ومحور وسبب وجودها هو نشر الدعوة فيها، والدعوة والسلطة يتفاعلان كحقيقة ديناميكية واحدة، ورغم أن المحور الأساسي وجوهر هذا التفاعل هو الدين إلا أن السلطة هي التي تأتي فتخلق ذلك الإطار الذي يتيح للمواطن بأن يحقق ذاته من خلال الاستجابة إلى قواعد الممارسة الدينية... وهكذا فإن شرعية السلطة هي الدين وأداة الدين هي السلطة.
إن واجب الدولة هو أن تدعو إلى كلمة الحق، وأن تدعو من خلالالإقناع، والاقتناع بهذا المفهوم لذا كان ولا بد أن يتحول إلى قواعد للمارسة في كل ما له صلة بنظرية التعامل السياسي في الحضارة الإسلامية.
وكذلك فإن البيعة كعقد سياسي مصدر للسلطة تتمركز حول عنصر أساسي هو وحده محور شرعيتها وهو مضمون الممارسة للسلطة: احترام الأحكام الإسلامية فإذا حدث إخلال بذلك المضمون يصير المسلم وقد أضحى ليس من حقه – فقط – عدم الطاعة، بل من واجبه رفض تلك الطاعة ومقاومة الحاكم ولو بالسلاح40.(7/134)
والدولة هي مقتضى التوحيد؛ لأن الدولة هي الحُكم، والحكم هو مقتضى التوحيد: " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
والدولة هي التمكين للدين في الأرض: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ".
والدولة هي الأداة الأساسية لإقامة الدين: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ".
لقد كانت بيعة العقبة الأولى هي أول مرحلة فعلية لإقامة الدولة... وكان مضمونها: " حتى أبلغ دعوة ربي "41.
فالدولة هي الوسيلة الأساسية للدعوة.
وفي قول الله: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ".
فندرك أن الدولة لرفع الاستضعاف عن المسلمين.
وفي قوله سبحانه: " حتى لا تكون فتنة ".
ندرك أن الدولة لرفع الفتنة من جانب غير المسلمين؛ ويكون الدين لله.
ولذلك جاء تعريف وظيفة الدولة في التصور السياسي بأنها: مجموع الأهداف التي يجب أن تسعى الإرادة السياسية إلى تحقيقها من خلال الأداة النظامية42.
إن الدولة عندما تكون للدعوة فإن هذا معناه أن يكون الحاكم ونظم الحكم والمحكومين به أداة للدعوة.
بل تكون الدعوة قضية كل إنسان وحياة كل نسمة في دولة الدعوة.
بل يبلغ الأمر بأن تكون الدعوة قضية الهدهد في دولة سليمان نبي الله.
يعرفِّ الشرك: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ".
ويعرِّف التوحيد: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ".
ويعرِّف سبب الشرك: " وزين لهم الشيطان أعمالهم ".
ويعرِّف السبيل: " فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ".
يتأخر وهو مطمئن؛ لأن معه نبأ عظيم... نبأ فوق النظام... نبأ من أجله كان النظام... يتأخر ومعه عذره؛ لأن معه قضية الدعوة وهي قضية الحاكم وقضية الدولة وقضية الأمة... هدهد يعرف أن الدعوة لأهل الأرض جميعهم؛ فيجب ألا يكون شرك في أي مكان، ففي سبأ شرك يجب القضاء عليه... حتى لو لم تكن سبأ في ملك سليمان.
ودون أن يكون من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ودون أن يكون من رجال الحسبة.
ودون أن يكون مكلفًا... أو موظفًا.
فالدعوة هي الضمير وهي الوعي والذات وهي الهوية.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم في شفاء العليل: ولما كان الهدهد داعيًا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له جاء النهي عن قتله... كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه43.
لقد كانت دعوة الهدهد ولاء للدولة الإسلامية.
فكلن لا بد أن يكون على الدولة الإسلامية واجب حمايته بعد أن أعطاها ولاءه، فجاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله ومعه النملة والنحلة44.
من أجل ذلك يجب أن تكون خطوط الحركة مشدودة إلى هدف الدولة.
وهذه الخطوط هي أخطر خطوط التصور السياسي للحركة الإسلامية.
الخط الأول: هو أن يكون لقيام الدولة الاعتبار الأول في منهج الحركة وبحسب مقتضيات الواقع وطبيعة الظروف وبكل الإمكانيات.
ولكن...
هذا الاعتبار لا يوقف كل كيان الحركة على هذا الهدف إذ أن هناك أهدافًا موازية ضرورية في ذاتها بصفة شرعية ومؤدية إلى هذا الهدف الأساسي بصفة حركية.
وأهم هذه الأهداف:
- رفع الالتباس عن الناس واستفاضة البلاغ... وهذه هي الصفة الشرعية...
وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... يعني تكوين القاعدة المؤيدة للدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي عندما يقوم... ويبقى بعد ما يقوم.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية تهيئة الواقع الاجتماعي للإذعان لحكم الله.
- جمع الإمكانيات لإقامة الدولة... وهو من إعداد القوة، وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... سيحمي الحركة من الوصول إلى مرحلة حدوث العجز الإداري والفني عند إقامة السلطة.
والشرط الأساسي في ممارسة تحقيق هذه الأهداف الموازية لهدف إقامة السلطة هو ألا يطغى هدف بعينه على بقية الأهداف الموازية، وألا يطغى مجموع الأهداف الموازية على هدف إقامة السلطة والإعداد لها بالصورة الحركية المباشرة؛ لأن له الاعتبار الأول في الدعوة... ودون أن يوقف هذا الهدف الأساسي هذه الأعمال لأنها واجبات أصلية بصفتها الشرعية، ومؤدية إلى الهدف الأساسي بصفتها الحركية.
الخط الثاني: هو أن يكون للمستضعفين في زمن الحركة الولاية في نظام الدولة45... وذلك لأن الدولة والسلطة فتنة فلا يجب أن يتعرض لها إلا من لا تضره بإذن الله... والمستضعفون هم الذين عرضت على قلوبهم الفتن كالحصير عودًا عودًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث46.
فالمستضعفون هم الذين لا تضرهم الدنيا والسلطان بعد أن مروا بمرحلة الاستضعاف...
من ناحية أخرى... فإن تولية المستضعفين مسألة عدل... يدل على ذلك خطبة عمر بن الخطاب التي رواها ليست عند عباس قائلاً: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "47. كما قال عمر أيضاً في موضع اخر: إن الله عز وجل جعلني خازناً لهذا المال وقاسمه له ثم قال: بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أشرفهم، نفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة الاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة الف: ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة الاف ولمن شهد أحد ثلاثة الاف قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء؛ فلا يلومن رجلاً إلا مناخ راحلته48.
ومن ناحية ثالثة... فإن تولية المستضعفين وهم خير من حفظهم الله من فتنة السلطة سيكونون خير من يحفظون أمانة السلطة.
وهذه خطبة عتبة بن غزوان التي تمثل الوثيقة السياسية التي يتأكد منها منهج الدعوة في الانتقال من مرحلة الحركة إلى مرحلة الدولة.
خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد: فإن الدنيا قد اذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، ووالله لتملأن، أفعجبتم، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة؛ وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واترز سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون اخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا49.
ومن تحليل الوثيقة يتبين:(7/135)
كيف أن الولاية لم تؤثر في إيمان الولاة وارتباطهم بالآخرة واحتقارهم لشأن الدنيا، وكيف أن الولاية لم تنس الولاء فترة الاستضعاف وأنها لا زالت هي الفترة التي تملأ عقله ووجدانه ولم تزحزحهاعن ضميره ممارسة والحكم. وكيف أن الولاية لم تصبه بأمراضها فنراه يستعيذ بالله أن يكون في نفسه عظيماً وعند الله صغيراً، وكيف أن الولاية مرحلة ستمر ولن تبقى لهم وأنه سيأتي ولاة آخرون محددو الصفات والمعالم.
وهذه وثيقة أخرى تتضمن نفس القاعدة وهي وثيقة تعيين أول سفراء بعد إقامة الدولة الإسلامية.
وهذا بيان بأسماء المعينين وصفات كل منهم:
حاطب بن أبي بلتعة: سفير إلى مصر أرسل إلى المقوقس. وهو بدري شهد الحديبية50.
دحية بن خليفة الكلبي: سفير إلى الروم أرسل هرقل. وهو قديم شهد المشاهد51.
سليط بن عمرو العامري: سفير اليمامة أرسل إلى هوذة بن علي. وهو بدري له قدم في الإسلام52.
شجاع بن وهب الأسدي: سفير إلى دمشق أرسل إلى الحرث بن أبي شمر. من السابقين هاجر للحبشة53.
عبد الله بن حذافة السهمي: سفير الى فارس أرسل إلى ابرويزبن هرمز. مجاب الدعوة من سادة الصحابة54.
عمرو بن أمية: سفير إلى الحبشة ارسل إلى الأصم بن أبجر النجاشي. أسلم يوم أحد55.
عمرو بن العاص سفير إلى عمان. أسلم قبل الفتح56.
وعندما نقدم هذا النموذج التاريخي لدولة الدعوة نقدم معه هذه الحقيقة.
إن حقيقة دولة الدعوة لا تتجلى إلا في التجربة الإسلامية؛ لأن دار الإسلام هي الدار التي تعلوها أحكام الإسلام وعندما لا تعلوها أحكام الإسلام لا تكون إسلامية، وتصير خارج نطاق التجربة.
والإسلام يرفض إثبات اسم دار الإسلام لدولة لا تعلوها أحكام الإسلام ويعلن الفقه الإسلامي أن الدولة التي لا تعلوها هذه الأحكام ليست محسوبة على الإسلام.
وفي كل مراحل الدولة المسلمة... كان شرط الدعوة قائماً. ابتداًء من الخلافة الراشدة. حتى الملك العضود... كانت الدعوة.
أما التجارب التاريخية للأمم السابقة في العلاقة بين الدولة والدعوة فإنها تسمح بمتناقضات غاية في الخطورة، فالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية... لم يكن لها اهتمام بالدين. وحتى الحضارة الكاثوليكية التي قامت على حقيقة التعصب الاستفزازي للمسيحية... كان هذا التعصب فارغاً من مضمون الدعوة.
حيث كانت صيغة هذا التعصب هي المزايدة بين الأمراء والاتهامات بالهرطفة والسيطرة المقيتة لرجال الدين... كانت هوساًً فارغاً من مضمون الدعوة. حتى مثال الدولة اليهودية كرمز للربط بين الدولة والدين يثبت ويؤكد أن دولة الدعوة ليست إلا الإسلام؛ لأن اليهود ليست لهم أية صلة باليهودية.
ومن هنا استحقت الدعوة الإسلامية، دون غيرها، أن تكون المقيمة لدولة الحق، واستحقت الخلافة الإسلامية أن تكون المقيمة لحضارة الحق.
ب) المضمون الحضاري لدولة الدعوة:
حضارة الحق... فلكل حضارة مضمون. والحركة صانعة الحضارة.
والحق هو مضمون الحركة الإسلامية وحضارتها.
ومن هنا كانت خصائص الحضارة الإسلامية صادرة عن مضمونها.
فالحق ومقتضاه من حيث الممارسة: الوحدة في معايير السلوك، والوحدة في معايير التعامل؛ وأبرز هذه المعايير هو العدل.
كذلك فللحق مقتضاه من حيث التعامل... وهو السيطرة.
وكذلك فإن الحق الذي تتبناه الحضارة يجب أن يستوعب الواقع البشري وهو العالمية، وأيضاً فإن الحق مقتضاه الاستمرارية...
ومن هنا يتحدد مقتضى الحق كمضمون للحضارة الإسلامية الذي تنشأ عنه خصائصها المستمدة من حركتها من البداية؛ لتكون:
ج) الصيغة السياسية للمضمون الحضاري:
بخصائصها الأساسية...
العدل... " السيطرة " " القوة " "الظهور ". العالمية. الستمرارية.
ولقد سبق القول في أن الحضارات السابقة حضارات مصنوعة جاء مضمون كل حضارة منها كرد فعل للحضارة التي تسبقها...
مثلما جاءت حضارة القوة المادية (الرومانية) كرد فعل لحضارة المثالية الخيالية (اليونانية) وجاءت حضارة الحاكم الإله... (الفارسية) كرد فعل للقوة المادية (الرومانية ".
ومثلما جاءت حضارة الفرد والقومية (الأوربية) كرد فعل للتعصب الكاثوليكي " الكاثوليكية ".
وهذا دليل على أنها حضارات لم تصنع على عين الله.
ودليل آخر على ذلك هو أن النظرية السياسية لكل حضارة لم تتكون إلا بعد فترة زمنية طويلة وقطع أشواط تاريخية عبر حياة الأمة... بل إن هناك أمماً لم تتكون نظريتها إلا في أواخر عمرها.
الأمر الذي يختلف تماماً في حضارة الأمة الإسلامية التي تكونت نظريتها السياسية في حياة مؤسسها الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الحركة حتى الخلافة.
لأنها كانت الممارسة السياسية للمضمون الحضاري للأمة تعني أن يكون الموقف السياسي امتداداً طبيعياً لتاريخ الأمة وانسجاماً مطلقاً مع حضارتها.
وذلك يقتضي أن تجتمع في هذا الموقف كل الخبرة السياسية للأمة المأخوذة عن تراثها السياسي وتجاربها التاريخية.
ثالثاً
طبيعة الممارسة السياسية
أ) الموقف السياسي (نقطة البدء):
وكما تسهم كل نقطة عندما تتحرك في صنع الخط كذلك يسهم الموقف في تحديد اتجاه الخط السياسي للدولة وطبيعة البناء الحضاري للأمة في واقع الممارسة.
إذن فالموقف السياسي هو النقطة المتحركة الصانعة للخط السياسي.
ولإنشاء الموقف السياسي عدة قواعد:
الترتيب الإجرائي:
1) الحكم الشرعي في مضمون الموقف.
2) أثر الموقف على ولاء الجماعة.
فقد يكون الموقف صحيحاً ولكنه لا ينال إجماعة الجماعة حيث يسبب مجرد إعلانه انشقاقاً... عندئذ يكون الأولى ترك هذا الموقف حتى يتحقق الإجماع عليه وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يعلن الدخول في معركة بدر حتى حقق إجماع المهاجرين والأنصار بعد أن قال له سعد بن عبادة سيد الأنصار: والله لو خضت بنا غمار هذا البحر لخضناه معك57.
إن مراعاة واقع الجماعة في اتخاذ القرار مبدأ سياسي هام يتجلى واضحاً في كل مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسية58.
3) أثر الموقف في تحقيق الهدف العام للجماعة، وينقسم إلى ناحيتين:
أ) النتيجة العملية.
ب) الهدف الدعائي.
فقد يكون للموقف أثر صحيح من الناحية العملية. ولكنه يسبب اهتزازاً في صورة الدعوة أمام نظر الناس وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لايقتل عبد الله بن أبي سلول وهو مستحق للقتل قائلاً لعمر: دعه حتى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه59.
ومن هنا كانت الترجيحات هي أساس إنشاء الموقف السياسي بعد ثبوت الترتيب الإجرائي.
الترجيحات:
فعندما... ننشئ موقفاً سياسياً بصورة نظرية.
ننظر إلى الحكم الشرعي فإذا ثبتت شرعيته ننظر إلى أثر الموقف على ولاء أصحاب الدعوة؛ لأن الحفاظ على هذا الولاء أولى من تحقيق أي نتيجة عملية.
فإذا لم يكن للموقف ضرر على ولاء الجماعة؛ ننظر إلى نتيجته العملية في الواقع؛ فإذا كانت له نتيجة محققة لمصلحة الدعوة ننظر في الأثر الدعائي والإعلامي للدعوة.
فإذا كان للموقف أثر دعائي ضار فلا نمارس هذا الموقف؛ لأن الضرر الدعائي مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فإذا لم يكن له ضرر دعائي مارسنا الموقف.
ثم مع ذلك يراعى في إنشاء الموقف الاعتبارات الأصلية الآتية:
1) التوافق بين الأسلوب والنتيجة:
والتوافق بين الأسلوب والنتيجة خصيصة من خصائص المنهج الإسلامي العام فالإسلام منهجاً هو الإسلام أثراً ونتيجة بغير تناقض.(7/136)
بل إن النتيجة الصحيحة التي يمكن الوصول إليها بأسلوب غير صحيح محكوم عليها بالبطلان ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال في كتاب الله برأيه وأصاب فقد أخطأ "60 لأن منهج أو أسلوب الوصول إلى النتائج يجب أن يكون صحيحاً في ذاته حتى يكون صحيحاً في نتيجته وبذلك تقوم الدعوة بالحق ويقوم الإسلام بالإسلام.
2) التوافق بين المبدأ والمصلحة:
إن أهم الحقائق المعروفة في الدعوة الإسلامية أنها دعوة مبادئ؛ وهذا ما سلم به أعداء الدعوة أنفسهم... حتى أن أبا سفيان يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هرقل ولم يكن قد أسلم بعد... سؤالاً خطيراً... أيغدر؟ قال: لا يغدر61...
ولكن موقفا آخريدل على أن الحفاظ على مبادئ الدعوة أمر لايمكن التفريط فيه مهما بلغت درجته وهذا الموقف الرجل أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان الرسول قد أحل دمه ووقف الرجل أمام الرسول ومشى دون أن يمسه أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: لم لم تقتلوه؟ قالوا يا رسول الله! هلاّ أشرت إلينا؟ فقال: ما كان لنبي أن يكون له غلة. أي إشارة خفية62.
3) التوافق بين الوسيلة والغاية:
وكذلك الوسائل بعد الأساليب يجب أن تكون من الإسلام ذاته. من أجل ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً يريد القتال مع المسلمين قائلاً له: " نحن لا نستعين بمشرك "63.
بل قد يبلغ الأمر أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً لعن ناقته أثناء الذهاب إلى الغزو قائلاً له: ارجع بها لا تصحبنا بملعون64.
4) الدلالة السياسية للحدث السياسي:
ولما كان الموقف السياسي هو النقطة المتحركة للاتجاه السياسي كان لابد أن يقوم الموقف السياسي علي معناه الدال علي الاتجاه السياسي والقوة السياسية.
وهذا المعني هو ما نتفق علي تسمية بالدلالة السياسية.
وعلي هذا الاساس يقوم إنشاء الحدث بدلالة مقبولة أو نفي دلالة مرفوضة أو الاثنتين معاً.
والدلالة السياسية متعددة: منها الدلالة العملية، ومنها الدلالة القولية، ومنها الدلالة الشخصية.
وأقوي أمثلة ارتباط الموقف السياسي بدلالته هو المفاوضات والمعاهدات.
والدلالة الثابتة التقليدية للمعاهدات من الجانب الإسلامي:
1) إثبات وحدة الموقف.
2) فرض الإرادة السياسية.
3) تحقيق مكاسب عملية.
ومن الجانب الجاهلي غالبا ما يكون هدم هذه الاهداف وتضييع هذه الدلالات.
مثلما قال المفاوض عن قريش لرسول صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية: " جئت بأوشاب الناس لتفض بهم بيضتك وما أراهم إلا منفضين عنك " فأثبت له الصحابة غير ذلك عندما ابتدروا نخامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسحوا بها أجسادهم، وتنافسوا علي وضوئه ليشربوه؛ حتى رجع المفاوض الي قريش ليقول لها: لقد رأيت الروم وقيصر، والفرس وكسري؛ فما وجدت قوماً يعظمون صاحبهم كما يعظم أصحاب محمد محمداً؛ وأري أن تصالحوه.
ومثلما حاول مفاوض الفرس في معاهدته مع المسلمين إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مع المفاوض المسلم علي معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس علي المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه؛ وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتخفق خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم في تحديد تاريخ المعاهدة.
ولعل وحدة الموقف هذه التي أثبتها المفاوض الثاني هي التي ثبت معها فرض الإرادة السياسية وذلك بتمسكه باتفاق أخيه علي تاريخ المعاهدة.
ثم نبدأ طرح نماذج عامة بعد نموذج المعاهدات للموقف السياسية المتضمنة لجميع أنواع العلاقات بين الموقف السياسي كحدث له دلالته المتحققة من خلاله.
أنموذج:
دلالة سياسية تحققت بالكلام دون عمل وهو حديث عائشة: " يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم "65.
أنموذج:
من أمثلة إثبات الدلالة بصورة واضحة لا تحتمل غيرها هو حادثة المرأة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلتها وقاتل القبائل حولها.
كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلي عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس،...... فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم، قال: " لا ضير – أو لا يضير – ارتحلوا ". فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي للصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! ". قال: أصابتني جنابة... ولا ماء. قال: " عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك ". ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا – كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف – ودعا عليًّا فقال: " اذهبا فابتغيا الماء ". فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين – أو سطيحتين – من ماء على بعير لها فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفًا. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي
فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين – أو السطيحتين – وأوكأ افواههما وأطلق العزالى ونودي في الناس: استقوا. فسقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظر إلي ما يفعل بمائها. وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها ملاة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها. فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا... فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون علي من حولها من المشركين ول يصيبون الصرم الذي هي منه. فقالت يوما لقومها: ما أري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام66.
أنموذج:
نفي دلالة مرفوضة، وإثبات دلالة مقبولة.
عن ابن عمر قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة. قلنا: كيف نلقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا نحن الفرارون، قال: لا بل أنتم العكارون (أي الكرارون)، فقبلنا يده، فقال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، ُثم قرأ (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلي فئة)67.
وذلك في تفسير قول الله عز وجل: " إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ".
وفي غزوة أحد حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة وجمع المسلمين حوله ليردوا علي أبي سفيان الذي أراد أن يحقق نتيجة سياسية للغزوة...(7/137)
وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: " لا تجيبوه " فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: " لا تجيبوه ". فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقي الله عليك ما يخزيك! قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه ". قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: الله أعلي وأجل ". قال أبو سفيان. لنا العزي ولا عزي لكم. فقال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه " قالوا ما نقول؟ قال " قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم ". قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال. قال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه "! قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار "68.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار ورائهم بالجيش وأقام ثلاث ليال حتى سميت غزوة حمراء الأسد69.
وكان في هذا أيضاً نفي دلالة مرفوضة وإثبات دلالة مقبولة.
فالوقوف بعد أحد ثلاث لنفي دلالة مرفوضة وهي قبول الهزيمة وإثبات دلالة مقبولة وهي الإصرار علي مواصلة الجهاد بعد حرمان العدو من تحقيق أي نتيجة سياسية لصالحه.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ صورة الدعوة في نظر الناس كدلالة مطلوبة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " كنا في غزاه... فكسع70 رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا؟
فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؟ فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة. قال جابر: وكان الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد فقال عبد الله بن أبي... أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه71.
أنموذج:
حدث نشأ بدلالة مقبولة، بعد تجريده من دلالة مرفوضة.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج اليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال له، ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم علي شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير.
فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله 72...
والملاحظة الأساسية في الحديث أن ثمامة ذكر الدم في اليوم الأول؛ ولذا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوطا؛ لأنه لو تركه بعد ذكره الدم لكان معني الموقف هو الطمع في الدية أو الفداء. وفي اليوم الثالث لم يذكر ثمامة الدم أو المال فقال: عندي خير فقال أطلقوا ثمامة.
إن القاعدة السياسية التي يتضمنها هذا الموقف هي شرط جوهري في الممارسة السياسية وإنشاء الموقف السياسي وهو: الوضوح ومعناه أن يكون للموقف تفسير واضح لا يحتمل غيره ولذلك ترك رسول الله ثمامة حتى أصبح لإطلاق سراحه تعبير واحد ومعني واحد هو الإكرام الذي لا يختلط به معني الطمع في الدية أو الخوف من الثأر.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ وحدة الموقف، وهي من أخطر دلالات الموقف السياسي.
لما غدر يهود بني قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وتحالفوا مع المشركين كان لابد من إجلائهم؛ لأن وجودهم كان مرهوناً بالمعاهدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن تحالف اليهود مع الأنصار قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم والذي لم يزل قائما بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان يمثل مشكلة خطيرة...
فالواجب إجلاؤهم ٍوقتالهم... وهم حلفاء الأنصار في نفس الوقت... فما الموقف...؟
كان الموقف السياسي هو إحالة أمرهم إلي الأنصار ذاتهم... فطلب منهم رسول الله أن ينزلوا علي حكم من يختارون. وكان من الطبيعي أن يكون اختيارهم من الأنصار باعتبارهم حلفاءهم؛ فاختاروا سعد بن معاذ سيد الأنصار.
وكما تقول كتب السيرة: " فلما أصبحوا نزلوا علي حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت...
فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلي سعد بن معاذ... فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه علي حمار قد وطؤا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلي دار بني عبد الأشهل. فنعي لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.
فلما انتهي سعد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلي سيدكم... فقاموا إليه، فقالوا يا أبا عمرو، إن رسول الله قد أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها منا، في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة73.
أنموذج:
حدث قام علي أساس توجيه أعداء الدعوة بما يناسب مصلحة الدعوة ذاتها.
قال أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلي ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة: آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن تقاتلوا بأبنائكم وإخوانكم؛ فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا74.
وهذا الموقف يتضمن قاعدة سياسية هامة وهي توجيه أعداء الدعوة إلي اتخاذ الموقف المناسب للدعوة بمنطق المصلحة لهؤلاء الأعداء وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدة الأوثان الذين اجتمعوا لقتاله. وهو ما فعله مع قريش ذاتها عندما بلغه أنهم خرجوا إليه بالعوذ المطافيل75 لقتاله فقال: ويح قريش لقد أكلتها الحرب خلوا بيني وبين القبائل فإن كان الأمر لي عليهم كان شرفا لهم وإن كان الأمر لهم علي كان ما يرجون76. نفس منطق المصلحة يتحدث به الرسول إلي أعدائه ليوجههم إلي الموقف المناسب للدعوة...(7/138)
ب) أبعاد الممارسة السياسية (الحدود النهائية):
1) البعد الجماهيري للتصور السياسي " العامة ":
والعامة هي العنصر الأساسي من عناصر الأمة حيث أن الأمة هي: الحكم، والملأ، والعامة وهذا العنصر هو المحقق لمعني الأمة المرتبط بخصائصها القدرية.
وهذه الخصائص هي:
- العصمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي علي ضلالة " 77 وقال: " لا يجمع الله هذه الأمة إلا علي هدي " 78.
- الرحمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة مرحومة " 79.
- النصر: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة منصورة " 80. وقال " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر هذا الدين لا يضرهم من خالفهم " 81.
وهذه الخصائص مرهونة بالأمة بمعني السواد الأعظم باعتبارها العنصر الأساسي للأمة وكذلك الضمان الأخير لتحقيق معني الجماعة؛ ولذلك جاء معني الجماعة في مجموع النصوص الواردة بأربعة معايير؛ وكان منها معيار العامة 82.
ومما يجب إدخاله في الاعتبار وجوباً شرعياً جوهرياً هو أن العامة في دار الإسلام هي المقصودة - أساساً - بهذا المصطلح. أما العامة في دار الكفر فلا تنطبق إلا علي من كره ما عليه المجتمع من الكفر وهذه هي البراءة المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كره فقد برء إلا من رضي وتابع...
فلا يمكن أن نتصور أن مجموع الراضين عن الكفر والتابعين لأهله الملتصقين بهم في كفرهم أو مجموع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق هم المحققون لمصطلح السواد الأعظم.
قيمة التوجه للعامة:
والحقيقة أن التعامل مع العامة ترجع أهميته إلي ارتباطه المباشر بغاية الدعوة وهي الهداية.
وذلك أن غاية الدعوة هي أن يؤمن الناس. وعندما يتمكن أصحاب الدعوة من التعامل المباشر مع الناس.
فإن هذا الأمر تكون له أهمية ضخمة قد تقترب من أهمية محاولة إقامة السلطة الإسلامية؛ لأن هدف هداية الناس هو أهم أسباب قيام هذه السلطة.
كما نعلم أن إسقاط الحكم الجاهلي هو إزاحة لأهم وصول الحق إلي الناس، وعندما تنشأ ظروف الدعوة التي تتاح فيها إمكانية وصول الحق إلي الناس...
تكون قد تحققت نتيجة أصلية هي نفسها أهم نتائج إسقاط الحكم الجاهلي وإقامة الحكم الإسلامي.
ومن هنا كان من أهم معاني الفتح 83 معاهدة الحديبية؛ لأن هذه المعاهدة هي التي أتاحت هذا الاتصال المباشر بين المسلمين والكفار، فحقق هذا الاتصال إيمان تسعة أعشار المسلمين الذين كانوا في فتح مكة ومن هنا كان لمعاهدة الحديبية معني الفتح؛ لأن لها حقيقته وسببه وغايته وهي أن يؤمن الناس...
وكما ترجع قيمة فرصة الاتصال بالناس إلي نتيجتها ترجع إالي سببها.
إن الجاهلية لا تتيح هذه الفرصة... بغير حساب.
إنها تتيحها تسليما بأقل الأخطار عليها.
إن الجاهلية توازن كما وازنت قريش فوافقت علي المعاهدة، وأعطت الجاهلية فرصة الدعوة عندما أيقنت أن الدعوة أمر واقع لا يمكن مواجهته. وعندما أيقنت أن استنفاد طاقة الدعاة في الدعوة بالكلمة هو البديل الحتمي لممارسة القوة.
فالفرصة لها ثمن، والفرصة ليست رخيصة، والفرصة ليست عارضة...
إنها محسوبة وبدقة من جانب الطرف الجاهلي الذي سلم بحركة الدعاة المتجهة إلي الناس.
وباعتبار أن عنصر الكثرة هي أهم عناصر العوام؛ فإن تحقيق الإضلال لهم أصبح أكبر أهداف الشيطان؛ لأن الشيطان يسعي أن يموت أكثر الناس علي الكفر.
ومن هنا فإن التعامل المباشر مع الناس هو الذي يقطع علي الشيطان هدفه في الإضلال العام.
وقد تكون مهمة إسقاط الحكم الجاهلي بالصفة الانقلابية أخطر وأشد؛ ولكن دعوة الناس مباشرة تستوعب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس.
وهذا هو الذي يعطي لأسلوب الاتصال المباشر بالناس أهمية وقيمة.
فليست الخطورة معني مرادفا للأهمية في منهج الحركة.
فقد يكون الأمر أقل خطورة وأكثر أهمية.
أو أقل أهمية وأكثر خطورة.
ضرورة التوجه... ذلك لأن التوجه هو الذي يحقق أكبر فرصة لاستخلاص الطاقات الصالحة للحركة... وهناك في واقع الناس معادن مغمورة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " 84.
إن التوجه إلي الناس... لا يعني أن يؤمن كل الناس... فإذا كانت الاستجابة قليلة فإن هذهالقلة هي النتيجة الطبيعية؛ وإدراك هذه الحقيقة يعالج اليأس الذي قد يطرأ علي أصحاب الدعوة إذا بذلوا جهداً ضخماً مع الناس.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة... لا تكاد ترى فيه راحلة " 85.
كما يعالج الرسول صلى الله عليه وسلم اليأس في نفوس الدعاة إذا اقتربوا ممن يحمل كرهاً شديداً للدعوة بحيث يصبح هذا الامر سبباً في الأمل والرجاء؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس كرهاً لهذا الأمر هم أشد الناس حباً له بعد الدخول فيه " 86.
والقاعدة السياسية في تحقيق التأثير في العامة هي تحقيق مقتضيات الكيان الصحيح للدعوة:
1) البطولة وهي النموذج الإنساني السليم للتأسي والاقتداء إسلامياً.
2) التماسك. ويراجع فيه معاهدة الحديبية.
3) التضحية والبذل.
4) الثبات علي العقيدة الذي جعل مشركاً يسلم لما ضرب مسلماً ليقتله، فسمعه يقول: فزت ورب الكعبة.
أما أساسيات التوجه من حيث الاسلوب الحركي ومن حيث قضايا التبليغ.
فإن الأسلوب الحركي في دعوة العامة قائم علي قاعدة أن نغشي الناس كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلي المدينة: " اغشنا في مجالسنا " 87.
ومن كلمة " اغشنا " ينطلق أسلوب التعامل مع العامة.
ومن كلمة " غشي " تنشأ عناصر الأسلوب. ومن لسان العرب.
1) أن غشينا من ذلك شيء من القصد إلي الشيء والمباشرة والتوجه.
2) وفي حديث المسعي: فإن الناس غشوه أي ازدحموا عليه وكثروا.
3) الغشاء: الغطاء والعموم.
4) غشي الشيء: إذا لابسه.
وبذلك يجتمع في معني (غشي) التوجه، والتعميم والازدحام والكثرة والملابسة.
يجب أن نغشي الناس فنذهب إليهم بكثرة... وليس مجرد التسلل إليهم.
ونغشاهم... وليس مجرد لقاءات عابرة.
والهدف...
هو أن تعيش الجماهير واقع الدعوة الذي يستردهم من أسر الإعلام الجاهلي.
الجماهير أسيرة... والدعوة تتطلب إنقاذهم واستردادهم وفك أسرهم.
والوسيلة: هي أن تصبح دعوة الجماهير موازية ومقابلة لمكر الليل والنهار.
السحر... البهارج والألوان الشيطانية التي تأخذ عيون الناس.
موازية للخبث الذي يصل إلي أعماق النفس البشرية.
للإغراء والفتنة... للكيد والدهاء.
الجماهير في وضع لا يطاق... نادراً ما تجد ناجياً من لوثته.
وحتى لا تخاف الجماهير عندما ترى الدعاة يقتربون منهم.
يجب أن يكون هذا الاقتراب من خلال المبررات الطبيعية لهذا الاقتراب.
فترتكز حركة التوجه إلي الجماهير من خلال مبرراته الطبيعية:
القرابة... الجواز... الصداقة... أو أي مبرر طبيعي آخر...
هذا هو الأساس في الأسلوب الحركي في التوجه للعامة.
ثم نأتي إلي الأساس في أسلوب عرض القضايا وهو البساطة.
الأمية:
والحد النهائي للبساطة هو مفهوم الأمية...
والأمية تعني التسليم بحقائق هذا الدين بغير مسلمات فكرية مسبقة؛ وعندئذ يخلو الملتقي من الخلط بين وحي السماء والثقافات الخاصة، ويعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الأمية بقوله: " نحن قوم أميون الشهر وهكذا وهكذا " 88 مشيراً بيده وأصابعه.
يعني أنه أشار بيده ثلاث مرات:
في المرة الأولي والثانية يبسط أصابعه كلها دلالة علي عشرة أيام وعشرة أيام، وفي الثالثة بسط أصابعه عدا واحداً؛ للدلالة علي رقم (9) أي أن الشهر (29) يوماً.(7/139)
ولعل أهم أمثلة التعالي الجاهلي بالثقافة المقابلة للأمية... كانت الثقافة اليونانية والرومانية.
وكانت هذه الثقافة هي بذاتها مادة اختلاط حقائق الدين المسيحي المنزلة من عند الله.
وكانت سبباً مباشراً في دخول هذه الوثنية إلي الدين المسيحي والترحيب بها لكثير من بلاد الدين المسيحي ذاته.
وكما تكون البساطة أساسا في أسلوب عرض قضايا الدعوة كذلك تفعل الجاهلية وفي مواجهة قضايا الدعوة.
الارتكاز الجاهلي علي خصائص الجماهير
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم ربه يقول: " أنا أحيي وأميت) فينتقل سيدنا إبراهيم إلي دليل آخر ولم يكن هذا تسليماً بإمكانية ذلك ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير. وهي أن يأتي بأثنين محكوماً عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما، ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير المقتنعة بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا فرعون يقول: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لأنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السيطرة في إحساس الجماهير.
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه يقول: " أنا أحيي وأميت "... فينتقل سيدنا إبراهيم إلى دليل آخر، ولم يكن هذا تسليمًا بإمكانية ذلك، ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير... وهي أن يأتي باثنين محكومًا عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا هو فرعون يقول: " يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب "... إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لإنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السلطة في إحساس الجماهير.
وعندما يقول: " ابن لي صرحًا " يبدو أمام الجماهير في غاية الموضوعية والمنطقية، وكأنه سيسر مع القضية خطوة خطوة، وأمام الناس.
وبذلك تصبح الجماهير الساذجة أمام الفضاء... يضع أعينهم أمام الفراغ... ماذا بعد الصرح؟! لا شيء... وهذه هي النتيجة المطلوبة.
أن يعتقد الناس أنه لا شيء في السماء وأن موسى كاذب.
إن البساطة أمر واضح محقق.
إن العامة تنخدع بمنتهى البساطة.
ألم يجعل لهم السامري عجلاً جسدًا له خوار؟ وبنفس منطق السامري واصل الصليبيون الخداع.
وهذا فصل حيل الرهبان:
وفيها يقول ابن تيمية: " وقد صنف بعض الناس مصنفًا في حيل الكهان، مثل الحيل المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف المنارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء؛ فيظن أن نفس الماء انقلب زيتًا.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب... أسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئًا حتى حازت الدير فأخذ من رطبها، ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة... فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة مريم، وهو أنهم يضعون كحلاً في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج فيظن أنه دموع.
ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة بصيدنايا، وهي أعظم مزاراتهم بعد القيامة وبيت لحم، حيث ولد المسيح وحيث قبر – في زعمهم – فإن هذه هي صورة السيدة مريم، وأصلها حشة نخلة سقيت بالأدهان حتى سمنت وصار الدهن يخرج منها مصنوعًا يظن أنه من بركة الصورة.
ومن حيلهم الكثيرة... النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة... وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبس "89.
وقد أورد ابن كثير رحمه الله عند تفسيره قول الله تعالى: " يعلمون الناس السحر) حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذ الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوتًا كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر... عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وبعد عرض البعد الجماهيري للتصور السياسي... قيمته وضرورته وأسس ممارسته، فإنه يجب أن يتقرر:
أن العمل الجماهيري لا يمثل بديلاً عن العمل العسكري ولا نقابلاً له ولا مؤثرًا فيه.
ذلك لأن حسابات العمل الجماهيري قائمة على هدف استيعاب " القوة الجاهلية " في تيار الحركة الإسلامية، ولأن هدف العمل العسكري هو إضعاف هذه القوة وإفناؤها.
وفي حالة العمل الجماهيري المحقق [لاستيعاب] القوة الجاهلية.
وفي حالة العمل العسكري المحقق [لإفناء] القوة الجاهلية التي لم يستوعبها العمل الجماهيري.
لن تكون هناك [قوة جاهلية] رافضة لإقامة الحكم الإسلامي.
ولكن السنة الثابتة للتدافع بين الجاهلية والإسلام لن تترك التيار الإسلامي يستوعب الواقع الجاهلي بجماهيره وقوته دون أن تمنعه.
ومن هنا نشأ مفهوم حتمية العمل العسكري... بحيث يصل هو الآخر إلى مرحلة السنة الثابتة للعمل الإسلامي.
ولذلك قرر ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة المعاداة باعتبارها سنة ثابتة من سنن الثوابت، وليس باعتبارها حقيقة مستخلصة من خبرة الواقع.
فكانت حقيقة التدافع هي الحقيقة الأولى التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حقيقة الوحي من حديث ورقة، إذ قال له بعد إخباره بالنبوة: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجك قومك. قال: " أو مخرجيَّ هم؟! ".
قال: نعم... ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أُخرج وعُودي90.
وكما يكون الارتكاز على بساطة الجماهير في الإضلال يكون الارتكاز على تحقيق العصبية الجماهيرية للجاهلية.
إن تحقيق عصبية العامة للحكم الجاهلي مهمة صعبة، ولكن الجاهلية تمارسها بكل دقة، ونموذج تلك الممارسة هو الممارسة الفرعونية، وعناصر تلك الممارسة هي أن يشعر العامة أنهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: " فماذا تأمرون ".
ويبلغ إحساس العامة بالسلطة الكاملة عندما يقول لهم فرعون: " ذروني أقتل موسى ". إن فرعون يقول للعامة: ذروني. ودون أن يستطيع أحد أن يمنعه... يطلب فرعون من العامة أن يتركوه... يطلب التفويض الشعبي في اتخاذ القرار المناسب تجاه موسى، وأن يشعر العامة أنهم أصحاب المصلحة " يريد أن يخرجكم من أرضكم ".
أن يشعر العامة أنهم أصحاب السياسة " ويذهبا بطريقتكم المثلى "... سياستكم ومذهبكم السياسي.
أن يشعر العامة أنهم أصحاب القضية والمبدأ " إني أخاف أن يبدل دينكم ".
أن يشعر العامة أنهم حماة الواقع وأصحاب الإصلاح.(7/140)
إن أهم عناصر العصبية هي إنشاء الخوف على النظام الحاكم غي نفوس الناس؛ ولذلك يعبر الناس عن الخوف قائلين: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ".
وحينئذٍ يكون طمأنة الناس هو واجب النظام " قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ".
ومن أهم عناصر العصبية أن يشعروا بأنهم محور النظام، ومن هنا كان الضمير يعود على الناس: " أرضكم – طريقتكم – دينكم... ".
وبذلك يتبين أن إطار التعامل الجاهلي مع الجماهير يقوم على البساطة المرتكزة على سذاجة الجماهير في إضلالهم وتحقيق عصبيتهم للضلال عن الحق.
2) البعد العسكري للتصور السياسي:
سياسة القوة:
وهذا البعد من أخطر أبعاد التصور السياسي للحركة الإسلامية؛ وذلك لأن المستقر في الأذهان أن السياسة تقابل القوة، ولكن التصور السياسي يتضمن أن هذه السياسة توافق القوة أو توازيها في مهمة تحقيق الغاية النهائية للدعوة، ومن هذه الحقيقة ينطلق هذا البعد.
أما تحقيق ذلك في مجال الممارسة فإنه يقتضي عدة أمور:
تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التنفيذ والاستفادة بهذه العناصر بغرض التأثير في الواقع الجاهلي دون الاضطرار إلى الممارسة الفعلية للقوة.
وتفسير ذلك:
أن الجاهلية تعتبر الحركة الإسلامية قوة سياسية طالما أيقنت بقدرتها على الممارسة العسكرية.
والقوة العسكرية لها عناصر لا تقوم إلا بها، وإدراك الجاهلية لتوافر هذه العناصر لدى الحركة الإسلامية ينشئ تأثيرًا عند الجاهلية لا يقل شأنًا عن الممارسة الفعلية للقوة العسكرية.
وهذه العناصر هي:
الزعامة... والولاء المطلق لها.
والكثرة العددية القوية.
والمستوى المرتفع للكفاءة العملية.
والاستعداد التام للبذل والتضحية.
كذلك تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التأثير وتحقيق هذه العناصر بصورة مباشرة في الواقع... فتحقق آثار القوة العسكرية دون ممارستها وأهمها الرهبة وفرض الإرادة...
ولما كان تحقيق هذه العناصر في واقع الدعوة – سياسيًّا – يعتبر أهم ضروريات التصور السياسي للقوة؛ لذلك كانت المعاهدات باعتبارها مجالاً للربط بين السياسة والقوة هي أيضًا المجال الفعلي لإبراز هذه العناصر في الواقع... مثلما كان في معاهدة الحديبية، حيث تحقق فيها مجمل العناصر المذكورة.
كما تقول كتب السيرة: خروج عروة بن مسعود زعيم ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ثم قال:
يا محمد... أَجَمَعْتَ أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفُضَّها بهم، إنها قريش قد خرجت معها المعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا. قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة. قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة: من هذا اي محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس. فقاام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه... لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش... إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا فرُوا رأيكم91.
فنلك هي العناصر القاتلة للجاهلية... المسلمون مقاتلون في كل لحظة، ولا ينتظرون فقط إلا الإذن بالقتال، وهذا تفسير التسوية بين من قضى نحبه ومن ينتظر... بين من قاتل ومن ينتظر القتال، فلكليهما نفس الأثر في قلوب الأعداء... وبذلك يكون للسياسة أثر الدماء في تحقيق الهدف.
حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة.
ولا نعني بذلك نفي هذه الصبغة، ولكن نعني طغيان هذه الصبغة على الدعوة كحركة هداية ورحمة...
وبذلك يعني مفهوم سياسة القوة: الحفاظ على الهدف النهائي للدعوة من خلال خط الممارسة العسكرية، بحيث لا تنفصل هذه الممارسة عن هذا الهدف النهائي... وذلك باعتبار أن السياسة هي التي تتبنى تحقيق هذا الهدف من خلال أساليب الحركة المتعددة.
- إن تقرير مبدأ القوة في التصور السياسي لا يعني أن توقفها تخلٍّ عن مبدأ من مبادئ الدعوة؛ لأن الممارسة والتوقف مرتبط بالهدف والواقع... والتصور السياسي هو الحكم المنهجي لتلك الممارسة.
- إن تحقيق التعاطف بتحقيق المنفعة والإقناع العقلي والقدوة الصالحة والصبر على الأذى والبذل والتضحية... هو الأساس في إقامة سلطان الحق على النفوس.
وكلها عوامل محققة لغاية الهداية، والقوة واحدة من هذه العوامل.
وبذلك يكون تحقيق هذه العوامل مع مجمل العناصر المذكورة الناشئة عن تحليل القوة العسكرية تنفيذًا أو تأثيرًا هي إطار التصور السياسي للقوة.
ولما كانت الهداية هي الهدف النهائي للدعوة... كانت كذلك هي القيمة العليا للمارسة السياسية، وكانت سياسة القوة هي تحقيق الهداية بالقتال.
ومقتضى ذلك يمثل أهم عناصر سياسة القوة:
- التبليغ قبل القتال.
- دعوة الأسرى.
- قبول استجارة المشرك.
- الجنوح للسلم إذا جنحوا له.
- قبول توبة من لم تصله يد القدرة: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".
وفي إطار حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة تتحدد العلاقة بين أساليب الحركة المتعددة والهادفة إلى تحقيق الغاية النهائية للدعوة بأساس نفسي ثابت.
- الحرص على إسلام الكفار بدلاً من قتلهم وهم على الكفر.
- ترجيح الهداية على الغنائم.
- الحزن على كفر الناس والأسى على ضلالهم.
- التجرد من الشعور بالانتقام والقصاص.
إن الظهور العسكري البحت أو الغالب للدعوة هو الذي سيحرمها من التعاطف الذي يمثل الجذور الحقيقية لجحم كيانها في الواقع.
إن المعيار النهائي لبعد القوة هو حماية الدعوة من محاولة الجاهلية الهادفة إلى اقتلاع الدعوة من الواقع أو الاستهانة بها في التعامل.
أما وصول الدعوة إلى تعامل الجاهلية كطرف له اعتباره العظيم فإن هذا يقتضي فكرًا سياسيًّا تحافظ به الدعوة على هذه المرحلة.
3) البعد الاجتماعي للتصور السياسي:
اتفقنا في النظرية الساسية على أن التوافق بين الواقع الحركي والاجتماعي يعتبر شرطًا أساسيًّ في صحتها، وهذا التوافق – كشرط في صحة النظرية السياسية – هو الذي تحاول الجاهلية القضاء عليه من خلال إنشاء التناقض بين الجانب الحركي والجانب الاجتماعي للدعوة.
والتناقض الذي تحاول الجاهلية إنشاءه يتمثل بصورة أساسية في الإسقاط الاجتماعي للدعوة، هذا الإسقاط الذي يظهر الدعوة بصورة متردية ومنحطة لا توافق مع مستوى قضية الدعوة وواقعها الحركي.(7/141)
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة أسهل من مواجهتها فكريًّا؛ ذلك لأن هذه المحاولة سيكون التعامل فيها مع الإنسان بضعفه ونقائصه في إطار الدعوة، الأمر الذي يختلف عن المواجهة الفكرية التي سيكون التعامل فيها مع النصوص الشرعية الثابتة.
وكما أنها أسهل فهي أخطر...
ذلك لأن الناس في البداية لا يتعاملون مع الدعوة كقضية فكرية قبل رؤيتهم لصورة الدعوة الاجتماعية... وعلى هذا فإن الإسقاط الاجتماعي يعني قطع الصلة وبصورة نهائية بين الناس والدعوة.
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة بدأت من الأيام الأولى.
وكانت هذه البداية هي وضع واقع الدعوة في ميزان التصور الاجتماعي الجاهلي.
فاعتبرت الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أبتر؛ لأنه لا ولد له.
وكما اعتبرت النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق النبوة؛ لأنه ليس رجلاً من القريتين عظيم.
واعتبرت أن الدعوة ليست صحيحة؛ لأن أتباعها فقراء.
ولكن هذه البداية لم تنجح؛ لأن الدعوة فرضت تصورها الاجتماعي، وأسقطت التصور الاجتماعي الجاهلي ذاته.
ولعل أبرز مواقف المحاولة الجاهلية كان عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ ذلك لأن المؤاخاة كانت علاقة اجتماعية كاملة تحققت كمقتضى للتوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي للدعوة، فبلغت الجاهلية أقصى ما عندها في مواجهة هذه المؤاخاة سواء من جانب المشركين أو المنافقين أو اليهود، ولكن المحاولات فشلت حتى تحقق الهدف من المؤاخاة ثم تقرر العودة بالعلاقة الاجتماعية إلى أساسها الطبيعي، وهو صلة الدم والقربى بعد أن كان الأساس الحركي هو أساس العلاقة في موقف المؤاخاة92.
وإذا التقطنا هذا الخيط فإننا يندرك أن واقع الدعوة - منذ البداية حتى الواقع القائم الآن- كان من ناحية الدعوة محاولة لتحقيق التوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي بإنشاء الواقع الاجتماعي المتناسب مع القضية الإسلامية فكريًّا وحركيًّا.
وكان من ناحية الجاهلية هو إحداث التناقض بين هذين الجانبين بإسقاط الدعوة اجتماعيًّا، وبهذا الإدراك يمكننا تحليل الواقع القائم الآن للدعوة بقدر من التفصيل.
فمن ناحية الدعوة تمثل الخلل الاجتماعي – أول ما تمثل – في مجرد إعلان الولاء للتجمع واتجاهه من جانب الأفراد المنتمين إلى الدعوة لتحقيق الارتباط العضوي بالتجمع دون النظر إلى الجانب التربوي والأخلاقي لهؤلاء الأفراد.
وكانت هذه مرحلة وسط بين الوضع المثالي ووضع الانحطاط الكامل المتمثل في المرحلة الثالثة.
وهي مرحلة الانتساب إلى الاتجاه الإسلامي بمجرد الهدي الظاهر.
" الجلباب – اللحية – الحجاب "...
وكان مدخل هؤلاء المنتسبين هو مجرد هذا الالتزام الشكلي... دون أن يكون هناك الكيان المستقطب القائم على مهمة التربية والتأصيل الأخلاقي.
يضاف إلى هذا الخطر خطر آخر يساويه، وهو الشعور غير الشرعي بالذات الناشئ عن الاعتزاز بالانتساب للدعوة صاحبة الأحداث المؤثرة في الواقع.
هذا الاعتزاز الذي وجد من غير مشاركة فعلية في الأحداث ةتحمل مسؤليتها... والذي سبب ضررًا نفسيًّا بالغًا؛ لأنه انتساب يفتقد المسؤلية والتضحية والبذل.
هذا الشعور الذي أضاع الفضل الحقيقي لأصحابه في واقع الدعوة مما أحدث اضطرابًا في العلاقات الاجتماعية وأحدث هذا الاضطراب بدوره ظاهرة الفوضى الاجتماعية التي تعاني منها الدعوة معاناة شديدة.
فأصبح الجميع دعاة وذوي تاريخ.
الأمر الذي يتنافى مع قاعدة ارتباط الفضل الاجتماعي في واقع الدعوة بالسبق والتضحية والعمل في سبيل الله.
ثم يضاف إلى شكلية الالتزام... وضياع حق أصحاب الفضل في واقع الدعوة.
خط التشتت الاجتماعي المترتب على معاناة الاعتقالات والسجون والاحتياج المادي الذي يسبب الإرهاق النفسي الشديد.
ثم كان الخطر الأكبر من خلال عملية التزاوج تحت مظلة هذه الأخطار المتعددة... هذا التزاوج:
في واقع انحطاط الأخلاق وضياع الأمانة.
وفي واقع الانتساب الشكلي بالهدي الظاهر فقط.
وفي واقع الشعور بالغرور والشعور غير الشرعي بالذات وضياع حق أصحاب الفضل.
وفي واقع الاحتياج المادي والإرهاق النفسي الناشئ عن السجن والاعتقال.
واقع هذا التزاوج...
أوجد أسرة أصبحت هي بذاتها مشكلة، وأصبحت محاولة علاجها الشغل الأساسي لأصحاب الدعوة، كما أصبحت معالجة آثار إخفاقها بعد الإخفاق في معالجتها... عبئًا لا يطاق.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الجاهلي القائم على استغلال هذه الأخطاء بأبشع صورممكنة...
أما من ناحية الجاهلية فقد جاء منها أخطر الأساليب في محاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة، وهي إنشاء العناصر المتشبهة بالمظهر الإسلامي وممارسة السلوك الجاهلي بهذا المظهر... وعندما يراهم الناس تسقط مهابة هذا المظهر من نفوسهم، ويضيع تقدير الناس لسماتهم وشكلهم، وسواء كان انتشار هذه العناصر أمرًا مقصودًا أو حدث بصورة تلقائية، فإن النتيجة واحدة.
فكيف تحمي الدعوة نفسها من هذه النتيجة؟
لقد كان الإسلام قادرًا على حماية نفسه من هذه النتيجة يوم كان حكمه غالبًا وأحكامه سائدة، وكان أهم هذه الأحكام هو منع غير المسلمين من التشبه بالمسلمين.
وكان من أخطر هذه الأساليب الجاهلية كذلك هي إيقاع الضرر على العامة وتفسير هذا الضرر على أنه نتيجة حتمية للدعوة؛ ليحدث الانفصال بين العامة والدعوة...
مثل المقاطعة الاجتماعية التي فرضتها قريش على بني عبد المطلب؛ حتى يمارسوا ضغطًا على أصحاب الدعوة.
ولعل حادثة مقاطعة بني عبد المطلب – المذكورة آنفًا – بإقاع أضرار عليهم بصفة عامة بسبب أصحاب الدعوة لإيجاد الكُرْه، وإنشاء الحاجز مثال تاريخي على هذا الأسلوب.
مفهوم الدفاع الاجتماعي:
والآن لا بد من الدفاع الاجتماعي عن الدعوة.
وهذا المفهوم له عناصر يمكن تحديده من خلال المواجهة... المحاولة التي تمارسها الجاهلية لإسقاط الدعوة اجتماعيًّا.
وقد اتفقنا أن أول تلك العناصر هو افتقاد الكيان الواحد المسيطر على الامتداد الاجتماعي، ولما كان وجود الكيان الواحد مرتبطًا بمشكلة الفكر والمنهج فإن المعالجة الاجتماعية يجب أن تنفصل عن هذه المشكلة... بمعنى ضرورة إنشاء سلطة اجتماعية تتولى مواجهة المشكلات الاجتماعية في إطار بعيد عن مشكلة الاختلاف الفكري.
وهذا ما فسره الإمام الجويني حيث قال في كتاب غياث الأمم في التياث الظلم: أن يتولى كل عالم في ناحية من النواحي أو حي من الأحياء السلطة المفقودة للأمراء في هذا الحي.
ثم تأتي مواجهة ضياع حق أصحاب الفضل بترسيخ قواعد التعامل الاجتماعي المحددة لهذا الحق:
- حق العلماء الذي يوجب تقديمهم وتوقيرهم وإيثارهم على أنفسنا.
- حق أصحاب السبق الزمني وهو المقرر في قول الله: " والسابقون الأولون من المهاجرين... ".
ومفهوم الدفاع الاجتماعي يوجب تحديد أساس التعامل الاجتماعي بين أصحاب الدعوة والواقع القائم.
ويجب أن يتقرر ابتداءً أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة من خلال مفهوم المثالية؛ لأنهم يمثلون في نظرهم واقع التطبيق الصحيح للدين.
وظهور أي نقيصة أو خطأ سلوكي لن ينظر له على أنه أمر طبيعي محتمل، ولكن سينظر إلى صاحبه على أنه إنسان سيئ يحاول الوصول إلى مكانة لا يستحقها لينال تقديرًا بغير حق.
كما أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة على أنهم الفئة التي من الممكن أن تحكمهم في يوم ما فيرغبون بصورة قوية في الاطمئنان على أمانتهم وسماحتهم وحسن خلقهم؛ لأن أي خطأ يراه الناس يرتبط في أذهانهم بهذا الاحتمال.(7/142)
فيقول كل من يرى الخطأ في نفسه: هكذا يفعل أصحاب الدعوة لعامة الناس عند حدوث أية مشكلة أو خصومة.
وعند حدوث أية مشكلة اجتماعية بين الناس وبين أحد أفراد الدعوة يجب أن تأخذ هذه المشكلة صورة العداء بين الجاهلية والإسلام.
لأن احتمال خطأ هذا الفرد المنتسب للدعوة قائم أمام الآخرين.
وهذا هو مضمون الموقف الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واسغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".
حيث جاء في تفسير الآية: إن نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرق درع لأحد الأنصار، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى ذلك السارق عمد إلى الدرع فأقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا؛ فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس... فنزلت الآية تبرئ اليهودي.
وفي مثل هذه الحالة يتمثل واجب نصرة الأخ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا ". في رد الأخ عن ظلمه93 " فإن ذلك نصره ".
إن معالجة أي مشكلة عارضة بتلك القاعدة يكون بذاته أفضل أسلوب للدعوة.
أما إعطاء المشكلة الاجتماعية العارضة أبعاد العداء بين الجاهلية والإسلام فذلك أمر باطل.
لأن صورة العداء بأبعاده الكاملة لا تتفق مع المشكلات العارضة، مثلما حدث مع موسى والذي استغاثه... لقد كانت مشكلة عارضة حدثت بين رجل من بني إسرائيل ورجل من الأقباط، وتصرف فيها موسى عليه السلام بصفة شخصية لا تتعلق بمنهج الدعوة ومرحليتها فقتل القبطي، واعترف بأن هذا العمل من الشيطان، ولكنه كان سببًا في غرق فرعون وجنوده بصفة منهجية ترتبط بمنهج الدعوة ومرحليتها، وكان هذا عملاً طيبًا مقبولاً، ولم يكن من عمل الشيطان.
ومما يجب الحذر منه هو أن تؤثر الضخامة العددية لأصحاب الدعوة على الإحساس بالاستضعاف؛ لأن الضخامة العددية تسبب اعتزازًا وثقة تؤثر في أسلوب معالجة المشكلات العارضة بين أفراد الدعوة والجاهلية.
فالاستضعاف هو مرحلة ما قبل الوصول للسلطة.
حتى لو كان هناك قوة شخصية أو كثرة عددية.
ومعالجج المشكلة العارضة يجب أن ترتبط بمرحلة الاستضعاف للدعوة ولا يجوز تجاوزها.
وقد يكون للقوة الشخصية نفس أثر الضخامة العددية في إضعاف الشعور بالاستضعاف.
وهذا عمر بن الخطاب لم يكن يدانيه أحد في قوته الشخصية، حتى إنه هدد من يحول تتبعه في الهجرة فقال: " من أراد أن تيتم أولاده، وتتأرمل زوجته، أو تثكله أمه فليتبعني)94. ومع ذلك كان مستضعفًا؛ لأنه كان مرتبطًا بالجماعة المستضعفة التي لم يُمَكن لها بعد.
والواقع أن هناك حديثًا قدسيًّا يعالج قضية المحافظة على البناء الاجتماعي بعد فترة الاستضعاف.
وإليك نصه أولاً:
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا. كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً، حَلاَلٌ. وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ. وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً. وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ. تَقْرَأُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ. وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ. وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشاً نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ. وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ: الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً. وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ. وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ". وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ، وَإِنّ اللهَ أَوْحَىَ إِلَيّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتّىَ لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ علىَ أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَىَ أَحَدٍ)95.
والملاحظة العامة في هذا الحديث هو معالجته لعدة مراحل مرتبطة ببعضها:
1) نظرة شاملة لمرحلة ما قبل البعثة وبداية الأمر فيها وإثبات الأصل الذي كان عليه الوجود البشري... " كل مال نحلته عبدًا حلال "... " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
" إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ". هذه مقدمة ضرورية للحديث... لأن الحديث يثبت أهمية النبي صلى الله عليه وسلم بصورة خطيرة...
صورة افتقار البشر جميعًا إلى رسالة... مما تقتضي إثبات افتقاره هو في رسالته إلى ربه.
والرسالة من الله أمر وعلم.
والأمر من الله " إن الله أمرني ".
والعلم من الله " أن أعلمكم ما جهاتم ".
والعلم يوم بيوم " ما علمني يومي هذا ".
وهذه هي المقدمة:
" كل مال نحلته عبدًا حلال ". والمال رمز لكل شيء آتاه الله إنسانًا. " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
فالأصل في عطاء الله الحِل. والإنسان على الفطرة.
ثم جاءت الشياطين " فاجتالتهم عن دينهم ".
ونشأ الحرام " وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
اجتالت الشياطين الدين.
وملأ الأرض بالحرام. " وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ". " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ". والمقت أشد الغضب. " إلا بقايا من أهل الكتاب " المتمسكون بدينهم الحق من غير تبديل.
والنبي والبشر أمام مسئولية الرسالة سواء. " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك... ".
وحتى لا يكون التبديل واجتيال الدين. " أنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء ".
باقيًا لا تجري فيه سنن الفناء.
وأسبابه...
ثابتًا تقرؤه نائمًا ويقظان.
وهذه هي البعثة.
ويقر النبي بضعفه وافتقاره إلى ربه. "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ".
هذا هو الاستضعاف.
فيرد القوي الغني: " استخرجهم كما استخرجوك . واغزهم نغزك ".
وافتح عليهم بلادهم... نفتح عليك مددنا.
" وأنفق فسننفق عليك ".
" وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله ".
" وقاتل بمن أطاعك من عصاك" . وذلك هو التمكين.
وبعد المقدمة... والبداية... والبعثة... والاستضعاف... والتمكين... قام المجتمع المسلم.(7/143)
2) فكيف يكون حفظه بعد قيامه؟...
هذا بصفات أهل الجنة الثلاث:
- ذو سلطان مقسط متصدق موفق.
- ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم.
- وعفيف متعفف ذو عيال.
وهذه الصفات هي عناصر البناء الاجتماعي للدولة المسلمة.
وبهذه الصفات يكون المجتمع المسلم وتكون الأمة وتكون الجنة.
وبعدها صفات أهل النار الخمسة:
- الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعًا لا يتبعون أهلاً ولا مالاً.
- الحثالة الفارغين كمالة العدد.
- والخائن الذي لا يخفى (أي لا يظهر) له طمع وإن دق إلا خانه.
والخونة بطبعهم وتكوينهم وتصرفهم التلقائي.
- ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك.
المخادعون: عن العرض والمال.
والبخل والكذب الشنظير الفاحش.
والشنظير: سيئ الخلق.
وفي رواية: وأن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد.
فالتواضع يمنع الفخر الذي إذا امتنع امتنع معه البغي.
وبصفات أهل النار تكون نهاية المجتمع ونهاية الأمة... وتكون النار.
4) البعد الاقتصادي:
والبعد الاقتصادي للنظرية السياسية بُعدٌ منطقي؛ لأن المال له قوة نفسية واجتماعية بلغت حد الأثر في العقيدة والإيمان الذي أنشأ الخوف الشديد على أصحاب الدعوة من فتنة المال، كما قال تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون * وزخرفًا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة غند ربك للمتقين ".
ومن أجل هذا التأثير نستطيع أن نقول: إن أخطر أحداث الدعوة كا إنفاق عثمان بن عفان قافلته على المسلمين، وإن أخطر أحداثها من الجانب الآخر كا قرار مقاطعة قريش لبني عبد مناف الاقتصادية.
وليس أدل على أثر الاقتصاد السياسي من دعاء موسى بحسم الصراع بينه وبين فرعون في قوله سبحانه: " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ".
وكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بحسم الصراع مع قريش بقوله: " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف "96... رواه البخاري والترمذي، وفي رواية: " بسبع كسبع يوسف " رواه البخاري.
ولأجل هذا الأثر الاقتصادي على الدعوة كانت العلاقة بين الممارسة الاقتصادية والسياسية تلقائية في فهم الصحابة.
وهذا ثمامة يرجع إلى قومه مسلمًا يعلن لهم إسلامه ويعلن لهم مع إسلامه: يا قوم لقد أسلمت، ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم97.
وبهذا الفهم التلقائي أدركت إحدى النساء مغزى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أععطى قبيلتها مالاً وزادًا، ثم أخذ يحارب القبائل الأخرى فقالت: والله ما أرى محمدًا قد ترككم بعد أن أعطاكم هذا المال والزاد ثم ذهب ليقاتل القبائل غيركم إلا لأجل شيء يريده منكم، وأرى أنه الإسلام... فأسلمت وأسلمت معها القبيلة98.
كما يتساوى البذل بالنفس والبذل بالمال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا "99، فتساوى التجهيز بالمال للغزو والخلف في الأهل بعد الغزو... مع الغزو نفسه عند الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي نفسها العلاقة بين العمل العسكري والسياسة، وذلك في مضمون فرض الإرادة.
فكما أن التصور العسكري يفرض إرادة المنتصر، فإن الجزية هي التي تبقي على فرض تلك الإرادة.
من أجل ذلك كان اعتبار عنصر المال من أخطر عناصر الدعوة المحققة لأهدافها، ولكن هذا العنصر المهم في ذاته تعتبر نتيجته خطيرة في ذاتها؛ لأن المال هو فتنة هذه الأمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " فتنة هذه الأمة في المال "100.
ولعل قصة ثعلبة101 الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مغرضون "... دليل على شدة خطر المال على النفس، وحتى لا نظن أنها حالة فردية... كانت هذه المواجهة القرآنية الحاسمة للمؤمنين في غزوة أحد: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ".
وعند تعميق الإحساس بخطر المال في واقع الدعوة لن تجد أشد من هذا الموقف الذي نرى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى التاقتين اللتين أعدهما أبو بكر للهجرة وهو يقول له: " بالثمن يا أبا بكر ".
إن الظروف أكبر وأقوى من أن يذكر فيه المال...
لأنهما اثنان مطلوب موتهما يُعدان أسباب نجاتهما.
ولكنها النبوة التي تضع الأسس وترسي القواعد " بالثمن يا أبا بكر ".
كما لن نجد حقيقة تدل على خطر المال أقوى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين ".
الشهيد... الشهيد... نعم... إلا الدَّين.
فإذا كان هذا مع الشهيد فليس لأحد من المسلمين خروج عن حساب المال.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل قبل أن يصلي على الجنازة: " هل عليه من دَين؟ " فإن قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، إلا أن يقول رجل: دَينه عليَّ.
ومن هنا أصبح النجاح في تحقيق أساس اقتصادي للدعوة هو دليلاً أصليًّا وجوهريًّا على صحة الإيمان، ولعل الدليل على ذلك المثل الذي ضربه القرآن في قوله عز وجل: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا زكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ".
وكما تدل النفقة قبل الفتح على قوة الإيمان فإنها تدل كذلك على دقة أثر المال في الدعوة، وذلك لاختلاف أثر النفقة قبل الفتح وبعده، حيث كان للنفقة قبل الفتح أثر أكبر.
من أجل ذلك فإن السياسة الاقتصادية للحركة الإسلامية تقوم ابتداء من مفهوم الزهد الحقيقي في الدنيا.
ومن هنا يأتي دور مجموع نصوص الرقائق المحققة لهذا الزهد لا على أنها نصوص تُحفظ باللسان، بل لتكون واقعًا حيًّا وحياة واقعة لأصحاب الدعوة.
5) البعد القدري:
ومناقشة البعد القدري للنظرية السياسية يعتبر من أهم المناقشات؛ لأن الفكر السياسي يتميز ببروز الإعمال العقلي والارتباط بالواقع. والبعد القدري هو البعد المقابل لهاتين الميزتين في الفكر السياسي.
ذلك لأن ربانية الدعوة الإسلامية وارتباطها بقدر الله والسنن الثابتة جعل هذا الارتباط في أصل النظرية السياسية.
فعند تحليل الأحداث من المنظور المادي البحت وارتباط الأحداث ببعضها كسبب ونتيجة وفعل ورد فعل ودوافع وأغراض.
ومن المنظور القدري من حيث علاقة الأحداث بالسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان؛ تجد تحليل الواقع الجاهلي العام علي مستوي العالم له عناصر أساسية أهمها:
1) الهيمنة الصليبية المتمثلة في زعامة أمريكا للعالم والوحدة الأوربية.
2) العلو اليهودي.
3) العمالة والكفر علي مستوي الحكومات المسيطرة علي مواقع الدعوة.
4) الفقر والجهل علي مستوي الشعوب المحيطة بمواقع الدعوة.
فنجد أن عناصر هذا التحليل المادي للواقع الجاهلي يؤكد اجتماع الجاهلية وتحزبها بكل مستوياتها العالمية الحكومية والشعوبية ضد الدعوة مما قد يحدث في نفوس الدعاة منتهي اليأس والإحباط.
فيأتي المنظور القدري فيحقق غاية الرجاء من خلال إثبات سنة الله الثابتة بهزيمة الأحزاب. من هنا استبشر الرسول صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت الأحزاب عليه؛ لأن تحزب الأحزاب معناه تحقيق فعل من أفعال الله القدرية وهو هزيمة الأحزاب.(7/144)
وبذلك يصبح التصور القدري للأحداث بعدًا أساسيًّا من أبعاد النظرية السياسية.
هذا من حيث علاقة التصور القدري بالتحليل السياسي.
والواقع أن البعد القدري للنظرية السياسية كان أساساً حتمياً لتحليل مواقف متعددة في تاريخ الدعوة ما كان لنا أن ندركها إلا من خلال هذا البعد ولعل أبرز هذه المواقف طلب يوسف عليه السلام الوزارة في ظل حكم غير شرعي.
لذلك لأن قصة يوسف عليه السلام بأكملها تحقيق قدري للرؤيا التي رآها بالتمكين له في الأرض. وفي إطار هذا التصور كانت جميع أحداث القصة وأبرزها وضع السقاية في رحل أخيه حيث عقبت الآيات علي هذا التصرف بقوله سبحانه: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)، وعلى هذا لا يحتج بهذا الموقف سياسياً إذ يعتبر من الناحية الفقهية أحوال أعيان لا يقاس عليها.
ومن أمثلة تلك المواقف في تاريخ الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو قطع أشجار اليهود في غزوة بني قريظة حيث أنكر اليهود علي الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين له: أتنهانا عن الفساد وأنت تأمر بقطع الشجر فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة علي أصولها فبإذن الله ".
فهذا تصرف قدري بحت فعله رسول الله بإذن ربه والقدر فوق الشرع؛ ولكن هذا التصرف القدري لا يؤثر علي القاعدة الثابتة في الحروب ومنها النهي عن قطع الأشجار إلا أن يكون الأمر لأسباب عسكرية بحتة فيجوز ذلك اضطراراً ولكن لا يحتج بفعل رسول الله في غزوة بني قريظة علي الجواز المطلق من حيث التحليل.
والقواعد القدرية للتحليل السياسي محددة في عدة نقاط.
أولاً: الطاعة:
أما من حيث علاقة التصور القدري بالمواجهة السياسية فتقوم علي: الطاعة المطلقة لله لتحقيق المهابة لنا في قلوب أعدائنا؛ لأن المهابة هي حقيقتنا في قلوب أعدائنا وقوتنا في شعورهم وحجمنا في تصورهم وهي الأساس والأصل الذي تقوم عليه الممارسة السياسية؛ لأنه تبعاً لهذه المهابة تكون الممارسة السياسية في الواقع، والله قادر علي أن يجعل لنا في قلوب أعدائنا تلك المهابة وهو قادر أيضاً علي أن يجعلهم يروا ضخامة حجمنا في تصورهم بشكل مادي بحت.
غير أن للمهابة أسباباً: أولها الوجود الإسلامي الصحيح لأصحاب الدعوة حيث يصيروا بهذا الوجود كالقسورة التي تفر منها الحمر المستنفرة102.
وهناك أسباب مباشرة لتحقيق المهابة تراجع فيها الأحاديث؛ وأهمها الجهاد؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا "103.
وقال في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم)104 إلي آخر الحديث.
وابتداء من نشأة الحركة لا يغيب البعد القدري حتى إقامة السلطة، لنري أن أهم حقائق تلك السلطة هي قرشية الخلفية مثالاً هاماً للمقتضيات القدرية التي يجب الالتزام بها في التصور السياسي للدعوة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة في قريش "105.
فلا يسمح التصور السياسي للدعوة بالجدل أو الإعمال العقلي البحت حول هذا الحقيقة لأنها حقيقة قدرية خالصة.
ثانياً: التفويض والتوكل:
وأهم الحقائق القدرية في التصور السياسي: الوفاء بالعهود والمواثيق؛ ذلك أن الله لا يحب الخائنين.
فإذا بدت مصلحة لكنها لا تتحقق إلا بنقض العهد؛ فهذه المصلحة باطلة سياسياً.
وفي المقابل فإن التصور السياسي يقيم العهود والمواثييق بقاعدة التوكل عل الله بعد استفراغ الجهد في التفكير والتقييم والتحليل والتوقع.
ومن هنا قال سبحانه: " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".
وهذه هي القاعدة القدرية العامة في العهود ونصها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم)106.
ثالثاً: مراعاة السنن الثابتة:
مثل التفسير القدري للاختلاف كصيغة من صيغ العذاب الواقع علينا وتحقيق موجبات الرحمة التي يرفع بها هذا العذاب واعتبار هذه الموجبات أسباباً مباشرة في معالجة الاختلاف.
وكذلك معالجة الفتن القائمة بين المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن ترك هذا الأمر هو السبب في ضرب قلوبنا بقلوب بعض كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوبكم بقلوب بعض)107.
غير أن موضوعية البعد القدري للتصور السياسي تتمثل بصورة نهائية في الوصول بالدعوة من مرحلة الاستضعاف وخشية الاختطاف إلر مرحلة التمكين والعالمية إذ أن تجاوز الدعوة لجميع مراحلها لا يمكن أن يتحقق إلا بصورة قدرية.
ولعل حادثة أصحاب الفيل التي حفظ الله بها البيت تهيئة لظروف الدعوة؛ ولعل الصراع بين الروم والفرس الذي أجهد الدولتين تحقيقاً لتلك التهيئة دليل علي هذا البعد.
كما قال سبحانه: " محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ".
وفي إطار البعد القدري للتحليل السياسي:
يجب حسم مسألة العلو اليهودي.
لأن هذه المسألة تأتي خطورتها من الفهم الخاطي للآيات الواردة فيها حيث يتحدد هذا الخطأ في الاعتقاد الجازم بحتمية أبدية للعلو اليهودي. ويغذي هذا الفهم اليهود أنفسهم من خلال كتابات108 معينة يخرج قارئها بتصور يفسد العقيدة حيث يعتقد أن اليهود يفعلون ما يريدون وأنه ما من حركة أو سكنة لإلا وهي جزء من خطة يهودية شاملة.
هذا التصور شرك صريح...
الله وحده هو الفعال لما يريد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعقيدة التوحيد ترفض هذا الوهم والواقع شاهد عي ذلك.
وحادثة واحدة... تكفي... وهي نكسة 1967م التي كان ظاهرها لصالح اليهود وكان باطنها الرحمة حيث كانت نقطة التحول في تاريخ الحركة الإسلامية حيث بدأت من مصر بعد أن قويت الرغبة في الرجوع إلي الله لتبدأ مع تلك الرغبة الدعوة الإسلامية بمستواها الفردي فيبلغ خطرها كل أنحاء العالم ويصبح مواجهة هذا الخطر هو محور السياسة العالمية علي مستوي الشرق والغرب.
رابعًا
النظرية السياسية الجاهلية
أ) التفسير العام للنظرية
والواقع أن للجاهلية نظريات ومذاهب واتجاهات ومدارس ونظماً سياسية مختلفة109، لكن ما نعنيه بالعنوان هو النظرية السياسية الجاهلية في تقابلها مع الإسلام؛ وهذا هو جوهر السياسة الجاهلية. وبهذا الاعتبار فإن هذا الاختلاف يصبح أمراً شكلياً بالنسبة لهذا الجوهر وتعدداً سطحياً بالنسبة لاتجاه الهدف الأساسي والنهائي للجاهلية وهو القضاء علي الإسلام. وللدلالة علي هذه الحقيقة نذكر مثالاً بأقصي تناقض شكلي في إطار النظريات السياسية الجاهلية يحقق أكبر توحد في حرب الإسلام وهذا المثال هو الديموقراطية والديكتاتورية حيث يمثل أكبر تقابل في إطار النظريات الجاهلية أكبر توحد في إطار النظرية الجاهلية الواحدة.
فكلا النظريتين يمنع وجود واقع صحيح للدعوة.
فالديمقراطية... هي أن يتكلم الجميع، والديكتاتورية هي أن لا يتكلم أحد. وهاتين النتيجتين المتقابلتين بالنسبة للدعوة يحققان نتيجة واحدة وهي أنه لن يسمع أحد لأحد حيث لا تقوم الدعوة إلا في واقع يجد فيه من يتكلم أحد يسمعه.(7/145)
وأقرب تشبيه للقرف بين الديمقراطية والديكتاتورية هو فرق اللون بين الضباب والظلام؛ حيث يكون التقابل التام في اللون الأبيض والأسود بنتيجة واحدة - وهي انعدام الرؤية.
ففي الديمقراطية يتبدد الفكر الصحيح في واقع الإسقاف والثرثرة، وفي الديكتاتورية يتواري الفكر الصحيح في واقع القهر والكبت.
وفي الديقراطية يضيع الإنسان المفكر في ظواهر الفوضى الفكرية والإعلامية وفي الديكتاتورية يختفي الإنسان المفكر في غياهب السجون وفي كل من النظريتين... يغيب الإنسان المفكر... والفكر الصحيح. وجوهرية النظرية السياسية الجاهلية في مواجهة الإسلام لها غاية ثابتة وهي الصد عن سبيل الله.
والصد عن سبيل الله كغاية سياسية جاهلية له خطوط محددة:
منع ظهور الدين " قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ".
منع حدوث الامتداد إذا فرض الظهور من خلال التركيز علي الزعامة (محاولة منع الرسول الخروج من مكة) كما قال سبحانه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".
التفسير غير الحقيقي للامتداد إذا فرض هذا الامتداد كما فسر رستم قائد الفرس خروج المسلمين للقتال بقوله: " ما أخرجكم إلا الجوع ".
فإذا ظهر الدين وفرض وجوده وتحقق امتداده... نشأت خطوط أخري.
منع الدين السياسي: العلمانية.
وفي منع الدين السياسي:
عشنا فترة تمتد علي الأقل منذ حركات الإحياء القومي في أعقاب الحرب العالمية الأولي وحتى هذه اللحظة حيث يدور التصور حول حقيقة واحدة تدور فتنبع من مبدأ تقييد الدلالة السياسية للدين الآسلامي وإبعاده بصورة أو بأخري من الحركة السياسية، ومن مفاهيم الصراع السياسي، ومن مفاهيم الصراع السياسي قبل الحرب العالمية بدعوي العلمانية، وبعد الحرب بدعوي الاشتراكية وتقييدها للتقاليد الاسلامية110.
مقاومة السلفية ونشر البدع (الانتساب العاطفي) للتحول بالناس إلي مرحلة الانتساب العاطفي الخاطيء... مثل التصوف.
ثم الاقتلاع العاطفي: مرحلة الانحلال - والإدمان...
ثم اقتلاع الجذور التاريخية؛ ومثال هذه المحاولة ما يتم في بلاد العالم المنتسبة إلي الإسلام مثلا حيث يتم هدم فكرة الخرفة تاريخيا من خلال الفكر العلماني، وتأكيد النتساب لمرحلة ما قبل الإنتساب – مثل الفرعونية في مصر – لإضعاف الأنتساب الإسلامي التاريخي، وتغيير الآثار والمعالم الدالة علي الانتساب الإسلامي التاريخي لهذه البلاد111.
الفصل بين الدعوة والناس بتشويه الصورة الاجتماعية للدعوة112.
وإيقاع الضرر بالعامة بسبب أصحاب الدعوة مثل مقاطعة قريش لبني عبد مناف حتى يكره الناس هذه الدعوة.
وفي ثنايا خطوط الصد عن سبيل الله تبرز عدة قواعد للسياسة الجاهلية أهمها:
قاعدة الهدف الناقص.
ففي مقاومة الجاهلية للدعوة سياسياً فإنها تنطلق من قاعدتها الأساسية وهي منع الدعوة من الوصول إلي هدفها الكامل. بمعني أن الجاهلية قد تسلم بمرحلة لا تمثل هدفاً كاملآً.
مثال أن تسلم الجاهلية بوجود كثرة مسلمة في واقعها إذا فرضت هذه الكثرة وجودها ولكنها - أي الجاهلية - تركز في مقاومة الدعوة إذا وصلت إلي هذه المرحلة علي الزعامة، فتفرض أو تسمح بنوع من الزعامة يحدث في هذه الكثرة تأثيراً يذهب أثرها؛ لأن الزعامة الصحيحة والكثرة المسلمة هدف كامل.
أو تركز علي التفريق... لأن الوحدة والكثرة هدف كامل. وعندما تحاول الجاهلية مهمة التفريق فإنها لا تستغل فقط اختلافات منهجية بين هذه الكثرة ولكنها تسعي إلي إنشاء التناقض الذي تضمن به عدم إمكانية تجاوز المحاولة الجاهلية في التفريق. وفي هذا الإطار يمكن نقل قضايا خلافية تاريخية مثل إتاحة مساحة كبيرة لفكر إرجائي أو خارجي بين واقع أهل السنة.
وعندما تعلم الجاهلية أن الصراع بين الاتجاهات، أو حتى محاولة تجمعهم سيستهلك طاقة أصحاب الدعوة؛ فإنها ستسمح بذلك إذا كان تقديرها أن محاولة التجمع هذه ستبوء حتماً بالإخفاق.
وعناصر الهدف الكامل هي الامتداد الإسلامي الصحيح الواحد القوي، وتحقيق النفص يمكن أن يأتي بقفد أي عنصر من هذه العناصر.
ومثال الهدف الكامل الذي عالجه القرآن هو قول الله عز وجل: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) فيكون الهدف هو الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً فيأتي الشيطان ليمنع هذا الكمال؛ فإما أن يجعل الناس تعبده أو ييأس من ذلك فيلجأ إلي إنقاص الهدف من ناحية الأمة الواحدة فيحاول التفريق؛ وهذا معني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"113.
قاعدة الخطر الأول:
وفي مقاومة الجاهلية للدعوة في حال الامتداد الواسع المواجهة الشاملة فيتم ترتيب هذا الامتداد بحيث يتم التركيز على ما يمكن أن تعتبره الجاهلية خطرًا أوليًّا.
ثم تتعامل مع الآخرين بأسلوب مختلف يحقق نوعاً من الأمان والانفصال عن الخط الذي سيتم التركيز عليه من جانب الجاهلية.
قاعدة سرقة الكفاح:
والواقع أن تدخل الجاهلية بعد أن تقطع الدعوة شوطاً هائلاً من طريقها وتقترب من تحقيق هدفها له أمثلة تاريخية محددة نضرب لها مثلاً قديماً من دعوة موسى... وهو موقف السامري والعجل بعد أن مرت أشد مراحل الدعوة قسوة وشدة وهي فترة تعبيد فرعون لبني إسرائيل، حيث تم الخروج من مصر؛ ليكون وقوف موسى ببني إسرائيل بين يدي الله عند جبل الطور لأخذلا التوراة وإقامة دولة الحق المنشودة وإذا بموسى يتعجل اللقاء فيسبق بني إسرائيل وتغيب القيادة ليظهر السامري متبنياً الهدف الذي حدده موسى من قبل وهو لقاء الله عز وجل لتلقي الشريعة.
فيأمر السامري بني إسرائيل بجمع الحلي وهو التصرف الذي جعل من كل بني إسرائيل صناعاً مشاركين في خطيئة العجل.
وعندئذ انفصلت جماهير بني إسرائيل عن دعوة موسى فلم يسمعوا لأخيه هارون وتوجهوا نحو العجل. واحتل السامري موقع الزعامة وكان مضمون تجربة السامري هو أن اقتراب الدعوة من تحقيق أهدافها لا يجعل الجاهلية تسلم بالأمر الواقع فتحاول احتواء هذه النتيجة بل والاستفادة من أساسها وإعادتها إلى فترة الضعف الأول...
ومن المثل القديم... إلى المثل الحديث... بنفس المضمون.
وهو موقف عبد الناصر والثورة من دعوة الإخوان حيث بلغت دعوة الإخوان مرحلة كانت فيها من السلطة قاب قوسين.
تجمعات جماهيرية مؤيدة ومتعاطفة مع الدعوة.
عناصر منبثة داخل الجيش والبوليس بأرفع مستويات القيادة.
وانتصارات عسكرية عظيمة على اليهود في فلسطين صنعت موقفًا تاريخيًّا يحقق أكبر رصيد من التقدير والإكبار في نفوس الناس.
وإذا التجربة تبدأ بحلقتها الأولى... تغيب القيادة بغياب الإمام حسن البنا.
ثم الحلقة الثانية... وهي تبني نفس الأهداف التي طرحتها دعوة الإخوان في خطتها الإصلاحية، فكانت أهداف الثورة هي – بالكلمة والحرف – مضمون رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، فتحولت الجماهير – في أغرب صورة – عن دعوة الإخوان وتوجهت نحو الثورة.
وبمقارنة سريعة بين المثلين: تجربة السامري وعبد الناصر... يتوضح أن أخطر عناصر التوافق هو التدخل في مرحلة ما قبل تحقيق الهدف.
ولعل مضمون هذين المثلين التارخيين يحقق الإدراك التام لحجم المترتب على غيبة القيادة في واقع الدعوة.
أما الحد النهائي لهذا الخطر فهو أن تغيب القيادة برغبتها وإرادتها؛ والعلة الثابتة دائمًا في هذه الغيبة هو الزهد في السلطة الذي يفهم على أنه إخلاص وتجرد.(7/146)
وهذا الفهم قد يكون صحيحًا إذا كان هذا الزهد لا يخرج بالسلطة عن إطار الدعوة واصحابها الحقيقيين، أما أن يزهد أصحاب الدعوة في السلطة لتكون في أيدي أعدائها فتلك هي الجريمة الكبرى.
وهذا عمر مكرم أكبر الشيوخ في مصر التي كانت في مرحلة الانقياد التام لزعامة العلماء يسلم قيادة البلاد لمحمد علي في أغرب تصرف تاريخي بدأت به أكبر مرحلة تواجد علماني في مصر.
وغاية السياسة الجاهلية الثابتة هي: الصد عن سبيل الله، وتتحقق بمضمون ثابت.
ومضمون النظرية السياسية الجاهلية هو الطاغوتية، وهو المصطلح الذي يعني الشيطنة السياسية.
وأساسيات هذا المصطلح:
أ) هي السلطة بعناصرها الأصلية.
ب) والقتال: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ".
ج) الولاء: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
وتندرج تحت هذه العناصر: أخطر الأفكار السياسية الجاهلية المحققة للسيطرة على الإنسان وعقله، والمنشئة في قلب الإنسان الجاهلي دافع القتال في سبيل الطاغوت.
والمحققة لولائه للجاهلية.
وبعد قواعد السياسة الجاهلية الأصلية نمتد إلى أخطر عناصرها.
عناصر الممارسة السياسية الجاهلية:
المكر السيئ:
والمكر هو التدبير الخفي، وقد وصفه الله بالسوء؛ لأن مجرد التدبير الخفي قد يكون للخير وهو ما جعله الله عز وجل يصف أفعاله بالمكر.
وخطر المكر السيئ يرجع إلى عدة حقائق:
- أننا على وجه الحقيقة لا نتحمل هذا المكر؛ لأن الله وحده هو القادر عليه، وهو سبحانه الذي يصده عنا، وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ".
- وأننا لا نستطيع صد هذا المكر؛ لأن الفاعلية الخبيثة للمكر الجاهلي هو أنه يزيل الجبال، وهو المأخوذ من قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ".
والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي هو الصبر على هذا المكر عندما يكون له أثر في الواقع، وإمهال الكافرين رويدًا حتى ترى الفعل الإلهي ردًّا على هذا المكر؛ لأننا كطرف من الدعوة خارجين فعلاً من دائرة المكر بين الله وأعدائه، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " إنهم يكيدون كيدًا * وأكيد كيدًا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا ". ولذلك تكون أول صيغ الفعل الإلهي في رد المكر الجاهلي هو ارتداد أثره على مدبريه، وهو المأخوذ من قول الله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ".
ذلك أننا غير قادرين على وجه الحقيقة على صد المكر الجاهلي؛ لأنه مكر دائم لا يتوقف لحظة، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " بل مكر الليل والنهار "... ولا يكون زمن إلا ليل أو نهار.
- والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي أيضًا هو أن نقف بالدعوة الموقف الصحيح ونعطيها وجودها الشرعي الذي تستحق به الدفاع الرباني عنها وعن أصحابها.
ومما يجعلنا نؤكد على الالتزام الشرعي البحت والمطلق في مواجهة الجاهلية هو استحقاق الدفاع الإلهي عن الدعوة، حتى لو خالف ذلك مقتضى التفكير العقلي أو العملي، وهذه هي طبيعة التصور السياسي للحركة الإسلامية.
فلا غدر ولا خيانة؛ لأن الله لا يحب الخائنين، ولا ظلم؛ لأن الله لا يحب الظالمين.
مرحلة التعذيب والقتل الهادفة إلى القضاء على أصحاب هذه الدعوة، وهي المرحلة التي تظن كل الجاهليات أنها المرحلة الحاسمة والنهائية.
ولكن المفاجأة تكون عندما تتجاوز الدعوة هذه المرحلة، فيتجه التفكير الجاهلي إلى مرحلة تقليدية ثالثة هي:
الاستنفار العام، ومعناه حشد كل القوى الجاهلية وكل أساليبها في مواجهة شاملة مع الدعوة، وهي المرحلة التي يرتفع فيها العداء للدعوة إلى المستوى القومي، وتتحرك فيها الجاهلية في كل الاتجاهات الأمنية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وتكون صيغة الاستنفار العام: " أن امشوا واصبروا عاى آلهتكم إن هذا لشيء يراد ".
امشوا: تحركوا في كل الاتجاهات، واصبروا: اثبتوا على آلهتكم التي كادت الدعوة تنسفها نسفًا، إن هذا لشيء يراد: إنها خطة محكمة متفق عليها بين الجميع، ولكلٍّ دوره فيها.
ويثبت أصحاب الدعوة ثباتًا يستحقون به التأييد من الله.
محاور النظرية السياسية الجاهلية:
1) المحور الإعلامي:
ولكن الجاهلية تقاوم، وسيكون أخطر عناصرها المقاومة الإعلامية الجاهلية للدعوة الإسلامية... وسيتركز المحور الإعلامي هو الآخر على عدة ركائز.
المتابعة الدقيقة لأصحاب الدعوة بحيث لا تدع الداعية لحظة واحدة يخلو فيها إلى الناس، وهذا أبو لهب يحقق أعلى مستويات المتابعة، حيث يسير وراء الرسول وهو يدعو إلى دين الله ليقول للناس في آخر كلامه: هذا ابن أخي... لا تصدقوه.
ولقد بدأت المتابعة الجاهلية فعلاً منذ لحظة الرسالة الأولى، حيث "أمر إبليس أتباعه بالانتشار في الأرض" عند بعثة النبي.
ومنذ أن انتشرت الشياطين في جميع الأرض لم تقف المتابعة عند حد إقليمي أو مستوى دولي، وقد مر في الكتاب أنه كما كانت المتابعة في مكة كانت في المدينة، وقد مر كيف أرسلت قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ تعتب عليه وجود الرسول في المدينة وتهدد بالتدخل العسكري لإنهاء هذا الوجود.
وليس هناك من دليل على دقة المتابعة العالمية للحركة الإسلامية من حادثة كعب بن مالك114.
التنفير الدائم للناس من أصحاب الدعوة، وذلك من خلال تصويرهم في أذهان الناس في صورة سيئة، وهذه هي الفكرة القديمة التي مارسها فرعون عندما قال عن موسى: " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)؛ وذلك بسبب العقدة التي كانت في لسان موسى، وكذلك اتهام بني إسرائيل لموسى بأنه آدر لما وجدوه لا يستحم معهم، وجاء ذلك في قول الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".
هذه الفكرة القديمة التي تمارس بالأساليب الحديثة والخبرات الفنية، ونظرة واحدة إلى صور المقبوض عليهم في قضايا الإسلام تؤكد لك هذه الحقيقة؛ حيث لا نرى إلا كل ما ينفر.
تصنع الصور بالأساليب الحديثة: الزيغ في النظرات، والبلاهة في الوجوه؛ لإثبات الانحراف والتيه.
وتصنع الصور: الشعاثة في الشعر، والشراسة في الملامح؛ لإثبات الإرهاب... صورة باهتة...
خلفيات مظلمة للإيحاء بالتآمر... وصفحات الجرائد هي المستند والدليل... كل هذا ضروري في مهمة الإعلام الجاهلي.
وكله نابع من النظرية الإساسية للإعلم الجاهلي بصورة محددة!
والحقيقة أن النظرية الإعلامية بصورة محددة... هي السحر والكهانة.
وهذا هو إعلام الجن والشياطين ببعثة النبي... يقول فيه أحد الشياطين: " أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاصِ وَأَحْلاسِهَا "... ويقول شيطان آخر وذلك بعد أن صرخ صرخة لم أسمع115 صارخًا قط أشد صوتًا منه: " يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله "... وهكذا يكون الأسلوب مؤثرًا.
أسلوب الجن والسحرة...
الصرخة المؤثرة والأخذ بالقلوب.
الصيغة الاستفزازية للعقل... ماذا تعني الصرخة؟!
الصورة امرأة سوداء مثيرة لشعرها116...
صوت... صورة... عبارة... أسلوب... عناصر إعلامية بحتة.
والتكرار أخطر عناصر الإعلام.
الخبر الصادق بجانب مائة كذبة... نظرية الجن في تحقيق التصديق هي نفس نظرية الأنباء.
فيكذب الكاهن مائة كذبة117.
وهذه هي عناصر الإعلام الشيطاني.(7/147)
ولما كان الأمر متعلقًا بالتفاعل العقلي والنفسي، فلا بد أن يكون الإعلام: " زخرف القول غرورًا "... عناصر إعلامية جاهلية بحتة.
زخرف القول للإقناع بلا حقيقة أو مضمون... إقناع بالظاهر والشكل والأسلوب، وهذا هو الزخرف.
غرورًا: تغريرًا.
ولا بد أن يكون الإعلام الجاهلي أداة للتعامل مع الإنسان.
فلا بد أن يكون هناك الشكل المنطقي.
والصورة المبدئية كما حاول أن يبدو بها أبو جهل عندما قال في غزوة بدر: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح118.
السمة الإنسانية كما قال عقبة بن أبي معيط في الإسلام: " فرق الناس، وخرب الديار، وجعل الولد يقتل والده"119... وكما تحاول الجاهلية اليوم الارتفاع فوق مستوى الدين بزعمهم بالمفاهيم الإنسانية: الحرية، الإخاء، المساواة.
والإعلام الجاهلي هو وسيلة الجاهلية العقلية والنفسية في الإنشاء والإبقاء على الكفر والفساد، والإعلام هو ساحر الحكم الجاهلي... الإعلام هو المحقق لمهمة الرضى والمتابعة بالكفر، وهو المقاوم للكراهية العارضة لهذا الكفر.
ومن أجل ذلك لا بد من الاستيعاب الكامل لوقت الإنسان وعمره، بحيث لا تفوت لحظة دون أن تكون فتنة، كما قال سبحانه: " بل مكر الليل والنهار ".
ولا بد من التناسب الدقيق مع العقلية البشرية كهدف للإعلام، ولعل مؤتمر الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب120.
ولا بد من الأسلوب المؤثر السهل العبارة التي تخرج من هذا الفم ليتلقفها الجميع فتصبح على جميع الألسنة... والحقيقة أن عبد الله ابن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي الجاهلي... فهذه عبارة من عباراته: " سمِّن كلبك يأكلك ".
ولكن كل عناصر الإعلام الجاهلي لا ترى مجتمعة إلا في مواجهة أي حدث إسلامي؛ عندئذ تكون العناصر المباشرة المواجهة للحدث:
التهوين من شأن الحدث: مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم من فوق جبل مكة: " تباً لك طول يومك ألهذا جمعتنا)121، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه (طول يومك)، الأمر الذي لا يستحق الجمع (ألهذا جمعتنا؟ ".
قطع الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي الذي تم فيه الحدث حتى لايكون لهؤلاء الأفراد امتداد اجتماعي... مثلما قال عروة بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت بأوشاب الناس لتفض بيضتك، حتى أفهمه ابن أخيه أنهم ليسوا أوشاباً وكان يلبس المغفر على وجهه فضرب يد عمه وقال له: اخفض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك122...
إعلان أنهم ليسوا على شيء... مثلما استشار المشركون اليهود في أمر الدعوة، فأخبرهم اليهود أن المشركين أفضل من المسلمين، وكما قال القرآن على لسان اليهود في المشركين: " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ".
المزايدة على أصحاب الدعوة... مثلما زايد المشركون على المسلمين لسقاية البيت وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله عز وجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر "... والصورة الحديثة للمزايدة على أصحاب أي حدث إسلامي تافهة نفس التفاهة القديمة.
فبمجرد حدوث الحدث يتم تخصيص أماكن خاصة للسيدات في المواصلات وزيادة البرامج الدينية في وسائل الإعلام والاهتمام بأقرب مناسبة دينية والمبالغة في الاحتفال بها.
ولكي تمنع الجاهلية أثر أي حدث إسلامي فإنها بعد أن تمارس رد الفعل الإعلامي المذكور سابقًا بعناصره فإنها تبحث عن أخطاء يغلب الظن فيها أنها لا تنال تأييد الناس.
مثل قول اليهود للرسول: ما بالك تنهى عن الفساد في الأرض وتقطع الشجر؟! فرد القرآن عليهم مبينًا تفسير الموقف123.
ومثلما أخطأ بعض من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية فقتلوا بعض المشركين في الشهر الحرام فأرسلوا إلى رسول الله وقالوا: ما بالك تقتل في الشهر الحرام124.
فرد عليهم مقررًا في البداية خطأ هذا الفعل. " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ".
هذا أساس الحكم.
لكن الذين قَتلوا لم يكونوا يعلمون أنهم دخلوا في الأشهر الحرم، فهذا اعتذار عن الفعل.
وإذا لم يكن هذا السؤال مجرد تشنيع بالمسلمين وكان حرصًا على حرمات الله، فهناك حرمة أكبر وقعوا هم فيها وهم يعلمونها...
" والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ".
" والفتنة أكبر من القتل ".
ولا زالت الجاهلية تتابع الحركة الإسلامية وتبحث عن خطأ لها.
التأكيد على إصابة الحدث الإسلامي بأمراض وعقد نفسية... مثلما قال قوم شعيب لنبيهم بعد إعلان دعوته: " إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "... ومثلما قالول لرسول الله بعد إعلان النبوة: إن كان أصابك شيء طلبنا لك الأطباء125.
2) المحور الاقتصادي:
الفقر المنسي والغنى المطغي:
إن الجاهلية تنشئ بسياستها وضعًا اقتصاديًّا عالميًّا ينقسم الناس فيه إلى قسمين: الفقر المنسي، والغنى المطغي.
وهما الحالتان اللتان تبتعدان بالإنسان عن إدراك الحق، فالذي ينسى نفسه فقيرًا يصعب عليه التفكير الصحيح في الواقع، والذي لا يرى نفسه إلا غنيًّا وطاغيًا يصعب عليه إدراك الواقع؛ ولذلك حذر رسول الله من هاتين الحالتين في إطار التحذير من الأسباب التي تبتعد بالإنسان عن الحق والصواب، فيقول: " بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر "126؛ من أجل ذلك أنشأت الجاهلية المصطلحات المشار إليها: مصطلح الدول النامية، ومصطلح الدول الصناعية الكبرى؛ حيث يعيش الفقر المنسي والغنى المطغي تحت هذين المصطلحين.
إن خطة الإفقار الجاهلية للعامة تهدف إلى إحداث معاناة معيشية شديدة تستهلك كل الطاقة الذهنية والنفسية للإنسان، وكذلك تهدف إلى تفتيت العلاقات الاجتماعية كنتيجة للحرص والأنانية، ومحاولة كل إنسان تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية.
وحتى لا يصل الفقراء إلى نقطة الانفجار والثورة فإن السينما والتلفزيون يبتعدان به عن هذه النقطة من خلال موضوعات الأفلام والمسلسلات اليومية التي تضرب على الجرح والوتر الحساس فتثير الشجون تارة، وتارة أخرى تعالج الموضوعات التي تعرض حياة الترف والأرستقراطية التي تحدث نوعًا من السعادة وتعويض الحرمان...
وتارة ثالث تعرض الموضوعات التي ينتصر فيها الفقير على الغني من خلال قصص الحب... والمبادئ والأخلاق والشهامة.
المهم أن يبقى الفقر بلا ثورة...
أما خطة الغنى المطغي، فمنها خطة الترف الذي يفقد أصحابه الإحساس الحقيقي بغيرهم من البشر، وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة إحساس بالغير... وكذلك ستجعلهم يفتقدون حاسة البحث عن الحق؛ لأن الترف أنشأ عندهم معيارًا للحق وهو المال فقط وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة بحث عن الحق، وتجعلهم يفتقدون إدراك الواقع وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة هي ثمة الإدراك الصحيح للواقع.
إن المترفين هم أصحاب المال عندهم تفسير كل شيء وعلة كل تصرف وحكمة كل حدث، وأساس كل واقع ومنتهى كل غاية وقيمة كل إنسان... إن الترف هو عدو الدعوة الأول.(7/148)
ومن هنا فإن أهم مقتضيات الصراع بين الجاهلية والإسلام هو تخليص الإنسان من حالة الفقر المنسي، وواقع الغيبوبة النفسية والذهنية التي يعيشها البشر كما يوجب على الدعاة أن يعملوا بكل أساليبهم على إعادة العقل البشري من غيبوبة الفقر المنسي وإفاقته بكل المؤثرات النفسية والعصبية، وبكل الأساليب الكلامية والعملية، كما يجب أن يقف الدعاة أمام الترف الجاهلي وعناصر الثراء للاستعلاء بالإيمان وتجرده وكرامة الزهد وكرامة الزاهدين ومكانة العلماء؛ ليفيق المترفون عندما يشعرون أن هناك قيمة أعلى من المال وحقيقة أكبر منه هي قيمة الإيمان والإسلام.
سياسة المواجهة للنتيجتين:
إن التصور السياسي الصحيح يفرض على الدعاة في مواجهة الفقر المنسي والغنى المطغي أن نتعامل مع الإنسان بأقصى إمكانيات التأثير.
الإثارة الفكرية والعاطفية... بأعمق أبعادها.
المواقف المحزنة... الخواطر المخيفة... العبارات المطمْئِنة.
يجب أن يهتز الإنسان أمام الدعاة هزًّا عنيفًا... وليسكن سكونًا تامًّا يجب أن يستحوذ الدعاة على كيان الإنسان كله، يجب أن يقف الإنسان أمام الدعاة كأن على رأسه الطير...
لا حراك... سوى حركة النَّفَس ونبض العروق...
يجب أن يتكلم الدعاة بكل الألسنة وبكل الأساليب؛ لينسى الإنسان أمام الدعاة حياته الدنيا سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.
ليبحثوا عن كل القصص الصحيحة... كل الطرائف... كل المواقف... السيرة... حياة الصحابة... الرقائق... الكرامات والمعجزات... الجن والملائكة... القبر وعذابه... الجنة والنار... كل الإسلام... كل حقائق الإسلام... كل قضايا الإسلام.
لإنقاذ الفقراء الناسين والأغنياء الطاغين.
وفي النهاية...
يجب أن يترفع الدعاة عن مصالح الدنيا؛ حتى لا يتهمهم الفقراء ولا يستهين بهم الأغنياء.
عندئذ يمكن الإطاحة بالاتاه الاقتصادي المنشئ لمصطلحات: العالم الثالث... الدول الصناعية الكبرى... الدول النامية... المعونة الاقتصادية... هذا المصطلح الذي يعني أن كيانات الدول النامية عالة على الآرض لا تتجاوز أهدافها وآمالها هدف العيش وأمل الاستقرار بالحصول على هذه المعونة، فتفرض الدول العظمى إرادتها على الدول الأخرى.
3) المحور القانوني:
ورغم أن الجاهلية فوضى وخروج عن الأصول، إلا أن الشيطان يرغب في اميصاص الطبيعة البشرية التي ارتكز فيها بصورة دفينة الرغبة في النظام والحياة في ظله.
فأنشأ الشيطان للجاهلية صيغة قانونية تحقق نظاماً يخضع له جميع الناس.
ولعل المثال التاريخي لهذا الوضع هو اعتراض قوم شعيب على الرسالة باعتبارها خروج على نظام لا يملكون إلا الخضوع له: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
فهناك نظام يجعلنا لا نستطيع التصرف بهوانا "أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
ولكن العلة في انتشار النظام الجاهلي لا تقف عند حد امتصاص الإحساس الطبيعي المركوز في النفس البشرية بالرغبة في النظام ولكنها في الأساس... أسلوب يضمن به الشيطان أن يكون له قيادة العالم وزعامته ليسيطر من خلال هذه القيادة وتلك الزعامة على جميع الناس.
وانطلقت الجاهلية في المرحلة القائمة لمقاومة الدعوة في اتجاهات متعددة.
وكانت الحرب العالمية هي رصيد السياسة الجاهلية عالمياً.
والتي نشأ عنها أخطر هذه الاتجاهات وهو الاتجاه القانوني تحت مظلة الأمم المتحدة – الهيئة الجاهلية القانونية العالمية.
وفي إطار دستور الأمم المتحدة الذي أعطى حق العضوية الدئمة في مجلس أمنها لدول محدودة وحق الفيتو مع حق العضوية الدائم.
من خلال هذا الوضع تمت الاتفاقيات والمعاهدات وكان أخطرها معاهدة بيكر التي تم الاتفاق فيها على وضع العالم تحت وصاية ومسئولية الدول الكافرة المسماة بالعظمى.
ولكي يبقى للمحور القانوني فاعليته يجب أن تبقى آثار الحرب الثانية التي تمثل رصيداً لقانون النظام العالمي ولا بد أن تبقى الحرب نفسها في إحساس العالم باعتبارها المصدر الفعلي لقوة القانون، وأول عناصر هذا الاتجاه هو إيحاء الحرب في عقل العالم وضميره من خلال الأفلام والقصص. ولعل من أبرز هذه الأساليب هو الإبقاء على مساعد هتلر سجيناً في سجن تشرف عليه دول الحرب المنتصرة وتتناوب حراسته دولة كل ثلاثة أشهر باعتبار هذا السجين أطول أثر واقعي للحرب...
4) المحور النفسي:
ومن أخطر المحاور النفسية للسياسة الجاهلية: هو امتصاص رد الفعل الإسلامي إذا فعلت الجاهلية ما يقتضي هذا الرد بحيث يتبدد رد الفعل الإسلامي بصورة نفسية شعورية غير عملية أو خطيرة ولعل أخطر الأمثلة على ذلك:
حاث سقوط الخلافة الإسلامية: ذلك الحدث الذي كان قتلاً لكل مسلمي العالم فكانت قصائد شوقي التي نعى فيها سقوط الخلافة فكانت قصائده بمثابة المستأجرة في المأتم التي تسعد أهل الميت فيخفف هذا من وطأة الفجيعة.
وكان منصب (الخلافة) الصوفية الذي تهتم به الدولة وتعطية الصفة الرسمية حيث يخرج (الخليفة) في المولد النبوي الشريف يركب (الفرس) وحوله (السيوف الخشب) و (الرايات) فيخرج الخليفة على جموع الشعب المتصوفة وهم يشعرون أن هذا (الخليفة) خير من ملء الأرض من (الخليفة) الذي ذهب...
ولكن هذه الخدعة الكبرى لا تستسيغها العقول الواعية فليكن لهؤلاء ما يخمد مشاعرهم ويهدئ من روعهم... فكان السماح بالجمعيات الدينية التي وضعت على رأس برنامجها (إعادة الخلافة) والتي أشعرت أصحاب هذه العقول الواعية أن الخلافة ستعود ولكنها مسألة وقت.
5) المحور العسكري:
المحور العسكري المتمثل في التطور التكنولوجي في التسليح إلى الحد المحقق ليأس جميع البشر في المواكبة ليستمر التطور حتى يصل إلى ما يطلق عليه حرب الفضاء لتصبح الأرض موقعاً تم الانتهاء منه ثم حرب الكواكب التي لا تمثل فيها الأرض إلا كوكباً صغيراً. فتتضاعف مشاعر السيطرة من جانب الدول العظمى ومشاعر اليأس من جانب الدول الأخرى.
تماماً مثلما سيشعر يأجوج ومأجوج بغلبهم لأهل الأرض فقالوا: الآن نحارب أهل السماء؛ فوجهوا لها حرابهم فنزلت فتنة لهم مخضبة بالدماء127.
ولكن...
تحت كل هذه التراكمات الصخرية والطبقات الجاهلية الجلدة يكون غليان الإيمان ويفتح الفهم الإسلامي الصحيح فوهة البركان.
مهما كان الوضع... ومهما كانت المؤامرة... سيفتت البركان الإسلامي تراكمات السياسة الجاهلية العالمية.
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...
قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات المشقة؛ في الخندق... عندما اجتمعت الأحزاب فكان المسلم لا يأمن أن يخرج ليقضي حاجته... ووقف حجر أمام الصحابة وعجزوا عن تحطيمه حتى الخندق فيه الأحجار ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ معولاً ويضرب الحجر ضربة؛ ويرى في غبار حجر الخندق ثلاث صور:
الصورة الأولى: مدائن الفرس.
الصورة الثانية: قصور الروم.
الصورة الثالثة: اليمن128.
اختلطت الدول العظمى بغبار حجر الخندق.
وتبدد الوهم... وهم الدول العظمى. التي تحولت إلى مجرد صور.
وفتحت الفرس، وفتحت الروم، وفتحت اليمن.(7/149)
إن عالمية الدعوة عقيدة أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع نوح سفينة فوق الرمال، وسخر القوم من رسول الله كما سخروا من نوح وقالوا: لا يأمن أحدنا أن يقضي حاجته ويعدنا بقصور الروم ومدائن كسرى! 129. ولم يدر الساخرون أن الطوفان آت ليعم الأرض عقيدة سهلة نرى الأرض فيها تنزوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فتوحاته المقدرة له من عند الله... قدر سهل " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ".
خامسًا
نموذج للصراع السياسي بين الإسلام والجاهلية
(مصر: 1965 م - 1981 م)
ولكن قبل طرح نموذج الصراع؛ " مصر 1965 - 1981 ".
نجيب على تساؤل قد يتبادر إلى الذهن: لماذا مصر، ولماذا هذه الفترة؟
وللإجابة على هذا التساؤل ثلاثة جوانب:
الأول: إن الذين يعيشون التجربة أو يشاركون فيها، هم الذين يقدمونها، ولا يقدمها عنهم غيرهم... ولا يتجاوزون هم أيضاً حدود تجربتهم...
إن الكتابة عن تجارب الآخرين تسهم في إحداث طمس وإهدار للتجربة في كل موقع من مواقعها، وكل فترة من فتراتها. هذه قاعدة سياسية هامة...
الثاني: لأن الحركة الإسلامية في مصر اكتسبت صفة القوة السياسية خلال هذه الفترة حتى نهايتها مما يجعل لأحداث هذه الفترة وهذا الواقع فرصة قيمة لدراسة دقيقة يتم من خلالها تحليل هذه الأحداث التي انتقلت بالحركة لهذه المرحلة، وحققت لها صفة القوة السياسية.
الثالث: أن وصول الحركة الإسلامية في مصر إلى هذا المرحلة كان تحت وطأة أكبر ضغط جاهلي.
وذلك لأن النظرة الجاهلية العالمية لمكانة مصر على أنها مفتاح المنطقة العربية والشرق الأوسط جعلها تلقي بكل ثقلها الأمني والإعلامي والسياسي والعسكري لمحاربة الحركة الإسلامية في مصر...
مما يجعل مفاتيح الحركة في مصر نتائج عيارية للعلاقة بين الإسلام والجاهلية في أي موقع من العالم.
وهذه الجوانب الثلاثة هي بمثابة المقدمة للإجابة الأساسية عن التساؤل: " لماذا مصر... ولماذا في هذه الفترة " وهي أن الحركة الإسلامية في مصر تجربة منهجية كاملة.
وإن سبقها من حيث النتائج العملية والسياسية تجارب إسلامية أخرى في مواقع أخرى قد تكون قريبة من بلوغ غايتها ومنتهاها.
وذلك لأن الحركة الإسلامية في مصر منذ بداية الإخوان المسلمين والعمل الفدائي في القناة وحرب اليهود حتى المنصة تقدم أساسياته كحقائق مطلقة يمكن تجريدها من ظروفها وملابساتها الخاصة لتحقق وعياً سياسياً على مستوى الحركة الإسلامية العالمية في كل مواقعها.
ويحسن أن نذكر ابتداًن هذه الأساسيات بترتيبها الصحيح الذي يمثل في أي تجربة خطاً صحيحاً لتطور العلاقة بين الفكر والحركة وهذه الأساسيات هي: العقيدية. الحركية. الشرعية. القدرية.
السياسية بأبعادها المذكورة في الكتاب.
ولكن الأمانة تقتضي القول بأن ظهور هذه الأساسيات في الواقع لم يكن بهذا الترتيب النظري الصحيح...
حيث برزت دعوة الإخوان من خلال: الأساسية الحركية.
فقدمت نموذجاً لا مثيل له في البناء التنظيمي للجماعة...
ونماذج لا يعلى عليها في أساليب الحركة التي أظهرت على ضفاف القناة منهجاً حركياً تاريخياً... في حرب الإنجليز.
وقدرات تكتيكية عسكرية هائلة في حرب اليهود...
ولم يكن الواقع يسمح بخلاف عقيدي حول العدو حيث أن كفر الإنجليز واليهود كان أساس الاندفاع العسكري تحقيق نحو المواجهة.
ولكن قيام الحركة الخبيثة للضباط عام 1952 أنشأ ضرورة الحكم على العدو الجديد... لينشأ معها الأساسية العقيدية التي اكتملت في كتابات الأستاذ سيد قطب.
ولكننا نعترف أن إنشاء الأساسية العقيدية كان على حساب المستوى الحركي للدعوة. بعد توقف الحركة بسبب الخلاف والسجون.
لتبدأ الدعوة بعد توافر الأساسية العقيدية بخبرة حركية ضعيفة تمثلت في عدة محاولات لم تدخل منها في حيز التنفيذ سوى محاولة الفنية العسكرية، وبفكرة خداعية غير قائمة على المواجهة العسكرية الفعلية.
وذلك بعد انقطاع الصلة العملية بين أصحاب المستوى الأول في الحركة بسبب سجنهم وأصحاب المحاولات الأخيرة الذين بدأوا بخبرتهم وإمكانياتهم الذاتية.
كما نعترف أن البداية الجديدة للأساسية الحركية بخبرة المبتدئين وإمكانياتهم الذاتية أظهرت خطاً حركياً عظيماً.
وهو الارتكاب على الخبرة الشخصية والذكاء العقلي والفكر البوليسي؛ حتى بلغ الأمر أن تكون كل مراجع الحركة أجنبية مثل كتابات حرب العصابات...
وتجارب الكفاح المسلح التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.
الأمر الذي نشأت به الأساسية الثالثة وهي الأساسية الشرعية الداعية إلى الالتزام بالدليل الشرعي في كل مراحل الدعوة، وضرورة أن يكون لأصحاب الدعوة سلف في كل موقف أو تصرف.
والاهتمام بالعلم الذي يتوافر به الأدلة حتى لا تكون دعوة داعية إلى إقامة المجتمع المسلم وهي تفتقد شرعية حركتها وسلفية منهجها.
وهي أساسية جوهرية أسهمت بصورة طيبة في تأصيل الدعوة من حيث قضيتها وأسلوب جمع الناس حولها.
ورغم أن هذا التأصيل قد تم من خلال الأساسية العقيدية؛ فكان لأصحاب سلفية الدعوة فضل تثبيت هذا التأصيل الشرعي في الواقع. بسبب تواجدهم في هذا الواقع بصورة واسعة.
وأخيراً؛ ونحن نواصل تحليل أساسيات المنهج الكامل من حيث الواقع يفيد الانتباه إلى هذه الحقيقة وهي أن الخطأ والصواب كان احتمالاً قائماً على جميع من حاول إبراز أساسية من هذه الأساسيات إلى الواقع.
ولكن قيام الاحتمال لا يلغي فضل المحاولة...
وهذا ما كان واضحاً في إبراز الأساسية القدرية بصورة كبيرة؛ وذلك لأن الفشل المتلاحق لتجارب الدعوة في مصر جعل أصحاب الدعوة يبحثون عن علة هذا الفشل فكانت أهم محاولة للبحث هي الاتجاه القائل بأن الدعوة لها أسباب وسنن يجب ارتباط منهج الحركة بها. كما يجب ارتباط منهج الحركة بأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة.
وقد كانت المحاولة خاطئة؛ لأنها لم تحقق الارتباط منهج الحركة والسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة. ولكن فضل إبراز هذه الأساسية لم يذهب معها.
حيث التقط آخرون هذا التوجه الحركي ليعالجوا أخطاء المحاولة.
ويحددوا التصور القدري الصحيح لمنهج الحركة.
وما أن بلغت الدعوة هذه المرحلة المنهجية الهائلة والتي توافرت واستقرت فيها الأساسية العقيدية والحركية والشرعية والقدرية حتى انطلقت بكل قوتها وبكل استعدادها للبذل والتضحية؛ حيث تجاوزت الدعوة رحلة الجدل وغموض السبيل وقصر الرؤية الصحيحة للعمل؛ الأمر الذي تطلب إبراز الأساسية السياسية لتحقيق ضبط القوة وتوجيه الاستعداد؛ ليتحقق أكبر قدر من الأهداف بأقل قدر من التضحية حتى لا تتجاوز التضحيات حتى لا تتجاوز التضحيات المبذولة حجم الأهداف المحققة.
وبعد المقدمة... يبدأ التحليل...
ابتداء من الحضانة التي كان أشهر شعاراتها: " يا رب احفظ بابا جمال "
ومروراً بالمرحلة الابتدائية ذات المناهج المشحونة بالأفكار الاشتراكية وشخص عبد الناصر.
والمرحلة المتوسطة التي تتواصل فيها المناهج المشحونة وتكون فيه الرحلات الإجبارية إلى الهرم والسد العالي؛ لربط الشباب تاريخياً بالفراعنة بناة الهرم وحاضراً بالزعيم باني السد.
وانتهاءً بالجامعات التي فرغت فيها قاعات المحاضرات بعد توزيع الطلبة على الرحلات والمؤتمرات والمعسكرات ومسيرات التأييد والبيعة مدى الحياة للزعيم الملهم.
وفي هذا الوقت كان الشباب المواظب على الفرائض يبحثون له عن راق يتهامسون حوله: هل به مس؟
كانت صلاة الفجر سرًّا.(7/150)
كان يكفي لينفض أي تجمع أن تحاول شرح آية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله ".
كان الناس يشيرون إلى أحد البيوت قائلين: البيت ده فيه واحد من الإخوان.
كان جميع الكتاب والمفكرين والصحفيين ملزمين بالهجوم على الإخوان.
كانت البراعة والعبقرية تقاس بمستوى هذا الهجوم المفروض.
كانت الجمعيات الدينية جميعها وبلا استثناء وبكل توجهاتها تجتمع وتتفق وتنطلق عندما تكون المهمة هي الاستنكار وبشدة على الإخوان أو أي عمل من أعمالهم.
ومن هذا الواقع كان التحول...
وكان هذا التحول من المرحلة الاشتراكية إلى الإسلام في مصر...
هو في حقيقته آية من آيات الله سبحانه وتعالى ويجب أ، تكون دراسة آية التحول هي الدرس الأول في تاريخ الحركة القائمة.
لقد نشأت الحركة الإسلامية من خلال مجموعة من الشباب لا يملكون أي خبرة... أي إمكانية... أي تأييد... أي تصور... إلا قضية الحاكمية تفسير آية " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
في مجتمع...
يملك أيد يولوجيته الاشتراكية المتمكنة التي جعلت الأستاذ الجامعي الملحد هو القدوة والنموذج الاجتماعي.
أيديولوجية متمكنة فرخت كوادر مغسولة المخ تحت مظلة الدراسات السياسية التي أنشئت لها خصيصاً كلية أو مغسلة الاقتصاد والعلوم السياسية التي لا يلتحق بها إلا أصحاب أعلى درجات الثانوية العامة لدراسة أعداء الثورة... الإخوان... من خلال المناهج ورسائل الماجستير والدكتوراه.
مجتمع... له زعيمه... الذي اجتمعت فيه كل خصائص الزعامة القومية، صوت وصورة من يؤيده عالمياً: الكتلة الشرقية، ودول عدم الانحياز علناً، وأمريكا والغرب سراً.
مجتمع... له شعبه الذي كانت تتعلم فيه الأجيال النطق على حروف كلمة جمال مروراً بكل المواهب الشعبية، وعلى رأسهم الذي ترك له مصر أمانة في يده130.
والذي بلغ أن جعل لعيد الثورة صلاة... " في صلاة العيد: عيد الثورة بناجيك يارب ".
له زعيمه الذي أعلن قرار ضرب سوريا بعد حركة الانفصال وإنهاء الوحدة فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
ثم قرر عدم ضرب سوريا لأن الدم العربي لايسفك بيد عربية فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
التصفيق على التناقض... التصفيق على أي شيء... التصفيق فحسب.
لقد كان العالم وراء عبد الناصر في حرب الإسلام:
1) لقد أعلن عبد الناصر عن ضبط تنظيم 65 وهو في الاتحاد السوفييتي.
قائلاً بافتخار: لقد اعتقلنا 18 ألف في ليلة واحدة " وهذا هو الشرق ".
2) سافر المشير عبد الحكيم عامر للاتفاق أو للموافقة على أكبر صفقة سلاح فرنسية لمصر بعد أحداث التعذيب التي تمت في السجن الحربي... " وهذا هو الغرب ".
حتى يذكرنا منظره القبيح بقبح شجرة الجاهلية (ذات أنواط)131.
وداخل المجلة الرجل الحقيقي فعلاً المفكر القدوة الحبيب ملأ القلب والعين " سيد قطب " جالساً وحده في ساحة السجن. وبذلك يقولون: هذه هي الصفقة وجاء دور الثمن.
مجتمع له تنظيمه الداخلي " الاتحاد الإشتراكي العربي " على رأسه لجنة مركزية كل عضو من أعضائها كتلة لحمية حاقدة على الإسلام.
تنظيم كرأس الأخطبوط الجاثم بجسده فوق قلب مصر يعد النبض وتمتد أطرافه فوق كل أطرافها لينقل الحركة والهمس فلا عزبة ولا كفر ولا نجع ولا قرية إلا وترى فيها لافتة الشؤم: الاتحاد الاشتراكي العربي.
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بنصر 1956 بعد ضياع شرم الشيخ وغيرها من أرض مصر في المعركة ثم رتب الاحتفالات بعيد النصر من تاريخ ضياع الأرض أجازة قومية تعطل فيها المصالح "الهيئات الحكومية والمدارس".
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بأن العرب سيشربون القهوة في تل أبيب في الوقت الذي كان الجنود يجرون بملابسهم الداخلية فرارًا من ممر متلا...
جهاز إعلامي...
ابتداءً من الأراجوز وانتهاءً بالمسرح القومي ومهرجانات السينما.
ابتداءً من المنولجست132... وانتهاءً بأرقى القصائد التي جعلت السد معجزة عبد الناصر... معجزة ليس لها أنبياء133.
ثم إثبات النبوة لصاحب المعجزة التي ليس لها أنبياء على لسان القبيح قباني، حيث قال في عزاء جمال بعد أن نفق: قتلناك يا آخر الأنبياء.
نحن الآن في مصر سنة 1965:
- شباب صغير السن يأخذ على عاتقه الدعوة إلى الله.
- نشأت هذه الفكرة عنده دون أن يكون له نماذج يقتدي بها، وإخوة كبار ينصحونه.
كان اتجاه الحكم الناصري نحو الإخوان أو بقايا الإخوان في السجون.
كانوا لا يتصورون أنه من الممكن أن يكون هناك دعوة إلا من خلال الإخوان، والإخوان في السجن... انتهت المشكلة.
- عدم رغبة صلاح نصر في التعامل مع الأحداث التي كانت بعد القضاء على الإخوان بشيء من الاهتمام وعدم الرغبة في تصعيدها إلى رجال السلطة بعد إعطائهم تقريرًا بأنهاء المشكلة بعد مذابح الإخوان.
كما أن ارتكاز الدعوة في البداية على أفكار بعيدة عن فكرة الوصول للسلطة أحدث نوعًا من الاستهانة بالدعوة.
حيث بدأت الدعوة بالاهتمام بأحكام الهدي الظاهر (اللحية – الحجاب) من ناحية... ومن ناحية أخرى ظهرت فكرة العزلة والهجرة، وكلها أفكار بعيدة عن المواجهة.
كما أنه لم يكن هناك أجهزة أمنية تابعة للداخلية بمعنى الكلمة، بل كانت مكاتب مهملة تابعة للأقسام، وقد كانت المخابرات العامة هي المكلفة فعلاً بمواجهة الدعوة الإسلامية.
مما جعل هذا الجهاز بعد أحداث 15 مايو 1971 فرصة أمنية هائلة للحركة، حيث كانت أمن الدولة أجهزة بسيطة لا قيمة لها.
التحليل: الدعوة قضية فطرية وليست قضية تلقين...
الغباء غير الطبيعي من جانب الحكم الناصري...
قدر الله الغالب على أمره...
صغر سن الشباب خفف من التركيز الأمني عليهم.
صغر سن الشباب جعله متحمساً وخصوصاً أنه لم يقاس من أهوال الفترة الناصرية.
الرغبة الجامحة في القضاء على الحكم الناصري كرد فعل نفسي لأهوال الناصرية...
وكرد فعل للخوف من تكرار هذه الأهوال معهم.
النكسة:
هزيمة 67: التخفيف من وطأه القهر الناصري للشعب الذي حقق للدعوة فرصة حركية أوسع بين الناس.
- استغلال الشيوعيين للموقف ومحاولة القضاء على حكم عبد الناصر – هذا الاستغلال الشيوعيين الذي حقق فرصة أكبر للحركة الإسلامية كمواجهة للمد الشيوعي الخطير في مصر.
هزيمة 67: أسقطت الاتجاه الاشتراكي وألجأت الناس إلى ربها حتى ينصرها الله وحدوث موجة تدين طبيعية.
ومات جمال...
وتولى السادات الذي اضطر إلى رفع شعار العلم والإيمان لمواجهة الخطر الشيوعي ولا تزال حركة الشباب صغير السن مجهولة لدى الأمن – ويقرر السادات إعطاء فرصة للاتجاه الإسلامي كمواجهة للشيوعية ولكنه كان يظن أنه سينشئ الرغبة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي من أساسها كتصرف سياسي وهو لا يدري أن هناك من سيلتقط فرصة وجوده الغالية.
إن نكسة 67 دليل قاطع على أن العالم لا يسير وفق خطة محكمة لا يخطئ أصحابها.
لأنه لو كان الأمر كذلك لما كانت نكسة 67 أصلاً ولو على الأقل في هذا التوقيت.
لأن هذا التوقيت لم تمت فيه جذور الأصالة الإسلامية بعد...
حتى جاءت النكسة لتتحول أرض مصر إلى تربة خصبة ومناسبة لا متداد وارتفاع هذه الجذور.
مقتل سيد قطب:
من أبرز حقائق الإسلام: حقيقة الشهادة.
وفهم هذا الدين: هو تحقيق مقتضياته وحقائقه.
ومقتضى حقيقة الشهادة: الإخلاص والتزام الحق، ويجمعها في الإسلام: " الاستعداد للموت في سبيل الله ".
لأن هذا الاستعداد يستحيل حدوثه في الواقع إلا بالإخلاص والطاعة، ويصبح الاستعداد للموت أقوى أدلة الحق في واقع صاحب هذا الاستعداد...
ومن هنا جاء معنى الشهادة...(7/151)
إن صاحب هذا الاستعداد بذاته أقوى دليل على الحق، وتصبح هذه الشهادة أقوى أسباب الفهم الإسلامي على الإطلاق؛ لأن الفهم بالدليل، والشهيد أقوى درجات هذا الدليل.
وهذا مشرك يقتل مسامًا فيقول المسلم وهو يُقتل: الله أكبر... فزت ورب الكعبة. فيسلم المشرك... بعد أن تلقى من المسلم الشهيد الدرس الأخير.
وها هم فتية الدعوة الأوائل يقرأون الظلال قبل قتل سيد قطب، ويمرون عليه دون أن يعيروه أي انتباه... ثم يقتل سيد قطب؛ فيرجعون إليه ويعكفون عليه، ويتحقق أكبر نطاق من الفهم الإسلامي الصحيح في الزمن القريب... ويخدم الدعوة دمُه قبل قلمه، وباختصار شديد: فإن كتابات سيد قطب هي أول الكتابات الحديثة التي تنطبق فيها الشروط الصحيحة لكتابات الحركة الإسلامية.
فكان التواجد السريع للحركة الإسلامية من العناصر التي تترقب فرصتها.
الأمر الذي لم يتوقعه أحد وبأقصى درجات الفهم الصحيح المأخوذة عن كتابات سيد قطب بصفة أساسية.
كل هذه العوامل ساعدت على إنشاء الحركة الإسلامية لتمثل خط الواقع الذي هيأه الله للدعوة ثم يأتي خط التطور الطبيعي للحركة ذاتها.
بدأت مجموعات الشباب تنطلق إلى الدعوة من منطلقات مختلفة حيث لم يكن هناك واقع قائم للدعوة يمكن النسج على منواله أو السير على منهجه...
وكانت المنطلقات التي انطلقت منها الدعوة محددة:
منطلق الجهاد:
وأصحاب هذا المنطلق كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا طبيعيًّا لتنظيم سيد قطب، حيث كانت القضية هي محاولة قلب نظام الحكم، وكان التأثير الفكري لسيد قطب قد بلغ مداه، فكانت المحصلة هي التجمع على مفهوم الجهاد بعد أن تعامل الإعلام المصري مع أحداث تنظيم ثورة 1965 على أن الجهاد هو الأسلوب الذي انتظمت به الأحداث.
منطلق العزلة:
وأصحاب هذا المنطلق كانوا ممن ارتكز مفهوم الرفض للجاهلية في أذهانهم، وكان السعي إلى موقف الرفض متمثلاً في العزلة موقفًا نفسيًّا تم صياغته بصورة منهجية مناسبة.
منطلق السلفية:
وأصحاب هذا المنطلق جاؤوا كرد فعل لعدم الانضباط الشرعي في منهج الدعوة وتجاوز الاجتهاد العقلي لحدوده في واقع الدعوة إلى درجة أن تكون الصلة بين الحركة والشرع ليست إلا في الانتساب والانتماء والهدف، أما الواقع والأسلوب فكان اجتهاديًّا عقليًّا بحتًا، مما أوجد التوجيه السلفي كمواجهة لهذه الظاهرة.
ثم كان خروج الإخوان من السجون ليتكون منطلق جديد وهو الممارسة الحزبية والنيابية والجماعات الإسلامية في الجامعة والعودة إلى الأساليب التارخية الثابتة للجماعة.
وكان تطور الحركة على مستوى مجموع هذه المنطلقات المختلفة متمثلاً في غيبة فكرة الجهاد والعزلة عن واقع الدعوة ومنهجها غير أن المحاور السابقة الأساسية للحركة تمثلت بصفة أساسية في الجهاد والإخوان والسلفية.
فكرة الجهاد... أعداد معدودة من الأفراد يتبنونها ويقول لسانهم بها...
لا يتجاوزون مرحلة الكلام.
محولات ساذجة... ضرب مولد لأحد الذين يطلق عليهم أولياء... إلقاء قنبلة في أحد الملاهي.
ثم كان تنظيم الفنية العسكرية... مجموعة من الشباب تربوا على فكرة الجهاد ولم يطيقوا تحمل الواقع المحيط بهم، فكان الاتفاق مع صالح سرية... والقيام بعملية الفنية.
وكانت خصائص حركة الفنية:
أنها كانت عقب انتصار حرب أكتوبر؛ الأمر الذي أكد الرفض الإسلامي للواقع رغم النتيجة العسكرية والإعلامية والسياسية التي حققها السادات من حرب أكتوبر.
إلا أنها كانت أول خطة تدخل حيز التنفيذ رغم أن خطة الفنية جاءت قائمة على فكرة خداعية... وليست على المواجهة العسكرية المباشرة.
إن غالبية العناصر المنفذة كانت طلبة الفنية والطب والهندسة، مما فرض التفسير الإسلامي الصحيح للأحداث والأشخاص الصحيحة والعقيدة الثابتة التي ارتفعت فوق مستوى التفسير الجاهلي الهزيل، والإحصائيات الجاهلية التافهة التي تعتبر هذه الأحداث ناتجة عن أشخاص يعانون من عوامل نفسية معقدة وقاسية.
المنصة - أو أقدار 1401 هجرية -:
هكذا كان السادات قبل قتله يبذل جهدًا هائلاً ضد نفسه، وكانت أيامه الأخيرة داخلة بأحداثها ضمن قدر إلهي بقتله، حتى بدا للجميع قتيلاً يمشي على الأرض... وكان تحرك السادات المكثف هو أبرز العلامات الدالة على الطبيعة القدرية للمنصة.
وكانت قرارات سبتمبر في الابتداء، ومرورًا بالسخرية من النقاب، وسب الشيوخ في الانتهاء، نقاطًا أساسية ثلاث في خط مقتله، وكان رد الفعل لهذا الخط وتلك النقاط هي ذاتها علامة جديدة، وكانت الرغبة في قتله في نفس الشعب، حتى بلغ هذا القتل مبلغ الأمنية الهائلة.
ثم كانت مجموعة العلامات الفردية التي ساهمت كل علامة فيها في تحقيق القدر الإلهي بالقتل، ولعل ما يمكن ذكره:
أن يأمر السادات – ولأول مرة – الحرس الذي كان أمام المنصة بالرجوع خلفها تحسبًا لهجوم متوقع من الخلف.
أن يمرض القائد المعين للطابور ليحل محله ضابط آخر اختار أن يفتش عربة ويترك عربة... ليجيء دور عربة الموت في ترتيب العربات التي لم تفتش.
أن يتوه الإراد المكلفون بإحضار القنابل من الصحراء بعض الوقت؛ فكان هذا التيه سببًا في نجاة هؤلاء الإفراد من أحد دوريات الشرطة التي انتشرت هناك في ذلك الوقت.
أن تنجو سيارة القنابل التي جاء بها المشاركون من حادثة محققة بالاصطدام مع أخرى قبل الدخول إلى القاهرة بوقت قريب، حيث توقفت السيارتان والمسافة بينهما متر واحد.
وتمت العملية في أقل من وقتها المحسوب وبصورة دقيقة جعلت العالم يطمئن إلى أن تمام هذه العملية نتيجة حتمية لمستوى سياسي هائل حُسبت فيه التوقيتات ودُرست فيه الظروف.
ثم كان الإفراج عن جميع القوى السياسية بعد المنصة، مما جعل من الحركة الإسلامية المنقذ العظيم من خطر الاعتقال لهذه القوى جميعها.
مما جعل للحركة الإسلامية محورية الحركة السياسية العامة في مصر، كما أن الجهد المبذول والتضحيات الهائلة من جانب أصحاب الحركة أجبر جميع القوى السياسية في مصر على احترامهم وتقديرهم.
ويضاف إلى ذلك الكيفية الإعجازية التي تمت بها العملية والتي كانت دليلاً في نظر الناس على عظمة التفكير وحكمة التدبير وإحكام العمل ودقة التنظيم... وفوق ذلك وقبل ذلك: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
وكنتيجة لأن المنصة قتل فيها رئيس الجمهورية فقد كسر حاجز الخوف من السلطة.
ونتيجة للأسلوب الذي تمت به العملية... فقد أصبح الشخص المسلم بالنظرة الاجتماعية إنسانًا مفكرًا ومخططًا وفدائيًّا عظيمًا، بل أصبح نموذجًا اجتماعيًّا.
ونتيجة لمجموع هذه النتائج اتسع نطاق الانتساب للدعوة، وزاد عدد الملتزمين والمتعاطفين معها.
ولكن...
للجاهلية موقف تقليدي ثابت عند هزيمة أي عنصر من عناصرها:
- التبرؤ من المهزوم حتى لا تهبط الجاهلية إلى مستوى العنصر المهزوم...
- تأكيد النصح له وعدم استجابته للحفاظ على المستوى السياسي للجاهلية وعدم سقوطه مع العنصر الساقط...
- إدخال احتمالات غائبة في الموقف لتقليل التجاوب مع الحدث... وتضييع أثره السياسي.
ولعل أبرز هذه الاحتمالات الخاصة بالمنصة هو القول بأن أمريكا هي التي قتلته بعد انتهاء الاستفادة منه، وكتاب " خريف الغضب " هو أول من ترك مساحة فارغة للاحتمالات الخفية وراء الحادث، ولكن بمرور الوقت سيصبح من المناسب طرح التفسير المباشر للحادث كما يطرحه أعداء الدعوة، وسيكون أحد هذه الاحتمالات؛ وذلك حتى يكون الواقع أكثر تقبلاً لهذه الاحتمالات بقلة عدد الذين فعلوا الحادث أو عايشوه.
==============(7/152)
شخصية الرسول وأثره
للدكتور / مصطفى السباعي
أن محمد الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يفكر أحد أن يكون مثله أو قريباً منه ، في إشراق روحه ، واتصاله بالملأ الأعلى ،يتلقى الوحي ، ويتنزل عليه الهدى آيات بينات ! لن يصل أحد إلى هذا ولا إلى قريب منه ، لأن الله ختم بنبوته النبوات، وبشريعته الشرائع ..
إن محمد الإنسان ، فهو هو الذي يحرص كل مسلم على أن يكون ظله في الأرض ، يتخلق بخلقه ، ويهتدي بهديه ، ويأتي به في صبره وجهاده وزهده وعبادته وتضحيته وإيثاره ومأكله وملبسه ، وما أعتقد أن الله أكرم رسول الله الإنسان بمدع أعلى من هذا المدح ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم .
تعال بنا لنتخطى أسوار الزمن حتى نصل إلى عتبه " محمد الرسول الإنسان " فنرى روح الحياة السارية المشرقة في مجتمع فاض بالبطولات والمروءات ، حتى يكاد تاريخه يلتحق بالأساطير ، لولا أنه حق لا مرية فيه ، وصدق لا كذب معه .
أوصافة الخلقية :
قالوا في أوصافه على الصلاة والسلام إنه كان : ظاهر الوضاءة ، متبلج الوجه(مشرقه) ، له نور يعلوه ، إذا زال زال تقلعاً(رفع الرجل بقوة ) ، يخطو تكفياً ( يميل إلى سنن المشي وقصده )ويمشي هوناً(الوقار ) ، ذريع المشية (واسع الخطو) كأنما ينحط من صبب ( العلو) ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يمشي وراء أصحابه ، ويبدر(يبدأ ) من لقي بالسلام دائم الأحزان ، متواصل الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه باسم الله ، وإذا تكلم أعاد الكلام ثلاثاً ليفهم عنه ، كلامه فصل لافضول ولا تقصير ، أوتي جوامع الكلم ، واختصرت له الحكمة اختصارا ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم منها شيئاً غير أنه لم يكن يذم ذواقا( طعاماً ) قد ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، إذا نطق فعليه البهاء ، وإذا صمت فعليه الوقار ، أزين الناس منظراً وأحسنهم وجهاً ، وأجودهم وأسخاهم نفساً ، يعضي عطاء من لا يخشى الفقر ، وما سئل عن شيء قط فقال : لا ، وما خُيّر بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما .
تقول عائشة رضي الله عنها في مجامع خلقه : كان خُلُقه القرآن .
ويقول على رضي الله عنه في وصف شخصيته : من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه .
معيشته في نفسه :
كان لا يتكلف في لباس ولا طعام ، يلبس ما يتيسر ,وأكثر لبسه المعتاد من لباس الناس وكان يلبس جيد الثياب إذا اقتضى الأمر لمقابلة وفود ، أو لمناسبة عيد ، وكان يأكل ما يجده ، فإن وجد اللحم والحلوى أكل ، وإن لم يجد إلا الخبز والزيت أو الخل أكل ، وإن لم يجد ما يأكله بات طاوياً ، وربما شد على بطنه الحجر من شدة الجوع . وكان ينام على فراض من جلد حشوه ليف ، ويجلس على الحصير وينام عليها كثيراً
معيشته في بيته :
كان حلو المعاشرة لزوجاته ، كثير المسامرة لهن ، متحملا لأخلاقهن ، وخاصة غيرتهن وكان يقول " خيركم خيركم لأهله " .
وكان نساؤه يحتملن منه شدة الحال وخشونة العيش ، وكان يسره ذلك منهن ،فلما فكرن يوما أن يطلبن منه التوسعة والزينة والمطعم ، شق ذلك عليه وهجرهن شهراً لا يكلمهن ، ثم نزل قوله تعالى } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلًا {28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا {29}
فلما نزلت هاتان الآيتان خيّر نساءه وبدأ بعائشة وقال لها " ما أحب أن تختاري حتى تستأمري أبويك " ثم تلا عليها الآيات وفيها التخيير بين ا، تبقى عنده على شظف العيش وخشونة الحياة ، وبين أن يفارقها ويمتعها متاعا جميلا ، فكان جوابها على الفور : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ! وكذلك فعل بكل واحدة من نسائه على انفراد فكان جوابها كجواب عائشة ، وهي لا تعلم بما أجابت به غيرها .
وظل هكذا شأنه مع نسائه من التقشف وخشونة العيش حتى توفاه الله .
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ما شبع آل محمد يومين من خبز بر ، ولقد كنا نمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيتنا نار ، وكان طعامنا إلا التمر والماء ، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتنا شيء يأكله ذو كبد ، إلا كسرة خبز من شعير على رف لي وقال أنس : رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعاً له على شعير يأخذه لطعام أهله .
عمله في بيته :
سئلت عائشة رضي الله عنها : ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لفي البيت ؟ فقالت : كان بشراً من البشر ، يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويحلب شاته ، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته ، فإذا حضرت الصلاة خرج .
معاملته لأصحابه :
1. يقول أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم : خدمت النبي عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء صنعته : لِمَ صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان لا يظلم أحداً أجره .
2. وقالت عائشة رضي الله عنها : ما ضرب شيئاً قط ، ولا ضرب امرأة ولا خادماً .
3. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : دخلت السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتري سراويل ، فوثب البائع إلى يد النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلها فجذب يده ، ومنعه قائلا له : " هذا تفعله الأعاجم بملوكها وليست بملك ، إنما أنا رجل منكم " ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها فأبى وقال : " صاحب الشيء أحق بأن يحمله "
4. وكان عليه الصلاة والسلام مرة في سفر مع جماعة فلما حان موعد الطعام ، عزموا على إعداد شاة يأكلونها . فقال أحدهما : علي ذبحها . وقال الآخر : علي سلخها . وقال الثالث : علي طبخها فقال النبي عليه السلام : " وعلي جمع الحطب !" فقالوا : يا رسول الله ، نحن نكفيك العمل فقال :" علمت أنكم تكفونني ، ولكنني أكره أن أتميز عليكم ، وأن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه "
5. جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب فقال لغلام له قصاب : اجعل لي طعاماً يكفي خمسة ، فإني أريد أن أعود النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة ، فإني قد عرفت في وجهه الجوع ، فدعاهم ، فجاء معهم رجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدعوة : " إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له ، وإن شئت أن يرجع رجع فقال الأنصاري : لا بل أذنت له .
6. وكان من عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنه يقبل معذرة المسيء ولا يجابه أحدا بما يكره ، وإذا بلغه عن أحد شيء يكرهه نبّه على خطئه بقوله : " ما بال أقوام يفعلون كذا " دون أن يذكر اسمه .
7. ولم يكن يجب أن يقوم له أحد ،وكان يجلس حيث انتهى به المجلس وينزل إلى أسواقهم فيرشدهم إلى الأمانة وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات .
8. وكان من عادته أن يبش إلى كل من يجلس إليه حتى يظن أنه أحب أصحابه إلى قلبه .
9. ويقرب إليه ذوي السبق في الإسلام والجهاد ولو كانوا غمار الناس .
10. ويستشر أولي الرأي فيما هو من شؤون السياسة أو الحرب أو أمور الدنيا ، وينزل عند آرائهم ولو خالفت رأيه كما حصل في معركة بدر وغيرها
خشيته وعبادته :(7/153)
كان صلى الله عليه وسلم كثير المراقبة لله عز وجل ، واسع الخشية منه ، عظيم العبادة له ، في الليل متهجداً راكعاً ساجداً حتى تتورم قدماه ، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز الرجل من البكاء ، فتقول له في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها : أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيجيبها : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! ..." .
وكان كثير اللهج باسم الله عز وجل فإذا أكل أو شرب أو قام أو قعد أو ابتدأ شيئاً ، أو فعل أمراً بدأ ذلك كله بسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا اختتمه اختتمه بالحمد لله رب العالمين .
وكان لا يفتر من الدعاء لربه . ومن دعائه عليه الصلاة والسلام " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، ودعاء لا يسمع " .
" اللهم إني أسألك من الخير كله ، ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ، ما علمت منه وما لم أعلم " .
" اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .
"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك " ."اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء " .
ولما كذبته ثقيف في الطائف ، وآذته وأغرت به سفهاءها يرجمونه بالأحجار حتى دميت قدماه ، اتجه إلى الله خالقه ، بهذا الدعاء الرهيب : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين إلي من تكلني ، إلى عدو يتجهمني ، أم إلي قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن ساخطاً علي فيا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تحل علي غضبك ، أو تنزل علي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
رياضته ونظافته :
ومع هذه العبادة ، وذلك التضرع والبكاء ، كان طيب النفس متفتحاً للحياة ، يتسابق مع عائشة ، ويتصارع مع ركانة ، ويشهد لعب الحبشة في أعيادهم ،و وعنى بلباسه ونظافته ، فهو كثير الاغتسال ، كثير الادهان بالطيب ، إذا مر من طريق يعرف الناس أنه قد مر به لما يجدون من طيبه ، ,إذا صافحه المصافح يظل يجد أثر الطيب في يده ثلاثة أيام ، وكان لا يفارقه في حضره وسفره مشطه ومقصه ومرآته ومكحلته .
وبهذا يفترق الأمر كثيراً عن معنى الدين والتعبد في الديانات الأخرى إذا يعتبرون من مآثر القديس عندهم أنه لم يقرب جسمه الماء طيلة حياته !.
كما يفترق عن عادة الغربيين في هذه الأزمان إذ رأيناهم يعيبون على الرجل أن يدهن بالطيب فتفوح رائحته الطيبة منه ، ولله في خلقه شؤون ! .
مزاحه ودعابته :
ومما يتصل بطيب النفس ، حب الدعابة البريئة ، والمزاح مع الأصحاب والمترددين عليه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الدعابة ويبتسم للنكتة اللطيفة ،ويمازح أصحابه ويداعبهم بالنكات اللطيفة .
1- جاءته امرأة عجوز تطلب إليه أ، يدعو الله لها بدخول الجنة ، فقال لها مداعباً :" أو ما علمت أن الجنة لا تدخلها عجوز؟ " فولت تبكي فقال : " ردوها ،أما قرأت قوله تعلى : } إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء {35} فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا {36} عُرُبًا أَتْرَابًا {37}
2- وجاءته امرأة من الأنصار تشكو إليه زوجها .
فقال : " أزوجك الذي في عينه بياض ؟ " فجزعت إذ طنت أن بعينه عيباً لم تطلع عليه ، فأفهمها أ، كل إنسان في عينه بياض حول المقلة .
3- وجاءه أعرابي يسأله أن يمنحه ناقة يركب عليها في سفره فقال له : " أنا حاملك على ولد ناقة! "
فقال : وما أصنع به يا رسول الله ؟
فقال : " وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ " .
تواضعه وسماحته :
وقد رأيت فيما مرّ معك من معاملته لأصحابه أنها معاملة نبي كريم ، وزعيم محبوب متواضع ، وإنسان عظيم استمد عظمته من خصائصه لا من جاهه ولا من نفوذه .
ومما يروع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ظل هو الإنسان المتواضع تواضع الأنبياء العظماء في مختلف مراحل دعوته ، حين كان مضطهداً ،و حين كل منتصراً ، وحين كان وحيداً ، وحين كان سيد الجزيرة العربية المطاع ، حين كان في أشد المحن ، وحين كان في أوج المجد والانتصار ..وما عهدنا بمثل هذا في تاريخ العظماء .. وما كان محمد عظيماً فحسب ولكنه رسول الله أيضاً ..
يوم فتح الله له مكة ، وانهزمت أمام جحافل جيوشه قريش الطاغية الباغية التي ناصبته العداء نحواً من عشرين عاما ، دخل مكة على جمل له ، مطأطئ الرأس خضوعا لله وشكراً . وجاءة الرجال خائفين ، وفيهم رجل ترتعد فرائصه ، فقال له : " هون عليه إنما إنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ! " ( اللحم المقدد ) .
وظل رسول الله يستمع إلى العبد والعجوز والأرملة والمسكين . يقف في الطريق لكل من يستوقفه ، ويصافح كل من يلقاه ، فلا يترك يده حتى يكون الذي استوقفه هو الذي يترك يده ، يتفقد أصحابه ، ويزور مرضاهم ويشهد جنائزهم ، ويستمع إلى مشاكلهم ، ويشاركهم أحزانهم وأفراحهم.
رحمته وشفقته :
كان صلى الله عليه وسلم واسع الرحمة بالأطفال والنساء والضعفاء .
سمع بكاء صبي وهو في الصلاة فخفف صلته كيلا تفتن أمه التي كانت تصلي وراءه.
ومرّ بعد انتهاء إحدى المعارك بجثة امرأة مقتولة فغضب وقال : " ألم أنهكم عن قتل النساء ؟ ما كانت هذه لقاتل !" .
وبلغت رحمته بالحيوان حداً عجيباً فقد أصغى الإناء إبى هرة أرادت الشرب ...
ورأى جملاً هزيلا فقال :
"أتقوا الله في هذه البهائم ، أطعموها واركبوها صالحة ..." .
وبلغت معاملته للأرقاء ، ووصاياه فيهم حداّ لم يعرفه التاريخ وكل ذلك دليل على ما فاضت به نفسه الكبيرة من معاني الرحمه والشفقة .
مشاركته لآلام الشعب :
اشتكت إليه فاطمة بنته ما تلقاه من أعمال البيت من شدة وعناء ، وطلبت إليه أن يخدمها خادماً ، فرفض عليه السلام ذلك وقال لها " لا أعطيك أدع أهل الصفة -وهم جماعة من الفقراء - تطوي بطونهم من الجوع " .
وذهبت أم الحكم بنت الزبير وأختها فاطمة تسألان النبي صلى الله عليه وسلم معونة على أعمالهما البيتيةفقال لهما : " سبقكما يتامى بدر " .
وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة لزوره ، ثم عدل فلم يدخل عليها ، فبعثت علياً ليسأل عن سبب عدوله عن زيارتها ، فأجابه الرسول : " إني رأيت على بابها ستراً موشياً !" فعاد علي إلى فاطمة فأخبرها الخبر ، فقالت فاطمة : ليأمرني فيه بما شاء ، فقال عليه السلام " لترسلي به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة " .
وأراد زيارتها مرة أخرى فعاد كذلك دون أن يدخل عليها ، فأرسلت تسأله عن سر ذلك أيضاً ، فأجابها : " إني وجدت في يدها سوارين من فضة " ،فبلغها ذلك فأرسلتهما إليه ، فباعهما النبي صلى الله عليه وسلم بدرهمين ونصف ، وتصدق بهما على الفقراء .
وتستعر هنا بيان أديب العربية الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي ليعلق على هذه الحادثة فيقول : ( يا بيت النبي العظيم ! وأنت أيضا لا يرضى لك أبوك حلية بردهيمن ونصف وإن في المسلمين فقراء لا يملكون مثلها ؟!
أي رجل شعبي على الأرض كمحمد صلى الله عليه وسلم فيه للأمة كلها غريزة الأب وفيه على كل أحواله اليقين الذي لا يتحول ، وفيه الطبيعة التامة التي يكون بها الحقيقي هو الحقيقي ؟(7/154)
يا بنت النبي العظيم ! إن زية بدرهمين ونصف لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف ! إن فيها حينئذ معنى غير معناها ! فيها حق النفس غالبا على حق الجماعة ، وفيها الإيمان بالمنفعة حاكما على الإيمان بالخير وفيها خطأ من الكمال ، إن صح في حساب الحلال والحرام ، لم يصح في حساب الثواب والرحمة .
تعالوا أيا الاشتراكيون فاعرفو نبيكم الأعظم ! إن مذهبكم ما تحيه فضائل الإسلام وشرائعه – إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط ، كل يوم تحلون ، وكل يوم تربطون ولا ثمرة في الطبيعة
ونحن أيضا نتساءل : أي زعيم من زعماء الدول الاشتراكية في عصرنا الحديث تؤثر عنه مثل هذه الحادثة وأمثالها ؟! .
زهده في الدنيا :
دخل عليه عمر رضي الله عنه يوماً فرآه على حصير فد أثر في جنبه ورفع رأسه في البيت فلم يجد إلا إهاباً معلقاً ( الإهاب كيس من جلد ) وقبضة من شعير وحصيراً تكاد تبلى ، فبكى عمر .
فقال له : " ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ " .
قال عمر : يا نبي الله ! وما لي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك كسرى وقيصر ، في الثمار والأنهار ، وأنت نبي الله وصفوته ؟
فقال عليه السلام : " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . ودخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه مرة فرآه على تلك الحال .
فقال له : يا رسول الله ألا آذنتنا (أعملتنا) حتى نبسط لك على الحصير شيئاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها " .
نفقاته وصدقاته :
وكان صلى الله عليه وسلم كثير النفقات والصدقات ، لا يدخر مالا ولا متاعا ، وكثيراً ما يستدين لينفق على بعض ذوي الحاجات ، وهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر كما قدمنا ، وقد توفي وليس عنده درهم ولا دينار ، وقد أوقف كل أرض كانت قد صارت إليه من الغنائم ، وفي ذلك يقول الحديث المشهور الذي خفي على بعض الطوائف سر روعته ودلالته على صدق نبوته وإخلاصه في رسالته : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه " .
جاءه مرة مال كثير فأنفقه إلا بعضة دريهمات استبقاها ، إذ لم يجد لها طالباً ، فما عرف تلك الليلة النوم قلقاً مما بقي عنده ، وما كاد يصبح الصباح حتى سارع إلى إنفاقها .. وهكذا صح فيه قول صحابته : كان أجود ..الريح المرسلة .
عدله وشدته في الحق :
وكان لا يعرف في الحق صديقاً ولا قريباً فالكل عنده سواء ، والجميع مسؤولون عن أعمالهم أمام الله وأمام الشريعة :
سرقت امرأة من نبي مخزوم حلياً أو متاعاً ، ورُفع أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالسرقة ، فخشي قومها أن ينفذ الرسول عقوبة السارق فيفتضحوا ، وجاؤوا إلى أسامة بن زيد – وكان معروفاً بحب النبي صلى الله عليه وسلم له ولأبيه زيد –وكلموه في أن يشفع للمرأة أن لا ينفذ فيها العقوبة ، فكلم رسول الله في ذلك فغضب عليه الصلاة والسلام وقال له : " أتشفع في حد من حدود الله " ثم جمع الناس فخطب فيهم فقال : " يا أيها الناس .. إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " .
شجاعته في الحروب :
ومن كمال هذه الصورة العجيبة في اكتمالها ، شجاعته صلى الله عليه وسلم في الحرب ، فقد كان يقود الجيوش ، ويخوض المعارك ، ويحرض على القتال في سبيل الرسالة التي يحملها وآمن بها ، ولم يعرف عنه نكوص في معركة ولا فرارفي موقعة ، بل نجده في معركة أحد – وقد انهزم أكثر المسلمين – ثابت الجنان يتلى سهام الأعداء وهو واقف يقاتل ويناضل . وفي معركة حنين إذ فر عنه أكثر الناس وقف على بغلته وهو يقول : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب " .
وفي شجاعته يقول علي رضي الله عنه وهو البطل المقدام : كنا إذا احمرت الحدق ، وحمي الوطيس ( أي اشتدت الحرب ) نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .
حرصه على آداء رسالته :
لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيله لتبليغ رسالته إلى الناس إلا سلكها ، ولم يترك خصومه وسيلة لحمله على ترك دعوته إلا سلكوها ، ولكنه ثبت رغم كل إغراء وتهديد بالقتل والاغتيال ،وقال لعمه أبي طالب قولته المشهورة : " والله يا عم ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته " . ولما شج وجهه صلى الله عليه وسلم في معركة ( أحد ِ) وكسرت رباعيته ( السن المجاور للناب ) قيل له لو دعوت عليهم ؟ ... فقال : " إني لم أبعث لعاناً ، ولكني بعثت داعياً ورحمة ، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .
الرسول الكامل :
ذلك نمط من أخلاقه صلى الله عليه وسلم نلمح منها حقيقة شخصيته ، ولسنا نفيض في بقية أخلاقة ، من وفائه وأمانته ، وحيائه ، وإخلاصه ، وصدقه ، وعفافه ، وحسن سياسته وجميل جواره ، وفصاحته ، وغير ذلك مما فاضت به كتب السيرة والتاريخ . فنحن هنا – كما قلت نضرب الأمثال ولا نستقصي ، ولكني أختم هذا الحديث بالإشارة إلى ما كان لهديه في إرشاد قومه من أثر في توجيههم نحو الخير والحق والكرامة والسعادة .
الرسول المعلم :
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها إرشاد وهداية وتعليم ، وخاصة ما كان من أقواله عليه الصلاة والسلام التي قصد بها التشريع والهداية ولذلك كانت خصائصه وصفاته التي ذكرنا طرفاً مها آنفاً مدرسة يتعلم فيها أصحابه طرازاً جديداً من الحياة ، ومقياساً جديداً من المفاهيم كان له أكبر الأثر في قيام الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ونشوء الفرد المسلم ً في الجو الاشتراكي الذي أوضحنا معالمه في كتابنا " اشتراكية الإسلام " .
ونحن هنا نريد أن نذكر نموذجاً من تعليمه لأصحابه نعلم منه كيف كان يوجه ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام ، والقريب العهد بالجاهلية ، توجيهاً بناء إيجابياً نحو الاشتراكية العاملة العابدة المتعاونة البارة الكاملة ..
1. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد ،فقال : " أحيّ والداك ؟ " فقال : نعم ، فقال له الرسول : " ففيهما فجاهد " .
2. قَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " من لا يَرحم لا يُرحم " .
3. جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله ! إنا لا نقدر عليك في مجلسك فواعدنا يوماً نأتك فيه فقال ِ: " موعدكن بيت فلان " فجاءهن لذلك الوعد ، وكان فيما حدثهن : " ما منكن امرأة يموت لها ثلاث من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة " فقالت امرأة : واثنان ؟ قال : " واثنان" .
4. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فقال لهم : " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه فقال صلى الله عليه وسلم : " مالك ماقدمت ، وما وارثك ما أخرت" .(7/155)
5. عن أبي مسعود قال : كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً : " اعلم أبا مسعود ! الله أقدر عليك منك عليه " ، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ! هو حر لوجه الله ! فقال : " أما إنك لو لم تفعل لمستك النار " أو للفحتك النار .
6. مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بدابة قد وسم يدخن منخراه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله من فعل هذا ، لا يَسِمن أحد الوجه ولا يضربنه " .
7. وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه فإن لم يقبل فليناوله منه " .
8. وقال أيضا : " لا يقل أحدكم " عبدي ، أمتي ، كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل : غلامي ، جاريتي ، وفتاي ، وفتاتي " .
9. سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال خير ؟ قال : " إيمان بالله وجهاد في سبيله " ،قيل : فأي الرقاب أفضل ؟ ( أي في العتق ) . قال : أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل ؟ قال : "فتعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق (هو الذي لا يحسن صنعة) " فيقل له : أفرأيت أن ضعفت ؟ قال : " تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك " .
10. قال حرملة بن عبدالله : جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ما تأمرني أعمل ؟ فقال عليه السلام : " ائت المعروف واجتنب المنكر ، وانظر الذي تكرهه أن يقول لك القوم إذا قمت من عندهم فاجتنبه " . قال حرملة : فلما رجعت تفكرت فإذا هما ( أي ائت المعروف واجتنب المنكر ) لم يدعا شيئا.ً
11. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بالصحابة فقال :" أيها الناس ! اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وفي رواية أخرى زيادة : " وإياكم والفحش فإن الله لايحب الفاحش المتفحش " .
12. عن عائشة بنت سعد أن أباها قال : اشتكيت بمكة شكوى شديدة ( مرضاً شديداً ) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني . فقال : يار سول الله ! إن أني أترك مالاً ، وإني لم أترك إلا ابنة واحدة ، أفاوصي بثلثي مالي وأترك الثلث ؟ قال : " لا " . قال : أوصي بالنصف وأترك لها النصف؟ قال : " لا " قال " أوصي بالثلث وأترك الثلثين . فقال : " الثلث والثلث كثير . إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .
13. وكان مما قله لأبي ذر : " إفراغكم من دلوك في دلو أخيك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق الناس لك صدقة ، وهدايتك الرجل في أرض الضالة صدقة " .
14. مرّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض الصحابة فرأى أصحابه من جلده ونشاطه ما أعجبهم . فقال : يارسول الله ! لو كان هذا في سبيل الله ! فقال عليه السلام : " إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " .
15. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله شيئاً من المال وهو قوي معافى ، فقال له الرسول : " أما في بيتك شيء ؟ " قال : بلى ! حلس (كساء غليظ ممتهن ) نلبس بعضه ، ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من ماء . فقال رسول الله : " ائتني بهما " ، فأتها بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : " من يشتري هذين ؟" قال رجل : أنا آخذهما بدرهم ، قال الرسول : " من يزيد على درهم ؟ ) (مرتين أو ثلاثاً ) قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال له : " اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوماً فائتني به " ، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال : " إذهب فاحتطب ولا أرينك خمسة عشر يوماً " ، ففعل ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذا خير من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع " .
16. وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير ؟ فقال : " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .
17. وبينما النبي في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال له : متى الساعة ؟ فأجابه : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "
18. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يار سول الله ! ما القتال في سبيل الله ؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية ، فقال :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله عز وجل " .
19. عن أسماء بنت يزيد قالت : دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا : " أتعطيان زكاته ؟ " قالت : فقلنا : لا فقال : "أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار ؟ أديا زكاته "
20. جاء رجل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل عن ناقته سأل الرسول : أأطلق ناقتي وأتوكل ؟ فقال عليه السلام : " اعقلها (أي أربطها ) وتوكل " .
21. عن أبي بشر قَبِيصة بن مخارق قال : تحملت حمالة (أصلح بين قوم فتحمل ديات قتلاهم ) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها ( أي يعطيه ما يعينه على أداء ديات القتلى ) . فقال الرسول : " أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها " ثم قال :"يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يُصيبها ثم يُمسِك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ،-أو قال : سِداداً من عيش – ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش ، فما سِواهن من المسألة ، يا قبيصة ! فسُحْت يأكُلها صاحِبُها سُحْتا " .
وبعد فهذه صورة خاطفة عن شخصية الرسول وأخلاقه وأسلوب تعليمه لأصحابه ، وهي صورة غير متكاملة ولا تامة ،ولكني اجتزأت منها ما يدل على تمام الصورة وحقيقتها ، وتمام هذه الصورة كما يبدو مما ذكرته كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم جمع في وقت واحد أسمى ما تكون عليه صلة رسول بربه . وأروع ما تكون سيرة زعيم بشعبه ، وأكل ما تكون علاقة مصلح بالعالم الإنساني كله .
أما الصلة بالله فكانت تتجلى في عبادته ودعائه وحرصه على رضى الله الله ورجائه لثوابه .(7/156)
وأما السيرة في الأمة ،فهي سيرة من أحب لأمته الخير ومنحها النصح ، ودلها على الهدى ، ولآثرها على نفسه وأهله ، ولم يحتجن دونها مالاً ولا أثاثاً ولا رياشاً ، بل كان يعطيها ويحرم نفسه ولا يملأ بيوتها بالنعمة ، وإن بيوت أزواجه ليلفحها حر الخشونة والإقلال وشظف العيش ، وهي سيرة من لم يحمل أتباعه على ترك الدنيا ليعيشوا فيها كالغنم المشتتة بين قطيع الذئاب ! ولا حملهم على ركوب الدنيا فيكونوا فيها كالكلاب المسعورة إن لم تنهش اللحم فقد مزقت الثياب ! أوقد فيهم جذوة العمل للحياة مع شعلة الإيمان بالله ، وبثّ فيهم روح الثورة على الباطل والتمرد على الظلم والترفع عن الدنايا ، وغرس فيهم – وهم في الحرب – أرق شمائل الإنسانية الرحيمة في السلم ، فكان في حربه أسع صدراً وأكثر رحمة وأبر بالأسرى والضعفاء من كثير من زعماء الدول في سلمهم وسياستهم ورعايتهم للشعوب .
وأما الإصلاح للعالم الإنساني فحسبه هذا النظام الذي جنب العالم ويلات المادية وضعف الروحانية السلبية ، وحسبه هذه القوانبين التي جاءت في اشتراكيتها نمطاً فريداً خلا من عيوب المذاهب الاشتراكية كلها وجمع محاسنها كلها .
حسبه من الاصلاح العالمي أنه أنشأ أول دولة اشتراكية إنسانية في العالم ، وأول مجتمع اشتراكي إنساني في التاريخ ، وأول جيل اشتراكي علمي إنساني يبني أسمى الحضارات .
ذلكم هو محمد رسول الله ! .. باني أول دولة ! ومنشئ أول مجتمع!
من أقوال الغربيين عن الرسول وشريعته
قال المستشرق الفرنسي المسلم " ناصر الدين رينه " :
وكان النبي يُعنى بنفسه عناية تامة ، إلى حد أن عرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة ، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال . وهو في كل ذلك يريد من حسن منظره البشري أن يروق الخال سبحانه وتعالى .
ومن هذا كان يحرِّم بشدة التغالي في الملبس ، وعلى الخصوص لبس الحرير ، حتى لايتيح للأغنياء فرصة التعالي على الفقراء...
وقال غوستاف لوبون بعد أن نقل أوصاف الرسول عن المصادر الإسلامية : " ويضاف إلي الوصف السابق ما رواه مؤرخو العرب الآخرون من ، أن محمداً كان شديد الضبط لنفسه ، كثير التفكير صموتا ،حازما سليم الطوي عظيم العناية بنفسه ، مواظباً على خدمتها بالذات حتى بعد اغتنائه .
وكان محمد صبوراً قادراً على احتمال المشاق ، ثابتاً بعيد الهمة ، لين الطبع وديعاً ، فذكر أحد خدمه أنه ظل عنده ثماني عشرة سنة فلم يُعزره قد في تلك المدة ولو مرة واحدة.
وكان محمد مقاتلا ماهراً ، فكان لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقي بيديه إلى التهلكة ، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خُلُق الشجاعة والإقدام في بني قومة .
وقيل : إن محمدا كان مصاباً بالصَّرع ولم أحد في تواريخ العرب ما يُبيح القطع في هذا الرأي ، وكل ما في الأمر ما رواه معاصرو محمد ، وعائشة منهم ، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجهي فغطيطُ فغشيان وإذا عدوت حماسة (واندفاع) محمد ، وجدته حصيفاً سليم الفكر ...
ولا يقف أيُّ قول بخداع محمد ثانية أمام سلطان النقد ، ومحمد كان يجد في حماسه ما يحفزه إلى اقتحام كل عائق ، ويجب على من يود ، يفرض إيمانَه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء ، ومحمد كان يعتقد أنه مؤيد من الله فيتقوى فلا يرتد أما أي مانع .
وجَمَعَ محمد قبل وفاته كلمة العرب ، وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد ، فكانت في ذلك آيته الكبرى ...
ومهما يكن الأمر ، فإن مما لا ريب فيه أن محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام ومنها اليهودية والنصرانية ، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيماً ،ويتجلى هذا الفضل العظيم في جواب رُسُل عمر بن الخطاب إلى كِسْرى حين سألهم عن أعمال النبي ، قال أولئك الرسل : " فأما ما ذكرت من سوء حالنا فما كان أسوأ حالا منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجِعلان والعقارب والحيَّات ، فكنا نرى ذلك طعامنا ،وأما المنازل ، فكانت ظهر الأرض ، ولم نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، كان ديننا أن يقتل بضعنا بعضاً ويُغير بعضنا على بعض ، وكان أحدنا يدفن ابنته وهي حيَّة كراهية أن تأكل من طعامنا ، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرنا لك ، فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده ، فأرضُه خيرُ أرضنا ، وحسبُه خير أحسابنا وبيته أعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا ، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ، فما قال لنا فهو قول الله وما أمرنا فهو أمر لله ، فقال لنا : إن ربكم يقول " إني أنا الله وحدي لا شريك لي ، كنتُ إذ لم يكن شيء وكلُّ شيء هالك إلا وجهي ، وأنا خلقت كل شيء وإليَّ يصير كل شيء ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثتُ إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أُنجيكم بعد الموت من عذابي ولأحلكم داري دار السلام ، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق " .
وإذا قِيسَت قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم عرفهم التاريخ ، وأخذ بعض علماء الغرب يُنصِفون محمداً مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخيهم عن الاعتراف بفضله ، قال العلامة بارتلمي سنت هيلر : ( كان محمد أثر عرب زمانه ذكاء وأشدَّهم تدينا وأعظمهم رأفة ، ونال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوقه عليهم ، ونعد دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده جزيل النِّعم على جميع الشعوب التي اعتنقته ) .
وقال " كارليل " :
لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد ممدن في هذا العصر أن يصغي إلى ما يظهر من أن دين الإسلام كذب ، أن محمدا خداع مزرو ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا ، أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر أكذوبة و خدعة ؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول ، فما الناس إلا بله ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة ، كان الأولى بها أن لا تخلق " . وما نظن أكبر محب للرسول يقول فيه وفي دعوته عن طريق المنطق أحسن من هذا .
وقال تولستوي الحكيم الروسي :
( ومما لا ريب فيه أن النبي محمداً كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة ، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق ، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد ، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشري وفتح لها طريق الرقي والمدنية وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة ، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام ) .
وقال وليم موير في كتابه (سيرة محمد ) :
امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه ، وقد أم من الأعمال ما يدهش العقول ، ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس ، وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد .(7/157)
ويؤخذ مما قاله لين بول : ( إن محمداً كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يثار بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوى ، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواماً ، فلم يهن له عزم ، ولا ضعفت له قوة ، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه ، حتى ولو كان المصافح طفلا ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً ، رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئهم السلام ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وفيه نغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسخر سامعها ، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذباً ) . ومما قاله أيضاً : ( إن كثيراً من كتاب التراجم والسير من الأوربيين الذين تناولوا الكلام على سيرة محمد لم يتعففوا عن أن يشوهوا هذه السيرة بما أدخلوه عليها من افتراءات وادعاءات ، كاتهاماتهم إياه بالقسوة وارتكاب الموبقات والانهماك في الشهوات ، وإنه كان دجالاً دعياً وطاغية متعطشاً لسفك الدماء ) .
وعلل مونتيه طعن الغربيين على الرسول بقوله : ( كثيراً ما حكمت ليه الأحكام القاسية ، وما ذلك إلا لأنه ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثله وأن ما قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع ، يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية ) .
وقال : ( لا مجال للشك في إخلاص الرسول وحماسته ) .
قال جان جاك روسو في القرن الثامن عشر : ( من الناس من يتعلم قليلاً من العربية ثم يقرأ القرآن ويضحك منه ، ولو أنه سمع محمداً يمليه على الناس بتلك اللغة الفصحى الرقيقة ، وذاك الصوت المقنع المطرب المؤثر في شغاف القلوب ، ورآه يؤكد أحكامه بقوة البيان ، لخر ساجداً على الأرض وناداه : أيها النبي رسول الله خذ بأيدينا إلى موقف الشرف والفخار ، أو مواقع التهلكة والأخطار فنحن من أجلك نود الموت أو الانتصار )
وقال كارلايل أيضاً : ( إن فرط إعجاب المسلمين بالقرآن وقولهم بإعجازه أكبر دليل على تباين الأذواق في الأمم المختلفة والترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة ) .
وجاهر كلود فارير في القرن العشرين بأن ( آيات القرآن جميلة وتحسن تلاوتها ، فيها نفحة طاهرة عجيبة ، لأنها تأمر بالشجاعة والصدق والأمانة ,وتدعو إلى حماية الضعيف وإلى عبادة إله واحد)
وقالت (لورافيشيا فاعليري ) أستاذة اللغة العربية وتاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة نابولي بإيطالية : وحاول أقوى أعداء الإسلام – وقد أعماهم الحقد – أن يرموا نبي الله ببعض التهم المفتراة ، لقد نسوا أن محمداً كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته ، ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل كيف جاز أن يقوى محمد على تهديد الكاذبين والمرائين في بعض آيات القرآن اللاسعة ، بنار الجحيم الأبدية ، لو كان هو قبل ذلك رجلاً كذابا ؟ كيف يجرؤ على التبشير ، على الرغم من إهانات مواطنيه ، إذا لم يطن ثمة قوى داخلية تحثه – وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة – حثاً موصولاً ؟ كيف استطاع أن يستهل صراعاً كان يبدو يائساً ؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات في مكة ، في نجاح قليل جداً وفي أحزان لا تحصى ، إذا لم يكن مؤمناً إيماناً عميقاً بصدق رسالته ؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء ، وأن يؤازروه ويدخلوا الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلي مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء ، والضعفاء ، والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك ، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد كان عميقاً وأكيداً .
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
( في ذكرى المولد تتجه الأنظار إلى المربي الأعظم صاحب الروح الكبيرة التي وسعت آلام الإنسانية وآمالها . فقد غرس في الدنيا – لأول مرة – من أخلاقه ومن روحانيته ومن تربيته صلوات الله وسلامه عليه ، ما ملأ الأرض بالنور ، والعدل والحق . وفي هذه النبذ القصيرة التي نذكرها من أدب رسول الله مع ربه ومع صحبه ومن مواقع كلمه نماذج من تعاليم مدرسته الروحية الكبرى التي أشرقت لها السماوات والأرض ) .
أدبه في عبادته :
كان عليه والصلاة والسلام يجد في العبادة مجلى راحته ، وميدان نعيمه ، كانت قرة عينه في الصلاة ، وكان يقول لبلال حين يريد القيام للصلاة : "أرحنا بها يا بلال " يطيل السجود حتى لتظن عائشة أن الله قد اختاره لجواره وهو ساجد ، ويستحضر من الخشوع والخضوع لله عز وجل ما تفيض منه عبراته ، حتى كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل (القدر) من البكاء ، ويكثر من الصلاة في أعقاب الليل ، حتى لتسأله عائشة عن كثرة عبادته ، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فيقول لها :" أفلا أكون عبداً شكوراً "
أدبه مع أهله :
وكان مع هذه العبادة وهذا التبتل يحسن معاملة أهله ، ويداعب أزواجه ، ويتحمل منهن دعابتهن ، وغيرة بعضهن من بعض ، كان يحب عائشة أكثر من زوجاته الأخريات وكان يرسل إليها بنات الأنصار يلعبن معها ، وإذا أحبت شيئاً لا محذور منه ، تابعها عليه . وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب منه .
أدبه في معاملته :
كان من أحسن الناس معاملة ، وأصدقهم موعداً ، وأبرهم عهداً ,إذا استسلف من رجل شيئاً قضاه إياه ودعا له فقال : "بارك الله لك في أهلك ومالك " . تقاضاه غريم له ديناً فأغلظ عليه ، فهم به عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "مه (وتعني أكفف واسكت) ياعمر ! كنت أحوج إلي أن تأمرني بالوفاء ، وكان أحوج إلي أن تأمره بالصبر " .
أدبه في صحبته :
كان – كما قال علي رضي الله عنه- أوسع الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، وكان يتألف قلوبهم ، ويكرم كريمهم ، ويتفقدهم في شؤونهم ،ويعطي كلاً من جلسائه نصيبه من التكريم ، حتى يحسب جليسه أنه ليس أحد أكرم عليه منه . من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه . ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو ميسور من القول . قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء . دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغفل عما لا يحب ، ولا يقابل أحداً بما يكره ، إلا أنه في الحق من أشد الناس غيرة على حرمات الله ، وإنكاراً على انتهاك آداب الشريعة ، يجالس الفقراء ، ويصغي إلى العبد والأرملة والمسكين . قال أبو هريرة : دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشترى سراويل ، وقال للوزان : " زن وأرجح " فوثب البائع إلى يده صلى الله عليه وسلم يقبلها ، فجذب يده وقال : " هذا ما تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، إنما أنا رجل منكم " ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال : " صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله " .
وكان في مجلسه كثير الصمت لا يتكلم في غير حاجة ، يعرض عمن يتكلم بغير جميل ،وكان ضحكه تبسماً ، وكان كلامه فضلاً لا فضول ولا تقصير ، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات قال ابن أبي هالة : كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع : على الحلم والحذر والتقدير والتفكر ..
نماذج من مدرسته الروحية :(7/158)
1. " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن ( أي لا يخون فيهن) إخلاص العمل لله ، والمناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم يحيط من ورائهم " رواه الزار وابن حبان
2. " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه " رواه أبو داود .
3. " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، من كانت هجرته إلي دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه "
4. " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " .
5. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال :" يا غلام! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " . وفي رواية أخرى " احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً " .
من مزاحه صلى الله عليه وسلم
المزاح من السنة :
قال أنس بن مالك ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس .
وقال أيضاً : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة "
وسئل سفيان الثوري ؟ المزاح هجنة ؟ فقال : بل سنة ، لقوله عليه السلام : " إني لأمزح ولا أقول إلا الحق " . رواه الطبراني . وقال أبو هريرة : قالوا : يارسول الله إنك تداعبنا ! قال : "إني لا أقول إلا حقاً " .
مع الحسن والحسين :
قال جابر بن عبد الله : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، والحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع ويقول : " نِعمَ الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما " . رواه ابن عدي وابن عساكر .
مع زوجاته :
كان عليه السلام في بيت عائشة ، فبعث إليه بعض نسائه بقصعة ، فدفعتها عائشة ، فألقتها وكسرتا ، فجل النبي عليه السلام بضم الطعام ويقول : " غارت أمكم " فلما جاءت قصعة عائشة ، بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها ، وأعطى عائشة القصعة المكسورة .
مزاح أصحابه معه :
كان من الصحابة رجل يقال له ( نعيمان ) كثير المزاح ، حلو الفكاهة وكان يمازح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن مزحه معه أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم يجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : يارسول الله هذا أهديته لك ،فإذا جاء صاحبها يطالب نعمان بثمنها ، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه ، فيقول عليه السلام : أولم تهده لي ؟ فيقول : يا رسول الله إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله ، فيضحك عليه السلام ويأمر لصاحبه بثمنه .
ومن فكاهاته أن أبا بكر خرج قبل وفاة الرسول بعام في تجارة إلى بصرى ، ومعه نعيمان و سليط بن حرملة وكان سليط موكلاً بالطعام ، فقال نعيمان لسليط : أطعمني قال : لا أطعمك حتى يأتي أبو بكر ، فقال نعيمان : لأغيظنك ، فمروا بقوم فقال لهم نعيمان : تشترون مني عبداً لي ؟ قالوا : نعم ز قال : فإنه عبد له كلام وسيقول لكم : لست بعبد أنا ابن عمه ، فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ، ولا تفسدوا علي عبدي ، قالوا : لا بل نشتري ولا ننظر في قوله ، فاشتروه منه بعشر قلائص ( وهي النوق الشابة) ، ثم جاؤوا ليأخذوا سليطاً على أنه هو العبد الذي باعه لهم نعيمان فامتنع سليط من الذهاب معهم ، فوضعوا في عنقه عمامة وشدوه بها فقال لهم : إنه يتهزأ ولست بعبده ، فقالوا له : قد أخبرنا خبرك ، ولم يسمعوا كلامه ، ثم ساقوه معهم بالقوة ، فجاء أبو بكر فلما علم بالخبر اتبع القوم فأخبرهم أن نعيمان يمزح ورد عليهم القلائص وأخذ سليطا منهم فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فضحك من ذلك هو وأصحابه حولا كاملا.
عبقرية الرسول السياسية والحربية
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المثل الأعلى الذي يحتذيه كل مسلم وهي على تقادم العهد بها ، جديدة في كل عصر ، توحي لكل فئة من فئات الأمة بما يبعثها نحو الخير ويدفع بها إلى ميادين الخلود ، وإذا كانت ذكرى المولد النبوي الكريم حبيبة إلى قلب كل مسلم ، فإن هذه الذكرى أحب ما تكون إلى قلب الداعية السلم إذ يجدد فيها صلته بقائده الأعظم ويراجع فيها حسابه معه ويزيد فيها من إمعانه النظر بخطط الدعوة في مراحلها الأولى حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع أصولها ويوجًّه دفتها بما ينزل عليه من وحي ، وما تهتدي إليه عبقريته من وجوه الحق ومسالك النصر .
وسنقصر حديثنا اليوم على ناحية واحدة من النواحي التي تهم الدعاة إلى الله قادة وجنواً ، وهي ناحية جديرة منا بالعناية والدرس ، إذ يتوقف عمل فهمنا لها نجاح الدعوة في الموقف الحرجة إلى حد كبير .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على أن لا يواجه الأعداء جميعاً في وقت واحد ، فإذا تجمعوا لقتاله حرص على التفريق فيما بينهم بكل الوسائل ، حتى إذا امكنته الفرصة بطش بأقواهم ثم بمن بعدهم حتى يتم له النصر ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام حين يريد الأمر فيحال بينه وبين ما يريد ، تأخذه حمية المقاتل الذي يصر على أن ينتصر بل كان يقدر الظروف المحيطة به ، ويقارن بين ما يريد وبين ما يعرض له من فرصة ، وفإن وجدها أجدى عليه مما يريد عمل بها وأخر ما يريد إلى وقت آخر ، وبذلك نجت الدعوة في حياته من كثير من المتاعب ، وحال دون تألب الأعداء عليه جميعاً إلا حين لم يستطع لذلك دفعاً كما في غزوة الأحزاب ، وأنزل الضربات المتتالية بأعداء الدعوة فريقاً إثر فريق ، وتنازل في مواقف الشدة عن بعض مظاهر القوة ليدفع شراً أو ليكسب من وراء ذلك نصراً وإليكم الأمثلة على ذلك ..
في المدينة مع اليهود :(7/159)
لما استقر الرسول عليه الصلاة والسلام بالمدينة بعد هجرته كان لا بد له من أن يستعد لنزال قريش وخوض الحرب معها فما كانت قريش بالتي ترضى أن تكون للرسول في المدينة العزة والمنعة . وهي التي حرصت ثلاثة عشر عاماً على مناصبة دعوته العداء ، فكيف وقد أفلت من يدها وأصبح في المدينة سيدها وقائدها ورئيسها المحبوب ؟ . لقد كان الصراع مع قريش بعد الهجرة – صراعاً حربياً – أمراً متوقعاً في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان في المدينة – مع الأوس والخزرج – عدد كبير من اليهود يسكنون في أرباضها أو على مواقع تحيط بها ، ولم يكن يتوقع الرسول من اليهود سلماً لدعوته ورضى بانتشارها وهم الذين كانوا يستولون على مقدرات سكانها من الأوس والخزرج ، ويثيرون العدوان بينهم ، لتظل لهم السيطرة السياسية والمالية عليهم ، فكيف يرتاحون إلى وحدة كلمة هؤلاء المؤمنين من جيرانهم ، وانتهاء الحروب والفتن الداخلية فيما بينهم ؟ هذا مع ما فاض به تاريخ اليهود من محاربة لرسل الله ، وقتل لأنبيائه ،وإثارة للفتن والعداء في كل مجتمع يعيشون فيه ، وبذلك واجه الرسول في المدينة جبهة أخرى معادية لدعوته ، بعد أن كان العداء بينه وبين خصوم الدعوة في مكة محصوراً في قريش ومن يناصرها .. هنا تتجلى حكمة الرسول البعيدة المدى ، إذ بادر إلى عقد ميثاق بينه وبين يهود المدينة ليأمن شرهم ، ويمنعهم من مؤازرة قريش في معاركها المقبلة . ووضع الميثاق وأصبح اليهود مواطنين في المدينة يربطهم الميثاق الجديد بالدفاع عن المدينة ممن يقصد غزوها ، وبأن يكونوا مع المؤمنين فيها يداً واحدة على النوائب ، ومن هنا استطاع الرسول أن يتفرغ لرد عدوان قريش ، وأن يخوض معها بدراً وأُحداً وغيرهما من المعارك ، آمناً في جبهته الداخلية ، مكفياً شر اليهود وهم أقدر على إيذائه من قريش إذ كانوا في أرباض المدينة وما حولها .
مع يهود بني قينقاع :
ولكن طبيعة اليهود تأبى إلا الغدر والخيانة ، فما كاد رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتصر على قريش في بدر حتى ثارت في يهود بني قينقاع عوامل الحقد والبغضاء ، فأظهروا للمسلمين شراً ، وغدروا ببعض نساء الأنصار ، فهتكوا حرمتهن ، ولم ير رسول الله – وهو الذي يعلم أ، هؤلاء اليهود سيكون منهم ما كان من يهود نبي قينقا ع – أن يجاهرهم جميعاً بالعداء ، بل حارب بني قينقاع وحدهم ، وتمّ له إجلاؤهم عن ديارهم ، وظل على عهده مع بقية اليهود ، إذ لم يبد منهم في الظاهر ما يدل على نقض الميثاق ، ولأن معركته مع قريش لم تنته بانتصاره عليها في بدر ...
مع يهود بني النضير :
وتحرك بعد ذلك بنو النضير ، وهم يجاورون المدينة وقد كانوا حلفاء الخزرج قبل الإسلام ، وناصبوا الرسول العداء ، وبيتوا على قتله ومن معه ، فأنذرهم الرسول بوجوب الجلاء عن مساكنهم ، بعد أن بدا منهم الغدر ، فلما أبوا وتحصنوا في حصونهم ، نازلهم المسلمون وتغلبوا عليهم ، فاضطروا للجلاء عن ديارهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب .
مع يهود بني قريظة :
وظل الرسول بعد ذلك محافظاً علة ميثاقه مع بقية اليهود الذين لم ينقضوا الميثاق ، مع أن الدلائل كلها تدل على أنهم جميعاً محنقون من انتشار الدعوة ، مبيتون للغدر بالرسول ومن معه ، ذلك أن رسول الله سار على هذه الخطة الحطيمة وهي ألا يحارب في جبهتين وأن يتقي أقوى الجبهتين خطراً بأقلها وأقربها إلى الخضوع والاستسلام .. ومعركة قريش لا تزال هي المعركة الرئيسية في جزيرة العرب ، فليوجه إليها كل همه ، وليهدئ من عداء اليهود بقدر ما يستطيع ، حتى تنتهي المعركة الكبرى مع قريش بالنصر ، ولكن اليهود قوم لا يرتاحون إلى السلم والعيش الكريم ، فما كاد عظماء بني النضير يجلون عن ديارهم - عقوبة لهم على غدرهم – حتى أخذوا يثيرون قريشاً وقبائل العرب ضد الرسول وصحبه ، وكان من أثر ذلك غزوة الأحزاب التي تجمعت فيها قريش وغطفان ومرة وأشجع وبنو سليم وبنو أسد ، وهاجموا المدينة في عشرة آلاف محارب ، وكانت غزوة الأحزاب وتحركت بنو قريظة وهم يهود المدينة نفسها – فنقضوا الميثاق وأبدوا العداء للرسول ، وظنوا أن هذه المعركة قاضية على المسلمين في المدينة فأعلنوا الحرب وانحازوا إلى الأحزاب ، وهنا تشتد المعركة على المسلمين ، ويصبح أهل المدينة في قلق شديد على ذراريهم ونسائهم ،خوفاً من بني قريظة الذين أعلنوا عداءهم ، ويفكر الرسول في تفريق كلمة الأحزاب بأن يعمل على انسحاب غطفان من المعركة لقاء أن يعطيها ثلث ثمار المدينة ، ويتألم المسلمون من ذلك ، ويتدارك الله رسوله وصحبه بالعناية الإلهية ، فيسلم ( نعيم بن مسعود ) من غطفان وهو صديق قريش واليهود ، فيعمل على التفرقة بينهم ، ويغرس في نفوس كل من قريش واليهود عوامل الريبة والحذر بعضهم من بعض ، فتختلف كلمة الأحزاب ، ويرسل الله ريحاً باردة في ليلة شديدة الظلام ، فتولي قريش وحلفاؤها ، لا تلوي على شيء ، وينبلج الصباح عن فرار قبائل العرب في الظلام ، ويظل الرسول وجها لوجه مع يهود بني قريظة الغادرين في أحرج الساعات . ويتم القضاء عليهم بما حكم به حليفهم سعد بن معاذ ، من قتل الرجال ، وسبي النساء والأطفال ..
مع يهود الآخرين :
وانتظر الرسول حتى تم صلح الحديبية ، وأمن شر قريش ، فاتجه إلى تصفية قضية اليهود الباقين حول المدينة فأنهى علائقه مع يهود فدك ، بحقن دمائهم ومغادرة ديارهم ، وترك أموالهم ، ثم انتهى من يهود وادي القرى ويهود خيبر ، فتغلب عليهم ، وفرض عليها الجزية ، وجردهم من قوتهم الحربية .. وبذلك انتهى من معركة اليهود ، دون أن يخوض معهم جميعا معركة واحدة ، ودون أن يحاربهم وقريشاً في وقت واحد .
وهذه إحدى العبر في تاريخ الرسول السياسي والعسكري ، دلنا على براعته وتوفيقه في الوصول إلى النصر ، دون أن يثير قوى الأعداء عليه جميعاً ، ما دام يستطيع أن يفرق بينهم – كما في غزوة الخندق – أو أن يضربهم الواحد بعد الآخر كما حصل في تصفية قضية اليهود في جزيرة العرب .
في صلح الحديبية :
وأمامنا مثل آخر يدل على مرونة الرسول وبراعته وتفضيله المصلحة البعيدة المدى على المصلحة المؤقتة التي يمكن أن تكسب بالعاطفة ، ولكنها تفوت كثيراً من المكاسب السياسية ، ففي صلح الحديبية كان الرسول لا يريد القتال بل يريد الطواف في الكعبة ،فلما أصرت قريش على المنع صمم الرسول على قتالهم ، ووجد من المسلمين كل استعداد للفداء ، وبايعه المسلمون بيعة الموت المشهورة ببيعة الرضوان ، حتى إذا أبدت قريش رغبتها في الصلح على الشروط المعروفة ، وهي شروط لم يرضها المسلمون أول الأمر ، بل ، بل رأوا فيها ضعفاً وذلة ، ولكن القائد الرسول الذي يمتد بصره إلى ما لا يمتد إليه بصر جنوده المؤمنين ، أصر على قبول الشروط ، فلم يجد المسلمون بداً من القبول ، وتبين فيما بعد أن هذه الشروط كانت سبباً من أسباب تعجيل النهاية المرتقبة للوثنية في جزيرة العرب ، وأن صلح الحديبية كان الخطوة الأولى لفتح مكة واستسلام الوثنية العربية استسلاماً لا قيام لها من بعده أبداً .(7/160)
هنا يجب أن يذكر الدعاة أن على القائد ، أن يجنب الدعوة المتاعب الكثيرة بأقل التضحيات ، وأن يخضع للظروف مع حسن الاستعداد والاستفادة ، كما فعل رسول الله حين رأى إصرار قريش على أن لا يدخل الرسول ذلك العام مكة أبداً ، فرجع عنها هو وصحبه بعد أن أوشكو على وصلها ، وكان قادراً على أ، يدخلها عنة واقتداراً ، ولكن المعركة يومئذ ستكلف المسلمين كثيراً من التضحيات ، وما كسبه الإسلام من صلح الحديبية ، كان أعظم سياسياً ودينياً وعسكرياً مما كان يكسبه لو دخل المسلمون آنئذ مكة عنوة ، وما هو إ انتظار سنتين بعد ذلك حتى دخل الرسول مكة فاتحاً ، وقد استسلمت قريش ، ثم دخلت في دين الله أفواجا
إن على القائد ألا يضيق ذرعاً بحماسة جنوده ،كما تحمل الرسول شدة عمر ومعارضته يوم صلح الحديبية ،وعلى الجنود أن لا يشقوا عصا الطاعة حين يحزم القائد أمره .
فصلى الله وسلم على نبينا محمد
كلما ذكره الذاكرون
وكلما غفل عن ذكره
الغافلون
المصدر : كتاب ( عظماؤنا في التاريخ ) للدكتور / مصطفى السباعي
-===============
التربية الإسلامية و تحديات العصر
عبد الرحمن بن عبد الله الفاضل
بحث متطلب لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر يقدم لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة من قسم التربية الإسلامية والمقارنة بكلية التربية بجامعة أم القرى
ذو الحجة 1427هـ -يناير 2007م
c
c
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قالَ: قالَ رَسُولُ الله 4 : «مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ الله»(الترمذي،1994م ، جـ 6 ، ص61) .
والباحث بمقتضى هذا الحديث يتقدم بخالص الشكر والتقدير لسعادة الدكتور محمد علي أبو رزيزة ، فقد وجد الباحث منه الاهتمام والجدية في البحث والدراسة والحرص على إفادة الطلاب ، وقد استفاد الباحث منه كثيراً أثناء دراسته لمادة التربية الإسلامية وتحديات العصر ، فله من الباحث كل الثناء والتقدير ، أسأل الله أن يجزل له الأجر والمثوبة ، وأن يكتب له الخير حيث كان ، ومتى ما كان ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
g
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ..... وبعد ،
فإن التربية الإسلامية تستمد أصولها ومسلماتها وغاياتها وأهدافها من ديننا الحنيف وتصب في هذا الإطار أساليبها وعملياتها مستخدمة ومسخرة أدوات العصر وتقنياته في خدمة هذه الغايات .
وكما أن للعصر أدوات ، وتقنيات ، فإن فيه صعوبات ، وتحديات، تواجهها التربية الإسلامية التي يمكنها تجاوز الصعوبات والانتصار على التحديات بسبب خصائصها الفريدة ، وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
والقضايا المطروحة كمشكلات وصعوبات وتحديات تواجه التربية الإسلامية كثيرة ، والتساؤلات التي تتصل بتلك التحديات كثيرة أيضاً ، وتؤدي هذه الكثرة والتعدد إلى تباين واختلاف وجهات النظر التي تعالج هذه القضايا ، والمعالجة التي ينطوي عليها هذا البحث تفترض مرونة التربية الإسلامية وقدرتها على التعامل مع مختلف التحديات والصعوبات ، بل والإفادة منها أيضاً .
وقد حاول الباحث من خلال فصول هذا البحث أن يوضح الصلة بين عناصر الموضوع والمتمثلة في تحديات العصر ومعالجة التربية الإسلامية لها .
وتنتظم فصول هذا البحث في تسلسل يهدف إلى معالجة القضايا الرئيسة في هذا الموضوع ، حيث تناول الباحث في الفصل الأول تحدي الحرية، ومفهومها في المنهج الإسلامي، وأنواعها، وواقعها،وكيفية تفعيلها .
كما تناول الفصل الثاني تحدي الحوار ، حقيقته ، وأهميته ، وأهدافه ، وأصوله ، وتقنياته ، والتعلم من خلال الحوار .
وتناول الفصل الثالث تحدي الغلو والتطرف الديني ، مفهومه ، ونشأته ، وأنواعه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وإفرازاته السلبية ، وسبل الوقاية والعلاج منه .
وتناول الفصل الرابع تحدي الإرهاب الفكري ، مفهومه ، وإشكالية تحديد الإرهاب ، وأنواع الإرهاب ، وأسبابه ، وموقف التربية الإسلامية منه ، وسبل الوقاية والعلاج منه .
وتناول الفصل الخامس تحدي غياب دور المرأة ، ومكانتها في الإسلام ، والفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل ، والمرأة المسلمة بين التهميش والتحرير ، وكيفية تفعيل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم .
وتناول الفصل السادس تحدي العولمة ، ومفهومها ، الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية ، وسلبيات العولمة وإيجابياتها ، وكيفية الاستفادة من إيجابياتها واتقاء سلبياتها .
وقد حاول الباحث تناول العناصر الرئيسة للبحث وعرضها بطريقة متوازنة ، ويرجوا الباحث أن يكون قد وفق في تحقيق الغرض المنشود ، والثغرات الموجودة هي نموذج من القصور الإنساني ، أسأل الله التوفيق والسداد ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين .
أهمية البحث
تنبع أهمية البحث من أهمية التربية الإسلامية التي تعمل كموجه للعملية التربوية والمناهج التعليمية والبرامج الإرشادية للفرد والجماعة ، محققة ما نصبو إليه من إعداد الإنسان الصالح الذي يعتبر قدوة لغيره من البشر في الاستقامة والخلق ، في المجتمع الصالح الذي يعد نموذجاً لغيره من المجتمعات البشرية في الحياة الفاضلة الكريمة .
تساؤلات البحث
التساؤل الرئيس :
ما أبرز التحديات التي تواجهها وتعالجها التربية الإسلامية ؟
1 2
3
4
5
6
التساؤلات الفرعية :
ما هو تحدي الحرية ؟
ما هو تحدي الحوار ؟
ما هو تحدي الغلو والتطرف الديني ؟
ما هو تحدي الإرهاب الفكري ؟
ما هو تحدي غياب دور المرأة ؟
ما هو تحدي العولمة ؟
1 2
3
4
5
6
7
أهداف البحث
التعرف على أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه التربية الإسلامية .
التعرف على تحدي الحرية .
التعرف على تحدي الحوار .
التعرف على تحدي الغلو والتطرف الديني.
التعرف على تحدي الإرهاب الفكري .
التعرف على تحدي غياب دور المرأة .
التعرف على تحدي العولمة .
1=
التربية الإسلامية
و
تحدي الحرية
* مفهوم الحرية لغةً واصطلاحاً
* مفهوم المنهج لغة واصطلاحاً
* مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
* ضوابط الحرية وحدودها في المنهج الإسلامي
* أنواع الحرية
* مفهوم العالم الإسلامي
* واقع الحرية في العالم الإسلامي
* كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية
مفهوم الحرية
تعريف الحرية لغةً :
" الحر ، بالضم : نقيض العبد " (ابن منظور ، 1410هـ ، جـ 4 ، ص 181 ) .
" والحرة : نقيض الأمة ، والجمع حرائر " ( المصدر السابق ) .
" وتحرير الولد : أن يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد ، وقوله تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35) " ( المصدر السابق ) .
" والحر من الناس : أخيارهم وأفضالهم . وحرية العرب : أشرافهم " ( المصدر السابق ).
" والحرة : الكريمة من النساء " ( المصدر السابق ) .
" الحُرِّيَّةُ : الأرضُ اللينةُ الرمليةُ " ( الفيروز بادي ،1993م )
تعريف الحرية اصطلاحاً :
يمكن تعريف الحرية اصطلاحاً بعدة تعاريف منها :
"1-(انعدام القيود)
2- (عبارة عن قدرة المرء على فعل ما يريده)
3- (إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها طالما كانوا لا يحاولون حرمان الغير من مصالحهم...)
إلى غيرها من التعاريف التي لا مجال لذكرها في المقام.(7/161)
ولكن بعد التأمل الدقيق ـ نجد ـ أن مرجع جميع هذه التعاريف إلى جامع واحد وحقيقة مشتركة واحدة ـ هي القدرة على الفعل والاختيار ـ دلت عليها ألفاظ متعددة، وبصور مختلفة... ولذا لم يتحصل لدى الانتقال من تعريف لآخر أمر آخر يضيف على التعريف الأول شيئاً يذكر سوى التبسيط، والتوضيح . " ( حسين ، 1421هـ، 44 )
مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
أولاً : مفهوم المنهج
المنهج في اللغة :
نهج
: طريقٌ نَهْج : بَيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج
و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والمِنهاج : كالمَنْهَج . وفي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)
وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَيِّناً ، والمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )
المنهج في الاصطلاح :
" الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة " ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )
" فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة " ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )
" طريق كسب المعرفة ، أوهو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها " ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .
" كان ظهور الطريقة العلمية نتيجة للجهود المختلفة التي بذلها المهتمون خلال عصور طويلة ، لكن أول ملامح هذه الطريقة ظهرت على يد فرنسيس بيكون في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر حين اقترح بناء النتائج على أساس مجموعة كبيرة من الوقائع والملاحظات التي يمكن جمعها ، ثم تطور هذا المنهج نتيجة لجهود وأفكار نيوتن وجاليلو فظهر المنهج العلمي ، أو الطريقة العلمية التي تجمع بين الأسلوب الاستقرائي والأسلوب الاستنتاجي القياسي ، أو جمع بين الفكر الذي يمثله الأسلوب القياسي وبين أسلوب الملاحظة الذي يمثله الأسلوب الاستقرائي.
فالأسلوب العلمي أو الطريقة العلمية هي طريقة تجمع بين الفكر والملاحظة وبين القياس والاستقراء "(عبيدات ، 1424 هـ ، ص 44 )
ثانيا : مفهوم الحرية في المنهج الإسلامي
"خص المولى تبارك وتعالى "الإنسان" بالعقل والإدراك والتمييز , وأمر بحفظ حقه في حرية التفكير والتعبير مادام ذلك في حدود الشرع ومصلحة الجماعة , لا يقهر على أمر , ولا يقسر على رأي , ولا يمنع من إبداء الرأي والاجتهاد فيه , لأن هذا قوام :"نموه العقلي" واتساع مداركه وشحذ تفكيره , ومبادئه الإيجابية في بناء حياته الخاصة وفلسفته ونظرته للحياة , وتحقيق طموحاته المستقلة , ومساهمته الفعالة في بناء حياة الجماعة وتطوير نظمها وتراثها الفكري واعلمي والحضاري ,وتمكينها من بلوغ أهدافها المرجوة لخير جميع أفرادها .
ولأن في الحفاظ على حرية "الإنسان" في فكره وتعبيره , صونا "لآدميته" المكرمة من الله تعالى ,ودعما لكيانه المستقل والمتميز عن غيره , وتنمية لشخصيته لتكون قوية متماسكة ,وتعزيزا لاعتداده بذاته وثقته بنفسه , وراحة وسعادة له في حياته , وإعطاء هذه الحياة معاني الكرامة وأسباب الهناء.
والمولى سبحانه وتعالى , وهو يضرب لعباده المثل , وله وحده المثل الأعلى , أقر للإنسان حريته حتى فيما يتعلق بأمور الإيمان والعقيدة والتوحيد ، وهي أسمى الأمور ، وحمله مسؤولية حريته في إيمانه وكفره ، وهذا هو العدل التام ، وأقام عليه الحجة بما أعطاه من حرية قوامها الإرادة والاختيار والعقل " (الزنتالي ، 1993م ، ص196 ) .
قال تعالى : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)(الكهف: من الآية29)
وقال تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البقرة: من الآية256)
وقال عز وجل : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99)
وقال جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (الغاشية: 21،22)
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ، فإنّ الله لمّا بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها كثيرة: وهي الأسر في الحروب، والخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر .
ضوابط الحرية
" على أن الحرية في التربية الإسلامية ليست سائبة ,ولا مطلقة العنان حتى تهوي بصاحبها إلى قاع الضلال الروحي ودرك الانحطاط الأخلاقي ,بل هي حرية واعية منضبطة ,فإذا خرج بها الإنسان عن أحكام الدين ونطاق العقل وحدود الأخلاق وصلحة الجماعة , تمت مساءلته ومحاسبته وإيقافه عند حده ورده عن غيه , منعا لضرر الفرد والجماعة, وفساد الدين والدنيا." (الزنتالي ، 1993م ، ص459)
ومن تعاريف الحُرِّيَّة أنها التصرّف بالملك بدون عدوان على النفس أو الغير، سواء أكان الملك حسياً أو معنوياً.
فلا يُعتبر الاعتداء على النفس أو الملك الشخصي حرية للإنسان، لذلك حرم " دين الإسلام " الانتحار أو الإضرار بشيء من الجسد أو الملك في غير مصلحة صحيحة مبنية على مكارم الأخلاق، وكذلك فإن الناس يمنعون الأفراد الذين يريدون الانتحار أو الإضرار بأملاكهم من ذلك.
كما لا يُعتبر الاعتداء على الغير سواء باللسان ( كالسَّبِّ ) أو الأركان ( كالضرب ) من الحرية.
فمن فعل ذلك فهو من الأشرار لا الأحرار.
ومن حدود الحرية: قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ، وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات:11،13).
أنواع الحرية
" من أهم الخصائص التي تتميز بها التربية الإسلامية عن غيرها من أنواع التربية القديمة والحديثة ، وتسجل بها قصب السبق عليها ، هي خاصية الحرية ، حرية التفكير وحرية التعلم وحرية السعي ، بما يعزز الشخصية الإنسانية ويدعم استقلالها واعتدادها بذاتها في حدود الشرع والأخلاق " (الزنتالي ، 1993م ،ص 456 ) .
"ويمكن تقسيم الحريات إلى :
1- الحريات الشخصية أو المدنية: ومن أمثلة هذا الصنف: حرية السكن وحرمته، وحرية المراسلات. كما تدخل فيها الحريات العائلية).(7/162)
2-الحريات الاقتصادية: وتشمل: حق الملكية، وحرية العمل، وحرية التجارة والصناعة... الخ.
3- الحريات الفكرية: وتشمل: الحريات الفلسفية، والدينية، والفنية، والأدبية."(حسين ، 1421هـ ، 44 )
ويندرج تحت التقسيمات السابقة عدة أنواع من الحقوق والحريات كحق الإنسان في الحياة ، وحقه في تولي الوظائف العامة ، وحقه في إنشاء الأسرة والرضا في الزواج ، وحق المرأة في الموافقة على الزواج أو رفضه ، وحرية التنقل والسفر .....الخ .
واقع الحرية في العالم الإسلامي
أولاً : مفهوم العالم الإسلامي
" يقصد بالعالم الإسلامي الدول التي تزيد فيها نسبة المسلمين عن 50% من سكانها ، أو يمثل المسلمون فيها الأغلبية " ( الجاسر ، 1427هـ ، ص 12 )
" ويغطي العالم الإسلامي مساحة كبيرة تقدر بأكثر من 32 مليون كم2 أي ما يعادل خمس مساحة اليابسة ، ويزيد عدد المسلمين حالياً عن أكثر من 1300 مليون مسلم يعيشون في 56 دولة إسلامية تقريباً ونسبة منهم يعيشون كأقليات إسلامية في دول غير إسلامية ، وهذا يعني أن عدد المسلمين يقارب ربع سكان العالم البالغ 6 مليارات نسمة تقريباً " ( المصدر السابق )
ثانياً : واقع الحرية في العالم الإسلامي :
"مازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان. فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الاختفاء والعزل السياسي والحق في محاكمة عادلة والامتناع عن التعذيب، كلها مصطلحات لها دلالات مختلفة بالنسبة للحكومات والأيديولوجيات والسياسات. ومشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي، تشغل حيزاً غير قليل من فكرة حقوق الإنسان، مثلما هي قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافة إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات، يقابلها المشاركة والانتخابات، دون إهمال لحرمة المنازل وسرية الرسالة والهاتف والاتصالات والحقوق الفردية الأخرى. وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان، فإن عالمنا العربي ما زال يعاني الكثير من النقص والقصور إزاء تناول هذه المشكلات " ( شعبان ، 2001م ، ص 3 ) .
ويمكن القول إن مستوى الحرية في العالم الإسلامي بصفة عامة ما زال منخفضاً ، وذلك بالنظر إلى أصغر مؤسسات الدولة كأنموذج يُنقل الحكم منه إلى غيره من مؤسسات المجتمع وأنظمته ، ويمثل تلك المؤسسة المدرسة ، حيث يمكن ملاحظة النظام المركزي في إدارة المدرسة من قبل مديرها من حيث التسلط ، والتعسف الإداري ، ومحاباة بعض المعلمين على حساب غيرهم ، وإلزام المعلم بما يكلفه به مدير المدرسة دون نقاش واستطلاع لرأيه، والتصرف في جدول المعلمين بما يرضي مدير المدرسة دون النظر إلى رغبات المعلمين ، وينتقل ذلك إلى تصرفات المعلمين مع الطلاب ومنعهم من الكلام والحركة ، واستخدام طرق التدريس التي لا تساعد على الحوار وإبداء الرأي والتشجيع على التفكير ، وكل ذلك يسفر عن قلة الوعي ، والتقليد الأعمى لأصحاب المناصب الأعلى ، وعدم التنبه لنتائج كبت الحريات ؛ كالتمرد على الأنظمة ، وضعف الإنتاج ، والتخلف الفكري والاجتماعي ؛ نسأل الله السلامة والعافية .
كيف نفعل الحرية في تربيتنا الإسلامية
"التربية الإسلامية تؤكد "مفهوم الحرية" وتنادي بالحفاظ عليه , تشريفا للإنسان وتكريما له وإعلاء لشأنه وفق ما اقتضته إرادة الله تعالى بتفضيله على كثير ممن خلق , سواء فيما يتعلق بأمور الدين أو أمور الدنيا " ( الزنتالي ، 1993م ، ص 456 )
"وسبيلها في ذلك فتح الباب أمام الإنسان ليمارس حريته وإرادته واختياره الواعي المسؤول دينيا وخلقيا ,وتمكينه من تكوين شخصيته على نحو متكامل وسوي ومتزن خال من الاضطراب العقلي والتوتر العصبي والقلق النفسي , وإتاحة الفرص العادلة المتكافئة أمامه لينمي عقله ويصقل قدراته وميوله ومواهبه , وتشجيعه على المبادءات الذاتية والنشاط الذاتي حتى يشارك بفعالية في بناء نفسه بنفسه من خلال العملية التربوية والتعليمية.ووسيلتها في تكوين الإنسان وتنشئته:الإقناع والحجة والبرهان ,والدعوة بالتي هي أقوم والمجادلة بالتي هي أحسن , والتذكير الواعي والنصح الرشيد , وتبصيره بشكل بناء إيجابي يخاطب عقله , ويستنير ذهنه ويقدح تفكيره , فتكون قناعاته بغير جبر أو إكراه , ويتحمل مسؤوليات حريته واختياره في دنياه وأخراه" ( المصدر السابق )
قال تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125)
وقال سبحانه:
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )(الكهف: من الآية29)
وقال عز وجل:
(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )(البقرة: من الآية256)
وقال جل جلاله:
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية111)
وقال جل شأنه:
(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) (الفرقان:73)
"وقد عزز الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وسيرته العطرة , مبدأ "الحرية" سواء في التفكير أم في التعبير أم في إعمال الرأي والاجتهاد في أمور الدين والدنيا , حرصا منه على تكوين الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم .
فأثناء الاستعداد لمعركة "بدر الكبرى" والتخطيط لها , قال الصحابي الجليل "الحباب بن المنذر" رضي الله عن :"يا رسول الله , إن هذا المكان الذي أنت فيه ليس بمنزل, فانطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم , فإني عالم بها وبقلبها , بها قليب قد عرفت عذوبة ماءه لا ينزح , ثم نبني عليه حوضا فنشرب ونقاتل . ونغور ماسواه من القلب فنزل جبريل عليه السلام على رسول صلى الله عليه وسلم فقال:
"الرأي ما أشار به الحباب "1.فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك .
ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث الصحابي الفقيه "معاذ بن جبل" رضي الله عنه إلى اليمن ,ليعلم الذين دخلوا إلى الإسلام ويفقههم , قال عليه الصلاة والسلام :"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟"قال أقضي بكتاب الله قال "فإن لم تجد في كتاب الله " قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟"قال: أجتهد برأي ولا آلو.فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ,فقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى مايرضي رسول الله"2 وعن عائشة وعن أنس بن ثابت رضي الله عنهما ,أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"3 (الزنتالي ، 1993م ، ص458)
"عن محارب بن دِثَارٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ : «مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا قَاضِي دِمَشْقَ، قَالَ: وَكَيْفَ تَقْضِي ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ مَا لَيْسَ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيٍ وَأُؤَامِرُ جُلَسَائِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَحْسَنْتَ "( السيوطي ، 1994م ، جـ13 ، ص 472 )
2=
التربية الإسلامية وتحدي الحوار
* مفهوم الحوار
* حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
* أهمية الحوار
* أهداف الحوار
* أصول الحوار
* آداب الحوار(7/163)
* التعلم من خلال لغة الحوار
مفهوم الحوار
الحوار في اللغة :
"وتَحاوَرُوا : تَراجَعُوا الكلامَ بينهمْ." ( الفيروزبادي ، 1993م )
"حاورته : راجعته الكلام "(الفيومي،1987م ،ص 60 )
"وكلَّمته فما رَجَعَ إِلَيَّ حَوَاراً وحِواراً ومُحاوَرَةٌ وحَوِيراً ومَحُورَة ، بضم الحاء، بوزن مَشُورَة أَي جواباً. وأَحارَ عليه جوابه: ردَّه. وأَحَرْتُ له جواباً وما أَحارَ بكلمة، والاسم من المُحَاوَرَةِ الحَوِير ، تقول: سمعت حَوِيرَهما وحِوَارَهما . والمُحَاوَرَة : المجاوبة. والتَّحاوُر : التجاوب؛ وتقول: كلَّمته فما أَحار إِليَّ جواباً وما رجع إِليَّ حَوِيراً ولا حَوِيرَةً ولا مَحُورَةً ولا حَوَاراً أَي ما ردَّ جواباً. واستحاره أَي استنطقه. ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ 4، ص218 )
" والمُحَاوَرَة : مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، " ( المصدر السابق ، ص218) .
الحوار اصطلاحاً :
" ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي ." ( ابن حميد ، د : ت ، ص 3 )
ويفهم من تعريف الحوار والمجادلة أنهما يشتركان في مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين إلا أن المجادلة تأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة،.والجدل لم نؤمر به، ولم يمدح في القران على الإطلاق، وإنما قيد بالحسنى كقوله تعالى :( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) وقال تعالى(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46)
فلفظ الجدل مذموم إلا إذا قيد بالأحسن، ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ الآية:( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )(الزخرف: من الآية58) (الترمذي ، 1994م ، جـ9،ص106 )4
حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
أولاً : مفهوم المنهج
المنهج في اللغة :
نهج
: طريقٌ نَهْج : بَيِّنٌ واضِحٌ، وهو النَّهْج ، والجمع نَهجات ونُهُج ونُهوج
و مَنْهَج الطريقِ : وضَحُه. والمِنهاج : كالمَنْهَج . وفي التنزيل: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: من الآية48)
وأَنهَج الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجا واضِحاً بَيِّناً ، والمِنهاج : الطريقُ الواضِحُ. واسْتَنْهَج الطريقُ: صار نَهْجا ( ابن منظور ، 1410هـ ، ج2 ، ص 383 )
المنهج في الاصطلاح :
" الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة ، تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته ، حتى يصل إلى نتيجة معلومة " ( العساف ، 1424 هـ ، ص 169 )
" فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة ، من أجل الكشف عن الحقيقة " ( أبو سليمان ، 1416هـ ، ص 60 )
" طريق كسب المعرفة ، أو هو الطريقة التي يتبعها الباحث في دراسة المشكلة لاكتشاف الحقيقة ، أو هو الخطوات المنظمة التي يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها " ( الدغيمي ، 1417هـ ،ص 33 ) .
ثانياً : حقيقة الحوار في المنهج الإسلامي
الحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة أساسا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحة وهو موقف فكرى يعبر عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية وهي سمة التسامح .
الحوار في المنهج الإسلامي أسلوب من أساليب التربية وطريقة للفهم والإقناع والدعوة إلى الله عز وجل بالعقل والمنطق ،" ويمكننا تمييز ستة5 أشكال من الحوار ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهي :
1-الحوار الخطابي : وقد يتطرق إلى الناحية التعبدية ، وقد يتطرق إلى التذكير بنعم الله ، قال تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)(البقرة: من الآية211) وقد يتطرق إلى التنبيه والإيضاح مثل قوله تعالى : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ*الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (النبأ:1-3) ، وقد يتطرق إلى إثارة العواطف الإنسانية والانفعالات الوجدانية مثل الخشوع لله والخوف من العذاب والشعور بالندم وشكر النعم ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (الطور:29) .
2-الحوار الوصفي : ويقصد به وصف حالة نفسية أو واقعة بين المتحاورين ، وهدفه التربوي الاقتداء بصالح الأعمال والابتعاد عن سيئها ، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي توضح حواراً يصف أهل الجنة أو أهل النار ، قال تعالى : (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ*احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات:20-23) .
3-الحوار القصصي : ويأتي في إطار قصة واضحة في شكلها وتسلسلها القصصي ، ويغلب عليه الإخبار ، وتأثيره التربوي يستند إلى الإيحاء وتربية العواطف وإدراك التصور الرباني لأمور الحياة ، ومن أمثلته الحوار الذي دار بين شعيب وقومه في سورة هود .
4-الحوار الجدلي لإثبات الحجة : وغايته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده ، ومن أمثلته قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:1-5)
ومن آثاره التربوية تربية العقل على التفكير السليم وتحري الصواب والرغبة في الوصول إلى الحقيقة " ( غبان ، 1415هـ ، ص 121 )
أهمية الحوار
" استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف 6، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم " ( غبان ،1415هـ ، ص 122)
" والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :"إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار " ( المصدر السابق ، ص 122 )
" والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه ... واكتسب خبرة الحوار من والديه ." ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )
ويرى الشيخ سلمان العودة أن أهمية الحوار تبرز من جانبين:
الجانب الأول: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة:(7/164)
"فتعقد لذلك محاورات مع غير المسلمين؛ لإقناعهم بأن دين الله تعالى حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة؛ لدعوتهم إلى السنة، وأمرهم بالتزامها. والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار.
إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب والنظريات والأديان الأخرى؛ بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة.
ولا يجوز أبدًا أن نعتقد -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات والعقائد والمبادئ والمثل، فهذا غير صحيح؛ بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة من كثرة النظريات والمبادئ والعقائد والمثل والفلسفات وغيرها، صحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، والدعاة الذين تدرَّبوا وتعلَّموا كيف يدافعون عن الباطل حتى يصبح في نظر الناس حقًّا.
أما أهل الحق فكثير منهم لا يحسن الطريقة المثلى للحوار؛ لإقناع الخصم بما لديه من الحق والسنة .
وقد لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضًا، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، فإن لم يملكوها، فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة، ما هو أشد فتكًا من الرصاص والقذائف.
إذن، فإن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة." ( العودة ، د : ت ، ص18 )
.الجانب الثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية:
"فالحوار يُعد وسيلة للوصول إلى اليقين والحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين، فيتكلم اثنان في محاورة أو مناظرة للوصول إلى الحق في مسألة اجتهادية ليس فيها نص صريح، أو إجماع لا يجوز تعديه.
وليس من الضروري -أيها القارئ الكريم- أن تعتقد أن نتيجة الحوار لابد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق، وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، فقد تقنع إنسانًا بذلك، فإن لم تتمكن، فأقل شيء تكسبه من الحوار - إذا التزمتَ بالشروط الموضوعية له - أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعًا بأنك موضوعي متعقل، بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.
فكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلِّدين، فإذا حاوروهم وناظروهم علموا أن لديهم حججًا قوية، فأقل ما تكسبه أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام.
فقد تلتقي بنصراني داعية إلى النصرانية، فتناقشه، فمن المحتمل أن يسلم، وهذا خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه، لكن قد لا يسلم، فهل تعتبر أنك قد خسرت المناظرة؟ لا؛ لأنه وإن لم يسلم، فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث، ثم قد يسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر في ذلك، فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا، فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه، وصار عنده تردد في مذهبه الباطل.
ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون الاحتكاك بأهل الكتاب أو بالمنحرفين عن الإسلام ويسمعون منهم الكثير؛ نجد أن هؤلاء المسلمين وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم حتى وهم على الحق؛ وذلك من كثرة ما سمعوا من أعدائه، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم؟ لابد أن يفتر حماسهم له، أو يشكّوا فيه، أو يتراجعوا عنه. " ( المصدر السابق ، ص 20 )
أهداف الحوار وغاياته
"الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) .
هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :
* إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
* التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
* البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية ." ( ابن حميد ، د : ت ، ص 4 )
ومن أهداف الحوار :
أولاً: أن في الحوار مع الآخر اكتشاف الإنسان لما في نفسه من النقص والضعف والسلبيات التي لا تخلوا منها شخصية إنسانية.
ثانيا ً: أن في الحوار مع الآخر حصول الاحتكاك الفكرى والثقافى والتدافع الحضارى بين الناس .
ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد الدافع إلى المعرفة ، قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة: من الآية251).
ثالثاً : تحقيق الذات وإثبات الهوية .
رابعاً : الحصول على التغذية الراجعة .
خامساً : الإبداع والابتكار .
سادساً : إزالة الضغائن والمشاحنات .
أصول الحوار الهادف
ذكر الشيخ ابن حميد ثمانية أصول للحوار :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :
1. تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
2. صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
الأصل الثالث :
ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :(7/165)
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .
ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم )
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .(7/166)
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) ( ابن حميد ، د : ت ، ص 8 )
آداب الحوار
إن آداب الحوار الصحيح، هي بإيجاز:
أولاً: حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق .
والله تعالى يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.
ثانيًا: التواضع بالقول والفعل:
من آداب الحوار: التواضع، وتجنُّب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الكبر بطر الحق وغمط الناس"7
ثالثًا: الإصغاء وحسن الاستماع:
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدَّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. فتكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرآن .8
رابعًا: الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.
.خامسًا: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.
.سادسًا: ترك التعصب لغير الحق .
.سابعًا: احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"،9 فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم، ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"10، فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن، أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.
ثامناً : الموضوعية :
الموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه .
تاسعًا: عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
والإلزام -بأن تلزم إنسانًا بمقتضى كلامه- من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الإلزام، يعني: يلزم من هذا النص كذا وكذا.
فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا اللازم، ولا فكَّر فيه يومًا من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
.عاشرًا: اعتدال الصوت:
لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ، حيث الصخور والمياه الضحلة، وحيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: "الماء العميق أهدأ".
( العودة ، د : ت ، ص 37 )
التعلم من خلال لغة الحوار
" استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب ( أسلوب الحوار ) في عديد من المواقف 11، لذا حرص المربون المسلمون على إتباع هذا الأسلوب والإشادة بأهميته . وفي هذا المجال يؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ، ويشير إلى أن "ملكة العلم" إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم ، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم " ( غبان ،1415هـ ، ص 122)
" والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوباً مفضلاً مجدياً في التعليم ، حيث يقول الزرنوجي :"إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار " ( المصدر السابق ، ص 122 )
" والحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ، ويوسع مداركه ، ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ، ومجريات الحوادث والأيام ، وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء ، إذ عندها يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه ، وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها ، وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ، لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار، وأدبه ، وطرقه ، وأساليبه ... واكتسب خبرة الحوار من والديه ." ( سويد ، 1422هـ ، ص 119 )
ومن أهم التقنيات التي ينبغي مراعاتها في الحوار :
1-الاتجاه بالكلية إلى المحاور .
2-الاقتراب من المحاور .
3-التواصل البصري مع المحاور .
3=
التربية الإسلامية وتحدي الغلو والتطرف الديني
* مفهوم الغلو والتطرف
* نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني في العالم الإسلامي
* أنواع الغلو
* موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف
* الإفرازات السلبية للغلو
* سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني
مفهوم الغلو والتطرف
الغلو في اللغة :
"غَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا: جاوَزَ حَدَّهُ، وـ بالسَّهْمِ غَلْواً وغُلُوًّا: رَفَعَ يَدَيْهِ لأقْصَى الغَايَةِ، كغالاهُ ، وـ به مُغالاةً وغِلاءً، فهو رجلٌ غَلاءٌ ، كسماءٍ، أي: بعيدُ الغُلُوِّ بالسَّهْمِ، وـ السَّهْمُ: ارْتَفَعَ في ذَهابِهِ، وجاوَزَ المَدَى" ( الفيروزبادي ، 1993م )
"وتَغَالَى النَّبْتُ: ارْتَفَعَ" ( المصدر السابق )
" والغلوة : الغاية وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه "(الفيومي،1987م ،ص 172 )(7/167)
" وغلا في الدين غلواً من باب قعد12 تصلب وشدد حتى جاوز الحد ، وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) وغالى في أمره مغالاة : بالغ ، وغلا السعر يغلو والاسم الغلاء بالفتح والمد : ارتفع " ( المصدر السابق ، ص 172 ).
غَلا في الدِّينِ والأَمْرِ يَغْلُو غُلُوّا : جاوَزَ حَدَّه. وفي التنزيل ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)(النساء: من الآية171) ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ15 ، ص 132)
" قال بعضهم غَلَوْت في الأَمر غُلوّا وغَلانِيَةً وغَلانِيا إِذا جاوزْتَ فيه الحَدّ وأَفْرَطْت فيه " ( المصدر السابق ، ص 132 ) .
التطرف في اللغة :
" والطَّرَف ، بالتحريك: الناحية من النواحي والطائفة من الشيء، والجمع أَطراف . وفي حديث عذاب القبر: كان لا يَتَطَرَّفُ من البَوْل13، أَي لا يَتباعَدُ؛ من الطرَف: الناحية. وقوله عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعني الصلوات الخمس فأَحدُ طَرَفي النهارِ صلاة الصبح والطرَفُ الآخر فيه صلاتا العَشِيِّ، وهما الظهر والعصر، وقوله (عز وجل): ( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) يعني صلاة المغرب والعشاء. وقوله عز وجل: ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)(طه: من الآية130) أَراد وسبح أَطراف النهار؛ قال الزجاج: أَطْراف النهار الظهر والعصر، وقال ابن الكلبي: أَطراف النهار ساعاته. وقال أَبو العباس: أَراد طرفيه فجمع. " ( ابن منظور،1410هـ ،جـ 9 ، ص 217 )
ويقال: طَرَّف الرجل حول العسكر وحول القوم، يقال: طرَّف فلان إِذا قاتل حول العسكر، لأَنه يحمل على طَرَفِ منهم فيردُّهم إِلى الجُمْهور. ابن سيده: وطرَّف حول القوم قَاتَلَ على أَقصاهم وناحيتهم، وبه سمي الرجل مُطَرِّفا . وتطرَّف عليهم: أَغار، وقيل: المُطَرِّف الذي يأْتي أَوائل الخيل فيردُّها على آخرها، ويقال: هو الذي يُقاتِل أَطراف الناس " ( المصدر السابق ، ص 217 )
الغلو والتطرف في الاصطلاح :
" إن الغلو أو التطرف لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى ." ( فرج ،1426هـ، ص 9 ) .
" أما التطرف الديني فيعني سؤ الفهم للنصوص الدينية الذي يؤدي إلى التشدد والغلو ، ويطلق عادة على بعض الأفراد الذين يلجئون إلى التفسير عن جهل في أمورهم الدينية ويضللون الناس " ( المصدر السابق ، ص 9 ) .
والغلو : " مجاوزة الحد والإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد والعمل " ( وزارة المعارف ،1423هـ ، ص 21 ) .
ومن الغلو : التنطع وهو " التعمق في الشيء والتكلف فيه ومجاوزة الحد في القول والفعل والتشدد في غير موضع التشدد " ( المصدر السابق ، ص 27 ) .
ومن الغلو أيضاً : الإطراء وهو " المبالغة في المدح والتعظيم والكذب فيه " ( المصدر السابق ، ص 27 ) كما جاء في الحديث : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد . فقولوا : عبد الله ورسوله " ( البخاري ، 6 / 3445 )
ويمكن القول بأن التطرف يتضمن التفريط والتساهل في الأمور وعدم إعطائها ما تستحقه ، كما يتضمن الإفراط والمبالغة في الأمور وإعطائها أكثر مما تستحق وكما قال أبو سليمان البستي :
ولا تَغْل في شيءٍ من الأمر واقتصد
كلا طرَفَي قصد الأمور ذميم
نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني
في العالم الإسلامي
نشأ الغلو والتطرف منذ القدم ، حيث ذكر الله تعالى قصة غلو قوم نوح في صالحيهم ، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)
قال : " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد حتى هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت " ( البخاري ، 4920/8 ) .
قال ابن تيمية رحمه الله : " وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. " ( ابن تيمية، د:ت ، جـ14 ، ص343 )
وقال ابن القيم رحمه الله " وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. " ( ابن القيم ، د:ت ، جـ1 ، ص 217 )
وقد أخبر الله تعالى عن غلو اليهود والنصارى فقال في محكم التنزيل : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)
وأما في العصر الإسلامي فقد ظهر الغلو مبكراً كما في حديث أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، واقرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذالِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .(7/168)
وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 )
ونلاحظ في الأحاديث السابقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول " أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وكيف لا يكون ذلك وهو قدوة الصالحين كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
والغلو والتطرف من سنة الحياة التي لا يخلو عصر من عصورها منه ، فهو ملازم للبشر ، كالصراع بين الخير والشر الذي لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: «بُعِثَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ، فقَسَمَهُ بين أربعةٍ وقال: أتألفُهم. فقال رجلٌ: ما عَدَلتَ. فقال: يَخرُجُ من ضِئْضىء هذا قومٌ يمرُقونَ منَ الدين».( البخاري ، 8 / 4667 ) يدرك أن التطرف والغلو من سنن الحياة التي لا بد من حصولها ، ولذا وجب التعامل مع الغلو والتطرف تعاملاً يتفق مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث السابقة كالنصيحة والبيان والتوضيح والحوار والدلالة والإرشاد والإنكار بدرجاته الثلاث والتي قد تصل إلى القتال كما أورد النسائي في سننه مرفوعاً : «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هذَا مِنْهُمْ يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ».( النسائي 2 / 3532 ) .
ومقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) هو حلقة من حلقات الغلو والتطرف في التاريخ الإسلامي ، ثم ما حصل من الفتنة والقتال بين المسلمين بعد ذلك والله المستعان .
أنواع الغلو
سبق الكلام عن الغلو و التطرف وأنه " لم يعد في الدين فقط ، بل في مختلف ممارسات الحياة اليومية ، فقد يكون التطرف في الفكر أو السلوك أو فيهما معاً ، وقد يكون في الماديات كالجلوس أو المشي ، وفي المعاملات داخل الأسرة أو مع أفراد المجتمع ، وقد يكون التطرف في المجال السياسي حيث يكون رجل السياسة متسلطاً لا يقبل الحوار والرأي الآخر والأحزاب الأخرى ." ( فرج ،1426هـ، ص 9 ) .
وإذا أردنا أن نتكلم عن أنواع الغلو في الدين فنستطيع أن نصنفه في الأصناف التالية :
1-غلو اعتقادي ، كغلو الخوارج وأشباههم من الفرق المنحرفة ، حيث يكفّر الخوارج مرتكب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار ، والرافضة يقولون بعصمة الأئمة ، وينزلون آل البيت ( رضي الله عنهم ) فوق المنزلة التي أنزلهم الله تعالى فيها .
2-غلو عملي ، كالغلو في العبادات ، والابتداع فيها ، وإيجاب ما لم يوجبه الله تعالى منها كتنزيل السنن والمستحبات منزلة الفرائض والواجبات ، والإنكار على من ترك السنة ، وكالزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات ، ومنع المباحات ، والتضييق على الناس فيما وسّع الله تعالى لهم فيه .
3-غلو طبعي ، كالجفاء ، والغلظة ،والفظاظة في الدعوة ، وضيق النفس عن تقبل آراء الآخرين فيما يسوغ فيه الخلاف ، وترك الرفق واستبداله بالشدة في غير موضعها ، قال تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )(المائدة: من الآية54) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».( مسلم ، 16/6554) .
ويرى ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 13 ) أن التطرف على ثلاث مستويات هي :
" أ- المستوى العقلي أو المعرفي والمتمثل في انعدام القدرة على التأمل والتفكير.
ب- المستوى الوجداني والمتمثل بالاندفاعية في السلوك.
ج- المستوى السلوكي والمتمثل في ممارسة العنف ضد الآخرين. "
موقف التربية الإسلامية من الغلو والتطرف
إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .
" والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية " ( الزنتاني ، 1993م ، ص 446 ) .
"وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه " ( المصدر السابق ، ص 446 ) .
و " يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء " ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .
قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(لأعراف: من الآية32) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) .
وقال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77) .
وقال تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:1121) .
وقال تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)(النساء: من الآية171)
وقال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)(المائدة: من الآية77) .
ونلاحظ في الأحاديث التالية : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول " أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .(7/169)
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدينِ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُو فِي الدينِ» ( السيوطي ، 3/ 9309 ) .
وعن أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، واقرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذالِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .
وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 ) .
وبما سبق من أحاديث يتضح موقف التربية الإسلامية من الغلو كتحريمه والإنكار على مرتكبيه ومجادلتهم بالتي هي أحسن وبالحوار وإقامة الحجة عليهم .
ويمكن الاستشهاد على ذلك بتأمل كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب ( وهم من روّاد الغلو والتطرف ) حيث تظهر حكمة القول في التعامل مع أهل الكتاب و دعوتهم إلى الله تعالى ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق ، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية ، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة ، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل لا بد أن يكون القصد بيان الحق ، وهداية الخلق ، كما قال عز وجل : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46)
وقال عز وجل : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى الله عز وجل ، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : «دخلَ رَهطٌ من اليهود على رسولٍ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتُها فقلت: وعليكمُ السامُ واللعنة. قالت: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إنَّ اللهَ يحبُّ الرفقَ في الأمرِ كلِّه. فقلتُ: يا رسولَ الله، أولم تَسمعْ ما قالوا؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : قد قلتُ وعليكم». "(البخاري 12/5886)
وليس معنى هذا أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين والرفق والعفو ، بل تكون أحياناً بالموعظة الحسنة والترغيب والترهيب وبيان الحق علماً وعملاً ، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن ، وتارة تكون باستخدام القوة وبالجهاد في سبيل الله ،
وبالتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي كيفية تعامله مع أهل الكتاب يمكن للناظر إجمال ذلك فيما يلي :
1-دعوتهم إلى الحق والهدى والإيمان .
2-مناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن .
3-عقد العهود والمواثيق معهم والوفاء بها .
4-الإحسان إليهم وحسن معاملتهم .
5-مبايعتهم والاقتراض منهم والتعاون معهم .
6-قتالهم واستخدام القوة معهم .
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم تتجلى التربية الإسلامية الحقة في التعامل مع الغلاة والمتطرفين من المسلمين وغيرهم .
الإفرازات السلبية للغلو
لا شك أن للغلو والتطرف إفرازات ونتائج سلبية وعواقب وخيمة" كالجور على حقوق أخرى ينبغي أن تراعى ، وواجبات يجب أن تؤدى ، وسوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم ، والغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة " ( فرج ،1426هـ،ص 10 ) .
ومن الإفرازات السلبية للغلو : " الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد التفكير ، أو عدم القدرة على تقبل أي معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها ، وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع " ( المصدر السابق ، ص 11 ) .
والغلو والتطرف يفرز جماعة من الناس " لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ، ولا يؤمنون بحرية الدين ، أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها الإسلام في قوله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )(البقرة: من الآية256) " ( المصدر السابق ، ص 12 ) .
ومن الملاحظ أن" أصحاب الأفكار المتطرفة لديهم رغبة جامحة في إقصاء الآخر ، فهم الوحيدون القادرون حسب رؤيتهم على فهم الحقائق والأمور. ولديهم أحادية في النظر ، فالحقائق لديهم ليس لها إلا وجه واحد وطريق الحياة ليس له إلا مسار واحد في رؤيتهم.
وأنهم يحملون توجهات عقدية وفكرية تؤكد ما لديهم من قناعات ولا يرغبون في التنازل عنها كما أنهم غير مستعدين للتخلي عنها أو مناقشة الآخرين فيها." ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 12 ) .
سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني
إن الوقاية والعلاج من مشكلة الغلو والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :(7/170)
1- تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .
ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». "(البخاري ، 6/3097)
وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .
2-إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .
3-إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .
4-معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .
5-العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .
6-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .
4=
التربية الإسلامية وتحدي الإرهاب الفكري
* مفهوم الإرهاب
* أنواع الإرهاب
* أسباب الإرهاب
* سمات الشخصية الإرهابية
* موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب
* سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب
مفهوم الإرهاب
الإرهاب في اللغة :
"رَهِبَ ، كَعَلِمَ، رَهْبَةً ورُهْباً، بالضم وبالفتحِ وبالتحريكِ، ورُهْباناً، بالضم ويُحَرَّكُ: خافَ، والاسْمُ: الرَّهْبَى، ويُضَمُّ ويُمَدَّانِ، والرَّهَبُوتَى، و«رَهَبُوتٌ ، مُحَرَّكَتَيْنِ، خيرٌ منْ رَحَمُوتٍ»، أي: لأَنْ تُرْهَبَ خَيْرٌ منْ أن تُرْحَمَ. وأرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَهُ : أخافَهُ. وتَرَهَّبَهُ : تَوَعَّدَهُ. والمَرْهُوبُ : الأَسَدُ، كالرَّاهِبِ ، وفَرَسُ الجُمَيْحِ بنِ الطَّمَّاحِ. والتَّرَهُّبُ : التَّعَبُّدُ. والرَّهْبُ : النَّاقَةُ المَهْزُولَةُ، أو الجَمَلُ العالِي. وأرْهَبَ : رَكِبَهُ، والنَّصْلُ الرَّقيقُ، ج: كَحِبالٍ. وبالتَّحْرِيكِ: الكُمُّ. وكالسَّحابَةِ، ويُضَمُّ، وشَدَّدَ هَاءَهُ الحِرْمَازِيُّ: عَظْمٌ في الصَّدْرِ مُشْرِفٌ على البَطْنِ، ج: كَسحابٍ. والرَّاهِبُ : واحِدُ رُهْبَانِ النَّصارَى، ومَصْدَرُهُ: الرَّهْبَةُ والرَّهْبَانِيَّةُ، أو الرُّهْبَانُ، بالضم، قد يكونُ واحِداً، ج: رَهابِينُ ورَهابِنَةٌ ورَهْبانُونَ. و«لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ»: هي كالاخْتِصاءِ، واعْتِناقِ السَّلاسِلِ، ولُبْسِ المُسوحِ، وتَرْكِ اللَّحْمِ ونَحْوِها. و أرْهَبَ : طالَ كُمُّهُ. و الأَرْهابُ ، بالفتحِ: ما لا يَصِيدُ من الطَّيْرِ، وبالكسرِ: قَدْعُ الإبِلِ عنِ الحَوْضِ. وكَسَكْرَى: ع. وسَمَّوْا: راهِباً ومُرْهِباً، كَمُحْسِنٍ، ومَرْهُوباً. ورَهَّبَتِ النَّاقَةُ تَرْهِيباً فَقَعَدَ يُحاييها: جَهَدَها السَّيْرُ، فَعَلَفَها حتى ثابَتْ إليها نَفْسُها.." ( الفيروزبادي ، 1993م ) .
"رهب رهباً من باب تعب خاف والاسم الرهبة فهو راهب من الله والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه والراهب عابد النصارى من ذلك والجمع رهبان وربما قيل رهابين وترهب الراهب انقطع للعبادة والرهبانية من ذلك قال تعالى : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (الحديد: من الآية27)" مدحهم عليها ابتداءً ثم ذمهم على ترك شرطها بقوله ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(الحديد: من الآية27) لأن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أحبطها "(الفيومي،1987م ،ص92)
" رَهِب ، بالكسر، يَرْهَبُ رَهْبَة و رُهْبا ، بالضم، و رَهَبَا ، بالتحريك، أَي خافَ. ورَهِب الشيءَ رَهْبا ورَهَبا ورَهْبة : خافَه.
والاسم: الرُّهْب ، والرُّهْبى ، والرَّهَبوت ، والرَّهَبُوتي ؛ ورَجلٌ رَهَبُوت . يقال: رَهَبُوت خَيرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، أَي لأَن تُرْهَب خَيرٌ من أَنْ تُرْحَمَ.
وتَرَهَّب غيرَه إِذا تَوَعَّدَه؛ وقال الليث: الرَّهب ، جزم، لغة في الرَّهَب ؛ قال: والرَّهْباء اسم من الرَّهَب ، تقول: الرَّهْباء من اللهِ، والرَّغْباءُ إِليه.
وفي حديث الدُّعاءِ: رَغْبةً ورَهْبة إِليك. الرَّهْبة : الخَوْفُ والفَزَعُ، جمع بين الرَّغْبةِ والرَّهْبة ، ثم أَعمل الرَّغْبةَ وحدها، كما تَقدَّم في الرَّغْبةِ. وفي حديث رَضاعِ الكبير: فبَقيتُ سنَةً لا أَحَدِّثُ بها رَهْبَتَه ، قال ابن الأثير هكذا جاء في رواية أَي من أَجل رهبته ، وهو منصوب على المفعول له.
وأَرْهَبَه ورَهَّبَه و استَرْهَبَه : أَخافَه وفَزَّعه. ". ( ابن منظور،1410 هـ ،جـ )
ووردت كلمة الرهبة في القرآن الكريم بمعنى الخشية وتقوى الله سبحانه وتعالى وفيما يلي عدد من الآيات التي وردت فيها الكلمة:
{ في نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَة للَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِم يَرْهَبُونَ } (الأعراف: 154).
{ وأَوْفُوا بعَهْدِي أُوف بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُون } (البقرة: 40).
{ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وعَدُوَّكُم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } (الأنفال: 60).
{ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظيمٍ } (الأعراف: 116).
{ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم من الله } (الحشر: 13).
{ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُون فِي الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَباً ورَهَبَاً } (الأنبياء: 90).
" وقد وردت في القرآن الكريم عدة ألفاظ تدور معانيها حول مادة الإرهاب وهي: الخوف وقد وردت مادته مئة وثلاثاً وعشرين مرة، ومادة الرعب وردت خمس مرات، ومادة الروع وردت مرة واحدة فقط، ومادة الفزع وردت ست مرات، ومادة الرهبة وردت ثماني مرات."( اليوسف ، 1425هـ ، ص6 )(7/171)
"كما وردت مصطلحات أخرى تندرج ضمن الإرهاب وهي البغي والطغيان والظلم والعدوان والخيانة والغدر والقتل والسرقة والحرابة، وهي صور ووسائل وأدوات هدامة تشيع الخوف في المجتمع وترهب الآمنين فيه وتعوق المسلمين من حسن خلافتهم في الأرض وحسن عبادتهم لله سبحانه وتعالى وإتقانهم لعمارة الكون، ولكن هناك جريمتين من بين هذه الجرائم أبرزهما الإسلام وحدد العقوبات لهما لأهميتهما وخطورتهما على المجتمع الإسلامي وهما: الحرابة والبغي." ( المصدر السابق ، ص 6 )
الإرهاب اصطلاحاً :
"التطور التاريخي لتعريف الإرهاب:في اتفاقية لاهاي 1907 المادة "22"نصت على أن الضرب بالقنابل من الجو يعتبر عملا غير مشروعا إن كان يهدف إلى إرهاب السكان.
في عام 1934 اتخذت عصبة الأمم قرارا بتشكيل لجنة خبراء لدراسة ظاهرة الإرهاب .
في عام 1946 وبعد عام من إنشائها أصدرت الجمعية للأمم المتحدة قرارا باسم "مبادئ الحقوق الدولية"
صدر قانون "الجرائم التي تهدد السلام والأمن "في عام 1954
أول قرار اتخذته الأمم المتحدة مختصا بمحاربة الإرهاب كان القرار رقم"2197"بتاريخ 18/12/1972
ونص القرار على إجراءات منع الإرهاب الدولي ودراسة أسباب وأشكال الإرهاب.
في سبتمبر 1992 أدرج موضوع "الإرهاب" رسميا في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف وضع تعريف محدد للإرهاب ..ولكن تم تصريف الأمر ب"الاستعانة بلجنة القانون الدولي في هذا المجال
وهناك تعريف الدول العربية للإرهاب الذي تضمنته "الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب"التي وقعت في القاهرة في يوم"22/4/1988" حيث نص التعريف للإرهاب بأنه:"كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيا كانت بواعثه أو أغراضه ويقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر" .وخصصت الاتفاقية العربية فقرة منفصلة لتوضيح أن حالات الكفاح بمختلف الوسائل ضد الاحتلال الأجنبي لاتعد جريمة وفقا لمبادئ القانون الدولي .
من أشهر تعريفات الإرهاب من قبل الغربيين تعريف "جيفانوفيتش"حين قال أن "الإرهاب هو عبارة عن أعمال من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالتهديد مما ينتج عنه الإحساس بالخوف "ومن تعريفات الفقهاء العرب والمسلمين تعريف الدكتور صلاح الدين عامر حيث يقول:"إنه اصطلاح يستخدم في الأزمنة المعاصرة للإشارة للاستخدام المنظم للعنف لتحقيق هدف سياسي وبصفة خاصة جميع أعمال العنف التي تقوم منظمة سياسية بممارستها بخلق جو بعدم الأمن "ويرى بعض الباحثين أن التعريف الأمثل لابد أن يشتمل على أمرين :التجريد والموضوعية والحياد وعدم إغفال أي جانب من جوانب الظاهرة " ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .
"وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهداف سياسية." ( اليوسف ، 1425هـ ،ص7 ) .
"استخدام العنف غير القانوني (أو التهديد به) بأشكاله المختلفة كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والالتزام لدى الأفراد وهدم المعنويات لدى الهيئات والمؤسسات أو وسيلة من الوسائل للحصول على المعلومات أو المال، وبشكل عام استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية" ( المصدر السابق ،ص7)
" والإرهاب في قاموس علم الجريمة A Dictionary of Criminology نمط من العنف يتضمن الاستخدام المنظم للقتل أو التهديد باستخدامه أو الأذى الجسدي والتدبير لإنزال الرعب أو الذعر (الصدمة) بجماعة مستهدفة (أوسع مدى من الضحايا الذين أنزل بهم الرعب) لإشاعة أجواء من الرعب"( المصدر السابق، ص7)
"الإرهاب والعنف والتطرف هو أي سلوك يهدف إلى إشاعة الرعب أو فرض الرأي بالقوة. والفساد والتدمير كلها صور من صور الإرهاب والعنف والتطرف ، كما أن ترويع الآمنين وإحداث الفوضى في المجتمعات المستقرة هو شكل حديث من أشكال الإرهاب والعنف والتطرف الذي أصبح ينمو مع شيوع الأفكار المتطرفة التي تهدف إلى إقصاء الآخر وفرض الأفكار بالقوة والتهديد بالسلاح. على أن هذه الأفكار ليست محصورة بمكان أو زمان معين وإنما أصبح العالم كله مسرحاً لها." ( المصدر السابق ، ص 8 ) .
" الإرهاب هو إستراتيجية عنف محرم دولياً ، تحفزها بواعث عقائدية ، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين ، لتحقيق الوصول إلى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب أو لمظلمة بغض النظر عن ما إذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم أو نيابة عنها أو عن دولة من الدول " (فرج ، 1426هـ ، ص 16 ) .
" الإرهاب كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع والمحرم شرعاً يلجأ إليه الجاني تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر " ( المصدر السابق ، ص 16 )
ويتضح من التعاريف السابقة التي تم استعراضها ارتباط الإرهاب بالعنف وأن الإرهاب لا بد أن يجد فكراً معيناً لكي يساعد على انتشاره هذا الفكر يأخذ نمط التطرف وإقصاء الآخر.
أنواع الإرهاب
" إرهاب عقائدي ويشمل الإرهاب اليساري ، والشيوعي ، وإرهاب اليمين المتطرف ، والإرهاب الصهيوني ، والهندوسي .
إرهاب وطني ويشمل العمليات التي تستهدف إخراج المحتلين أو تدمير آلياتهم ومصالحهم أو اغتيال رموزهم .
الإرهاب الديني أو العرقي أو اللغوي مثل العمليات الإرهابية التي نفذها أفراد طائفة التاميل ضد الحكومة السريلانكية ومثلها عمليات السيخ الهندوسي ضد المسلمين .
الإرهاب المرضي الناتج عن اعتلال عقلي أو نفسي ." ( فرج ، 1425هـ ، ص19 )
ويمكن تقسيم الإرهاب أيضاً إلى أربعة أقسام :
" 1-إرهاب السلطة ضد رعاياها مثل محاكم التفتيش في ألمانيا ، وحملات التطهير الستالينية في الاتحاد السوفيتي .
2-إرهاب المقهورين والمظلومين وتمثله حرب الشعوب التي لا تملك قوة أو مدداً كافياً ليؤهلها للقيام بحرب تحرير ضد عدوها .
3-إرهاب الحروب الأهلية الناتجة عن صراع ديني بين مجموعتين سكانية تعيشان معاً .
4-إرهاب التخريب وهو إرهاب سياسي أيدولوجي غالباً ما ينفذ عن بعد بواسطة منظمة كبيرة مقرها خارج المدينة . " ( المصدر السابق ، ص 19 ) .
"ويمكن تصنيف الإرهاب إلى صنفين رئيسين هما :
أ – صفة الإرهاب من حيث الفاعل ويندرج تحته نوعان من الإرهاب هما :
* الإرهاب الفردي : ما يقوم به شخص واحد أو عدة أشخاص محدودين من أعمال العنف .
* الإرهاب الجماعي : وهو إرهاب طائفة دينية ووطنية ضد أخرى أو شعب آخر أو أمة ضد أخرى ، ويتخذ شكلين هما : إرهاب المجموعات الوطنية ، وإرهاب المجموعات العقائدية .
ب – صفة الإرهاب من حيث الفعل :
* الاختطاف واحتجاز الرهائن ويقوم على مفهوم احتجاز أو أسر شخص أو أشخاص معينين في مكان سري ، وقد يكون الاختطاف للطائرات بكامل ركابها .
* الكمائن وهي من أنواع الهجوم المباغت والمفاجئ يتم بمقتضاه الاستيلاء على الهدف بعيداً عن أنواع الحماية والحراسة التي تخصص له أو يحيط بها نفسه في مكان إقامته أو عمله .
* أسلوب الاغتيال : الأسلوب المعروف بالعنف الإرهابي ويتم عادة للسياسيين والإعلاميين والليبراليين ، وقد يتم لرجال الدين المعارضين لفكر الإرهابيين .(7/172)
* أسلوب العنف الطائفي في مهاجمة بعض المجموعات لبعض المواطنين ، إضافة إلى ممتلكاتهم الخاصة ، كذلك مهاجمة المساجد أو الكنائس أو المعابد .
* التفجيرات وهي عادة تتم لأماكن عبادة ، أو أماكن لإيواء أشخاص ينظر إليهم على أنهم أعداء أو من مواطني دول معادية رغم أن منهم ضحايا لسياسات معينة ، ومسالمين أبرياء ، وقد تحمل تلك التفجيرات رسالة للدولة التي نفذت فيها التفجيرات بهدف الابتزاز السياسي أو الديني أو المالي أو بهدف مواجهة نظام الحكم في تلك الدولة .
وهنالك عمليات أخرى كالقنص والتهديد بالإرهاب والحرب النفسية باستخدام البلاغات الإرهابية الكاذبة .. وغير ذلك "( فرج،1425هـ ، ص 20 )
أسباب الإرهاب
"هناك عوامل قد تهيئ لحدوث الفرصة السانحة للسلوك الإرهابي ومن هذه العوامل ما يأتي :
1. تردي الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
2. قيام أنماط من السلوك المشابهة في بقاع أخرى من العالم.
3. عدم وجود منافذ للجوار.14
4. القناعة باستحالة تغيير الواقع بأي وسيلة أخرى.
5. وجود رموز فكرية تُنَظَّر للسلوك المنحرف.
6. التطرف على المستويات الثلاثة السابق ذكرها15 " ( اليوسف ، 1425هـ ، ص 14 ) .
7-" اتباع الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة والواهية، وأخذ الفتاوى والتوجيهات ممن لا يوثق بعلمه أو دينه، والتعصب لها. مما يؤدي إلى الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى وتوهين أمر السلطان الذي به قوام أمر الناس وصلاح أمور معاشهم وحفظ دينهم.
8- التطرف في محاربة الدين وتناوله بالتجريح والسخرية والاستهزاء والتصريح بإبعاده عن شؤون الحياة، والتغاضي عن تهجم الملحدين والمنحرفين عليه وتنقصهم لعلمائه أو كتبه ومراجعه وتزهيدهم في تعلمه وتعليمه.
9- العوائق التي تقام في بعض المجتمعات الإسلامية في وجه الدعوة الصادقة إلى الدين الصحيح النقي المستند إلى الكتاب والسنة وأصول الشرع المعتبرة على وفق فهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين. فإن التدين فطرة فطر الله عباده عليها، ولا غنى لهم عنه، فمتى حرموا من العلم بالدين الصحيح والعمل به تفرقت بهم السبل وتلقفوا كل خرافة وتبعوا كل هوى مطاع وشح متبع.
10- الظلم الاجتماعي في بعض المجتمعات ؛ وعدم التمتع بالخدمات الأساسية، كالتعليم والعلاج، والعمل، أو انتشار البطالة وشح فرص العمل، أو تدهور الاقتصاد وتدني مداخيل الأفراد، فكل ذلك من أسباب التذمر والمعاناة، مما قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من أعمال إجرامية.
11- عدم تحكيم الشريعة الإسلامية في بلاد غالبية سكانها من المسلمين، وإحلال قوانين وضعية محلها مع وفاء الشريعة بمصالح العباد وكمالها في تحقيق العدالة للمسلمين وغيرهم ممن يستظل بظلها، ويتمتع برعايتها، كيف لا وهي شرع الله الذي(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (سورة فصلت أية 42)
12- نزعة التسلط وشهوة التصدر التي قد تدفع ببعض المغامرين إلى نشر الفوضى وزعزعة أمن البلاد، تمهيداً لتحقيق مآربهم غير آبهين بشرع ولا نظام ولا بيعة. " ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 235 )
ويرى فرج ( 1426هـ ، ص 26 ) أن أسباب الإرهاب تنقسم إلى قسمين :
أولاً : ألأسباب العامة بظاهرة الإرهاب في العالم :
1-أسباب جغرافية :
كاتساع حدود الدول بالنسبة للقوات المسلحة وأجهزة الأمن بها والتي تتسم بالضعف والانتماءات الطائفية لقياداتها ، وتوفر أماكن وتضاريس معينة ومناطق عشوائية تصلح كمخابئ للمترددين وتسهل العمليات الإرهابية .
2-أسباب سياسية :
كالرغبة في تنبيه الرأي العالمي نحو مشكلة يهتم بها المنفذون للعملية الإرهابية ، أو التأثير على القرارات السياسية ، والسياسة الدولية وعدم قدرتها على وضع حد للظلم والاضطهاد والعنصرية والاحتلال ، واستخدام الدول الكبرى لحق النقض ( الفيتو ) ضد أي قرار يصدر لصالح الدول المحتلة والشعوب المستضعفة ، وغياب الديموقراطية والفراغ السياسي .
3-أسباب مرضية ونفسية :
كالفشل والعجز واليأس والإحباط والملل والحياة الروتينية التي يحياها كثير من الشباب ، وسيادة مشاعر الأنانية عند الأغنياء ، وعدم الاحترام المتبادل ، والبطالة ، والاختلالات العقلية التي تؤدي بدورها إلى العنف والحقد على المجتمع وأفراده والانتقام منهم .
4-أسباب إعلامية :
غالبية وسائل الإعلام غارقة في برامج بعيدة عن واقع المسلمين المعاصر ، وبعيدة عن تطلعات الشباب وتلمس احتياجاتهم ومناقشة مشكلاتهم ، وبث الوعي الديني الصحيح مما يجعلها تساهم بشكل أو بآخر في تغذية الشعور بالتطرف والإرهاب .
5-أسباب اقتصادية :
الأزمات الاقتصادية للدول والمجتمعات المطحونة من الأسباب الخطيرة والمحركة لموجات الإرهاب في العالم كما أن التقدم العلمي والتكنولوجي للأنظمة المصرفية في العالم زاد من سهولة انتقال وتحويل الأموال بين شبكات الإرهابيين ولا ننسى معاناة الأفراد في دول العالم الثالث من مشكلات اقتصادية تتعلق بالإسكان والديون والبطالة والفقر والتضخم في الأسعار والمواصلات والصحة .
6-أسباب أسرية :
التفكك الأسري ، وغياب الدور الرقابي للوالدين على الأبناء ، وسوء المعاملة الوالدية ، والتدليل الزائد من الوالدين أو الإهمال ، وغياب لغة الحوار مع الأبناء وإشراكهم في اتخاذ القرارات خاصة إذا كانت تتعلق مباشرة بمصيرهم كالتعليم والعمل والزواج وغيرها .
7-جماعة الأصدقاء :
وهي من أهم العوامل التي تؤدي بالفرد إلى الانخراط في جماعات التطرف والإرهاب لما لها من دور في التأثير والتحريض ، وانخراط الشباب في هذه الجماعات يكون أحياناً بدافع الصداقة أو المصلحة المالية أو نتيجة التأثير والإيحاء من الأصدقاء .
8-أسباب تربوية :
نقص وضعف الثقافة الدينية في المناهج التعليمية من الابتدائي وحتى الجامعة في معظم البلاد الإسلامية ، والاعتماد على طرائق تدريس تقليدية كالتلقين والحفظ وإغفال طرائق التدريس التي تنمي الحوار والابداع والتحليل والتخيل ، كذلك إسناد المواد الدينية لغير المتخصصين في العلوم الشرعية وعدم وضع برامج تربوية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية ومنها الإرهاب ، ولا ننسى التطرف في تدريس المواد الدينية وفهمها بطريقة لا تتفق مع أهداف تعليمها وتعلمها ، كل ذلك هيأ لخروج تيارات متطرفة انتهى بها الحال إلى اللجوء إلى العنف والإرهاب كوسيلة لتحقيق أغراضهم .
9-أسباب فكرية :
يعاني العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة ، وأبرز هذه التيارات : تيار علماني يدعو إلى بناء الحياة على أساس علماني بمنأى عن القيود الشرعية والتقاليد والقيم الاجتماعية ، وفي الجانب الآخر نجد التيار الديني المتطرف البعيد عن الوسطية والاعتدال ، وكل جانب يرفض فكر الآخر ويقاومه وينظر إليه نظرة ريب وشك ، وقد أوحى هذا الوضع لبعض المتطرفين من جهلة المسلمين لسلوك طريق الإرهاب الذي لا يقره الدين ولا يتفق مع أي توجه حضاري . " (فرج ،1426هـ ، ص 26 )
ثانياً : الأسباب الخاصة :
"1-نقص التربية الدينية في بعض المجتمعات الإسلامية .
2-إساءة الطريقة والأسلوب التربوي في توصيل الثقافة الدينية .
3-الجهل بالدين وبفقه العصر ومقتضياته أدى بالشباب إلى إصدار الفتاوى والأحكام والاستشهادات المختلفة للنصوص دون الرجوع للمختصين في العلوم الشرعية .
4-التطورات على الساحة الإسلامية والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .(7/173)
5-الفراغ الديني لدى الشباب وانشغالهم بمسائل فرعية وخلافية في الدين .
6-عدم فهم حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن بيده تغيير المنكر بالقوة .
7-الخضوع التام والطاعة العمياء لقادة الجماعات الإرهابية في بعض المجتمعات الإسلامية وذلك أيضاً لسد حاجاتهم المادية .
8-عدم المشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية . " ( المصدر السابق ، ص32 ) .
سمات الشخصية الإرهابية
"1/الجور على حقوق أخرى يجب أن تُراعى, وواجبات يجب أن تؤدى . حفطها الشارع الحكيم ورتب الأجر على من حافظ عليها
2/ الالتزام المتشدد في محاسبة الناس على النوافل والسنن وكأنها فرائض والاهتمام بالجزئيات والفروع والحكم على إهمالها بالكفر والإلحاد مع فضل من قام بها في الدنيا والآخرة
3/ سوء الظن بالناس ، والنظر إليهم من خلال منظار أسود يخفي حسناتهم على حين يضخم سيئاتهم .
4/ الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة في الدعوة
5/ إدخال الخوف على نفس المسلمين والترويع بالحديث عن مؤامرات تدبر للإسلام وتُحاك ضدهم لا صحة لها
6/ أغلب المتطرفين من أنصاف المتعلمين ومصادر تعلمهم بالسماع من الخطباء والوعاظ مباشرة أو عبر التقنيات الجديدة
7/ يبيح المتطرفون القتل والتمرد على الشعوب الكافرة على حد قولهم وسرقة أموالهم بحجة توزيعها على فقراء المسلمين
8/ تفشي حالات التزاوج بين المتطرفين أنفسهم فكل واحد يزوج ابنته أو أخته لصاحبه ونحو ذلك
9/ العزلة في المجتمع وهجر الوظائف الحكومية وفي بعض الدول التي تفرض التجنيد الإجباري نجدهم يهربون من الخدمة العسكرية .
10/ يحرّمون جميع أنواع التعامل مع البنوك دون تفصيل وإيضاح لتعاملات البنك ويعتبرونها ممن يتعامل بالربا وأنهم محاربون لله .
11/لا يعترفون بالبطاقات الشخصية أو العائلية أو وجود التلفزيون والراديو في حالات نادرة ويعتبرونها وسائل للشيطان ودليل على الفساد بوجه عام دون النظر للفائدة والخير المتاح من استخدامها
12/ تتسم الشخصية المتطرفة على المستوى العقلي بأسلوب مغلق جامد عن التفكير أو ليس لديه القدرة على تقبُل أية معتقدات تختلف عن معتقداتها أو أفكارها أو معتقدات جماعتها وعدم القدرة على التأمل والتفكير والإبداع .
12/ يتسم المتطرَّفون بشدة الانفعال والاندفاع والعدوان والعنف والغضب عند أقل استثارة ، فالكراهية مطلقة وعنيفة للمخالف أو للمعارض في الرأي والحب الذي يصل إلى حد التقديس والطاعة العمياء لرموز هذا الرأي خاصة في فئات الشباب
13/ الخروج على الحكام من أبرز سماتهم ، ومسوغهم في ذلك دعوى تكفيرهم لعدم حكمهم بما أنزل الله أو لمخالفتهم للشرع أو لعمالتهم للغرب الكافر على حد زعمهم.
15/ الحكم على المجتمعات الإسلامية المعاصرة بأنها مجتمعات جاهلية والحكم على من لا يهجرها بالكفر ( أي تكفير المجتمعات القائمة ).
16/ الحكم على بلاد المسلمين التي لا يقيم حاكمها الحدود الشرعية بأنها دار كفر لا دار إسلام .
17/ يرجعون في جذورهم للخوارج في مسألة التكفير والحاكمية
18/ التعصب من أبرز سماتهم حيث يصادرون الآخرين رأيهم ويرون أنهم على حق ومن عداهم على الضلال والباطل .
19/ يبلغ هذا التطرف مداه حين يُسقط المتطرف عصمة الآخرين ويستبيح دمائهم أو أموالهم لأنهم خارجين عن الإسلام وكفار على حد زعمهم .
20/ منهجهم المتطرف يقوم على تفسير النصوص حرفيا دون مراعاة مقاصد الشريعة التي ضمنت حقوق الآخرين وتحريم الاعتداء عليها
21/ يقوم المتطرفون والإرهابيون بتكوين منظمات وخلايا سرية يتم من خلالها التغرير بالشباب للقيام بأعمال عنف وإرهاب ضد القادة أو معارضيهم من العلماء والدعاة الآخرين أو من العلمانيين على حد قولهم ، والهدف إشاعة الفوضى والانتفاضة على مرافق الحكم للوصول إلى سدة الحكم تحقيقا لمبدأ الحاكمية الذي يؤمنون به ويحلمون بالوصول إليه .
22/ لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ولا يؤمنون بحرية الدين أو التعامل مع الأجنبي وبقائه في البلاد الإسلامية التي أقرها إلا سلام مستندين على فهم خاطئ لشبهة إخراج المشركين من جزيرة العرب ولو درسوا سيرة النبي e في تعامله مع اليهود في المدينة وكفار قريش في مكة ، وسيرة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعامله مع اليهودي واحتكامه إلى القاضي في قضية الدرع الذي أخذه اليهودي بحكم القاضي ، لعرفوا خطأ اعتقادهم وسوء فهمهم وجهلهم بمقاصد الشريعة الإسلامية ." ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 50 )
موقف التربية الإسلامية من تحدي الإرهاب
إن موقف التربية الإسلامية من قضية الإرهاب موقف واضح حيث أن الإسلام " يمنع ويعاقب بأشد العقوبات في مسألة أمن وسلامة المجتمع .. فيقطع يد من يرهب الناس ويأخذ أموالهم ( ويقطع من خلاف ) من عمل على مقاطعة الركبان وقطع طرق معاش الناس وأسفارهم .. وكذلك يعاقب بأقسى العقوبات الرادعة من تعدى على أعراض الناس وارتكب الفاحشة .. وهكذا تتواصل العقوبات إلى أعلى سقف في الجريمة ( قتل النفس ) . هذه العقوبات التي تحفظ أمن وسلامة المجتمع لم يترك تشريعها حتى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم .. إنما أنزلها الله تعالى بواسطة الوحي .. أما قي ما يتعلق بإرهاب المسلم للكافر فهذا أيضاً من أوامر الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى الحكم بالعدل يعلم بوسائل ضبط المجتمع ولا يرهب المسلم إلا من اعتدى عليه يقول الله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(البقرة: من الآية194)
ويقول تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )(لأنفال: من الآية60) .
ولكن هؤلاء الأعداء .. ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(لأنفال: من الآية61) أذاً ليس في الإسلام شهوة الانتقام ." ( آل ناجي ، د: ت ، ص 4 ) .
إن التربية الإسلامية تدعو المسلم إلى الاعتدال والتوازن ، لينشأ المسلم سوياً ، وبما يحقق له التربية السليمة بأبعادها المختلفة .
" والتربية الإسلامية ليست تربية مغالية أو مشطة في أساليبها واتجاهاتها ونظرتها إلى مختلف جوانب الشخصية الإنسانية ، بل تنظر إليها نظرة وسطية معتدلة متوازنة شمولية " ( الزنتاني ، 1993م ، ص 446 ) .
"وخاصية الاعتدال في التربية الإسلامية تكفل لفطرة الإنسان وطبيعته وكسبه ، كما شاء الله تعالى : هداية الإيمان والعقيدة فتزكي روحه ، وتفتح الفكر وحريته فتنمي عقله وتزيد معارفه وعلومه ، واتزان الوجدان بانفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه فترقي خلقه " ( المصدر السابق ، ص 446 ) .
و " يكسب الإسلام التربية توازناً بين النظرية والتطبيق ، وتوازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وتوازناً بين أشواق الفرد الروحية وتلبية حاجاته المادية والاجتماعية ، وهذا التوازن في التربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء " ( غبان وآخرون، 1415 هـ ، ص 111 ) .
سبل الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب
إن الوقاية والعلاج من مشكلة الإرهاب والتطرف الديني تكون بالأمور التالية :(7/174)
"1) المبادرة إلى إزالة الأسباب المؤدية للجريمة، والعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والاحتكام إلى شرع الله تعالى وتطبيقه في مختلف شؤون الحياة، فلا شرع أو في ولا أكمل منه في جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم،ولا أرفق منه ولا أقوم بالعدل ولا أرحم ) وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ( سورة المائدة أية 50)
2) بيان فداحة الضرر العام والخاص الذي يصيب الدولة والأمة والمجتمع والأفراد من جراء أعمال العنف والتخريب والتدمير.
3) التربية الواعية الهادفة المخطط لها من أهل العلم والصلاح والخبرة، ووضع منهاج عملي واضح سهل ميسر لتحقيق ذلك.
4) تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة، وذلك كمصطلح الجهاد، ودار الحرب، وولي الأمر، ما يجب له وما يجب عليه، والعهود: عقدها ونقضها. " ( العبد الجبار ، د: ت ، ص 239) .
5) تطبيق مبدأ حسن التعامل والحكمة في التعامل مع الآخرين ، فبه تسعد الأمة ، وتسلم من الانهيار والسقوط ، ولا شك أن الحياة تحتاج إلى التعامل مع المسلمين و غير المسلمين من عموم الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين حيث لا يمكن أن تتم بدونه ، والتعامل الصحيح يسهم في تكوين نظام دقيق هو الأساس في نجاح التعايش وتقبل أفكار الآخرين من المسلمين وغيرهم والعدل معهم وعدم ظلمهم ، قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)
وإذا كان هذا مع الكفار ، فهو مع المسلمين من باب أولى .
ومن الملاحظ سوء الفهم في جانب التعامل مع أهل الكتاب (من خلال الاطلاع على الأحداث في السنوات الأخيرة من استباحة دمائهم وأموالهم والتعدي عليهم بالقتل والتفجير) ، مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً». "(البخاري ، 6/3097)
وقد نسي الكثير هذا الحديث وغيره أو تناسوه بحجة العمل بأحاديث إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وكأنهم لا يعرفون أن قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافراً مشركاً مجوسياً ومع ذلك فقد أدخله عمر رضي الله عنه لا لجزيرة العرب فقط بل إلى المدينة للحاجة إليه في مهنته ، حتى كتب الله الشهادة لعمر في المدينة وهو يصلي رضي الله عنه وأرضاه .
6)إيجاد الحوار المفتوح من رجال الفكر الديني والعلماء لكل الأفكار الواردة أو المتطرفة ، ومناقشة بعض الجوانب التي تؤدي إلى التطرف .
7)إشغال الفراغ الفكري للشباب وتوجيههم وتوعيتهم توعية دينية وإعلامية كافية .
8)معالجة أسباب التطرف والغلو كالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأسرية ( الخلافات الأسرية ، الطلاق ، غياب الأب أو الأم عن القيام بدورهم في حياة الطفل ، الحرمان ، سوء المعاملة ، الفقر ، البطالة ، الجهل ، ضعف الدور التربوي للمؤسسات التربوية ) .
9)العمل بمبدأ التسامح ، وتقبل الآخرين كما هم ، والانفتاح الفكري .
10)الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( باعتبار الغلو والتطرف منكر يجب إنكاره والدعوة إلى تركه ) وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .
5=
التربية الإسلامية وتحدي غياب دور المرأة
* مكانة المرأة في الإسلام
* الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل
* المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير
* كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم
مكانة المرأة في الإسلام
"قلما نجد في أي دين من الديانات أو نظام من المجتمعات ذلك التكريم الذي أعطاه الإسلام للمرأة . ففي كل المجتمعات التي سبقت ظهور الإسلام على اختلاف زمانها ومكانها لم تكن المرأة تتمتع بنظرة محترمة . وكانت مكانتها الاجتماعية تتسم بالدونية بدرجات متفاوتة في هذه المجتمعات تشتد حيناً وتخف حيناً آخر " ( مرسي ، 1996م ، ص 157 ) .
ثم جاء الإسلام فرفع مكانة المرأة ، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه ،
حيث أثبت لها حقوقها المسلوبة في الإرث والنفقة وفي الحياة وفي التقدير والبر والإحسان وفي البيع والشراء وفي سائر العقود . وقبل ذلك حفظ لها في صغرها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية وفي هذا حفظ لحقوقها المادية والمعنوية .
فجعل النساء شقائق الرجال ، وخير الرجال خيرهم لأهله .
" ويبرز تكريم الإسلام للمرأة في جميع شؤون حياتها منذ ولادتها ، وحتى بعد وفاتها ، ومن صور التكريم :
1-خلق الله الخلق ، وكلفهم بعبادته ، وجعلهم مسؤولين عن ذلك رجالاً ونساءً ، ولم يفرق بينهم ، ورتب الجزاء على هذا التكليف ، قال تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء:123،124)
2-من حكمة الله تعالى - وهو العليم بخلقه - أن جعل لكل جنس منهم سمات تغلب عليه ، وصفات تظهر عليه ، فالعاطفة الجياشة ، والإحساس الرقيق ، والتأثر السريع من صفات المرأة الجبلية ، ولذا جعل الله سبحانه التكليف مناسباً لصفاتها ، فلم يكلفها بما لا تطيق ، وجعل للرجل القوامة عليها بمقتضى تكليفه وصفاته التي ميزه الله بها ، فلله الحكمة البالغة .
3-عظم الأجر برعايتها صغيرة محبوبة ، روى مسلم ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عال جاريتين حتى تبلغا ، جاء يوم القيامة أنا وهو " وضم أصابعه . (16)
4-أرشد الإسلام إلى ضرورة تربيتها منذ الصغر على الدين والأخلاق والطهر والعفاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " (17)
5-ولأهمية حياتها مع زوجها أمر الإسلام باستشارتها فيمن تقدم لخطبتها ، وحدد معالم من يقبل وهو الدين والخلق ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "
6-أمر بتكريمها ورعايتها من قبل زوجها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " (18)
وقال صلى الله عليه وسلم : " وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، "(19)
7-أما كونها أماً فقد أوجب لها من الحقوق ما لا يخطر على نظام بشري قديماً وحديثاً ، ويكفي أن الله سبحانه جعل حقها بعد حقه جل وعلا فقال : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (الإسراء:23 ، 24 )
(وزارة المعارف ، 1422هـ ، ص 153 ) .(7/175)
" ويسوي الإسلام بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانية الانطولوجية ( الوجودية ) ، حيث خلق الله الاثنين من طينة واحدة ومن معين واحد ، فلا فرق بينهما في الأصل والفطرة ، ولا في القيمة والأهمية ، والمرأة هي نفس خلقت لتنسجم مع نفس ، وروح خلقت لتتكامل مع روح ، وشطر مساو لشطر .
قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً*أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى*ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى*فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) (القيامة:36– 39 )
وقال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً)(فاطر: من الآية11) والإسلام يقرر أن قيمة أحد الجنسين لا ترجع إلى كون أحدهما ذكراً والآخر أنثى بل ترجع إلى الكفاية الشخصية والعمل الصالح ، يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
فهذه الآية الكريمة تنص فيما تنص على أن ليس للجنس من حساب في ميزان الله إنما هناك ميزان واحد يعرف به فضل الفرد وتتحدد به قيمته (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : من الآية 13 ) وهكذا يقرر منهج الله سقوط جميع الاعتبارات الأخرى المزعومة لأحد الجنسين دون الآخر ، ويرفع ميزاناً واحداً بقيمة واحدة ، فلا اعتبار للذكورة والأنوثة في حد ذاتها ، وإنما الاعتبار بالعمل الصالح وحده والذي يجزى عليه الجميع ذكراناً وإناثاً ، بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس ، فالكل سواء في الإنسانية بعضهم من بعض والكل سواء في الميزان ، يقول تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(آل عمران: من الآية195) وهكذا يمحو الإسلام كل التصورات السخيفة التي كانت تتصورها الإنسانية عن المرأة والتي كانت ترى فيها منبعاً للرجس والشر والبلاء ، وهكذا يعطي الإسلام للمرأة حقوقها كاملة في القيمة الإنسانية ، ويرد إليها كرامتها ، بعد أن كانت مجردة منها في الحضارات السابقة التي سلبتها كل خصائص الإنسانية وحقوقها . ( الخشت ، 1404هـ ، ص 85 ) .
الفوارق الجوهرية بين المرأة والرجل
قال الله تعالى في محكم التنزيل : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )(آل عمران: من الآية36) .
" وجرياً على سنة الله تعالى في الطبيعة كان لابد أن يختلف كل من الرجل والمرأة في طبيعة التكوين والفطرة ، حتى إذا ما التقى الاثنان وجد كل منهما عند الآخر ما ليس موجوداً عنده و عند أمثاله . ولذا نرى كلاً من الاثنين يسعى سعياً حثيثاً إلى الاتحاد بصنوه المتمم له ، ويلتمس السعادة والكمال في الامتزاج به" ( الخشت ، 1404هـ ، ص6 ) .
ويمكن إجمال الفوارق بين المرأة والرجل في قسمين :
القسم الأول ، بنيان الجسم ووجوه النشاط الفسيولوجي :
كالبلوغ وتغيراته ، والحساسية البدنية ، والحمل ، والحيض ...
القسم الثاني ، السمات النفسية والعقلية :
كسرعة الاستجابة للدوافع ، وسرعة التأثر العاطفي ، والأمومة ...
ومن خلال هذا تتضح " طبيعة التباين الموجود بين المرأة والرجل ، وكيف أن هذا التباين لا يأتي فقط من الشكل الخاص للأعضاء الجنسية والحوض ، ومن وجود الرحم والحيض والحمل وخلافه . بل ينبع من طبيعة أكثر عمقاً ؛ حيث ينشأ الخلاف بين الجنسين من تكوين الخلايا والأنسجة ، ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيميائية محددة تفرزها الغدد المختلفة . فالأنثى تحمل طابعاً أنثوياً في كل خلية من خلايا جسمها ، وفي كل هرمون من هرموناتها ، وفي كل عضو من أعضائها ، وفوق كل شيء في جهازها العصبي . والرجل أيضاً يحمل طابعاً ذكورياً في كل هذه النواحي . " ( الخشت ، 1404هـ ، ص79 ) .
وما سبق من الفروق والاختلافات الوظيفية " تتصاعد حتى تصبح اختلافات في النفس والعقل والوجدان " ( المصدر السابق ، ص79 ) .
" وبناءً على هذه الاختلافات العميقة والمتشعبة بين طبيعة المرأة وطبيعة الرجل كان منطقياً أن ينشأ اختلاف حاسم بينهما في المهمة والأهداف ، حتى يواجه كل منهما مطالب الحياة مواجهة عادلة حسب إمكانياته وقدراته . " ( المصدر السابق ، 79 ) .
المرأة المسلمة بين التهميش والتحرير
"ساوى الإسلام بين الذكر و الأنثى في حق التعليم والعمل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(النساء: من الآية124) وساوى كذلك بين الجنسين في اكتساب أجر يقابل نوع العمل (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)(النساء: من الآية32) وقد ساوى الإسلام بين الذكر والأنثى في الولاية ، فقال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة: من الآية71) وفي تولي المسؤوليات ، إذ زادت الآية الكريمة تقول : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(التوبة: من الآية71) وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطة خاصة من أهم سلطات الدولة في إدارة الأمن عهد الله بها إلى المؤمنين والمؤمنات على السواء " ( الأسرة ، 1424هـ ، ص28 ) .
"ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ولّى أم الشفاء بنت عبد الله ، على مرفق اقتصادي مهم هو حسبة السوق بما يتطلبه ذلك من مراقبة للأسعار وقمع الغش " (20)( المصدر السابق ، ص28 ) .
" كما روي أن سمراء بنت نهيك الأسدية(21) كانت تمر في السوق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وبيدها سوط يرمز إلى هيبتها ويشير إلى وظيفتها الأمنية . وبصفة عامة فإن النساء لم يكن مغيبات عن المهام السامية في عهد الإسلام الأول . وقد أفردت كتب الحديث نساء راويات ومفتيات .( المصدر السابق ، ص28 ) .
" واشتهرت المرأة بالتثبت والصدق في رواية الحديث . ولا يعرف في تاريخ الرواية أن واحدة من النساء كانت من بين من ثبت عليه وضع الحديث الكاذب . وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من مكثرات رواية الحديث ، حتى أنها روت ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث . وعنها قال عروة بن الزبير : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة (22). فكانت عالمة تدرس الأبناء في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما إلى أن توفيت رضي الله عنها ." المصدر السابق ، ص28 ) .
تلك مقدمة أوضح فيها أن المرأة في الإسلام وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم لم تكن مهمشة ، بل كانت تحظى بحقوقها كاملة وهي طفلة أو شابة أو زوجة أو أماً .
وبالنسبة إلى التهميش فلا يمكن الحديث عنه دون فهم المجتمع الذي نعيش فيه ، فإذا أردنا الحديث عن تهميش المرأة في المجتمع السعودي فيجب علينا أولاً فهم طبيعة المجتمع السعودي وتعدد ثقافاته بين مناطق المملكة المختلفة في الريف أو المدن ، وإذا حصل هذا الفهم فقد تظهر لنا بعض صور التهميش الناتجة عن تصورات خاطئة وثقافات لا تتفق مع وجهة النظر الشرعية ، ومن تلك الصور على سبيل المثال لا الحصر :
1-النظرة الدونية للمرأة في بعض مناطق السعودية ، والخجل من ذكر اسمها .
2-منع المرأة من المطالبة بحقوقها دون حضور ولي أمرها ، الأمر الذي يوضح عدم اعتبار شخصيتها واستقلال مسؤوليتها .
3-اختيار الزوج المناسب لها ( من وجهة نظر وليها ) دون اعتبار موافقتها أو رفضها .(7/176)
4-منع المرأة من ممارسة بعض الأعمال كقيادة السيارات ، وإلزامها بالركوب مع سائق خاص ، أو مع ولي أمرها . ( أتفق مع من يمنع المرأة من قيادة السيارة في الوقت الراهن ، حتى تتم تهيئة المجتمع ووضع الضوابط وتحسين الوضع الأمني والحد من الفوضى المرورية ، الأمر الذي يصعب توفيره حالياً على الأقل ) .
5-تفضيل الولد على البنت ، وتقديم العديد من التسهيلات له على حساب التفريط في حقوق البنات ( شراء السيارة ، المصروف الشخصي ،الهدايا والهبات ) .
6-عدم البت في كثير من القضايا الزوجية ، أو التأخر في ذلك ، أو عدم تنفيذ الأحكام القضائية ، الأمر الذي يؤدي إلى تضييع كثير من حقوق المرأة في القضايا التي تخصها كالنفقة ، والحضانة ... .
7-عدم تخصيص محاكم شرعية خاصة بقضايا الأسرة والزواج وما يتعلق بها .
8-عدم تخصيص فروع من المؤسسات الحكومية لتقديم خدماتها للنساء ( مع تخصيص المرأة بالعمل في هذه الفروع ) .
وتكمن خطورة تهميش المرأة في ظهور المطالبات بحقوق ليست لها والدعوة لها بالبحث عن العمل بجانب الرجل ودعوتها للسفور وترك حجابها ... "فإن أعداء الأمة الإسلامية ما برحوا يحاربون دين هذه الأمة ويسعون في سبيل ذلك بكل ما أوتوا من قوة مادية ، وفكرية ، وسياسية ، واقتصادية ، وقد تفتقت قرائحهم في هذا المجال عن أمر مهم وخطير ، وجعلوا له عناوين براقة ، مثل : (قضية المرأة ) أو (حقوق المرأة ) . " ( العبد الكريم ، 1425هـ ، ص5 ) .
كيف نفعّل دور المرأة في بناء المجتمع المسلم
" القول بأن المرأة هي نصف المجتمع ... حقيقة اجتماعية لا شك فيها ، ولكن هل الأساس القاعدي لنا للمناداة بضرورة تعليمها وتمتعها بما يتمتع به شريكها الرجل من الحقوق والمزايا وما يلتزم به من الواجبات والتكاليف ؟ إننا لو اقتصرنا على هذه المقولة فإنما نمهد منذ البداية إلى فشل القضية وخسارتها ، لأننا بذلك نحصرها في نطاق كمي بحت ... القضية إذن ( إنسانية )...( اجتماعية )...( دينية )" ( علي ، 1412هـ ، ص243 ) .
وفيما بعض التصورات التي من شأنها تفعيل دور المرأة المسلمة لبناء المجتمع الإسلامي :
1-التعريف بموقف الإسلام من قضايا المرأة وبخاصة ما يتعلق بحقوقها وواجباتها من المنظور الإسلامى .
2-المشاركة الفعالة في المؤتمرات الدولية التي تعقد بشأن المرأة وطرح البديل الإسلامى في المسائل الاجتماعية .
3-أن تولي السلطات الصحية جُلَّ جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية . (23)
4-تمكين المرأة من ممارسة الأعمال التي لا تتنافى مع الشريعة المطهرة ، وقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تقوم ببعض الأعمال كما في حديث هشام بنِ عُرْوَةَ عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن عبد الله عن رَيْطَةَ بنتِ عبدِ الله امرأةِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ أُمّ وَلَدِهِ وكانتِ امرأةً صَنَاعَةً وليسَ لعبدِ الله بنِ مسعودٍ مالٌ، وكانَتْ تُنْفِقُ عليهِ وَعَلَى وَلَدِهِ من ثَمِنِ صَنَعْتَهَا، فقالتْ: والله لَقَدْ شَغَلْتَنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ عن الصَّدَقَةِ فما أسْتَطِيْعُ أَنْ أَتَصَدَّقَ مَعَكُمْ، فقالَ: ما أُحِبُّ إِنْ لم يَكُنْ لَكِ في ذَلِكَ أجرٌ أَنْ تَفْعَلِي، فَسَأَلَتْ رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ وهُو فقالتْ: يا رسولَ الله إِنَّني امرأةٌ ذاتُ صَنْعَةٍ أَبِيْعُ مِنْهَا، وليسَ لِي ولا لِوَلَدِي ولا لِزَوْجِي شىءٌ، فَشَغَلُونِي فلا أَتَصَدَّقُ فَهَلْ لِي في ذَلِكَ أَجْرٌ، فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ في ذَلِكَ أَجْرُ ما أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْفِقِي عَلَيْهِمْ».(24)
5-إقامة مستشفيات ومرافق وأسواق تجارية ومؤسسات حكومية وأهلية خاصة بالنساء أو كفروع تختص بتقديم الخدمة للنساء على غرار المدارس والجامعات .
6-تقديم الحلول العملية لتسهيل عمل المرأة في بيتها لتحسين دخلها وإشغال وقتها وتنمية قدرتها في الاعتماد على نفسها ، كالخياطة ، والأعمال اليدوية البسيطة ، وتصميم برامج الحاسوب ، وطباعة الأبحاث والتقارير ، وتقديم الدروس الخاصة لبعض النساء أو الأطفال ، وتجهيز بعض أنواع الطعام ... على أن تتولى عرض الأعمال وتسويقها وجني أرباحها مؤسسة اجتماعية تعنى بهذا الأمر وفق ضوابط محددة .
7-إقامة دورات تدريبية (وفق حاجة المجتمع) لتنمية مهارات المرأة في معاهد ومؤسسات تعليمية معترف بها وعلى قدر عال من الجودة في التدريب .
6=
* مفهوم العولمة
* نشأة العولمة
* الفرق بين العولمة وعالمية التربية _....الإسلامية
* سلبيات العولمة وإيجابياتها
* كيف نستفيد من إيجابيات العولمة -..ونتقي سلبياتها
* مستقبل العولمة
مفهوم العولمة
العولمة لغة :
" العولمة ثلاثي مزيد، يقال: عولمة على وزن قولبة،وكلمة "العولمة " نسبة إلى العَالم -بفتح العين- أي الكون، وليس إلى العِلم -بكسر العين- والعالم جمع لا مفرد له كالجيش والنفر" ( الرقب ، 1423هـ ، ص 4 )
" العالَمُ : الخَلْقُ كُلُّهُ " ( الفيروز بادي ، 1993م )
العولمة من حيث اللغة كلمة غريبة على اللغة العربية ويقصد منها عند الاستعمال- اليوم- تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله .
العولمة اصطلاحاً :
إن كلمة العولمة جديدة، وهي مصطلح حديث لم يدخل بعد في القواميس السياسية والاقتصادية ، ومن تعاريف العولمة : " العولمة هي الحالة التي تتم فيها عملية تغيير الأنماط والنظم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ومجموعة القيم والعادات السائدة وإزالة الفوارق الدينية والقومية والوطنية في إطار تدويل النظام الرأسمالي الحديث وفق الرؤية الأمريكية المهيمنة، والتي تزعم أنها سيدة الكون وحامية النظام العالمي الجديد " ( الرقب ، 1423هـ ، ص 9 )
ومن تلك التعاريف أيضاً ما اختاره الشيخ ناصر العمر :
"اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق" ( العمر ،1424هـ ، ص 2 )
وأعتقد أن التعريفين السابقين يوضحان المفهوم العام للعولمة ، ولذا اكتفيت بذكرهما لبساطتهما ووضوحهما .
نشأة العولمة
"اختلف الباحثون في التأريخ لنشأة العولمة على قولين:
الأول:
يرى هؤلاء الباحثون أن ظاهرة العولمة قديمة، عمرها خمسة قرون، أي ترجع إلى القرن الخامس عشر- زمن النهضة الأوربية الحديثة-. حيث التقدم العلمي في مجال الاتصال والتجارة .
الثاني:
يرى فريق آخر أنً العولمة ظاهرة جديدة، فما هي إلا امتداد للنظام الرأسمالي الغربي بل هي المرحلة الأخيرة من تطور النظام الرأسمالي العلماني المادي النفعي، وقد برزت في المنتصف الثاني من القرن العشرين نتيجة أحداث سياسية واقتصادية معينة منها: انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1961م ثم سقوط الاتحاد السوفيتي سياسياً واقتصادياً عام 1991م، وما أعقبه من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ومنها: بروز القوة الاقتصادية الفاعلة من قبل المجموعات المالية والصناعية الحرة عبرة شركات ومؤسسات اقتصادية متعددة الجنسيات مدعومة بصورة قوية وملحوظة من دولها." ( الرقب ، 1423هـ ، ص 10 )(7/177)
ومن الملاحظ أن العولمة بدأت من زمن النهضة الأوربية الحديثة كبداية عامة لم تتضح معالمها إلا بعد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتربع على عرش الصدارة في العالم المعاصر وانفرادها بقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية ، ولذا يستخدم البعض لفظ الأمركة بدلاً من العولمة .
الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية
التربية الإسلامية تربية عالمية بعيدة عن التعصب العرقي أو الاجتماعي ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات: من الآية 10)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ( سورة الحجرات 13)
وخلافاً للتربيات الوضعية التي تتجه إلى أمة من الأمم أو جماعة من الناس ، فإن التربية الإسلامية " تربية عالمية ، والإسلام رسالة عالمية جاءت للناس كافة ، وعالمية الرسالة الإسلامية تعني أيضاً عالمية التربية الإسلامية " ( مرسي ، 1996م ، ص 79 ) .
وعالمية التربية الإسلامية تحترم خصوصيات كل شعب من الشعوب وكل أمة من الأمم ، ما دامت تلك الخصوصيات وطرق المعيشة والعادات الاجتماعية والاقتصادية ... لا تخالف الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى ليهتدي بها العباد .
كما أن عالمية التربية الإسلامية تنتشر برغبة الشعوب والأمم في محاسنها انتشاراً تلقائياً لا إجبار فيه ولا إكراه ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (سورة البقرة: من الآية 256) .
وفي المقابل نجد أن العولمة أو الأمركة لا تحترم خصوصيات الشعوب المختلفة ، كما أنها تلجأ في بعض أمورها إلى القوة والإجبار والإكراه لفرض ما تريد .
وبهذا يتضح الفرق بين العولمة وعالمية التربية الإسلامية .
سلبيات العولمة وإيجابياتها
"لقد روَّج دعاة العولمة في الغرب وعملاؤهم في المنطقة العربية مجموعة من المقولات لصالح العولمة،ومن ذلك: أنّ العولمة تبشر بالازدهار الاقتصادي والتنمية والرفاهية لكل الأمم والعيش الرغيد للناس كلهم، والانتعاش،ونشر التقنية الحديثة، وتسهيل الحصول على المعلومات والأفكار عبر الاستفادة من الثورة المعلوماتية الحديثة، وإيجاد فرص للانطلاق للأسواق الخارجية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية التي تتمتع بكفاءة عالية، وبالتالي ينتعش الاقتصاد الوطني والقومي.
ولكن سرعان ما اكتشف الباحثون والمفكرون أن تلك المقولات ما هي إلا شعارات استهلاكية جوفاء" ( الرقب ، 1423هـ ، ص 20 ) .
وما روّج له دعاة العولمة من إيجابيات يفتقد للتطبيق العملي في الواقع لأن تلك الإيجابيات تنصب غالباً للطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف .
وللعولمة الكثير من السلبيات التي تتعلق بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ونكتفي هنا بذكر الآثار العقدية للعولمة :
"1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها ...
2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله...
3- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة...
4- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها...
5- تقليد النصارى في عقيدتهم
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة... " ( العمر ،1424هـ ، ص 29 )
كيف نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها
لكي نستفيد من إيجابيات العولمة ونتقي سلبياتها علينا أن نستخدم المنهج الانتقائي ، وذلك بقبول - فقط - ما لا يخالف هويتنا الدينية وثوابتنا التي لا نساوم عليها ، وبرفض ما يعارض ذلك .
ويعتبر ذلك نشراً لثقافة المقاومة وليس منعاً للعولمة بخيرها وشرها .
"و ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة "( العمر ،1424هـ ، ص 27 )
"وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)25، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل)26." ( المصدر السابق ، ص 28 )
"بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)27." ( المصدر السابق ، ص 28 )
"فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها." (المصدر السابق ، ص 29 ) .
مستقبل العولمة 28
الغيب لله..
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)( سورة النمل الآية 65 )(7/178)
ولكن هناك سننا ربانية تجري في حياة البشر، وهي سنن لا تتخلف ولا تتبدل، وهناك وعد ووعيد من عند الله، لا يتخلفان كذلك، وهناك واقع مشهود، يمكن رؤيته وتقدير احتمالاته على ضوء تلك السنن، وذلك الوعد والوعيد..
وكلها تقول إن هذه العولمة، سواء كانت - كما قلنا في نهاية الفصل السابق - أمريكية بحتة، أو يهودية بحتة، أو خليطا متجانسا متعاونا من الأمريكية واليهودية، لن تعيش طويلا كما يتمنى أصحابها!
إنها بادئ ذي بدء مخالفة لقدر مسبق من أقدار الله، ألا يكون الناس أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (سورة هود الآية118 - 119) (.. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ..) (سورة المائدة : الآية48)
فكل محاولة لصبغ الناس كلهم صبغة واحدة، تفرضها القوة الغاشمة، هي محاولة فاشلة منذ البدء، وإن قدّر لها شيء من النجاح في بعض أرجاء الأرض لفترة محدودة من الزمان.
فاشلة لأنها مخالفة لإرادة ربانية أزلية، والله هو الذي يقدر المقادير، وليس البشر، وإن ظنوا في لحظات غرورهم وتألههم أنهم قادرون!
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ( سورة فصلت الآية:15 - 16) (.. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (سورة الأنبياء الآية:44) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة الرعد الآية :41)
وهي فاشلة ثانيا لأنها مخالفة لسنة أخرى من سنن الله، وهي مداولة الأيام بين الناس (بمعنى النصر والهزيمة، والتمكين والزوال).
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)( سورة آل عمران الآية :140)
ثم إنها - في الواقع المشهود الآن - تجد مجابهة ومعارضة في أكثر من مكان! ففرنسا وألمانيا في أوربا تستنكفان أن تصوغ لهما أمريكا طريقة حياتهما، وتقفان بشدة أمام كل محاولة لمحو شخصيتهما، وطبعهما بطابع غير طابعهما الذاتي، سواء في عالم اللغة أو الفكر أو الثقافة أو السلوك اليومي، فضلا عن السياسة والاقتصاد.
وفي آسيا توجد الصين واليابان، وكلتاهما قوة راسخة في الأرض، لا يسهل محوها، ولا إخضاعها، ولا طمس معالمها، ولا إذابة شخصيتها كما تشتهي العولمة.
وذلك فضلا عن الحركة الإسلامية، المكبوتة الآن بكل وسائل الكبت، ولكنها حية تستعصي على كل محاولة لوأدها، أو منعها من الانتشار.
* * *
وعلى فرض أن العولمة أمريكية، فأمريكا ذاتها مهددة - من داخلها - بالانهيار! ولسنا نحن الذين نقول ذلك إنما تقوله صحفهم وكتابهم ومفكروهم.
حقا إن القوة المادية لأمريكا من الضخامة بحيث يصعب حتى على القوى العالمية الأخرى مجاراتها أو التصدي لها، ولكن القوة المادية ليست هي في النهاية التي تقرر مصاير الأمم، أو على الأقل ليست وحدها التي تقرر مصايرهم.. وحين يتفشى الترف، ويتفشى الترهل (مما نبه إليه كلنتون ذاته في كلمات وجهها إلى شعبه) وحين تتفشى الفوضى الجنسية والشذوذ والانحراف، ويتعالن الشواذ بشذوذهم ويطلبون من دستورهم وبرلمانهم أن يقر بشرعيتهم وشرعية سلوكهم المنحرف.. وحين تتفشى الخمر والمخدرات والجريمة.. فكل ذلك من عوارض الدمار، مهما كانت القوة المادية..
ولسنا نقول إن أمريكا ستنهار غدا صباحا! فإن ما لديها من عوامل القوة الإيجابية يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب سنة الله. ولكنا نقول - فقط - إن هذا الأمر لا يتوقع كثيرا أن يطول.
وأما إن كانت العولمة يهودية، تعمل من خلال أمريكا، وهو الأرجح في نظرنا، فلليهود في كتاب الله وعد ووعيد: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا...) (سورة الإسراء الآية:4 - 8)
ويستوي - كما أشرنا من قبل - أن تكون المرتان المذكورتان تاريخيتين، أو تكون إحداهما تاريخية والثانية هي الواقعة اليوم.. فقوله تعالى: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) فيه الفيصل فيما نحن بصدده. فالآيات تقول إنه كلما علا اليهود في الأرض وأفسدوا - سواء مرة أو مرات - جاء العقاب الرباني فأنزلهم من علوهم وأجرى عليهم وعيده: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)( سورة الأعراف الآية:167)
وهم اليوم في قمة العلو.. ولم يسبق لهم في تاريخهم كله أن علوا وسيطروا بمقدار ما لهم اليوم من العلو والسيطرة في أرجاء الأرض.
والله هو الذي يقدر، وله حكمته في تقديره سواء عرفنا نحن الحكمة أم لم نعرفها.
وله حكمة ولا شك في الإملاء لليهود وتمكينهم في الأرض: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ..) (سورة آل عمران الآية:112)
فهم ممكنون بحبل من الله ابتداء، أي بتقدير من الله وإمداد، ثم بحبل من الناس الذين يعينونهم على تنفيذ مخططاتهم.
أما الحكمة في ذلك فلا نعرفها، لأنها ليست مذكورة في كتاب الله ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ربما كان الله يعاقب البشرية التي كفرت اليوم كفرا لم تكفره من قبل، فأنكرت وجود الله (في جزء غير قليل منها) وشردت عن هديه (في الجزء الأكبر منها) ويعاقب الأمة الإسلامية بالذات على تفريطها وتقاعسها.. يعاقب الجميع بتسليط اليهود عليهم تحقيقا لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)( سورة الأنعام الآية:65)(7/179)
وأيًّا تكن الحكمة فالذي يهمنا هنا أن هذا العلو والإفساد في الأرض محدود بزمن معين يقدره الله، وليس طويل الأمد، لأنه استثناء من القاعدة، وليس هو القاعدة، وإن تكن القاعدة من تقدير الله، والاستثناء كذلك من تقدير الله..
* * *
وليس معنى هذا كله أن العولمة أمر هين ولا خطر منه، ولا يستأهل منا اهتماما ولا حركة..
إنه عاصفة جائحة هوجاء..
والعاصفة تهدأ بعد حين، ولكنها تكون قد دمرت ما دمرت، وخربت ما خربت، مما قد يحتاج في إصلاحه إلى عشرات السنين..
وإنما نقول للناس في العالم الإسلامي تحصنوا قدر الطاقة من العاصفة الهوجاء. تحصنوا أولا بالتمسك بدينكم وأخلاقكم وثوابتكم، ثم تحصنوا ثانيا ببذل أقصى الجهد في تحصيل العلم والتقنية وزيادة الإنتاج، لعلكم بذلك تقللون آثار الدمار الذي تخلفه العاصفة.
ثم نقول لهم كما قال موسى عليه السلام لقومه وهم في أتون الابتلاء: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( سورة الأعراف الآية:128)
9
وفي ختام هذا البحث أشير إلى أهمية معالجة قضايا التربية الإسلامية والتحديات المعاصرة التي تواجهها بطريقة موضوعية ونظرة واقعية ، خاصة وأن التربية الإسلامية تنفرد بينابيع متدفقة لكل بحث تربوي ينهل منها ويحسن استغلالها ويجيد استنباط الفوائد منها إذا سلك طريق الدقة والأمانة وحسن التأمل والنظر والبعد عن الهوى والتجرد التام لما يفيده النص والربط بين النصوص الشرعية مع استخدام خطوات البحث العلمي المعروفة .
وفي التربية الإسلامية كنوز تحتاج لمن يصدق معها ويحسن النية في التصدي لمهمة العناية بالجوانب التربوية التى تحويها ليقدمها للعالم فيستفيد منها علماء النفس ، وعلماء الاجتماع ، وعلماء التربية ، بل ليستفيد منها كل إنسان ليربي نفسه ومن تحت يده من الأولاد ذكوراً وإناثاً .
والباحث يأمل في نهاية بحثه أن يكون هذا البحث قد قدم جزءاً ولو يسيراً في موضوع التربية الإسلامية وتحديات العصر .
ويأمل الباحث حصول الفائدة من هذا البحث للباحث أولاً ، ولكل من يقرأ البحث ، والباحث يسأل الله التوفيق والسداد ، ويختم بحثه بالصلاة والسلام على سيد الأنام محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم .
`
x
1. ابن القيم ، محمد بن أبي بكر ( د : ت ) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ، دار المعرفة .
2. ابن تيمية ، أحمد بن عبد الحليم ( د : ت ) فتاوى ابن تيمية ، دار عالم الكتب .
3. ابن حميد ، صالح بن عبد الله ( د : ت ) أصول الحوار وآدابه في الإسلام ، مكتبة صيد الفوائد .
4. ابن منظور ، جمال الدين محمد (1410هـ ) لسان العرب ،دار صادر ، بيروت .
5. أبو سليمان ، عبد الوهاب إبراهيم ( 1416 هـ ) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة ، ط 6 ، دار الشروق ، جدة .
6. أحمد ، أحمد بن حنبل ( د : ت ) مسند الإمام أحمد ، دار إحياء التراث العربي .
7. آل عبد الكريم ، فؤاد بن عبد الكريم ( 1425هـ ) المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير .
8. آل ناجي ، محمد عبد الله ( د: ت ) دور الجامعات في مواجهة تحديات العصر جريمة الإرهاب ،مركز البحوث التربوية ، جامعة الملك خالد .
9. البيهقي ، أحمد بن الحسين بن علي ( د : ت ) السنن الكبرى للبيهقي ، دار الفكر .
10. الترمذي ، محمد بن عيسى ( 1994م) سنن الترمذي ،دار الكتب العلمية .
11. الجاسر ، هيلة ناصر ، وآخرون ( 1427هـ ) جغرافية العالم الإسلامي للصف الثاني المتوسط ، وزارة التربية والتعليم ، المملكة العربية السعودية .
12. الحاكم ، محمد بن عبد الله ( د : ت ) المستدرك على الصحيحين ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
13. حسين ، حيدر ( 1421هـ ) مجلة النبأ ، العدد 44 .
14. الخشت ، محمد عثمان ( 1404هـ ) وليس الذكر كالأنثى ، مكتبة القرآن ، القاهرة .
15. الدغيمي ، محمد راكان ( 1417هـ ) أساليب البحث العلمي ومصادر الدراسات الإسلامية ، ط2 ، مكتبة الرسالة ، الأردن .
16. الرقب ، صالح ( 1423 هـ ) العولمة ، الجامعة الإسلامية .
17. الزنتالي ، عبد الحميد الصيد ( 1993 م ) فلسفة التربية الإسلامية في القرآن والسنة ، الدار العربية للكتاب .
18. السجستاني ، أبو داود سليمان بن الأشعث ( د : ت ) سنن أبي داود ، دار إحياء التراث العربي .
19. سويد ، محمد نور بن عبد الحفيظ ( 1422هـ ) منهج التربية النبوية للطفل ، ط3 ، دار ابن كثير ، دمشق-بيروت .
20. السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ( 1994 م ) جامع المسانيد والمراسيل ، دار الفكر .
21. شعبان ، عبد الحسين ( 2001م ) ثقافة حقوق الإنسان ، ط1 ، رابطة كأوا للثقافة الكردية ، بيروت .
22. العبد الجبار ، عادل ( د: ت ) الإرهاب في ميزان الشريعة ، صيد الفوائد .
23. عبيدات ، ذوقان ( 1424 هـ ) البحث العلمي ، إشراقات .
24. العساف ، صالح بن حمد ( 1424 هـ ) المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية ، ط3 ، مكتبة العبيكان .
25. العسقلاني ، أحمد بن علي بن حجر ( 1409 هـ ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، دار الريان للتراث ، القاهرة .
26. علي ، سعيد إسماعيل ( 1412هـ ) الأصول الإسلامية للتربية ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
27. العمر ، ناصر بن سليمان ( 1424هـ ) رسالة المسلم في حقبة العولمة ، مركز الدراسات الإسلامية ، قطر .
28. العودة ، سلمان بن فهد ( د : ت ) أدب الحوار ، مكتبة صيد الفوائد .
29. غبان ، محروس أحمد إبراهيم، وآخرون ( 1415 هـ ) أصول التربية الإسلامية ، دار الخريجي للنشر والتوزيع ، الرياض .
30. فرج ، عبد اللطيف حسين ( 1426 هـ ) تربية الشباب للبعد عن التطرف والإرهاب ، مكة المكرمة .
31. الفيروز بادي ، محمد بن يعقوب ( 1993م ) القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة .
32. الفيومي ، أحمد بن محمد بن علي ( 1987م ) المصباح المنير ، مكتبة لبنان ، بيروت .
33. قطب ، محمد ( د : ت ) المسلمون والعولمة ، مكتبة صيد الفوائد .
34. مجلة الأسرة ( 1424هـ ) موضوع الغلاف : وليس الذكر كالأنثى ، العدد 124 رجب .
35. مرسي ، محمد منير ( 1996م ) التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية ، الطبعة الثانية ، عالم الكتب ، القاهرة .
36. مسلم ، مسلم بن الحجاج بن مسلم ( 1992م ) صحيح مسلم ، دار الكتب العلمية .
37. النسائي ، أحمد بن علي ( د : ت ) سنن النسائي الكبرى ، دار الفكر .
38. وزارة المعارف ( 1422هـ ) الحديث والثقافة الإسلامية ،شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر ، السعودية .
39. وزارة المعارف ( 1423 هـ ) مقرر التوحيد للصف الثاني المتوسط ، السعودية .
40. اليوسف ، عبد الله بن عبد العزيز ( 1425هـ ) دور المدرسة في مقاومة الإرهاب والعنف والتطرف ، اللجنة العلمية للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب .
j
شكر وتقدير.......................................................................................................2
مقدمة....................................................................................................................3
أهمية البحث وتساؤلاته وأهدافه.........................................................................5
الفصل الأول..........................................................................................................6
=============(7/180)
حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة
الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير
تقديم بقلم :
عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل حرية التدين، التي تعتبر من أرقى الحقوق الإنسانية، وتأصيل كرامة الإنسان، خيارًا لا إكراه فيه، فقال تعالى: (( لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ.. )) (البقرة:256)، وقال مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم وكل من يسير على سبيله، مقررًا لحقيقة يعتبر التزامها من الدين والطاعة والعبودية، كما يعتبر الخروج عليها من المنكر والفسوق والعصيان، بقوله: ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:22)، وقوله على سبيل الاستفهام الإنكاري: ((أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقوله محددًا مهمة النبوة: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)) (آل عمران:20)، ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النور:54).
ذلك أن الإنسان مخلوق مكرم بتكريم الله له، قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ..)) (الإسراء:70)، يمتلك العقل الذي يجعله أهلاً للاختيار، فهو مختار كذلك، أراد الله الخالق له أن يريد ويختار، والاختيار من أعلى درجات التكريم، وبذلك فهو المخلوق المكلف المسؤول، ولا مسؤولية بدون حرية، فإذا سقطت الأهلية (العقل) رفعت المسؤولية، وإذا أخذ ما وهب سقط ما وجب.
ولعلنا نقول في تعريف الإنسان وتمييزه عن سائر المخلوقات: بأنه المخلوق المكلف، أي المسؤول، وأن أي انتهاك لحرية الاختيار اعتداء على إنسانية الإنسان وإهدار لآدميته.
والصلاة والسلام على من كانت الغاية من بعثته إلحاق الرحمة بالعالمين، واسترداد إنسانية الإنسان، وكانت غاية مهمته إبلاغ الناس بما أُرسل به، قال تعالى: (( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النور:54)، وقال تعالى: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)) (آل عمران:20)، وكانت وسيلته الدعوةُ بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والحوار بالدليل والبرهان، قال تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة))ِ (النحل:125)، وقال: ((وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46).. ومن دعائم عقيدة الإسلام، أن الحجة والبينة والبرهان سبيل الإيمان والتحقق باليقين.. وبعد:
فهذا كتاب الأمة السابع والثمانون: «حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة»، لمجموعة من الباحثين المتخصصين، استمرارًا للمضي في طرح مشروعات فكرية جماعية للقضايا المعاصرة، ومعاودة فتح ملفها واستدعائها، لتصبح همًا ثقافيًا، ومحركًا اجتماعيًا، وفرضًا كفائيًا، ومحرضًا حضاريًا، وشاحذًا للعقول، وسبيلاً للحوار الداخلي.
ولعل من الأولويات اليوم تتمثل في إعادة تشكيل النخبة، عقل الأمة، أو الطائفة القائمة على الحق، تمثلاً وبلاغًا، وتأسيس مرجعيتها في ضوء معرفة الوحي وتجربة النبوة الخاتمة وتطبيقات الخلافة الراشدة ومسيرة خيرة القرون، بحيث تمتلك من الرؤية الشرعية ما يمكنها من فقه الواقع بإشكالياته المتعددة، والقدرة على تحديد الاستطاعة، مناط التكليف في كل مرحلة، ومن ثم تنزيل الأحكام الشرعية بعد التحقق من توفر شروط محالها، اهتداءً بالسيرة النبوية، واعتبارًا بالتاريخ الخاص بمسيرة الأمة المسلمة، والعام بتاريخ الأمم، الذي يمكِّن من اكتشاف السنن الفاعلة في الحياة، أو قوانين الحركة الاجتماعية، حتى تتمكن من تسخيرها، ومدافعة قدر بقدر، بعيدًا عن المجازفات وإهدار الطاقات، والمجاهدة تحت رايات عمِّيَّة، وترك ما تستطيع إلى ما لا تستطيع، والاندفاع للإقدام على الفعل من خلال حالة الإحباط، والإعجاب بالموقف دون القدرة على النظر في تداعياته، وتحويل الأمة المسلمة إلى رصيد تضحيات جاهز للاستخدام والاستغلال من قبل (الآخر)، وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء المسلمين، تحت شعارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.
إن حالة التخلف والإحباط التي نعاني منها، تؤدي إلى خلل في التوازن وضبط النسب، وتغيّب التطلع إلى التحلي والتأهل بصفات البطولة في المجالات المتعددة، والتحول إلى انتظار البطل المنقذ، والقفز من فوق السنن، الأمر الذي لم تدّعيه النبوة، ولم تمارسه.
وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها ليست في عدم وجود قيم ضابطة لمسيرة الحياة ومعايير لتقويمها وتحديد مواطن الخلل التي تعتريها، ولا في عدم وجود تجربة تاريخية وتنزيل لهذه القيم على واقع الناس، ولا في شمولية هذه القيم وتغطيتها لجميع مناحي الحياة البشرية، من القوة والضعف، والسقوط والنهوض، والنصر والهزيمة، والدعوة والدولة، وحقوق المسلم والمعاهد والمحارب.... إلخ، وإنما تتحدد الإشكالية -فيما نرى- بسوء التعامل مع القيم، الذي يؤدي إلى العبث بهذه الأحكام، والقراءة المغلوطة لمحالها، ومن ثم سوء تنزيلها على واقع الناس، ذلك أنه من المعروف شرعًا وعقلاً أن لكل حكم شرعي مواصفات وشروط لابد من توفرها في محل تنزيل الحكم، بعد النظر في توفر الاستطاعة، التي هي مناط التكليف.
إن العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، ومحاولة الاستشهاد بها والارتكاز إليها في تسويغ مشروعية الفعل البشري، دون الإدراك لوجود الاستطاعة، وتوفر شروط المحل، يوقع بإشكالات كبيرة جدًا، تكرس التخلف والتراجع، وقد تُحدث أزمة ثقة بالقيم والنصوص نفسها، واتهامها بالعجز عن تقديم الحلول المطلوبة، وانتشال الأمة من معاناتها.
ولا شك أن هناك أحكامًا شرعية منوط إنفاذها بالسلطة المسلمة، كالعقوبات، والفصل في الخصومات، وإبرام المعاهدات، والقضاء بين الناس...إلخ، ونصيب الفرد من التكليف بها لا يخرج عن السعي والعمل لإيجاد السلطة المسلمة التي تضطلع بإنفاذها، أما التطاول لتنفيذها من قبل الأفراد بحجة غياب السلطة المسلمة من خلال فقه بئيس فتخلق من المشكلات والفوضى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
إن عدم الإدراك الكامل لمواصفات الخطاب، في الكتاب والسنة، وحدود التكليف، وحدود الاستطاعة، وتوفر المحل، سوف يؤدي إلى العبث بالأحكام -كما أسلفنا- وتنزيل خطاب المعركة على محل الدعوة، وخطاب الدعوة على ساحة المعركة، أو خطاب المعركة على ساحة المعاهدة، ذلك أنه من المعلوم أن هناك أحكامًا شرعية تمثل خطاباً للمعركة والتعبئة النفسية والتحريض على القتال والغلظة في المواجهة، وأخرى تمثل خطابًا للدعوة والحوار والمجادلة باللين والحكمة وعدم الغلظة والفظاظة، وثالثة لبناء العلاقات الاجتماعية والوفاء بالمعاهدات وعقود الذمة، الأمر الذي إذا لم يدرك بفقهٍ سليم فسوف يؤدي إلى لون من التدين المغشوش والضلال للسعي، ونحن نحسب أننا نحسن صنعًا، كما يؤدي إلى تغييب مقاصد الشريعة ودورها الفاعل في حياة الناس.
ولا يقل عن ذلك خطورة ما نلاحظه من التقطيع في النسيج الثقافي للأمة، حيث أصبحت أمماً انفرط عقدها، وتحولت إلى طوائف معجبة بنفسها وفكرها واجتهادها، وغيبت معاني الأخوة الشاملة، وانسدت أقنية الحوار الداخلي والتفاهم وبناء القاعدة المشتركة.
ونعود إلى القول: بأن الإشكالية هي في التباس الذات بالقيم، وصور ومسالك التدين بقيم الدين، وبذلك تعطلت عمليات النقد والتقويم والمراجعة والاجتهاد، وحاول كثير ستر عوراتهم الفكرية وعجزهم عن توليد الأحكام بالتستر بالقيم نفسها، والحديث عن قدسيتها وعظمتها وإنجازها التاريخي.(7/181)
ولا نزال نرى: بأن الإشكالية ليست بالقيم المعصومة، وإنما بكيفية التعامل معها، أو بمعنى أكثر دقة: إن الإشكالية ليست في الدين وتعاليمه وإنما بصور التدين وكيفية التعامل مع هذه القيم، وتوليد البرامج والخطط التي تسع حركة الحياة، في ضوء الاستطاعات أو الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة.
ولعل من نعمة الله على أمة الرسالة الخاتمة الخالدة، التي اصطفاها الله لوراثة الكتاب والاضطلاع بمسؤولية ما انتهت إليه النبوة تاريخيًا، أن وحي السماء الذي هو مصدر المعرفة الأساس، لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات بشكل عام، بل ناط ذلك بالعقل الذي يمارس الاجتهاد ووضع البرامج والآليات، في إطار معرفة الوحي، التي اكتفت بوضع القيم الضابطة للمسيرة، والمعايير المطلوبة للتقويم والمراجعة والقياس للفعل البشري، المصوبة للمسيرة، ومن لوازم ذلك امتلاك القدرة على الاستجابة لتطور الحياة، واحترام العقل البشري، ومنحه الحرية والإرادة التي بها يتحقق تكريم الإنسان وتكليفه ومسؤوليته.
فالقيم، ومصدرها معرفة الوحي، وهي معصومة عن الخطأ، ويعتبر من خصائصها الخلود، تشكل أطرًا مرجعية؛ والبرامج المؤطرة بالقيم، ومصدرها معرفة العقل، ويجري عليها الصواب والخطأ، وتعتبر من وسائل تحقيق الخلود، منوط بها توفير الاستجابة لتطور الحياة.
وتبقى الغاية الأساس أو المقصد الأساس من إرسال الرسل وإنزال القيم هو إلحاق الرحمة بالعالمين وتحقيق سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).
ويكاد يكون المنطلق أو المحور الرئيس لتحقيق هذه السعادة وإلحاق الرحمة وتوفير الحقوق، التي تحفظ إنسانية الإنسان وتحمي كرامته، يتمثل في إيقاف تأله البشر بعضهم على بعض، وعدم القبول بأن يكون الإنسان المخلوق مصدرًا لوضع القيم للآخرين المخلوقين مثله، حتى لا تتحول لتصبح جسرًا للتأله عليهم والتشريع لهم والترفع عنهم.
ولعلنا نقول هنا: بأن أصل الشر في الدنيا وانتهاك الحقوق الإنسانية والفساد وسفك الدماء، كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، وإن هذا التسلط، أو إن شئت فقل: «التأله»، أخذ على مدار التاريخ والرحلة البشرية أشكالاً متعددة ومتنوعة، وكان لكل عصر آلهته وطاغوته.. فمنذ فجر التاريخ، في العهد الزراعي، أخذ هذا التأله أو التسلط صورة الإقطاعي الذي يملك الأرض والإنسان، ويتصرف كما يحلو له، ولا تزال عقدة أقنان الأرض تتسلل بشكل أو بآخر إلى كثير من النفوس في مجالات الحياة المختلفة، الأمر الذي يزري بكرامة الإنسان.
ولعل من أخطر أشكال التسلط وأعتاها هو تلبس الحكم بالألوهية، واعتبار الحاكم هو المتحدث باسم الله، أو هو ظل الله على الأرض، ينفذ إرادته ويتحكم بالبشر كما يحلو له، وأن أية معارضة أو قعود عن طاعة الأوامر هو عصيان لله تعالى.. فباسم الله قد يُستغل البشر، وتُنتهك الحرمات، وتُستباح الأعراض، وتُوضع القيم والتشريعات، التي لا تقبل المناقشة ولا النقد.
ومن أشكال التسلط وانتهاك حقوق الإنسان التي حفظها التاريخ أيضًا، تسلط طبقة رجال الدين، التي شكلت نوعًا من الكهانة واحتكار تفسير إرادة الله والتسلط على البشر باسم الدين، والتحكم بدنيا الناس وأخراهم، وابتزاز أموالهم وأعراضهم بما يسمى «الاعتراف والغفران»، وتصرفهم بالمصير والآخرة، وبيع صكوك الغفران، بما أسمي بالحكم «الثيوقراطي» أو الديني، والذي كان من الطبيعي الخروج عليهم، ذلك الخروج الذي لم يقتصر على رفض سلطة رجال الدين والكهنوت وتسلطهم وتصويب الممارسات التي لا علاقة لها بنصوص الدين، وإنما كان خروجًا وانسلاخًا من الدين كله وما يمت إليه بصلة.
إن الخروج على الواقع المنحرف، للتخلص من الحكم الثيوقراطي أوتسلط رجال الدين، جاء معالجة للانحراف ولكن بانحراف مماثل، لم يكن في صالح إنسانية الإنسان وحقوقه، وإنما هروبًا من تسلط البشر باسم الله إلى الوقوع من ألوهية البشر، لكن بشكل ولون آخر.
ومن أشكال التسلط والتأله في التاريخ أيضًا، الادعاء بأن العرق الآري، يمتلك من الخصائص والصفات المتميزة مالا يملكه الآخرون، الأمر الذي يبرر له استعمار الآخرين، والتحكم بأحوالهم، وسوقهم وفق إرادته، لأنهم يتصفون بالدونية بأصل الخلق فهم عضويًا غير مؤهلين.
ومن آثار ذلك أيضًا، الادعاء بتميز الرجل الأبيض.. وقد يكون الأخطر من هذا جميعه الادعاء أيضًا باختيار الله لشعب دون سائر الشعوب والأجناس، لا على كسبٍ فَعَله هذا الشعب وإنما بأصل الخلق، وقد يكون منهم المؤمن والكافر والفاسق... إلخ، وما يترتب على ذلك من العنصرية والتمييز والاعتداء على عدل الله، الذي يدّعون ذلك باسمه.
ومن صور وأشكال التسلط أيضًا، التسلط باسم الطبقة، والادعاء بأنها صاحبة المصلحة الحقيقية، وكذلك الحزب القائد، باعتبارهم لأنفسهم أنهم قدر الأمة، ومطاردة الآخرين على أنهم أعداء الشعب.
وقد لا يتسع المجال هنا لمزيد من فتح النوافذ على أشكال التسلط والظلم، وإهدار كرامة الإنسان، والعبث بحقوقه، مصدر الشر في العالم، وحسبنا أن نقول: بأنه لا مجال لاسترداد كرامة الإنسان وحماية حقوقه إلا بإيقاف هذا التسلط المتأتي من التأله البشري بكل أشكاله، وإعادة تصويب مفهوم الألوهية، وأنها مصدر القيم التي يتساوى الناس أمامها جميعًا، بحيث تستمد هذه القيم والمعايير من مصدر خارج عن الإنسان، ومن ثم التمييز بين قيم الدين المعصومة، وصور التدين التي يمكن أن تلحق بها إصابات وممارسات مخطئة وظلم محتمل، لذلك قال تعالى: ((الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام:82).. فالتلبس بين قيم الدين وصور التدين وادعاء العصمة لسلوك الناس، نوع من الظلم والعتو في الأرض والعودة إلى التسلط ولكن بفلسفة أخرى.
وبالإمكان أن نقول بكل الاطئمنان: بأن الدعوة إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به، بأي نوع من أنواع الشرك، هو السبيل الوحيد لتوفير كرامة الإنسان وتحقيق إنسانيته ومساواته بالآخرين، فالتوحيد في نهاية المطاف يعني التحرير.. والذين يحاولون إلغاء الألوهية بهذا المفهوم، أو تحييده عن حياة الناس، إنما يفعلون ذلك ليجعلوا من أنفسهم آلهة - ولكل عصر آلهة- لأن الإيمان بالله واستمرار القيم والمعايير منه تسوِّيهم بغيرهم.
وقد يكون من المفيد أن نذكر: أن القيم المشرِّعة للحقوق الإنسانية، والمعايير وموازين التقويم الحارسة لها والضامنة لامتدادها، عندما تُستمد من مصدر خارج عن الإنسان، من الخالق العالِم بأحوال الناس، البريء من الهوى والانحياز والخطأ، المتصف بصفات الكمال، يتلقاها الناس بالقبول، لشعورهم بالتساوي وعدم التمييز أمامها، والعدل في إنفاذها، إضافة إلى أن احترامها والالتزام بها إنما يتم بدافع داخلي وبوازع ذاتي، لاعتقادهم بأن الذي شرعها وأمر بالتزامها يعلم السر وأخفى، ويحاسب عن التقصير بها أو الانتهاك لها.. وليس هذا فقط، بل وجود تشريعات لبيانها، وعقوبات لانتهاكها، وبذلك تتحصل القناعة والثواب بها من داخل النفس، وتصان بالتشريعات الملزمة والعقوبات للمعتدي عليها.(7/183)
بينما عندما توضع تلك القيم والمعايير من الإنسان نفسه، فزيادة على احتمال أن تتحول إلى وسيلة للتسلط والتعالي والانحياز، لأن الإنسان، أي إنسان، مهما حاول التحرر فهو يقع بشكل طبيعي تحت تأثير تربيته ومجتمعه وقبيلته وطائفته وحزبه وأهوائه ونزواته، إضافة إلى عمره المحدود وعلمه المحدود، الذي لا يمكن أن يحيط بالحاضر والمستقبل، فالإنسان نفسه يرى في وقت ما لا يراه في وقت آخر.
ومن جانب آخر، يمكن لنا أن نطرح السؤال الكبير: ماهي الضمانات التي تجعل من الآخرين محل قبول واحترام لهذه المعايير البشرية، وعلى الأخص أن الناس خلقهم الله، ويشعرون وكأنهم يعيشون على مائدة مستديرة -بالتعبير الدبلوماسي- أي خلقوا متساوون في الحقوق، فبأي حق يمكن لبعضهم أن يعطي نفسه حق التشريع ووضع القيم للآخرين؟ وماهي الضمانات ألا تجيئ هذه القيم منحازة ومحققة لمصلحة من وضعها، وأداة للتسلط على الموضوعة له؟
أما إذا استمدت من مصدر خارج عن الإنسان فيتساوى أمامها الجميع، حيث تبرأ من الانحياز بأصل مصدرها، وتحمي كرامة الإنسان، وتمنحه الحق في وضع البرامج والآليات للتعامل مع هذه القيم الضابطة لمسيرة الحياة، وبذلك لا تلغي الإنسان وإرادته ونمو عقله، وتحميه من السقوط والانهيار، ولا تسمح بتسلطه وتألهه على البشر من أمثاله، والانشغال بوضع فلسفات وتسويغات لعمليات انتهاك حقوق الإنسان هنا وهناك.
وقبل أن نقدم بعض الملامح لقضية حقوق الإنسان، وكونها محور مقاصد الشريعة، لابد أن نشير هنا إلى قضية مركزية في مسألة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتقرير إنسانيته، تتمثل في القيمة الكبرى التي حسمها الإسلام ولم يساوم عليها وهي عدم الإكراه، فلا إكراه، ولا إجبار، قال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ)) (البقرة:256)، وقال تعالى: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)) (ق:45).
لقد جعل الله السبيل إلى الاقتناع بالدين هو التفكير والعلم والقراءة والاستدلال والبرهان، وجعل السلاح الأقوى في التأثير هو القلم.. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أول ما نزل قوله تعالى ((اقْرَأْ))، ((عَلَّمَ ))، ((عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)) ، وأن مشروعية الجهاد دائمًا جاءت لمدافعة الظلم وحماية حرية الاعتقاد.. وتبقى الإشكالية استبدال السيف بالقلم، نتيجة للقهر والإحباط.
فالإكراه بكل المعايير إسقاط للعقل، أساس كرامة الإنسان، وإلغاء للإرادة والاختيار، وسبيل للتسلط والفساد وسفك الدماء والظلم، وقتل للإنسان، بل هو أشد من القتل، ذلك أن إجبار الإنسان على دين أو مبدأ أو عقيدة لا يختارها ولا يقتنع بها، أو حرمانه من عقيدة أو دين يختاره، أشد فظاعة من قتله، لأن ذلك قتل لإرادته واختياره، وإلغاء لإنسانيته، وإسقاط لكرامته، لذلك قال تعالى: (( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة:191)، فجريمة القتل على فظاعتها ومخاطرها تبقى دون جريمة الإجبار والإكراه.. والمعروف أن الله شرع الجهاد، على الرغم مما يقع فيه من القتل، لحماية اختيار الناس، والحيلولة دون إكراههم أو إجبارهم أو فتنتهم، فقال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وفي ذلك إلغاء لتأله البشر.
وقد يبدو كلامنا عن «الإكراه» هو من بعض الوجوه إغراق في الابتعاد عن الواقع، ذلك أن المسلمين اليوم عاجزون حتى عن الدفاع عن أنفسهم، ناهيك عن إكراه الآخرين، وأن عمليات «الإكراه» والاغتصاب السياسي والثقافي والإعلامي والعسكري تمارس ضدهم على المستويات كافة ، إلا أن ذلك لم يمنعنا من التأكيد على أن شعار المسلمين الدائم يبقى هو: «لا إكراه»، بعيدًا عن جميع أنواع ردور الفعل.
لذلك يمكن أن نخلص إلى الحقيقة التي هي أشبه بالبدهيات: بأنه لا إنسان بلا دين، أي بلا معايير، بلا قيم، وأن الإشكالية التاريخية بين النبوة من جانب والطاغوت من جانب آخر هي في مصدرية تلقي القيم (الدين)، ونسخ ألوهية البشر، وإفراد الله بالتوحيد، والتوحيد هو التحرير -كما أسلفنا- أو تلقي القيم من البشر، لأن ذلك مهما ادعي له من الموضوعية والحياد فهو جسر للتسلط، والتأله، والانحياز، والاستغلال، والطاغوت، أي الطغيان، والإجبار.
ولعل الخطورة التي تتأتى من قبل أتباع النبوات، إنما تتأتى من صور التدين ومسالكه، وذلك عندما يتحول بعضهم إلى طبقة من الكهنة تحتكر المعرفة، ويحل فهمها محل القيم المعصومة، ويصبح سلوكها هو المعيار والمقياس ومصدر القيم، وتحاول تحويل الناس المؤمنين من قيم ومعايير الله الشارع، المعصومة، المبرأة من الانحياز والظلم، إلى فهم البشر، إلى فهم الشارح الظني، الذي يجري عليه الخطأ والصواب، وعند ذلك يهتز المعيار، وتتداخل انحيازات البشر وتأثيراتهم ورغباتهم، فتنقلب المعادلة، فبدل أن يُعرف الرجالُ بالحقِ يُعرف الحقُ بالرجالِ، ويبدأ الاستغلال والتسلط، لكن هذه المرة باسم الدين، الذي يعتبر الملجأ الأخير للناس.
والخشية هنا أن يفقد الناس ثقتهم بالقيم نفسها لا بحملتها فقط، ويصعب عليهم تجاوز الصورة المجسدة أمامهم إلى الحقيقة المجردة، فيكون التنكر لقيم الدين التي إنما شرعت لتحقيق الخلاص، فتحولت على يد الكهنة إلى أخطر مجال للاستغلال والتسلط، وهكذا يتحول الناس من جحيم إلى جحيم، وكلما دخلت أمة لعنت أختها، وتستمر رحلة العذاب والقهر والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وحقوقه، وتشيع الفلسفات والتسويغات، ويقتل الإنسان عمليًا، سواء أكان ذلك بمطارق من حديد أو بحبال من حرير.
ولقد حذر الله سبحانه وتعالى الأمة الخاتمة من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، وما يمكن أن تحدثه الكهانات الدينية من الظلم والتسلط والاستغلال، لتكون على بينةٍ من أمرها وحذرٍ من سوء العاقبة، فقال تعالى: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ)) (التوبة:31).. وقد يكون فيما ورد في تفسير الآية وبيان معناها ما لا يحتاج أي استزادة لمستزيد:
روى الإمام أحمد والترمذي، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه: أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسًا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ )) قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم، فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم»... وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ )) : إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا" (مختصر تفسير ابن كثير، مجلد2، ص136-137).(7/184)
وقد لا نكون بحاجة كبيرة للكلام عن دور الإسلام، أو دور القيم والمعايير الإسلامية، في تأسيس وتأصيل حقوق الإنسان، سواء على مستوى القيم والمبادئ أو على مستوى التطبيق والتجسيد والممارسة الحضارية، أي على مستوى الثقافة والحضارة معًا، واعتبار ذلك دين من الدين، وعبادة من العبادات، التي هي جزء من عقيدة المسلم، لا يخرج من عهدة التكليف إلا بأدائها، بل لعلنا نقول: إن حقوق الإنسان في الإسلام جزء من العقيدة، أو هي من صلب العقيدة، وأن ممارستها نوع من العبادة التي يترتب عليها الثواب في الفعل والعقاب في الامتناع.
ولم يكتف الإسلام بأن جعلها قناعات فكرية ووصايا ومواعظ وآداب أخلاقية فقط، وَكَل أمر الالتزام بها إلى ضمير الإنسان وقناعته، وإنما أيد ذلك بتشريعات ملزمة وعقوبات صارمة لمن يخرج عليها، باعتبار أن لها بعدًا اجتماعيًا يتجاوز الإنسان، وأقام لها أيضًا الحراسات والرقابة العامة والمستمرة، من مهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسمى بمهام الحسبة بشكل عام، على مختلف الأصعدة، فالتقى بذلك الوازع الداخلي والرقابة الذاتية مع التشريع الملزم، مع الرقابات والحراسة الدائمة من داخل النفس ومن خارجها.
ويبقى الإيمان بيوم الحساب وقاية للناس من الإحباط والارتكاس والارتداد عن الالتزام بالحقوق، عند عدم تحصل النتائج في الدنيا، وبذلك يستمر الخير حتى ولو غاب إنفاذ التشريع الملزم أو تراجعت الرقابة العامة.
ولابد من العودة إلى التأكيد: بأن ما أتت به النبوة في الكتاب والسنة، في هذا المجال وفي غيره، هو عبارة عن قيم ومعايير ضابطة لمسيرة الحياة، وأن أمر التشريعات والبرامج والخطط والتأسيس والتأصيل لهذه القيم إنما نيط بالعقل البشري، ليرتقي بوسائل إقرار حقوق الإنسان ويحققها ويحميها ويطور لها الرقابات والمنظمات وآليات الاحتساب ضمن مرجعية القيم، وأن الكثير من التخاذل قد لحق بالأمة المسلمة، بسبب عجزها وتقصيرها في تطوير هذه الآليات.
لقد تطورت التشريعات وتطورت الآليات والتنظيمات، وتطورت وسائل الرقابة العامة حتى غدا الإعلام اليوم، المقروء والمسموع والمكتوب والمشاهد، سلطة رابعة من سلطات الدول، بل نكاد نقول: إنه يتطور ويتطور ليقفز إلى المقدمة فيكون السلطة الأولى، ذلك أن الرقابة ترقى بالأداء، وتصوب الخطو، وترشد إليه، وتكشف الخطأ، وتفضح الاختلاس والاختلال والرشاوى، لكنها في غياب القيم والمعايير الضابطة قد تتحول إلى وسيلة بيد أهل الظلم والاستكبار، فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًا.
وبالإمكان القول: إن مؤسسات حقوق الإنسان، وأشكال الحسبة والرقابة العامة ومنظمات المجتمع، المتجاورة مع النظام السياسي في بلاد المسلمين، إن وجدت، لا تزال تعاني من غربة الزمان والمكان، وكأنها تعيش بمعزل عن العالم وما حققه من تقنيات وتشريعات في هذا المجال، ودائمًا نجد لأنفسنا العزاء بالهروب إلى القيم للاحتماء بها وبما حققته من إنجاز تاريخي لتغطية مركب النقص وستر العورات، وتستمر في حياتنا الكهانات حتى تكون فوق الحساب والتقويم والمراجعة والنقد، خشية أن يكون ذلك موجّه للقيم ذاتها، وتستمر رحلة التستر على الأخطاء والأشخاص باسم حماية قيم الدين، ونُسْبَقُ من العالم، ونبقى نراوح في مكاننا، ونظن أننا نقطع المسافات بالصياح والهياج والصراخ، حالنا في ذلك أشبه ما يكون بحال الطفل الذي يستخدم الصراخ لاستدعاء أمه كلما أراد شيئًا.
لقد امتدت حالة الطفولة لتستغرق حياتنا، حتى ظننا أن كل مشكلاتنا يمكن أن تحل بالصياح والبكاء والصراخ والحماس والخطب الرنانة، وكأننا لما نشبع بعد خطبًا حماسية وصراخًا لا يجدي، على الرغم من كل هذا التقهقر وهذا الزمن الضائع، وهذه الفجوة الرعيبة بين قيمنا الإسلامية وواقعنا المتردي، دون أن يتملكنا القلق السوي الذي يدفعنا لاكتشاف الخلل وسبل معالجته.
وعلى أحسن الأحوال، فإننا نعيش في حالة ترقبٍ، انتظارًا لظهور البطل صاحب السلطة والقدرة الخارقة على قهر العدو، ومواجهة الخصم، يقدم حياته فداءً ويقاتل نيابة عنا، ليثأر لنا من (الآخر)، الذي ندعي دائمًا أنه سبب تخلفنا؛ بدل إشاعة معاني البطولة في النفوس ليتطلع إليها أفراد الأمة جميعها، والبحث عن المؤهلات والصفات الموضوعية التي تنتج البطل والمبدع والمخترع والمتفوق، وتؤهل لنهوض الأمة، حتى أن بعضنا بات لا يكاد يبصر من تاريخنا إلاّ فترات الغزوات والانتصارات، أما ما هي المؤهلات التي حققت هذه الانتصارات، وأن نفقه لماذا شرعت تلك الغزوات، وماذا حققت هذه الانتصارات، وكيف تعاملت مع السنن والأقدار، وما قدمت من التضحيات، لتوفير حقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاك، وكيف ساهمت في إقرار حرية التدين والاختيار، ولماذا شُرع الإقدام على الموت وتقديم الشهداء، فذلك لايزال من الفقه الغائب.
لقد أباح الإسلام قتل أعداء حرية الاختيار الذين يمارسون الفتنة - لأن الفتنة حرمان للإنسان من حق الاختيار- وقرر الشعار الكبير: «لا إكراه»، ولكن مع الأسف، فإن ذلك لا يزال يقرأ بأشكال مغلوطة، أو لا يحظى إلا بالقليل من الدراسات، لأن ذلك يقتضي اجتهادًا وتفكيرًا وجهدًا كبيرًا، بينما الكثير منا -حتى في المؤسسات الأكاديمية- لا يُحسن إلا الشحن والنقل من الماضي والتفريغ في الحاضر، ولو اختلف الزمان والمكان والإنسان، وذلك إلقاء بالتبعة على (الآخر) من بعض الوجوه أيضًا.
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعًا.. وإنما هي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هو بين إنكار هذه الحقوق وتقريرها.
من هنا ندرك مقاصد النبوة الخاتمة «الإسلام»، التي تعتبر جماع النبوات من لدن آدم عليه السلام، والتي انتهت إليها أصول النبوات جميعًا، وأن المؤمن بها مؤمن بالنبوة التاريخية ومتلق عنها، قال تعالى: (( وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)) (المؤمنون:52)، وأن الصراع التاريخي كان بين التوحيد والتحرير وبين الخارجين عليه، الذين يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة تتسلط على الناس، بين إقرار حقوق الإنسان وبين انتهاكها، لذلك نرى أن مرتكزات العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمسالك، في الرسالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هذه الحقوق أو هذه المقاصد، إيمانًا وتشريعًا وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هي حقوق الإنسان في الإسلام.(7/185)
وقد يكون من المفيد أن نتوقف قليلاً عند هذه النقطة، فنلقي عليها بعض الضوء بما يمكن أن يتسع له المجال، فنقول: لقد استقرأ كثير من العلماء التكاليف الشرعية، أوامرها ونواهيها، في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، في الأصول والفروع، وأخذوا بعين الاعتبار أيضًا مراتب الحكم الشرعي في الفعل والكف، أو في الأمر والنهي، وخلصوا إلى أن الشريعة (الدين) إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هذه المصالح لا تتحقق والمفاسد لا تدرأ إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر بدونها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. ورأوا، بعد التحري والاستقصاء والاستقراء، أن أي أمر أو نهي هو عائد إليها في نهاية المطاف، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وإنما شرع لتحقيق إحدى هذه الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.
فالدين: حاجة فطرية وضرورة حياتية، وعدم «الإكراه »، تحقيق لكرامة الإنسان؛ والنفس: إشباع غريزة الحياة، إقراراً وحماية؛ والعقل: محل أهلية الإنسان وتميزه، يستلزم حق التفكير والإرادة والاختيار؛ والنسل: نزوع وحاجة أصلية للجنس الآخر، يقتضي الحق في ممارسة الجنس بالطرق المشروعة وحماية الأنساب؛ والمال: تلبية لنزعة التملك والاحتياز وما يترتب على ذلك من حق التصرف والتملك والأهلية...إلخ، ولذلك اعتبر الإسلام هذه المقاصد من الثوابت الأساسية لاستقامة الحياة، ورتب على الإخلال بها أو الانتهاك لها عقوبات رادعة.
لقد اعتبر الإسلام الاعتداء على هذه الحقوق جريمة كبرى، وعظم أمرها، كما أنه لم يدع أمر تحديد العقوبة لرأي البشر واجتهادهم، وإنما نص على الجريمة ونص على العقوبة وحددها، وما العقوبات الحدية في الإسلام، أو العقوبات المنصوص عليها، إلاّ حماية لهذه الحقوق الإنسانية الأساسية وراجعة إليها.
فالقصاص وحد الحرابة والفساد في الأرض، يحمي حق الحياة، فمن قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا، ويحقق الأمن الاجتماعي والنفسي؛ وحد السرقة، إضافة إلى تحريم الغش والاحتكار والربا والميسر والغصب وما وضع لها من عقوبات تعزيرية، يحمي حق التملك؛ وحد الشرب وتحريم المسكرات والمفترات يحمي حق العقل، محل التفكير والتعبير؛ وحد القذف يحمي حق صيانة الأعراض؛ وحد الزنى يحمي حق النسل وعدم اختلاط النسب؛ وحد الارتداد يحمي حق الاختيار والتدين والخروج على الجماعة والعبث بدينها (التارك لدينه المفارق للجماعة).
وهكذا نرى أن الإسلام اعتبر الاعتداء على الحقوق الأساسية جريمة كبرى، ونص على عقوبتها بما أسمي بالحدود الشرعية، والحدود هي العقوبات النصية التي لا مجال للاجتهاد فيها.
وصحيح أن الحدود قد لا تنشئ حقوقًا أو مجتمعًا تسوده هذه الحقوق، وإنها وإن كانت تساهم بذلك، لكنها في الأصل لحماية هذه الحقوق وليس لإنشائها، وما وراء ذلك من الانتهاكات الجزئية لهذه الحقوق فترك أمر تحديد عقوباتها للاجتهاد بما أسمي بالتعزيرات.. فإذا كانت عمدة القانون الجنائي: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ليكون المواطن على بينة من أمره، أدركنا أهمية التنصيص على العقوبات والجرائم الكبرى، التي تنال كيان المجتمع وتنتهك حقوق الإنسان، والتي لم يترك أمرها للاجتهاد من جانب، وكيف أن هذا التنصيص تعليم للإنسان بأهمية النص على العقوبات التعزيرية الاجتهادية أيضًا، ليكون الإنسان على بينة مما يلحقه عند الفعل أوالامتناع عن الفعل.
وقد تكون المشكلة اليوم، وعلى الأخص في عالم المسلمين، قضية حقوق الإنسان بين القيم الدينية والمسالك البشرية، أو بين نصوص الدين وواقع التدين، ذلك أنه بالإمكان القول: بأن كثيرًا من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، والتي حُذرنا منها، قد تسربت إلينا بشكل أو بآخر، فجعلت صورة التدين وعلى الأخص التعاطي مع حقوق الإنسان بهذا الشكل البئيس، حيث تسربت إلينا بعض الكهانات، واستمرأها بعضنا، فأصبح يتوهم أنه هو الإسلام والإسلام هو، ولابد أن يُحترم ويُكرم ويعظم ويبجل، لأن تكريمه تكريم للإسلام وتعظيم له، ولا يجوز أن يحاسب أو يراجع، لأنه يمثل قيم الإسلام، والقيم معصومة فهو يمارس المعصوم وإن لم يدَّع ذلك، وبدل أن يكون في خدمة الأمة، يتمثل قيم الإسلام في سلوكه ويجسدها في حياته وعلاقاته، تصبح الأمة في خدمته، وبدل أن يكون في خدمة المؤسسة التي يعمل فيها تصبح المؤسسة في خدمته(!)
لذلك نرى بعض الناس نفر من الدين بسبب هذه الصور المنفرة، ونرى كثيرًا من أفراد المجتمع في هذا المناخ الردئ والتدين المغشوش استمرأ هذه الكهانة، وقد لا يكون له أدنى كسب شرعي، وقد يكون أمضى عمره في تخصصات علمية- وذلك من الفروض الكفائية كما هو معلوم- فيغادرها إلى نوع من صناعة المشيخة ومنابر الوعظ والإرشاد، ويعيش نوعًا من العطالة، وقد يوقع الأمة جمعيها في الإثم لعدوله عن تخصصه، وبدل أن يكون في خدمة المجتمع يريد أن يصبح المجتمع في خدمته، وبذلك تمارس صور من التدين تزري بقيم الدين وتحاصرها وتهون من شأنها، بدل أن تغري بها، فتتحول المشكلة من أزمة تدين لتصبح أزمة دين، والعياذ بالله.
وقد لا نجد حرجًا في القول: بأن هؤلاء الذين غادروا تخصصاتهم العلمية إلى منابر الوعظ والإرشاد، قد أهدروا بذلك حقوق الأمة عليهم، حيث لم يقوموا بواجباتهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما تجاوزوا إلى مطالبة الأمة بحقوق لا يستحقونها، أو حقوق ليست لهم، لأن مالهم من حقوق إنما يتقرر في ساحة اختصاصهم مما تحتاج إليه الأمة.
ولعل من أخطر الإصابات التي نعاني منها على الأصعدة المتعددة، الاستمرار في هذه الصورة من الضخ الخطابي والكتابي عن تميز حقوق الإنسان في الإسلام، وعظمة القيم الإسلامية، وتفردها، وصوابيتها، وقدرتها على استرداد إنسانية الإنسان وتحقيق أمنه وسلامه، والإنجاز التاريخي العظيم لهذه القيم، وتنتهي مهمتنا عند النزول من على درجات المنبر، دون التفكير بواقع المسلمين المتردي وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار كرامته، ودون التفكير بوضع البرامج والآليات لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس، وتجسيد هذه الحقوق في حياتهم العملية، والانطلاق إلى فضاءات المجتمع والأمة، ووضع البرامج، وإقامة المؤسسات والروابط والندوات والنوادي المعنية بحقوق الإنسان وتحقيق كرامته، وإعادة النظر بتطوير نظام الحسبة ومؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإغراء الناس بالقيم الإسلامية، وإقناعهم بها، والإيمان بدورها في تحقيق كرامة الإنسان وتأمين حقوقه.
إن استمرار الكلام عن عظمة الإسلام، وما منحه للإنسان من حقوق، دون النظر في واقع المسلمين وأسباب العطالة لهذه القيم والتبصر بكيفية إعادة فاعليتها فأمر محزن قد ينال من القيم نفسها -كما أسلفنا- ويحمل الناس على التطلع إلى ما عند (الآخر) لعل فيه الخلاص، وعلى الأخص إذا كان من يدعون إلى تلك القيم هم أول من ينتهكها بسلوكهم، ولا يبصرون إلا حقوقهم، ولا يرون شيئًا من واجباتهم.(7/186)
ولا يعفينا من المسؤولية الإلقاء بالتبعة على (الآخر)، على الأنظمة السياسية والأجهزة الأمنية، أو صور الاستبداد السياسي بشكل عام، لأن فضاءات المجتمع كبيرة، وكبيرة جدًا، ودوائر الخير فيه تتسع لبذر الخير ورعايته، لكن المشكلة أننا نحاصر أنفسنا، أو نسوغ عطالتنا، دون أن نفكر كيف نتحول نحن إلى أدوات للتغيير، كل بحسب موقعه.
ولعل من المفارقات العجيبة والأمور الغريبة، أن تكون حقوق الإنسان أكثر انتهاكًا في عالم المسلمين، الأمر الذي يقود مجتمعنا، في معظم الأحيان، إلى انفجارات اجتماعية ومجازفات خطيرة، تهلك الأمة وتجعل بأسها بينها شديد، وتبدد الطاقة، وتقضي على الآمال، وتغري (بالآخر)، حيث يتمتع الإنسان بأقدار كبيرة من حقوقه وكرامته، لأنه قد يجد نفسه هناك ويفتقد نفسه هنا، وقد يستطيع أن يقول في الشارع ما لا يستطيع قوله في بعض مساجد العالم الإسلامي(!) وهذا من البلاء والفتنة والصراع الثقافي الذي لا ينفع معه الادعاء، ذلك أن إمكانية النهوض الحضاري ترتكز أساسًا على كرامة الإنسان وحماية حقوقه، حتى يتمكن من استثمار طاقاته والانطلاق وإعادة البناء، خاصة أن كل الادعاءات التاريخية لعوامل النهوض التي تجاوزت الإنسان إلى أشيائه باءت بالفشل، وفتحت المجال لتقدم (الآخر)، والمشكلة أننا نلغي الإنسان ومن ثم نتساءل: لماذا هذا التخلف؟!
ولعل من نعمة الله تعالى على هذه الأمة، امتلاكها لإمكان النهوض الحضاري عندما تعزم على الرشد وتأخذ ما آتاها الله بقوة.. فهي تمتلك النص الإلهي السليم، أو القيم المعيارية للفعل والسلوك البشري، الخارجة عن وضع الإنسان وعبثه.
كما تمتلك التجربة المعصومة من السيرة في تنزيل هذه القيم على واقع الناس، وتجسيدها في برامج وممارسات بشرية، إضافة إلى التاريخ الغني بعبر السقوط والنهوض، التي لم تقتصر على تجربة الرسالة الخاتمة وإنما تتقدم إلى الإفادة من رصيد تجربة النبوة التاريخية، والكثير من الفترات التاريخية التي مكنتها من التجاوز ومعاودة الانطلاق.. فسلامة المعايير كفيلة بإعادة التصويب باستمرار.. وتبقى المشكلة في كيفية التعامل مع المعايير أكثر منها في مسالك الناس وصور التدين.
وعلى الرغم من واقع الإنسان في عالم المسلمين، أو واقع حقوق الإنسان، التي قد لا ترقى إلى مستوى حقوق الحيوان في بعض الثقافات والمجتمعات الأخرى، مع ذلك ما تزال القيم الإسلامية - معقد الأمل- في امتداد وصعود وظهور، والإيمان بها يمتد في سائر الحضارات والثقافات والشعوب، مهما كانت درجة رقيها أو تخلفها، ولعل ذلك مؤشر على أن القيم الإسلامية الخالدة قادرة على إقناع الإنسان بها، والارتحال إليها، مهما كانت سويته الحضارية، ومهما كان الواقع الإسلامي، وهذا من الإمكان الحضاري للقيم الإسلامية القادرة باستمرار على انتشال الإنسان ليجد إنسانيته فيها، وهذا مؤذن بظهور الدين (الإسلام) على الدين كله، على الرغم من إصابات المتدينيين التي قد لا تثير الاقتداء.
ولا نزال نعتقد أن الإصابة الأساس تكمن في أدوات توصيل القيم الإسلامية وما نالها من العطب.. ومما لا شك فيه أن الالتزام بها أو التحلي بها وتوصيلها بالقدوة، يعتبر من أهم وسائل توصيلها وأكثرها تأثيرًا.
فالإسلام اليوم يظهر وينتشر بقوة مبادئه، وسلامة معاييره، وبعدها عن التحيز، ورصيدها في الفطرة الإنسانية، وتحقيقها لكرامة الإنسانية.. ولعل الإشارة إلى بعض المنطلقات الأساسية لحقوق الإنسان، تفسر لنا انتشاره وظهوره المستقبلي على الدين كله.
وقد يكون من أبرز المنطلقات: إعلان المساواة التي هي روح الحضارة الإنسانية، فالناس في الإسلام ينحدرون من أصل واحد، يقول تعالى: (( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى....)) (الحجرات:13)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب.....» (أخرجه الترمذي).
والإيمان في الإسلام بالإله الواحد، وتوجيه الخطاب للناس جميعًا، يسوي بين الناس، ويدفع تأله البشر وتسلط بعضهم على بعض، والتخلص من العنصريات والألوان والأجناس والشعب المختار، ذلك أن الإسلام دين مفتوح للجميع، والأكرم هو الأتقى، وليس حكرًا على جنس أو عرق أو طبقة أو جغرافية أو لون، وأن الحضارة الإسلامية جاءت نسيجًا من جميع العروق والأجناس والطبقات والمواقع الجغرافية.. فالتوحيد يعني التحرير -كما أسلفنا- ذلك أن الإشكاليات التاريخية المستهدِفة لإنسانية الإنسان وحقوقه إنما تركزت حول التمييز بشتى أشكاله، وتسلط الإنسان على الإنسان، وإكراه الإنسان على ما لم يقتنع به.. فالقيم التي معيارها وشعارها: «لا إكراه»، مرشحة لوراثة الحضارة والإنسانية واسترداد إنسانية الإنسان في كل مواقعها .
وهذا الكتاب، أُريد له أن يكون محاولة للتأصيل والتدليل على أن مقاصد الشريعة، بعد النظر والتدقيق، هي حقوق الإنسان، الهدف منها توفير الحقوق وحمايتها، وبيان ما تتميز به التعاليم والمعايير الإسلامية من منطلقات تؤكد وحدة الأصل البشري، وما يترتب عليها من المساواة التي تعتبر روح الحضارة، والتأكيد على كرامة الإنسان بأصل الخلق والتكوين، لمجرد كونه إنسانًا، مهما كان لونه وجنسه ودينه، كما تؤصل وتؤسس لحرية الاختيار تحت شعار: «لا إكراه»، وتعتبر أن إلغاء الاختيار والإرادة إسقاطٌ لإنسانية الإنسان.
إن «الإكراه»، أكبر من القتل، قال تعالى: ((وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة:217)، وإن الاعتداء على حقوق الإنسان يشكل جريمة اجتماعية وفردية، رتب الإسلام عليها عقوبات نصية حدية، ولم يترك أمرها للاجتهاد، حيث لا تستقيم الحياة إلا بتوفيرها.
والكتاب محاولة أيضًا لتحرير بعض الأحكام الفقهية، وأهمية الاجتهاد في إدراك مواصفات الخطاب الإلهي، وشروط تنزيله على محاله، عندما تتوفر الاستطاعات التي تعتبر مناط التكليف، وأهمية تطوير وسائل الرقابة العامة لحراسة الحقوق، وإبراز دور الحسبة في حماية الحقوق، والتأسيس لهذه الوسائل في إطار المجتمع المدني، ومحاولة فك الحصار عن القيم الإسلامية، وإعادة النظر بوسائل توصيلها لإلحاق الرحمة بالعالمين.
وتشتد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هذه البحوث في ظل الموجة العاتية لانتهاكات حقوق الإنسان، باسم حقوق الإنسان، وعودة التأله البشري، وتسلط الإنسان على الإنسان، تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أعطت بعض الدول لنفسها حق «الفيتو»، الذي أشبه ما يكون بالمقصلة التي تقطع رقاب الشعوب، وتغتال حقوق الأمم وليس الأفراد.
ونعتقد أن ما نقدمه في هذا الكتاب، هو استدعاء لبعض الأبعاد الحضارية الغائبة لمقاصد الشريعة، وإشاعة روح الاحتساب، وتصحيح صور من التدين، والتمييز بين قيم التدين ومسالك المتدينين، والوصول إلى بناء إنسان الواجب، إنسان الفاعلية، الذي يحتسب في حمل الفكرة ويضحي في سبيلها، دون أن يبالي بما يناله من أذى، أو ينتظر من فوائد وحقوق.
والحمد لله رب العالمين.
إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني
مما لا شك فيه أن فكرة حقوق الإنسان، بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم، هي فكرة غربية وثقافة غربية، بغض النظر عن التقائها وتقاطعها مع كثير من المبادئ والقيم الدينية، بل واستمدادها منها بشكل مباشر أو غير مباشر.(7/187)
ومما لا شك فيه أيضًا أن حركة حقوق الإنسان هي تطور إيجابي نوعي في تاريخ البشرية التواقة دومًا إلى عديد من الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الإنسان الحديثة.
غير أن حركة حقوق الإنسان هذه، المنتمية إلى الحضارة الغربية وإلى الثقافة الغربية، تفتقر إلى المرتكزات الثابتة والغايات المقصورة الواضحة، وإلى المعايير الضابطة والموجِّهة. وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تتأرجح وتتخبط وتسير في الاتجاه وضده حتى إنها تسير أحيانًا في خدمة الإنسان، وأحيانًا ضد الإنسان وفطرته، أحيانًا في خدمة الشعوب، وأحيانًا ضد إرادة الشعوب واختياراتها وقيمها.
وأهم خلل - في نظري- تعاني منه حركة حقوق الإنسان وثقافة «حقوق الإنسان»، هو أنها ركزت على حقوق الإنسان وأهملت أصل هذه الحقوق ومناطها الذي هو الإنسان، فكانت كمن اعتنى بجني الثمرة وتلميعها وأعرض عن سقي الشجرة وتهذيبها. والحقيقة أن هذا مجرد مثال للقيم المقلوبة المنكسة في الحضارة الغربية والثقافة الغربية، كما قال الله تعالى : (( أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الملك:22) ، فالتركيز على حقوق الإنسان، مع إهمال كيان الإنسان، ومع إهدار جوهر الإنسان، هو من قبيل تركيزهم على حقوق الإنسان دون تركيز مماثل على واجبات الإنسان حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ومن قبيل تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المقلوبة.
إنسانية الإنسان أولاً:
الوضع الطبيعي والسوي هو أن تكون العناية بالإنسان - من حيث هو إنسان - أسبق وأكثر من العناية بحقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق إنما أضيفت للإنسان واستحقها، لكونه إنسانًا، وليس لأنه كائن من الكائنات ومخلوق من المخلوقات، وإلا لوجب أن نتحدث بنفس المنطق وبنفس الدرجة عن حقوق الحيوان، وحقوق الحيتان، وحقوق الشجر والحجر.
فالعناية بالإنسان قبل حقوق الإنسان هي التي تسمح لنا أولاً بتحديد سبب هذا الامتياز، وثانيًا تجعلنا نصون سبب هذا الامتياز ونحافظ عليه، وربما نحسنه ونرقيه، وتجعلنا ثالثًا نوجه حقوق الإنسان بما يتلاءم ولا يتعارض مع هذا الامتياز الذي هو سبب وجود حقوق الإنسان، حتى لا نكون كمن يتمسك بالربح ويضيع رأس المال، بل نجعل الربح يعزز رأس المال وينميه.
فبماذا استحق الإنسان هذه الحقوق؟ وبماذا استحق كل هذه الحركة وهذه المعركة من أجل تلك الحقوق؟ لاشك أن هناك خصوصية وتفضيلاً وامتيازًا لهذا الإنسان، وإلا فلو رجعنا إلى مبدأ المساواة بين المخلوقات، لكان علينا أن نقول: كفانا من حقوق الإنسان، فقد أخذ هذا الإنسان على مدار التاريخ أضعاف أضعاف ما أخذته بقية المخلوقات من حقوق. علينا الآن - ونحن في عصر المساواة والإخاء والتسامح والتكافل - أن نركز على حقوق الكائنات الأخرى التي تتعرض لأبشع أشكال الاستغلال وأقصى درجات الإهمال لحقوقها، ويتم ذلك على يد الإنسان ولفائدة الإنسان؟
لن أمضي مع هذا الافتراض وهذا الاستطراد، مادمنا مجمعين على أفضلية الإنسان وامتيازه على باقي المخلوقات وعلى أن له من الحقوق ما ليس لها، وأن من حقوقه أن يسخرها ويستعملها لمصلحته، كما قال الله عز وجل: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(الجاثية:13)، وكما في قوله أيضا: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (الإسراء:70)
ولذلك أعود وأركز على قضية هذا البحث، القضية المهملة أو المغيبة لدى حركة حقوق الإنسان وفي ثقافة حقوق الإنسان؛ ألا وهي إنسانية الإنسان، وسبب الامتياز والتفضيل لهذا الإنسان.
في قصة خلق آدم ـ عليه السلام ـ تصريح بما خص الله تعالى به جنس الإنسان من أسباب التمييز والتكريم والتفضيل، نقرأ ذلك في أمثال هذه الآيات:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30)، (( وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31)، (( عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) (العلق:5) ، (( الرَّحْمَانُ (1) عَلَّمَ الْقُرْءانَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ)) (الرحمن:1-4)، (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)) (الحجر:28-29)، (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )) (التين:4).
- فهذا الإنسان جعله الله خليفة في الأرض، وهو تشريف وتمكين لا نعلم مخلوقًا آخر حظي به.
- والله تعالى علم آدم الأسماء كلها، والأسماء هي مفاتيح العلم والتعلم. وهو سبحانه علمه ما لم يكن يعلم، ومن ذلك أنه علمه البيان، والبيان ليس مجرد النطق والكلام، بل البيان، قبل ذلك، فكر ونظم للأفكار، ثم بيانها.
- والله عز وجل خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وأكمل هيئة.
- والأهم من هذا كله، وسر هذا كله، هو أنه سبحانه نفخ فيه من روحه. وهذه الميزة في الحقيقة تمثل نوعًا من التشريف والتكريم لا يكاد يدركه عقل أو يستوعبه فكر، ولذلك جاء في الآية الأخرى: (( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )) (الإسراء:85)، ولا نعلم مخلوقًا آخر نفخ الله تعالى فيه من روحه ومنحه هذا الامتياز.
وعن هذا الامتياز ترتب أول حق من حقوق الإنسان، وذلك حين أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم. فالعلة الحقيقية لإسجاد الملائكة لآدم هي التسوية الخاصة الفائقة لهذا الكائن، تم تتويجها بالنفخ فيه من روح الله، وهذا واضح في النظم القرآني: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ )) (الحجر:29)، فهو سجود لهذه الخاصية ولأجلها، وليس كما زعم التعيس إبليس الذي أبى أن يسجد وقال: (( أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا )) (الإسراء:61)، وقال: (( لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)) (الحجر:33)، حيث رأى في سجوده لآدم سجودًا لكائن طيني لا أقل ولا أكثر.
فالنفخ في الإنسان من روح الله هو سبب سموه وتفوقه، ومنبع مواهبه ومؤهلاته، والمدد الدائم لتساميه وترقيه. قال القاضي أبو بكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))، قال: « ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالماً، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا، وهذه صفات الرب»[1].
هذه الصفات الربانية التي منح الإنسان قبسًا منها، ومنح القدرة على تنميتها واستثمارها هي كنز الإنسان ورصيده الأغلى، وهي التي تمنحه هذا التفوق وهذا الامتياز على سائر الكائنات والمخلوقات، وبفضلها صارت له ـ دون غيره ـ قضية اسمها قضية حقوق الإنسان.
الإنسان بين البعد الديني والبعد الطيني:(7/188)
لاشك أن الإنسان الحقيقي، صاحب الرفعة والامتياز، إنما هو الإنسان الذي تحدثت عنه الديانات ونزلت لأجله الرسالات، فجعلت منه محور الكون وسيد الكون، وأخبرت أنه يستمد من روح الله ومستخلف عن الله، وهو لذلك يجب أن يظل مؤمنًا بالله، مرتبطًا به، عابدًا له، وإلا انقطعت حباله وتمزقت أوصاله، فهذا هو الإنسان ذو البعد الديني.
أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان، بل لا تكاد تلتفت إلى هذا الإنسان صاحب حقوق الإنسان، ولا ترى في الإنسان وحقوق الإنسان سوى مجموعة من الطلبات والرغبات والتطلعات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية والجسدية ومحسناته السياسية والقانونية.
ومادام هذا الإنسان - عندهم- قد تم تجريده من أي أصل روحي، ومن أي بعد ديني، ولم تعد فيه ولا له ثوابت ولا مقدسات، فإن حقوقه نفسها تصبح خاضعة للتطوير والتكييف المستمر بلا حدود ولا محددات. المهم هو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني.
قلت قبل قليل: إن إبليس لم ير في الإنسان إلا بعده الطيني، مع أن الخالق سبحانه قد نص وصرح في خطابه بأنه سوّاه ونفخ فيه من روحه، فالإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان هو أول توجه أيديولوجي ضال عرفه التاريخ. ومهما تكن الأوصاف والمصطلحات التي يتم إضفاؤها على النظرة المادية للإنسان وعلى التفسير المادي للإنسان، مثل الحداثة، والعقلانية، والعلمية، والموضوعية...، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تجديدًا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى أنه كائن طيني صنع ((مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)).
وللأسف فإن حركة حقوق الإنسان تمضي اليوم مشدودة إلى هذه النظرة، ومحكومة بهذه الفلسفة، بل إنها تزداد إيغالاً فيها. فالاحتياجات والحقوق الدينية والروحية والخلقية مغيبة أو مهمشة، والحقوق المادية الجسدية هي المهيمنة. وأنا أعني بالدرجة الأولى التطورات الجارية حاليًا ومؤخرًا في مفهوم حقوق الإنسان وفي توظيف حقوق الإنسان، وإن كانت الأدبيات والإعلانات الحقوقية الأولى لهذا العصر مسكونة هي أيضًا بالهواجس المادية والحقوق الجسدية، مع إشارات مبهمة وخاطفة إلى بعض الحقوق المعنوية.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م، وهو أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه، قد تحدث بتفصيل وإسهاب عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، والإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.
وهذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد النفسية السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتبقي الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا، هذه الحقوق غائبة ساقطة، أو إن بالغنا في تحسين الظن وتحسين الفهم نقول: إنها هامشية باهتة غامضة؛ وذلك مثل الإشارات الخاطفة إلى مفردات العقل، والضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، وحماية الأسرة. وهذه -على كل حال- إشارات إيجابية لبعض الجوانب الإنسانية، لكن أيًّا منها لم يحظ بمادة مستقلة، وأكثرها لم تخصص له حتى جملة مستقلة، ولذلك قلت إنها مفردات.
فالمادة الأولى حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف : «وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا»، ثم لا نجد شيئًا قليلاً ولا كثيرًا يحفظ العقل والضمير أو يطالب بالمحافظة عليهما أو يندد بتضييعهما وتخريبهما.
والمادة الثانية عشرة تنص على أنه: «لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات».
شيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو أولى بالعناية والحماية هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، وليس مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء. بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذات اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجد من يعتبر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟
ولعل أهم شيء يخدم الإنسان وإنسانية الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو هذه الجملة التي جاءت في الفقرة الثانية من المادة (26): «يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً».. ولكن للأسف بقي هذا الإنماء الكامل مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.
غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن - كما أشرت من قبل- في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.
فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.
ومنذ بضعة شهور نسمع عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ المثليين، حتى إن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداءً تضامنيًا معهم تحت شعار: «يا شواذ العالم اتحدوا»، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر[2].. وكل هذا يتم باسم حقوق الإنسان.
وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أي عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.
وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية. وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.
وباسم حقوق الإنسان يجري هدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقة حب وتعلق وتكامل ووئام.
وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.
وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال الامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء...!(7/189)
حينما يجرد الإنسان من بعده الروحي، ويختصر في بعده الطيني، وحينما تنبني حقوق الإنسان على هذا الأساس وتوجه في هذا الاتجاه، فإننا نجد حينئذ حقوق الإنسان عبارة عن نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان.
إن الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه، هذه ونحوها من أمثالها ومما يتفرع عنها، كلها حقوق لا غبار عليها وعلى ضرورتها، ولكن العكوف عليها والانحصار في دائرتها يجعلها لا تختلف كثيرًا وجوهريًا عن حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده، وهي الحقوق التي يلخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في هذين النصين اللذين أوردهما لكل من أراد أن يدرس ويقارن.
قال رحمه الله: «القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحملها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه»[3].
وقال في نص آخر : «فصْلٌ في الإحسان إلى الدواب المملوكة، وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك مالا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فمن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وقال : «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض ( أي دعوها تأكل من نبات الأرض)، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل) وقد غفر لبغي بسقي كلب»[4].
تزكية الإنسان ثانيًا :
إذا كانت إنسانية الإنسان، بما تعنيه من خصائص وامتيازات لهذا الكائن، هي أول ما يجب أن نحافظ عليه ونصونه، وننطلق منه في كل ما يتعلق بالإنسان، فإن تزكية الإنسان يجب أن تكون الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، ولكل نشاط يستهدف الإنسان.
فالتزكية هي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هذه الدنيا، وهي منتهى ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه.
والتزكية -كما هو متفق عليه عند اللغويين والمفسرين- تتضمن معنيين، أو هي تزكية ذات وجهين هما التطهير والتنمية. فالتزكية في الأمور المعنوية هي التطهير من العيوب والأدران والآفات (أي من الصفات السلبية)، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير ( أي الصفات الإيجابية).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء؛ وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات، تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) (التين:4-6).. وفي الحديث: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ففي الإرشاد إلى الإصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة» [5].
ويقول الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه : «فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات، فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق»[6].
وإذا كان الدين قد اعتنى عناية تامة بالأبدان وصحتها وطهارتها وتغذيتها وتزكيتها، فلا شك أن عنايته العظمى هي تلك الموجهة إلى تزكية النفوس وإصلاحها لأنها عنصر تفرد الإنسان ومجال ارتقائه، كما قال الشاعر:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
ولقد نص القرآن الكريم في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان وترقيته هي مقصود بعث الرسل عمومًا، وخاتمهم رسول الإسلام خصوصًا، قال تعالى: (( الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ )) (الجمعة:2).
فالآية الكريمة ناطقة صريحة في أن الرسول e بُعث إلى الناس لتزكيتهم، وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هي المعنى الغائي والهدف النهائي للرسل والرسالات في هذه الحياة الدنيا.
ومما يلفت الانتباه والتأمل في هذا الموضوع كون المعنى المنصوص عليه في هذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم ثلاث مرات أخرى:
- ففي سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )) (البقرة:129).
- وفيها أيضًا: (( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ )) (البقرة:151).
- وفي سورة آل عمران: (( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ )) (آل عمران:164).
ولقد جاءت في القرآن الكريم نصوص أخرى تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغاية القصوى والمقصد لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله عز وجل: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)) (الشمس:7-10)، وقوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)) (الأعلى:14).
وإذا كانت الصفات الخيرة الحسنة هي الأكثر تأصلاً وعمقًا في كيان الإنسان، فإن اتصاف هذا الإنسان منذ البداية ببعض النقائص، مع قابليته لاكتساب صفات سيئة وشريرة، وقابلية النقائص الأصلية للنمو والتضخم، هي كذلك أمور ملموسة ومعيشة، بل ومصرح بها في نصوص الوحي، فالآية السابقة: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) تفيد القابلية للاتصاف بالصفات الصالحة وتنميتها (التقوى) وبالصفات الفاسدة وتنميتها (الفجور).(7/190)
وفي عالم النفوس -كما في عالم الأجسام- فإن الله تعالى الذي خلق الداء خلق له ومعه الدواء، فلكل داءٍ دواء، ولكل عيب شفاء، قال تعالى: (( إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ )) (المعارج:19-28).
والإنسان قابل، بل ميال، للبغي والطغيان، وشفاء ذلك في أن يعرف ربه ويعرف أنه راجع إليه وواقف للحساب بين يديه: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى)) (العلق:6-8)، وقوله سبحانه وتعالى: (( فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَءاثَرَ الْحياةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) (النازعات:37-40).
ومعلوم في جميع الديانات أن أهم وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان ويرتقي فيها - بعد الإيمان بالله تعالى- هي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات، كالذكر والتفكر والصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر النفقات.
وإن من أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين أو كائن متعبد، عن طواعية واختيار. فالملائكة تعبد الله بصورة جِبِليَّة خالصة، ليس لها فيها اختيار أو رفض، أو تأخير أو تقصير، وبقية الكائنات تخضع لسنن الله تعالى ونواميسه، في حركاتها وسكناتها، وحياتها وموتها، ونموها وتكاثرها، وغير ذلك من شؤونها. والإنسان يشترك معها في هذا الخضوع التلقائي، أو في هذه العبودية الاضطرارية، ولكنه يتميز بعبودية أخرى يتجاوب معها أو يتنكر لها بإرادته واختياره، وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين. فبها يتميز، وبها يتزكى، وبها يحافظ على سموه وسر تفوقه على سائر المخلوقات. ولذلك كانت هذه الخاصية مقصدًا عامًا وأساسيًا من مقاصد الشريعة. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا»[7].
وإذا كانت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد جاءت بحفظ كافة حقوق الإنسان، وعلى يد الأنبياء عرف الناس فكرة الحقوق والواجبات، ومن شرائعهم ومبادئهم وقيمهم التي زرعوها في تاريخ البشرية وثقافاتها، استمدت حركة حقوق الإنسان وجودها ومشروعيتها وأهم مبادئها، فإن هذه الشرائع والرسالات المنزلة كانت كلها تبتدئ بقضية عبادة الله، باعتبارها الضامن والداعم لأخص خصائص الإنسان التي عليها تنبني مشروعية حقوق الإنسان، فضلاً عن كونها مجالاً للتسامي والترقي لا يشبهه شيء ولا يدانيه شيء. وهكذا ما من نبي بعثه الله إلا قال لقومه: ((ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ))[8] فلذلك صار تدين الإنسان وتعبده لربه الصفة المميزة للإنسان وسلوكه«مما يجوز معه أن نعرف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين. فالهوية الإنسانية تكون في حقيقتها هوية دينية»، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن[9].
والعبادة كما هو معلوم تشمل الإنسان في روحه وعقله ونفسه وعاطفته وبدنه وحواسه وماله ووقته وفكره وعلمه. ومعنى هذا أن العبادة تزكي الإنسان بكل جوانبه وأبعاده. غير أن تزكية النفوس خاصة تبقى ذات أولوية واضحة في التعاليم والتكاليف الدينية، إذ النفس هي مجمع الآفات والنزعات والشهوات: ((إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى)) (يوسف:53).
ومن أمثلة الآفات النفسية التي وجهت العبادات لمعالجتها وتزكية الإنسان منها: آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به. فبسبب ذلك يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون، وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته، فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هذه الآفة. والنصوص المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة متنوعة، وخاصة تلك المتعلقة بالتوجيهات القيمية النظرية، وأقتصر على بعض النصوص الإجرائية العملية الموجهة بشكل صريح إلى تزكية الإنسان من هذه الناحية.
فمن المعلوم أن من أركان الإسلام الخمسة فريضة الزكاة، ودور هذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولاً وأساسًا. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون غيرها من علل الزكاة ومقاصدها، قال تعالى: (( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).
ولم يقل خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم، بل تطهرهم وتزكيهم هم أنفسهم. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها، قال العلامة الكاساني في بدائعه : « الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).
وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكرُ النعمة فرضٌ عقلاً وشرعًا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة»[10].
ووظيفة التزكية ليست خاصة بالزكاة، بل هي منصوص عليها وعلى طلبها في كافة أوجه الإنفاق الشرعي، قال تعالى: (( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَالاْولَى(13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى)) (الليل:5-18)، وقال سبحانه: (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) (آل عمران:92).
وليست العبادات وحدها هي مجال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هذا الهدف وهذا المقصد. ومن ذلك مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. ومن يلقي نظرة ولو سريعة على كتب السنة النبوية فسيجد أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.
وقد يبدو لبعض الناس أن ما عرفته البشرية اليوم من ارتقاء قانوني ومن تقدم حقوقي، وما وصلت إليه في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.(7/191)
ولاشك عندي أن نوعًا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، ولكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدمًا ظاهريًا إلزاميًا، يظل محكومًا بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرًا حقيقيًا في النفس وفي الضمير. وما أكثر ما نرى دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويقلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية التي لا تعرف للإنسان حقًا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلاًّ ولا ذمة. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحوافز القانونية والتدابير الإلزامية دعمًا للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.
وفي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيبة تزكية الإنسان، ها نحن نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.
لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هذا الحق حيزًا كبيرًا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله مازال حق العدالة وقوانين العدالة ملكًا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.
ولعل أهم تطور حصل في هذه المسألة هو أن الظلم أصبح اليوم قانونيًا مؤسسيًا أكثر من ذي قبل.. قديمًا كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!
أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول (هي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن ) قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هي تضعها وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد، بل للشعوب والدول!! أين المساواة.؟
حينما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجده يطالعنا في الفقرة الأولى من ديباجته بكون «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم».
ثم نجد في مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق».. فهل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟ هل يقيمون اعتبارًا للمواد القانونية المذكورة؟
القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟
وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم (وهذه هي الأغلبية العظمى فيه) ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شؤون هذا العالم ولا في شؤونهم هم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هي أساس العدالة، والعدالة هي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان ؟!
قد يقال: إن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد، مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! وأقول: وهذه أدهى وأمر، كيف يتم التركيز على حقوق الأفراد - على علاتها وآفاتها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟
على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.
إن الحركة الحقوقية بحاجة ماسة إلى أن تكون حركة أخلاقية وليس مجرد حركة قانونية ثقافية وفكرية. فبدون أخلاق وبدون تخليق، ستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد. وأكثر من ذلك كله، ستظل عرضة للتكييف والتوجيه والتعطيل، بحسب ما يريده أصحاب الغلبة والنفوذ وذوو النزوات والشهوات.
وكما يقول د.طه عبد الرحمن: «فإن ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة الخَلق سواء بسواء، فلا إنسانية بدن أخلاقية»[11].. ولذلك كان جوهر رسالة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، هو غرس الأخلاق، وتنمية الأخلاق، وصيانة الأخلاق، كما قال خاتمهم ومتمم مقاصدهم، نبي الإسلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[12].
الهوامش :
[1] أحكام القرآن، 4/415، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.
[2] عن جريدة التجديد المغربية، عدد 260، بتاريخ 4 يناير 2002م.
[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/141، دار المعرفة، بيروت، د.ت.
[4] شجرة المعارف والأقوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 169، تحقيق إياد الطباع، الطبعة الأولى، 1989م/1410هـ، دار الطباع ، دمشق.
[5] التحرير والتنوير، 2/49، الدار التونسية للنشر، 1984م.
[6] المستخلص في تزكية الأنفس، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع.
[7] الموافقات، 2/168.
[8] تكرر هذا المعنى كثيرًا في القرآن الكريم على لسان الأنبياء خطابًا لأقوامهم، انظر على سبيل المثال سورة الأعراف، الآيات 59، 65، 73، 85 وسورة هود الآيات 50، 61، 84.
[9] سؤال الأخلاق، الطبعة الأولى، 2000م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.
[10] بدائع الصنائع، 2/4، طبعة دار الفكر، بيروت، 1417هـ/1996م.
[11] سؤال الأخلاق، ص 55.
[12] الموطأ، كتاب حسن الخلق.
--------------
مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
مقدمة:
الحمد لله، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على الإنسان الكامل، معلم الناس الخير، ومرشد البشرية إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد كرّم الله الإنسان، واصطفاه على سائر خلقه، وجعله سيدًا في الأرض، وأمده بالوحي السماوي، والرعاية الإلهية، والشرع القويم، وأرسل له الأنبياء والرسل، وأنزل عليه الكتب، ليسير على الهدي السديد، والصراط المستقيم، وشرع له الأحكام لبيان الحقوق والواجبات..ولكن الإنسان ظلوم جهول.. جُبِل على العدوان والشر أحيانًا، وكثيرًا ما يكون ذئبًا على أخيه الإنسان، إن لم يكن أشد فتكًا به من الوحوش الضارية.(7/192)
وظهر ظلم الإنسان للإنسان، والاعتداء عليه، طوال التاريخ في صور عديدة، وتحت شعارات مختلفة، ولأسباب متنوعة، داخلية وخارجية، عرقية وعنصرية، أخلاقية ومالية، دينية واقتصادية، وخاصة في العصور المظلمة في أوروبا، المسماة بـ (العصور الوسطى)، مع غياب العقيدة الصحيحة، والدين الحق، والشريعة السمحاء.. وتكرر الدمار والإبادة للإنسان من أخيه الإنسان، في القرن العشرين في عدة حروب، ثم كانت الحرب المدمرة الفتاكة الأولى في القرن الحادي والعشرين، وقد يتفاقم الظلم والعدوان في إطار الأسرة الواحدة.
وقام المفكرون والمصلحون في أوروبا خاصة، وفي العالم عامة، يحذرون من هذا الظلم والعدوان، ويدعون للاعتراف بحقوق الإنسان، حتى ظهر لأول مرة إعلان حقوق الإنسان في فرنسا، عام 1789م. ولكنه اقتصر على الدعاية، وكان مجرد شعار، لكنه ترك أثره في توعية الأفراد والشعوب، حتى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، ثم الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية عام 1966م، وظهرت منظمات حقوق الإنسان.
ومع غياب الوعي الإسلامي الشامل خلال القرنين الماضيين، وتخلف المسلمين، وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية، وفرض الفكر الأجنبي، والغزو الثقافي والقوانين المستوردة، اختل وضع المواطن المسلم، وظهرت انتهاكات الحقوق، وارتفع على الأفق السؤال والاستفسار عن حقوق الإنسان في الإسلام، فنهض العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان، وأن الشرع الحنيف جاء -أصلاً- من أجل الإنسان، وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان، وهي المرجعية الوحيدة لحقوق الإنسان، وهذا يستدعي العودة أولاً لحظيرة الدين، لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة، ويمارس عمليًا حقوق الإنسان، ويطبقها فعلاً وليس دعاية وشعارًا.
وهذا موضوع البحث في هذه الورقات المعدودة، لنذكّر بمقاصد الشريعة، وما تحتويه من حقوق، وما تتضمنه من التزام حقيقي بذلك، دون الوقوف وراء النصوص البراقة، والدعايات الخادعة، والمتاجرة بالمبادئ، والكيل بمكيالين، والتستر وراء منظمات حقوق الإنسان، لتسويق السموم والأهداف الاستعمارية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للتأكيد أن الله تعالى قرر حقوق الإنسان لخلقه، وبيّنها في شرعه، وجعلها واجبات دينية فرض أداءها على العباد، لتأخذ طريقها للتطبيق الصحيح، مع الثواب لفاعلها، والعقاب الديني والدنيوي لمن يتجاوزها أو ينتهكها.
ونسأل الله التوفيق والسداد، وعليه التكلان.
مفهوم المقاصد:
المقاصد لغة: جمع مَقْصَد، من قصد الشيء، وقصد له، وقصد إليه قصدًا، من باب ضرب، بمعنى طلبه، وأتى إليه، واكتنزه، وأثبته.. والقصد: هو طلب الشيء، أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء، أو العدل فيه[1].
ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي: الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان[2].
تحديد مقاصد الشريعة:
إن الله تعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرّم بني آدم غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السموات وجعلهم الخلفاء في الأرض.
وإن الله تعالىلم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل بسيدنا محمدصلى الله عليه وسلم: (( رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ )) (الأحزاب:40)، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، فأكمل به الدين : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً )) (المائدة:3).
وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض، فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلاً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها، ثم لتأمينها وضمانها وعدم الاعتداء عليها.
وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، أو في العاجل والآجل، قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: «اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو عاجلة وآجلة، تفضلاً منه على عباده»، ثم قال: «وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى كل ما يقربهم إليه»[3].. ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر، ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً.
وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم، وأن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح، أو لدفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا.
وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها.
وإن الشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، إلا بينها للناس، وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها، مع إيجاد البديل لها[4].
والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والعقود المالية، والسياسة الشرعية، والعقوبات، وغيرها، جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
فالعقيدة بأصولها وفروعها جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة، والأهواء المختلفة، والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى، واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه إلى العليا، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وإنس وجن، ويترفع عن الأوهام والسخافات والخيالات، والأمثلة على ذلك واضحة وصريحة وكثيرة، من التاريخ القديم والحديث، ومذكورة في النصوص الشرعية.
وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصالح الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأن العبادات تعود منافعها للإنسان في كل ركن من أركانها، أو فرع من فروعها، والنصوص الشرعية صريحة في ذلك وكثيرة.
وفي المعاملات بيّن الله تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب النفع والخير لهم، ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش والحيف والظلم من العقود، لتقوم على المساواة والعدل بين الأطراف.
وتتجلى مصالح العباد في تحريم الخبائث والمنكرات لدفع الفساد والضرر عن الإنسان، وحمايته من كل أذى أو وهن.(7/193)
وتظهر مصالح الإنسان بشكل قطعي في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل، والإحسان إلى الإنسان، وتجنب الإساءة إليه ولو بالحركة والإشارة والكلمة واللسان، واليد والتصرفات، لتسود المودة بين الناس، ويكونوا كما صورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[5]، وهذا يوجب بيان أهمية معرفة المقاصد.
أهمية معرفة المقاصد وفوائدها:
إن تحديد الهدف والمقصد لعمل ما، هو الباعث لأدائه، والمحرك لتحقيقه، والدافع لإنجازه والامتثال له، والموضح للغاية منه.
كما أن الهدف والمقصد يحدد الطريق السوي للوصول إليه، لاختصار الوقت، واختيار المنهج الأمثل له، حتى لا تتشعب الأهواء وتتبدد الجهود.. وإن معرفة مقاصد الشريعة في أحكامها وفروعها لها أهمية عظيمة وفوائد كثيرة، للمسلم عامة، وللباحث والعالم والفقيه والمجتهد خاصة، وتتجلى في الأمور التالية:
1- إن معرفة المقاصد تبين الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة، وما يخرج منها.. فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة، فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم (فهو واجب عليه، وحق لغيره، وبالعكس).. وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر والمشقة والاضطراب فهو ليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، فيحرم على المسلم فعله لأنه يضر بنفسه أو بغيره، ويجب على الآخرين الامتناع عنه رعاية لحق سائر الناس[6].
2- إن معرفة مقاصد الشريعة تبين الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام، وتوضح الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل وأنزلت لها الكتب، فيزداد المؤمن إيمانًا إلى إيمانه، وقناعة في وجدانه، ومحبة لشريعته، وتمسكًا بدينه، وثباتًا على صراطه المستقيم، فيفخر برسوله، ويعتز بإسلامه، وخاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والديانات والأنظمة الوضعية.
3- إن مقاصد الشريعة تعين في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق المقاصد، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، مثل مراعاة جانب الفقراء في الزكاة، ورعاية جانب الصغار والأيتام والوقف في المعاملات، وهي المنارة والمشكاة التي تضئ للحكام في السياسة الشرعية، وقضاء المظالم، وفيما لا نص فيه.. كما تساعد المقاصد على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية والجزئية في الفروع والأحكام، مما يؤكد أن التعارض ظاهري بين الأدلة، ويحتاج إلى معرفة السبيل للتوفيق بينها، قال تعالى: (( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً)) (النساء:82).
4- إن بيان مقاصد الشريعة يبرز هدف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة.
وإن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، وإن العلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للخير والبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرزيلة والشر، لذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال وأشرف الأمور في تقرير حقوق الإنسان، وهي أسمى الغايات وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم، ولذلك يحرص الدعاة والمصلحون إلى اقتفاء الرسل، والدعوة إلى التزام الشرع الحنيف لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ومنع الاعتداء على حقوقه، أو تجاوز حدوده.
5- إن مقاصد الشريعة تنير الطريق في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية المنصوص عليها، وتعين الباحث والمجتهد والفقيه إلى فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع، كما ترشد إلى الصواب في تحديد مدلولات الألفاظ الشرعية ومعانيها، لتعيين المعنى المقصود منها، لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها، فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها.
6- إذا فقد النص على المسائل والوقائع الجديدة، رجع المجتهد والفقيه والقاضي والإمام إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان، وسد الذرائع والاستصلاح والعرف، بما يتفق مع روح الدين، ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية.
هذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه، لتضئ له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل والصواب والسداد.
وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرة التفسيرية للقانون، أو للنظام، لتبين للناس المقصد العام له، والمقصد الخاص لكل مادة، ليستطيع القضاة والمحامون وشراح القانون من حسن فهم القانون وحسن تطبيقه وتنفيذه والقياس عليه، أو التوسع فيه، أو الحفاظ عليه، أو تطويره، بما يتفق مع روح التشريع والقصد الذي وضع من أجله..وتطلب معظم الأنظمة من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة، وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما.
واتفق فقهاء الشريعة على أن تصرفات الإمام أو من ينوب عنه منوطة بالمصلحة، أي أن جميع تصرفات الحكام والمسؤولين مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، وتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة، ووضع الفقهاء القاعدة الفقهية المشهورة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»[7].
تقسيم المقاصد بحسب المصالح:
تبين مما سبق أن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن المصالح ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية، ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح، والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم[8].
ومن هنا حصر العلماء مصالح الناس، وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاثة، وهي:
1- المصالح الضرورية:
وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى، وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار، وضاع النعيم في الآخرة، وحل العقاب.(7/194)
وهذه المصالح الضرورية هي الأساس لحقوق الإنسان، وهي السند لها، والركيزة التي تعتمد عليها، والكوكب الذي تشع منه، سواء كانت حقوقًا عامة تنادي بها جميع الأمم والشعوب والدساتير والمواثيق العالمية، والقوانين والاتفاقات الدولية، وتسمى الحقوق الأساسية للإنسان، ومنها حق الحياة، وحق التدين، وحق الحرية، وحق المساواة، أم كانت حقوقًا فرعية وخاصة، وكلا النوعين هي واجبات على الآخرين يجب عليهم الالتزام بها، وحفظها لأصحابها، لأن كل حق يقابله واجب، والحق هو مصلحة مقررة شرعًا أو قانونًا، فالحق منفعة تثبت لإنسان على آخر، فالحق مصلحة قررها الشرع أو القانون، لينتفع بها صاحبها، ويتمتع بمزاياها، وبالتالي تكون واجبًا والتزامًا على آخر يؤديه، لتحقق الغاية منها [9].
- حصر المصالح الضرورية:
وتنحصر المصالح الضرورية للناس في نظر الإسلام في خمسة أشياء، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض أو النسب، والمال.
وجاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الضرورية، وذلك بتشريع الأحكام التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس، وتحفظ العقل، وتحفظ النسل أو العرض أو النسب، وتحفظ المال[10].
واتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الحقوق الأساسية والمصالح الضرورية للناس، فنادت بها، وحرصت عليها، وعملت على حمايتها وحفظها.
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة» ثم قال: «وهذ الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح»[11].
ثم قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها، يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر»[12].
2- المصالح الحاجية:
وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة، وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام الحياة، ولا يتهدد وجود الناس، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس، لترفع عنهم العسر، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق الأحكام الحاجية، كالرخص في العبادات، وأحكام المعاملات[13]، كما سيأتي بيانها.
3- المصالح التحسينية:
وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب والذوق العام، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه، وأكمل أسلوب، وأقوم نهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالضجر والخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.
وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة، والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال[14].
الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد:
جاءت الشريعة الإسلامية لتأمين المصالح جميعها، بأن نصت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل بأن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة.
وكان منهج التشريع الإسلامي لرعاية هذه المصالح باتباع طريقين أساسيين: الأول: تشريع الأحكام التي تؤمن تكوين هذه المصالح وتوفر وجودها.. الثاني: تشريع الأحكام التي تحفظ هذه المصالح وترعاها وتصونها، وتمنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، وتؤمن الضمان والتعويض عنها عند إتلافها أو الاعتداء عليها[15]، وبذلك تصان حقوق الإنسان، وتحفظ، وينعم الناس بها، ويتمتعون بإقرارها عمليًا في الحياة، وهو ما نريد تفصيله.
أولاً: حفظ الدين، وحق التدين:
الدين الحق مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومجتمعه، والدين الحق يعطي التصور الرشيد عن الخالق، والكون، والحياة، والإنسان، وهو مصدر الحق والعدل، والاستقامة، والرشاد.
والدين الذي نقصده هو الإسلام بمعناه الكامل، الذي يعني الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ودعا له الأنبياء جميعًا، وخصه ربنا بقوله: (( إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ)) (آل عمران:19)، وقوله تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (آل عمران:85).
وقد شرع الإسلام أحكام الدين، وتكفل الله تعالى بيانه للناس منذ لحظة وجودهم على الأرض، فقال تعالى: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (البقرة:38)، وأناط الله تعالى التكليف والمسؤولية بعد بيان الدين، فقال سبحانه وتعالى: (( وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) (الإسراء:15).
فبين الشرع أحكام العقيدة والإيمان كاملة في آيات كثيرة، وشرع الإسلام أركان الدين الخمسة، وبيّن أنواع العبادات وكيفيتها، لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ومن أجل حفظ الدين ورعايته، وضمانه سليمًا، وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة فيه، شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ)) (البقرة:193)، وقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ))(الحج:78)، وقال تعالى: ((ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ )) (التوبة:73).
وشرع الإسلام عقوبة المرتد، لأن ردته عبث في الدين والمقدسات، قال تعالى: (( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، واتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[16]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[17].
وشرع الإسلام -لحماية الدين- عقوبة المبتدع، والمنحرف عن دينه، وطلب الأخذ على يد تارك الصلاة، ومانع الزكاة، والمفطر في رمضان، والمنكر لما عُلِم من الدين بالضرورة، وغير ذلك، لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد، والعزوف عن منابع الإيمان، ولحفظهم عن مفاسد الشرك، ولإنقاذهم من وساوس الشياطين، وعدم الوقوع في الانحراف والضلال، وحتى لا يسفَّ العقل في تأليه الطواغيت وعبادتها، فينقذ البشرية من الاعتقادات الباطلة، والعبادات المزيفة، والترانيم السخيفة[18].(7/195)
ولم يقتصر الإسلام على أحكام إيجاد الدين وحفظه، بل شرع الأحكام الحاجية لصيانة الدين، وبقائه على أحسن صورة، وأجملها، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عند الناس للتخفيف عنهم، فأجاز النطق بالكفر عند الإكراه، وأباح الفطر في رمضان للأعذار، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا أو مستلقيًا على جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة، والمسح على الخفين.
ثم شرع الإسلام الأحكام التحسينية للناس للحفاظ على الدين، فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة، لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بنوافل العبادات، وإقامة المساجد، والنداء للصلاة بالآذان، وهو شعار الإسلام لإعلان التوحيد الخالص.. وشرع صلاة الجماعة، وترتيب الصفوف للصلاة، وخطبة الجمعة، والعيدين، لتعليم الناس دينهم ودنياهم.. وفي الجهاد حرّم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر وإتلاف المزروعات، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وفرض التبليغ قبل الحرب، ومنع الإكراه في الدين.. وهذا يقودنا للتفصيل في أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق التدين.
حق التدين:
يعتبر حق التدين، أو حرية الاعتقاد، من أهم حقوق الإنسان بعد حق الحياة، إن لم يسبقه معنويًا ويفوق عليه؛ لأن الدين أحد الضروريات الخمس، وهو أهم الضروريات، ويقدم على حق الحياة، لذلك شُرع الجهاد في سبيل الدين، وشرع الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الدعوة والحفاظ على الدين، لضمان حرية العقيدة، وحق التدين، ليحيا الإنسان الحياة الكريمة العزيزة، منسجمًا مع معتقده ودينه، وخاصة إذا كان الدين هو الحق الثابت، المنزل من الله تعالى، المحفوظ من التحريف والتبديل، المنسجم مع الفطرة والواقع، والتصور الصحيح عن الكون والحياة والإنسان.
وحق التدين مرتبط بالعقل والفكر، وحرية الإرادة والاختيار والقناعة الشخصية للإنسان، والعقيدة تنبع من القلب، ولا سلطان لأحد عليها إلا لله تعالى.
لذلك نص القرآن الكريم على حرية الاعتقاد وحق التدين صراحة، مع التحذير من الضلال والفساد، فقال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)) (البقرة: 256) ، وقال تعالى: (( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )) (يونس:99).. وأرشد القرآن إلى الدين الحق، وهو دين الفطرة، فقال تعالى: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ )) (الروم:30).
ثم هدد القرآن من أعرض عن الإيمان الصحيح بالله تعالى، وبشريعته الغراء، فقال تعالى: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)) (الكهف:29)، لأن الإنسان يولد أصلاً على الفطرة، حتى يبدلها بفعل إنساني، أو إيحاء شيطاني، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[19].
التسامح الديني:
إن الإسلام ضمن حرية الاعتقاد للمسلمين أولاً، ومنع الإكراه على الدين ثانيًا، وقرر التسامح الديني مع سائر الأديان، مما لا يعرف التاريخ له مثيلاً، ويظهر ذلك في المبادئ التالية:
1- حرية الاعتقاد لغير المسلم:
إن الإسلام لا يلزم الإنسان البالغ العاقل على الدخول في الإسلام، مع القناعة واليقين أن الإسلام هو الدين الحق المبين، وأن عقيدته هي الصواب والصراط المستقيم، وأنها المتفقة مع العقل، ومع ذلك يترك للإنسان البالغ حرية الاعتقاد، واختيار الدين الذي يريده، على أن يتحمل نتيجة هذ الاختيار، لما ورد في الآية السابقة: ((لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا))(البقرة:256).
وأكد القرآن هذه المعاني في عدة آيات، فقال الله تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) (يونس:99)، وقال تعالى: ((لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء)) (البقرة:272). فالهداية من الله تعالى.. والرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة والعلماء من بعده، مجرد مبلغين وناصحين ومذكرين، قال تعالى: ((فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22).
وبالتالي فإن الإسلام يترك للإنسان حريته واختياره في العقيدة؛ لأن الإيمان أساسه إقرار القلب وتسليمه، وليس مجرد كلمة تلفظ باللسان، أو طقوس وحركات تؤدي بالأبدان. ولكن القرآن دعا إلى إعمال العقل، وإجهاد الفكر لمعرفة الحق، والوصول إلى الخالق الواحد الأحد، وحث لذلك على معرفة الحقائق، واكتشاف أسرار الكون، وخزائن الأرض، مما يجعل التفكير ليس مجرد حق، بل هو فريضة إسلامية وعقلية.
2- احترام بيوت العبادة:
وهذا فرع من حرية الاعتقاد واحترام للعقيدة التي يختارها الإنسان، لذلك يترك الإسلام لغير المسلم حرية ممارسة العبادات التي تتفق مع عقيدته، ثم يأمر بالمحافظة على بيوت العبادة التي يمارس فيها شعائره، ويحرم على المسلمين الاعتداء على بيوت العبادة أو هدمها أو تخريبها، أو الاعتداء على القائمين فيها، سواء في حالتي السلم والحرب.. والوثائق التاريخية كثيرة في وصية الخلفاء لقادة الجيوش، وفي المعاهدات التي أبرمت في التاريخ الإسلامي، وعند الفتوحات ومنها الوثيقة العمرية مع أهل بيت المقدس، والدليل المادي الملموس شاهد على ذلك ببقاء أماكن العبادة التاريخية القديمة لليهود والنصارى وغيرهم في معظم ديار الإسلام والمسلمين.
3- المعاملة الإنسانية من المسلم لغير المسلمين:
يطلب الإسلام من المسلم أن يعامل الناس جميعًا بالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، وحسن المعاشرة، ورعاية الجوار، والمشاركة بالمشاعر الإنسانية في البر والرحمة والإحسان، وهي أمور يومية وشخصية وحساسة وذات تأثير نفسي كبير، بدءًا من معاملة الأبوين المشركين، إلى الإحسان للأسير، إلى الإنفاق على الأقارب وصلة الرحم والجيران غير المسلمين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أهل الكتاب، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، وسار المسلمون على سنته ونهجه طوال التاريخ.. وكان هذ السلوك القويم أحسن وسيلة للدعوة للإسلام، والترغيب فيه، والتحبيب بأحكامه، مما دفع الملايين إلى اعتناقه.
وإن منهج الإسلام في المعاملة الإنسانية لا يفرق بين الناس في الدين والعقيدة، لذلك أوجب إقامة العدل بين جميع الناس، ومنع الظلم عامة، وحمى الدماء والأبدان والأموال والأعراض للمسلمين ولغير المسلمين، وأمر بالإنصاف ولو مع العداوة واختلاف الدين، قال تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).(7/196)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظلم مُعاهِدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[20]، وروى الخطيب -بإسناد حسن- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»، وفي رواية للطبراني -في الأوسط- بإسناد حسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من آذى ذميًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»[21].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل القادمين من الأقاليم عن حال أهل الذمة، كما يسأل عن المسلمين والولاة والقضاة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: «إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا»، وسار على هذا المنهج الخلفاء والولاة.
وكانت هذه المعاملة الأدبية الإنسانية مع غير المسلمين سببًا رئيسًا في ترغيب الناس في الإسلام، ودخولهم في العقيدة، ومشاركتهم في الدين، وانضوائهم تحت راية الإسلام.
4- المعاملة المالية بين المسلمين وغيرهم:
قرر الشرع الإسلامي أن غير المسلم له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وبالتالي أجاز الإسلام التعامل الكامل مع غير المسلمين، وقرر لهم الحقوق والواجبات نفسها التي وضعها للمسلمين، وكفلها لجميع المواطنين في دار الإسلام.
ونتيجة لذلك عاش غير المسلمين في ظلال الخلافة الإسلامية، وفي أحضان المجتمع الإسلامي طوال الأحقاب والقرون، وكانوا ينعمون بالأمن والأمان، والعدل والإحسان، والحرية الدينية، والمشاركة في شؤون الحياة المالية والعلمية والوظائف كما ينعم المسلمون، وأنه إذا وقع ظلم أو اعتداء في بعض فترات التاريخ فإنه يقع مثله على المسلمين، وقد يكون أشد، كما حصل مع اليهود والمسلمين في الأندلس، والمسلمين والنصارى في فلسطين المحتلة، مع التركيز على المعاملة المتميزة لأهل الكتاب في بلاد المسلمين.
وعرف التسامح الإسلامي في التاريخ بصورة مشرقة لم تعرف البشرية له مثيلاً ولا نظيرًا في القديم والحديث، وشهادات المستشرقين والمؤرخين تؤكد ذلك، ويحسن مقارنتها بما فعل الرومان قبل الإسلام مع المخالفين لهم في العقيدة، وما فعله الأسبان في الأندلس، وما ارتكبه الصليبيون في القدس وبلاد الشام، وما يزال يفعله في كثير من بلاد المسلمين اليوم، مما لا مجال للتوسع فيه.
حكم الارتداد عن الإسلام:
وهنا تثار مسألة يظهر فيها شيء من التناقض والتعارض بين حرية التدين والاعتقاد وتحريم الردة عن الإسلام، لما أجمع عليه الفقهاء من اعتبار الردة جريمة كبرى، تستوجب العقاب الشديد في الدنيا، والعقاب الوبيل في الآخرة، لقوله تعالى: (( مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[22].
والحقيقة أن هذا الحكم الشديد للمرتد هو فرع عن حرية التدين والاعتقاد، لأن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه والدخول فيه، إلا إذا حصل عنده القناعة التامة، والرضى الكامل، والإقرار بأن الإسلام حق، فيعلن إسلامه، وينضوي تحت لوائه.. واتفق العلماء على أنه لا يقبل التقليد في العقيدة والإيمان، ولا بد من موافقة العقل والتفكير على ذلك، فإن ارتد بعد ذلك فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقاً ورياء، ولمصلحة خسيسة، وبقي الكفر في قلبه، فهذا يتلاعب في العقيدة والمقدسات ونظام الأمة، فيستحق القتل لهذه الجريمة؛ وإما أنه خرج من الإسلام لوسوسة شياطين الإنس والجن، وإغوائهم وإغرائهم، فهنا يستتاب، وتكشف له الحقائق، ويناقش في شبهاته، حتى لا يبقى له حجة، وتزال عنه الأوهام، فإن أصر على الباطل فإنه يقتل لجريمة العبث بالمقدسات والعقائد والأديان، وخروجه عن النظام العام، وخيانته للأمة التي ترعاه، والدولة التي تحميه، فقتل المرتد هو بحد ذاته حماية لحق التدين حتى لا يصبح هذا الحق ألعوبة وسخرية ومهانًا ورخيصًا كسقط المتاع.
لذلك انفرد الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في هذه النقطة المجمع عليها عن غيره، ونص أنه يتعين على المسلم -بعد أن اهتدى إلى الإسلام بالإيمان الصحيح المقنع بوجود الله تعالى، والاعتراف بوحدانيته، وتصديق نبيه- يتعين عليه الثبات عليه، ونصت المادة العاشرة منه على أنه «لما كان على الإنسان أن يتبع دين الفطرة، فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد».
أما في المواثيق الدولية وإعلانات حقوق الإنسان فإن حق التدين، وحرية الاعتقاد، ليس لها تاريخ بعيد في الغرب وأوروبا خاصة، وسائر أنحاء العالم، وإنما كان الإكراه على الدين هو السائد، والتعصب الديني هو السياسة العامة حتى قامت الثورة الفرنسية وأعلنت حرية التدين.
وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فنص على ذلك بتواضع واستحياء، ولم يخصص لذلك مادة مستقلة، وإنما جاء عرضًا ضمن المادة (81) التي تنص «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أن ذلك سرًا أم مع الجماعة».
كما نشير إلى أن الجهاد لم يهدف إلى إكراه أحد على الإسلام، وإنما كان منصبًا على تبليغ الدعوة، وإزالة حكم الطواغيت، وإخراج الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله، ومن جَوْر الحكام إلى عدل الإسلام، ولرفع العقبات أمام الدعوة، لتنفيذ حرية العقيدة والتدين، وإزالة الظلم، حتى يتمكن الناس من التفكير في العقيدة، واختيار الدين الحق، والإيمان الصحيح، قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: «إنا لا نكره أحدًا على الإسلام، ولو كان الكافر يُقَاتَل حتى يسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين».
ثانيًا: حفظ النفس وحق الحياة:
المراد بها النفس الإنسانية، وهي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية.
وشرع الإسلام لإيجادها وتكوينها: الزواج للتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري من أطهر الطرق، وأحسن الوسائل، ولاستمرار النوع الإنساني السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنى وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة التي كانت في الجاهلية، وتسود في الظلام، ومنع المومسات والخوادن، واستئجار الرجل لنسله، وتعدد الرجال.
وشرع الإسلام لحفظ النفس وحمايتها، وعدم الاعتداء عليها، وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والدية والكفارة، وحرم الإجهاض والوأد.
ثم شرع الإسلام الأحكام الحاجية في إيجاد النفس وحمايتها، فطلب رعاية الحمل والجنين، ومنح الحامل والمرضع رخصًا للتخفيف عنهما ورعاية وضعهما، ثم وضع الأحكام للأولاد بدءًا من الولادة في التسمية والحضانة والتربية والتأديب، والغذاء الحلال، والتعليم حتى البلوغ.
كما شرع الإسلام الطلاق، كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وجعل الدية على العاقلة في القتل الخطأ، تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي القتيل بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني.(7/197)
وفي سبيل حماية النفس، حرم الإسلام الانتحار، لأنه اعتداء على النفس الإنسانية، وشرع القصاص في النفس والأعضاء والجروح لحماية النفس من جهة، وإبقائها على أحسن صورة خلقها الله تعالى، ونص القرآن الكريم على الحكمة من القصاص، فقال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179).
وأثنى الله تعالى على المتقين الذين يعفون، ثم يحسنون، فقال تعالى: (( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:134).
وشرع الله الأحكام الحاجية والتحسينية لحفظ النفس، والحفاظ الكامل على الذات الإنسانية، فشرع الكسب للرزق الحلال الطيب، وأباح الطيبات من المطعومات والثمار، واهتم برعاية الجسم رعاية كاملة، فدعا إلى النظافة والطهارة، وندب إلى الرياضة والمبارزة، واعتبر الجسم السليم والقوة الجسدية ميزة في الأشخاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: ما قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[23]، وفي الحديث علاج لأمراض النفس، لمنع التردد والقلق والاضطراب.
ونلاحظ أن الحديث جمع بين القوة الجسدية والقوة النفسية والمعنوية، ثم ربط الأمرين بالإيمان بالله تعالى، وبالتسليم بالقضاء والقدر.
وطلب الإسلام البعد عن كل ما فيه هلاك محقق للجسم، أو خطر محدق، أو ضرر منتظر، وحرم كل ما يضر بالجسم، أو يوهنه، أو يضعفه، واتخذ جميع الوسائل لحفظ الحياة، وبذل الطاقة في صيانتها وسلامتها، والعناية بكمال الصفات، وكمال البدن، وحرم لحم الخنزير والميتة والدم، لضررها بالجسم وفساد تركيبها، وحذّر من الأمراض، وخاصة المعدية، وشرع التداوي، وأباح الزينة، وطلب الاعتدال في الطعام والإنفاق والشراب، وغيرها من الطيبات، وأنكر الامتناع عن الطعام زهدًا وتقشفًا، ونهى عن التبتل في العبادة، لأنه يضني الجسم، وحرم صوم الوصال، ومنع صيام الدهر، وجعل التكليف بقدر الاستطاعة، وفتح أبواب الرخص في العبادة والأحكام خشية العنت والمشقة، وصرح الفقهاء بقاعدة «صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان»، وأقام الإسلام منهجًا سديدًا لتنظيم الغرائز المختلفة والميول المتباينة، والعواطف المتعددة، وحرص على التوازن بينها، دون أن تطغى غريزة على أخرى، فيقع الإنسان في المهالك، وينتابه الشذوذ، أو تتحكم فيه الأهواء والشهوات، وتصرفه عن الجوانب العقلية والنفسية والروحية، فيختل نظام الإنسان والحياة.
حق الحياة:
يعتبر حق الحياة أول الحقوق الأساسية وأهمها بين حقوق الإنسان، وهو الحق الأول للإنسان، وبعده تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية لحقوق، وعند انتهائه تنعدم الحقوق.
وحق الحياة هو حق للإنسان في الظاهر، ولكنه في الحقيقة منحة من الله تعالى الخالق البارئ، وليس للإنسان فضل في إيجاده، وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الإسلام[24].
ولكن هذا الحق اعتراه الخلل والخطر في أحقاب التاريخ، فكانت بعض الشرائع تجيز قتل الأرقاء، ويتولى – أحيانًا - رئيس العائلة أو القبيلة أو الملك والسلطان حق الحياة والموت على الأفراد، وكان الأب - في الجاهلية- يحق له وأد البنات، ولا يزال هذا الخطر الداهم يهدد الإنسان حتى في الوقت الحاضر، وكثيرًا ما يقتل الأبرياء جورًا وظلمًا وعدوانًا لأوهى الحجج، وأسخف المسوغات التي لا يقرها العقل والشرع، وكثيرًا ما تكون حياة الإنسان محلاً للتجارب عند صنع الأدوية وأدوات التدمير الشامل.
ثم جاءت المواثيق المعاصرة تؤكد على حق الحياة، فنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ذلك، فقال: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه» (المادة/3)، ونصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، أنه «لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي» (م/6ف1)، ونص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على هذا الحق بصيغة إسلامية، فقال: «الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتضى شرعي» (م/2ف).
فحق الحياة حق مقدس ومحترم في نظر الشريعة الإسلامية، ويجب حفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»[25]، وجاء في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»[26].
وحق الحياة مكفول في الشريعة لكل إنسان حتى للجنين.. ويجب على سائر الأفراد أولاً، والمجتمع ثانيًا، والدولة ثالثًا، حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لضمانه، من الغذاء والطعام والدواء والأمن، وعدم الانحراف. وينبني على ذلك عدة أحكام شرعية نذكرها باختصار شديد:
1- تحريم قتل الإنسان: إلا لأسباب محددة، لأن حق الحياة مصون ومقدس بالنصوص القاطعة والدامغة، لما ورد في الحديثين السابقين ، ولقوله تعالى: (( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَق)) (الأنعام:151)، وقرر القرآن الكريم العقوبة المناسبة للقاتل، وهو القصاص، مع الإشارة إلى حكمته من ذلك، فقال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:179)، وقال تعالى: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) (البقرة:178)، فإن وقع القتل خطأ فيجب الدية تعويضًا للمجني عليه وورثته، مع الكفارة على الجاني[27].
2- تحريم الانتحار: لأن الحياة ليست في الحقيقة ملكاً لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى، والروح أمانة في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، لما روى الشافعي رحمه الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل نفسه بشيء من الدنيا عُذّب به يوم القيامة»[28].
3- تحريم الإذن بالقتل: وهذا فرع عن الأمر السابق، ويثبت الإثم للآذن وللمأذون له إن نفذ، لأن حق الحياة لا يجوز التصرف فيه إلا لله تعالى المحيي المميت.
4- تحريم المبارزة: وهي الاقتتال بين شخصين لإثبات حق، أو لدفع العار والإهانة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، ما بال المقتول؟ قال: كان حريصًا على قتل صاحبه»[29].
5- تحريم الإجهاض: وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا، وباعتداء، وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة.
6- إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: وذلك باتفاق الفقهاء للقاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات».(7/198)
7- حرمة إفناء النوع البشري: وذلك عندما يستعر القتال بين قبيلتين أو شعبين، أو تكتل دولي ضد آخر، أو ضد شعب أو أمة، ولذلك حرص الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان على التحذير من هذا الوباء، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي تطورت فيه الأسلحة الفتاكة والمدمرة، كالقنابل الذرية أو النووية أو الجرثومية أو الكيميائية أو المشعة، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل والفتك الإجرامي الذي يصيب الأبرياء والأطفال والشيوخ حتى أثناء الحرب.
ومن هذا المنطلق حرم جمهور العلماء فكرة تحديد النسل، والقضاء على الذرية، ولم يسمحوا إلا في صور محددة لتنظيمه وترشيده.
ويلحق بحق الحياة وجوب المحافظة على الكرامة الإنسانية، لأن الإنسان جسد فيه الحياة، وروح تتسامى في العلياء، وعقل يقدر الأشياء، فلا يقتصر حق الحياة على الجسد مع المهانة والمذلة، والله سبحانه كرّم بني آدم، كما سبق، وخلقه في أحسن تقويم.. كما يتصل بحق الحياة احترام الإنسان الميت، فيكرم بالغسل والتكفين والصلاة عليه ودفنه، ويحرم الجلوس على القبر، ونبشه، مع وجوب وفاء ذمة الميت قبل توزيع التركة[30].
ثالثاً: حفظ العقل، وحق التفكير والحرية:
العقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن بقية الحيوان.. وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان، ليرشده إلى الخير، ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا.
والعقل هو مناط التكريم والتفضيل للإنسان، قال القرطبي رحمه الله: «وإنما التكريم والتفضيل بالعقل»، وقال: «والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكيف، وبه يعرف الله، ويفهم كلامه»[31].
وإن وجود العقل لا دخل للإنسان فيه، وإنما هو مجرد جزء من إيجاد النفس، وذلك منحة وهبة من الله الخالق البارئ، وليس للعقل أحكام خاصة به بالذات، وإنما أحكامه أحكام النفس والجسم عامة، وربط الله تعالى به التكليف، مع الصلة الوثيقة بين النفس والعقل، أو الجسد والعقل والروح.
ولكن الحفاظ على العقل يختلف عن الحفاظ على النفس، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، مع أحكام الحفاظ على النفس، فدعا الإسلام إلى الصحة الكاملة في الجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرّم الإسلام الخمر وجميع المسكرات التي تضر سائر الجسم، ثم تزيل العقل خاصة، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه.
وشرع الإسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات الكحولية النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل يمثل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك[32].
ومن الوسائل الحاجية للحفاظ على العقل، واعتباره في الأحكام والتصرفات وسائر أعمال الإنسان، وضع الفقهاء أحكام الصبي المميز، والمعتوه، وأحكام تصرفات المجنون، وأحكام الحجر على السفيه والمبذر.
ومن أجل الاحتياط التحسيني على حفظ العقل وصيانته حرّم الإسلام القليل من الخمر، وإن لم يسكر، سدًا للذرائع، ودرءًا للمفاسد، فكل ما أدى إلى الحرام فهر حرام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»[33]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[34]، وقال أيضًا: «كل شراب أسكر فهو حرام»[35]، واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر «أم الخبائث»[36]، و«مفتاح كل شر»[37]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه»[38]، لأن الإسلام يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل حاسم، ويقطع دابر الشر عند العقل احترامًا وتقديسًا واعتبارًا.
كما تحرم المخدرات والمفترات، وسائر ما يزيل العقل ويؤثر عليه.
حق التفكير، وحرية الرأي والتعبير:
ويرتبط بالعقل حق الإنسان بالتفكير، حتى بالتدين والاعتقاد، كما سبق، وأن الإسلام جعل التفكير فريضة دينية، لإعمال العقل، وحثّه على الانطلاق والعمل، والنظر في الكون والحياة، وفي الأرض والسماء، ومنحه الحرية في الاعتقاد والتدين، وحرية التفكير المرتبط بالبحث والاختيار لكشف الحقائق، ومعرفة أسرار الكون، والاستفادة مما فيه، وحرية التعبير والدعوة إلى الخير، وحرية العمل، والمسكن، والانتقال، وغيره.
وتعني الحرية -عادة- الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره، وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال، عن إرادة وروية ورضى، دون إجبار، أو إكراه، أو قسر خارجي، وذلك بإعمال العقل، والتفكير في الأسباب والنتائج، والوسائل والغايات، لأن الإنسان يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل أو الامتناع عنه، دون ضغط خارجي ودون الوقوع تحت تأثير القوى الأجنبية عنه، فالحرية هي حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى.
ولكن هذه الحرية ليست مطلقة، وإلا أدت إلى الفوضى والدمار والتناقض، ولذلك يجب تقييدها، ولها قيدان أساسيان، الأول: أن تتوقف حرية الشخص عند حرية الآخرين، والثاني: أن تقييد حرية التفكير في حدود العقل وإمكانياته المادية، دون الغيبية، وأن تقيد بالأنظمة والقوانين العادلة التي ترعى المصالح العامة، وتشرف على ممارسة الحريات حتى لا تنقلب وبالاً على أصحابها، وهو ما نراه اليوم في إطلاق الحريات في بعض الجوانب، وغلّ يد الأفراد والشعوب في جوانب أخرى.
وتظهر حرية الرأي جلية بما قرره الإسلام من حق الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، وهو بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها، مع فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء.
وتظهر أيضًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مراقبة الحكام، ونصحهم، ومشاركتهم في اتخاذ القرار بالشورى، دون استبداد أو تحكم أو تسلط، مع ممارسة الحرية السياسية.
وكان الخلفاء والحكام يطلبون من الناس إبداء الرأي، ويلتمسون منهم النصح والإرشاد، ويتخذون ذلك ديدنًا لهم بجماعة خاصة، وبشكل عام مع الجماهير مما لا مجال للتوسع فيه[39].
وكانت حرية الرأي والتعبير من أكبر الجرائم في أوروبا، وكان الحكام يحتجون بالحق الإلهي في الحكم والعصمة والسداد في الرأي، حتى ظهرت الثورة الفرنسية فأعلنت حرية الرأي والتعبير، ونص على ذلك الدستور الفرنسي، ثم نص عليها معظم الدساتير وإعلانات الحريات الأساسية، وكرسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة التاسعة، مع تقييدها في المادة (92)، ثم نص عليها الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان في المادة (22).
رابعًا: حفظ العرض أو النسل، وحقوق الأسرة:
العرض فرع عن النفس الإنسانية، والأمر الضروري فيه حفظ النسل من التعطيل، ويأتي حفظ النسب أو العرض أمرًا حاجيًا ووسيلة له.. والعرض ما يمدح به الإنسان أو يذم، وهو أحد الصفات الأساسية للإنسان، التي تميزه عن بقية الحيوان، وهو ما حرص عليه العرب، وجاء الإسلام فأقره، وصار حفظ النسل من الضروريات، والقصد حفظه بأرقى الوسائل وأشرف الطرق.
وإن وجود النسل فرع عن وجود النفس التي شرع الله تعالى لوجودها الزواج، ويتأكد وجود النسل والنسب الصحيح بأحكام الأسرة من حسن اختيار الخطيبة، ثم عقد الزواج والمهر، ثم رعاية الزوجة والحمل، ثم وجود الأحكام الخاصة لكل من الزوجين، والمصاهرة، والمحرمات في الزواج، ووجوب النفقة الزوجية ونفقة الأقارب، ثم الوصية بالأولاد عامة، والبنات خاصة، وإقرار الميراث بسبب الزوجية والقرابة لتوثيق الروابط المادية والمعنوية.(7/199)
وإن الحفاظ على النسل مقصود لذاته من جهة، ويعتمد على وسيلة حفظ العرض، ورعاية الذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية، ويتشرد الأطفال، فتحل بالإنسانية النكبات والويلات والأمراض الاجتماعية والجنسية.
وشرع الإسلام للحفاظ على النسل والعرض أحكامًا كثيرة تبدأ من غض البصر، ومنع القذف، والإساءة للعرض.. وأقام الشرع حد القذف، وهو ما انفرد به الإسلام في العالم القديم والحديث، بأن جعل مجرد الشتم في العرض والنسب من حدود الله تعالى، كما هو ثابت بنص القرآن الكريم، في سورة النور، ثم يأتي حد الزنا على المعتدي على العرض والنسل ماديًا وعمليًا.
وحرّم الإسلام التبني، لأنه اعتداء على نسب الطفل، ونسل أبيه، وأنه يمثل سرقة الدم الحقيقي للإنسان.. ومنع الإسلام الخلوة بالأجنبية، لأنها ذريعة للزنى، وإشاعة للفاحشة، وسوء الظن والاتهام في العرض.. كما حرم الإسلام الخصاء الذي يؤدي إلى قطع النسل، كما حرم تحديد النسل، خشية أن يؤدي لنقص البشرية، وانقراض الجنس البشري، وهو ما ظهرت بوادره في معظم دول أوروبا وروسيا من نقص مخيف في عدد السكان، ولذلك يسعون لتعويضه بالسماح بالهجرة ومنح الجنسية والتوطين من بلاد أخرى.
وإكمالاً لهذه الأحكام وضع الشارع الحكيم ما يراعي المصالح الحاجية والتحسينية لحفظ النسل والعرض، فوضع شروطًا لعقوبة الزنا، والقذف، لأن الحد عقوبة كاملة، فيشترط كون الجريمة كاملة، وندب الشرع إلى الستر في ذلك، وأمر بدرء الحدود بالشبهات، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»[40].
حقوق الأسرة:
يرتبط حفظ النسل والعرض بتكوين الأسرة التي تعتبر الخلية الأولى في المجتمع الإنساني، وهي نواته وعماده، لأن الإنسان يولد فيها، وينشأ في أحضانها، ويترعرع في جنباتها، ويتطبع بطباعها، وتنغرس فيه بذور الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، أو الاستقامة والانحراف، ثم يخرج إلى المجتمع متأثرًا بأسرته وتربيته الأولى.
وتشمل الأسرة الأبوين والأولاد والإخوة الذين ينضوون تحت اسم العائلة الصغرى، ثم تتوسع لتشمل الأقارب من جهتي الأب والأم، والجد والجدة.
وتكوين الأسرة يتم - في نظر الإسلام- حصرًا بالزواج الذي يتحقق منه الإنجاب، ومن ثم حرّم الإسلام جميع العلاقات الواهية التي كانت منتشرة في الجاهلية الأولى، والتي بدأت تعود إلى الظهور، مما يثبت الشرع والعقل والواقع والنتائج صحة النظرة الإسلامية وسلامتها.
لذلك شرع الإسلام الزواج، وجعله سنة ومندوبًا للأفراد، وواجبًا للأمة عامة،ونظم الشرع الحنيف شؤون الزواج، وخصّه بمجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث، وأفرده الفقهاء في جميع المذاهب بأبواب مستقلة، ولعله أهم الأبواب وأوسعها بعد العبادات، مما لا مجال لعرضه مفصلاً، ويدرس اليوم في الأحوال الشخصية.
لكن أصابت الأسرة في التاريخ القديم والحديث نكبات شديدة، واعتراها خطب شديد، ولعب الهوى والشهوة والجنس دورًا شيطانيًا خبيثًا، ولا تزال الأسرة تُستهدف بوسائل متعددة، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات، ولكن استقر العمل في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بما يتفق مع الشرع الإسلامي الذي سبقه بأربعة عشر قرنًا، فاعتبر الأسرة هي أساس المجتمع، وأناط بها سائر المسؤوليات العائلية (م/61ف2).
ونصت المادة العاشرة من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على وجوب منح الأسرة أوسع حماية ومساعدة ممكنة، إذ أنها الوحدة الاجتماعية والطبيعية الأساسية في المجتمع، ثم أكدت المادة (32) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية على أهمية الأسرة، ونصت صراحة على أن «العائلة هي الوحدة الاجتماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق بالتمتع بحماية المجتمع والدولة، وتعترف بحق الرجال والنساء... بتكوين أسرة».. وجاء الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، فنظم بعض أحكام الأسرة والزواج باختصار شديد في المادة الخامسة، وأحال بالتوسع إلى كتب الفقه الإسلامي.
خامسًا: حفظ المال:
المال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة الأساسية التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وهو ما سخره الله تعالى للإنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية، وإلا صارت حياة الناس فوضى وبدائية وهمجية.
وشرع الإسلام لإيجاد المال وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع وإحياء الموات والاصطياد في البر والبحر، واستخراج كنوز الأرض.
وشرع الإسلام في سبيل الانتفاع بالمال المعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه، وتوفيره للمسلم، والتبادل به، كالبيوع، والهبة، والشركات، والإجارة وسائر العقود المالية.
وشرع الإسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم قطع الطريق، وسمى فاعليه بالمحاربين لله، وأقام لهم حدًا متميزًا، وهو حد المحاربين أو قطاع الطريق، وأجاز تقويم الأموال، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر العقد عليها باطلاً، ومنع اتلاف أموال الآخرين، وشرع الضمان والتعويض على المتلف والمعتدي[41].
وأرشد الإسلام إلى حسن استعمال الأموال والتصرف فيها، حتى قرر المبدأ الإسلامي: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، فإن أساء صاحب المال ذاته في ماله، وتعسّف في استعماله، ووضعه في غير مواضعه الشرعية قرر الإسلام الحجر على المعتوه، والسفيه، والمبذر.
وشرع الإسلام - لتنمية المال وتداوله- البيوع، والشركات، والإجارة، لتأمين التعامل الصحيح بين الناس، وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء، لتأمين حاجات الناس، وجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم.
وقرر الإسلام المؤيدات المدنية في الأموال والعقود، منها: البطلان، والفساد، والخيارات، ورخّص في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السَّلَم، وهو بيع المعدوم، وأجاز الاستصناع، والمزارعة، والمساقاة، لرفع الحرج عن الناس في التعامل.
كما حرّم الإسلام الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، وإضاعة المال، ونهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات، ولم يعتبرها مالاً، لضررها على الإنسان، ونهى عن الغرر، والجهالة في البدلين، وكل ما يؤدي إلى التخاصم، لتتم مصالح الناس دون الوقوع في الخصومات والخلافات والأحقاد والضغائن بين الأفراد.
وجمع الإسلام بين الأحكام المالية والأخلاق السامية، ورعاية القيم والآداب الراقية، والفضائل الحميدة، ومن ذلك شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والإنفاق من الطيب، وإحسان الأضحية... وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن الإسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفل إيجادها وتكوينها، وترعى حفظها وصيانتها، وأحكامًا مكملة ومتممة، لتأمين المصالح الحاجية والتحسينية لكل مصلحة ضرورية، وذلك ليؤمن للناس حفظ الضروريات، ويكفل بقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد.
حق التملك:(7/200)
ويتعلق بحفظ المال عدة حقوق من حقوق الإنسان، وأبرزها وأهمها حق التملك، ويعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء، والاستفادة منه واستغلاله.. والأصل أن يكون في الأعيان، ثم قرر في المنافع والحقوق، واليوم شمل الحقوق الأدبية.
والتملك في الأصل يقع على المال، الذي هو أحد الضروريات الخمس في الإسلام، ويعتبر المال أحد الدعائم الأساسية في التعامل، ويلعب رأس المال دورًا مهمًا في الحياة، وهوأحد عناصر الإنتاج، مع العمل والموارد الطبيعية، ويشكل حجر الزاوية في نظام الدول، وانقسامها -بحسب موقفها من المال والملكية- إلى أنظمة مختلفة، بل ومتباينة.. والمال نفسه من نعم الحياة من جهة، وهو زينتها، وفُطر الإنسان على حبه من جهة أخرى.
وأقر القرآن الكريم حق التملك، فنسب المال إلى الإنسان والناس، لأنهم يستأسرون به، ويعملون على حيازته، والاستفادة منه، والتصرف فيه، فقال تعالى مقررًا مشروعية الملكية، وسبل انتقالها: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ)) (النساء:29)، وقال تعالى: (( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)) (البقرة:188)، وقال تعالى: ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )) (النساء:5)، وقال سبحانه وتعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ)) (المنافقون:9)، وقال تعالى: ((وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:279).
كما أثبت القرآن الكريم حق التصرف بالمال، فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى (17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى )) (الليل:17-18)، وقال تعالى: ((مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ)) (البقرة:261)، وقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ)) (البقرة:274)، مع إقرار سبل الكسب والاستثمار، كما سبق.
والأصل في الملكية أن تكون للأفراد، وهي الملكية الفردية.. وأقر الإسلام الملكية العامة للدولة في الأموال التي تتعلق بها حاجات الأمة، وتهم مصالح الناس، ويتصرف فيها ولي الأمر بما فيه المصلحة العامة، كتملك مصادر الثروة، ومصانع الأسلحة، والصناعات الكبيرة، والموارد الطبيعية.. وأقر الشرع الملكية الشخصية الاعتبارية، كالوقف والمسجد والشركات.
ويتفرع على ذلك حماية المال الذي ثبت في النصوص الشرعية السابقة التي منعت أكل أموال الناس بالباطل، مع الاستعانة بأجهزة الدولة في ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»[42].
وقال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا...»[43].
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[44].
وقرر الفقهاء القواعد الفقهية لذلك، منها: «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي»، و«لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن»[45].
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتلاف المال، فقال: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»[46]، وقال أيضًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»[47]، وقرر الفقهاء ضمان الأموال.
وإن حق التملك، وحرمة الملك، لا يعني الاستئثار المطلق، وحرية التصرف المطلقة، وإنما رسم الشارع لذلك نظامًا محكمًا لصرف المال والانتفاع به، وصرفه في طرقه المشروعة، وتعلق حق الآخرين فيه، وهي واجبات على المالك، وحقوق لغيره، ومنها:
1- إخراج الزكاة والصدقات.
2- النفقة على النفس والأهل والأولاد والأقارب.
3- استثمار المال في الوجوه المباحة شرعًا، فيجب استثماره، وخاصة مال اليتيم والمحجور عليه، ويحرم ادخاره واكتنازه وتعطيل منافعه.
4- تطبيق نظام الميراث على التركة بعد الموت.
5- قيود الملكية الواردة على المحل، وعلى سلطات المالك في الانتفاع والتصرف والاستغلال، والقيود المتعلقة بالمصلحة العامة، والقيود المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، والتكافل بين الأفراد، مع الاعتراف بحرية التعاقد للتصرف بالملك حسب الإرادة والرضى.
وإن حق التملك مقرر في جميع الأنظمة والشرائع، مع تفاوتها في القيود، وأسباب التملك، وسلطات المالك، وطرق الانتفاع والاستثمار.. ولما طغى الإقطاع في أوروبا وظهرت الرأسمالية واستبداد الأغنياء بمقدرات الشعوب والأمم، وجاء رد الفعل بالشيوعية وإنكار الملكية، جاءت إعلانات حقوق الإنسان والاتفاقات الدولية بإقرار حق الملكية -المادة (71) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة الأولى من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية، والمادة (51) من الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان- مما يتفق مع ما جاء في الشرع الحكيم.
وبعد:
فهذه لمحات سريعة، ومقتطفات يانعة عن مقاصد الشريعة الإسلامية وصلتها بحقوق الإنسان، ونستنتج الأمور التالية:
1- إن مقاصد الشريعة هي المنطلق الحقيقي والأساس لحقوق الإنسان.
2- إن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإنسان، وتحقيق مقاصده، وذلك بجلب النفع له، ودفع الضرر عنه، وتأمين السبل الموصلة لذلك، وضمان الرعاية والعناية للحفاظ على الحقوق.
3- إن التطبيق الحقيقي لحقوق الإنسان يكمن في التطبيق العملي للدين الحق، وهذا يستدعي العودة الجادة للالتزام بالعقيدة الصحيحة، والتدين الكامل الشامل، دون الاقتصار على الدعاية والشعارات والمتاجرة بحقوق الإنسان لأهداف استعمارية: سياسية، واقتصادية، وفكرية، وتربوية، وثقافية، ومصالح ذاتية.
4- تتدرج مصالح الإنسان على درجات، أهمها المصالح الضرورية، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال، ثم تأتي المصالح الحاجية التي ترعى المقاصد الخمسة، ثم المصالح التحسينية التي تكمل المقاصد، وتصونها في أحسن أحوالها.
5- إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية بالغة في بيان الإطار العام للشريعة، وتحديد أهدافها السامية، والمعاونة على الدراسة المقارنة والترجيح، وإبراز هدف الدعوة، والإنارة في الاجتهاد والاستنباط.
6- ورد في الشرع أحكامًا كثيرة، لبيان أحكامًا الدين وحفظه ومنع التلاعب فيه، وأعطى حق التدين حقه، وربطه بالفكر والعقل، وحرية الاعتقاد، واحترام بيوت العبادة، والمسامحة مع غير المسلمين، وعدم الإكراه في الدين، والتساوي في المعاملة المالية بين المسلم وغيره، مع تشريع العقوبة للمرتد، لأنه متلاعب بالدين، ويخالف النظام العام، ويعبث بالعقيدة، فاقتضى ذلك الحماية للدين نفسه.
7- نظم الإسلام إيجاد النفس بأفضل الطرق، وحرص على المحافظة عليها، ومنع الانتحار، والاعتداء عليها، وأوجب القصاص على العدوان العمد، وقرر حق الحياة لكل إنسان حتى للجنين، وأباح المحظورات للضرورة عند الحفاظ على النفس، وحرم إفناء النوع البشري بأية وسيلة تدميرية.(7/201)
8- كرم الله الإنسان، وفضله بالعقل، ولذلك أوجب حفظه وترشيده في الصحة الكاملة، وحرم كل ما يؤثر عليه أو يزيله، ثم منحه حق التفكير، بل فرض التفكير على الإنسان، وأعطاه حرية الرأي والتعبير ضمن قيود مضبوطة.
9- إن حفظ النسل والعرض والنسب من خصائص الإنسان، فأوجب الشرع الحفاظ عليه حتى تدوم البشرية في أنصع صورها، مع أفضل القيم والأخلاق، ومنع اختلاط الأنساب والتبني، وأسهب الفقهاء في أحكام الأسرة، وجودًا، وحفظًا، وحماية، لأنها اللبنة الأولى في المجتمع، ومحط آمال العقلاء.
10- المال شقيق الروح، وشرع الإسلام الأحكام لإيجاده وتحصيله، واستثماره، وتداوله في المعاملات المتنوعة، وأقر حق التملك، والتصرف بالمال، وأوجب فيه الحقوق لأداء الصفة الاجتماعية فيه، لتحقيق التكافل والمواساة، ليكون الملك والمال وسيلة لتأمين رفاهية الإنسان وكفايته وتلبية حاجاته.
ويظهر كل من ذلك الصلة الوثيقة بين مقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، التي تعتبر واجبات والتزامات متبادلة بين الأفراد لإقامة العدل والإحسان والمساواة ورعاية شؤون الإنسان فردًا وجماعة.
نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم، ردًا جميلاً، لينعموا بسعادة الدارين، كما حصل للأجيال السابقة، فيكونوا خير خلف لخير سلف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
[1] القاموس المحيط، 1/327، مادة قصد؛ معجم مقاييس اللغة، 5/95؛ المصباح المنير، 2/691؛ مختار الصحاح، ص536؛ تهذيب الأسماء واللغات، 2/93.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، ص13؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص61.
[3] شجرة المعارف والأحوال، له، ص401.
[4] انظر: ضوابط المصلحة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ص45 وما بعدها، وقال العلامة القرافي رحمه الله تعالى: "الشرائع مبنية على المصالح"، شرح تنقيح الأصول، ص427؛ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جاءت هذه الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها"، الفتاوى الكبرى، 20/48؛ السياسة الشرعية، له، ص47.
[5] هذا الحديث أخرجه البخاري بلفظ "ترى المؤمنين..." (5/2238 رقم5665)؛ ومسلم باللفظ الأعلى (16/140 رقم2586)؛ وأحمد (4/270).
[6] يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها"، أعلام الموقعين، 3/5، تحقيق الوكيل، 3/14 (بدون تحقيق).
[7]القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي،ص436؛المادة78 من مجلة الأحكام العدلية.
[8] انظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/29 ومابعدها، 42 وما بعدها، ص71 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص80.
[9] حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص9، 140.
[10] المستصفى، 1/286؛ الموافقات للشاطبي، 2/4؛ علم أصول الفقه، الشيخ عبد الوهاب خلاف،ص199، ط8؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الزحيلي، ص60-61.
[11] المستصفى، له، 1/287.
[12] المستصفى، 1/288؛ وانظر: فلسفة العقوبة، للشيخ محمد أبو زهرة، ص42؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص5.
[13] المستصفى 1/289.
[14] الموافقات، 2/6؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص200؛ المستصفى، 1/290.
[15] الموافقات، 2/5، علم أصول الفقه، ص201؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص65.
[16] هذا الحديث أخرجه البخاري (3/1098رقم 2854) وأصحاب السنن وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار، 7/201؛ الفتح الكبير،3/175)، مسند أحمد (1/2، 7، 282، 283، 5/231).
[17] هذا الحديث أخرجه البخاري (6/2521 رقم 6484)، ومسلم (11/164 رقم1676)، وأصحاب السنن وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (نيل الأوطار، 7/7؛ الفتح الكبير 3/356).
[18] المستصفى، 1/287؛ الموافقات 2/5؛ ضوابط المصلحة، ص119.
[19] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/456 رقم 1292)، ومسلم (16/207 رقم2658).
[20] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/152)، والبيهقي (5/205).
[21] انظر الفتح الكبير (3/144).
[22] هذا الحديث صحيح، وسبق بيانه.
[23] هذا الحديث أخرجه مسلم (16/215 رقم 2664)، وابن ماجه (1/31)، وأحمد (2/366،370)؛ وانظر: الفتح الكبير (3/251).
[24] انظر بحثًا مستفيضًا عن حق الحياة في اشتراكية الإسلام، لأستاذنا العلامة الداعية الدكتور مصطفى السباعي، ص59 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، للدكتور محمد الزحيلي، ص86، 141.
[25] هذا جزء من حديث أخرجه مسلم (16/120رقم 2564)، وابن ماجه (2/1298)، وأبو داود والترمذي (انظر: نزهة المتقين، 1/251، الفتح الكبير، 2/322) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري عن ابن عمر (6/2490 رقم 6403)، وعن أبي بكرة (1/37، 52، رقم 67، 105)، ومسلم عن جابر(8/182 رقم1218).
[27] انظر اشتراكية الإسلام، ص61؛ التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، 1/446 –447.
[28] الأم (6/4)، وأحاديث تحريم الانتحار وأدلته كثيرة.
[29] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/20 رقم31)، ومسلم (18/11 رقم 2888)، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (الفتح الكبير، 1/87).
[30] انظر اشتراكية الإسلام، ص66 وما بعدها؛ حقوق الإنسان في الإسلام، ص141 وما بعدها.
[31] تفسير القرطبي 10/294؛ وانظر تفسير الطبري، 15/125، 30/242؛ تفسير القاسمي، 10/3950؛ في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/346؛ تفسير ابن عربي، 4/194.
[32] انظر الأصول العامة لوحدة الدين الحق، الدكتور وهبة الزحيلي، ص136.
[33] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/294)، والترمذي (5/607)، وابن ماجه وأحمد (6/71، 72، 131)، وابن حبان والنسائي عن جابر وعائشة (الفتح الكبير، 3/79).
[34] هذا الحديث أخرجه البخاري (1/95، 5/2121)، ومسلم (13/169، 172) وأحمد (2/16، 29، 31، 134)، وأبو داود(2/293)، والترمذي (5/598)، وابن ماجه (2/1124)، وانظر التلخيص الحبير، 4/73.
[35] هذا الحديث رواية ثانية للحديث الأول أخرجها البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
[36] هذا الحديث أخرجه القضاعي بهذا اللفظ، وأخرجه الدار قطني والطبراني في الأوسط بألفاظ قريبة.
[37] هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (4/145).
[38] هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/292)، وأحمد (1/316، 2/97) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الحاكم (الفتح الكبير، 3/13).
[39] انظر الحرية السياسية في الإسلام، في: اشتراكية الإسلام، ص85؛ حقوق الإنسان في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، ص183 وما بعدها.
[40] هذا الحديث أخرجه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا (4/688)، وابن ماجه (2/850)، والحاكم (4/384)، والبيهقي (8/238)؛ وانظر نيل الأوطار (7/110)؛ التلخيص الحبير (4/56).
[41] انظر الموافقات، 2/5؛ علم أصول الفقه، خلاف، ص201؛ قواعد الأحكام، 2/5؛ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، ص153.
[42] هذا حديث صحيح، سبق بيانه.
[43] هذا جزء من حديث صحيح، سبق بيانه.(7/202)
[44] هذا الحديث أخرجه البيهقي عن خيفة الرقاشي وغيره (6/97، 100)، وأحمد (5/425)، والدار قطني (3/25، 26)، وابن حبان (موارد الظمآن، ص283)، والحاكم وغيره (الفتح الكبير، 3/359).
[45] المادة (96، 97 من مجلة الأحكام العدلية)؛ القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، الدكتور محمد الزحيلي، ص504، 511.
[46] هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (2/841 رقم 2257)، وأحمد(2/361، 417)، وابن ماجه (2/806)، الفتح الكبير (3/151).
[47] هذا حديث أخرجه أحمد (5/8، 13)، والحاكم(2/47)، وأبو داود (2/265)، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/482)، وابن ماجه (2/802)، والبيهقي (6/90، 94)، والدارمي (2/262).
-------------------
إحياء وتطوير مؤسسة الِحسْبة لحماية حقوق الإنسان
الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير
إن مؤسسة الحسبة في الإسلام من أكثر المؤسسات الدينية التي لاقت اهتمامًا كبيراً من أغلب علماء الدين الإسلامي، من فقهاء، وقضاة، ومفسرين، وشراح أحاديث، وأدباء، ومؤرخين، ومترجمين، ومفكرين. ويرجع سبب ذلك إلى أن تلك المؤسسة تعبر تعبيراً صادقاً عن وعى الإنسان تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وتجاه دينه. كما أن لهذه المؤسسة دوراً كبيراً في حماية حقوق الإنسان، فتعد آلياتها من أكبر الضمانات لتلك الحقوق.
وقد جاء هذا البحث، في هذا العصر، لإبراز دور مؤسسة الحسبة في حماية حقوق الإنسان، بعد أن مرت عليها فترات من التاريخ أدت إلى طمس معالمها الحقيقية، وتشويه صورتها في أذهان كثير من المسلمين بسبب بعض التصرفات الخاطئة الصادرة عن بعض القائمين عليها.
ويشتمل البحث على مبحثين: الأول حول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام، والثاني حول: دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان.
المبحث الأول: تطور مفهوم الحسبة في الإسلام
للحسبة في الإسلام مفهوم واسع لا يقتصر على تلك الولاية الدينية العامة التي يسند أمرها الإمام إلى بعض الموظفين، وإنما يتعدى ذلك إلى تلك المؤسسات المدنية التي تقوم برعاية حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي. وتستند هذه السعة في مفهوم الحسبة إلى المعنى اللغوي للحسبة، والمعنى الاصطلاحي لها، وتأصيلها الشرعي.
وفيما يلي بيان ذلك.
أولاً: المعنى اللغوي للحسبة:
الحسبة في اللغة: (بكسر الحاء و تسكين السين) اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. والاحتساب مأخوذ من الحَسْب، وهو على عدة معان[1]:
فالمعنى الأول: العد و الحساب، فتقول:حَسَبْت الشيء أحسبه حساباً وحسباناً:إذا عددته. ومنه قوله تعالى: (( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً )) (الأنعام: 96) وقال تعالى: ((وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ )) (الإسراء: 12).
ويندرج تحت هذا المعنى احتساب الإنسان الأجر عند الله تعالى؛ إذا عده ضمن ما يدخر عنده تعالى. والاحتساب بهذا المعنى: إما أن يكون في الأعمال الصالحة، و إما أن يكون في الأعمال المكروهة التي تنزل بالإنسان. ففي الأعمال الصالحة، يكون بالقيام بأعمال البر على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو. وورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين...»[3].. وأما في الأعمال المكروهة، فيكون بالمبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. وورد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث برسالة لابنته التي توفي ولدها: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجلٍ مسمّى، فلتصبر ولتحتسب»[4].
والمحتسب يدخر الأجر عند الله تعالى على كل ما يقوم به من عمل، وما يلاقيه من نصب وتعب.
وأما المعنى الثاني للحسب فهو الكفاية، فيقال: احتسب بكذا: اكتفى به. ومنه قوله تعالى: (( وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) (آل عمران: 173)، وقوله تعالى: ((وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً)) (النساء:6).. والمحتسب يعتمد في كل أعماله على الله تعالى وحده لا شريك له.
وأما المعنى الثالث للحسب فهو الإنكار، فيقال احتسب عليه: أي أنكر عليه. وتسمية الإنكار بالاحتساب من قبيل تسمية المسُبب بالسبب؛ لأن الإنكار على صاحب المنكر سبب للأمر بإزالته، وهو الاحتساب.
وأما المعنى الرابع للحسب فهو التدبير، فيقال: فلان حسن الحسبة في الأمر: أي حسن التدبير له والنظر فيه وفق القوانين والأنظمة.. والمحتسب يقوم بتدبير خاص، وهو تدبير تطبيق الشرع الإسلامي. وهو أحسن وجوه التدبير.
وأما المعنى الخامس للحسب فهو الاختبار، فيقال: النساء يحسبن ما عند الرجال، أي يختبرن ما عندهم من تصرفات.. والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها، ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التحري والنظر في المآلات.
فالحسبة في معناها اللغوي لا تقتصر على مجرد الإنكار على "الغير" دون النظر إلى النتائج والمآلات، وإنما تتضمن عدة عناصر جوهرية وهي: المبادرة الذاتية إلى تغيير المنكر رجاء طلب الأجر والثواب من الله تعالى، والاختبار والتحري والنظر في المآلات والنتائج، ومراعاة السياسة الحكيمة في تغيير المنكر، واعتماد المحتسب على الله تعالى ليكون خير عون له على تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه. هذا بالإضافة إلى إنكار المنكر، الذي يعد عنصراً أساسياً في الحسبة.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للحسبة:
الحسبة في اصطلاح الفقهاء تطلق على عدة معان:
المعنى الأول: عرفها جمهور الفقهاء - باعتبارها وظيفة دينية يُسندها الإمام للمحتسب- بأنها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله»[5].. فالمعروف الذي يأمر به المحتسب المعين هو ما أمر به الشرع الإسلامي، والمنكر الذي ينهي عنه المحتسب هو ما ينهي عنه الشرع الإسلامي. وتقتصر وظيفة المحتسب على ما يظهر من الناس من منكرات من غير تجسس عليهم، وذلك بأن تكون مكشوفة للمحتسب: إما بالرؤية، أو السماع، أو النقل الموثوق، الذي يقوم مقامها، كما قال ابن تيمية: «إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه»[6].
وأما المعنى الثاني للحسبة، فقد عرفها كل من ابن بسام وابن الإخوة - باعتبارها وظيفة دينية- بالتعريف السابق مع إضافة عبارة: «وإصلاح بين الناس» فقال ابن الإخوة في تعريفها: «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس»[7]، وأيدا ذلك بقول الله تعالى: (( لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)) (النساء:114)، وقوله تعالى: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا)) (الحجرات:9)، وأرى أنه لا داعي لتلك الإضافة؛ لأن الإصلاح داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ابن الإخوة: «إن الإصلاح نهي عن البغي والفساد إلى طاعة الله»[8].
وأما المعنى الثالث للحسبة، فهو ما عرفها به أبو حامد الغزالي، وهي: «شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[9]، وقريب من هذا ما ذكره السنامي: «الحسبة في الشريعة عام تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى، كالآذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها. ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة، وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب»[10]، وما ذكره الأصفهاني: «فعل ما يحتسب به عند الله تعالى»[11].(7/203)
والأولى بالاعتبار المعنى الثالث للحسبة، فهي في الشريعة الإسلامية ذات معنى واسع لا تقتصر على تغيير المنكر الظاهر، وإنما تشمل كل ما يفعل، ويراد به ابتغاء وجه الله تعالى، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقة، والأذان، والإقامة، وأداء الشهادة، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك. ويؤيد ذلك: قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)) (الرعد:22)، وقوله سبحانه وتعالى: (( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ )) (البقرة:265)، وقوله: ((وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:272)..
فهذه الآيات تشير إلى أنه لابد أن تكون أعمال المسلمين ابتغاء وجه الله تعالى أو حسبة له. ويؤيد ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعه الخير، والرامي به، والممد به....»[12]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته»[13]وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً غير مدبر، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»[14]، وقوله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: «أو اثنان»[15]، وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً بعنوان: «ما جاء في أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى»[16]، ويدخل فيه الإيمان والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام. وذكر من الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»[17]، وقوله : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» [18].. هذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة واضحة على عموم الحسبة وشمولها، وعدم اقتصارها على نوع معين من الأحكام، وإنما تشمل جميع الأحكام.
ويمكن تعريف الحسبة بناء على ذلك بما يلي: «فعالية المجتمع المسلم في القيام بأعمال البر والخير، وتغيير المنكر وفق السياسة الشرعية، حماية لمقاصد الشريعة الإسلامية».. فالأفراد في المجتمع الإسلامي يتصفون بالإيجابية والفعالية والمبادرة إلى القيام بالأعمال ابتغاء وجه الله، وطلباً للأجر والثواب في الآخرة. ولا يتوقف قيامهم بها على تحصيل الأجرة الدنيوية. فهم يحتسبون عملهم عند الله تعالى سواء حصلوا على أجر دنيوي، بأن كانوا معينين من قبل رئيس الدولة، أم لم يحصلوا، بأن كانوا متطوعين. وهم يراعون في قيامهم بأعمال الحسبة الحدود الشرعية المرسومة، والسياسة الشرعية الحكيمة، فيوازنون بين المصالح والمفاسد التي تترتب على القيام بالأعمال، ولا يقدمون عليها إلا بعد حساب دقيق للنتائج والمآلات. وهم يقصدون من القيام بتلك الأعمال حماية مقاصد الشريعة الإسلامية من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فيعملون على حماية الدين والنفس والعقل والعرض و المال وغير ذلك.
ولا تقتصر هذه الفعالية على الفرد، وإنما تتعدى إلى الجماعة والدولة، فإذا كان الأمر بالمعروف واجب على الفرد المسلم، فإنه واجب على الجماعة، حيث يتعاون عليه الأفراد في الجماعات ويتشاورون فيه لقوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقال تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).
كذلك فإن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو واجب الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها، قال تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (الحج:41)، وقد اشار ابن تيمية[19] إلى هذا، حيث قال: «وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (التوبة:71)».
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره. والقدرة هو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ماليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: (( فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) (التغابن:16).. وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة.
ثم قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين..».. وبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس، فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحساناً إليهم، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن المنكر لكل أحد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف، ولا نهوا كل أحد عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد. والذين جاهدوا، كبني إسرائيل، فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال موسى لقومه: (( يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ...))، إلى قوله تعالى: ((قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) (المائدة:21-24)
أنواع الحسبة:
بناء على المفهوم الواسع للحسبة، يمكن تقسيمها إلى قسمين: رسمية وتطوعية:(7/204)
فالحسبة الرسمية التي تخضع لسيادة الدولة، كما قال ابن خلدون، هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين(الإمام)، حيث يعين لذلك من يراه أهلاً لها يسمى «المحتسب»، وهو يقوم باتخاذ الأعوان والمساعدين للقيام بتلك المهمة[20]. وقال ابن القيم: «جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم... والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق والحكم في الأنكحة والطلاق والنفقات وصحة العقود وبطلانها المخصوص باسم الحاكم والقاضي»[21]، وهي فرض عين على كل من الإمام والمحتسب.
وتختص ولاية الحسبة بالحكم بين الناس في القضايا التي لا تحتاج إلى دعوى وبينات، فيبحث المحتسب عن المنكرات الظاهرة، ويعزّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل: إقامة الصلوات، والمنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب (المدارس) وغيرها في الإبلاغ عن ضربهم للصبيان المتعلمين، ومنع البائعين من الغش و التدليس والتطفيف في المكاييل والموازين، ويتفقد أحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق، كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المنكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها... وغيرها مما يدخل في الإنكار على أرباب الغش في المطاعم و المشارب والملابس. فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة. والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه. فعليه أن لا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم[22].
ولا تقتصر اختصاصات المحتسب على الاحتساب على أصحاب المهن الحرة، وإنما تتعدى ذلك إلى الولاة والقضاة، كما ذكر ابن بسام وغيره من المصنفين في الحسبة[23]. ولهذا يشترط في المحتسب أن يكون عدلاً ذا رأي وصرامة وهيبة وعلم بالمنكرات وغير ذلك. كما ذكر الماوردي وغيره: «الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة و الغلظة تجوزاً فيها ولا خرقاً»[24].
وأما الحسبة التطوعية أو غير الرسمية «الأهلية»، فهي التي طلبتها الشريعة الإسلامية من المكلفين، لأن المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي فرض كفاية. ويطلق الفقهاء على من يقوم بهذه الحسبة: «المتطوع» [25] فهو يقوم بها من دون تعيين، ولا تولية من ولي الأمر، وإنما يستند في القيام بها على الواجب الديني الملقى على عاتقه، وهو واجب عام يرتبط بالوسع، ويؤديه كل مسلم حسب طاقته وقدرته، كما قال ابن القيم[26]: «وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية... فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز» قال تعالى: ((فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) (التغابن:16)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»[27].
وتختلف صلاحيات المتطوع عن صلاحيات المحتسب المعين؛ لأن المعين يقوم مقام ولي الأمر في هذا العمل، فيجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، بخلاف المتطوع، فلا يجوز له أن يعزّر ويعاقب في المنكرات الظاهرة، وإنما له النصيحة والوعظ والحوار والمجادلة وغير ذلك من الوسائل السليمة.
وإذا كان للمحتسب المعين أن يتخذ الأعوان والمساعدين للقيام بأعمال الحسبة، فإن للمتطوعين وآحاد الناس أن ينظموا أنفسهم ويكونوا الجمعيات والمؤسسات الأهلية للقيام بأعمال الحسبة التي تدخل في صلاحياتهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).
ثالثاً: التأصيل الشرعي للحسبة:
إذا كانت الحسبة تمثل الرقابة العامة على المجتمع، فإن قاعدتها وأصلها هو: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، كما قال ابن القيم: وهي صفة وصف الله بها هذه الأمة، وفضلها من أجل ذلك على سائر الأمم[28]. وتعد أدلة مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أدلة الحسبة. وفيما يلي بيان لذلك:
1- قوله تعالى: (( وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104).
2- وقوله تعالى: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (آل عمران:110).
3- وقوله تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )) (التوبة:71).
4- وقوله تعالى، في وصية لقمان لابنه: ((يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ )) (لقمان:17).
5- وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[29].
6- وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» [30].
7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم»، ثم قال: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )) (المائدة:78-79) ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنه على الحق قصراً» [31].
8- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يافلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»[32].
9- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس بالطرقات» قالوا: «يارسول الله مالنا من مجالسنا بد، نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[33].(7/205)
10- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: «أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: (( يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»[34].
11- وعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم» [35].
12- وقد أجمع العلماء على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل الإجماع كل من ابن عبد البر والجويني وابن حزم والقرطبي، حيث قال ابن حزم: «لا خلاف بين الأمة الإسلامية على وجوبه» [36].
المبحث الثاني:
دور الحسبة في حماية حقوق الإنسان
من أبرز معالم هذا العصر قضية حقوق الإنسان، فهي تشكل مرتكزاً أساسياً للخارطة الدولية. فما دور الحسبة الشرعية في حمايتها؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتضمن خمسة محاور: وهي الحسبة ومصدر حقوق الإنسان، والحسبة والغاية من حقوق الإنسان، والحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان، والحسبة ودور الدولة في حماية حقوق الإنسان، والحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان. وفيما يلي بيان لهذه المحاور.
أولاً: الحسبة ومصدر حقوق الإنسان:
إذا كان مفهوم حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة يستند إلى القانون الطبيعي المستمد من العقل الإنساني و الطبيعة، وإلى مبادئ العدالة التي تتركز في ضمير الإنسان ووجدانه، وما نتج عنها من حرية فردية وعقد اجتماعي، هذا بالإضافة إلى العلمانية السياسية التي اصطبغ بها الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر الميلادي، والتي عملت على استبعاد فكرة وجود قوانين إلهية تحدد حقوق الإنسان، واستبدال هذه القوانين بالقوانين الطبيعية التي لا علاقة لها بالله تعالى لا من قريب ولا من بعيد[37]، فإن الحسبة الشرعية، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي الذي يتعرض له الإنسان؛ تستند إلى الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، والذي يأخذه الإنسان المسلم بقلب مليء بالإيمان والعقيدة. وهذا يفسر لنا اقتران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان في كثير من الآيات، منها قوله: (( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (آل عمران: 110)، وقوله: ((مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)) (آل عمران: 113-114)، وقوله: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) (التوبة: 71).
«ومن النماذج الواقعية، ما روى الطبري في تاريخه أن ربعي ابن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه، فبادر رستم بسؤال الشيخ المجاهد: ما جاء بكم؟ فأجابه الرجل المؤمن على الفور: «الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»[38].
إن الحسبة الشرعية، بمفهومها الواسع للفرد والجماعة والدولة، هي محور حقوق الإنسان، وتؤصل لمصدر تلك الحقوق، فتربطها بالوحي الإلهى وعقيدة الإيمان بدلاً من ربطها بالطبيعة والعقل الإنساني المجرد ومبادئ العدالة وما ينتج عنها من عقد اجتماعي، وغير ذلك مما تقرره العقلية الغربية. وهذا مما يجعل هذه الحقوق ثابتة وموضوعية، وهي في حراسة عقيدة الإيمان وحمايتها، وهي ترتكز إلى أصول ثابتة في قلب الإنسان المسلم وضميره، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتجد احتراماً وتقديراً و قداسة من الإنسان.قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى)) (النحل:90)، وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الامَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)) (النساء: 58)، أما ربط حقوق الإنسان بالقانون الطبيعي فيجعلها خاضعة لاعتبارات ذاتية ترتبط بمصلحة الدولة أو مصلحة الحكام دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات، ولذلك قيدت نصوص المواثيق الخاصة بهذه الحقوق بالحماية التي كفلتها دساتير الدول[39].
وهذا يفسر لنا التصريحات المتناقضة بشأن حقوق الإنسان في الغرب، وسياسة الكيل بمكيالين ومدى (احترام) الغرب لحقوق الإنسان في غير بلاده!
ثانياً: الحسبة والغاية من حقوق الإنسان:
إذا كانت الغاية من حقوق الإنسان في القوانين الغربية المعاصرة هي تقرير القيم الغربية المستندة إلى مبادئ العدالة والحرية الفردية وتسويقها في المجتمعات الإنسانية عن طرق الدعاية الإعلامية، والدعوة إلى العلمانية أحياناً، وفي بعض الأحيان عن طريق الحرب، وتهديد الدول بوضعها في قائمة الدول المساندة للإرهاب والمنتهكة لحقوق الإنسان، فإن الغاية من الحسبة الشرعية هي تحقيق السلام العالمي، الذي يستند إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وحماية مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ودفع الفساد عنهم.
وهي مصالح لا ترتبط بفئة معينة، ولا بجنس الفرد أو لونه أو موطنه، وإنما تشمل جميع الناس. وهي تسعى إلى إيجاد عالم يتمتع فيه الإنسان بالكرامة الإنسانية وبحرية العقيدة والقول، ويتحرر من التسلط والظلم والفزع والفاقة، كما يقول الغزالي وغيره من العلماء المسلمين: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين... ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد»[40].
إن الحسبة في غايتها العالمية تؤصل للغاية من حقوق الإنسان، فهي غاية عالمية خالدة، وليست آنية يتوقف وجودها وإقرارها على مصالح الدول والأمم التي تروج لها، وهي ترجع إلى حفظ مقاصد الشريعة في الخلق، كما أشار الشاطبي، حيث ربط بين الحسبة ومقاصد الشريعة. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
فالضروريات هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.. ويتم حفظ الضروريات بأمرين:
الأول: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني:ما يدرأ عنها الاختلاف الواقع أو المتوقع فيها، وذلك مراعاتها من جانب العدم.(7/206)
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من ناحية الوجود: كالإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعمل من جانب الوجود أيضاً: كتناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات.. والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل و المال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس و العقل أيضا.ً. والجنايات راجعة إلى حفظ الجميع من دين ونفس وعرض وعقل ومال من جانب العدم.
والذي يجمع كل ذلك من الجانبين: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(الحسبة)، فيجمعها من جانب الوجود الأمر بالمعروف، ومن جانب العدم النهي عن المنكر.
وأما الحاجيات فترجع إلى ما يرفع الحرج عن الناس، ويخفف عنهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات و المبادلات. وهي جارية في العبادات والمعاملات والجنايات. ففي العبادات شرعت الرخص تخفيفاً عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم: كرخصة الإفطار في رمضان لكل من المريض والمسافر. وفي المعاملات شرعت البيوع والإجارات والمضاربات، ورخص في عقود لا تنطبق على الأصول العامة: كالسلم والاستصناع والمزارعة والمساقاة، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس. وفي الجنايات شرعت القسامة، وضربت الدية على العاقلة، وغير ذلك.
وأما التحسينيات فترجع إلى كل ما يجمل حال الناس ويجعلها على وفاق مما يليق بمحاسن العادات، وتجنب الأحوال المداسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك مكارم الأخلاق. وهي جارية في العبادات والمعاملات والعقوبات. ففي العبادات شرعت الطهارة وأخذ الزينة. وفي المعاملات منع الغش والتدليس والتغرير وبيع النجاسات. وفي العقوبات منع من قتل الرهبان والنساء والصبيان الذين لم يشاركوا في القتال، ونهي عن المُثلة و الغدر وغير ذلك[41].
ثالثاً: الحسبة وتحديد مضامين حقوق الإنسان:
إذا كانت المواثيق الغربية المعاصرة لحقوق الإنسان ودساتير الدول لم تتناول مضامين الحقوق بشكل قانوني منظم ومبوب، وإنما عمدت إلى تقريرها بأسلوب عاطفي أدبي، مما يزيد في انتقائية الدول لهذه الحقوق، ويجعلها في مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق أو عدم إقرارها في المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة العنصرية ضد الملونين التي تمارسها الدول الديمقراطية التي تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة التي تمارسها كثير من الدول الكبرى في العالم[42]، فإن علماء الحسبة الشرعية قد تناولوا مضامين حقوق الإنسان بشكل مبوب يفوت على الدولة الانتقائية في إقرار الحقوق، ويكسب تلك الحقوق الحماية.
فقد قسم ابن تيمية الحقوق إلى قسمين: أولهما: الحقوق التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم، كلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله وحقوق الله، ومثّل لذلك بحد قطع الطريق، وحد السرقة، والزنى، والتصرف في الأموال السلطانية (المالية العامة)، والوقف، والوصايا التي ليست لمعين. فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا بد للناس من إمارة، بَرَّة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء»، فهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به: وأما القسم الثاني: فهو الحقوق التي لآدمي معين، وترجع إلى حفظ النفس بالقصاص، والعقل، والمال بتشريع المعاملات وغير ذلك[43].
ويضيف الماوردي قسماً ثالثاً إلى حقوق الله وحقوق الآدميين: وهو الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين، ولهذا نجده قد قسم الحقوق ثلاثة أقسام وربطها بالحسبة بفرعيها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[44].
وجعل الفرع الأول على ثلاثة أقسام. وهي حقوق تتعلق بالله تعالى وما يجب له، وحقوق تتعلق بالآدميين، وحقوق مشتركة بين الله والآدميين.
فالقسم الأول: المتعلق بحقوق الله على ضربين:
الضرب الأول: ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد: كصلاة الجمعة في وطن مسكون، وصلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها. فهي من شعائر الإسلام وعلامات التعبد، فإذا اجتمع أهل بلد أو محلة على تعطيل صلاة الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في إقامة صلواتهم، كان المحتسب مندوباً إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات.
وأما الضرب الثاني:فما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم: كالأمر بأداء الصلاة في وقتها وعدم تأخيرها، فيذكر المحتسب بها ويأمر بفعلها.
وأما القسم الثاني: المتعلق بالأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فعلى ضربين: عام، وخاص:
فالضرب الأول: عام يتعلق بمصلحة عموم الناس: ومثاله ما إذا تعطل شِرب[45] البلد، أو انهدم سوره، فعلى المحتسب أن يأمر المسؤولين بإصلاحه إذا كان في بيت المال مال وإلا لزم الكافة القيام بذلك، فيبادر القادرون إلى إصلاحه، وإن قصروا في ذلك أمرهم المحتسب وحثهم عليه.
وأما الضرب الثاني: من حقوق الآدميين فهو خاص، ويكون فيما إذا مُطلت الديون وأخر المدين القادر على سدادها، فللمحتسب أن يأمر القادرين على السداد بقضاء ما عليهم من ديون إذا حان وقت السداد، إذا طلب منه أصحاب الديون ذلك.
وأما القسم الثالث المتعلق بالأمر بالمعروف فيما كان مشتركاً من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فيمثل له بأمر الأولياء بنكاح الأيامى أكفائهن إذا اشتكين للمحتسب، ومنع تعسف الأولياء في حق الولاية عليهن، وإلزام النساء بأحكام العدة إذا فورقن، وله تأديب من خالفت في العدة: بأن تزوجت قبل انتهائها. ويأخذ السادة بحقوق العبيد والإماء و (الخدم)، وأن لا يكلفوا من الأعمال مالا يطيقون، ويأمر من أخذ لقيطاً برعايته، وعدم التقصير في كفالته.
وجعل الفرع الثاني: وهو النهي عن المنكر، على ثلاثة أقسام أيضاً:
فالقسم الأول: يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما يتعلق بالعبادات، من قصد مخالفة هيئاتها المشروعة، وتعمد تغيير أوصافها المسنونة: كأن يقصد الجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو أن يزيد في الصلاة أو الأذان أذكاراً غير مسنونة؛ فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها. وكذلك إذا أخل الإنسان بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكره عليه إذا تحقق ذلك، وإذا رأى من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله أنكر عليه ذلك.
وأما الضرب الثاني: فما يتعلق بالمحظورات من حقوق الله، مثل منع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة: كوقوف رجل مع إمرأة في طريق خال، والمجاهرة بإظهار الخمر، واستعمال الملاهي المحرمة وغير ذلك.
وأما الضرب الثالث: فما يتعلق بالمعاملات من حقوق الله، والبيوع الفاسدة، والعقود المحرمة، والغش في المبيعات، وتدليس الأثمان، وغير ذلك.
وأما القسم الثاني: المتعلق بالنهي عن المنكر في حقوق الآدميين المحضة؛ فيمثل له بتعدي الجيران على بعضهم، إذا طلب المتعدى عليه إنصافه. وكذلك مراقبة أهل الصنائع في الأسواق ومنعهم من الغش.(7/207)
وأما القسم الثالث: المتعلق بالنهي عن المنكر في الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين؛ فيمثل له بالمنع من الإشراف على منازل الناس والإطلاع على عوراتهم، ومنع أئمة المساجد من الإطالة في الصلاة حتى لا يعجز عنها الضعفاء ولا ينقطع عنها ذوو الحاجات. ومنع القضاة من الجور في الأحكام. ومنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه، ويخاف منه غرقها، ومنعهم من السير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل. ويراقب المحتسب المحلات التي يرتادها النساء، فإذا كان العامل فيها ممن حسنت سيرته وأمانته أقره فيها، وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور؛ منع من العمل فيها وأدب على ذلك. وينظر المحتسب في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر فيه على المارة، ويمنع ما استضر به المارة. ويمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي وغير ذلك.
مما سبق من عرض لأنوع حقوق الإنسان في تشريع الحسبة في الفقه الإسلامي، تتبين الأمور التالية:
1- إن الحسبة ببيان أنواع الحقوق فيها تستوعب كل ما جاء في إعلانات حقوق الإنسان في الدساتير الحديثة والمواثيق الدولية المعاصرة، فهي تشمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والحريات العامة: كحرية التعبير وحرية التنقل والإقامة، والحرية الفكرية والمعنوية، هذا بالإضافة إلى تقرير حق المساواة بين أفراد الدولة أمام شريعة الله تعالى. كما يتمتع أهل الذمة من غير المسلمين بالمساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن الذمي من رعوية الدولة الإسلامية ويحمل جنسيتها، فله حقوق المواطنة العامة في الإسلام.
وتزيد حقوق الإنسان في الإسلام على ما جاء في تلك المواثيق بإقرار عبودية الإنسان لخالقه تعالى، وتحريره من العبودية للخلق. وهي ركيزة أساسية في تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته، إذ بدونها تبقى حقوقه عرضة للانتهاك.
2- إن الحسبة في عرضها للحقوق الواجبة للإنسان لا تغفل عن الواجبات الملقاة على عاتقه، فيجعل كثيراً من حقوقه واجبات دينية مطالب بها. فإبداء الرأي(الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر) واجب شرعي عليه وحق له كذلك، أوجبه الإسلام على الفرد المسلم في قوله تعالى : ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، واعتبره حقاً له وواجباً على الدولة، فعليها أن تمكن المسلمين من أدائه، في قوله: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ )) (آل عمران:159) كما يجب على الدولة أن تخصص ولاية خاصة بالحسبة، وتعين المحتسب والأعوان.
هذا بالإضافة إلى أن الحقوق في الإسلام جاءت مقيدة بالواجبات: فحرية التنقل في داخل بلاد الدولة الإسلامية مقيدة بعدم إلحاق الضرر بالأمة، كأن يكون ذلك البلد ثغراً في مواجهة العدو، وحينئذ فإن على أهله واجب البقاء فيه وعدم الانتقال عنه، ولو تعرضت مرافقه للتلف فيجب على الدولة إصلاحها إن كان في بيت المال مال، والإ وجب على الكافة القيام بالإصلاح، ولا يجوز لهم الانتقال عنه، كما قال الماوردي: «إن كان البلد- أي الذي تعرض شِربه للتلف- ثغراً بدار الإسلام لم يجز لولي الأمر أن يفسح في الانتقال عنه، وكان حكمه حكم النوازل إذا حدثت في قيام كافة ذوي المكنة به. وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة في عمله. وإن لم يكن هذا البلد ثغراً مضراً بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخف...»[46].
إن الجمع بين الحقوق والواجبات في تشريع الحسبة وغيرها، يؤدي إلى تواضع الإنسان في مطالبته بحقوقه وعدم تسرعه، فقبل المطالبة للآخرين بالحقوق يطالب نفسه بالواجبات الملقاة على عاتقه. وهذا بدوره يؤدي إلى إيجاد إنسان الواجب الذي يستشعر دوره في المجتمع، وبالتالي يكون معطاء فعالاً إيجابياً مدركاً لواجبه تجاه نفسه ومجتمعه ودينه.
3- إن تشريع الحسبة قرر الحقوق الجماعية للشعوب ولم يكتف بتقرير حقوق الفرد: مثل حق تقرير المصير والكيان السياسي للأمة، وهي ما يطلق عليها المصلحة العامة أو حق الله تعالى، وهي حقوق مقدمة على الحقوق الخاصة، كما جاء في حديث السفينة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُدْهِن في حدود الله والواقع فيها مثلُ قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: مالك؟، قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإذا أخذوا على يديه أنجوه ونجّوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم»[47].
رابعاً: الحسبة و دور الدولة في حماية حقوق الأنسان:
ولاية الحسبة من الولايات الشرعية العامة الخاضعة لسلطة الدولة، حيث تجب على الإمام بحكم وظيفته في حفظ الدين على أصوله المستقرة وتنفيذ أحكامه، ورعاية حقوق الناس ومصالحهم[48]. ولذلك كان الخلفاء في العصور الأولى للإسلام يباشرونها بأنفسهم، ثم أسندوا أمرها إلى والٍ خاص يُعْرَف بالمحتسب، وأُعطي من الصلاحيات و الأعوان بحيث يقوم بها خير قيام، فيمشي في الأسواق والشوارع ويقتحم أبواب المؤسسات العامة والدوائر الحكومية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء تعلق ذلك بقيمة من قيم الإسلام معطلة أو بحق من حقوق الناس مهدر، مهما كان مركز ذلك الفاعل للمنكر، فيدخل المحتسب على الأمراء والولاة وينكر عليهم، كما قال ابن الإخوة: «ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة ويأمرهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل: «ما من عبد استرعاه الله رعية، ولم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة»[49]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة»[50]، ويبين لهم خطر الولاية. ولا يسلم الوالي إلا بمخالطة العلماء والصلحاء وفضلاء الدين ليعلموه طريق العدل.
ومن أعظم خصال الوالي وأحمدها توقياً في نفوس الخاصة والعامة، إنصافه من خاصته وحاشيته وأعوانه، وتفقدهم في كل ساعة، ويمنعهم أن يأخذوا فوق ما يستحقون.. »[51]، ويدخل على القضاة في محاكمهم، كما قال ابن بسام: «ينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجالس القضاة والحكام... فإذا رأى القاضي قد اشتاط على رجل غيظاً أو شتمه أو احتدّ عليه في كلامه ردعه عن ذلك، ووعظه، وخوفه الله عز وجل، فإن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هجراً ولا يكون فظاً غليظاً»[52]..
ويراقب المحتسب التجار والصناع، ويشرف على أحوالهم، ويطالع أخبارهم، فيقر المعروف وينكر المنكر، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، وكل تاجر من الغش في بضاعته[53].
فعلى المحتسب أن يأخذ على يد الظالم، وأن يحارب الجريمة والانحراف قبل أن يستفحل خطرها ويشتد أمرها، وتفتك بالناس في المجتمع؛ وإلا كان مسؤولاً عن ذلك، ومن ورائه الدولة التي عينته، قال تعالى: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) (المائدة: 78-79).(7/208)
وإذا جاز للمحتسب اقتحام الدوائر الحكومية العامة، من إدارة الوالي والمحكمة الشرعية وغير ذلك، فلا يجوز له اقتحام بيوت الناس الخاصة والتجسس عليهم، كما ذكر ابن جزي في القوانين ضمن شروط المحتسَب عليه: «أن يكون معلوماً بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه، لا يجوز أن يتجسس عليه»[54].. وروى الخلال عن أحمد بن حنبل: «أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش»[55]. وقال ابن تيمية: «إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه»[56].
وقال الماوردي: «وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتلك الأستار حذراً من الاستتار بها»[57]، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»[58]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك أن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم»[59]، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته» [60].
واستثنى الماوردي من عدم جواز التجسس على الناس حالة واحدة: وهي ما إذا كانت الجريمة على وشك الوقوع، ونقلها إلى المحتسب ثقةٌ عدلٌ. أما إذا لم تكن على وشك الوقوع أو لم يخبر بها ثقة عدل، فلا يجوز التجسس واقتحام البيوت الخاصة للناس، حيث قال: «فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها: مثل أن يخبره من يثق في صدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله؛ فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس، ويقوم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالايُستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات... وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار. والضرب الثاني: ما خرج من هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة؛ فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه»[61].
هذا يدل دلالة واضحة على أن تشريع الحسبة يحمي الحياة الخاصة للإنسان، فلا يجوز التجسس عليه ولا مراقبته بحجة المصلحة الوطنية، ولا التنصت على مكالماته الهاتفية وغير ذلك.
خامساً: الحسبة ومؤسسات المجتمع المدني التي تشكل إحدى الضمانات لحقوق الإنسان:
إذا كان المجتمع المدني يعني أنه المجتمع الذي ينظم أفراده أنفسهم بتنظيمات تطوعية حرة، تملأ الفراغ بين الأسرة والسلطة السياسية والمجتمع، بحيث يتمكن الأفراد من أن يديروا أنفسهم بأنفسهم، من خلال منظماتهم التطوعية، ملتزمين في ذلك بقيم الاحترام ومعاييره والإدارة السلمية للنزاع والخلاف، فهو بهذا المعنى يتضمن عدة عناصر وهي:
العنصر الأول: المبادرة إلى الانضواء في عضويات حرة، وتنظيمات فاعلة تسعى لتحقيق مصالح الناس، وترعى حقوقهم على وجه الكفاية. وبقدر ما يحمل الشخص من بطاقات عضوية في تلك التنظيمات الحرة يكون عنصراً نشطاً في مجتمعه.
العنصر الثاني: التنظيم الجماعي، فهي مؤسسة ذات نظام خاص بها، ينظم حقوق الأفراد وواجباتهم.
العنصر الثالث: اتباع الطرق السليمة في حل الخلافات، فالأفراد في المجتمع المدني يعترفون بحق "الغير" في تنظيم نفسه وحماية حقوقه[62].
فإن الحسبة بمعناها التطوعي تعمل على إيجاد مؤسسات أهلية أو مؤسسات المجتمع المدني، فللمتطوعين أن يبادروا إلى إقامة مؤسسات وجمعيات في سائر حقول الحياة، تنفيذاً لأمر الله تعالى: ((وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران:104)، وقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة:2).. فلا بد للمسلمين من تجميع طاقاتهم وتنظيمها حتى تتحول إلى قوة إيجابية فعالة تساند الحق وتقف في وجه الباطل.
هذا بالاضافة إلى أن الحسبة التطوعية بحكمها التكليفي، وهو حسب رأي جمهور الفقهاء[63] فرض كفاية، تؤيد إنشاء المؤسسات والجمعيات الأهلية. وبيان ذلك، أن الواجب الكفائي يعني أن على القادر القيام بالمطلوب ومباشرته، فإذا قام به "البعض" سقط الإثم عن الآخرين. وهذا لا يقلل من شأن الواجب الكفائي، وإنما يعلي من مكانته، فهو يقوم برعاية المصالح العامة للمجتمع، كما قال الشاطبي: «وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق»[64].
وقال العز بن عبد السلام: «واعلم أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه. والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من المكلفين على حدته؛ لتظهر طاعته أو معصيته، لذلك لا يسقط فرض العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به دون من كلف به في امتداد الأمر. أما سقوطه عن فاعليه؛ فلأنهم قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف»[65].
وإذا كان الواجب الكفائي يتعلق بالمصالح العامة؛ فإنه يجعل ذلك الواجب واجباً عاماً يلقي على عاتق المسلمين جميعاً القيام به، فالقادر على القيام به يباشره بنفسه، وغير القادر يحمل القادر على مباشرته، كما قال الشيخ محمد الخضري: «الواجبات الكفائية إذا ورد من الشارع طلب شيء منها، فإنما يوجه إلى "البعض" القادر على العمل، وعلى بقية الأمة أن تحمل هؤلاء على العمل إذا هم تهاونوا في القيام به.. فالمستعدون مكلفون بمباشرة العمل، والباقون مكلفون بحمل القادرين على العمل بمباشرته»[66].
وعليه، فإن مفهوم واجب الكفاية يتسع ليشمل وجوب تشكيل مؤسسات أهلية للقيام بمصالح الناس عامة. ومن المؤسسات التي تدخل تحت الكفاية المؤسسات الفكرية، ومراكز الدراسات التي تعنى بإصدار النشرات والدوريات البحثية المتخصصة. وقد عدَّ الزركشي تصنيف الكتب العلمية ضمن مجالات فروض الكفاية، فقال: «تصنيف كتب العلم لمن منحه الله تعالى فهماً وإطلاعاً، ولن تزال هذه الأمة مع قصر أعمارها في ازدياد وترق في المواهب»[67].
ومنها: المؤسسات الاجتماعية التي ترمي إلى سد الخلات ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، وغير ذلك. ومنها: المؤسسات التطوعية لإصلاح المرافق العامة في حالة عجز ميزانية الدولة عن سد نفقات الإصلاح: كإصلاح شِرب بلد تعطل، أو سور مدينة انهدم، كما قال الماوردي:
«فإن كان في بيت المال مال، لزم إصلاح ما تعطل من بيت المال؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال. فأما إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح شربهم وعمارة مساجدهم وجوامعهم ومراعاة بني السبيل فيهم متوجهاً إلى كافة ذوي المكنة منهم، ولا يتعين أحدهم في الأمر به، وإن شرع ذوو المكنة في عملهم وفي مراعاة بني السبيل وباشروا القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به، ولم يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السبيل ولا في بناء ما كان مهدوماً. ولكن لو أرادوا هدم ما يعيدون بناءه من المسترم والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه فيما عمّ أهل البلد من سوره وجامعهم إلا باستئذان ولي الأمر دون المحتسب ليأذن لهم في هدمه..»[68].(7/209)