وعلاج ذلك أن تقوم الدولة المبتعثة والجمعيات الإسلامية بوصل هؤلاء الشباب ببلدهم , واستقدامهم إليها الحين بعد الحين بدعوتهم وتحمل نفقات سفرهم , وبنقل الأخبار ولاسيما أخبار بلدهم من وجهة النظر الإسلامية , وبتزويدهم بالمجلات الرصينة , والجرائد الجيدة , وبالنشرات الهادفة , وبالاستمرار بمراقبة المبتعث , وبإنشاء نوع من الروابط الصالحة الهادفة بين المبعوثين أنفسهم .
7. صعوبات دراسية في التخصص , وهذه ناحية في غاية الأهمية , وأبرز ما تكون واضحة في المبعوثين الرسميين الذين يوفدون على حساب الدولة التي تحدد تخصصات معينة وترسل المبتعثين لدراستها . ويحدث كثيراً –لأسباب متعددة- أن المبتعث لا يستطيع مواصلة دراسته في التخصص الذي اختير له , ولكنه لا يستطيع تغييره ... حتى إن بعض الدول إذا علمت أن الطالب غيّر تخصصه تقطع عنه المنحة وتطلب عودته .
ويجب مواجهة مثل هذه الأمور أن تُدرس كل حالة على حدة , ويُنظر إليها بعين العدل والإنصاف , فإن ثبت أن الطالب جاد , ولكن لأسباب لا تعود إلى إهماله وانصرافه عن التحصيل تعثر في دراسة هذا التخصص الملائم له . فالواجب إتاحة الفرصة له ليعمل على دراسة التخصص الملائم له , وكان يمكن تدارك ذلك لو أن هناك هيئة إسلامية تمدُّ للطالب يد المساعدة والعون والنصح والإرشاد .
8. وهناك صعوبات أخرى مثل معاناة الصوارف الكثيرة عن الدراسة تعود إلى طبيعة الحياة المنحلة , والشهوات المبذولة , بعد انتقال من جو محافظ إلى جو منحل , ومثل الانشغال ببعض الأمور الأساسية التي لا يستطيع قضاءها إلا على حساب الدراسة , ويصعب استقصاء هذه الصعوبات وتحديدها .
هذا واقع المبتعثين وفيه حقائق من الحاضر وحقائق من الماضي , ولا شك في أن حاضر الابتعاث متأثر بماضيه , كما أن حاضره مؤثر في المستقبل , وللابتعاث ماض وتاريخ , فلننظر في تاريخ الابتعاث .
***************
من تاريخ الابتعاث :
إن دراسة تاريخ الابتعاث بأناة وتأمل , والنظر في آثاره على المبعوثين السابقين أمر في غاية الأهمية في موضوعنا هذا . وإنه لخليق أن يلقي نوراً كشافاً يظهر أغراض الابتعاث جلية صريحة . وهو موضوع طويل يصلح أن يكون رسالة دكتوراه تستقل بدراسة هذا التاريخ وتلك الآثار . ولقد قرأت كثيراً مما كتب فيه ولم أستطع قراءة كثير مما تاقت نفسي إلى المضي في الاطلاع عليه . وأنا هنا لا أستطيع التفصيل في هذا الموضوع لأن ذلك يخرج بي عن حدود البحث التي رسمتها له .
أول بعثة :
من الأمور التي تزل فيها أقدام كثير من الباحثين تقرير الأوليات بجزم دون استقصاء , وبناء على هذا فلا أستطيع الجزم بأول مبعوث أو بأول بعثة ذهبت من بلاد المسلمين إلى ديار الكفار لتلقي العلم , ولكننا نستطيع أن نقول : إن أشهر هذه البعثات هي تلك التي كانت أيام محمد علي والي مصر , وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (أي في مطلع القرن التاسع عشر النصراني) يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن :
( يجمع المؤرخون لعصر محمد علي – مصريين وأجانب- على أن بعثة 1826 هي البعثة الأولى , ويخالفهم في ذلك الأمير عمر طوسون الذي يجعل بعثه نقولا مسابكي وزملائه إلى إيطاليا سنة 1813هي أول بعثة لمحمد علي , ويجعل بعثة عثمان باشا نور الدين وزملائه إلى فرنسا سنة 1818 هي البعثة الثانية , ويجعل بعثة سنة1826 إلى فرنسا ثالثة البعثات المصرية )(12) .
فهذا النص يؤيد ما ذهبنا إليه من صعوبة تحديد البعثة التعليمية الأولى إلى ديار الغرب لأننا رأينا مثل هذا التحديد بالنسبة إلى محمد علي كان موضع اختلاف ... من أجل ذلك نؤثر أن نقول : إن بعثات محمد علي (13) التي هي أشهر البعثات وأكثرها تأثيراً في حياتنا كانت في مطلع القرن التاسع عشر أو الربع الأول منه .
البعثات إلى فرنسا :
ويستوقف الباحث تساؤل مريب بالنسبة إلى مكان ذهاب البعثات المصرية لماذا كان إلى فرنسا دون غيرها ؟ ونحن نعلم أن فرنسا غزت مصر أيام نابليون (14) قبل تولي محمد علي بسنوات , وأن خيل الفرنسيين دخلت الأزهر وأن جنودهم جاسوا خلال الديار وأتوا بفظائع مستنكرة ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية ؟ وبلد الغزاة المعتدين الذين ولغوا في دماء الآمنين من السكان , لا يصلح أن يكون محلاً لدراسة أبناء الأمة المظلومة المعتدى عليها , لأن الحقد الذي يغلي في الصدور على الظلمة المجرمين لا يتيح للوافدين مناخاً ملائماً للدراسة , ولأن هذا الوضع العدائي لا يقنع المبعوثين بالأمن هناك .
قد يقول قائل : إن العلاقات السياسية هي التي قضت بهذا وفرضته , ولكن أمراً واضحاً لا بد أن نذكره , وهو إن إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية ... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات .
ومن المفيد أن نذكر أول وزير لوزارة المعارف المصرية هو أحد أفراد بعثة 1826 وهو مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839 وقد عاد إلى بلاده سنة 1832 أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة التهاب الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى ,فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان ب184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك (15) وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالحضارة على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة , قطعنا خلالها أشواطاً من التطور قد تعادل ما قطعناه خلال ألف ومائتين من السنين قبل ذلك .
ولم يلتزم المبتعثون الحدود التي أرادها مرسلوهم , وعندما حاول بعضهم أن يتشدد في إلزام المبعوثين بعدم مجاوزة المهمات الأصلية باءت محاولتهم بالإخفاق(16) .
يقول الدكتور محمد محمد حسين :
( وكان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )(17)
ولو أن الأمر وقف عند حد احتلال هؤلاء مناصب الوزارة والقيادة لهان الأمر شيئاً ما ولكن الأمر كان أعظم رُزءاً وأجل كارثة , فقد كان المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج .
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن من أسماء أعضاء المجلس الأسماء الآتية : ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )(6/44)
إن , هذا الخبر التاريخي المثير ليكشف لنا عن خبئ كان يتوارى خلف الابتعاث , ولو أننا درسنا حياة رفاعة ومؤلفاته لتبين لنا – مع الأسف الشديد – أن أعداءنا قد وصلوا إلى كثير مما يريدون . فالرجل كان معجباً غاية الإعجاب بحياة القوم , ورجع يمجد لأول مرة الفراعنة الكفار , ويذكرهم كما يذكر الرجل أبطاله وصانعي مجده , مع أن المسلمين في أقطار الدنيا كافة كانوا ولا يزالون يسمون عهد ما قبل الإسلام بالجاهلية . وإذا كان هذا حال الرجل الأزهري المعمم الذي أوفد ليكون إماماً للطلبة ومرشداً لهم . فما بالك بالآخرين الذين كانوا معه ؟؟؟؟ .
ونستطيع – كما يقول الدكتور صديقنا محمد محمد حسين – أن نجد فيما كتبه رفاعة صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا وفي فرنسا الثائرة بوجه خاص ... أن نجد آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي .
* للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوربا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا وحدة متكاملة ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين .
* وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد .
* ولأول مرة تنقل إلى المسلمين النظريات الثورية .
* ولأول مرة نرى عرضاً للنظم الاقتصادية الغربية التي تقوم على المصارف والشركات .
*ولأول مرة نرى كلاماً عن المرأة ليس من شك في أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوروبية مثل إنكار تعدد الزوجات , والمطالبة بتحديد الطلاق والمطالبة باختلاط الجنسين .
***
ويبدو أن الحدة في الابتعاث كادت تهدأ , وذلك عندما قامت حركة نشيطة في نقل العلوم التجريبية والتطبيقية إلى اللغة العربية غير أن أقوى آثمة خائنة أوقفت هذه الحركة ودعت إلى الابتعاث .
يقول الأستاذ محمود محمد شاكر : (... فإن كثيراً من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية , وطبع أيضاً بمصر طباعة جديدة , ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجريء عقى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر , ينشرها بلسانهم , وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج )(18)
آثار الابتعاث ونتائجه
لاشك في أن للابتعاث وجهاً إيجابياً , غير أننا ههنا نودُّ أن نذكر آثاره السلبية ونتائجه الوخيمة لنحذر وننذر أقوامنا من مغبة التساهل في هذا الأمر .
ونقرر في الوقت ذاته أن أثمن ما لدى القوم هو ذاك المنهج التجريبي الذي أورثهم هذه الحضارة العظيمة والمهارات اليدوية والفنية . وما المنهج التجريبي في ذاته إلا هدية الحضارة الإسلامية إلى العالم ... يجب أن يتذكر أبناؤنا أن أسلافهم المسلمين هم الذين استخدموا هذا المنهج وعلموه الناس , وأن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا عن طريق ثلاث :
1. اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس وصقلية .
2. التجارة .
3. الحروب الصليبية .
ونود أن نورد فيما يلي أهم آثار الابتعاث من الناحية السلبية : إن من آثار الابتعاث والاستسلام له والمبالغة فيه تأكيد العبودية للغرب التي أرادوها في بادئ الأمر , وتحققت لهم في نفر من المبعوثين . إن اله عز وجل حرم علينا مطلقاً التبعية للكفار , وحظر علينا أن نكون ذيولاًَ لغيرنا , والاستسلام لفكرة الابتعاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يؤثر مثل هذا التأثير الهدام , ومن أجل ذلك وجب علينا أن نحول دون وقوع هذه الكارثة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] آل عمران 110 . وقال : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] البقرة 143 . وأمرنا عز وجل أن ندعوه في صلاتنا مرات ومرات أن يهدينا صراطاً متميزاً بأنه صراط الذين أنعم عليهم غير صراط اليهود وغير صراط النصارى (19).
فلا بد من أن يكون الابتعاث بشروطه إجراء مؤقتاً , لاسيما وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف ونحن على اتصال بالحضارة الغربية وأصولها , وقد كان هذا كافياً لو كانت الخطة محكمة . ويجب أن تكون سياسة الابتعاث في نطاق ضيق وأن يستعاض عن ذلك بالزيارات العلمية ذات الهدف المحدد .
إن صفوة الأذكياء وخيرة الشباب من أبناء المسلمين يدرسون الثقافة العصرية في أوربا وأمريكا ويخوضون خلال ذلك في لجة الحضارة الغربية ويعيشون الانطلاق الأخلاقي والتحلل السلوكي , والنظرة المادية المسرفة والاتجاهات الإلحادية والسياسية من قومية واشتراكية وليبرالية فيرجع معظم دعاة متحمسين إلى تقليد الحضارة الغربية ونشر قيمها ومفاهيمها وتصوراتها .
بل رجع كثير منهم مشبعين بروح الغرب , يتنفسون برئة الغرب , ويفكرون بعقل الغرب ويرددون في بلادهم صدى أساتذتهم المستشرقين وينشرون أفكارهم ونظرياتهم بإيمان عميق وحماسة زائدة ولباقة وبلاغة وبيان , ومن هنا يكون خطر هؤلاء أعظم من خطر أساتذتهم .
والخطورة البالغة تكمن – كما سبق أن أشرنا – في أن يتسلم هؤلاء المبتعثون بعد عودتهم مسئوليات التوجيه والتربية والإعلام ...
إنهم عندئذ يسلخون أمتهم عن دينها وقوميتها , ويقومون بعملية مسخ لواقعها وقيمها ومثلها .
وإننا لنشاهد دائماً أن الإنسان يتأثر بالبلد الذي يدرس فيه ويحاول دائماً وأبداً أن ينقل ما رآه أثناء الدراسة إلى بلده , مع تفاوت بين هؤلاء الدارسين . تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " :
( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن قادة هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وهكذا فإن قادة آسيا وأفريقيا متفقون مع القادة الأوربيين والأمريكيين على أن الهدف الأسمى والمثل الأعلى للمجتمع البشري هو تقدمه عن طريق الصناعات الثقيلة ورفع مستوى الحياة المادية وتوسيع القوة الاقتصادية والسياسية ) (20).
والمثال القوي على ذلك الدكتور طه حسين , الذي رجع إلى مصر فآلت إليه قيادة فكرية للمجتمع , بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة , فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف (21) وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس , ومما ضاعف خطره أسلوبه , ذاك الأسلوب الرائع المبين السهل البليغ , فقد نادى في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بالأمور الآتية :
1. الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلافها .
فهو يقول :(6/45)
( إن سبيل النهضة واضحة بينه مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب )(22) .
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول :
( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ) .
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول :
( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
2. وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : ( وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
3. وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
وهذا شيء خطير حقاً , وإن كان يخفى ضرره على كثير من الناس .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئة :
( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية) (23) ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين , وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال :
( لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله , الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي , وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام :
( إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي , ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا ) .
فعجبتا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية , واستمر في دروسه , نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب)(24) .
* ومن أخطر الآثار أن يعود المبعوث يحقق أغراض أعداء الأمة , فمن المعلوم _ كما أشرنا _ أن حاجة المسلمين إلى العلوم التطبيقية حاجة ماسة , ومع ذلك فإن السيد أحمد خان (المولود 1232 _ 1817 والمتوفي سنة 1315 _ 1898) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند , وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز , وهو كما يقول الأستاذ الندوي : ( أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر )(25) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها .
قال من مقال نشره في " مجلة عليكرة " في تاريخ 19 فبراير سنة 1898 :
( إن الهند نظراً إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى ) (26)
وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية .
* ومن أخطر الآثار الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي , اللذان يصاب بهما كثير من أبناء الطلبة , ذلك لأن عوامل الإفساد والإغراء , والتشكيك والإغواء التي يتعرضون لها قد تتغلب على عناصر المقاومة التي تكون لدى بعضهم , فالانطلاق من جو مجتمع مغلق إلى جو مجتمع مفتوح يحدث هزة عنيفة لا يمكن أن تتجاهل .
وهناك سببان رئيسيان للانحراف هما : الناحية الفكرية والناحية الخلقية :
فالطالب الناشئ يذهب إلى مجتمع يقوم نظام الحياة فيه على أساس تنحية الدين جانباً والتحلل من قيوده , ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من مظاهر التقدم والنظام , فيكون ف حالة نفسية تؤهله لقبول الشبهات , وتُلقى إليها الشكوك بشكل مدروس منظم , ويكون هناك وحيداً يعيش بعيداً عن جماعة المسلمين , فلا يتاح له أن يؤدي الصلوات في جوها المؤثر , ولا أن يحضر موسم العبادة العظيم في شهر رمضان , مما يسهل على الكائدين إيقاع الانحراف عليه .
وهناك الناحية الخلقية التي قد تكون أشد ظهوراً بالنسبة إلى الطلاب المسلمين في ديار الغرب , إذ ينتقل هذا الشاب من بلاد درج الناس فيها على سلوك معين , وأعراف خاصة , فمن ذلك أن المرأة المحترمة لا تكون إلا أما أو أختاً أو بنتاً أو زوجة أو امرأة أجنبية عفيفة صينة . ويسافر الفتى وهو في ذروة التهاب الغريزة الجنسية .ويذهب إلى مجتمع لا يلتزم ذاك السلوك , ولا يعترف بهاتيك الأعراف , ويلقى المرأة فيه متاحاً مباحاً لمن شاء من الناس , ولا يرى كثير من الناس هناك في ذلك شيئاً كبيراً .
وليس هناك فتنة أضر على الرجال من النساء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم .
هذان هما السببان الرئيسيان في الانحراف .
* ومن الآثار الخطيرة تخلف المبتعث في لغته الأم , وقد يكون تخلفه هذا سبباً يدعوه إلى أن يقف مسيئة للغته وأمته , فيؤكد _ مثلا _ بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية , وذلك ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد .(6/46)
* ومن الآثار الخطيرة أن يعود بعض هؤلاء العابثين جهلة فارغين , وهم يحملون شهادات , ولكنهم لم يستطيعوا التفرغ لطلب العلم لأنهم كانوا عنه في شغل ... هذا ، إذا عادوا ... وإن لم يعودوا فالأمر معروفة خسارته .
*********************
ملاحظة لا بد منها :
إن هذا حال معظم الراحلين إلى ديار الغرب من أبناء المسلمين , وليس هذا الحكم كلياً مطرداً ينسحب على كل مبعوث وراحل , بل لقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا شباباً يحقر المرء نفسه واجتهاده في العبادة إذا قاس نفسه إليهم , لقد رأيتهم شباباً صالحين يندر وجودهم في هذا العصر صلاحاً وديناً وتقوى وابتعاداً عن المحرمات .
ورأيت هناك زوجات هؤلاء الشباب فتيات مسلمات محافظات على الحجاب وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم الديني , وهن يصلحن أن يكنَّ مثالاً وقدوة صالحة للنساء في عصرنا هذا .
ولكن عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموع الطلاب المبتعثين عدد قليل يجعلهم شواذ , والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها .
يتلخص لنا من هذا البحث , أن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار , في مجال المادة والعلوم التجريبية , وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة استغلت دوافعه السليمة البناءة , وأصرت أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان , لأنها رأت آثاره الهدامة الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها .
وقد ألممنا بنبذة تاريخية سريعة , وعرضنا لبعض النماذج التي انهزمت أمام حضارة الغرب , فعادت معولا يهدم في بناء أمتها ويقوض صرح كرامتها , وقررنا أن آثاره اعتقادية وخلقية وعلمية وسياسية , وضربنا على ذلك بعض الأمثلة , وأشرنا خلال البحث إلى بعض المشكلات وما نراه في حلها .
المقترحات
إزاء هذه المخاطر الجمة نرى ما يلي :
1. لا ابتعاث إلا عند الضرورة , ويمنع الابتعاث في علوم الدين واللغة إلى ديار الكفار , ويقتصر على ما تدعو إليه الضرورة في العلوم التجريبية والتطبيقية .
2. لا ابتعاث إلا بعد الماجستير .
3. انتقاء الطالب المراد ابتعاثه .
4. تعريف الطالب المبتعث بدينه وتسليحه بسلاح العلم , وإظهار عوار الديانات الأخرى , والأنظمة السياسية القائمة على أساس غير الإسلام .
5. تعريف الطالب بالمشكلات التي سيواجهها عند السفر , مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وما إلى ذلك .
6. مساعدة الطلاب في اختيار الجامعات الجيدة .
7. إرسالهم إلى البلاد التي فيهم تنظيمات طلابية إسلامية وتعريفهم بها وربطهم بعناصرها .
8. إلزام الطالب المبتعث بأن يكون متزوجاً , وأن تكون زوجته معه ,
وإذا استطاعت الدول الإسلامية بما آتاها الله من إمكانات مادية , وأن تأتي بالطاقات العلمية إلى بلدها , وتكون الدراسة هنا في بلاد المسلمين , فإن ذلك أفضل وأكمل .
وينبغي أن نقتنع بأن هذا الابتعاث إجراء مؤقت حتى تقوم في دنيا المسلمين دراسات عليا أصلية , ويمكن لنا إذا قامت مثل هذه الدراسات , أن نستعيض بالزيارات العلمية على الدراسة الطويلة , فيطلع الزائرون _ بين حين وآخر _ على ما جدَّ من العلوم والمخترعات .
كلمة أخيرة :
أيها السادة إن مؤتمركم يناقش موضوعاً من أخطر موضوعات الإسلام في هذا العصر , وهو موضوع الدعوة إلى الله , ولقد سبق أعداؤنا إلى مؤتمرات عدة للكيد للإسلام فإن أنتم كنتم على مستوى الحاجة , وخرجتم بتوصيات جادة , تأخذ طريقها إلى التنفيذ , أحسنتم لأنفسكم وأمتكم وإلا فإني أخشى أن يكون ضرر هذا المؤتمر أكبر من نفعه .
فلنتصور عظم هذه المسؤولية التي نتصدى لحملها , ولنعِ حقيقة موقفنا في عصرنا , ولنتذكر أن لنا وقفة بين يدي الله يحاسب كلا منا عن عمله ماذا عمل فيه .
وأسأل الله أن يوفقكم ويسدد خطواتكم على طريق الحق وينفع بكم إنه سبحانه سميه مجيب . والحمد لله رب العالمين .
محمد بن لطفي الصباغ
==============
اعترافات الدكتور محمد عماره .. !
سليمان بن صالح الخراشي
فتن بعض المسلمين خلال سنين مضت بقضية " الحوار مع الأديان الأخرى " أو مع " الغرب " بغية الوصول إلى تعايش سلمي - كما يقال - من خلال نبذ الصراعات والاعتراف المتبادل بين الجميع ، مغترين بالجهود الحثيثة التي يبذلها الآخرون بدعوى الوصول لهذا الهدف ؛ عن طريق إقامة المؤتمرات الحوارية واللقاءات .
وكان هذا البعض ينتقد كل من يحذره من هذه الدعوات واللقاءات المشبوهة المخادعة المخالفة لسنة الله الكونية والشرعية ، التي يستغلها الآخرون لاستدراج المسلمين لباطلهم ، أو دفعهم للتنازل عن شيئ من دينهم ؛ كما قال تعالى ( ودوا لو تُدهن ) . متغافلين عن إخبار الله تعالى بأن الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة ، وعن قوله ( ولا يزالون يقاتلونكم ) ، وقوله ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك . وما أنت بتابع قبلتهم . ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) . وقوله ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .
إلا أن العقلاء منهم اكتشفوا بعد جهد ضائع زيف هذه المؤتمرات ودعوات الحوار ؛ عندما وجدوها لا تختلف كثيرًا عن المؤسسات التنصيرية ! رغم التضليل الخارجي المتخفي خلف الشعارات .
وأسوق هنا اعتراف فارس من فرسان هذه الحوارات واللقاءات ؛ هو الدكتور محمد عمارة ؛ الذي كان في يوم ما مخدوعًا بها ، مؤملا عليها آمالا كثيرة ؛ إلى أن اكتشف في النهاية أن آماله تتبخر مثل السراب بعد كل مؤتمر يحضره أو يشارك فيه .
ولعل في نشر اعترافه - الذي يشهد لشجاعته - عبرة لمن لازالوا يؤملون أن يجنوا من الشوك العنب .
يقول الدكتور في مقدمة كتيبه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " ( ص 5-14) : ( مع كل ذلك، فتجربتي مع الحوارات الدينية -وخاصة مع ممثلي النصرانية الغربية- تجربة سلبية، لا تبعث على رجاء آمال تُذكر من وراء هذه الحوارات التي تُقام لها الكثير من اللجان والمؤسسات، وتُعقد لها الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات ، ويُنفق عليها الكثير من الأموال.
وذلك أن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، قد افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، فالحوار إنما يدور بين "الذات" وبين "الآخر"؛ ومن ثم بين "الآخر" وبين "الذات"، ففيه إرسال وفيه استقبال، على أمل التفاعل بين الطرفين، فإذا دار الحوار -كما هو حاله الآن- بين طرف يعترف بالآخر، وآخر لا يعترف بمن "يحاوره"، كان حواراً مع "الذات"، وليس مع "الآخر"، ووقف عند "الإرسال" دون "الاستقبال"، ومن ثم يكون شبيهاً -في النتائج- بحوار الطرشان! ..
موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء، حتى لتصل المفارقة في عالم الإسلام إلى حيث تعترف الأكثرية المسلمة بالأقليات غير المسلمة، على حين لا تعترف الأقليات بالأغلبية!
فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الطرف الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟!(6/47)
ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!
أما السبب الثاني لعزوفي عن المشاركة في الحوارات الدينية -التي أُدعى إليها- فهو معرفتي بالمقاصد الحقيقية للآخرين من وراء الحوار الديني مع المسلمين، فهم يريدون التعرّف على الإسلام، وهذا حقهم إن لم يكن واجبهم، لكن لا ليتعايشوا معه وفقاً لسنة التعددية في الملل والشرائع، وإنما ليحذفوه ويطووا صفحته بتنصير المسلمين!
وهم لا يريدون الحوار مع المسلمين بحثاً عن القواسم المشتركة حول القضايا الحياتية التي يمكن الاتفاق على حلول إيمانية لمشكلاتها، وإنما ليكرسوا -أو على الأقل يصمتوا- عن المظالم التي يكتوي المسلمون بنارها، والتي صنعتها وتصنعها الدوائر الاستعمارية التي كثيراً ما استخدمت هذا الآخر الديني في فرض هذه المظالم وتكريسها في عالم الإسلام.
فحرمان كثير من الشعوب الإسلامية من حقها الفطري والطبيعي في تقرير المصير واغتصاب الأرض والسيادة في القدس وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا والسنجق وكشمير والفلبين .. إلخ .. إلخ .. كلها أمور مسكوت عنها في مؤتمرات الحوار الديني.
بل إن وثائق مؤتمرات التدبير لتنصير المسلمين التي تتسابق في ميادينها كل الكنائس الغربية، تعترف -هذه الوثائق- بأن الحوار الديني -بالنسبة لهم- لا يعني التخلي عن "الجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني ما إلى آخر" بل ربما كان الحوار مرحلة من مراحل التنصير!
وإذا كانت النصرانية الغربية تتوزعها كنيستان كبريان، الكاثوليكية، والبروتستانتية الإنجيلية، فإن فاتيكان الكاثوليكية -الذي أقام مؤسسات للحوار مع المسلمين، ودعا إلى كثير من مؤتمرات هذا الحوار- هو الذي رفع شعار: "إفريقيا نصرانية سنة 2000م"، فلما أزف الموعد، ولم يتحقق الوعد، مد أجل هذا الطمع إلى 2025م !!
وهو الذي عقد مع الكيان الصهيوني المغتصب للقدس وفلسطين معاهدة في 30-12-1993م تحدثت عن العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية وبين الشعب اليهودي، واعترفت بالأمر الواقع للاغتصاب، وأخذت كنائسها في القدس المحتلة تسجل نفسها وفقاً للقانون الإسرائيلي الذي ضم المدينة إلى إسرائيل سنة 1967م!!
بل لقد ألزمت هذه المعاهدة كل الكنائس الكاثوليكية بما جاء فيها، أي أنها دعت وتدعو كل الملتزمين بسلطة الفاتيكان الدينية -حتى ولو كانوا مواطنين في وطن العروبة وعالم الإسلام- إلى خيانة قضاياهم الوطنية والقومية!
وباسم هذه الكاثوليكية أعلن بابا الفاتيكان أن القدس هي الوطن الروحي لليهودية، وشعار الدولة اليهودية، بل وطلب الغفران من اليهود، وذلك بعد أن ظلت كنيسته قروناً متطاولة تبيع صكوك الغفران !
أما الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية الغربية، فإنها هي التي فكرت ودبرت وقررت في وثائق مؤتمر كولورادو سنة 1978م:
"إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، وإن النظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، إنه حركة دينية معادية للنصرانية، مخططة تخطيطاً يفوق قدرة البشر، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز تؤسس حول العالم بواسطة النصارى، للتركيز على الإسلام ليس فقط لخلق فهم أفضل للإسلام وللتعامل النصراني مع الإسلام، وإنما لتوصيل ذلك الفهم إلى المنصِّرين من أجل اختراق الإسلام في صدق ودهاء"!!
ولقد سلك هذا المخطط -في سبيل تحقيق الاختراق للإسلام، وتنصير المسلمين- كل السبل اللا أخلاقية- التي لا تليق بأهل أي دين من الأديان- فتحدثت مقررات هذا المؤتمر عن العمل على اجتذاب الكنائس الشرقية الوطنية إلى خيانة شعوبها، والضلوع في مخطط اختراق الإسلام والثقافة الإسلامية للشعوب التي هي جزء وطني أصيل فيها، فقالت وثائق هذه المقررات:
"لقد وطّدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة في العالم الإسلامي، إن النصارى البروتستانت في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، منهمكون بصورة عميقة ومؤثرة في عملية تنصير المسلمين. ويجب أن تخرج الكنائس القومية من عزلتها، وتقتحم بعزم جديد ثقافات ومجتمعات المسلمين الذي تسعى إلى تنصيرهم، وعلى المواطنين النصارى في البلدان الإسلامية وإرساليات التنصير الأجنبية العمل معاً، بروح تامة من أجل الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك لتنصير المسلمين".
فهم يريدون تحويل الأقليات الدينية في بلادنا إلى شركاء في هذا النشاط التنصيري، المعادي لشعوبهم وأمتهم !
كذلك قررت "بروتوكولات" هذا المؤتمر تدريب وتوظيف العمالة المدنية الأجنبية التي تعمل في البلاد الإسلامية لمحاربة الإسلام وتنصير المسلمين، وفي ذلك قالوا:
"إنه على الرغم من وجود منصرين بروتستانت من أمريكا الشمالية في الخارج أكثر من أي وقت مضى، فإن عدد الأمريكيين الفنيين الذين يعيشون فيما وراء البحار يفوق عدد المنصرين بأكثر من 100 إلى 1، وهؤلاء يمكنهم أيضاً أن يعملوا مع المنصرين جنباً إلى جنب لتنصير العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد التي تمنع حكوماتها التنصير العلني"!
كذلك دعت قرارات مؤتمر كولورادو إلى التركيز على أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يعملون في البلاد الغربية، مستغلين عزلتهم عن المناخ الإسلامي لتحويلهم إلى "مزارع ومشاتل للنصرانية"، وذلك لإعادة غرسهم وغرس النصرانية في بلادهم عندما يعودون إليها، وعن ذلك قالوا:
"يتزايد باطراد عدد المسلمين الذين يسافرون إلى الغرب؛ ولأنهم يفتقرون إلى الدعم التقليدي الذي توفره المجتمعات الإسلامية، ويعيشون نمطاً من الحياة مختلفاً -في ظل الثقافة العلمانية والمادية- فإن عقيدة الغالبية العظمى منهم تتعرض للتأثر.
وإذا كانت "تربة" المسلمين في بلادهم هي بالنسبة للتنصير "أرض صلبة، ووعرة" فإن بالإمكان إيجاد مزارع خصبة بين المسلمين المشتتين خارج بلادهم، حيث يتم الزرع والسقي لعمل فعال عندما يعاد زرعهم ثانية في تربة أوطانهم كمنصرين"!
بل إن بروتوكولات هذا المؤتمر التنصيري لتبلغ قمة اللا أخلاقية عندما تقرر أن صناعة الكوارث في العالم الإسلامي هي السبيل لإفقاد المسلمين توازنهم الذي يسهل عملية تحولهم عن الإسلام إلى النصرانية! فتقول هذه البروتوكولات:
"لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية، فلابد من وجود أزمات ومشاكل وعوامل تدفع الناس، أفراداً وجماعات، خارج حالة التوازن التي اعتادوها. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية، كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية، كالتفرقة العنصرية، أو الوضع الاجتماعي المتدني. وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة، فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية .. إن تقديم العون لذوي الحاجة قد أصبح عملاً مهماً في عملية التنصير! وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد بدلت موقف حكوماتها التي كانت تناهض العمل التنصيري ؛ فأصبحت أكثر تقبلا للنصارى " !
فهم -رغم مسوح رجال الدين- يسعون إلى صنع الكوارث في بلادنا، ليختل توازن المسلمين، وذلك حتى يبيعوا إسلامهم لقاء مأوى أو كسرة خبز أو جرعة دواء! وفيما حدث ويحدث لضحايا المجاعات والحروب الأهلية والتطهير العرقي -في البلاد الإسلامية- التطبيق العملي لهذا الذي قررته البروتوكولات، فهل يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي ومثمر مع هؤلاء؟!(6/48)
تلك بعض من الأسباب التي جعلتني متحفظاً على دعوات ومؤتمرات وندوات الحوار بين الإسلام والنصرانية الغربية، وهي أسباب دعمتها وأكدتها "تجارب حوارية" مارستها في لقاء تم في "قبرص" أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووجدت يومها أن الكنيسة الأمريكية -التي ترعى هذا الحوار وتنفق عليه- قد اتخذت من إحدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين، "قاعدة" ومقراً لإدارة هذا الحوار ؟!
ومؤتمر آخر للحوار حضرته في عمّان -بإطار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية- مع الكنيسة الكاثوليكية في الثمانينيات وفيه حاولنا -عبثاً- انتزاع كلمة منهم تناصر قضايانا العادلة في القدس وفلسطين، فذهبت جهودنا أدراج الرياح! على حين كانوا يدعوننا إلى "علمنة" العالم الإسلامي لطي صفحة الإسلام كمنهاج للحياة الدنيا، تمهيداً لطي صفحته -بالتنصير- كمنهاج للحياة الآخرة !
ومنذ ذلك التاريخ عزمت على الإعراض عن حضور "مسارح" هذا "الحوار"! . انتهى كلام الدكتور عمارة .
قلتُ : ويحسن بالقارئ لمعرفة المزيد عن زيف مؤتمرات حوارات الأديان أن يطلع على رسالة قيمة مطبوعة في أربعة مجلدات للدكتور أحمد القاضي بعنوان " دعوة التقريب بين الأديان " . وكذا رسالة " تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - دراسة نقدية في ضوء الإسلام " . أما عن المؤتمر الشهير الوحيد ! الذي شارك فيه بعض العلماء بحسن نية فقد ذكر تفاصيله الأستاذ مطيع النونو في كتابه الجديد " حوار الحضارات بين المملكة العربية السعودية والفاتيكان - في إطار الحوار الإسلامي المسيحي " .
================
الأمة بين الإفراط والتفريط
محمد محمود عبد الخالق
لقد امتازت أمتنا بأنها أمة وسطا في كل شيء وكان ذلك من أهم ما يميزها عن الأمم وهذا ما قرره القرآن حين قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا .....) ولكن للأسف أن أمتنا في هذا الزمان تخلت عن تلك الميزة بعد أن كانت مطبقة في أوج عصور الحضارة الإسلامية فإذ بنا نجد أمتنا تنقسم بين إفراط وبين تفريط وهذا الإفراط والتفريط أصبح موجودا في كافة شئون حياتنا بصورة تدعو إلى الأنتباه وحتمية العودة إلى الوسطية من جديد .
وإذا أردنا أن نوضح ما ندعو إليه فإننا نضرب لذلك العديد من الأمثلة التي توضح بجلاء أننا نصبح إما مُفرِطين أو مُفَرطين ومن هذه الأمثلة :-
1) تربية الأبناء : فبدلا من أن يسلك الآباء سلوكا وسطا في تربية آبناءهم كما دعاهم القرآن والسنة إلى ذلك إذ بنا نجد الآباء ينقسمون بين إفراط في تربية أيناءهم على الإسلام وبين تفريط في تلك التربية ، فكثير من الأباء قد يدعوهم إلتزامهم غير المضبوط إلى تربية أبناءهم على الحق بصورة تتمثل في الأمر والنهي غير المناقش فيه بصورة تدعوا ألأبناء إلى كراهية الدين ومحاولة التمرد عليه في أقرب وقت ممكن إذ أن الأبناء لن يظلوا تحت أعين آباءهم في كل الأوقات فتربيتهم على الخوف فقط من الآباء لن يجعل الأبناء يلتزمون شريعة الإسلام ، وكم رأينا من شباب كانوا من أسر متدينه ولكن لتضييق آباءهم على حريتهم وللإلزامهم بالأمور دون نقاش أو حوار جعلهم حين يبتعدون عن آباءهم يفعلون كل ما يريدونه وما يرغبون فيه , وعلى الجانب الأخر نجد آباء لا يربون أولادهم ولا يهتمون بهم ويكون كل همهم في جمع المال وفي إعتلاء المناصب ظانين بذلك أنهم يوفرون لأبناءهم حياة سعيدة ولك للأسف أنها لا تكون كذلك ، فكما أن الآباء مطالبون بالسعي نحو المعيشة فإنهم مطالبون في الأساس بتربية آبناءهم على الحق وحمايتهم من الغواية والأنحراف ولقد رأينا وسمعنا كثيرا عن آباء تركوا أبناءهم للأنحراف لإنشغالهم بالسعي وراء المال ، ولعل هذا التفريط في التربية موجود بصورة كبيرة للغاية في أمتنا الإسلامية نظرا للأننا نعيش في زمن انشغل فيه بالسعي وراء المعيشة التي أصبحت صعبة وغير ميسرة نظرا للأننا نطبق أنظمة اقتصادية وضعية تقدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وتعاني من ظلم في توزيع الدخول بين الأفراد وعموما فإن الأفراط والتفريط أمران يرفضهما الإسلام بكل قوة لأنه يدعو إلى الوسطية في تربية الأبناء والتي من أهم سماتها على سبيل المثال لا الحصر :-
1) قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ..) فإسلامنا يدعونا إلى أن نقي أنفسنا وأهلينا نار جهنم وهذا لن يكون إلا بالتربية على الإسلام تربية سليمة .
2) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تكون على أساس الخشية من الله وليس من الأباء فقط فالأبن الذي تدرب وتعلم وتربى على الخوف من الله لن يرتكب ذنبا أو معصية سواء كان ذلك في حضور الأب أم في غيابه .
3) يقرر الإسلام بأن يكون هناك حوار دائم بين الأباء وأبناءهم في كافة الأمور وأن يكون الأقناع هو السبيل الوحيد للحوار والنقاش لا الإلزام مع ضرورة أن لا توضع الحواجز بين الأباء وأبناءهم والتي من شأنها لجوء الأبناء إلى غير آباءهم للسؤال عن أمور يتعرضون إليها ويكون من نتيجة ذلك الضلال خاصة عندما يكون السؤال موجها إلى جماعة من الفسقة وما أكثرهم في هذا الزمان .
4) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تأخذ منحنى في التدرج وأن تتناسب التربية المرحلة التي يمر بها الأبناء فتربية ذوي السبع سنيين ليست كتربية ذوي العشر سنين ولعل ذلك ملاحظ في قوله صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " فلعلنا نلاحظ تغير أسلوب التربية حيث كان الأمر بالصلاة على سبع سنين ثم إن لم يطبق وينفذ الأمر يكون الضرب غير المبرح ولكن لعشر سنين فتغيرت التربية بتغير المرحلة التي يمر بها الأبن كما أن تربية الأبن ليست كتربية البنت نظرا لما بينهما من إختلاف وهذا من جميل وعظيم أمر الإسلام .
وغير ذلك من السمات الوسطية التي تميز التربية في الإسلام .
2) الدعوة إلى الله :-
انقسم الناس إلا من رحم ربي إلى قسمين في الدعوة إلى الله فنجد :-
1) قسم أفرط في الدعوة إلى الله فتجده يصرف كل وقته في الدعوة ولكن على غير علم فيضل ويُضل فنجده يفتي هنا وهناك ويتحدث عن الدين هنا وهناك آخذا بالظاهر من الدين دون أن يتعمق في مقاصد الشريعة وما تسموا إليه فنجده يحرم ما أحله الله وتجده يتشدد في أمور يسرها الدين فيفر الناس منه ومن دعوته وهذا بسبب قلة فهمه وعلمه وسوء تطبيقه .
2) فسم فرط في الدعوة إلى الله فنجده يعيش ويحيا لا يتعلم العلم الشرعي ولا يدعو إلى الله ولو بأية أو حديث أو حتى بحسن أخلاقه وجميل عبادته فهو يعيش ليأكل ويتمتع ولا هم له إلا الدنيا وآخر ما يخطر بباله أمر هذا الدين وواقعه فيموت ولا أثر له يذكره به الناس وبذلك يكون ممن خذل الإسلام في حياته وما أكثر تلك الطائفة من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وهذا الإفراط والتفريط في الدعوة إلى الله أمرا غير مرغوب فيهما أيضا فإن دعوتنا يجب أن تتسم بالوسطين من حيث الشكل والمضمون والأشلوب فيجب على المسلم أن يتعلم دينه تعليما صحيحا ويأخذه عن العلماء الثقات ويحسن فهم الدين ويعرف مقاصد الشريعة ثم يدعوا الناس بالحكمة والموعظة الحسنة دون تغليظ أو قسوة أو إكراه بل بيسر وود ومحبة ورغبة في الخير وبهذا يستطيع أن بقطف ثمار دعوته ويحقق غايته من الدعوة إلى ربه فإسلامنا قضية رابحة تحتاج إلى محام ناجح يحسن عرضها وإيصالها إلى الناس .(6/49)
وغير ذلك من الأمور التي أبتعدت عنها الوسطية كالتعامل مع المرأة والعلاقة مع غير المسلمين وغير ذلك .
==============
لماذا البراء من الكفار
من عقيدة أهل السنة و الجماعة البراء من الكفار من يهود و نصارى و مشركين قال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله )0
و قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) وعن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بايعه على : ( أن تنصح لكل مسلم و تبرأ من الكفار ) رواه الإمام أحمد بسند حسن .
فالولاء و البراء قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان ، فلا يصح إيمان شخص بدونهما ، فيجب على المسلم أن يوالي في الله ويعادي في الله ويحب في الله و يبغض في الله فيوالي أولياء الله ويحبهم ويعادي أعداء الله ويتبرأ منهم ويبغضهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله والحب في الله والبغض في الله )
و قد يطرح السؤل لماذا البراء من الكفار ؟
و يمكن الجواب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية :
أولاً : نتبرأ من الكفار لأن الله عز و جل أمرنا بذلك في كتابه ورسول الله صلى الله عليه و سلم أرشد إليه في سنته كما في النصوص السابقة و غيرها كثير .
ثانياً : لأنهم أعداء لله محادين له سبحانه و عدو الله عز و جل عدوٌ للمؤمنين قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) قال تعالى : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله …الآية .
فالكفار أعداء الله محادين له حزب الشيطان و نحن أولياء الله مؤمنين به حزب الرحمن و ما كان لولي الله أن يحب و يوالي عدو الله و ما كان لحزب الرحمن أن يحب و يوالي حزب الشيطان .
ثالثاً : لأن ألله أخبرنا أنهم يضمرون العداوة و البغضاء و الكراهية للمؤمنين قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ...) النساءالآية 89 قوله تعالى : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ... ) البقرة 217 وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) آل عمران 118 .
رابعاً : لأنهم يصرحون بعدائهم للإسلام و المسلمين على لسان ساستهم و مفكريهم :
* يقول بن غريون رئيس وزراء إسرائيل سابقاً : يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم و نقتلع اللسان العربي حتى ننتصر عليهم .
* و يقول لورنس بران : إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي .
* و يقول : لكننا وجدنا الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام و في قدرته على التوسع و الإخضاع و في حيويته المدهشة .
* و يقول سالازار : إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيروا نظام العالم .
* ويقول فيليب فوندارس :إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام و أن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره .
* و يقول السفاح بيجن : مهمتنا سحق الحضارة الإسلامية و إحلال الحضارة العبرية محلها و المهمة شاقة .
* و يقول وليم جيفور ويلجراف : متى توارى القرآن و مدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد و كتابه و لا يمكن أن يتوارى القرآن حتى تتوارى لغته .
خامساً : و نتبرأ منهم لأنهم ترجموا تلك الأقوال إلى واقع عملي فأفرغوا ما في قلوبهم من البغض و الكراهية و الحقد و الكيد للإسلام و المسلمين على بلاد المسلمين فأخذوا يبطشون بالمسلمين في كل مكان بل و يرتكبون ضدهم أبشع الجرائم من تقتيل و تشريد و حرق و تدمين ضرب بالصواريخ و الدبابات و المروحيات حتى الأسلحة المحظورة دولياً فهي مباحة إذا كان المستهدفون هم المسلمون و صدق عليهم قول من قال :
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر *** و قتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
ماذا فعل النصارى بالمسلمين في البوسنة و الهرسك و ماذا فعلوا بهم في كوسوفا و ماذا فعلوا بهم في الصومال و ماذا فعلوا بالمسلمين في جز الملوك بأندنوسيا و ماذا فعلوا و يفعلون بالمسلمين في أفغانستان ماذا يفعل الروس بالمسلمين في الشيشان وماذا فعل اليهود و النصار و يفعلون بالمسلمين في أرض فلسطين .
و أهل الكتاب اليوم يتكالبون على الإسلام و المسلمين في كل مكان و يرمونهم عن قوس واحدة و يشنون حرباً شرسة إعلامية و عسكرية و اقتصادية وصدق الله تعالى : (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) التوبة-10
نسأل أن يرد كيدهم في نحورهم اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم و نعوذ بك من شرورهم لهذه الأسباب نبغض الكفار و نتبرأ منهم .
كتبه :
شائع محمد الغبيشي
=============
وإذا لم يعتذر البابا..فكان ماذا ؟.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
- سؤال مشروع ؟.
لما صدر عن البابا اتهام المسلمين والإسلام بأنه شرير وغير إنساني، وغير عقلاني: طالبه جمع كبير من الشخصيات والمنظمات الإسلامية بالاعتذار العلني الصريح، وألحوا في ذلك جدا، وأكدوا، وأصروا، ولم يقبلوا تصريحه الثاني، ولا الثالث، الذي تضمن أسفا على سوء فهم كلامه؛ إذ لم يكن سوى أسفا، وليس اعتذارا. وتفاعل كثير من المسلمين غيرة على دينهم مع هذه المطالبة، وقد كانت حالة تجسدت فيها المعاني الإيمانية، والغيرة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام.
غير أنه وسط هذه الموجة من الغضب لم يسأل أحد: ما المقصود والغاية من اعتذار البابا ؟.
وإذا لم يعتذر - كما هو الحال - فكان ماذا ؟.
هل سيتضرر الإسلام والمسلمون من ذلك ؟.
وإذا اعتذر هل سيكون ذلك خيرا للإسلام والمسلمين ؟.
* * *
- الأحداث.
في محاضرة له في جامعة جنيسبرج بولاية بفاريا بألمانية، في 12/11/2006م، والتي كانت بعنوان: "العقل والإيمان"، أورد البابا حوارا جرى بين الإمبراطور مانويل الثاني (1350-1425) ومثقف فارسي قال فيه: "أرني شيئا جديدا جاء به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين، الذي كان يبشر به بحد السيف".
وفي المحاضرة أكد البابا على:
- رسوخ العنف في بنية الدين الإسلامي، من خلال إفادته بأن آية البقرة: {لا إكراه في الدين}، إنما نزلت في بداية الدعوة، حين لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم قوة ولا منعة.
- أن الإسلام يخلو من العقل، واستدل عليه بأن مشيئة الرب في العقيدة الإسلامية وإرادته ليست مرتبطة بمقولاتنا، ولا حتى بالعقل، وأن ابن حزم ذهب في تفسيره إلى حد القول بأن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه أن يطلعنا على الحقيقة.
وحينما عرج على المسيحية سبغها بكل ما جرد الإسلام منه؛ بالسماحة والعقلانية، واستدل عليه بأول نص في الكتاب المقدس، في سفر التكوين: "في البدء كانت الكلمة"، فالرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت.
في نهاية كلمته دعا إلى المحاورة بين الحضارات، بالعقل والإيمان وبالكلمة؛ ليكون موافقا لطبيعة الرب.(6/50)
ويلاحظ في كلمته هذا: محاولة الاستئثار المسيحي بالرب والعقل والتسامح معا، وتجريد الإسلام منها، فالمسيحية هي التي تعمل وفق إرادة وطبيعة الرب، ووفق العقل، والإسلام يعمل معارضا لطبيعة إرادة الرب والعقل؛ كونه يتخذ العنف والسيف طريقا للإقناع، ولأنه يلصق بالرب الاستعلاء المطلق، والمشيئة المطلقة، التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا ترتبط بمقولاتنا ولا العقل..؟!!.
إثر هذه المحاضرة انطلقت ردود الفعل - المعتادة !! - من المسلمين، تمثلت في التعبيرات التالية:
- غضب إسلامي عبرت عنه: دول، ومنظمات، وشخصيات، ومظاهرات جماهيرية.
- استنكار جهات إسلامية، ونصرانية شرقية خصوصا من هذا التصريح.
- مطالبة بالاعتذار العلني الصريح، وطلب توضيح موقف البابا من الإسلام.
- أن التصريح كان في سياق تبرير الحملات الصليبية الأخيرة على بلاد الإسلام.
- الرد على الإدعاء البابوي حول العنف واللاعقلانية المنسوبة إلى الإسلام، وذلك من طريق:
o نفي جهاد الطلب، وقصره على جهاد الدفع.
o رسم عقلانية الإسلام من خلال موقف الأشعرية في رفض إيمان المقلد، وإيجاب النظر. وموقف المعتزلة في إيجاب الأصلح على الله تعالى.
o بيان تسامح الإسلام مع الديانات بعد الفتح الإسلامي.
o فضح السلوك المسيحي في العالم؛ احتلالا، ونهبا، وتقتيلا، واضطهادا.
وقد كان الصوت الأعلى هو صوت المطالب بالاعتذار، الحاث على غضبة إسلامية كبرى، ومحاولة دفع التهمة عن الإسلام والمسلمين. والذين قاموا بالرد بالمثل؛ أي ببيان فضائح الاعتقاد والسلوك النصراني في العالم كانوا قليلين، وليست لهم من الشهرة كالتي للذين اكتفوا بطلب الاعتذار، دون نقد للمسيحية عقيدة أو تاريخا.!!.
* * *
الاعتذار ؟.
نعود إلى السؤال المشروع، فنقول:
يطلب الاعتذار في العادة من المخطئ، بقصد الحد من الآثار السلبية التي تنجم عن الخطأ، من رد فعل غير ملائم، يضر بالجانبين: المخطئ، والمخطئ عليه.
فالاعتذار ينزع فتيل أزمة تكاد أن تقع بسبب ذلك الخطأ.
والأزمة ورد الفعل يقع من شعور المخطئ عليه بالإهانة، التي لحقت به، فيسعى في رد الاعتبار، وإزالة التشويه، وذلك بتقرير المخطئ بخطئه، أو بطريق آخر هو الرد بالمثل. فإن لم ينجح لجأ إلى التصادم، ورد الاعتبار بالقوة، ومن هنا تتدخل أطراف أخرى لمنع مثل هذا التصادم.
وفي حالة تصريح البابا، فإنه تسبب في الطعن في الإسلام والمسلمين، وتشويه الصورة، وفتح بابا ، المفتوح أصلا - للتصادم بين الإسلام والمسيحية، أو المسلمين والمسيحيين.
وهنا نفهم لم تصدت كل هذه القوى الإسلامية للرد، إنهم يقصدون: رد الاعتبار، وإزالة التشويه الذي لحق بالإسلام والمسلمين، ومنع التصادم بين الحضارة الإسلامية والمسيحية. ولأجلها طالبوا بالاعتذار، فكان الاعتذار وسيلتهم الوحيدة - تقريبا - في تحصيل هذه المقاصد.
لكن ألم يكن ثمة وسيلة أخرى لتحصيل هذه المقاصد ؟.
وبصورة أخرى: هل كانت وسيلة الاعتذار هي الوسيلة المثلى، التي لا تحمل معها أية آثار سلبية ؟.
في هذا التساؤل إثارة لمسألة سلبية الاعتذار، أو لنقل المحتوى الآخر للاعتذار غير ما ذكر، فإن للاعتذار وجها آخر غير تلك التي ذكرت في المقاصد، أغفلت، فلم يذكرها إلا القليل، وهي:
- أن على الطرفين ألا يبادرا بأي فعل فيه نقد وطعن تجاه الآخر، وهكذا يستطيع كل طرف أن يحاج الآخر، إن هو بادر بنقد أو طعن، بأنه خرج عن القاعدة والأصل، وعليه أن يعتذر.
وفي حالة تصريح البابا، فإن مطالبته بالاعتذار يحتوي ضمنا التعهد بعدم الطعن والنقد في المسيحية، فلا ينتقد المسلمون النصرانية، ولا يتكلمون في بطلانها، وتحريف كتابها، ومصادمتها للمعقول.
مع أن هذا النقد أمر من صميم دين الإسلام، وصميم الواجبات على المسلمين، لبيان الحق، والدعوة إليه، ودحض الباطل المبين، وعليه درج العلماء حينما ألفوا في بطلان النصرانية، كابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، ومن المعاصرين: رحمت الله الهندي، وأبو زهرة..
فهذا هو الأساس الذي بنيت عليه فكرة الاعتذار، سكوت كل طرف عن الآخر، من مبدأ التساوي، وبه يمكن للمسيحيين أن يكفوا، وأن يطالبوا المسلمين بالمثل. لكن إذا كان نهج الإسلام هو الرد ونقض النصرانية، واتهامها بمخالفة المعقول والمنقول، فإن ذلك يضعف موقف المطالبين بالاعتذار.
فهل كان هؤلاء مدركون لمثل هذه النتيجة، أم إنهم مستعدون للكف عن نقد النصرانية ؟.
إن كانوا غير مدركين، فعليهم أن يدركوا.
وإن كانوا مدركين، وهم مستعدون للكف وعدم الخوض في بطلان النصرانية، فتلك هي الداهية!!.
ويسأل عن سببها: هل هو إيمان بفكرة وحدة الأديان، أم شعور بالضعف ؟.
أما وحدة الأديان، فنبرؤهم منها، ونعيذهم، لكنا ذكرنا بها؛ لأن موقفهم ينسجم تماما مع فكرة وحدة الأديان، التي تقوم على اعتبار صحة جميع الأديان، وتساويها، ومن ثم فلا وجه لنقد أو طعن يوجه تجاه إحداها.
لكنه شعور بالضعف، يبدو، يحمل على السكوت أمام عدو نصراني كبير، يحمل معه كل أدوات التدمير، ويتحكم في مصير ملايين المسلمين. محاولة للإبقاء على المسلمين، نظرا إلى عدم تكافؤ القوى. وهذا هدف نبيل لا شك ..
غير أن المتابعة للأحداث تدل على: أن هذه الطريقة غير نافعة في تحصيل الهدف، بل ضارة، فإن على أهل الحق بيان الحق، وإن عذروا حينا، فلا يعذرون كل حين في السكوت على الباطل.
ومداراة المسيحيين ومحاباتهم، طلبا للسلامة وكف شرورهم، بهذه الطريقة لم تنجح، بل زادت شرهم، فمنذ عقود وبعض المسلمين في محاولة لمد جسور التواصل، والتقارب، والحوار، والتعايش.. إلخ، ولو بالسكوت عن نقد المسيحية، ودعوة المسيحيين للإسلام. لكن لم يظهر في الأفق المسيحي سوى العدوان الصريح، فهم الذين احتلوا: أفغانستان، والعراق، والشيشان، ودمروا البوسنة، وكوسوفا، ولبنان، وهم الداعمون لإسرائيل، وقد عبروا عن صليبيتهم في كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الأخيرة: "إنها حرب صليبية"، وموقفهم من الرسومات المسيئة للنبي واضح، فدول أوربية كثيرة حذت حذوا الدنمارك، آخرها النرويج قبل أيام، أعادت نشر الصور، ثم هذا البابا يخرج بمثل هذه التصريحات، مع أن الفاتيكان هي الراعية للحوار بين الحضارات.
فكل ما بذله هؤلاء المسلمون من الحوار، والتقارب، والتعايش، والذي حملهم على السكوت عن نقد النصرانية، لم يفد بشيء، بل زاد من هجمتهم ضد الإسلام، وصدق ربنا إذ يقول:
- {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }.
فهذا موقف خاطئ من هذه المنظمات والشخصيات المطالبة بالاعتذار، خطأ واقعا، كما تقدم، وخطأ شرعا، فإن الشرع يأمر بقولة الحق، والصدع بها، لا عقد تحالفات لغض النظر عن فساد المعتقدات، والسكوت عن بيان الحق، مهما كانت الدعاوى، من ضعف أو عجز، فإنه إذا نظرنا في تاريخ الدعوة، فإن الدين كان ضعيفا، ثم مازال يقوى بالدعوة والبلاغ؛ ببيان محاسن الإسلام، ومساوئ ما سواه، ومن ذلك النصرانية، وعلى هذا درج القرآن. فإذا ما اتخذ مبدأ السكوت بداعي الضعف، فمتى يهدى الناس إلى الإسلام، ومتى ينتشر ويقوى، وقد علم أن قوته إنما تتحصل بالدعوة والبلاغ، التي تزيد من أتباعه المتمسكين به ؟!.
* * *
إن الموقف الصحيح في الرد على البابا، وكل تصريح من هذا النوع، هو:
الرد بالمثل، وفي التاريخ والدين النصراني من النقاط السوداء الكبيرة ما لا تعجز ناقدا، حتى لو كان عاميا؛ ببيان فساد المعتقد النصراني، ومعارضته للعقل، وللرحمة، وتأييد ذلك بالتاريخ المسيحي:(6/51)
- فالتلثيث، والصلب، والفداء، والعشاء الرباني، عقائد مسيحية معارضة للعقل، كانت سببا في ردة طائفة من النصارى، ورفضها للمسيحية.
- وتاريخ الحروب الصليببية شاهد على دموية، وعنف، وإرهاب المسيحيين، منذ أيام الحاكم الروماني قسطنطين، ونيرون، واضطهاد الكاثوليك - حزب البابا- للآرذثوكس في مصر وغيرها، والآريوسيين، وما حدث في حقهم من مجازر أمر لا يخفى.
- كما أن محاكم التفتيش في أسبانيا، والتي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين على الهوية الإسلامية، تركت ندبة سوداء في تاريخ أوربا المسيحية.
- ومثلها ما حدث من تطهير عرقي في البوسنة، وتحديدا في سربرنتشا، تحت سمع وبصر، بل وعون النيتو، والأمم المتحدة، ودول أوربا، وأمريكا، سفك الدم الحرام لما يزيد عن ثمانية آلاف مسلم، قتلوا بدم بارد، ودفنوا في مقابر جماعية، هذا عدى إجرام أمريكا الصليبية في أفغانستان، والعراق، حيث قتل مئات الآلاف.
فبعد كل هذا، ألا يستحي البابا من اتهام المسلمين بالعنف واللاعقلانية ؟!.
وألم يجد الذين غضبوا من تصريحه حلا لرد الاعتبار سوى المطالبة الاعتذار ؟!.
إن صفحة المسيحيين سوداء مخزية مليئة بالإجرام، كان يكفي هؤلاء المخلصين أن يسلطوا الضوء على إحداها، بدل المطالبة بالاعتذار. الاعتذار يعطيه قيمة، ويرسخ مفهوم التساوي والسكوت عن بيان الحق فيهم، وهذه هي الداهية ؟!.
كان عليهم بعده التعريج على محاسن الإسلام، وصنائعه المباركة في العالم وتاريخه أجمع، حتى شهد بعدله وبره وإحسانه وقسطه المنصفون من أتباع الديانات، من كاثوليك، وآرثوذكس.
إنها لفرصة تاريخية لإحياء الدعوة إلى الإسلام من جديد، في العالم كله، وفضح الدين المسيحي في عقيدته وتاريخيه، كان من الواجب استغلالها؛ بنشر المؤلفات الميسرة للذكر والفهم، بكافة اللغات، وبالبرامج والمحاضرات والندوات الفضائية المكثفة، على نطاق شامل وواسع؛ لتكون تصريحات البابا أداة وصولها إلى الإسماع في الأصقاع.
لكن وبدلا من ذلك، اتجه الحل إلى المطالبة بالاعتذار، واستنفد هؤلاء المخلصون جهدهم ورأيهم وكلمتهم فيه، مع تمنع وتمتع نصراني بهذا الإلحاح، ثم لم يخرجوا من البابا بشيء يذكر، ففي كل مرة يخرج فيها، يربت على أكتاف الغاضبين، يهدئ من روعهم، ويقول لهم كمعلم: هذه الحقيقة، فاسمعوها، ولو غضبتم.. فنحن نعمل على ترشيدكم، وترقيتكم إلى ما هو أسمى. !!..
هذا هو معنى أسفه من سوء فهم المسلمين كلامه، وعدم اعتذاره..
لدينا خلل في التعاطي مع المخالفين، بين من لا يرى إلا السيف معهم، حلا وحيدا، وبين من لا يرى سوى التقارب والكف حتى عن بيان الحق فيهم، تحت ذرائع شتى.
لكن أين من يقول لهم: نحن لا نتعدي عليكم، لكن دينكم باطل.. نحن لا نظلمكم، لكنكم ضالون.. نحن نحب لكم الخير، فتعالوا إلى الإسلام.. أنتم في شقاء، فتعالوا إلى الراحة والنعيم.. أنتم في ضيق وظلمة.. فتعالوا إلى السعة والنور.. وصدق الله تعالى إذ يقول:
- {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
==============
عبير نورة
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
فتاتنا تقول إن أمها الكتاب المفتوح الذي تستسقى منه العلم والمثابرة، وإنها مهما فعلت أو قدمت فلن يكون ذلك في مقام قطرة من بحر عطائها وحبها، وأن وقوف والدها وأسرتها وتقديمهم الدعم لها، كان له أكبر الأثر في نجاحها بعد الله
كانت ليلة استنشقت فيها عبير نورة في وقت كنت في أمس الحاجة لعبير ونور يسعدان القلب والعقل معا، هذه كانت الليلة التي تشرفت فيها بالتواجد على أرض "الأربعائيات" المنتدى الثقافي النسائي في المنطقة الشرقية، نهاية الأسبوع المنصرم، حنين لا أخفيه لروح هذا المنتدى ولصاحبته "سارة بنت محمد الخثلان" التي ما فتئت توجه أنظارها لدعم الكوادر النسائية الوطنية وحتى العربية، سيدة أدركت أن الثروة الباقية لهذه الأرض الطيبة، وللأمة العربية بكاملها هي أبناؤها وبناتها، سيدة أدركت أن دعم الشباب واجب لا مناص منه، وأن دعمها للكوادر النسائية الوطنية والعربية، لا يتعارض مطلقا مع خصوصيتنا كمجتمع اعتمد الإسلام دستورا، مجتمع تتحرك النساء فيه بحرية متناهية في نطاقهن الخاص، حيث لا تقبل النساء والبنات فيه.. اقتحامه من قبل الرجال، ففيه ننصت ونعلق ونضحك دون حرج أو تردد.. خصوصية أعتقد يقينا أن الرجال تهفو نفوسهم إليها، ولذا نجدهم دوما يحتالون في البحث عن مبررات لمجالسة بعضهم بعضا.
أما "عبير نورة " فكان نابعاً من ضيفتين رئيستين لتلك الليلة، المتحدثة الأولى الدكتورة "عبير بنت حسام الدين اللحام" إحدى أعضاء هيئة التدريس بكلية العمارة والتخطيط، بجامعة الملك فيصل في الدمام، التي أقبلت إلينا في ثوب رائع استمد خطوطه وتصميمه من التراث الأردني، أقبلت حاملة باقة من رحيق الماضي الذي أبى أن يندثر، إذ اختارت أن تتحدث عن "ماهية العمارة الإسلامية" فكان العشق لسانها والعلم بيانها.
تابعت - كغيري - حديثها القيم في مضامينه، البسيط في مفرداته ومعانيه، ولأجل أننا مجحفون تجاه عمارة أعطتنا الكثير فقابلنا عطاءها بما لا يليق، فلن نجد بيننا على الأغلب إلا معمارياً أو ممولاً غيوراً نقل الماضي دون مراعاة منه لمستجدات ومتطلبات الحاضر، وإما معماري أو ممول ناكر ومنكر لجمال عمارة فاض به تاريخنا الإسلامي.. في تلك الليلة كنا كحضور نتابع على شاشة العرض صورة من عمارة الماضي الرائعة، لتوقفنا الدكتورة "عبير" موضحة الجوانب المميزة في كل منها، مؤكدة أن هناك تبايناً في كثير من التفاصيل فما تم بناؤه في الشرق مختلف عما أنشئ في الغرب، وأن هذا الاختلاف المعماري لا يلامس البتة أساسيات حرصت عليها العمارة الإسلامية منذ البداية، أساسيات استمدتها من تعاليم إسلامية تصر على مراعاة حق الجوار.. فلا ضرر ولا ضرار، عمارة تأثر بها سكانها كما تأثرت هي بهم في المقام الأول.
وفي تلك الليلة شاهدنا عمارة حديثة نقلت وبشكل يكاد يكون مطابقا لعمارة لا شك أنها مميزة، خلفتها لنا الحضارة الإسلامية، إلا أن بعضاً منها كما بينت الدكتورة "عبير" لم تراع فيها متطلبات العصر، وبالتالي كانت الفائدة المرجوة منها قاصرة نوعا ما، ولتنتهي المتحدثة إلى أن حنيننا إلى الماضي لا يبرر هذا التوجه، فالعمارة الإسلامية غنية، ومتشعبة، ورائعة الجمال، وبالإمكان تواجدها واستحداث بعض جوانبها لتتماشى مع عصرنا وغيره من العصور، عمارة تتعامل مع البيئة التي تظهر على أرضها، وتراعي طبيعة كل منها على حدة، فهي تتوقف بعظيم الاهتمام أمام البيئة الحارة، والبيئة الجبلية وسهلية الإطراف.. أما وصيتها الختامية للحاضرات، فكانت ألا ننسى الماضي ولا نتجاهل الحاضر، ولنستمتع نحن والأجيال القادمة بعبير الماضي الممزوج بمتطلبات ومستجدات الحاضر.. هذه المهندسة الأكاديمية الآتية إلينا من المملكة الهاشمية الأردنية، حصلت على جائزة الملك حسين للطلبة المتفوقين في الأردن، وهي بحق جديرة بها.
أما ذاك النور الذي اكتسى قاعة "الأربعائيات" فكان لشابة من بلادي، شابة سعودية لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، ظهرت لتمثل مزيجاً رائعاً من الخجل والثقة، فتاة حددت أهدافها وتطلعاتها، ومع ذلك لم يكن ليخطر على بالي أنها المعنية بحديث دار بيني وبين صاحبة المنتدى الأخت سارة، والذي جاء فيه على لسانها: (ستجدين ما يسرك ويثلج صدرك، ستجدين شابة سعودية تملك موهبة، تستحق التقدير..).(6/52)
هذه هي ابنة هذه الأرض الطيبة "نورة بنت علي العجمي" التي اضطرت للتوجه لمملكة البحرين ولـ"الجامعة الخليجية" "لإكمال دراستها الجامعية في مجال الهندسة المعمارية، وهناك وجدت الرعاية والدعم وعلى أعلى المستويات، لقد استطاعت هذه الجامعة استثمار قدرات ابنتنا نورة، وبعثتها لتمثل الجامعة و"مملكة البحرين" في "المؤتمر الأول لشباب الجامعات العربية" عام 2006هـ، الذي انعقد على أرض الكنانة، والذي انعقد بدعم "جامعة المنصورة"، وشارك فيه (38) جامعة تنتمي إلى (14) دولة عربية.
لقد حصلت "نورة بنت علي العجمي" التي لم تتجاوز آنذاك السابعة عشرة من عمرها، والتي كانت الأصغر سنا من بين المشاركين والمشاركات، وبعد عديد من الاستفسارات وجهت لها من قبل اللجنة المحكمة، على المرتبة الثالثة "الميدالية البرونزية" في مجال الابتكارات العلمية، كما حصلت على المرتبة السابعة، في نظم وإلقاء الشعر.. بالله عليكم أليست رائعة ابنتنا نورة؟.
أما ابتكارها فكان بطبيعة الحال فريداً من نوعه، وله علاقة بتخصصها المعماري.. لقد استطاعت "نورة" صناعة الزجاج من مواد نباتية، معلنة أن هذا النوع من الزجاج يتمتع بالصلابة، والجمال، وأن استخدامه كبديل للزجاج - في بعض استخداماته - ممكن ومتحقق، وأن التجارب مستمرة حول إمكانية استخدامه بشكل أوسع.
لقد كرمتنا مملكة البحرين باختيارها لابنتنا لتمثلها في مؤتمر إقليمي، كما كرمنا ملك البحرين "الملك حمد بن عيسى آل خليفة" بنفسه بتكريمه لابنتنا "نورة" والاحتفاء بها وبنبوغها، بارك الله فيه، وفي البحرين، وأدام الود بيننا.
أما الغالية "نورة" فكرمت المملكة العربية السعودية بإعلانها المتكرر انتمائها لبلادها، وبالتزامها بالحجاب الشرعي، الذي ظهر على كل أرض وقفت عليها سواء في البحرين أوفي مصر، وسواء على منصة التكريم في جامعة المنصورة، أو في قاعة المحاضرات في الجامعة الخليجية، فالتزامها بالحجاب، وغطاء الوجه لم يكن ليعيقها على الإبداع والتميز.
وجدير بالإشارة هنا ما سمعته منها من أبيات شعرية ألقتها أمامنا في منتدى "الأربعائيات" تلك الليلة، وهي من قصيدة نالت إعجاب وتقدير لجنة التحكيم في المؤتمر المصري الذي نوهت عنه سابقا، ونالت عليها جائزة المرتبة السابعة في مجال اللغة العربية والشعر، وإليكم بعض من أبياتها:
بكيت دجلة والفرات بكاني *** والنيل في وضح النهار شفاني
كما قالت:
مادامت الخرطوم تشكو حالها *** والقدس تذرف دمعه وتعاني
ستظل عيني في السماء رقيبة *** ويظل قلبي ثابت البنيان
كما أزف للقارئ الفاضل أن ابنتنا "نورة" أكملت دراستها النظامية ابتدائي ومتوسط وثانوي، في وطنها المملكة العربية السعودية، وحصلت عام 1425- 1426هـ، على شهادة وشكر من إدارة الإشراف التربوي لمشاركتها في معرض (أنشطتي ترعى موهبتي) كما فازت في مسابقة (انطلاقة في عالم الفيزياء) المعدة من قبل شؤون الطالبات والاختبارات على مستوى محافظة الخبر.
فتاتنا هذه تقول إن أمها الكتاب المفتوح الذي تستسقى منه العلم والمثابرة، وأنها مهما فعلت أو قدمت فلن يكون ذلك في مقام قطرة من بحر عطائها وحبها، وإن وقوف والدها وأسرتها وتقديمهم الدعم لها، كان له أكبر الأثر في نجاحها بعد الله، كما تؤكد انتماءها لمدرساتها اللآتي ما زلن على اتصال دائم بها، على سبيل المثال ذكرت المرشدة الطلابية الأستاذة "هدى الشويل" بعظيم الامتنان، وكذا تحدثت بحب عن الأستاذة المفكرة "عصمت المهندس" التي تعدت علاقتها بها علاقة المدرسة بطالبتها، فهي وبشهادة نورة في مقام الأم بعطائها، كما لم تخنها الذاكرة فوجهت عظيم التقدير لمديرة جامعة البحرين الدكتورة "منى بنت راشد الزياني"، التي قدرت إمكانياتها وشجعتها، وما زال هذا حالها معها...
لقد كنت أتابع حديث نورة.. وأتخيل كم كنت سأكون محظوظة لو شرفت بتدريسها، بارك الله فيها، وفي أم أنجبتها ورعتها، وفي أسرة ساندتها، وفي مجتمع يفتخر بها ويدعمها..
ولا أدري هل من الممكن أن تنال ابنتنا "نورة بنت على العجمي" الطالبة في السنة الثانية، بالجامعة الخليجية، تقدير وزير التعليم العالي معالي الدكتور "خالد بن محمد العنقري" فيوجه بحسه الأكاديمي بتمكينها من الحصول على منحة دراسية، هل من الممكن أن تتكفل الوزارة بتكاليف دراستها؟. يقينا أؤكد ذلك.. فمن عرف معالي الدكتور خالد، يدرك أن ذلك ممكن بحول الله وقوته.
=============
هل حصل انحطاط في الحضارة الإسلامية ؟
يتحدّث بعض الباحثين, وبعض المستشرقين الغربيين, عن انحطاط تاريخي ألمّ بالحضارة الإسلامية، أدى إلى انهيارها, وإلى بقاء واستمرارية هذا الانهيار, وهو الانحطاط الذي عرقل ويعرقل إعادة قيام الحضارة الإسلامية من جديد. وتعد هذه القضية واحدة من أهم القضايا التي دارت حولها العديد من النقاشات الثقافية والتاريخية الهامة, وما زالت إلى اليوم تثير مثل هذا النقاش, الذي لن يتوقف ما دام العالم الإسلامي يتطلع إلى نهضة حضارية إسلامية جديدة في هذا العصر.
ولعل المستشرق الأمريكي المعروف مارشال هودجسون المتوفى عام 1968م, من أكثر الباحثين والمستشرقين الغربيين المعاصرين, تشكيكاً في مقولة انحطاط الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية, وقد اعتبر في كتابه الموسوعي الشهير: (مغامرة الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارة عالمية), الصادر في ثلاثة مجلدات, بعد وفاته عام 1974م, بعناية من زوجته وتلامذته وزملائه, أن هذه فكرة خاطئة وليست صائبة, ومردها حسب نظره, إلى أنه لم تجر حتى الآن أية إعادة نظر حقيقية في الثقافة الإسلامية ككل, ولهذا يرى أن مقولة الانحطاط الإسلامي لا يمكن التسليم بها جدياً.
ويأتي هذا الرأي بعد أن كان من المألوف لدى العلماء المحدثين,
التخلف أصاب ثقافة المسلمين وبقي الإسلام يبعث حيوية ودينامية ويقظة
الافتراض كما يقول هودجسون, بأن الثقافة الإسلامية دخلت في حالة من التقهقر أو الانحطاط بعد انهيار الخلافة في الحقبة العليا, أو في أقصى تقدير زمني في فترة الاحتلال المغولي في القرن الثالث عشر. النتيجة التي يترتب عليها في نظر هودجسون, اعتبار أن أية أدلة على حيوية وعظمة الثقافة الإسلامية في الفترات اللاحقة, خصوصاً في القرن السادس عشر نادرة بمعنى ما, وكأنها ليست جزءاً من الثقافة الإسلامية بل سلسلة من الأحداث التي لا تربطها بها صلة.
وما يخلص إليه هودجسون, أن مصير الحضارة الإسلامية ليس مثالاً عن قانون بيولوجي يقضي بأن على كل عضو أن يزدهر ثم ينحط, فالحضارة ليست بنية عضوية.
لذلك تقوم أطروحة هودجسون على ضرورة قراءة تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته من منظور عالمي شامل, واعتبار أن دراسة تاريخ النهوض الأوروبي الاقتصادي والصناعي والعلمي والإنساني لا يستقيم بدون قراءة تاريخ قرون الإسلام ما بين القرن العاشر والسابع عشر, ومعرفة دور الإسلام في تاريخ العالم وحضارته الحديثة.
وقد وجد الدارسون الغربيون قيمة معرفية وتاريخية هامة وكبرى, في النظر لعمل هودجسون لتميز أطروحته, وجديته في البحث, حيث أمضى ما يقارب عشرين عاماً وهو يبحث ويسجل ملاحظاته وتأملاته في تاريخ الإسلام وحضارته.(6/53)
وهناك من أثار مثل هذه المقولة في داخل الفكر الغربي نفسه, وذلك عندما أصدر المفكر الألماني الشهير أزوالد اشبنغلر في العقود الأولى من القرن العشرين كتابه الذائع الصيت: (انحطاط الغرب), أو (أفول الغرب), أو (تدهور الغرب), على اختلاف الترجمات, حيث اعتبر أن الغرب تجاوز مرحلة خلق الثقافة, وانتقل إلى مرحلة الحضارة أو المدنية التي تعني مرحلة الرفاه المادي, وهذا يعني في نظر اشبنغلر أفول الغرب أو انحطاطه. وقد أحدث هذا الكتاب في وقته ومازال صدمة وفتح نقاشات سجالية لم تنته إلى اليوم, وأدخل في الثقافة الأوروبية ما بات يعرف بمفهوم التشاؤمية الثقافية.
ولعل من الأصح القول أن الانحطاط أصاب الدولة في التاريخ الإسلامي, ويمكن أن نبرهن على هذه الفكرة بمقدمة ابن خلدون التي وضعت التجربة الإسلامية في نطاق التحليل وفق قواعد وأصول علم الاجتماع وعلم التاريخ. فابن خلدون بحث عن أفول الدولة في التجربة الإسلامية, وليس أفول الثقافة أو الحضارة. ولذلك يمكن القول أن التخلف أصاب ثقافة المسلمين وليس الإسلام. وبقي الإسلام ومازال يبعث حيوية ودينامية ويقظة في المجتمعات الإسلامية
===============
هكذا أسلمنا - (1)
د.عبد المعطي الدالاتي
العلامة الدكتور عبد الكريم جرمانوس
عالم مجري ، وصفه العقاد بأنه:"عشرة علماء في واحد".
أتقن ثماني لغات وألف بها ، وهي العربية والفارسية والتركية والأوردية والألمانية والمجرية والإيطالية والإنجليزية ..
وكان عضوا في مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد والرباط، وله أكثر من مائة وخمسين كتاباً بمختلف اللغات .
منهاكتاب "معاني القرآن" .. و"شوامخ الأدب العربي".. و"الله أكبر"..
و"الحركات الحديثة في الإسلام".
يقول الدكتور عبد الكريم جرمانوس :
" حَبّب لي الإسلام أنه دين الطهر والنظافة : نظافة الجسم والسلوك الاجتماعي والشعور الإنساني ، ولا تستهن بالنظافة الجسمية فهي رمز ولها دلالتها"(1).
" كم أَلفيت في قلوب المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب ، فقد منحوني إحساس الحب والتآخي ، ولقّنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وعلى المسلمين أن يعضّوا بالنواجذ على القيم الخلقية التي يمتازون بها ، ولا ينبهروا ببريق الغرب ، لأنه ليس أكثر من بريقٍ خاوٍ زائف"(2).
الإسلام دين الحضارة:
"لا يوجد في تعاليم الإسلام كلمة واحدة تعوق تقدم المسلم ، أو تمنع زيادة حظه من الثروة أو القوة أو المعرفة ..
وليس في تعاليم الإسلام ما لا يمكن تحقيقه عمليا ، وهي معجزة عظيمة يتميز بها عن سواه ، فالإسلام دين الذهن المستنير ، وسيكون الإسلام معتقد الأحرار" .
ويكتشف جرمانوس العلاقة الوثيقة بين اللغة العربية وبين الإسلام ، ويتعلق بلغة القرآن إلى درجة الهيام بها ، فيقول:
"لقد تمنيت أن أعيش مائة عام ، لأحقق كل ما أرجوه لخدمة لغة القرآن الكريم ، فدراسة لغة الضاد تحتاج إلى قرن كامل من الترحال في دروب جمالها وثقافتها"(3) .
* * *
مالكولم إكس
زعيم من الملوّنين الأمريكيين .
كان يُلقَّب قبل إسلامه بالشيطان و "أحمر دويترويت" إذ كان زعيما عنصريا متطرفا في عداوته للبيض .ولكنه عدل عن هذا النهج بعد إسلامه .
وبعد رحلته للحج خاصة إذ غمرته أخوّة المسلمين البيض تحت مظلة الإسلام ، فأرسل إلى أتباعه من مكة رسالة يبين فيها انعطاف مساره ، يقول فيها:
"ما رأيت قط كرماً أصيلاً ، ولا روحاً غامرة من الأخوة كهذه التي تسود هنا بين الناس من كل لون وجنس ، في هذه الأرض المقدسة ، وطن إبراهيم ومحمد …
فها هنا عشرات الألوف من الحجاج قدموا من كل أنحاء العالم ، ليؤدّوا المناسك نفسها بروح من الوحدة والأخوة ، ما كنت أظن - بحكم خبراتي في أمريكا - أنها يمكن أن تنشأ بين البيض والسود …
وإن أمريكا في حاجة إلى أن تفهم الإسلام ، لأنه هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يمحو المشكلة العنصرية في مجتمعها
… لقد تقابلت مع مسلمين بيض وتحدثت معهم ، بل تناولت الطعام معهم ! ولكن النزعة العنصرية محاها من أذهانهم دين الإسلام ..
إننا هنا نصلي لإله واحد ، مع أخوة مسلمين لهم أعين زرقاء كأصفى ما تكون الزرقة ، ولهم بشرة بيضاء كأنصع ما يكون البياض .." (4).
فيا عجباً لأمر الإسلام ! كيف حوّل الحقد الأسود في قلب هذا الزعيم إلى حب أبيض فياض .. لم يستطع أن يعبر عنه إلا بهذه التداعيات التي ختم بها رسالته ؟!
… لقد غدت نيته بالإسلام بيضاء ، وأشد بياضاً من لون بشرة أعدائه السابقين ، إنه الإسلام دين الإنسان .
"في مجتمع الإسلام لا يشعر أي إنسان بأي تمييز ، فلا توجد في الإسلام عقدة الاستعلاء ، ولا عقدة النقص" (5).
**
المهندس اللورد هيدلي
من أغنى البريطانيين ، ومن أرفعهم حسبا ، درس الهندسة في كامبردج ، أسلم وأصدر مجلة(The Islamic Renew )..
وأصدر كتاب (إيقاظ العرب للإسلام) و كتاب (رجل غربي يصحو فيعتنق الإسلام) ، وقد كان لإسلامه صدى كبير في إنكلترا .
يقول هيدلي معبرا عن ساعة اعتناقه الإسلام:
"لا ريب إن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي جاهرت فيه على رؤوس الأشهاد بأنني اتخذت الاسلام ديناً(6)..
فإذا كنت قد ولدت مسيحياً ، فهذا لا يحتم عليّ أن أبقى كذلك طوال حياتي ، فقد كنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن بالمبدأ القائل : إذا لم تأكل جسد المسيح ، وتشرب دمه ، فلن تنجو من عذاب جهنم الأبدي !
إنني بإسلامي أعتبر نفسي أقرب إلى النصرانية الحقة مما كنت من قبل ، ومن يعادي النصرانية الحقة فلا أمل فيه …
لم أولد في الخطيئة ، ولست مولود سخط وغضب ، ولا أحب أن أكون مع الخاطئين(7)..
لقد تملك الإسلام لبي حقا ، وأقنعني نقاؤه ، فأصبح حقيقة راسخة في عقلي وفؤادي ، اذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتهما قط من قبل(8)" .
السنة النبوية هي القدوة لنا:
"بما أننا نحتاج إلى نموذج كامل ليفي بحاجاتنا في خطوات الحياة ، فحياة النبي تسد تلك الحاجة ، فهي كمرآة نقية تعكس علينا الأخلاق التي تكون الإنسانية، ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة(9)..
خذ أي وجه من وجوه الآداب ، تتأكد بأنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياة الرسول صلى الله عليه وسلم".
ويعبر عن مفهوم العبادة الشامل للحياة:
"الإسلام هو الدين الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة مدى الحياة ! لا في أيام الآحاد فقط …
أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تنيره شمس النهار ، وأخذ يستنشق هواء البحر النقي الخالص"(10).
وكم ذا شردتُ ، وها إنني *** هجرتُ إليكَ جميع الدروبْ
وأثبتُّ قلبي بدرب الهوى *** مناراً يَلُمُّ شتات القلوبْ
أيُرضيك عني فؤادٌ غدا *** بحبك - ربي - غريق الطيوبْ(11)
***
الفنان الفرنسي ناصر الدين دينيه
الفونس إيتان دينيه ، من كبار الفنانين والرسامين العالميين ، دُوّنت أعماله في معجم (لاروس) ، وتزدان جدران المعارض الفنية في فرنسة بلوحاته الثمينة ، وفيها لوحته الشهيرة (غادة رمضان).. وقد أبدع في رسم الصحراء .
كما ألّف بعد إسلامه العديد من الكتب القيمة ، منها كتابه الفذ :(أشعة خاصة بنور الإسلام) وله كتاب (ربيع القلوب) و(الشرق كما يراه الغرب) و(محمد رسول الله) و(الحج إلى بيت الله الحرام)..
وقد أحدثت كتبه دويّا في دوائر المستشرقين . يقول دينيه :
" لقد أكد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان ، إذ هو دين الفطرة ، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر ، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجة الحضارة(12)…(6/54)
وبما أن دينيه كان فنانا موهوبا ،فقد لفت نظره الجانب الجمالي والذوق الرفيع للحياة النبوية ، يقول:
لقد كان النبي يُعنى بنفسه عناية تامة ، وقد عُرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة ، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال" .
"إن حركات الصلاة منتظمة تفيد الجسم والروح معاً ، وذات بساطة ولطافة وغير مسبوقة في صلاة غيرها".
تعدد الزوجات مابين الإسلام والنصرانية:
"إن تعدد الزوجات عند المسلمين أقل انتشاراً منه عند الغربيين الذين يجدون لذة الثمرة المحرمة عند خروجهم عن مبدأ الزوجة الواحدة !
وهل حقاً إن المسيحية قد منعت تعدد الزوجات ؟!
وهل يستطيع شخص أن يقول ذلك دون أن يأخذ منه الضحك مأخذه ؟!
إن تعدد الزوجات قانون طبيعي ، وسيبقى ما بقي العالم ، إن نظرية الزوجة الواحدة أظهرت ثلاث نتائج خطيرة : العوانس ، والبغايا، والأبناء غير الشرعيين" (13) .
***
الداعية عبد الله كوليام
أول مسلم إنجليزي دعا إلى الإسلام ، أسلم على يديه اللورد هيدلي ، واللورد ستانلي أولدرلي ، وأصدر كتاب (العقيدة الإسلامية) ..
وقد لقي عبد الله بعد إسلامه من الأذى الكثير الكثير ! وهذه صورة يرسمها لنا :
" ومما أوذينا به أن أولئك الأشرار كانوا يلقون الأقذار على المصلين في أثناء الصلاة ، وينثرون الزجاج المكسور على السجاد ليجرحوا جباهنا !
ولقد دخلت المسجد مرة أنا وأخواني لأُلقي عليهم محاضرة ، فرأيت في المسجد وجوهاً غريبة سبقتنا ، فلم أبال بهم وشرعت في تلاوة وتفسير آيات من القرآن ، فلما انتهيت من المحاضرة قام أحد أولئك المريبين وأخرج من جيبه حجارة وألقاها على الأرض ، وقال لأصحابه : من كان منكم يريد أن يرجم المسلمين بالحجارة فليرجمني معهم فأنا مسلم ، فألقوا حجارتهم وأعلنوا إسلامهم !
وهذا الرجل الذي كان رئيسا لهم ، ما لبث أن صار عضدي الأيمن وتسمى بـ (جمال الدين )(14).
* * *
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"
تابع .. هكذا أسلمنا - (2)
----------------------------------
(1) (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) د. محمد رجب البيومي (2 / 421) .
(2) (هؤلاء المثقفون اختاروا الإسلام) محمد عثمان ص (35) .
(3) نفسه ص (36) .
(4) عن مجلة (الفيصل) العدد 270 - عام 1999 .
(5) موسوعة (مقدمات العلوم والمناهج) للعلامة أنور الجندي - مجلد(8 )- ص (140) .
(6) (آفاق جديدة للدعوة الإسلامية) أنور الجندي ص(139) .
(7) موسوعة (النهضة الإسلامية) د. محمد رجب البيومي (1 / 120 ) .
(8) (الإسلام في قفص الاتهام) الدكتور شوقي أبو خليل ص(16) .
(9) (رجاء جارودي وحضارة الإسلام) ص (9) .
(10) نفسه ص (8) .
(11) الأبيات للمؤلف - ديوان (أحبك ربي - نجاوى شعرية) ص(24) .
(12) (محمد رسول الله) ناصر الدين دينيه ص (345) .
(13) عن (المرأة والأسرة المسلمة من منظور غربي) د. عماد الدين خليل (66-97) .
(14) عن (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين) د. محمد رجب البيومي (1/110) .
==============
هكذا أسلمنا - (2)
د.عبد المعطي الدالاتي
الحاج إبراهيم أحمد
(القس إبراهيم فيلوبوس)
ماجستير في اللاهوت من جامعة برنستون الأمريكية .
من كتبه (محمد في التوراة والإنجيل والقرآن) و(المسيح إنسان لا إله) و(الإسلام في الكتب السماوية) و(اعرف عدوك اسرائيل) و(الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية) و(المبشرون والمستشرقون في العالم العربي الإسلامي).
وقد كان راعياً للكنيسة الإنجيلية ، وأستاذاً للاهوت ، أسلم على يديه عدد كبير من الناس .
ردّه العقل الحر :
يحدثنا الحاج إبراهيم عن رحلته إلى الإسلام ، فيقول :
"في مؤتمر تبشيري دعيت للكلام ، فأطلت الكلام في ترديد كل المطاعن المحفوظة ضد الإسلام ، وبعد أن انتهيت من حديثي بدأت أسأل نفسي : لماذا أقول هذا وأنا أعلم أنني كاذب ؟! واستأذنت قبل انتهاء المؤتمر ، خرجت وحدي متجهاً إلى بيتي ، كنت مهزوزاً من أعماقي ، متأزماً للغاية ، وفي البيت قضيت الليل كله وحدي في المكتبة أقرأ القرآن ، ووقفت طويلاً عند الآية الكريمة :
( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(1) ..
وفي تلك الليلة اتخذت قرار حياتي فأسلمت، ثم انضم إلي جميع أولادي ، وكان أكثرهم حماساً ابني الأكبر (أسامة) وهو دكتور في الفلسفة ويعمل أستاذاً لعلم النفس في جامعة السوربون"(2).
وبإسلامهم زادت بيوت الإسلام بيتاً .
أتيتك - ربي - بفلْذات قلبي *** وفدنا عليكَ بشوقٍ وحبِّ
أتينا جميعاً كباراً صغاراً *** نصلي ، نصوم ، نزكّي ، نلبّي(3)
***
البروفسور خالد ميلاسنتوس
(آرثر ميلاسنتوس) دكتوراه في اللاهوت ، وكان الرجل الثالث في مجمع كنائس قارة آسية .
قصته مع الإسلام:
في أثناء عمله بالتنصير عام 1983 قال لنفسه : أي ضير في قراءة القرآن من أجل الرد على المسلمين ؟ فتوجه إلى أحد المسلمين سائلاً إياه أن يعيره كتاب المقدس ، فوافق المسلم مشترطاً عليه أن يتوضأ قبل كل قراءة ، ثم شرع آرثر يقرأ القرآن خفية ، ولنستمع إليه يحدثنا عن تجربته الأولى مع القرآن :
"عندما قرأت القرآن أول مرة ، شعرت بصراع عنيف في أعماقي ، فثمة صوت يناديني ويحثني على اعتناق هذا الدين ، الذي يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة ، لا تحتاج إلى وساطات القسس ، ولا تباع فيها صكوك الغفران !! وفي يوم توضأت ، ثم أمسكت بالقرآن فقرأت : (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ علَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))(4) فأحسستُ بقشعريرة ، ثم قرأت : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ))
فحلّت السكينة في الروح الحيرى ، وشعرت أني قد خُلقت من جديد .
في تلك الليلة لم يصبر آرثر حتى تطلع الشمس ، بل اتجه حالاً إلى منزل صديقه المسلم ليسأله عن كيفية الدخول في الإسلام ، وبين حيرة الصديق ودهشته نطق آرثر بالشهادتين(5).
* * *
البروفسور عبد الأحد داود
(بنجامين كلداني) أستاذ في علم اللاهوت ، وقسيس الروم الكاثوليك لطائفة الكلدانيين الموحدة ، يتكلم عدة لغات .
اعتزل الدنيا في منزله شهراً كاملاً ، يعيد قراءة الكتب المقدسة بلغاتها القديمة وبنصوصها الأصلية مرة بعد مرة ، ويدرسها دراسة متعمقة مقارنة ضمّن بعضها في كتابه الفذ (محمد في الكتاب المقدس) وأخيراً اعتنق الإسلام في مدينة استانبول ومن مؤلفاته (الإنجيل والصليب) . يقول عبد الأحد داود :
"في اللحظة التي آمنت فيها بوحدانية الله ،وبنبيه الكريم صلوات الله عليه ، بدأت نقطة تحولي نحو السلوك النموذجي المؤمن"(6).
=لا إله إلا الله محمد رسول الله+ هذه العقيدة سوف تظل عقيدة كل مؤمن حقيقي بالله حتى يوم الدين … وأنا مقتنع بأن السبيل الوحيد لفهم معنى الكتاب المقدس وروحه ، هو دراسته من وجهة النظر الإسلامية"(7) .
***
القس والباحث محمد فؤاد الهاشمي
ألّف كتاب (الأديان في كفة الميزان) يقول فيه : "لقد كان قصدي من البحث في الإسلام استخراج العيوب التي أوحى إلي بها أساتذتي ، لكن وجدت أن ما زعموه في الإسلام عيوباً هو في الحقيقة مزايا ! فأخذ الإسلام بلبي ، فانقدت إليه ، وآمنت به عن تفكّر ودراسة وتمحيص ، وبها كلها رجحت كفة الإسلام ، وشالت كفة سواه"(8)..
* * *(6/55)
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"
تابع .. هكذا أسلمنا - (3)
----------------------------------
(1) قرآن كريم (59/21) .
(2) (القبس) الكويتية) العدد 1540 .
(3) البيتان للمؤلف من ديوان (عطر السماء - حداء للبنين والبنات ) .
(4) قرآن كريم (47/24) .
(5) (لمَ أسلم هؤلاء الأجانب) محمد عثمان (1 / 147) .
(6) (عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام) محمد طماشي (94) .
(7) (محمد في الكتاب المقدس) عبد الأحد داود ص (162) .
(8) عن ( الإسلام) الدكتور أحمد شلبي ص (288)
===============
الجزية في الإسلام
د. منقذ بن محمود السقار
تمهيد
استشكل البعض ما جاء في القرآن من دعوة لأخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (1) ، ورأوا - خطأً - في هذا الأمر القرآني صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعوية الأمة المسلمة.
ولا ريب أن القائل قد ذهل عن الكثير من التميز الذي كفل به الإسلام حقوق أهل الجزية، فقد ظنه كسائر ما أثر عن الحضارات السابقة واللاحقة له، فالإسلام في هذا الباب وغيره فريد عما شاع بين البشر من ظلم واضطهاد أهل الجزية، كما سيتبين لنا من خلال البحث العلمي المتجرد النزيه.
أولاً : الجزية في اللغة
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". (2)
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، فالتاريخ البشري أكبر شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار " (متى 17/24-25).
والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها "فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة.قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).
ثالثاً : الجزية في الإسلام
لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زللهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(4)
وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(5) أي ناهز الاحتلام.
ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.
فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))(6)، والمعافري: الثياب.
وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.(7)
1- التحذير من ظلم أهل الذمة
يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(8) ، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله : (( البر حسن الخلق ))(9) .(6/56)
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (10)، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )). (11)
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (12)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (13)
2- بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم .
وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم ، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية، ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تأمل الضمانات التي يضمنها المسلمون وما يدفعه أهل الجزية في مقابلها.
ونبدأ بما نقله المؤرخون عن معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجزية، ونستفتح بما أورده ابن سعد في طبقاته من كتاب النبي لربيعة الحضرمي، إذ يقول: " وكتب رسول الله e لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه، أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشِراجهم (السواقي) بحضرموت ، وكل مال لآل ذي مرحب ، وإن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسدره وقبضه من رهنه الذي هو فيه ، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأل أحد عنه ، وأن الله ورسوله براء منه ، وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور ، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس ، وأن الله جار على ذلك ، وكتب معاوية" (14)
وقوله: (( وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين )) فيه لفتة هامة، وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لمن دخل في حماهم ، وأصبح في ذمتهم ، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول القرافي: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". (15)
كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ذمة وعهد إلى أهل نجران النصارى، ينقله إلينا ابن سعد في طبقاته، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا كاهن عن كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين ، وكتب المغيرة". (16)
وانساح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبقون ما تعلموه من نبيهم العظيم، ويلتزمون لأهل الجزية بمثل الإسلام وخصائصه الحضارية، وقد أورد المؤرخون عدداً مما ضمنوه لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم ، ولا يُسَكَّن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ...ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة". (17) ، وبمثله كتب عمر لأهل اللد.(18)
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها مثله، "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية". (19)
ويسجل عبادة بن الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط ، فيقول: "إما أجبتم إلى الإسلام .. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...". (20)
ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه "نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم" .
3- حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة ، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة " قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا:ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة". (21)
ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". (22)(6/57)
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ". (23)
وكتب علي رضي الله عنه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك". (24)
وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً.(25)
ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكى إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.(26)
4- من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
ونلحظ فيما سبق الإسلام لحراسة حقوق أهل الذمة في إقامة شعائر دينهم وكنائسهم ، جاء في قوانين الأحكام الشرعية : "المسألة الثانية: فيما يجب لهم علينا، وهو التزام إقرارهم في بلادنا إلا جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن، وأن نكف عنهم، ونعصمهم بالضمان في أنفسهم وأموالهم، ولا نتعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها". (27)
وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".(28)
وتصون الشريعة نفس الذمي وماله ، وتحكم له بالقصاص من قاتله ، فقد أُخذ رجل من المسلمين على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه واختار الدية بدلا عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديّتنا". (29)
وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتحوطه بقطع اليد الممتدة إليه، ولو كانت يد مسلم، يقول المفسر القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". (30)
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". (31)
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". (32)
وتوالى تأكيد الفقهاء المسلمين على ذلك، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفع من قصدهم بأذى". (33)
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك أسر الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" ، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. (34)
وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (35)
5- صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج ، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". (36)
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك)). (37)
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام". (38)
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير.(39) وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه". (40)
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: "وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". (41)(6/58)
أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". (42)
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: "وأما صفة العقد (أي عقد الذمة) فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم". (43)
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
ولسائل أن يسأل : هل حقق المسلمون هذه المثُُل العظيمة ، هل وفوا ذمة نبيهم طوال تاريخهم المديد؟ وفي الإجابة عنه نسوق ثلاث شهادات لغربيين فاهوا بالحقيقة التي أثبتها تاريخنا العظيم.
يقول ولديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..." (44)
يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". (45)
ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" موضحاً الغرض من فرض الجزية ومبيناً على مَن فُرضت: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يردد بعض الباحثين - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".
وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.
هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------
(1) سورة التوبة : 29 .
(2) الجامع لأحكام القرآن (8/114)، المغرب في ترتيب المعرب (1/143)، وانظر مختار الصحاح (1/44).
(3) سورة التوبة : (29) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/72).
(5) انظره في إرواء الغليل ح (1255).
(6) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه ح (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509).
(7) مشكاة المصابيح ح (3970)، وصححه الألباني.
(8) الممتحنة ( 8 ).
(9) رواه مسلم برقم (2553) .
(10) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني ح (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).
(11) رواه البخاري ح (2295) .
(12) رواه مسلم ح (2613)
(13) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352).
(14) طبقات ابن سعد (1/266) .
(15) الفروق (3/14-15)
(16) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266) .
(17) تاريخ الطبري (4 / 449) .
(18) انظر: تاريخ الطبري (4/ 449).
(19) فتوح البلدان للبلاذري (128) .
(20) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (68) .
(21) تاريخ الطبري (2/503).
(22) المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).
(23) رواه البخاري برقم (1392) في (3/1356).
(24) الخراج (9).
(25) فتوح البلدان (156).
(26) فتوح البلدان (132).
(27) قوانين الأحكام الشرعية (176).
(28) اختلاف الفقهاء (233).
(29) مسند الشافعي (1/344).
(30) الجامع لأحكام القرآن (2/246).
(31) الأحكام السلطانية (143).
(32) انظر: مغني المحتاج (4/253).
(33) مطالب أولي النهى (2/602).
(34) مجموع الفتاوى (28/617-618).
(35) الفروق (3/14-15).
(36) الخراج (135) ، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري ، وفتوح الشام للأذري.
(37) وانظر فتوح البلدان (210- 211).
(38) الفروق (3/14).
(39) الأموال (1/163).
(40) تاريخ مدينة دمشق (1/178).
(41) الأموال (1/170).
(42) الجامع لأحكام القرآن 8/73-74.
(43) بدائع الصنائع (7/112).
(44) قصة الحضارة (12/131).
(45) الحضارة الإسلامية (1/96).
=============
لماذا تقدم الغرب ؟ ، ولماذا تأخرنا ؟ !!..
لماذا الغرب متقدم في العلوم الدنيوية، والصناعات، والقوة الحربية، والنظام؟..
ولماذا نحن المسلمون متأخرين في كل ذلك ؟!!!!!…
المسلمون كانوا أسبق من الغرب في التقدم، فحضارتهم العلمية سبقت بقرون عدة، أما الغرب فلم ينهض ويتقدم إلا منذ ثلاثة قرون، فما الذي كان ليتقدم المتخلف، ويتأخر المتقدم؟!!..
وفي الوقت الذي بدأ في الغرب بالنهوض، كانت الحضارة الإسلامية في خفوت، وبسرعة هائلة تقدموا، وبمثلها تأخرنا… فما السبب في ذلك؟!..
عاشت أوربا ظلاما قرونا متطاولة، اعتنقت خلالها النصرانية المحرفة ودانت بها شعوبها، ولما كان دينها محرفا لم ينفعها بشيء، فلم تفد منه في محو التخلف عن نفسها، بل زادها جهلا وظلاما، حيث منعت من التفكير إلا من خلال الكنيسة، وضمن الحدود التي ترسمها، وخضعت للقسس والبابوات خضوعا مطلقا، في نشاطها الفكري، فبقيت كما هي لم تتقدم خطوة إلى الأمام..
ثم طرأ عليها حدث مهم، كان نقطة تحول في تاريخ أوربا، وبداية لمرحلة جديدة، مختلفة كلية عن مراحلها السابقة، كان ذلك سقوط الإمبراطوية الرومانية في المشرق، تحديدا بلاد الشام، على يد الصحابة رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك توسع الفتح الإسلامي في بلاد الروم، حتى تم فتح القسطنطينية عاصمة الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، في القرن التاسع.
هذا التحدي الجديد الذي صار يهدد عروش الملوك والبابوات في أوربا كان حافزا لإعلان الجهاد المقدس ضد المسلمين، فبدأت الحروب الصليبية، و من خلال الحروب والفتوحات احتك نصارى أوربا بالمسلمين..
وقع الاحتكاك:
بين أمة لا تعرف الغلو ولا التبعية المطلقة، وتؤمن بأهمية العقل والتفكير الصحيح، وتنزل الإنسان منزلته اللائقة، فلا تهدر كرامته في بدنه أو عقله، باسم الدين، أو الخضوع للسيد أو الملك أو القسيس..
وبين أمة لا تعرف شيئا من ذلك، ولم تفكر يوما أن لها حقوقا، هضمت ومحيت من كتب القانون وشريعة البابوات..
كان ذلك الاحتكاك سببا مهما في استفاقة نصارى أوربا، وشعورهم بمهانة إنسانيتهم على يد الملوك والبابوات، فكانت تلك نقطة البداية لاشتعال نار التمرد على السيطرة الجائرة ضد عقل الإنسان..(6/59)
عمق هذا الفهم الجديد تتلمذ كثير من الأوربيين على يد علماء المسلمين، في جامعات الأندلس وصقلية والشام، في شتى العلوم الدنيوية، وإدراكهم مدى التحرر العقلي الذي ينعم به المسلمون في غير ما يضر.. بخلاف شعوب أوربا..
ولهذه العوامل بدأ العقل الأوربي مستحسنا طريقة عمل العقل الإسلامي، معجبا بتحرره من التبعية والخضوع الجبري بغير حق، والاستحسان والإعجاب باب التقليد والمحاكاة، وهذا ما كان:
فقد نشط العقل الأوربي في التفكير، خارج الحدود المرسومة له بأمر الكنيسة، فاصطدم بها، وناله العقاب الرادع، فقد قتلت الكنيسة وحرقت كل من يسول له عقله أن يفكر بأمر يخالف ما قررته فجعلته حقيقة لا تقبل الجدل، وكحال كل الثورات، فإن الثورة العقلية أخضعت وقطعت في أول أمرها، لكنها في نهاية الأمر انتصرت، فسقطت أمامها كل عائق كان يعوقها، سقطت عروش البابوات والملوك، وسقط معها الدين النصراني المحرف، فانطلق العقل الأوربي، متحررا، بلا قيود..
إذن، لم يتقدم الغرب إلا بعد أن نجح في التخلص من معوق الفكر (= الكنيسة)، وكان احتكاكهم بالمسلمين دافعا لمثل هذه الثورة، تعلموا فيه إنسانية الإنسان، وزرع فيهم الأمل لاسترداد تلك الإنسانية، التي فقدوها مع حكم الإقطاع والكنيسة.
وعقلاء الغرب ومفكروه يشهدون بفضل المسلمين على أوربا في النهضة الحديثة، تقول الألمانية "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب":
"إن هذا الكتاب يرغب أن يفي العرب دينا استحق منذ زمن بعيد".. ص14
وإذا كان من أهم أسباب تقدم الغرب هو التخلص من الدين المحرف وإزاحته من طريق التفكير، فإنه على العكس من ذلك، قد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين هو ضعفهم في أخذهم دينهم بقوة، كما أمر الله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}..
فقد تراخت قبضتهم على الدين، فكثر فيهم البدع، والخرافات، والتواكل والتقصير وترك العمل، والحرص على الدنيا..
إن الدين المنزل الحق المحفوظ من التبديل لا يمكن أن يعوق البشرية عن مصالحها، من تفكير صحيح، وإنتاج مفيد، إنما الذي يعوق الدين المحرف، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية، في هذه القضية..
لما كان المسلمون يقبضون على دينهم تقدموا، فلما تركوه تخلفوا، ولما كان النصارى يتبعون دينا محرفا تخلفوا، فلما تركوه تقدموا..
واليوم المسلمون في رجوع إلى نقاء الدين وصفائه، لكنهم يجدون عوائق جمة أمام استرداد الأمجاد ومنافسة حضارة الغرب، فهم وإن طبقوا الإسلام على وجه مقبول إلى حد ما، إلا أنهم لم يستطيعوا التخلص من سلبيات لصقت بهم، وللغرب دور في ذلك، فحالهم كحال الجاني التائب المسجون، لايجد طريقا للخروج، ليستعيد نشاطه ويصلح ما مضى، فحبسه مؤبد..
الغرب القوة الأولى في الأرض اليوم حكم على الأمة الإسلامية بالسجن المؤبد في التخلف والتبعية المطلقة في كل شيء، فهو يخطط لقمع كل حركة استرداد لتراث الأمة وحضارتها، ويئد كل عمل للارتقاء والتقدم، ويستعمل لأجل ذلك وسائل كثيرة..
فمن أساسيات مراكز القرار في الغرب اليوم، العمل على ضمان تفوق الغرب الدائم المطلق، في كل الميادين الحيوية، مهما كلف ذلك من ثمن، ولو كان الثمن الإفساد والإفقار، بل ولو كان الثمن إزهاق الأرواح وسفك الدماء بغير حق، يستوي في ذلك الأطفال والشيوخ والنساء والضعفاء.
نعم إن المسلمين يتحملون جزءا كبيرا من سبب التخلف، لكن ذلك لا يعفي الغرب من التهمة، فالكل يشهد، في كل بلاد الإسلام، ما يخطط له الغرب، بكل عناية وحرص، لتبقى هذه البلدان متخلفة:
بدأ ذلك منذ سقوط دولة الإسلام، وتمزقها على يد الغرب إلى دويلات، لها حدود وجارات، بعضها غنية، وبعضها فقيرة، فأما الفقيرة فزادوها فقرا، وأما الغنية فخططوا لإفقارها، تسعى في سداد ديونها الربوية المتراكبة، وتلك الحدود خلقت جوا من الاضطراب والقلق الدائم بين الجارات، فبين كل دولة ودولة مناطق متنازع عليها، هي فتيل حرب في أية لحظة، بالإضافة إلى تصدير الفساد الأخلاقي وترويجه وجبر الناس عليه والاضطلاع بمهمة تحرير المرأة.
فالفتن تحيط بدول الإسلام من داخلها وخارجها، فقد زرع الغرب في دول الإسلام من يحمل الولاء الكامل له، وليس فيه أدنى ولاء لبلده وأهله، فهو وطني في الظاهر، لكنه مستغرب، من بني الجلدة، لكنه غربي الهوى، ليس له قصد إلا إلحاق الأمة بالغرب، ولو كان في ذلك تحطيمها في قوتها واقتصادها وأخلاقها.. فهذه الفئة تسعى دائما لإضعاف الأمة، وضمان تفوق الغرب.
وقد أنشأ الغرب منظمات دولية:
- كهيئة الأمم المتحدة ولجانها..
- وصندوق النقد الدولي.
- والبنك الدولي.
- ومنظمة التجارة العالمية.
لتكون أداة لضمان تفوقه على كافة شعوب الأرض..!!!!!.....
فهي تستخدم للتدخل في سياسات الدول، واقتصادياتها، تفتعل الأزمات السياسية والاقتصادية، ثم تتدخل هذه الهيئات في صورة الناصح المشير والمنقذ، وليس لها قصد إلا تعميق المشكلة، فهي تقرض مثلا دولة فقيرة، لكن بشروط وزيادات ربوية تعمق المشكلة وتزيد الدولة فقرا إلى فقرها، كل يوم، فالزيادات الربوية لا تقف عند حد، وهكذا تصبح هذه الدول المقترضة في الدين إلى الأبد، وذلك يستنزف الناتج القومي.
وفي مثل هذه الأحوال العصيبة، والمشاكل التي لا تنتهي، تفتقر بلاد الإسلام إلى أهم أسباب التقدم، من استقرار وأمن ورخاء، ويكون بدلا عنها الاضطراب وقلق الحرب والفقر..
كما ينصرف جهدها في الحفاظ على القيم، ودفع أولئك المستغربين من بني الجلدة، الذين يشغلون الأمة كل يوم بما لا يعود عليها بالنفع، بل بالضرر، الذين لا هم إلا الكلام عن المرأة وحقوقها المزعومة، ودعواهم وفريتهم العريضة أنها مظلومة، يحكمون على الأمة أن تعيش حالة حرب مع الأخلاق الوافدة الفاسدة الدخيلة على المجتمع، تستنزف جهدها وطاقتها في ذلك..
فهؤلاء الأعداء من الداخل ومن الخارج هم من أكبر أسباب تخلف الأمة، والعدو الخارجي هو الأكبر، وإنما الذي في الداخل تبع له، ولولاه ما وجد.
إن الإنسان هو الإنسان في كل مكان في الأرض، فالإنسان الشرقي ليس أقل من نظيره الغربي، من حيث ملكة التفكير والعقل...
فكل ما في الأمر أن الغرب من سياسته تبني العقول الذكية، بفتح المجال لها لتبدع وتنتج، على العكس من سياسة الشرق، خاصة بلاد الإسلام، إلا ما ندر، الغارق في مشاكله الخاصة، الذي لا يفكر في تبني العقول الموهوبة، مما يدفع بكثير منها إلى الهجرة إلى حيث الاحتضان والرعاية العلمية (= الغرب)، وليس من العسير أن نبحث عن أعداد ليست بالقليلة من العلماء العباقرة من المسلمين يديرون مراكز علمية غربية، طبية وفلكية وصناعية، وغير ذلك..
نعم هناك محاولات جادة من بعض الدول الإسلامية، مثل دولة ماليزيا، للتقدم، وقد قطعت شوطا مهما في هذا المجال، فتحررت من هيمنة الغرب، إلى حد ما، واستفادت من الطاقات في الداخل، فبدأت عملية التطوير تؤتي ثمارها، فذلك يعلمنا أن التقدم الإسلامي غير محال، وأن التحرر من الهيمنة الغربية ممكنة، بشرط:
صدق العزيمة، والقوة في العمل، والتميز في الأداء، حتى تكون الصبغة إسلامية، والتخلص من المصالح الشخصية، والتخلص كذلك من الفئات الفارغة التي تشغل الأمة ولا تفيدها بشيء.
ولا يعني ذلك أن الغرب سيسكت، بل سيمارس كل ما يضمن له التفوق، لذا على المسلمين الاستعداد للرد على كل وسيلة يتخذها، فعليهم إذن حسن التخطيط للتقدم، كما أن عليهم حسن التخطيط لصد كل ما يتخذه الغرب لعزلهم عن المقدمة..(6/60)
أبو سارة
=============
معايير النصر
الشيخ الدكتور محمد موسى الشريف
لقد جرى ما جرى في العراق، وضاقت صدور قوم مؤمنين، وامتلأت قلوبهم غيظًا وحنقًا، ليس بسبب ما جرى لصدام وحزبه، ولكن لأسباب أخرى، منها:
1- انهيار الوضع فجأة بحيث تمكن المعتدون من العاصمة دون مقاومة تُذكَر، ولا نكاية كانت متوقعة فيهم، وهذا بسبب التعبئة الكبيرة الكاذبة التي قام بها النظام، وما كانوا يدَّعونه من أن بغداد ستكون مقبرة للغزاة، وتعاطفت الشعوب الإسلامية تعاطفًا كبيرًا جدًّا مع هذا الطرح، وبنت عليه الآمال العظام، ثم فوجئوا بما جرى مما لم يكن في حسبانهم أبدًا، وهذا أورث كثيرًا من الناس إحباطًا كبيرًا ويأسًا عظيمًا، وانهارت آمال كثير من الشباب المتحمس المتوقد والفتيان المتوثبين.
2- تمكُّن المعتدين من البلاد العزيزة على قلوبنا، ومن مهد الحضارة الإسلامية، وبدء تهديدهم لسورية وإيران، وغيرهما من بلاد الإسلام، وفي ذلك خوف كبير على هذه البلاد العزيزة الغالية.
3- أثر هذه الأحداث العالمية في ترسيخ الطغيان الأمريكي- الصهيوني، وما تطبعه في أذهان الناس من سيطرة هؤلاء على مقاليد الأمور، وما تضخمه في قلوبهم وعقولهم من هذه القوة والغاشمة، وكل مردود ذلك سلبيا جدًّا.
4- اجتراء القوى الأخرى على المسلمين، وخاصة إخوان القردة والخنازير، على إخواننا في فلسطين، واجتراء الهنادكة عُبَّاد البقر على إخواننا في كشمير، والصليبيين الفلبينيين على إخواننا هنالك.
بسبب ذلك كله تمتلئ قلوب المؤمنين بالغيظ والحنق وتضييق صدورهم مما جرى في العراق مما يتصورنه هزيمة منكرة.
هل ما حدث هزيمة ؟
والسؤال المهم:
هل ما حدث في العراق هزيمة؟
والجواب عليه يظهر في ضوء التالي:
أ - إن المعركة لم تنتهِ بعد، وإن هؤلاء قد أعماهم الغرور، فاستعجلوا إعلان النصر، وأتصور أن المعركة ستبدأ من جديد على شكل حرب عصابات، لكنها عصابات مؤمنة مطهرة، تذيقهم شيئًا من الألم والنكال، والله أعلم.
ب - يفهم أكثر الناس في العالم الإسلام اليوم أن تلك المعركة هي مقدمة لمعارك أخرى، وهذا الشعور يغذي مشاعر المؤمنين بالكراهية لأولئك المعتدين المحتلين، ويعبئ الجماهير من المسلمين استعدادًا للمعركة القادمة، وارتفاع الروح المعنوية على هذا الوجه يُعَد جزءًا من النصر القادم إن شاء الله تعالى.
ج- إن ما حدث من أعمال السلب والنهب والثأر في العراق، لهو من فعل الغوغاء العوام الطغام الذين لا قيمة لهم، فليس لأفعال هؤلاء المخالفة للشرع اعتبار في موازين النصر أو الهزيمة، ولا ينبغي أن يحزن المؤمن أو ينكسر أو ييأس، عندما يتناهى إلى سمعه مثل هذه الأمور، فهي في السنن الربانية أمر طبيعي.
د- كل ما حدث في العراق ويحدث في فلسطين والشيشان وكشمير والفلبين، إنما هو في سياق واحد عندنا معشر المسلمين، ألا وهو سياق البلاء والفتنة والتمحيص، ويدخل في قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، وقوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)، وقوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)، وقوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، وقوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، وقوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم).
فكل ما أصابنا ويصيبنا وما سوف يصيبنا، نفهمه على هذا الوجه ، فليست المسألة مسألة هزيمة، بل هي تمحيص وابتلاء قبل النصر الأعظم.
هـ- ثم لا ننسى أن أولئك الغزاة يُعذَّبون أيضًا، وننال منهم مقتلة، ونصيبهم بأذى في نفوسهم وأموالهم ونفسياتهم، ونفهم كل ذلك أيضًا في ضوء قوله تعالى: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).
وإن من أبرد ما يصيب أكبادنا من الأخبار قوله تعالى: (وترجون من الله ما لا يرجون)، فنحن نرجو الجنة وهم مأواهم النار، ولسنا سواء. ونفهم ما يجري أيضًا في ضوء قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون)، الله أكبر ما أحسن هذا! وما أعظمه! وما أحسن دلالته على موازين المعركة اليوم.
و- أخيرًا، العبرة في النصر بالخواتيم، وهذه كلها جولات قد ينتصر فيها الباطل حينًا، لكنه حتمًا في النهاية مهزوم، يقول تعالى: (وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين) ويقول سبحانه: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، ويقول تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، ويقول تعالى: (والعاقبة للمتقين)، ويقول جل من قائل: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ويقول سبحانه: (إنه لا يفلح المجرمون).
وقد بشرنا رسولنا الأعظم بالنصر عليهم في نهاية المطاف: (لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، ورائي يهودي تعالَ فاقتله)، وبشرنا صلى الله عليه وسلم بفتح روما، وبشرنا ببشائر كثيرة من نزول عيسى صلى الله عليه وسلم، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، وكل ذلك نصر واضح لا ريب فيه، ونقول لهؤلاء المنتفشين بنصرهم الوقتي المشكوك فيه: ( فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون)، والله أكبر ولله الحمد.
============
قراءةٌ نقديةٌ لبحث سعود السرحان:
«الحكمة المصلوبة : مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»
1428
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
بسم الله الرحمن الرحيم
قَبْل البَدْء:
إضاءةٌ لمدخلٍ آخَر
«علم الاستغراب ليس حديثاً؛ لأن علاقتنا بالغرب أيضاً ليست فقط وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها منذ نشأة الأنا الحضارية المتمثل للتراث الإسلامي عبر أربعة عشر قرناً أو يزيد. ففي علاقتنا باليونان كما فعل القدماء تمتد جذور علم الاستغراب. اليونان جزءٌ من الغرب، جغرافياً، وتاريخياً، وحضارياً، وإلى اليونان والرومان تَمتدّ مصادر الوعي الأوربيّ»[1].
هل لي أن أذهبَ ـ من خلال هذا النص لحسن حنفي ـ إلى أنّ افتتانَ بعضِ مثقفينا بالمثال الغربيِّ ليس وليدَ هذا العصر الحاضر، وأنَّ متقدمي الفلاسفة في تاريخنا الثقافي إنما كانوا يمهِّدون لهذا الشعور بالنقص الحضاريِّ الذي نحياه؛ حين فُتنوا بالمثال الغربي في أسمى صُوَره الثقافية آنذاك: «الفلسفة اليونانية»؟
وهل كان حسن حنفي يعلم وهو يكتب «مقدمته في علم الاستغراب» أنه ـ وإن لم يقصد إلى ذلك ـ سينير لأحد الباحثين رؤيةً جديدةً لتراث ابن تيميّة قَلَّ أن تنبَّه لها دارسوه؟
«لماذا تُعَدُّ أبحاث وكتاباتُ ابن تيمية حول الفلسفة اليونانية عامةً، والمنطق الأرسطي خاصةً، جذوراً أو إرهاصاتٍ لعلم الاستغراب؟
ابتداءً أُقرّر أن قراءتي لكتاب «مقدمة في علم الاستغراب» للدكتور حسن حنفي منذ أربع سنوات؛ أوحت إليَّ بفكرة إعداد دراسة خاصة عن «الرد على المنطقيين» للإمام ابن تيمية وربطه بعلم الاستغراب.
فجذور هذا العلم ترجع ـ في نموذجه القديم ـ إلى علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية، عندما كانت الحضارة الإسلامية ذاتاً دارساً، استطاعت أن تحوِّل الحضارة اليونانية إلى موضوع(6/61)
دراسة .. فإذا أضفنا إلى ذلك الأهدافَ التي توخّاها ابن تيمية والتي يسعى إليها علم الاستغراب المعاصر ـ عند بنائه واكتماله ـ نجد الاتفاق إن لم يكن المطابقة.
فأهداف علم الاستغراب؛ السيطرةُ على الوعي الأوربي، التقليلُ من إرهابه، وأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر.
أما ابن تيمية فإنه نموذج من نماذج الفكر الإسلامي، الذي استطاع تمثُّل الحضارات السابقة دون أن يفقد هويته؛ ثم قام بنقدها.
وإذا كنا نعترف أنه طالما أن الغرب قابعٌ في قلوب الكثير منا كمصدرٍ للمعرفة، وكإطارٍ مرجعيٍّ يحالُ إليه كلُّ شيءٍ للفهم والتقييم؛ فسنظلُّ قاصرين وفي حاجة دوماً إلى أوصياء.
نقول قبل ذلك ومعه: إن ابن تيمية كان يهدف إلى إزاحة الرهبة من الآخر وكشفه وتحجيمه، والتصدي لأي وصاية فكرية تصدر منه.
لقد أراد ابن تيمية للإنسان المسلم أن يفكر بعقله ولا يدع أفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين يفكرون له.» [2].
.. قرأتُ ما كتبه سعود السرحان في بحثه «الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة»، ومع أني تهيَّبتُ أوَّلَ أمري ولوجَ «مدخل مظلم» عُلِّقتْ على بابه «حكمة مصلوبة» تقطر دماً! إلا أني اتخذتُ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق.. ودخلتُ.
تكمُنُ مشكلة بعض زملائنا الذين تسرّبوا من مدرستنا السلفية في تَوَهُّمه أنه حين يكتب شيئاً ثقافياً؛ إنما يؤسس لمرحلة مهمة من تاريخ حياتنا الثقافية، وتظلُّ تُداعب خيالَه أسماءُ: الطهطاوي، والأفغاني، وقاسم أمين، ومحمد عبده، وعلي عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين... فيلقي في «شيئه الثقافي» هذا بعض الكلمات؛ عسى أن يهتدي إليها دارسو تراثه في المهرجان الذي سيقام بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لولادته!
وذلك كقول صاحبنا في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه عرضاً لموقف ابن تيمية من الفلسفة إلى توضيح آثار هذا الموقف على الواقع العلمي والثقافي في السعودية»، وقوله: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات، التي سيكون لها الأثر الكبير ليس على الفكر السلفي فقط، بل وعلى الفكر الإسلامي بصورة عامة». [3]
هنا أسئلةٌ تتردد في ذهني كثيراً حين أرى بعض من فشلوا في مشروعهم السلفيِّ يعودون فيشغبون على مدرستنا:
ما بالهم لا يذهبون إلى المدارس المجاورة فيقذفون نوافذهم بالحجارة كما يفعلون معنا؟
أهي نظرية الثَّأْر التي تملكُ على الإنسان عقلَه فتُحيلَه إلى مَوْتورٍ يحمل سلاحه ويمشي يترنَّحُ به في الطرقات على غير هدى؟
أشعورٌ بالنقص ينتاب هذه الأنفس كحال كلِّ من عَجَزَ عن تحقيق كمالٍ كان ينشُدُه؛ يحملها على أن تعْمَدَ في تفكيرها إلى شيءٍ من الشذوذ، حتى يكون لها نوعٌ من خصوصية الذات وتفرُّدها؟
أم هي نشوة المعرفة المُتوهَّمة تمشَّتْ في عقول هؤلاء؛ فأرادوا للطُّهْر أن يشاركهم اللذة الأثيمة، بكأس المخرج الإباحي فاديم، على ألحان اغتراب الوجودي كافكا، لنشيد نيرودا الذي ترنَّم به قيفارا مع الرِّفاق في أحراش بوليفيا؟
ستة محاور رئيسة في هذا البحث أَودُّ أن أقرأها مع صاحبنا، ثم أعرض بَعْدُ لشيءٍ من مثل ما نحن بسبيله. [4]
المحور الأول: النظرةُ التقليديَّةُ الجامدة التي تعامل بها السلفيُّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة.
المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة.
المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.
المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية».
المحور الخامس: مآخذُ أخَذها الباحثُ على ابن تيمية.
المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق.
المحور الأول: النظرةُ التقليديَّة الجامدة التي تعامل بها السلفيّون مع تراث ابن تيمية في الفلسفة:
يريد صاحبنا أن يثبت أن ابن تيمية الذي تحسبه السلفية أربحَ ورقةٍ لها في التراث العقليّ عامة، [5] وفي الرد على الفلسفة التي لا تفهمها على وجه الخصوص؛ هذا الذي تحسبه كذلك؛ ليس كذلك.. فما هو إلا فقيه حنبلي احتاج في بعض ردوده إلى دراسة الفلسفة فدرسها على كِبَر، ملفِّقاً تارة، ونفعياً تارة أخرى، ثم إننا خُدعنا بقوله فصدقناه، لأن نظرتنا التقليدية وجمودنا الفكري حالا دون رؤية هذه الحقيقة.
قال ص1: «فقد ظلت نظرة ابن تيمية الحراني.. إلى كثير من المسائل، والفلسفة واحدة منها، هي الحَكَمُ عند السلفيين على شتى توجهاتهم، ولم تتعرض مواقف ابن تيمية للدراسة والتمحيص، بل بقيت أسيرة التقليد من الأتباع».
وكان من آثار هذه الرَّزِيَّة التي بُليتْ بها السلفيةُ الجامدةُ أنه: «توجد في السعودية قرابة عشر جامعات وعشرات الكليات لا تحوي بين جنباتها قسماً واحداً لدراسة الفلسفة، واعتماداً على نظرة ابن تيمية إلى الفلسفة التي تراها كفراً وضلالاً لم تتجرأ أي جامعة سعودية على فتح قسم للفلسفة.. وإن مرَّ ذكر الفلسفة عَرَضاً فينبغي وصفها بالكفر والضلال، والتأكيد على أن طريق العقل هو طريق الهلاك».
ما ذكره هنا قولٌ مكرور، كان ردَّده عبدالمتعال الصعيدي قديماً؛ قال: «كان لابن تيمية مدرسة بعده جارته في تلك النواحي من الجمود، فعادتْ علوم الفلسفة كما عاداها، ولم تهتم بغير الفقه والتفسير والحديث وما إليها من العلوم، وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده .. على أن طابع الدعوة الوهابية كان متأثراً بطابع دعوة ابن تيمية، وقد كانت دعوة ابن تيمية تنافر أو تهمل الفلسفة وعلومها، وكان هذا نقصاً كبيراً فيها، وهو في الدعوة الوهابية أشدّ ضرراً .. »[6].
أعلم من قراءتي هذا البحث أن كاتبه يظن أن حجم الإبداع يقاس بمُطلق الجرأة على الثوابت، وليس بالقيمة الفكرية التي تحملها هذه الجرأة، لذا لن أنزلق معه في مهوىً خطابيٍّ يضادُّ هذه الخطابية التي أنشأها، وهو الذي يزعم أنه يؤسس لمرحلة عقلية مهمة في تاريخ حياتنا الثقافية.
وسأُورد شيئاً من أقوال بعض دارسي الفلسفة في القيمة الفكرية لتراث ابن تيمية الفلسفي، [7] وهؤلاء ممن لا ينتمون للسلفية التقليدية المغرَّرة، بل إن بعضهم قد وجَّه لابن تيمية في هذه الكتب المنقول عنها ما لا يرضاه أتباع مدرسته بحالٍ من الأحوال.
1- مصطفى عبدالرازق: «نَظَر ابن تيمية في الكلام والتصوف والفلسفة نظراً عميقاً: فكتبه تدل على سعة اطلاع على المذاهب الفلسفية وتاريخها؛ وحسن تصويره لما يَعرِض للرّد عليه من مذاهب الفلسفة ينبئ عن علم وفهم.. إنا نرجو أن تتوجه همم المشتغلين بالفلسفة وعلوم الكلام والتصوف إلى درس آراء ابن تيمية في الفلسفة والكلام والتصوف.
وهذه الدراسة نافعة في توضيح آراء كلامية وصوفية وفلسفية، كشف ابن تيمية غموضها بفكره النفاذ، وردها إلى أصولها وأحسن بيانها بقوله الواضح المبسوط.
ولابن تيمية في ثنايا ردّه على الفلاسفة والمتكلمين والصوفية نظرات فلسفية طريفة قد تفتح لدراساتنا الفلسفية الناشئة آفاقاً جديدة». [8](6/62)
2- أبويعرب المرزوقي: «وإذن فتاريخ الفلسفة العربية والكلام العربي هو تاريخ محاولات التخلص هذه من الأفلاطونية المحدثة والتوراتية المحدثة.. سعياً إلى الملائمة بين ما بعد العلم، وما بعد العمل المطلقين، والعلم والعمل النسبيين، وإدراك هذا الانفجار وعدم الملائمة التي أبرزناها هما اللذان انطلق منهما ابن تيمية في ردوده على الفلسفة والتصوف والكلام، لوضع نظرية العلم الاسمي، وهي التي انطلق منها ابن خلدون كذلك لوضع نظرية العمل الاسمي». [9]
3- محمد جلال شرف: «هذا مظهرٌ آخر من مظاهر النقد الفلسفي للمشائية الإسلامية بعد ابن سينا، يتجلى بوضوح في شخصية ابن تيمية المتكلم السلفي، وكان من الممكن أن نتخذ منه نموذجاً فريداً لهذا النقد نستغني به عن كل ما سلف، فلم يترك فكرة أو شخصية إلا وتعرض لها بالتحليل والفحص على أساس من العقل والنقل.
ويرجع الفضل في ذلك كله إلى ظهوره في عصر متأخر بعد أن نضج الفكر الإسلامي واتخذ طريقاً واضحاً، مما أعان ابن تيمية على الاطلاع الكامل لهذا التراث الفلسفي، فكان يستعين بالمتكلمين على الفلسفة والعكس صحيح». [10]
4- عبد الحكيم أجهر: «إن رؤيته للعالم تتمتع بتماسك ذاتي كافٍ يقوم على أسس فلسفية ومنطقية واضحة وصلبة.. ابن تيمية صعب ثانياً: بسبب تعرضه لقضايا فلسفية عويصة تعكس معرفة هذا الرجل بالتراث الفلسفي السابق عليه، والذي أتى على الأغلب من مصادر عربية إسلامية، والأمر هنا لا يقتصر على مناقشته تلك القضايا فحسب، بل في تبنّيه هو لقضايا فلسفية معقدة يريد تأسيسها وتقديمها كبديل عن الخطابات العقلانية السابقة عليه». [11]
5- عبد الفتاح أحمد فؤاد: «كان الشيخ خبيراً بمذهب فلاسفة اليونان القدماء، فضلاً عن معرفته الواسعة بآراء فلاسفة الإسلام، ولا يتضح ذلك فقط عندما يكون بصدد عرض الخطوط العريضة لمذاهب الفلاسفة، وإنما يتضح أيضاً عندما يورد التعريفات الدقيقة للمعاني الفلسفية كتعريف أرسطو للمكان على سبيل المثال.. وها نحن نجدّد الدعوة إلى إنشاء كرسي للإمام ابن تيمية في بعض أقسام الفلسفة في جامعاتنا»! [12]
لو ذهبت أتتبع مثل هذه الأقوال لجاء من ذلك كتيّب لا بأس به.
أريد أن أصل؛ إلى أنه إذا كنا نحنُ دراويشَ السلفية - وفينا عبد الصمد شرف الدين، ومحمد رشاد سالم، ومحمد خليل هراس - قد أُصبنا بما أصبنا به، فكيف جاز أن يُخدع هؤلاء بالقيمة الفكرية لتراث ابن تيمية في الفلسفة؛ ثم لا ينكشف أمره إلا لصاحب هذا العقل الفَرْد؟
المحور الثاني: تأخُّر دراسة ابن تيمية للفلسفة:
قال ص10: «نشأ ابن تيمية نشأة علمية حنبلية سلفية، فقد اعتنى بسماع الحديث، وبدروس التفسير والفقه، ولم نجد له أي دراسة أو اعتناء بكتب الفلسفة والمنطق، إلا أن دخوله في صراعات كثيرة مع المتكلمين، والشيعة لاسيما الباطنية منهم، وغلاة الصوفية؛ قاده إلى البحث عن جذور مقالاتهم عند الفلاسفة، والتفتيش عن عضد «عقلي» يستعين به على إثبات العقائد «السلفية».
سأحاول أنا تلميذ السلفية استعمال العقل هذه المرة؛ لأثبت من نصوص صاحبنا - ومن غيرها - أن ابن تيمية عرف الفلسفة مبكراً، مبكراً جداً.
1- إنما درس ابن تيمية الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً يستعين به على إثبات العقائد السلفية.. ماذا لو علمنا أن ابن تيمية قد ألّف مصنفاً قديماً يردّ به على المتكلم الرازي وهو دون الثلاثين من عمره؟ فما دام أنه درس الفلسفة لتكون له عضداً عقلياً.. فيكون قد درسها في العشرينات من عمره لا ريب.
قال ابن تيمية: «وقد بسطنا الكلام على ما زعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية، مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي بالسمعي، وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة». [13]
قال محمود الكردي: «يذكر ابن تيمية في كتابه «درء تعارض العقل والنقل» أنه صنف مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة.. فإذا كان الدكتور محمد رشاد سالم يرجح أن يكون كتاب «درء تعارض العقل والنقل» قد كتب بين سنتي (713-717).. معنى ذلك أنه يمكن أن نفترض أن كتابه الأول وضع وعمره عشرون سنة». [14]
قال ص10: «لو حاولنا تحديد هذا التاريخ بدقة؛ فإننا قد نجد أنه كان بعد سنة 710، واستمر هذا الاعتناء إلى وفاة ابن تيمية في السجن. ومما يدل على صحة هذا الرأي أن أهم كتب ابن تيمية التي حوت مناقشاته للفلاسفة، أو إيراده لأقوالهم، كتبت بعد سنة 710 تقريبا، مثل: «درء تعارض العقل والنقل».. ».
2- كيف يكون اعتناء ابن تيمية بكتب الفلسفة بعد سنة (710)، والدليل على صحة ذلك أن أهم كتبه التي حوت مناقشاته للفلاسفة كتبت بعد سنة (710) تقريباً؟
أليس من «الفكر المنطقي» ونحن نحاول تحديد التاريخ بدقة أن يكون هذا التاريخ قبل سنة (710) وليس بعدها، ولاسيما أن صاحبنا قد نبّهنا إلى أن قدرات ابن تيمية العقلية ليست بتلك التي كنا نظن..
لا بد أنه احتاج إلى زمن قبل هذا التاريخ يفتّش فيه عن عضد عقلي يستعين به..
ص10: «وفي النصيحة الذهبية، المنسوبة للذهبي، نص يفيدنا كثيراً في هذا الأمر، إذ يقول الذهبي مخاطباً ابن تيمية: «فإلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن».
ويقول فيها: «أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل».
فهذا يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب، فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».
3- أ- «وفي النصيحة الذهبية المنسوبة للذهبي.. يقول الذهبي»؟ ألا يقال: «جاء في النصيحة المنسوبة للذهبي: فإلى كم»؟
ب- ها هنا عقلٌ يريد أن يمهِّد لدرس فلسفي: «سيكون له الأثر الكبير على الفكر الإسلامي بصورة عامة»، لكن استظهارات هذا العقل تكشف عما يُمنى به الإنسان حين لا يوفَّق في الموازنة بين طموحه وإمكاناته.. أيفهم صبيٌّ يتوسَّم فيه أهله النَّجابةَ من هذا النّص أنه: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟
ناصح يصرخ ويقول لابن تيمية: «إلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية» اتركها يا رجل فقد أفنيت عمرك فيها: «إلى كم»، «قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات» لكثرة ما قرأتها وتوافرت عليها، أما آن لك: و«أنت في عشر السبعين» وقد كَبَرت سنُّك فليس يليق بك أن تشتغل بالفلسفة في هذه السن إن كان يليق بك الاشتغال بها زمن الشباب.. أما آن لك أن تنزع عنها: «وقد قرب الرحيل».
أفهذا الصراخ الذي يوقظ العقول: «يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب»؟ أعانك الله على عقلك.(6/63)
4- ما في كلام ابن تيمية هنا يغنينا عن كلِّ ما كنا فيه، لولا ما بُلينا به من هذه الرُّعونة، قال ابن تيمية: «وقد كنت (في أوائل معرفتي بأقوال الفلاسفة بعد بلوغي بقريب) ، وعندي من الرَّغبة في طلب العلم، وتحقيق هذه الأمور، ما أوجب أني كنت أرى في منامي ابن سينا وأنا أناظره في هذا المقام، وأقول له: أنتم تزعمون أنكم عقلاء العالم وأذكياء الخلق، وتقولون مثل هذا الكلام الذي لا يقوله أضعف الناس عقلاً؟ وأورد عليه مثل هذا الكلام فأقول: العقل الأول إن كان واحداً من جميع الجهات فلا يصدر عنه إلا واحد، لا يصدر عنه عقل ونفس وفلك، وإن كان فيه كثرة، فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد، ولو قيل: تلك الكثرة هي أمور عدمية، فالأمور العدمية لا يصدر عنها وجود ..». [15]
المحور الثالث: اعتمادُ ابن تيمية على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان.
قال ص16: «وسبب هذه المعرفة المشوهة هو أن ابن تيمية لم يطلع على النصوص الأصلية للفلاسفة اليونانيين، سواءً بلغتهم (لعدم معرفته باليونانية) ولا على النصوص المترجمة لفلاسفة اليونان. وواضح أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان».
وصاحبُنا باحث؛ لكن عن حتفِه بِظَلْفِه، فهو يضرب نصوص كتابه بعضها ببعض فلا يدري من أين يؤتى:
قال ص3: «الموضوع كبير جداً ويحتاج إلى دراسات كثيرة معمقة وتفصيلية، تناقش مدى فهم ابن تيمية للمسائل الفلسفية التي تعرض لمناقشتها، وكذلك مدى دقته في عزوه للمسائل والأقوال إلى أصحابها، ودراسة أثر بعض كبار المفكرين من الفلاسفة والمتكلمين على ابن تيمية، كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وأبي البركات البغدادي، وشهاب الدين السهروردي، وابن رشد وغيرهم».
ص20: «وقد اعتمد ابن تيمية أيضاً على نقل ابن ملكا عن هذا الكتاب؛ حيث قال عن أرسطو: «وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه (ما بعد الطبيعة) وقد ذكره بألفاظه أبو البركات صاحب (المعتبر) وغيره».
ص28: «ابن ملكا: وهو أعظم الفلاسفة تأثيراً في ابن تيمية».
ص21: «أكثر ابن تيمية من النقل عن كتب ابن رشد، بل يكاد يكون نقلها كاملة في كتبه».
ص27: «ما الذي استفاده ابن تيمية من الفلسفة، وماالذي أخذه منها؟ هذا جانب مهم من جوانب ابن تيمية الفكرية؛ أغفله الدارسون، فلا نكاد نجد من دراسات في هذا الجانب إلا دراسة عبد المجيد الصغير « مواقف رشدية عند ابن تيمية»، وبعض الإشارات عند باحثين وعلماء آخرين، مثل الشيخ محمد زاهد الكوثري، [16] ود. محمد علي أبو ريان».
لو كان صاحبنا على شيءٍ من النباهة، والاطلاع على تاريخ الفلسفة الإسلامية؛ لما ذكر: « أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان»؛ ثم ذهب في هذه النصوص التي سقتُها عنه يثبت ـ في سذاجة ـ الأثر البالغ لأبي البركات هبة الله ابن ملكا وابن رشد في ابن تيمية.
أيّ خير لك في أن تثبت أثر هذين الفيلسوفين في ابن تيمية وتدعو إلى دراسة ذلك؛ وأنت تزعم أن معرفته بمقالات فلاسفة اليونان: «معرفة مشوهة»؟ ألا تعلم أن ابن ملكا وابن رشد هما الفيلسوفان اللذان خلَّصا التراث اليوناني من اشتباكه، وحرّرا النص الأرسطي كما لم يحرره أحد؟ فإثباتُ أثرهما في ابن تيمية والحديثُ عن شدَّة عنايته بمؤلفاتها؛ فيه أن ابن تيمية قد عرف مقالات فلاسفة اليونان - ولاسيما أرسطو - في أدق صُوَره وأجلاها؟
لو قد كددتُ ذهني وأجهدت خاطري لأُثبت دقّة اطلاع ابن تيمية على تراث فلاسفة اليونان؛ لما تيسّر لي بمثل ما أفادنيه صاحبنا من هذه الطريقة هنا، فاللهم كثِّر في الثالبي تراث ابن تيمية من أمثاله!
قال محمد علي أبوريان: «إن الاتجاه الأول في الفلسفة الإسلامية لم يكن مشائياً كما اعتقد جمهرة المؤرخين بصدد ما كان أفلاطونياً مستتراً تحت ستار أرسطي مزعوم، إذ أن لبّ نظرية الفيض إنما يرجع إلى أفلاطون الحقيقي، وكان لا بد من الكشف عن هذا التيار الأفلاطوني الكامن في بناء الفلسفة الإسلامية الأولى.
وقد تصدى لهذا العمل النقدي الكبير فيلسوف هو أبوالبركات البغدادي [ابن ملكا] الذي يعتبر (عمانويل كانت الفلسفة الإسلامية)، [17] إذ أنه كان على مفترق الطرق إلى ظهور مدرسة أفلاطونية واضحة المعالم تتعصب لأفلاطون وهي المدرسة الإشراقية، ومدرسة أرسطية يتزعمها ابن رشد». [18]
جاء النص المشائيُّ في بداية معرفة العرب بالفلسفة اليونانية متداخلاً مع غيره، يصعب فيه تبيّن أفلاطون من أرسطو، وأرسطو من أفلوطين، وبدا ذلك واضحاً عند الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين» أفلاطون وأرسطو، وهو يجمع بين أفلاطون ونفسه! وابن سينا وهو يشرح «أثولوجيا» أفلوطين ظاناً أنها لأرسطو، والغزالي الناقد للإنجاز الفلسفي دون النص المنطقي الذي تبع فيه ابن سينا، حتى قام ابن رشد بجِلاء النص الأرسطي المثقل بالشرح العربي، وحرّره من اشتباكه بعد أن اختلط فيه النص بالشرح، وأفلاطون بأرسطو، وأرسطو بالفارابي، وأفلاطون بأفلوطين، فتحددت ملامح أرسطو. [19]
كان ابن تيمية يعلم هذه المزية في كتب هذين الفَيلسوفيْن فأولاهما من العناية ما لم يوله غيرها، قال: «فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو، وهو أقرب إلى تحرير النَّقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد، وابنُ رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا، مع غلوّه في تعظيم أرسطو وشيعته». [20]
وقال: «بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضاً، كما ذكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد، وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها». [21]
وما ذكرته هنا ليس إلا دليلاً واحداً ـ في جملة أدلةٍ كثيرةٍ نواهض ـ تشهد على زُور ما ذهب إليه.
وهنا معنى مهمٌّ أودُّ أن أُنبه عليه: حاولتُ في قراءة بعض المحاور أن أُرتِّب الجواب على نصوص صاحبنا نفسه، فربمّا جاء الجواب ضيِّقاً، فلم تكن معرفة ابن تيمية بالفلسفة هو ما أفاده من طريق هذين الفيلسوفَيْن ثم ينتهي الأمر، فله من الاستدارك عليهما، والبصر بأقوال الفلاسفة، وتحقيق النقول عنهم، والعناية بموارد كلامهم.. ما يحارُ له قارئ تراثه. وعندنا من النصوص في ذلك خيرٌ كثير .. فإن عاد صاحبنا عدنا له!
لست أزعم أن ابن تيمية لم يتطرق إليه الخطأ في بعض كلامه على الفلسفة اليونانية وفلاسفتها، فهو كغيره من العلماء يصيبه ما يصيبهم، لكن فرقٌ بين أفراد الأخطاء التي لا يسلم منها مؤلف؛ وبين الاتهام: «بالمعرفة المشوهة» الذي يسقطه الاطلاع على مجموع كلام ابن تيمية في الفلسفة.
وإنشاء الكلام هكذا عفوَ الخاطر كلُّ أحدٍ يستطيعه، فليس أكثر من هذر العامة في مجالسهم.
قبل أن أختم الحديث عن هذا المحور ـ وهو عندي من أهم المحاور ـ سأكشف عن حيلة أخَّرتُ الكلام عليها، كان صاحبنا تحيَّلها ليتوصل بها ـ مع غيرها ـ إلى ضعف معرفة ابن تيمية بالفلسفة، وأنه اطلع عليها في مصادر غير دقيقة، لكن هذه الحيلة تكشّفت بحمد الله.
مارس صاحبنا في هذا «المدخل المظلم» نوعاً من التعتيم الإعلامي في حق شخصية فلسفية سيفسدُ عليه ذكرُها كثيراً مما أراد أن يتحيَّفه من عقل القارئ.
كنت اصطنعت أَوَّلَ ولوجي هذا المدخلَ شيئاً يشبه ذاك الذي يضعه مرتادو الأغوار والكهوف على رؤوسهم فينير لهم الطريق..(6/64)
وقد وجَّهتُ النور إلى هذه الظلمات فألفيتهُ من خَلَلِها بعمامته، قاعداً ثمَّ على حصير في إحدى مدارس دمشق يأخذ في درسٍ للفلسفة؛ سيفَ الدين الآمديَّ، قد أبصرتك...
قال ص5: «لم تخرج الشام فيلسوفاً كبيراً، مع أنه دخلها جمع من الفلاسفة، لاسيما متفلسفة الصوفية، أما في عصر ابن تيمية ما بين عامي 651-750 فلا نكاد نجد فيلسوفاً كبيراً سواءً في مصر أو الشام أو العراق إلا ما ندر بل إننا نعجب من قلة المشتغلين بالعقليات من فلسفة ومنطق وطبيعيات في ذلك العصر، وقد جردت جملة من الكتب التي أرخت لتلك الفترة، وبحثت عن كل من قيل عنه أنه فيلسوف أو منطقي، فلم أجد إلا عدداً قليلاً سأذكرهم هنا».
لقد تحدَّث صاحبُنا عن أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية فيما سقناه من نقول عنه وفيما لم نسقه، لكنه في بحثه كله لم يغلط مرة فيذكر سطراً واحداً عن أثر الآمدي في ابن تيمية، إلا أن يكون: «شديدُ ظهوره أخفاه»!
لن أُخدع بما بين عامي (651-750) هذه، وسأرجع قليلاً إلى عام (631) تاريخ وفاة الآمدي في دمشق قبل ولادة ابن تيمية بثلاثين سنة (661)، لأن ثلاثين سنة ليست تجعله من أهل القرن الثاني فلا يذكر في جملة الفلاسفة في عصر ابن تيمية، ولأن من يدعو جاهداً إلى دراسة أثر بعض الفلاسفة في ابن تيمية كابن ملكا وابن رشد لا يستقيم له أن يتجاهل الفيلسوف الآمدي المتوفى في دمشق، ولاسيما وأن ابن تيمية نفسه كان من المعتنين بتراثه والمثنين عليه. [22]
لقد تحيَّل هذه الحيلة في مادة بحثه؛ ليقطع الصلة بين ابن تيمية الدمشقي، والإرث الفلسفي الذي خلَّفه الآمديُّ إنْ في كتبه أو في تلامذته في دمشق، وليصل إلى أن ابن تيمية إنما كان فقيهاً حنبلياً احتاج إلى سند عقلي..
عُرف أبو الحسن علي: «سيف الدين الآمدي» عند كثير من القراء أصولياً متكلماً بكتابه «الإحكام في أصول الأحكام» و«غاية المرام في علم الكلام» و «أبكار الأفكار».. لكنه أيضاً فيلسوف بكتابه «دقائق الحقائق» و«رموز الكنوز» و«كشف التمويهات»، وبكتابه «المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»: الذي يمثِّل النضج الفلسفي بعدَّة ألفاظه ودقة قراءته الفلسفية على اصطلاح الفلاسفة، وفق نظام ميسّر مستمد من أعمال أرسطو والفارابي وابن سينا. [23]
توجّه الآمدي إلى دمشق سنة (617) بعد وفاة أمير حماة، واستقر فيها إلى أن توفي سنة (631)، وقام فيها بتدريس الفلسفة في دروس خاصة، وكان ممن تلمذ له فيها ابن أبي أصيبعة [24] الذي قرأ عليه كتابه «رموز الكنوز»، لما كان بينه وبين أبيه من صلة.
كان الآمدي واحداً ممن قرأهم ابن تيمية بعناية، [25] ولعل هذا الذي حجبتْه عنا ظلُمات الهوى فأريد له أن يغيب، يكشفُ بَعد رؤيته عن جانب مهم من جوانب البناء المعرفي عند ابن تيمية.
لم لا يكون ابن تيمية أخذ عن تلامذة هذا الفيلسوف، إن لم يكن في درس منتظم، فلا أقلَّ من مذاكرة واستفادة؟
أما معرفة ابن تيمية بتراثه فهذا ثابت من أقواله نفسها وكثرة تردد ذكره في كتبه: «حتى إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذُها منه أفضل من أخذ عكّا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحراً في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقاداً». [26]
المحور الرابع: بناءُ ابن تيمية دراستَه للفلسفة على «التلفيق» و«النفعية»:
فُتِنَ صاحبنا بهذا الكشف فكرَّر هذا المعنى في بحثه عدة مرات، ما إن يضعف نَفَسُ البحث عنده؛ حتى يلقي بهذا القول ليفجأَ به القارئ فيصرفه بجرأته عن قيمة ما يقرأ.
قال ص11: «فابن تيمية لم يدخل عالم الفلسفة دارساً محايداً أو متعلماً، بل دخله مخاصماً مجادلاً، حيث درس الفلسفة دراسة «نفعية»، فابن تيمية بنى دراسته للفلسفة على «التلفيق» ففي أي مسألة يريد أن يرد على خصومه فيها يبحث عن أي قول لأي فيلسوف يرد على هذا القول؛ سواء كان الفيلسوف مشائياً أو إشراقياً أو غير ذلك، وفي المسألة التي يقول بها يبحث ابن تيمية عن أي قول لأي فيلسوف يؤيدها مهما كان مذهبه».
ص22: «والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على التلفيق، فهو يلفق ردوده من ردود الغزالي والشهرستاني عليهم..».
ص28: «واستفاد ابن تيمية من رد بعض الفلاسفة على بعض، فاستفاد من ردود ابن رشد على ابن سينا، وردود السهروردي على كثير من الفلاسفة، وردود ابن ملكا على الفلاسفة، وردود ابن سبعين على غيره، فابن تيمية يأخذ من كلام الراد ليبطل به كلام المردود عليه؛ هذا في المسائل التي يكون الراد موافقاً لابن تيمية فيها، أي أن ابن تيمية عندما يريد الرد على قول لأحد الفلاسفة يأخذ أي رد على هذا القول لأي فيلسوف آخر ».
1- أتعبني تتبُّع نصوص البحث وضمُّها إلى نظائرها حتى أُحسنَ قراءتها، ففي النصوص السابقة التي أوردتُها من بحثه وفي هذه؛ نرى أن المعنى الواحد يفرّق ويوزّع ويكرّر في البحث كله حتى يملَّه القارئ، فما هنا: ص11ثم ص22 ثم ص28، والمعنى في كُلٍّ واحد. وعهدي بأن للمفكرين عنايةً بالمنهج وطرائق التنظيم الفكري، إلا أن يكون صاحبنا ما حُنّك بَعْدُ «بأرجانون» بيكون، و«مقال» ديكارت، و «إصلاح» اسبينوزا، و «فن التفكير» عند فلاسفة «بورريال»، [27] فسنمهله إلى أن يَلْثَغَ بها ثم نقبل منه شيئاً من كلامه على المنهج.
2- هل يظن صاحبنا أني أجَّرتُ عقلي له، يقسمني مع القراء في فريقين: يقول لهذا الفريق: قل: كان ابن تيمية؛ فيردّ الفريق الآخر: ملفقاً نفعياً يأخذ من هذا فيردُّ به على هذا؟
إنه لم يورد في هذه المواضع كلها نصاً يستشهد به على ما ذهب إليه.
3- الهدمُ أيسرُ من البناء لا شك، وأنا فأستطيع أن أُورد على صاحبنا شبهةً من الكلام يكلِّفه ردُّها ثلاث سنوات من البحث الجادّ، وحتى أكون صادقاً مع نفسي وصاحبي وقارئي؛ فإن الكلام في المنهج من أعقد مشكلات المعرفة، فكيف إذا كان عن ابن تيمية؟ بل كيف إذا كان عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟
فدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة تحتاج إلى:
1- دراسة تراث ابن تيمية في هذا الجانب بعناية.
2- دراسة ما يتّصل بهذا التراث من كتب ابن القيم فهي تشرحه وتتمِّمه.
3- دراسة ما يتصل بهذا المنهج من نظريات المعرفة.
4- دراسة المنهج في التراث الفلسفي خاصة.
5- دراسة مناهج أبرز الفلاسفة في ردودهم.
فهل قام صاحبنا بهذا وهو يتحدث عن منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة؟ كلا، وكلامه يشهد على هذا، وأنا أيضاً لم أقم به، وهو حريٌّ بدراسة مفردة جادة.
لذا فإن قراءتي لكلام صاحبنا هنا لن تعدو ما أَوْرَده، فهي قراءة لمنهج ابن تيمية في هذه الجزئية، وهذا الذي اصطنعناه هنا، منهجٌ أفدناه من بعض ما قرأناه من ردود، وهو مثَلٌ على الاستفادة من نتاج العقول بضابطه.
هل ما كان يقوم به ابن تيمية «تلفيقاً» كما فهم صاحبنا، أم هو عملٌ ينمُّ على عمق اطلاع ابن تيمية على مناهج الفلاسفة؟
لما أراد ابن تيمية أن ينقض على الفلاسفة أقوالهم؛ عمد إلى الفلسفة من الداخل فنقضها بأدواتها وليس بشيءٍ خارج عنها، وكان من المنهج سلوك طريق الفلاسفة أنفسهم مع بعضهم البعض في جدلهم: «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة».
إن شأنه شأنُ كلِّ المفكرين، ينقد وجهات نظر من قبله ثم هو يأخذ منهم في الوقت نفسه، وهذا يشبه قانون الفكر..(6/65)
ولأن من أصل المغالبة إظهارَ مواطن الضعف في دعاوى الخصم إذا سنحت الفرصة، ولاسيما وأنه لم يكن يلتزم مقتضيات العرض المنهجي، بل كانت دواعي المجادلة هي الحاكمة لأن المسلك الطبيعي لديه كان أقوى من المسلك الصناعي. [28]
قال عبدالرحمن بدوي في كلام يذهب فيه إلى إثبات شيءٍ آخر مغاير تماماً لما نحن فيه، لكنه يوضّحه: «قال هيجل إن تفنيد الفلاسفة بعضهم لبعض يحدث: «دون أن تختفي الفلسفات السابقة في مذاهب الفكر اللاحقة». فمثلاً تفنيد أرسطو لمثالية أفلاطون لم تمنع أرسطو من الاحتفاظ بفكرة الصورة في نظرية العلل عنده.. وتفنيد كَنْت لمذهب ديكارت لم يمنع كَنْت من الحفاظ على مقالة «أنا أفكر، فأنا إذن موجود» في مذهبه هو. والذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل إلى مرتبة ثانوية في مرتبة لاحقة.. هذا التغيير للمكانة يكفي لإبعاد شبهة «التلفيق» [!] عنها..
ولنضرب مثلاً بفلسفة أفلاطون: «إننا لو أخذنا محاورات أفلاطون، لوجدنا في بعضها طابعاً إيليّاً، وفي بعضها الآخر طابعاً فيثاغوريّاً، وفي بعضها الثالث طابعاً هيرقليطيّاً، ومع ذلك فإن فلسفة أفلاطون قد وحّدت بين هذه الفلسفات المختلفة معدّلة من نقائصها».. وعلى الرغم من أن كل مذهب لاحق لا بد له لتبرير وجوده أن يفند آراء المذهب أو المذاهب السابقة عليه، فإن «هذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة نفسها». [29]
5- هل كان ابن تيمية إلا واحداً من العلماء؛ ليس ينفكُّ عن نظرية التراكم المعرفي وأثرِها في صياغة العقل الإنساني؟
وهذا المعنى هنا واحد من أعظم الفروق بين نتاج العقل التراكمي و «الوَحْي» المؤسِّس.
هذا الوحي الذي كان ابن تيمية عظيمَ الاحتفاء به، حتى إنه صارع هذا الصراع العقليَّ العنيفَ ليخضع عقولَ الفلاسفة الآبقة ويردَّها لسلطته.
أين هذا من عمل أذلِّ عقلٍ في تاريخنا الحضاري؛ ابن رشد، وهُوَ يقول عن متألَّهه أرسطو: «إن مؤلف هذا الكتاب هو أعقل اليونان، أرسطوطاليس بن نيقوماخس، الذي وضع علوم المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة وأكمَلها، وقد قلتُ: إنه وضعها، لأن جميع الكتب التي أُلِّفت قبله عن هذه العلوم لا تستحق جُهد الحديث عنها، ولأنها توارتْ بمؤلفاته الخاصة، وقد قلت: إنه أكملها، لأن جميع الذين خلفوه حتى زمننا، أي في مدة خَمسَةَ عَشر قرناً، لم يستطيعوا أن يضيفوا شيئاً إلى مؤلفاته أو أن يجدوا فيها خطأً ذا بال، والواقع أن جميع هذا اجتمع في رجل واحد، وهذا أمرٌ عجيبٌ خارق للعادة، وهو إذ امتاز على هذا الوجه يستحق أن يدعى إلهيًّا أكثر من أن يدعى بشرياً، وهذا ما جعل الأوائل يسمُّونه إلهيًّا»![30]
وفي ضوء هذا النص نعرف معنى القول الساقط الذي مرّ معنا لعبدالمتعال الصعيدي: «وكان ابن رشد الفيلسوف الفقيه أولى أن يكون له مدرسة بعده من ابن تيمية، ليسير المسلمون بها في سبيل التجديد الصحيح، ويجمعوا بها بين علوم الدين وعلوم الفلسفة، فهذا كان خيراً من مدرسة ابن تيمية التي جمدت بعده على تقليده.. ».
أين التقليد يامولانا الشيخ عبدالمتعال؟
متابعة عقل مستعبد كان أكبر أوصافه أنه: «شارح أرسطو »، أم التوافر على درس تراث عالم أحد أوصافه أنه: «ناقض أرسطو»؟
6- هذه «النفعيّة» ما وصفها من مذاهب الفلاسفة؟ أهي نفعية السوفسطائيين، أم نفعية البراجماتية، أم نفعية بنتام؟
أم هي لفظة يهمسُ بها عاميٌّ في أذن صديق له في مجلس لينال بها من أحد الداخلين؟
إنه لمن الشناعة أن يوصف في دراسة كاتب مسلم؛ جُهد مَن كان يناضل عن «الوحي» لينقذ العقل من أسر تلك التصورات اليونانية الوثنية المضحكة؛ من الشناعة أن يوصف هذا الجهد السامي الغاية، والبالغ الأثر، بكلمة توحي في بعض ظلالها: «باللؤم العقلي».
«وابن تيمية بهذا الموقف يكشف عن غيرة دينية منقطعة النظير، كما يكشف في نفس الوقت عن الفيلسوف العملي الذي يرى أحقية الأشياء وصدقها في «نفعها» العام لبني البشر، وأكثر القضايا التي تقررها الأديان من قبيل القضايا التي دافع عنها ابن تيمية». [31]
ما هنا لا يفي بدراسة منهج ابن تيمية في ردوده على الفلاسفة، لكنها إشارة إلى هذا المنهج، وإن طبيعة القراءة والبحث لا تسمح بأكثر من هذا.
المحور الخامس: مآخذُ أَخَذها الباحثُ على ابن تيمية:
أعلمُ أن المؤلف حين يكتب فهو يقول: هاؤم عقلي فانظروا فيه، وأنا قد نظرتُ فوجدت شيئاً يشبه العقل وما هو به:
لأنه من العقل إذا ما أردت أن تقوّض مدرسة من المدارس؛ أن تعمد إلى ضعيف ممن يمثِّل هذه المدرسة فتفترسه..
لا أدري ما الذي صرف صاحبنا عن هذه الخطة؟ أمّا أن يبتلى فيُجادِل في العلم واحداً من أكبر العلماء في تاريخ العلم، ويجالِده بعدُ في الفهم؛ فهذه والله ورطة ما أعدّ لها صاحبنا عدّتها.
ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابنَ تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد، فيراجع علمه مرّات، ويعود على فهمه بالتهمة كرّات.
والحقُّ أنه ليس «يَغُضُّ» من قيمة عالم متماسك البنيان المعرفي عندي؛ أَنْ جَهِل ونسي هنا، أو أخطأ هناك، لأن المعرفة المطلقة التامة مستحيلة، فأفراد العلوم لا تتناهى، ولأن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه يجري عليه من الخطأ والغفلة ما هو من لازم كونه إنساناً.
فما جئتُ هنا لأقول: إن ابن تيمية لا يغلط كحال من لا أحبُّ له أن يقول ذلك، لكن جئتُ لأقول: إن شهوة النقد ضربتْ عقل صاحبنا فأصابته بالحَوَل الفكريِّ فلا حَوْل ولا قوّة إلا بالله!
وبسبب هذا سأبدأ القراءة بالمقلوب، أعني بصفحة 22، ثم ص15 ليكون أيسر على صاحبنا:
أولاً: قال ص22: «قال ابن تيمية عن فلاسفة الصوفية: «.. وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وهذا مناقض للعقل والدين».
وبالنسبة لمسألة تفضيل الولي على النبي؛ ففي كلام ابن عربي ما يبين أنه يريد خلاف ما نقله عنه ابن تيمية، حيث يقول: «إذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج التشريع؛ فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولي أكمل وأتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع، فإذا سمعت أحداً من أهل الله يقول، أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول؛ فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له، فافهم».
فابن عربي يبين أن قول الصوفية بتفضيل الولي على النبي، يريدون به أن النبي من حيث كونه ولياً لله أفضل من حيث كونه نبياً له، ولا يريدون أن الولي (من غير الأنبياء) يكون أفضل من النبي، كما فهم ابن تيمية».
أصابت شهوةُ النقد صاحبنا بالحَوَل الفكريّ فما عاد يفرّق بين كلام ابن تيمية عن: «خاتم الأولياء» و: «الولي». ولو كان يريد أن يذبَّ القول عن عقله؛ لاتَّهم فهمه للكلام ألفَ مرَّة قبل أن يتَّهم فهمَ أكبرِ ناقدٍ للتراث الصوفي في تاريخ الإسلام.(6/66)
قال ابن تيمية: «الناظر في الدليل بمنزلة المترائي للهلال قد يراه، وقد لا يراه «لعشىً في بصره»، وكذلك أعمى القلب. وأما الناظر في المسألة: فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع، فأَمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة».[32]
«ولا يريدون أن الولي .. كما فهم ابن تيمية».
من أين يستمدُّ هؤلاء هذه الجرأة والقدرة على الصَّفاقة؟ إن أحدنا إذا كان في مجلسٍ فيه بعض طلبة العلم أدار المعنى في ذهنه مراتٍ قبل أن يقول به خوفَ أن يُزرى عليه، والواحد من هؤلاء يكشف للناس عن عورة عقله ويسير بها فلا يخجل ولا ينكسر.. فلله هذه الأنفس ما أشدَّ تباينها في منازعها وأطوارها وشأنها كلِّه!
1- قال ابن تيمية: «وهذا من جنس قول شيخهم الطائي [ابن عربي].. ويقول أيضاً: إن الولاية أفضل من النبوة، وولاية النبي عنده أفضل من نبوته ورسالته، لأنه بزعمه من حيث الولاية يأخذ من الله بلا واسطة، ومن حيث النبوة يأخذ بواسطة. وهذا الكلام قد يقولونه مطلقاً، وتوجيهه على أصولهم: أن النبوة هي مقام تخييل المعقولات، والولاية هي المعقول الصرف، فالولي ترِد عليه المعقولات صرفاً، والنبي من جهة ولايته له هذه المعقولات، لكن من جهة نبوته هي تخييل هذه المعقولات، فيأخذ بواسطة الخيال، وجهة رسالته عندهم أنزل الدرجات وهي جهة تبليغه للناس.. وهذا قلب للحقيقة التي اتفق عليها المسلمون، وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول، والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي، والرسالة تنتظم النبوة والولاية، كما أن النبوة تنتظم الولاية، وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقياً عن الأنبياء». [33]
فابن تيمية «يفهم» هذا ويوجهه على أصولهم وينقضه.
2- ثم يزيد عليه فيقول: «ويقولون: إن ولاية النبي أعظم من نبوته، ونبوته أعظم من رسالته، ثم قد يدّعي أحدهم أن ولايته وولاية سائر الأولياء تابعة لولاية خاتم الأولياء، وأن جميع الأنبياء والرسل من حيث ولايتهم هي عندهم أعظم من نبوتهم ورسالتهم، وإنما يستفيدون العلم بالله الذي هو عندهم القول بوحدة الوجود من مشكاة خاتم الأولياء، وشبهتهم في أصل ذلك أن قالوا: الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي والرسول بواسطة، ولهذا جعلوا ما يفيض في نفوسهم ـ ويجعلونه من باب المخاطبات الإلهية، والمكاشفات الربانية ـ أعظم من تكليم موسى بن عمران، وهي في الحقيقة إيحاءات شيطانية،ووساوس نفسانية (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، (الأنعام:121)، ولو هُدوا لعلموا أن أفضل ما عند الولي: ما يأخذه عن الرسول لا ما يأخذه عن قلبه، وأن أفضل الأولياء الصديقون، وأفضلهم أبوبكر، وكان هو أفضل من عمر، مع أن عمر كان مُحَدَّثاً كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)[34]».
3- ما ذَكَره ابن تيمية في النص الذي ساقه صاحبنا عنه: «وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن «خاتم الأولياء» أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء»؛ هو قول ابن عربي نفسه.
قال في «فصوص الحكم»: «وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه ـ متى رأوه ـ إلا من «مشكاة خاتم الأولياء»[35].
ثانياً: قال ص15: «فقدماء الفلاسفة قبل أرسطو كما يرى ابن تيمية، كانوا..». فذكر مآخذ أخذها على ابن تيمية ومنها:
«يثبتون عالماً فوق هذا العالم يصفونه ببعض ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الجنة = واضح أن هذه صورة مشوهة وساذجة عن نظرية «المُثُل» التي قال بها أفلاطون».
أ- قال عبد الجليل الوالي في كتابه « نظرية المثل، البناء الأفلاطوني والنقد الأرسطي»: «نظرية المثل لم تنشأ من العدم، بل هي مزيج فلسفي من مفكرين سابقين، موضوعة بعقلية وقادة، مضاف إليها إبداعات خارقة».
فقوله: «نظرية «المثل» التي قالها بها أفلاطون»، غير دقيق.
ب- أما ذكر الجنة في «المثل الأفلاطونية» فأحيل صاحبنا إلى الكتاب السابق ليفتش فيه مع: «تاريخ الفلسفة اليونانية» ليوسف كرم [36]، وكتاب لحسام الألوسي عنوانه: «بواكير الفلسفة قبل طاليس»، ولينظر فيما قالوه عن: «الجنة» وأثر: «الأورفيَّة» في الفكر اليوناني وفي المثالية بكل أشكالها .. أحيله إليهما دون ذكر الصفحات حتى يشتدَّ عُوده في البحث، لأننا وقَفْنا على ما نذكره في هذه القراءة بعرق الجبين وسهر الليل، ولم نتلقَّها عن الشيخ «قوقل» عفا الله عنه!
هل كان ابن تيمية صاحبَ صورة ساذجة عن نظرية «المثل الأفلاطونية»؟ سأسوق كلاماً لابن تيمية عن «المثل الأفلاطونية» ومناقشته لها حتى تتبين لنا هذه السذاجة بوضوح.
قال ابن تيمية: «لما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها «المثل الأفلاطونية» أنكر ذلك حُذّاقهم، وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن، ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة، ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان؛ فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها. وصفة الشيء لا تكون خالقةً للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة، فلو قُدِّر أن في الخارج وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعاً لغيره من الموجودات، بل امتنع أن يكون شرطاً في وجود غيره، فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق، إن قيل: إن له وجوداً في الخارج، فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكاراً على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجاً عن الذهن؟ وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم، لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن، وعلّة ومعلول، وقديم ومحدث. ومَورد التقسيم مشترك بين الأقسام. فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب، فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيءٍ من الماهيات والحقائق. وهذا التعبير مبنيٌّ على أصلهم الفاسد، وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج، بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته، فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة، ويفارقها أخرى»![37]
قال أبويعرب المرزوقي في التعليق على قول ابن تيمية: «كانوا قد بنوا ذلك على .. قول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات ... وهو قول القونوي صاحب ابن عربي». قال المرزوقي: «وإذا اعتبر التعدد العقلي أصلاً، والتعدد الحسي ظلاًّ له، كان الحل قائلاً بواقعية الكليات المعقولة، التي ينسبها ابن تيمية إلى تلميذ ابن عربي وربيبه أعني القونوي، معتبراً إياها من جنس نظرية «المُثُل الأفلاطونية»[38]».(6/67)
لو أن البحث الذي بين يديَّ عملٌ علميٌّ متماسك، فيه أصالةُ رأي، ودقة فهم، وسعة اطلاع؛ لما «غَضَّ» من قيمته عندي أن أخطأ كاتبه هنا، أو وهم هناك.. لكن أن يكون البحث بمثل هذه الضّحالة العلمية الفاضحة، وهذا العمل العقليّ المخجل، ثم يزيد صاحبه الطين بِلَّةً بهذه الجرأة على علم ابن تيمية وفهمه؛ فإن أخطاءه وأوهامه مما كان قال فيها الطناحي: «لا أقول كما يقول بعض المناقشين إن هذه الملحوظات لا تَغُضُّ من قيمة الرسالة، بل «تَغُضُّ وسِتِّين تَغُضُّ»! [39]
قال صاحبنا وهو في فسحة من أمره وهي أمثلة على أوهامه الساذجة ولم أستقصِ:
1- ص5: «ولد ابن تيمية سنة 661، لكن لم تبق في ذاكرته عنها [حران] إلا ذكرى فظيعة عندما وضعه أهله في عربة .. وتوجهوا إلى دمشق سنة 666».
وهم قدموا إلى دمشق سنة (667).[40]
2- ص11: «فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة».
ومن ولد ـ كما في النص السابق ـ سنة (661)، وتوفي سنة (728)، يتوفى عن (67) سنة وليس عن (68).
3- ص6: «الحسين بن يوسف بن المطهر الشيعي». اسمه الحسن [41].
4- ص5: «نصير الدين الطوسي: أبوعبدالله محمد بن محمد بن حسن الطوسي، الفيلسوف الكبير، والفلكي المشهور .. وتوفي في ذي الحجة سنة 672 ـ وقد نيف على الثمانين».
أ- نصيرالدين الطوسي: «الفيلسوف الكبير»، وأما ابن تيمية فلم يكن يفهم في الفلسفة شيئاً.
ب- كنية نصيرالدين: أبوجعفر، وليس «أبوعبدالله».
ج- توفي عن خمس وسبعين سنة ولم: «ينيف على الثمانين»، لأن ولادته كانت سنة 597.[42]
5- تطرق الخطأ إلى صاحبنا:
أ- لأنه رجع في ترجمة الطوسي إلى: «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد، تحقيق: محمود الأرناؤوط.
قال عبدالرحمن العثيمين: «واشتهر ابن العماد بكتابه «شذرات الذهب».. ثم أعاد تحقيقه محمود الأرناؤوط وطبع منه حتى سنة 1410هـ أربع مجلدات [تمَّ فيما بعد] .. ولنا على تحقيقه ملاحظات لا يتسع المقام لذكرها. ولعل من أهم هذه الملاحظات أن محققه لم يعتمد على نسخة المؤلف التي بخطه، وهي موجودة في مكتبة مدينة بتركيا ..»[43].
ب- ورجع في ترجمة ابن المطهر الحلي إلى: «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» لابن حجر، تحقيق: محمد سيد جاد الحق.
قال الطناحي: «... معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: طبع طبعة وحيدة بمصر [هذا وقت تأليف الكتاب] وهي طبعة رديئة جداً، وغفر الله لناشرها، فهو رجل من أهل الفضل والوعظ، ولكن تحقيق الكتب ليس من صناعته.. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: طبع طبعتين .. والثانية بمصر .. وهي طبعة غير جيدة، ويقال فيها ما قيل في طبعة كتاب «معرفة القراء الكبار» السابق، فناشرهما واحد، ومحققهما واحد» [44].
6- ليس يُرجع في تحرير تراجم الفلاسفة ـ في بحث فلسفي ـ إلى «الشذرات» و «الدرر الكامنة» ولو إلى مخطوطات أصلية بخط مؤلفيها. وكلما كان المرجع مما أُفرد في ترجمة العَلَم كان أوفى وأدقّ.
7- عندما يذهب المرء إلى المختبر، يأخذون عيِّنة من دمه، فإن كانت العيِّنةُ فاسدةً كان الدَّمُ فاسداً كلّه، وهذه «عيّنة» من علم صاحبنا وفهمه..«ومن أراد أن يجادِل ويجالِد ابن تيمية في العلم والفهم، فعليه أن يكون حذراً غاية الحذر من أن يجادَل ويجالَد».
المحور السادس: موقفُ ابنِ تيمية من المنطق:
قال ص26: «موقف ابن تيمية من المنطق هو أكثر الجوانب استحواذاً على دراسات الباحثين، لذا فإني لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب، لاسيما بعد دراسات كثير من الباحثين من السنة والشيعة في هذا الجانب، كدراسة محمد حسن الزين «منطق ابن تيمية» وهي في قرابة 600 صفحة، ودراسات علي سامي النشار، وسأحاول هنا تلخيص رأيه في المنطق، مع بيان ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً». ثم تحدَّث في اثني عشر سطراً عن المنطق عند ابن تيمية.
«لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب»، فيم العجلة؟ سنمكث هنا بعض الوقت مع ابن تيمية والمنطق:
1- محمود يعقوبي: «نريد أن نثبت بهذا البحث ثلاث قضايا: أولاها أن الإمام ابن تيمية نقد المنطق المشائي نقداً مذهبياً شاملاً كما لم ينقده أحدٌ من المفكرين الإسلاميين لا قبله ولا بعده». [45]
2- محمد عبدالله الشرقاوي: «تفجرت في القرن السابع عشر ـ الذي بدأت منه وبه الفلسفة الحديثة ـ النزعة التجريبية على يد فلاسفة علماء كبار، يقف على رأس صفهم الطويل فرنسيس بيكون (1561-1626). ولم يدخر بيكون وسعاً في مهاجمة الفلسفة التقليدية والحط من شأنها، وتحميلها أوزار الجمود العلمي والقحط العقلي الذي آل الأمر إليه. وإنه ليتعجب من ضحالة الفلسفة التقليدية وعقمها، وعجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته.. قد برز لبيكون ـ مثلما برز لمعاصره ديكارت [46] ـ الحاجة الماسّة إلى إصلاح المنهج العلمي، فوضع بيكون المنهج الاستقرائي التجريبي، وضمنه كتابه «الأورجانون الجديد» أي: المنطق الجديد والآلة الجديدة في مقابل «الأورجانون القديم» الذي يتضمن منطق أرسطو الذي أفسد العلم وأصاب العقل البشري بالجدْب والعقم.
ولنلاحظ أن فرنسيس بيكون قد نقد منطق أرسطو ونقضه بما نقده به ونقضه المفكر المسلم (ابن تيمية) في كتابيه «نقض المنطق» و «الرد على المنطقيين». وإنا لنتطلع إلى دراسة العلاقة بين هذين المفكرين العملاقين: ابن تيمية وهو السابق، وبيكون وهو اللاحق في ضوء نقد كل منهما لأرسطو». [47]
3- مصطفى طباطبائي: «جان لوك وابن تيمية: ولد جان لاك الفيلسوف الشهير الإنجليزي في عام 1632م قرب مدينة بريستول في إنجلترا، وتوفي في عام 1704. وهذا المفكر الشهير له دور كبير في نقد منطق أرسطو في العالم الغربي .. الكتاب المشهور لجان لاك يسمى: «رسالة في فهم البشر»، كما هو ظاهر من اسمه، كتب في مباحث تتعلق بمعرفة الذهن وقوانينه .. جان لاك – بخلاف بعض المناطقة – اعتبر المعاني الكلية أو الكليّات مخلوقاً من قدرة الفهم والعقل البشري، ولم يكن يعتقد لها وجود مستقل خارجي، ويقول في هذا الصدد: «واضح أن العمومي والكلي لا يتعلقان بالوجود الواقعي للأشياء، بل هما من اختراع الفهم الإنساني وخلقه».
هذا الرأي هو الذي بيّنه ابن تيمية قبل جان لاك بشكل أوضح وقال: «ومن أخصّ صفات «العقل» التي فارق بها «الحس» [إذ الحس] لا يعلم إلا معيّناً، والعقل يدركه كلياً مطلقاً». وعندئذٍ يوضح ابن تيمية: «وفصل الخطاب: أنه ليس في الخارج إلا جزئي معيّن، ليس في الخارج ما هو مطلق عام مع كونه مطلقاً عاماً..».[48]
4- فضل قائد علي: «لم يقل جون ستيوارت مل أكثر مما قال به ابن تيمية؛ وهو يقرر أن القياس الأرسطي تحصيل حاصل، لأن النتيجة «سقراط فان» متضمنة في مقدمة القياس الكبرى «كل إنسان فان» طالما وأن «سقراط إنسان» كما تقول المقدمة الصغرى». [49](6/68)
5- عفاف الغمري: «على صفحات هذا الكتاب بيان لمحاولة ابن تيمية المنطقية، وهي من المحاولات القليلة للنقد العلمي الموضوعي من عقلية عربية لمنطق أرسطو، فهي محاولة لم تكتف بالرفض دون تقديم الأسباب، أو القبول دون التوصّل إلى أدلة أو براهين على الصدق بالصحة. فلم يكن نقد ابن تيمية للمنطق لمجرد الهدم، أي هدم طريقة قديمة في التفكير بل كان لإظهار عدم كفاية هذه الطريقة في بلوغ المعرفة، أو في عصمة التفكير الإنساني عن الوقوع في الخطأ، لأن طرق الاستدلال الصحيحة موجودة في القرآن، ومن ثم فلا حاجة بنا إلى المنطق التقليدي طالما أننا نستغني عنه بما هو أكثر دقة .. جاء رفضه واعياً عن دراسة وفهم، فناقش المنطق القديم بصفة عامة ونظرياته، وأهمها نظرية القياس وقواعده وبراهينه وأوضح بطلانها أو عدم كفايتها في الوصول إلى المعرفة الحقة. فقدم بذلك محاولة نقدية مكتملة .. وكانت من المحاولات النقدية القليلة في تاريخ الفكر الإسلامي التي رفضت المنطق الأرسطي بناء على نقد ومناقشة لا عن إسقاط أو إحجام أو تكفير .. في دراستنا لحجج ابن تيمية التي وجّهها للمقام الموجب في الحد؛ وافقنا الدكتور عزمي إسلام في إثبات وجود تشابه بين بعض ما قاله ابن تيمية في هذه الحجج من نقد للمنطق الأرسطي، وبين الوضعيين المنطقيين أو التحليليين المعاصرين، خاصة: كارناب، وبرتراند رسل، وفتنجشتين، فابن تيمية في نقده لفكرة الماهيات الثابتة، وقوله بعدم وجود الماهيات والكليات إلا في الأذهان؛ يستخدم منهجاً تحليلياً لا يقل في دقته ووضوحه عن تحليلات فلاسفة ومناطقة التحليل المعاصرين أمثال رسل وفتنجشتين».[50]
لِمَ أغَذَّ صاحبُنا السير عند الحديث عن المنطق وابن تيمية، فلم يعد به حاجة إلى الإطالة؟
أيكون الكلام عن قيمة تراث ابن تيمية في المنطق ينقض عليه بحثه كله ويهدمه على رأسه، لذا آثر السلامة وأسرع السير مخافةَ أن يصيبه مكروه؟ إن القول بعدم معرفة «الفقيه الحنبلي» ابن تيمية بالفلسفة، وعدم اطلاعه عليها في مصادرها الأصلية وتلقيه لها عن شيوخها، والقول بقيام منهجه فيها على التلفيق والنفعية؛ يقال في المنطق أيضاً فما الفرق؟
لاسيما أنه قد جرى على لسانه غفلةً منه: «ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً».
إنه ليس يصح في الذهن أن يبلغ ابن تيمية في نقده للمنطق المشائي هذا المبلغ؛ ثم هو يفشل بعد ذلك في الفلسفة الفشل الذريع الذي يريده له هذا المتعجّل.
يرى جون ديوي: أن علاقة المنطق بالفلسفة كعلاقة المنطق بالبحث ذاته، فأيّ تغيير في أحدهما لا بد أن ينعكس على الآخر، والمؤلفون في المنطق حين لا يفصحون عن ميولهم في اتجاهاتهم الفلسفية؛ فإن التحليل يكشف عن الرابطة بين الميول وما يذهبون إليه من نظرية منطقية. [51]
قال ابن تيمية: «لما كنت بالإسكندريّة اجتمع بي مَنْ رأيتُه يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له بعضَ ما يستحقونه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علّقتُه تلك الساعة، ثم تعقّبتُه بعد ذلك في مجالس إلى أن تمّ. ولم يكن ذلك من همّتي، فإن همّتي إنما كانت فيما كتبتُه عليهم في «الإلهيات». وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات .. فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق، فأذنتُ في ذلك، لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتح من باب الردّ عليهم يحتمل أضعاف ما علّقتُه تلك الساعة».[52]
«كتبتُ في قعدة بين الظهر والعصر .. ولم يكن ذلك من همّتي»...
كان صاحبنا قد قال في مقدمة بحثه: «تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه ..» وقال: «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات..»؛ زائرٌ ينصب خيمةً قديمةً وسط ناطحات السحاب في نيويورك، ثم يذهب يتحدَّث ـ بلا خَجلٍ ـ عن شيءٍ يشبه بداية تأسيس الهندسة المعماريّة!
إنك فشلت في أن تكون مشروعَ شيخٍ في الإسلام، وتريد ـ ويْحَكَ ـ أن تَنْقُضَ شيخَ الإسلام كلِّه..
أما بعد: فقد كان شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ـ رحمه الله ورضي عنه ـ واحداً من أكبر العقول العلمية التي عرفها تاريخ الإنسان، ورائدَ دعوة تجديدية تنويرية قلَّ أن بلغتْها دعوةُ مجدّد في الإسلام، وهو حجة الله على أهل العقول: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} البقرة: 269.
وإن بلداً طيباً شعاره التوحيد، ودثاره منهج السلف الصالح؛ ليس يسمحُ بأن تُعرّيَه منهما أقلامٌ غِرَّةٌ مغرضةٌ، لم تجد نفسها في الحق، فبحثتْ عنها في الباطل، ومن رام دَرْسَ الفلسفة الوثنيّة ففي تلك البلاد متَّسع.. ما دام قد ضاق صدره بلا إله إلا الله تعلو بها مآذن المساجد في جامعاتنا.
شيءٌ من مثل ما نحن بسبيله:
كثُر حديث المتحدِّث عن: «الانفتاح العالمي» وأثرِه في الصحوة الإسلامية، لكن قلّ الحديث عن أثر هذا الانفتاح العالمي في: «انتكاسات الصحوة».
كان غايةُ منتكس الصحوة قبل عدة سنوات: سيجارةً يشربها في تخفٍّ، أو أغنيةً يسارق سماعها، فإذا تفلَّتَ؛ أكثر من السهر.. أفعالٌ تحكمها براءة المجتمع ويتوب الله على من تاب.
وأما اليوم؛ فثمَّ ـ مع الشهوة ـ تلوُّثٌ فكريٌّ، وجماحٌ عقليٌّ غالب، وشططٌ بالغ السوء؛ جعل منتكسَ الصحوة يواجه الصحوةَ نفسَها بوجه صفيق بعد أن كان يتوارى منها خجلاً.. صار ينازعها أصولَها وثوابتها في سَوْرةٍ محمومةٍ، وأصبحتَ تسمعُ أصواتاً مبحوحةً تتحدث عن: «المفصل الثقافي» والعروي، والجابري، و«الحراك الاجتماعي» وصادق العظم، وأركون، وابن تيمية الذي لا يفهم في الفلسفة.. فعسى أن أوفَّقَ للعَوْد وبسط هذا الموضوع، لأن السلفية ليست تطامن من العقل، ولا ترفض أن يُعْمَل العقل فيما حَقُّه أن يُعْمَل فيه، ولأن العقل الغربيَّ بمنهاجه ليس أقدَرَ على الدَرْس الحضاري من عقلٍ بمنهاجٍ سَلفيٍّ.
والعقل، هذا العقل ويلٌ له إن هو تَلَعَّبَ به صاحبه.
ونحن، نعم نحن: متى ندرك أن سرعة تغيّر الأفكار من خصائص العقل الناشئ، وأننا إن لم نحرص على هذه العقول تخَطَّفتْها عصاباتُ المعرفة فأحدثتْ بها عاهاتٍ فكرية؛ ثم أعادتها لتتسوّل بها على حسابنا!
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
1428
--------------------------
الهوامش
[1] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، ص57.
والاستغراب: دراسة الغرب برؤية شرقية.
[2] محمود ماضي، جذور علم الاستغراب، وقفة مع الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص5، 6. وقارن هذا بقول باسمة جاسم: «وهنا نلاحظ أن ابن رشد يظهر مع عموم الفلاسفة والمناطقة والشراح مدافعاً بذلك عن المذهب الأرسطي، ويؤاخذهم لأنهم خرجوا على المعلم الأول ونصوصه، وهذا الموقف نابع من استحكام تأثر ابن رشد الشديد بأرسطو». النقد المنطقي لابن رشد، ص8.(6/69)
[3] في: الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، 1/66: «..أول من أفسد الكلام أبو الفضل[ ابن العميد]، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظن ّ أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كلِّ أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد».
عن التوحيدي في بعض تراث ابن تيمية: عبد الأمير الأعسم، أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، ص22.
[4] أود أن أنبه على:
أ – أن البحث غير مرقم الصفحات، فآمل ترقيمها بتجاوز صفحة الغلاف ووضع الرقم (1) للمقدمة حتى تتفق الإحالة.
ب- أن هوامش البحث تنتهي في الأوراق التي بين يديّ بالهامش رقم (40)، مع أن إحالة الهوامش في المتن بلغت رقم (154)، فما في هذه القراءة لا يتجاوز البحث بهوامشه الأربعين.
ج- أن البحث غير مؤرخ.
[5] قال ابن بسام عن الشيخ إبراهيم ابن جاسر : «حدَّثَني أحد تلاميذه وهو الشيخ عبدالرحمن السعدي.. أنه [ابن جاسر] كان يدرس للطلبة في ـ المنهاج ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية في بريدة، فقرأ القارئ أمام الدرس كلام المعارض ـ ابن المطهر ـ وأخذ القارئ يسرد أقواله في الرفض والضلال، فما انتبه الطلبة إلا على بكاء الشيخ ونشيجه وترحُّمه على شيخ الإسلام، فلمّا سكن قال: «أيها الإخوان لو لم يقيِّض اللهُ لهذا الطاغية وأمثاله مثل هذا الإمام الكبير، فمن الذي يستطيع الرد والإجابة على هذه الحجج والشبهات». علماء نجد خلال ثمانية قرون، 1/281. ويرى الشيخ ابن سعدي أن ابن تيميّةَ من لطف الله بعباده في أثناء قرون هذه الأمة: المواهب الربانية من الآيات القرآنية، ص149.
[6] المجددون في الإسلام، ص266، 439.
[7] لست مع حسن حنفي في قوله في مراجعة كتاب الصادق النيهوم: إسلام ضد الإسلام: «كما أن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلل من ثقل الحجج العقلية». هموم الفكر والوطن، 2/402. إلا أن يُقيَّد قوله فيقال: إن كثرة الاعتماد على النصوص المنتقاة تقلّل من ثقل الحجج العقلية؛ إذا كان موضوع النقاش من مجال الحجة العقلية. ماذا لو قال دارسٌ للحضارة المصرية لحسن حنفي: إن لفظة «فرعون» لم ترد في القرآن؟
ولرياض الريس في: آخر الخوارج، أشياء من سيرة صحافية، ص195، رسالة عن الصادق النيهوم ومنع كتابه في لبنان.
[8] فليسوف العرب والمعلم الثاني، ص123،120.
[9] تجليات الفلسفة العربية، منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي، ص147.
[10] الله والعالم والإنسان في الفكر الإسلامي، ص140.
[11] ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص26،13.
[12] ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، ص269،266.
[13] درء تعارض العقل والنقل، 1/22.
[14] أثر القرآن على منهج التفكير النقدي عند ابن تيمية، ص67. لو أخذنا سنة (717) على أعلى تقدير لوقت كتابته «الدرء»، وحذفنا من هذا التاريخ «نحواً من ثلاثين سنة»، يكون ابن تيمية المولود سنة (661)، قد ألف هذا الكتاب وهو دون الثلاثين بيقين.
[15] بيان تلبيس الجهمية، 1/37. عن: صالح الغامدي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها، ص207.
قال الكردي: «لقد بدأ تحصيله للفكر الفلسفي بداية مبكرة جداً حتى كون لنفسه فكرة عن الفلاسفة والمتكلمين وهو صبي في عمر البلوغ.. وهذا واضح باعترافه هو في مصنفه عن رد المنطق [ص24] فهو يقول: « وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم (الفلاسفة والمتكلمين) من المشغوفين بهم ـ وأنا إذ ذاك صغيرٌ قريب العهد من الاحتلام ـ كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل..». أثر القرآن، ص67.
ألم يتعثّر صاحبنا في بحثه اللاهث بشيءٍ من هذه الأقوال وهو يفتش في تراث ابن تيمية؟
[16] الإشارة هنا إلى «الشيخ الكوثري»، «إشارةٌ سرحانيَّة».. فالكوثريُّ يقول في كتابه: من عبر التاريخ، عن ابن ملكا ص38: «تظاهر بالإسلام ابتعاداً عن الهوان والله أعلم بما في قلبه، وهو الفيلسوف الوحيد الذي وجد ابن تيمية بغيته عنده واتخذه قدوةً لنفسه في القول بجواز حلول الحوادث في الله سبحانه، تعالى الله عن إفك الأفاكين».
ليس بي هنا مناقشة كلامه في ابن تيمية فقد كُفِيناه، لكن قوله عن ابن ملكا: «تظاهر بالإسلام..»، ردّه عليه أحمد الطيب في: الجانب النقدي في فلسفة أبي البركات البغدادي، ص38.
ما أحسن ما ختم به محمد أحمد عبد القادر دراسته: الشيخ زاهد الكوثري وجهوده في مجال الفكر الإسلامي، حيث قال:
« يؤخذ على الكوثري في إطار حماسه الزائد اندفاعه إلى تخطئة غيره ممن لا يتفق معه إلى حد رَمْيه بالكفر، أو يصف خصمه بأوصاف لا يليق أن تصدر عن عالم أو مفكر مثله».
[17] «وخطتي في بحث موقف أبي البركات من الفلسفة المشائية.. تحليل الفكرة المنقودة، وذلك بتعقبها عند القائلين بها، وفي مظانها التي قيلت فيها، سواء عند أرسطو أو عند الأفلاطونية المحدثة، أو عند المشائية الإسلامية ممثلة في الفارابي وابن سينا، وقد كان أبو البركات ينقل في ذلك نقلاً غاية في الدقة والضبط والأمانة». أحمد الطيب، الجانب النقدي، ص10.
[18] منهج جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية، ضمن: المشكاة، مجموعة مقالات في الفلسفة والعلوم الإنسانية مهداة إلى اسم المرحوم الدكتور علي سامي النشار [ت 1980]، ص20.
[19] مقدمة تحقيق: الشرح الكبير لمقولات أرسطو، لأبي الفرج ابن الطيب، ص11. ولعبدالأمير الأعسم في: دراسة منطق ابن رشد، ضمن: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته: «ابن رشد كان يمتلك الوعي بالنص الأرسطوطاليسي بحيث استطاع أن يكُون الحكم العقلاني التاريخي على كل أقوال المفسرين والشراح والمتأولين لأقوال أرسطوطاليس». 1/81.
[20] درء تعارض العقل والنقل، 9/434.
[21] المرجع السابق، 6/210.
[22] في: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية، لعثمان شوشان، ص77:موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من سيف الدين الآمدي في الإلهيات، ليحيى الهنيدي، جامعة أم القرى، 1407هـ. وفي هذا الدليل (صدر سنة 1424) مئة وسبع وسبعون رسالة علمية، منها مئة وثلاثون رسالة درستْ تراث ابن تيمية، والباقي في تحقيقه.
[23]عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، ص118. نُشر «المبين» ضمن الكتاب السابق، وأفرده الأعسم في: الفيلسوف الآمدي، دراسة وتحقيق.
[24] هنا تعتيمٌ إعلامي آخر وربط لخيوط الحيلة، فهذه شخصيةٌ فلسفية أخرى كانت تدرس الفلسفة في دمشق، وليس ذلك فحسب، بل هو صاحب أهم كتاب في تراجم الفلاسفة في تاريخنا الإسلامي: عيون الأنباء في طبقات الأطباء. ولا تغترَّ «بطبقات الأطباء» هذه، فما أكثر ما صَرَف عن هذه الكتب أسماؤُها.
لما كان كثير من الفلاسفة يشتغلون بالطب، وكان عصر ابن أبي أصيبعة يمقت الفلاسفة، أخفى عقول فلاسفته بأردية الطب، فعوقب بأن أخفاه صاحبنا فلم يذكره ولا كتابَه في بحثه قط.
توفي ابن أبي أصيبعة سنة (668).
[25]حسن الشافعي ،الآمدي وآراؤه الكلامية، ص40، 43، 166.
[26]نقض المنطق، ص156، فهرس: الدرء، 11/149. وفهرس: منهاج السنة، 9/222.
[27] علي جواد الطاهر، منهج البحث الأدبي، ص19. عثمان أمين، ديكارت: «ضرورة المنهج وماهيته» ص76.(6/70)
[28] عبد الحكيم أجهر،ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام، ص82. محمود يعقوبي ،ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص7. قال إبراهيم عقيلي: «حاولت من خلال ما سبق التدليل على مفهوم التكامل المنهجي عند ابن تيمية، وكيف أنه حاول الاستفادة من جميع طرق المعرفة الممكنة فلم يلغ بعضها لحساب بعض، وإنما عمل بكل طريق في مجاله، ونظر إلى كل مصادر العلم على أنها متكاملة ومتداخلة لا مستقلة ومتباينة، وألغى المحاولات السابقة «للتلفيق» بينها على أساس أن بعضها تابع لبعض مطلقاً». تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، ص383.
[29] مدخل جديد إلى الفلسفة، ص53.
[30] إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، ص70. محمد عبدالستار أحمد، المدرسة السلفية وموقف رجالها من المنطق وعلم الكلام، ص248. ولزينب الخضيري: «لقد فعل ابن رشد لأرسطو مالم يفعله المؤلفون المسلمون إلا للقرآن ». أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، ص7.
[31] محمد عبد الستار أحمد، المدرسة السلفية، ص433.
[32] نقض المنطق، ص34.
[33] الرسالة الصفدية، ص252.
[34] بغية المرتاد، ص387.
[35] فصوص الحكم، 1/61. عن محقِّقَيْ: الرسالة الصفدية، ص253. ولعبد الرحمن بدوي في: تاريخ التصوف الإسلامي، ص78، إشارة لموقف ابن تيمية من ابن عربي.
[36] «للتوماويّ» يوسف كرم (ت 1959)، و«للراهب» الدومينيكاني جورج شحاته قنواتي (ت 1994)؛ أثرٌ بالغ السوء في كثير من مثقفي مصر، ولا سيما من أصبحوا فيما بعد أساتذة الفلسفة في مصر والعالم الإسلامي: محمد عبدالهادي أبوريدة، وعثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، وعاطف العراقي، وزينب الخضيري...
هذا الأثر يحتاج إلى توسّع لا تفي به هذه الإشارة.
وفي كتاب: أبونا قنواتي، ص 83: «والطريف أن الأب قنواتي عندما كان يرأس قدّاس الصباح في الدير، كان يضع فوق المذبح بطاقة صغيرة تحتوي على أسماء الذين في فكره وحسبانه ليذكرهم في صلاته، وكان يقرأ حوالي ثلاثمائة وعشرين اسماً .. منهم على سبيل المثال: طه حسين ..»!
وفي: العقل والتنوير، لعاطف العراقي، ص 475: «جثمان الأب الدكتور جورج قنواتي .. وقد وقف بجوار الجثمان تلميذه عاطف العراقي».
ولنا مع الفيلسوف «الكذَّاب» عاطف العراقي تلميذ الأب جورج؛ وقفة مع «كذبه المخزي» على ابن تيمية ومصطفى عبدالرازق في غير هذا القراءة إن شاء الله.
[37] رفيق العجم، موسوعة مصطلحات ابن تيمية، ص448.
[38] تجليات الفلسفة العربية، ص438.
[39] تركي بن سهو العتيبي، الليلة الأخيرة، ضمن كتاب: محمود الطناحي .. ذكرى لن تغيب، ص38.
[40] محمد عزير شمس، وعلي بن محمد العمران، الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، الفهرس التفصيلي: «انتقاله مع أسرته من حران إلى دمشق ـ تاريخه»، ص751.
[41]صالح مهدي هاشم، المشهد الفلسفي في القرن السابع الهجري، دراسة في فكر العلامة ابن المطهر الحلي ورجال عصره، ص335. وفي: الأعلام 2/228: «الحسن كما هو هنا ويخطئ من يسميه الحسين».
[42]عبدالأمير الأعسم، الفيلسوف نصيرالدين الطوسي، مؤسس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي، ص23، ص25.
وفيه ص41: «ومن هنا اختصه هولاكو به فأكرمه «غاية الإكرام» كما يشير إلى ذلك البحراني والخوانساري، ولم يمر وقت طويل على هذه الصلة التي أثارت في نفس النصير سعادة المطمئن بعد أن لاذ بالوحش من الوحش نفسه، أن أعلن بشكل رسمي أنه شيعي (اثنا عشري)؛ فأزاح عن وجهه قناع التقيّة التي لازمته طوال ثمانية وعشرين عاماً في قلاع الإسماعيلية، وكان ذلك الإعلان المدهش في الرابع عشر من شوال سنة 654هـ.. ليصبح فيما بعد الزعيم العقلي للفكر الشيعي بلا منازع حتى يومنا هذا، والفيلسوف الشيعي الأول الذي يفخر به التراث الشيعي بكامله».
[43] السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، 2/460.
[44] الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، ص53، 73. واللوم يقع ـ مع الناقل ـ على محقق «الشذرات» ومحقق «الدرر»، لأنهما لم ينبها على الوهم.
[45] ابن تيمية والمنطق الأرسطي، ص5.
[46] قال ديكارت: «معظم من أرادوا في هذه القرون الأخيرة أن يكونوا فلاسفة قد تابعوا أرسطو متابعة عمياء.. أما من لم يتابعوه ـ وفيهم كثيرون من ذوي العقول الراجحة ـ فلم يبرأوا من التشبع بآرائه في شبابهم، لأنه لا يُعَلَّم في المدارس سواها، وقد شغلهم ذلك شغلاً حال دون وصولهم إلى معرفة المبادئ الحقة». مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، ص35.
[47] مدخل نقدي لدراسة الفلسفة (1988)، ص143. وفي: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام، ص145: نظرية المنطق بين شيخ الإسلام ابن تيمية وفلاسفة الغرب، لجلال أحمد عبد النبي، جامعة القاهرة، 1989.
[48] المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، ترجمة عبدالرحيم البلوشي، ص135ـ 137.
[49] نقد نظرية القياس الأرسطية عند ابن سينا وابن تيمية، ص136. عن ابن تيمية وجون ستيوارت مل: علي سامي النشار، المنطق الصوري منذ أرسطو وتطوره المعاصر، ص424.
قال توفيق الطويل: «كان طبيعياً أن يفيد «مل» من الدراسات العلمية التي أدت إلى قيام الاستقراء وبيان خطواته ومراحله، وقد بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث». جون ستيورت مل، ص133. لاحظ قوله: «بدأت هذه الدراسات على يد روّاد الفكر الحديث».
[50] المنطق عند ابن تيمية، ص10، 333. ونؤكد أن بعض من أوردنا نقولهم لم يسلّموا لابن تيمية بكل أقواله، بل ناقشوه في كثير منها.
[51] محمد تقي المدرّسي ،المنطق الإسلامي، أصوله ومناهجه، «العلاقة بين الفلسفة والمنطق»، ص33.
[52] الرد على المنطقيين، ص45.
===============
الإسلام والغرب شقاق أم وفاق
إعداد : نصر بن محمد الصنقري
المقدمة :
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } أما بعد:
تردد في الآونة الأخيرة مصطلح (صدِام الحضارات) وأخذ هذا المصطلح يطفو على سطح الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمطبوعة وكأن العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب كونية ثالثة سوف تأتي على السلالة البشرية بأكملها وراح البعض يرّوج لفكرة أن الدين سيكون شرارة هذه الحرب..(6/71)
وما أن طغى مصطلح (صدِام الحضارات) على السطح، حتى ظهر مصطلح آخر وهو بمثابة الند أو الضد للمصطلح الأول وهو مصطلح (حوار الحضارات) ويرى أصحاب هذا المصطلح أو التيار أن الحضارات لا تتصارع ولا تتصادم وإنما تتكامل وتتبلور بحيث تعتمد كل حضارة على ما عند الحضارات الأخرى من علوم ومعارف وثقافات وعقائد، ويرى أصحاب هذا التيار أيضاً أن الأديان لا يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصدِام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب الإنسان من أخيه الإنسان. وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضاً هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات الإنسان في العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف مع الآخر.
غير أن الشاعر يقول :
أرى خلال الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لهم ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في ( الإسلام والغرب ) : من الموضوعات التي طرحت نفسها وبحدة خاصة بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، موضوع علاقة الغرب بالعالم الإسلامي. ففي الغرب يسألون لماذا يكرهنا المسلمون؟!.
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال يقولون : "إن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي اللذين يتمتع بهما، وإنهم وقعوا أسرى الماضي بدلاً من بذل الجهد اللازم ليلحقوا بركب الحداثة والتقدم، ولذا أخفقوا في تحديث مجتمعاتهم، الأمر الذي يزيد من عدائهم للغرب."
وفي المقابل يحاول بعض المسلمين تفسير العداء الغربي بالقول إن اللوبي الصهيوني -وأحيانا اليهودية العالمية- هي التي تحرض الغرب ضدنا. وهناك من يرى أن الغرب لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين وربما تنصيرهم. ......................................الجزيرة 4/11/2004.
ثم يقول : وقد يكون هناك شيء من الصحة في كل هذه العناصر، ولكنها قاصرة عن تفسير ظاهرة في شمول وعمق التوتر المتصاعد في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.
فكان أن انقسمت الناس فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق بالركب الحضاري الغربي والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا وحضارتنا وقيمنا أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية والضمير وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب أن تسود العالم ، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع لها ، وهؤلاء بالطبع منافقون ومخادعون فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة ، ولا هي حضارة ذات أخلاق ، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه ، هؤلاء بالتحديد يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة خاصة بعد أن شحذ الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد ، وفضلاً عن أننا سنكون مجالا للنهب فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا وهذا بالطبع مرفوض .
واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها.
ومن هنا ألينا على أنفسنا صبر غور هذا التوتر ووضعه في حجمه الطبيعي ، وبيان ما إذا كانت العلاقة مع الغرب هي علاقة الحوار أم علاقة الحرب والدمار ، ويمكن القول إن ثمة عناصر يمكن أن تؤدي إلى توتر العلاقة بين الإسلام والغرب، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تشكل أساساً للتفاهم والتعاون.
ولكن قبل الوصل إلى هذه النتيجة لابد من استعراض الصراع الغربي مع الإسلام ، ولا بد كذلك من توضيح بعض معايير الغرب في نظرته إلى العالم الإسلامي السياسي والديني ، وإلى الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، كما لابد أن نبين الأخطاء التي يقع فيها الكثير من المسلمين فيعطوا بذلك الفرصة للغرب ليشنع على الإسلام والمسلمين ، سواء كان ذلك حقاً أو مكراً ودهاءً.
غير أنه يجب التأكيد في الوقت نفسه على أن حرية التعبير وحرية الإعلام شيء، والإساءة والتحريض على الآخر ومعتقداته الدينية وقيمه الروحية شيء آخر...... هذا ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق ............
وكتبه /نصر بن محمد الصنقري .......مرسى مطروح .
التمهيد :
إن الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السابقة يدعو إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وبملائكته وبرسله وبكتبه المنزلة وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، عاجله وآجله ، ويدعو إلى القيم الخلقية النبيلة التي دعت إليها الأديان، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ "(1).
من هذا المنطلق نرى أن الإسلام منهج "منهج حياة" حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته.. ..............................من كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب.
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا - في واقع مجتمعهم- أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هكذا. ولم يكن هكذا. ولا يمكن أن يكون هكذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..
إن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود الغربية والتغريبية ، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه....المستقبل لهذا الدين بتصرف وبعض الزيادات .(6/72)
لقد وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل عام 1864 في جامعة أدنبره العريقة في الدراسات الصليبية وبالرغم من أنه هاجم القرآن إلا أنه عندما جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 'لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين أن يستمع أو يصدق ما يقال من أن محمداً كان دجالا وكذابا. فكيف بالله عليكم يستطيع الكذاب أن يبني أمة عظيمة تمتد جذورها في هذه المساحة الشاسعة؟. وكيف بالله عليكم للكذاب أن يأتي بكتاب يستطيع أن يسيطر على نفوس وعقول وقلوب معظم سكان الأرض؟'.
ومن هنا اختاره الله لنا اسماً ورسماً ، ومظهراً وجوهراً ، وقلباً وقالباً.
أولاً : يقول تعالى في حق الدين الإسلامي ، وموقف الغرب منه : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة،
ويقول تبارك وتعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } (19) سورة آل عمران ،
ويقول عز من قال : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } (85) سورة آل عمران ،
ويقول أيضاً : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة، ويقول عز جاهه : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (20) سورة الأنعام
ينقل الشيخ سفر الحوالي في كتابه كشف الغمة عن علماء الأمة خطط الغرب للسيطرة على منطقة الخليج وحقول النفط ، ومن ضمن ما نقل أيضاً حرص الغرب على حرب الإسلام واعتباره الخطر الأكبر عليهم في العالم الثالث ، وأنقل من كلامه بعض المقتطفات التي نقلها ذات الطابع الهجومي يقول في صـ 32 ـ " والواقع إن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يَعُدُ الإسلام رأس الحربة فيه ، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم إنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة ، و سُئل الرئيس التركي عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو - فأجاب بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية !!.
ونقل الشيخ أيضاً صـ 37ـ " وفي الوقت نفسه جرى الإعلان أيضاً عن وظيفة جديدة للمخابرات الأمريكية في ظل الوفاق (وهي قديمة في الواقع) فقد أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج (عالم الظهيرة) ما نصه تقريباً:" إن الجهد الرئيسي للمخابرات الأمريكية الذي كان منصباً لمراقبة إمبراطورية الشر -يعني الاتحاد السوفيتي- سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها ".
وأذاعت تعليقاً لصحيفة الفايننشال تايمز قالت فيه:إذا كانت أمريكا تشجع الاتجاهات الديمقراطية في شرق أوروبا ودول العالم الثالث فإنه يجب عليها ألا تشجع تلك الاتجاهات في العالم الإسلامي لأنها بذلك تدفع –دون أن تدري- بالأصوليين إلى تسلم زمام السلطة في ذلك العالم!!!
والواقع أن مثار الذهول ليس مجرد التهديد بالتدخل فقد تدخلت فرنسا فعلاً في دول كثيرة منها (زائير ووسط أفريقيا وساحل العاج وتشاد والجابون) ولكنه في الجراءة على إعلان بعض مخططات الغرب السرية وإشهار الحرب الصليبية الذي يزيد الصحوة الإسلامية ـ بإذن الله ـ اشتعالاً ويرسخ قدمها .
وأنقل هنا مقالات لبعض ساسة الغرب ورجال الدين فيها وهي تدل على أن الغرب بجميع اتجاهاته يعد العدة لحرب صليبية تجهز على الإسلام بزعمهم ، وفكرة الحرب الصليبية أو كما يسمونها الحرب بين قوى ( الخير والشر ) أو بين قوى ( الظلام والنور ) أو بين ( العدالة والظلم ) كل هذه الأسماء التي يستخدمها الأمريكيون وقادة دول التحالف ضد الإسلام لم تكن عبارات جديدة بل هي عبارات أصولية قديمة بالنسبة لهم مستقاة من كتبهم ومن نبوئتهم الخرافية و متأصلة في الفكر الغربي المتطرف ، والمعركة التي يقودها الآن هم الإنجيليون العسكريون ، أو المتطرفون البروتوستانت .
يقول خفير سولانا أمين عام حلف شمال الأطلسي سابقاً في اجتماع للحلف عام 1412هـ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي " بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط العدو الأحمر يجب على دول حلف شمال الأطلسي ودول أوربا جميعاً أن تتناسى خلافاتها فيما بينها وترفع أنظارها من على أقدامها لتنظر إلى الأمام لتبصر عدواً متربصاً بها يجب أن تتحد لمواجهته وهو الأصولية الإسلامية " .
ويقول جلادستون رئيس وزارء بريطانيا سابقاً موصياً بإبعاد الناس عن دينهم تمهيداً للحرب الصليبية " ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق " .
ويقول ألبر مشادور " من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية ، وفي الوقت المناسب " .
ويقول القس لورانس براون داعياً إلى تفريق الأمة " إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له ، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير
ويقول أرنولد توينبي " إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ " .
ويقول المستشرق الأمريكي وك سميث الخبير بشئون باكستان " إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي ، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد ، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها " .
ثانياً : يقول تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (56) سورة الفرقان ، ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب، ويقول عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ
ثالثاً : وقال تعالى في حق المتبعين لهذا الدين : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج(6/73)
رابعاً :عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّt ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ ومِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَالَ : (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ) ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا ، فَقُلْتُ : رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً ، قَالَ : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ ، قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ : مُقْسِطٌ ، مُتَصَدِّقٌ ، مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ، قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ : الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ ، تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ "........................................أخرجه مسلم في صحيحه وأغلب أهل السنن.(6/74)
خامساً : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قَالَ : أَبُو سُفْيَانَ ، فَقُلْتُ : أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا ، قَالَ : مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، فَقُلْتُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي ، فَقَالَ : قَيْصَرُ أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ ، قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : لَا ، فَقَالَ : كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ، قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ، قُلْتُ : لَا وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا ، قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ ، قُلْتُ : كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، قَالَ : فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ، قَالَ : يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ ، قُلْتُ : ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ ، عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ ، هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ : فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ، قُلْتُ : يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا ، قُلْتَ : حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ ، تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَأَهْلَ الْكِتَابِ(6/75)
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا ، فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ ، قُلْتُ لَهُمْ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ ، وَأَنَا كَارِهٌ " ............................أخرجه البخاري وأهل السنن .
ولا حاجة بنا إلى الإطالة أكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه ، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. أو الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. أو الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. أو الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
جذور الصراع بين الشرق والغرب (2)
إن الدراسة المنصفة والمحايدة في موضوع الإسلام والغرب هي وحدها التي تبرز صورة الإسلام الحقيقية أمام الغرب وهي وحدها التي تدفع المسلمين إلى مزيد من التواصل مع الغرب.
وليس مطلوبا من العالم الإسلامي أو من الغرب أن ينسيا وقائع التاريخ في علاقة المسلمين بالغرب، ولكن المطلوب أن تكون عبرة هذا التاريخ ماثلة أمامنا.
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب منذ فجر التأريخ الإنساني المدون، الذي تتنازعه اليوم أراضي الرافدين وشواطئ البحر المتوسط حيث دارت أكثر حوادث التأريخ لهباً وعنفواناً.
شهد الشرق قيام سلسلة متتابعة من الحضارات تعود إلى نحو ستين قرناً قبل الميلاد من عيلام وسومر في العراق إلى مصر إلى غيبلا في الشام إلى الوثبة الفارسية في طيفون، لم تخل من مناوشات بين الشرق والغرب، ولكن لم تسجل مواجهة حقيقية بين الشرق والغرب حتى القرن الرابع قبل الميلاد.
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب مع خروج الإسكندر الأكبر من معاقل الرومان التقليدية في البلقان صوب الشرق، حيث قدر الله للجواد الذي يركبه أن يجتاز مضيق الدردنيل ويتحرك صوب سحر الشرق الآسر، وهناك يمضي من أفق إلى أفق فيجتاح آسيا الصغرى وبلاد الشام ثم السهول الإيرانية، فيحطم أمجاد الفرس ويمزق دولة ساسان، ثم يوغل في الشرق فيروي خيله من نهر جيحون ويجتاز بلاد ما وراء النهر، حيث يبلغ سحراً آخر يحمله إلى القارة الهندية فيدك ما واجهه من الممالك، ويبلغ في النهاية إمبراطورية الصين حيث لم يعد ثمة بعدها شئ يمكن أن يباهي بإسقاطه.
وحين عاد الإسكندر إلى أثينا ليبتهج بنصره شاباً غضاً، أدرك أنه ليس إلا دورة واحدة من دورات الحياة، وأن تبدل المقادير ماض إلى غاية لا يمكن أن تتوقف عنده طموحات الإسكندر.
لم يطل المشهد حتى انبعثت شعوب آسيا الراقدة تضرب في جيوش الاسكندر كل وجه، وتحيل ليهبهم إلى رماد، حيث يمزقون إلى بطالسة وسلوقيين، وتبرز مشاهد متعاقبة من الأكاسرة الجبارين، تطرق أبواب أوروبا من الأناضول في هبة الشرق العارمة، في صد أطماع الغرب.
بعد أقل من قرن يضرب مانيبعل بسياطه الموجعة في قلب الحواضر الأوربية، ويسجل غضب الجنوب على الشمال، وتثأر قرطاجة للإسكندرية ويشتعل المتوسط بنار الكراهية من جديد
في غمرة هذا الصراع كان هناك مشروع آخر يتم إعداده في روما الإيطالية التي تتدلى في قلب البحر المتوسط في إرادة جادة للمواجهة، تحت عنوان الإمبراطورية الرومانية والتي ستصبح المقدسة فيما بعد وتنطلق الأطماع الرومانية من جديد فتلتهب البلاد المتشاطئة في البحر المتوسط، في القرن الأول قبل الميلاد، ويمضي المشروع الروماني إلى أم الدنيا مصر، ثم يرسم ملامح وجود جديد على طول شواطئ المتوسط ليصبح بحيرة رومية، ثم يجتاح بلاد الشام ويصل إلى مواجهة مباشرة مع الحضارة الساسانية الفارسية، حيث سيبدأ صراع ساخن سيستمر سبعة قرون.
ومع وصول الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام في القرن السابع الهجري كان الشرق يستعيد عافيته ليقوم بالمواجهة مع الغرب وعندما رحل القيصر من أرض الشام كان يعلم تماماً أنه يرحل رحيلاً لا عودة عنه، وأن فصلاً جديداً من تأريخ العالم يكتبه هذا الفتح الإسلامي الطامح، الذي باكر إلى محاولة دك أسوار القسطنطينية مؤكداً على روح المواجهة.
تمضي القرون خمسة تبوء محاولات الغرب البائسة في اختراق آسيا بالفشل وتتحطم أوهامه عند مضيق الدردنبل، حيث يقوم الرباط على ثغور كيليكية بلجم الأوضاع الأوربية في الشرق الإسلامي، حتى تنفجر أوروبا بالأوهام الصليبية عندما يمضي بطرس الناسك في القرن الحادي عشر برسالة أوران الثاني ليحشد أوروبا في جحافل الحملات المسعورة لأطماع الفرنجة تحت عنوان الحروب الصليبية، وتنشأ مواجهة أخرى بين الشرق والغرب استمرت مائتي عام ركز فيها الغرب راياته على أمارات كثيرة في الشرق من الرها إلى دمياط، ولكن الشرق انتفض مرة أخرى وما بين صلاح الدين والملك الكامل والظاهر بيبرس وصلت الرسالة إلى أرض الأناضول ليترجمها محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عام 1453م، حيث ستبدأ جولة أخرى من الصراع ستكون هذه المرة في عمق الأرض الأوربية، وسيسمعها الغرب بوضوح على أسوار فيينا في قلب القارة الأوربية.
بعد أقل من قرنين استأنفت أوروبا تاريخ الصراع عندما تفجرت الثورة الملاحية من الجزيرة الأيبيرية وجرفت في طريقها الأندلس لتمتد شريطاً ساحلياً يطوق العالم الإسلامي من طنجة إلى جزر سيلان عبر رأس الرجاء الصالح ومن ثم إلى أرخبيل ، ويتبعها وصول فرنسا إلى سواحل مصر أيام نابليون الذي افتتح الحقبة الاستعمارية الجديدة في الشرق العربي.
أثر الحضارة الإسلامية على حركة الحياة الأوربية:
يقول الدكتور عبود:"لم تكن الحروب الصليبية ـ كما نعلم ـ أول احتكاك بين الإسلام والغرب، بل كان هناك هذا الاحتكاك منذ السنين الأولى من تاريخ الإسلام، عن طريق الفتوحات الإسلامية عبر الشام وعبر الشمال الأفريقي، ثم الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط.
وما من شك في أن الحضارة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي على وجه الخصوص، قد أفادت من الحضارة اليونانية عبر جهود الترجمة التي قام بها العلماء العرب والمسلمون لكثير من المعارف التي كانت سائدة آنذاك عدا المعارف التي تتعلق بالعقائد الوثنية اليونانية، ثم كان الهضم والتمثل والإضافة والإبداع ذو الخصوصية الإسلامية الذي شارك فيه العلماء المسلمون من الأجناس المختلفة المكونة للحضارة الإسلامية.(6/76)
وكان على أوربا أن تتلقى العلوم والمعارف على أيدي علماء الإسلام بعد أن كانت تغط في سباتها العميق في مرحلة ما سموه بالعصور الوسطى وكان ذلك عن طريق التماس والتفاعل العميق في كل من الأندلس وصقلية، وعبر الحروب الصليبية.
لقد أسس المسلمون في الأندلس حضارة عريقة شملت مظاهر الحياة كافة من علوم وصناعات وفنون ومظاهر سلوك، بحيث أصبحت الأندلس من الحواضر الإسلامية المرموقة، وكانت قبلة للزوار من طلبة العلم والعلماء على السواء، سواء من المشرق الإسلامي، أو الغرب الأوربي. وكان الاتصال بين المسلمين والأوربيين سهلا ، وكان اللقاء والتلاقح قائمين حيث كان الإقبال شديداً على تعلم اللغة العربية وتعلم أنماط العلم والثقافة، وتقليد المسلمين في مظاهر حياتهم الحضارية.
وكانت الترجمة من العربية إلى اللاتينية واحداً من مظاهر هذا التفاعل، وكان اقتناء الكتب، وإنشاء الجامعات على غرار الجامعات العربية مظهراً آخر من مظاهر هذا التقليد والاقتباس.
هذا في مراحل السلم، أما في المرحلة التي استطاعت الإمارات الأوربية المجاورة للأندلس أن تتهيأ للهجوم على الحواضر الإسلامية الأندلسية، فكانت تستولي على مكتباتها وتجتهد في ترجمتها خاصة تلك التي تتوفر على علوم الهندسة والطب والفلك وغيرها، حدث هذا حين استولى الفونس السادس سنة 1085م على قرطبة، ثم تبعتها طليطلة وساليرنو وغيرها.
أما صقلية التي فتحها الأغالبة القادمون من تونس عام 827م، وتمكنوا ـ بعد ذلك ـ من تهديد روما مرتين، مما اضطر البابا حنا الثامن أن يدفع الجزية لمدة سنتين.
في هذه الجزيرة أقيمت حضارة راقية تضاهي الحضارة التي قامت في الأندلس. وكان انتقال الحضارة الإسلامية منها إلى أوربا سريعاً ومؤثراً، وقد وصفت صقلية بأنها جنة أهل العلم آنذاك، وقد بدت آثار الحضارة الإسلامية فيها. ويمكن أخذ (فردريك الثاني) حاكمها الذي أغرم بالعلوم الإسلامية والثقافة الإسلامية مثالاً لهذا"أ.هـ د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل
أما اللقاء الإسلامي الأوربي عبر الحروب الصليبية، فقد كان عظيم الأثر في حركة الحياة العلمية والفكرية في أوربا. فقد عاد الأوربيون بعد هزيمتهم في المشرق الإسلامي، وهم أكثر معرفة وخبرة بطبيعة الحياة في العالم الإسلامي، فلم يعودوا يؤمنون بما كان يروجه القساوسة والرهبان عن هذه الحياة وعن طبيعة التفكير لدى المسلمين، بل عادوا وهم يحملون معلومات ناضجة، وتجارب غنية عن الإنسان المسلم وإنجازاته العلمية، وعن الأرض وطبيعتها، بل وعن مواطن القوة والضعف في الديار الإسلامية عامة.
ويمكن القول بأن (الحروب الصليبية انتهت بانتصار المسلمين عسكرياً، إلا أن المسيحيين استطاعوا أن ينتصروا علمياً من خلال الذخائر العلمية التي حصلوا عليها في فترة حربهم مع المسلمين) ..لقد حدث في أوربا بعد الحروب الصليبية ثورات كبرى في مجال العلم، بل والدين.
ففي مجال العلم كان ظهور المنهج العلمي التجريبي الذي نما وازدهر على أيدي المسلمين، بعد أن استنقذوه من أيدي تلاميذ أرسطو الذين رسخوا المنهج الاستنباطي لسنين طويلة، فكان ظهور روجرز بيكون، 1214 ـ 1294م الذي كان على صلة تامة بالعلوم العربية ومنهجها، ثم تلاه فرنسيس بيكون وغاليلو وغيرهم، حيث كانت جهودهم امتداداً لجهود الرازي وجابر بن حيان وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من العلماء المسلمين.
وعلى المستوى الديني كان ظهور توما الإكويني 1255 ـ 1274م، الذي أصلح كثيراً من مظاهر التفكير اللاهوتي المسيحي بما تعلمه من مناهج المسلمين وطرق تفكيرهم في العلوم والعقائد، ثم تلاه مارتن لوثر الألماني بثورته الدينية العارمة التي اقتبست الكثير من طريقة المسلمين في علاقتهم بربهم وعلمائهم الروحانيين خاصة.
إن الأمر الذي يكاد يجمع عليه الباحثون عدا بعض المستشرقين والمفكرين الأوربيين المتعصبين هو أن أوربا أفادت من علاقاتها بالإسلام وأهله في مواطن اللقاء كلها، وإن النهضة الأوربية لم تحدث في القرن السادس عشر كما هو شائع، بل بدأت قبل هذا منذ القرن العاشر بفعل الشروع بحركة الترجمة والنقل عن العربية عبر الأندلس وصقلية، كما أشرنا.
ويقول الكاتب الأسباني " أبانيز " في كتابه: (ظلال الكنيسة) عن غزو العرب لأسبانيا:(لم تكن غزوة فتح وتدويخ بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة. ولم يتخل أبناء الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهى الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب. فقبلوا في المدن التي فيها الأشعار بمهارة لا تفوقها مهارة العرب أنفسهم).
ولقد كان التأثير الإسلامي شاملاً في العلم والفنون والآداب والعادات، ويحضرني هنا قول للروائي الفرنسي (استاندال) في كتابه (في الحب): ((لقد كنا برابرة ... لقد اقتبسنا أنبل عاداتنا عن طريق الحروب الصليبية والغرب في أسبانيا)).
على أنه من الضروري التأكيد على أن الأوربيين أخذوا من المسلمين الوسائل، ولم يأخذوا الغايات والأهداف، وكان لهم طريق ومنهج آخر في التعامل مع العلوم الإسلامية، بل إنهم حين دالت دولة الإسلام، وقويت شوكتهم أعادوا الحروب الصليبية ثانية، ولكن بأساليب جديدة وأحقاد جديدة، وعاد الصراع كما هو، وعاد الشرق شرقاً، والغرب غرباً، كما هما منذ قديم الزمان، ولكن الهجمة الأوربية في هذه المرحلة كانت قاسية وتدميرية.............. د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل.
عصر الاستعمار والاستكبار :
لعل أفضل تسمية لهذا العصر الذي يطلق عليه عصر النهضة أو العصر الحديث أن يسمى بعصر الاستعمار والاستكبار ، لأن أ برز ظاهرة فيه هي ظاهرة الاستحواذ على خيرات الشعوب واستعبادها.
ويهمنا أن نشير هنا إلى الخطط التي وضعتها أوربا المسيحية لمواجهة الإسلام بعد فشلها في الحروب الصليبية. لقد أدرك المهزومون عسكرياً أن لا جدوى من قتال المسلمين ومواجهتهم مواجهة مباشرة في سوح القتال، وأنه لابد من سبل أخرى لاختراقهم وإضعافهم والانتصار عليهم. وهذا هو فحوى وصية (لويس التاسع) قائد الحلمة الصليبية السابعة (وهي الأخيرة) إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في درنية المنصورة بمصر.
وكان لابد من تغيير المنهج والأداء في التعامل مع الإسلام ومعتنقيه، بعد هذا التعرف على مواطن قوته التي تكمن في عقيدته وشريعته.
وهكذا كان، فقد اتجهت أوربا اتجاهين متوازيين يعضد أحدهما الآخر:
الأول: تقوية أوربا عسكرياً واقتصادياً وعلمياً.
والثاني: اختراق العالم الإسلامي وتطويقه ودراسته دراسة قائمة على العلم والمكر والدهاء.
عوامل التقدم الأوربي ومعاييره(6/77)
أما كيف قويت أوربا واغتنت فتلك قضية تحتاج إلى بسط في القول وتفصيل، نجمله بالقول بأن أوربا بعد التحدي الإسلامي الذي واجهها واستعصى عليها وكسر شوكتها، خاصة بعد التقدم الإسلامي من جهة الشرق على يد الأتراك، وبقيادة محمد الفاتح، الذي تم على يديه فتح القسطنطينية عام 1453م، أعتى وأمنع حصن للصليبية، وكاد يواصل تقدمه إلى قلب أوربا وغربها، بعد هذا الهجوم الإسلامي أفاقت أوربا من هول الصدمة ورجعت إلى ذاتها واستندت بتراثها وعجلت من تكثيف جهودها على إخراج المسلمين من الأندلس، وقد تم لها هذا بالاستيلاء على المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها سقوط غرناطة عام 1492م. وقد تزامن مع هذا الجهد العسكري جهد مكثف من لدن الأسبان والبرتغاليين لاختراق طرق التجار التي كانت بيد المسلمين، وقد توجت هذه الجهود بالوصول إلى الأمريكتين على يد كريستوفر كولومبس عام 1492م، وهو نفس العام الذي استولى فيه الأسبان والبرتغاليون على غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس.
وتشير بعض المصادر إلى أن هذا الاكتشاف تم بالاستعانة ببعض البحارة المسلمين وبالمعلومات الجغرافية التي توصل إليها المسلمون. فمن المعلوم أن الشريف الإدريسي صنف كتابه الهام (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) تحت رعاية الملك رجار الثاني في صقلية. وكان قد أشار فيه إلى كروية الأرض وإلى معلومات فلكية وجغرافية وظفت في عصر النهضة العلمية والكشوفات الجغرافية فيما بعد.
وعلى المستوى الداخلي الأوربي فقد ساعد التحرر السياسي والديني من قيود الكنيسة التي كانت متحالفة مع الملوك والإقطاع على التطور والنمو في التجارة والزراعة والصناعة ومجالات الابتكار العلمي كافة. وقد رفعت المصادرة والتأمين والضرائب الباهظة على النشاط التجاري والصناعي والزراعي، وأسست الشركات المساهمة وتم التنظيم الدقيق للعمل، وساهمت الدولة في تعضيد النشاط الفكري والعلمي فكان ما كان بعد هذا من الثورة الصناعية والانتقال من الخشب إلى الحديد ثم إلى الكهرباء ... وكان أن التحم العلم والثروة والسياسة في وحدة وتعاون، بعد أن كان كل منهما يسير في سياق مستقل.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري :" ويمكن القول إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ.
وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيم أو(كما يقولون بالإنجليزي value-free)
وفي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم نسبية، وعندئذ يصعب الحكم على أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل بين الجوهري والعرضي، وأخيراً بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والمادة.
وفي غياب قيم مطلقة يمكن الاحتكام إليها، تظهر آلية مادية واحدة ووحيدة لحل النزاعات والخلافات -التي هي من صميم الوجود الإنساني- ألا وهي القوة والإرادة.
وفي هذا الإطار تمركز الغرب حول ذاته، وجعل من نفسه مرجعية نهائية ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات، ونظر إلى العالم لا باعتباره كيانات مستقلة لكل منها طموحاته المشروعة وأهدافه المختلفة، وإنما باعتباره مادة استعمالية من حقه أن يوظفها لحسابه باعتباره الأقوى. وهذا هو جوهر الرؤية الاستهلاكية الإمبريالية."...........................الإسلام والغرب .
على أن أهم مصدر من مصادر الغنى الأوربي في هذه المرحلة هو النهب الاستعماري في القرن الخامس عشر على يد البرتغاليين والأسبان الذين ذهبوا للبحث عن الذهب في أفريقيا الغربية ثم انتقلوا منها إلى الهند، ثم تبعهم الهولنديون الذين نهبوا خيرات الدول الواقعة جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا والفلبين وأندونوسيا، وجاء بعدهم الفرنسيون وما كان منهم من نهب في الفيتنام، وما كان منها من استحواذ على خيرات أفريقيا الشمالية والوسطى، فكان العنب من الجزائر والمنغنيز من المغرب وموريتانيا، والنفط من الغابون .. وأخيراً ورثت بريطانيا هذه الدول الاستعمارية وكانت أكبر دولة أوربية تستأثر بثروات الأمم وتستجلبها إلى بلادها، ولعل نهبها لدولة كبيرة مثل الهند خير دليل على حجم الأموال والثروات والطاقات التي أفادتها من هذه البلاد. وكان ما كان بعد هذا من نمو الصناعة الأوربية بفضل نمو رأس المال وتكديسه في أوربا، فكان السعي الحثيث ـ بعد هذا ـ إلى السيطرة على الأسواق خارج أوربا، فكان التنافس مرة أخرى على تصريف السلع والمنتجات في بلدان العالم الفقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان هذا الاستئثار والنهب والتدمير ذا وجهين:
وجه استجلاب المواد الأولية للصناعة من البلاد المستعمرة، ووجه تصدير هذه المواد بعد تصنيعها إلى هذه البلدان نفسها ..
لقد كانت مرحلة عتو واستكبار وشراهة أوربية على خيرات الشعوب واستعبادها. فما من دولة أو منطقة من مناطق العالم غير الأوربي إلا ولونت بلون الدولة الأوربية التي تستعمرها مثل أسبانيا، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بل وروسيا القيصرية التي استطاعت أن تقضم المنطقة تلو المنطقة من الدولة العثمانية وإيران، وتدخل في التنافس على اقتسام العالم الإسلامي وتمزيقه ونهب خيراته، وتدمير حضارته، واستغلال إنسانه.
استوت أوربا كلها غربها وشرقها في هذا الهدف الاستعماري التدميري وتعاونت جميعها في تبادل الخبرات وتطوير وسائل التدمير والنهب والإضعاف.
لقد تكدست الثروات في أوربا، وساهمت في تعجيل وتبرة التقدم العلمي، ومدت الآلة العسكرية بمزيد من التطور، وساهمت في الإنفاق على الأساطيل التي صارت تجوب شرق العالم وغربه، ومن ثم إنفاق الأموال الطائلة على كل ما من شأنه إضعاف المسلمين، ووضعت خططاً شاملة لهذا التدمير والاستغلال والإضعاف. وكان أن أفادوا من تجاربهم السابقة الفاشلة.
فقد تعلموا أن الحرب والعداء المباشر ونفي الدين الإسلامي غير مجد، فلابد من تحسين صورة المحارب الأوربي والجيوش الأوربية الغازية للعالم الإسلامي على أن هدف الأوربيين هو التحضير وتحرير الشعوب من الجهل، أو من ((الاستعمار التركي)) كما صورته الدراسات الأوربية.
وقد تعلموا كذلك أنهم كانوا إبان الحروب الصليبية قد أقبلوا على بلاد لم يدرسوها جيداً، فلابد أن توضع الدراسات الشاملة المعمقة المتشعبة لديار الإسلام في هذه المرحلة من أجل الاختراق ومن ثم الاستيلاء، ولم ينسوا في هذا المجال أن يلتفتوا إلى مسألة التعاون مع الأقليات غير الإسلامية واستغلالها في خلق بؤر وجيوب مناصرة لهم داخل الجسم الإسلامي.
تعلموا هذا كله، واستغلوه أحسن استغلال، وكان الانسجام والتنسيق التام بين الأهداف والوسائل، فكان الاستشراق. وكان ثمة فرق بين ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية أثناء الحروب الصليبية وبعدها، وبين دراسة العالم الإسلامي والتعرف على تراثه وخصائصه وطرق تفكيره وكنوزه ومواطن قوته وضعفه في هذه المرحلة.(6/78)
فقد كانت الأولى من أجل إثراء الثقافة الأوربية ورفع مستواها إلى الدرجة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة. أما المرحلة الاستعمارية فقد كان فيها هذا الانفتاح على عالم الإسلام ودراسته من أجل تعديل حضاري وسياسي في المنطقة الإسلامية نفسها بما يخدم أوربا ذاتها فكان لهذا الاستشراق أهداف متعددة، منها الدينية من أجل تشويه الإسلام والوقوف في وجه امتداده إلى أوربا، ومنها الاقتصادية لتسهيل اكتشاف ممرات البحار الإسلامية، والصحاري الشاسعة في البلاد الإسلامية، وإمداد يد العون للجيوش الاستعمارية، وكانت وسيلتهم في ذلك الرحّالة والمغامرين، فضلاً عن الأهداف السياسية الطامحة إلى وضع مخطط جديد للمنطقة بحيث تلحق كلياً بأوربا، وتصبح جزءاً من منظومتها الحضارية، بعد عمل الوسائل اللازمة لتفريغ العقل الإسلامي من موروثاته وخصائصه كلها.
وكان قبل البدء بالهجوم العسكري والانقضاض على الجسم الإسلامي لابد من رسم خارطة لهذا الجسم. وكانت البداية جيشاً من نمط آخر، جيشاً من الرهبان والقناصل والمتطوعين ممن عرفوا شيئاً من العربية في أوربا، ساحوا في طول العالم الإسلامي وعرضه، يجمعون المخطوطات العربية وغير العربية في بلاد الإسلام شراءً وسرقة، شأنهم في ذلك شأن من سرقوا الآثار الثمينة في أهرامات مصر وغيرها من آثار المدن التاريخية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه من طنجا إلى جاكرتا، ثم يتبرعون بهذه الكنوز إلى الملوك أو الكنائس أو المؤسسات التي وظفتهم لهذا العمل الذي سيخدم الاستعمار العسكري ويمهد له.
ثم عضد هذا جيش آخر من المبشرين الذين توزعوا ما بين أفريقيا وآسيا بحماس منقطع النظير، إذ عاشوا في بيئات صحراوية أو استوائية صعبة، يحملهم على هذه التضحيات الأهداف الدينية المسيحية التي نذروا أنفسهم من أجلها. وكان هذا الجيش من المبشرين ينجح في أحيان كثيرة في تنصير الناس من غير المسلمين في أفريقيا وآسيا، وفي أحيان قليلة بين أوساط المسلمين وبين الأطفال والمعوزين والمرضى، لأنهم وجدوا في العلاج الطبي مدخلاً إلى قلوب الناس، إذ كان منهم الطبيب أو ممن له طرف من العلم الطبي. وكانت لديهم إمكانات مادية ضخمة توفرها لهم الكنائس ووزارات ما وراء البحار، وكانوا يستثمرون هذه الإمكانات لتنصير الناس الفقراء خاصة.
وكان هذا التبشير يتقدم ويكسب مواقع جديدة في دار الإسلام فكان يقوم عمله باستمرار بتوجيه من مراكز القرار في أوربا، وقد عقدت عدة مؤتمرات لدراسة ثمار التبشير في العالم الإسلامي، منها المؤتمر الذي ترأسه (زويمر) في القاهرة عام 1956. وقد استوحى أول شاتليه من هذا المؤتمر تعبير (الغارة على العالم الإسلامي) بكل ما تعنيه الغارة من استعداد للغزو بأسلحته ومعداته.
يقول د/ محمد السيد الجليند :ولقد اختلفت مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامي وقضاياه تبعا لاختلاف أديانهم أو مذاهبهم الفكرية والسياسية، لأننا نجد بين صفوف المستشرقين اليهودي الحاقد على الإسلام وأهله، والمسيحي الراهب المبشر بدينه، والشيوعي الملحد الذي لا دين له، ولابد أن تختلف مواقف هؤلاء جميعا تبعا لانتمائهم الفكري والعقائدي، ولكن على سبيل العموم كان أسوأ هؤلاء جميعا هم المستشرقون اليهود، فمنهم من يتهم الإسلام بأنه دين فرضه محمد وأتباعه بقوة السيف والحروب.
وفيهم من ينكر نبوة محمد ويرى أن ما جاء به من تعاليم قرآنية أخذها عن أحبار اليهود وكهنة النصارى.
ومن المستشرقين من يتهم إله المسلمين بأنه متعال جبار ؛ بينما إله النصارى عطوف ودود متواضع ظهر للناس في صورة واحد منهم وهو عيسى بن مريم، ولا يكاد يخلو كتاب استشراقي يتصل بالإسلام ونبيه إلا وهو يقطر سما وحقدا على الإسلام والمسلمين، ويفصح بعض المستشرقين عن هذا الحقد المعلن في تعليق صريح له، على الحملات الصليبية فيقول: وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما تضمنه من قوانين الأخلاق الساذجة............. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ولقد تعاون التبشير والاستشراق معاً في اختراق العالم الإسلامي، وعملا على تشويه الإسلام في الذهنية الأوربية، وإضعاف تأثيره بين أبنائه، كما استطاعا أن يكونا سلاحين ماضيين بيد الاستعمار مهد له القيام بمهمته العسكرية والسياسية والثقافية أحسن تمهيد، بل إنهما صنعا جيوباً دينية وفكرية موالية للاستعمار ساهمت في توطيد أركان حكمه فيما بعد.
يقول محمد السيد الجليند: يعتبر الاستشراق من أهم الوسائل التي مهدت للاستعمار العسكري وغزو الشرق ثقافيا وعسكريا، والاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، وعاداتها، وتقاليدها، وأفضل الرسائل للسيطرة عليها بأقل قدر ممكن من التكاليف، والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وهما أكثر القرون في النشاط الاستعماري) يعلم مدى الصلة القوية بين الاستعمار و الاستشراق، ومن هنا فإننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمارية مستشرقين عاملين بها، ويقع على عاتق هؤلاء المستشرقين مهمة الاتصال بالعقول المفكرة في البلاد التي يريدون السيطرة عليها ثقافيا أو عسكريا وكذلك الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في مجالات الثقافة والإعلام والتعليم العام والجامعي ، ولا تنقصهم الوسائل المناسبة في محاولة احتواء هذه الشخصيات عن طريق الصداقة أو المشاركة في أعمال ثقافية أو تقديم الخبرة لهم، أو.. أو.. إلخ، وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ خططهم في غزو البلاد فكريا ثم عسكريا إذا اقتضى الأمر، وقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية فكريا وثقافيا عن هذا الطريق، كما استطاع أن ينفذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم ليكونوا هم الأداة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد. وبلغ الأمر في ذلك مبلغا خطيرا، حتى إن كثيرا من المشتغلين بالثقافة جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في توزيع أفكارهم والدعوة إلى تبنى آرائهم في الفكر الإسلامي وقضاياه، فهذا مندوب عن ماركس والشيوعية، وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيين، وثالثهم مندوب الوجودية والوجوديين، وأخر يدعو إلى القول بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان.... إلخ وامتلأت المؤسسات الثقافية في- مصر والشام وشمال أفريقيا بوكلاء معتمدين لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بمفاهيمهم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية و النهضوية..إلخ.
......................................... الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
صور ة العالم الإسلامي في الفكر الغربي
وكيف تعامل معها الغرب؟!(6/79)
بناءً على هذا الجهد المسبق الدؤوب الذي كان أبطاله من الرحالة والمكتشفين والتجار والمغامرين والمبشرين والمستشرقين، تكونت الصورة كاملة في الذهن الأوربي عن (الآخر)، وبدأ الهجوم والانقضاض على ديار الإسلام مشرقها ومغربها، ولم يكن هذا الهجوم من دولة واحدة، ولا في وقت واحد، بل من دول أوربية عدة، وفي أوقات متعددة. انطلقت أوربا الفتية تطوق دار الإسلام من شواطئ المغرب إلى شواطئ الهند وجاوة وسومطرة. كان ذاك ابتداءً من يوم تهاوت قلاع الإسلام في الأندلس فكان الأسبان والبرتغاليون مزهوين بروح الانتصار قد انطلقوا إلى شواطئ الأمريكتين، وإلى شواطئ أفريقيا الغربية والجنوبية ثم إلى جنوب شرقي آسيا، وكانوا يقتلون يدمرون الحواضر والمدن السياحية بمدافعهم ونيرانهم، ثم تجرأوا وأخذوا يتابعون المسلمين الفارين من مذابحهم في الأندلس، فاحتلوا كثيراً من الموانئ المغربية، ثم توجهوا صوب الموانئ الجزائرية، فاحتلوا تلمسان ووهران، حتى وصلوا إلى طرابلس الغرب، ونكلوا بأهلها أشد التنكيل، ثم لم يلبثوا أن تخلوا عنها لفرسان القديس يوحنا.
وكان الهولنديون يتسابقون والبرتغاليين كفرسي رهان في خوض بحار المسلمين، فقد أعقبوا البرتغاليين في احتلال الخليج، ثم نافسهم في السيطرة على جزر الفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الهند، وكانت لهم شركاتهم التجارية مثل شركة الهند الشرقية التي كانت سابقة لمثيلتها الإنجليزية التي مهدت لاحتلال الهند، درة تاج المستعمرات البريطانية بعدئذ.
وكانت الغلبة النهائية لبريطانيا في الخليج في أواخر القرن السادس عشر بعد طرد الهولنديين منه، ثم دخلت فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوربية بقوة في احتلال المناطق الإسلامية في آسيا وأفريقيا المنطقة تلو المنطقة، وكان هذا قبل الحرب العالمية الأولى والسيطرة الكاملة على العالم الإسلامي.
وقصة هذا الغزو العسكري طويلة ودامية، ونريد أن نشير فقط إلى بعض المواقع لنرصد الخطوط العامة لهذا التسابق الأوربي الشره لتدمير العالم الإسلامي. فبعد السيطرة البرتغالية والهولندية والبريطانية على بحار جنوب شرق آسيا واستثمار بلاد التوابل والعجائب، دخلت فرنسا بقوة لتحتل مصر بقيادة نابليون فيما سمي بالحملة الفرنسية عام 1798. وكثيراً ما يؤرخ لهذه الحملة على أنها فاتحة تنوير ونهضة لبلاد العرب، في حين إنها ـ كما يلاحظ كاتب عربي كبير مثل محمود محمد شاكر ـ جاءت لوأد النهضة التي كانت تتحفز على يد العلماء الكبار مثل الجبرتي والبغدادي والزبيدي، فكان أن نقلت كنوز القاهرة من المخطوطات خلال ثلاثة أعوام من الاحتلال إلى باريس.
ثم تلا ذلك حملتها على الجزائر عام 1830، وما رافقها من مجازر ومذابح استمرت حتى عام 1847 عام استسلام بطل المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وليظل الاحتلال مائة عام كاملة من المظالم والدمار للحرث والنسل والدين والحضارة، وكان عام 1882 حيث احتلت فرنسا بقوتها وجبروتها تونس، وأكملت أطباقها على الشمال الأفريقي عام 1916 حين فرضت الحماية على المغرب، ثم واصلت امتدادها في أفريقيا عبر الصحراء الكبرى لتحتل السنغال والنيجر ومالي وتشاد والكاميرون وغيرها، وكان ذلك بفضل قوتها العسكرية التي كونتها من النهب الاستعماري للعالم الإسلامي، وبفضل جيش الرحالة والمبشرين وموظفي وزارة ما وراء البحار.
وفي طرف آخر من العالم الإسلامي كانت بريطانيا تكون إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس من الهند فأفغانستان ثم إيران والخليج، حتى إذا ما أعلنت الحرب العالمية الأولى كانت حصة الأسد لها من أملاك الدولة العثمانية، فكان أن احتلت العراق وفلسطين والجزيرة العربية. ومن المعلوم أن مصر وقعت بأيديهم منذ عام 1882م.
ولقد عبر عن هذا الحقد الصليبي على الإسلام قائدهم الجنرال اللنبي حين احتل القدس ووقف على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)).
ولقد أشرنا من قبل أنه ما من دولة أوربية إلا كانت تتمنى أن يكون لها نصيب من أشلاء العالم الإسلامي، فهذه إيطاليا بعد امتلاكها للحبشة تنظر يمنة ويسرة لتبتلع أقرب أرض إسلامية لها، ألا وهي ليبيا، وكان لها أن احتلتها عام 1911، وكان احتلالاً لم يعرف إلا الحرائق والتدمير والتهجير والإبادة، بحدودهم إلى ذلك حقد ربما فاق أحقاد الصليبيين الآخرين. هاك نشيدهم الذي كان يردده جندهم آنذاك، وهو من نظم شاعرهم العنصري رانزيو:
يا أماه ..
أتمي صلاتك، ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي
ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني
وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً
لأبذل دمي لسحق الأمة الملعونة
ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان
وسأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن!!.
وهكذا تناوشوا قلب العالم الإسلامي وأطرافه، وعقدوا المؤتمرات الدولية لاقتسام الحصص، وكان المسلمون في هذه المؤتمرات كالأيتام على مائدة اللئام، فكان مؤتمر سايكس بيكو عام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الشعارات التي تفتقت عنها العبقرية الأوربية في المكر والدهاء والخبث، مثل شعار الحماية والوصاية وتقرير المصير، وكانت كلها حبراً على ورق، وكانت من قبيل ذر الرماد في عيون الأمم المغلوبة التي لا تستطيع تقرير مصيرها إلا إذا قرر السيد القوي تقرير هذا المصير، وقد قرر العبودية للأمم المغلوبة، حتى ولو دخلت دين النصرانية نفسه!! فهذه أفريقيا دخلت بعض دولها في النصرانية ودخل بعض الفقراء منها في هذا الدين، فهل وجدوا العزة والغنى والتقدم؟! أم أن الاستغلال والاقتصاد هو الدين الأول لأوربا قبل أي دين؟!!.
ولعل المرء يتصور أن الأوربيين نظروا إلى الشعوب المستضعفة التي وقعت في شراك احتلالهم، وخاصة أمة الإسلام على أنها شعوب قاصرة، لم تبلغ سن الرشد بعد، وهي ـ بهذا ـ بحاجة إلى حماية عم أو ولي حميم، وكان هذا العم أو الولي، أوربا بكنيستها واستعمارها ورؤسائها المكرة!!.
ولو رجعت إلى الفترة التي تم فيها ذلك الانتداب والحماية والوصاية، ونظرت إلى حنان ذلك الولي ومسؤوليته إزاء الطفل القاصر، كيف كان التدجين له على أن يكتسب لساناً جديداً وعادات غير عاداته، وديناً غير دينه، وكيف كانت عمليات التفسخ والمسخ والإلحاق بحضارة الوصي، ودينه. وكيف كان العمل قائماً على قدم وساق، ولكن بشكل غير مكشوف في بعض الأحيان، من أجل أن يكون العالم الإسلامي كله تابعاً للمركز الأوربي سياسياً واقتصادياً وحضارياً ..
وارجع ثانية إلى فترة الحماية والوصاية آنذاك وتأمل كيف كانت تدار الحكومة، أبالملك أو الرئيس، أم بالمستشار الإنجليزي الذي يحرك الملك والرئيس، كما تحرك اليد دمى (الأراجوز) في لعبة خيال الظل أو لعب الأطفال؟!!.
وكانت الوسائل الاستعمارية التي نادى بها الاستشراق في العالم الإسلامي تهدف كلها إلى إضعاف الروح الإسلامية بين الشعوب، وتعمل على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها، كما روج المستشرقون كذلك لبعض القضايا التي كان لها أخطر النتائج في ازدياد عوامل الفرقة بين صفوف المسلمين، فمن ذلك مثلا:(6/80)
العمل على إحلال العاميات محل اللغة الفصحى في مصر وغيرها بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، وكان أول من نادى بها في مصر المستشرق الألماني (ولهلم سبيتا) وكان يعمل مديرا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووضع كتابه (قواعد اللغة العربية العامية في مصر) سنة 1880 م مجد فيه اللغة القبطية في مصر، ودعا دول العالم العربي إلى الأخذ بالعاميات بدلا من الفصحى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى من الخطر على الإسلام ولغة القرآن.
ثم تابع نفس القضية (اللورد دوفرين) في تقرير وضعه سنة 1882 م
أعلن فيه أن العامية هي سبيل النهوض والتقدم في مصر، وجاء بعده المستشرق الألماني (كارل فولرس) مدير دار الكتب المصرية بعد " ولهلم" فوضع كتابه (اللهجة العامية الحديثة) دعا فيه إلى هجر الفصحى وحث العرب على استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، ثم تتبع القضية في مصر سلامة موسى النصراني في مطلع هذا القرن، ومازلنا نسمع صداها إلى الآن ونقرأ ذلك في كتابات بعض المشتغلين بالشئون الثقافية و التربوية.................................. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ومهما يكن فقد وقع العالم الإسلامي في كماشة الصليبية الجديدة، وحكم حكماً عسكرياً مباشراً أحياناً وحكماً غير مباشر على أيدي أناس أمناء على مصالح الاستعمار في أحيان أخرى، إلى أن جاءت المرحلة التي أخذت شعوب العالم تنتقض على هذا الكابوس الاستعماري لتتحرر منه فكان للعقل الأوربي الذي قطع شوطاً بعيداً في ميادين العلم أن يوظف أدوات للعلم خارج المعامل والمختبرات حيث ميدان السياسة والعلاقات بين الأمم، فكانت له لعب وأساليب جديدة في التعامل مع الثورات ومع الشعوب المطالبة بالاستقلال، فصار يأخذ باليسار ما يعطيه باليمين بحيث أفرغ بعض الاستقلالات من محتواها، وعاد الاستعمار من جديد ولكن بأثواب جديدة، وبقيت الأغلال ترسف من جديد بالرقاب، ولكنها ربما تكون أغلالاً من ذهب!! كي يُمنّي العبد أو الأسير نفسه بما يرى، وأنى له ذلك التمني!!.
على أنه من الضروري الإشارة إلى ردود الفعل من لدن إنسان المنطقة المسلم على وجه الخصوص، متمثلاً بقادته وعلمائه والمثقفين الأحرار منه. فلم تكن جيوش الاستعمار لتجد أرضاً خالية دون شعوب أو حضارات، بل ودت أمة كانت ـ في الحقبة السابقة من الزمن ـ معلمة للعالم ومنه أوربا نفسها، وكانت صاحبة حضارة تميزت بعقيدة ربانية وعلم نافع وتعامل مع الشعوب رحيم رؤوف، ولكن عوادي الزمن ـ ولأسباب كثيرة ـ جعلتها تضعف وتتخلى عن وظيفتها القيادية. ولكنها لم تستكن لجحافل الغزاة بل كانت تقاوم على قلة من السلاح وعدم تكافؤ في القوة. فكانت تقاوم الروس كما تقاوم الإنجليز والفرنسيين على السواء فكان أبطال المقاومة من أمثال الشيخ شامل في المناطق الإسلامية التي احتلها الروس، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، وأحمد عرابي في مصر، ومحمد تقي الشيرازي، قائد ثورة العشرين في العراق، بالإضافة إلى أبطال المقاومة الآخرين في إيران، وفي الشام، وفي السودان.
ومثلما كان الأمر على مستوى المقاومة العسكرية، كانت هناك المقاومة الثقافية التي حاولت أن تحافظ على أصالة الأمة وحضارتها، وكان لهذا الميدان رجاله من العلماء والساسة والأدباء، ولكن كفة المحتل بما لديه من قوة وإغراء وسيطرة على مقاليد الحكم جعل الميزان يميل لصالح كفة المتغربين والراضين بـ (نعمة) الاحتلال، والداعين إلى الأخذ بحضارته، خيرها وشرها، حلوها ومرها، كما جاء على لسان واحد من دعاة التغريب.
.................................................. الثقافة الإسلامية
ما مستقبل العلاقة مع الغرب؟!
وهل سينتهي الغرب يوماً عن ظلمه؟!
كيف سيكون مشهد العلاقة بين الشرق والغرب، هل ستستمر الحدود الدموية التي رسمتها الأطماع التاريخية بين شطري العالم، أم سينصت الإنسان لصوت العقل ويدرك أن عصر الحروب المعمد بالدم ينبغي أن ينتهي ويحل محله عصر الحوار والتفاهم؟!.
من المؤسف أن فلاسفة الموت يجدون في الأخبار كل يوم ما يذكي نظريتهم عن صدام الحضارات، حيث يؤكدون أن الإسلام والحوار سخافة لا وجود لها في التأريخ وعلى الإنسان أن يمضي في خياره المجنون إلى المواجهة بالدم.
كانت فكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها المستشرق اليهودي برنارد لويس، وقام بتأصيلها والترويج لها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون ابتداء من عام 1993م، جاهزة لتسويغ وتبرير المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، ذلك أن هنتنجتون بعد أن ميز بين سبع حضارات في العالم (الغربية، الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، اليابانية، ورشح الأفريقية كحضارة ثامنة محتملة)- فإنه دعا إلى الاحتشاد في مواجهة الحضارة الإسلامية بوجه أخص، في الأغلب بسبب أنها أكثر استعصاء على الاحتواء من أي حضارة أخرى على وجه الأرض، من ثم فإن رسالته التي تعبر عن رأي مدرسة كاملة هي التأكيد على أن الصراع ليس محله المصالح فحسب ولكنه أصبح بعد انتهاء الحرب الباردة صراع ثقافات وأديان.
وكان كتاب "البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية"، لمؤلفه مارك سالز حلقة في هذا الاتجاه، إذ قسم العالم إلى متحضرين يمثلون النموذج واجب الاحتذاء، وهؤلاء هم الغربيون أساساً، وبرابرة متخلفين يقفون على الشاطئ الآخر المواجه لهم، وهم مصدر العنف والفوضى في العالم (وهم المسلمون بالطبع ) .
هل تعلم الإنسان من الماضي أن منطق الصدام الحضاري معناه استمرار الحياة في الجنون، عبر جدلية البناء والتدمير العابثة الخائنة؟!!!.
وأن لغة القوة مهما كانت صارخة وقاهرة هي منطق مترنح في النهاية وأن دورة التأريخ لن تتوقف، وتلك الأيام نداولها بين الناس والعاقبة للمتقين.
إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للتجريح من الله سبحانه وتعالى إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرآن الكريم، الذي جرى التشكيك في مصدره وصياغته، فضلاً عن التنديد بقيمه ومعانيه " خصوصاً الجهاد" وذلك بالإضافة إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها.
وإذا كان ذلك حظ الإسلام كدين، فإن حظوظ المسلمين لم يكن أفضل، حيث تعرضوا لحملة شرسة استهدفت اغتيالهم معنوياً،والتي نجحت إلى حد كبير في تنفير الغربيين من الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى تكرار وقوع حوادث الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم على نحو لافت للنظر، رصدته المؤسسات الإسلامية المعنية وفضحته.(6/81)
قرأت وصفاً لتلك الأجواء في مقالة نشرتها مجلة "المنار الجديد" للدكتور محمدي حامد الأحمدي رئيس مجلس أمناء التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية قال فيه أن الإعلام الأمريكي صار يربط بسخرية لافتة بين مفردات مثل قرآن وباكستان وأفغانستان، وجهاد وعرب وإسلام وشرق أوسط وفلسطين وطالبان، في خلطة من مجموعة من العبارات المكروهة والمستبعدة، التي أصبحت تكرر بطريقة تثير القرف لدى السامع وتعرض غالباً مرتبطة بصورة لنساء أفغانيات يضربن رجلاً في الشارع، أو بصورة زانية يقام عليها الحد في ملعب في كابل، أو قصة الحكم بإعدام زانية أخرى في نيجيريا، أو بالمباني المهدمة في نيويورك، أو دماء يهودية في الشارع أو مطعم يهودي أو سيارة مفجرة، ولا يتردد كبير المذيعين في "سي ان . ان" لاري كينج أن يقول أن حربنا هذه مع سكان الكهوف، وغالباً تقدم في سياق يتجاوز أفغانستان ليشمل العرب والمسلمين في العالم أجمع.
إذن فصورة الإسلام والمسلمين في الوجدان الغربي سلبية بوجه عام منذ الحروب الصليبية (كما سبق أن و بينا )، التي بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين"البرابرة" و"الأشرار".
فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095: ' إن إرادة الرب تحتم على المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان '. وعندها خر الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا !
والبارون دي كارافو يقول: ' أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية .. دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية .. وذلك لكي نضعف الإسلام ، لنجعله عاجزًا إلى الأبد عن صحوة كبرى ' ...............................................................مروان بحيري – الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن 19 .
ويقول يوجين روستو اليهودي:' إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان صراعًا محتدمًا على الدوام ، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب أي خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية والتراث الإسلامي للتراث المسيحي وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية' ...........................نقلا عن عبد الوراث سعيد ' أمتنا والنظام العالمي الجديد ' ..
ويقول مورو بيرجر في كتابه ' العالم العربي ': ' لقد ثبت تاريخيًا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمروا بتدميرهم الإسلام ' .........................................................................................جلال العالم – قادة الغرب يقولون – المختار الإسلامي .
ويضيف مورو بيرجر: ' إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجًا عن وجود البترول بغزارة عند العرب ، بل بسبب الإسلام ، ويجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب ، لأن قوة العرب تتصاحب دائمًا مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره' ....................................................................محمد محمد الدهان – قوى الشر المتحالفة – دار الوفاء .
ويقول ج . سيمون: ' إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية 'د . عمر فروخ التبشير والاستعمار
ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: ' إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم ' ! ولما سأله أحد الصحفيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا .. أجابه: ' أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا ] جلال العالم مصدر سابق.
ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: ' إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي كانت قادرة على توقع انبعًاث إسلامي في البيئة المعًاصرة وإن ضعف البصيرة في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعًاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها ' ريتشارد هرير دكمجيان – الأصولية في العالم العربي – ترجمة عبد الوارث سعيد – دار الوفاء .
ويحذر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً : ' سيعيد التاريخ نفسه مبتدئا من الشرق ، عودا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية ، وستثبت هذه القوة وجودها ، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية ' .....................................................................باول شمنز – نقلا عن عبد الوارث سعيد – أمتنا والنظام العالمي الجديد .
ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: ' لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًًًا على أعدائه '.
هذه الخلفية تركت بصماتها على ثقافة المواطن الغربي، وانعكست على مناهج التعليم ومختلف المراجع الثقافية وساعدت على تشكيل إدراك غربي لا يكن وداً للإسلام والمسلمين. ومن ثم كان ذلك الإدراك مستعداً لاستقبال البث الإعلامي الذي كان أغلبه معادياً للاثنين، سواء بسبب التأثير الصهيوني أو بتأثير من بعض العناصر المتعصبة التي تعاملت باستعلاء وازدراء مع العرب والمسلمين.
يقول الكاتبان جراهام فوللر، وأيان ليسر : لم يكن وصول الجيوش المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين لخوض حرب صليبية سوى بداية لحملة أوروبية عامة طويلة المدى لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة المسلمين في أسبانيا وصقلية والمشرق. واستطاعت الجيوش الصليبية على مدى مئة عام أن تستولي على كل الأراضي المطلة على شرق المتوسط تقريبًا ابتداء من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. وبحلول عام 1187م استطاعت الجيوش الإسلامية التي جاء رد فعلها بطيئًا أن تقضي في نهاية المطاف على المملكة المسيحية في بيت المقدس وأن تستعيد المنطقة للسيطرة الإسلامية.
ولكن الحروب الصليبية أصبحت منذ ذلك الحين حدثًا له آثاره الوجدانية العميقة عند المسلمين ولم يعد يشمل فقط الغزو المادي للجيوش الغربية وإنما يمثل أيضًا قيام دول مسيحية فوق الأراضي الإسلامية أيضًا وباتت هذه الأحداث بمثابة المقدمات الأولى للاستعمار والإمبريالية الغربية في العصر الحديث وارتبط بها أيضًا تأسيس دولة يهودية في فلسطين عام 1948.
وكذلك فإنه لا تزال كلمة أندلس تستثير في عقول المسلمين عظمة وأمجاد الماضي مثلما تثير مشاعر الحزن العميق إزاء ضياع مجد هو أعظم أمجاد الإسلام إشراقا في العصر الوسيط خصوصا أن المجتمعات الإسلامية الكبيرة التي أجبرت أن تحيا في ظل حكم مسيحي، عاشت حياة من المعاناة هي على النقيض تماما من الحياة التي عاشها المسيحيون على امتداد القرون في ظل الحكم الإسلامي. ........من كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن وقام بترجمته مركز الأهرام للترجمة والنشر
الصحوة الإسلامية المباركة(6/82)
تقول هانتر: " فوجئ الغرب بهذه الظاهرة العارمة ظاهرة الصحوة الإسلامية، وراح يحللها بوسائله وتصوراته ليكتشف نقاط القوة والضعف فيها ومن ثم يعمل على مواجهتها " إذن من المهم أن تحدد الأسباب الأساسية للظاهرة الإسلامية وأبعادها المعادية للغرب وان تقوم في شكل صحيح وان يتم تبني السياسات الملائمة للتعامل معه...... مستقبل الإسلام والغرب لشيرين هانتر ص 99.
إن الصحوة الإسلامية في الأساس جاءت لترد على (التخلف، والتمزق، والعلمانية)، ولتحقق العودة إلى الإسلام بكل مقتضياته. فالإسلام دين التقدم، يدعو إلى العلم بشتى، أنواعه، ويطلب من الأمة الإسلامية أن تحقق كل عناصر القوة، وان تبذل أقصى جهدها لتكون خير الأمم، ولتكون في الطليعة الحضارية للناس والتخلف حالة غير طبيعية مطلقاً.
والإسلام دين الوحدة الإسلامية، والتخطيط الإسلامي للوحدة واضح تماماً، فالقانون واحد، والقائد واحد، والعواطف واحدة والشعارات والعبادات واحدة، وثروات الأمة هي ملك كل الأمة وقد جعلت لها قواماً وقياماً، وحقوق المسلمين جميعاً متكافئة لا بل قد يشترك كل المسلمين في بعض أنواع الملكية، والتكافل والتوازن في مستوى المعيشة شاملان لكل المسلمين، والمسلمون جميعاً مسؤولون عن مجموع الأمة وحدودها مسؤولية مشتركة.
أما الحالة الراهنة، والتبريرات التي تساق لها فهي كلها استثناءات يجب أن يعمل الجميع على حذفها في النهاية والعودة إلى واقع الإسلام. ولا نجد عالماً أو حتى مجرد مطلع على حقيقة الإسلام يجادل في هذه الحقيقة الواضحة.
والإسلام دين الحياة فلا يمكن أن ينسجم مع العلمنة بأي تعريف جاءت، وأية صفة اتخذت ايجابية أم سلبية أما الاستناد إلى التجارب القائمة فهو مجرد خداع لأنها تجارب مفروضة على العالم الإسلامي ومتنافية مع حقيقة الإسلام..................................... جزء من مقال للدكتور عبد الله التركي.
وفي ظل هذا الدين الخاتم يمكن أن يلتقي البشر جميعاً على عبادة الله وحده، واتباع القيم الخلقية النبيلة في التعامل فيما بينهم، بما يحقق العدل ويحفظ مصالح الناس.
إن الصحوة الإسلامية إذن تدعو للتفوق الإسلامي الحضاري فلا ينبغي أن يثير ذلك حفيظة الآخرين إن كانوا يملكون الروح الرياضية الحضارية، وأنى لهذه الروح أن تسود.
أما عن عوامل هذه الصحوة فإننا نتصور هذه العوامل كما يلي:
أولاً: طاقات الإسلام الذاتية التي لا تفتأ تمد المسلمين بدوافع التغيير، وتشدد على الحفاظ على الهوية الحضارية بعد أن أعطتها معالمها الشاملة ، بل وتدفع دائما على الحفاظ على التفوق أو استعادته إذا فقد.
ثانياً: اشتداد الحملة الأوربية على العالم الإسلامي بحيث استباح الغرب كل الثروات، واستعمر معظم البلاد، واعتدى على الهوية الثقافية، بل راح يهاجم المكونات العقائدية والأخلاقية، وينشر الرذائل، ويمزق النسيج الاجتماعي من خلال عملائه الحقيقيين أو الثقافيين، ويزرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي. ولا ريب أن حملة من هذا القبيل سوف تواجه برد فعلٍ قوي من أمة يبقى الإسلام فيها حياً ، رغم عمليات القضاء عليه.
ولعل الغرب شعر بهذه الحقيقة حين حاول التنفيس والاستعاضة عن ذلك بإعطاء الاستقلال الصوري لبعض المناطق الإسلامية. ولكن هذا العمل بنفسه وفر فرصةً لنمو الصحوة الإسلامية بشكل واسع و طرح الإحساس الإسلامي بالإسلام الشمولي في الستينات واتساعه بشكل مرعب للغرب في السبعينات والثمانيات.
ثالثاً: فشل كل الحلول والأطروحات البديلة للمقاومة والتغيير، لأنها كانت تحمل في داخلها عناصر فشلها. لقد فشلت الأطروحة القومية الضيقة رغم التطبيل والتزمير، ورغم نزولها المبكر إلى الساحة وتحقيقها الكثير من الأهداف الغربية ومسحها الكثير من السمات الإسلامية في تركيا وغيرها. ذلك لأنها لا تنسجم مع الطبيعة الإسلامية التي تتجاوز القوميات.
كما فشلت الاشتراكية لأنها اعتمدت على أسس الحادية رغم تمتعها ببعض الشعارات المنسجمة مع بعض التعاليم الإسلامية كالعدالة الاجتماعية والدفاع عن المحرومين ومعاداة الاستعمار.
وفشل الشكل التركيبي (الاشتراكي القومي) أيضا لأنه أيضا تركيب وهمي لا ينسجم مع الحس الإسلامي ولا يعبر عن أية إضافة معرفية.
رابعاً: ظهور شخصيات دعوية كبرى كان لها الأثر المتفاوت في إيجاد هذه الصحوة أو مقدماتها أو ترشيدها أو إعطائها طاقات حماسية وفكرية أو منحها الثقة بنفسها والأمل الواعد بمستقبلها الحتمي، إضافة للوعود الإلهية الحتمية بانتصار المؤمنين، والمستضعفين، وحلول العدل الشامل.
خامساً: ويجب أن لا ننسى دور التطورات والحوادث الكبرى في إذكاء هذه الصحوة من قبيل:
1. تنامي مستوى وسائل الاتصال ، والحركة المعلوماتية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة
2. .ارتفاع مستوى التعليم الإسلامي.
3. تطور أساليب الدعوة إلى الإسلام.
4. توفر بعض أجواء الحرية في العالم الإسلامي.
5. اشتداد حركة مقارعة الاستعمار.
6. قيام المؤسسات الدولية الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان والداعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس إنسانية.
7. حدوث بعض الحوادث المروعة كإحراق المسجد الأقصى أو هزيمة عام 67.
8. انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي.
9. انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرر الدول الإسلامية.
وغير ذلك من التطورات التي ساهمت في اتساع الصحوة الإسلامية ونشر مفاهيمها ودعوتها في رفض التخلف والتمزق والعلمنة، والعودة إلى الحل الإسلامي الذي لا بديل له.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن الغرب لم يأل جهداً في إجهاض الصحوة، ومقابلتها ، وإلهائها واتهامها بشتى التهم من قبيل (التخلف والرجعية، والتطرف والأصولية، والعنف والإرهاب،) ولم يعدم من قدم له الذرائع من المسلمين ممن عرض فكراً رجعياً، أو سلك مسلكاً متطرفاً، أو عمل عملاً إرهابيا،. ولكن الواضح تماماً أن هؤلاء لا يمثلون الاتجاه الإسلامي العام فضلاً عن أن يكون سلوكهم ممثلاً للصحوة الإسلامية أو معبراً عن روح الإسلام وتعاليمه).
ولذا نلمح في الأفق السمات التالية:
أولاً: اتساع حركة الصحوة الإسلامية وتجذرها بحيث لا تنفع معها أساليب الحذف أو التحريف.
وإذا أردنا أن نستدل لهذا التوقع ، وتجاوزنا المسألة العقدية التي نؤمن بها دون أي شك، فانا نشير إلى مظاهر الصحوة التي تعم العالم الإسلامي من ارتفاع مستوى الأمل لدى جماهيرنا الإسلامية، وانتشار التقاليد الإسلامية كالحجاب وأنماط التعاون والعبادات انتشارا واسعاً، واتساع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة في كل الحياة ، وتشكل المنظمات الإسلامية ودخولها إلى الساحة السياسية والاجتماعية بكل قوة، وانهزام الفكرة العلمانية مرحلة بعد مرحلة ، وزوال الأمل بغير الإسلام على الساحة الفلسطينية وأمثالها من ساحات المقاومة ، واتجاه النخبة والجماهير نحو ثقافة الوحدة والتقريب، والسعي الحثيث على كل المستويات لنبذ التخلف، وغير ذلك.
ثانياً: اتجاه الدول الإسلامية نحو التعاون الأكبر، والعمل على وضع آليات جديدة لتفعيل المؤسسات الشمولية وإحساسها جميعاً بالخطر المشترك.
ولا نريد أن نكون متفائلين أكثر من اللزوم ولكننا ندرك هذه الرغبة لدى القسم الأكبر، ونرجو أن تتحقق خصوصاً وأن المسألة لم تعد بيد الحكومات وحدها فالعصر عصر الجماهير.(6/83)
ثالثاً: ارتفاع مستوى أهمية العالم الإسلامي في مختلف المجالات. صحيح أنه أحيانا لا يدرك هذه الأهمية ولكنها حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها فلدى هذه الأمة.: الكم البشري الهائل، والقدرات الإستراتيجية الفريدة والمواقع الجغرافية المتحكمة، والعقول العلمية المتقدمة، وفوق كل ذلك لديها الطاقة الحرارية والحضارية الإسلامية التي لا تنضب
الحضارة المادية إلى زوال
العقل الغربي بعد الذي بلغه من شأو وعلو قي (الجوانب المادية)، يكتسب ثقة في النفس مبالغاً فيها، ثم وهو يرى تخلف المسلمين وتدهور أوضاعهم ـ في الجوانب المادية طبعاً ـ ، أقتنع بأنه الأرقى والأرفع والأكمل، وأن حضارته هي "نهاية التأريخ" ولا تقبل منافسة من أي أحد ، و بسبب ذلك فإن العقل الغربي وهو في مكانته العملية تلك أصبح رافضاً لفكرة الندية مع الحضارات الأخرى، ثم أنه لم يعد قادراً على استساغة فكرة أن مجتمعاً آخر –متخلفاً مثلنا – يمكن أن يكون عصياً على الاحتواء أو رافضاً للنموذج الغربي، وهذه مشكلة لم يستطع كثيرون من الغربيين استيعابها حتى الآن.
ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: ' الإسلام في معركة الحضارة ' نقاط الضعف في الحضارة الغربية كالتالي:
1 – التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات ، فقد تكثف في المجالات المادية واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية مما يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم واحدة ، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة قوية .
2 – اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب العالم مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها ، فالأقلية الظالمة مهما قويت وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق ، فالتضاد مع حقوق غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن .
3 – التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الإفرنجية سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفردًا أم على مستوى صراع تلك المجتمعات فيما بينها ، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان بالإسراع بعملية التآكل الداخلي .
4 – إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الإفادة من قوتها المادية ، مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا يفر في معركة اليرموك ، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة ، وقوة دروعهم ، وطول رماحهم ومضاء سيوفهم و رفاهة خيولهم .
ثم يستطرد قائلاً : وقد يقول قائل إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص منها وبالتالي تجدد نفسها ، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة وجوهر الحضارة الغربية وطبيعة وجوهر نقاط الضعف فيها ، لأن نقاط الضعف هنا هي من صميم وجوهر الحضارة الغربية وليس عارضًا عليها ولا ناشئا من عوامل جانبية أو إهمال من القواد أو غيرها أنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية وحتمية بحيث انه من المستحيل عليها معًالجتها أو التخلص منها ، وإذا حاول أهل الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية ذاتها .
فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي ، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل شيء من أجله ، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة ، وهذه نقطة قوة أساسية في الحضارة الغربية ، وهي أيضًا سبب انهيارها المتوقع في مجالات أخرى ، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية والخارجية مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة ، إن نقطتي القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب من شبه الإبادة الجماعية '
ومثل آخر: إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته ، فإنه في الحقيقة يتخلص من نفسه ، لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه وهي التي تسمح له بالاستمرار ، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا النظام العنصري قد نشأ ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء ولما استطاع أن يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية
وبناء على ذلك يرى أصحاب رأي الصدام الحتمي أن المواجهة ستكون مواجهة شاملة ..
إذن فالمعركة برأيهم حتمية ، ولا سبيل هناك إلا المواجهة ، أو الموت ، وحتى المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة تحت التربة لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى ، ولكن الانصياع والخضوع لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل ، لأنها تطال البذور الكامنة تحت التربة .
يقول الأستاذ محمد مورو : واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها ، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ ، ولكي نعرف انه خطأ ينبغي علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما التفاعل والتزاوج والآخر التعاون فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عًائلة واحدة مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا .. وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عًائلات مختلفة ، أي مختلفة نوعًا وكميًا ، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية ، والأمر هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات ، فلابد لكي تنجح عملية التطعيم هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عًائلة واحدة ، أو عائلات متقاربة ، ولكن هذا التطعيم يفشل تمامًا إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة أو عًائلات نباتية متقاربة .
ثم يخلص إلى نتيجة مفادها : إن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أمر مستحيل ، لأن أي دراسة متعمقة للأساسيات التي قامت عليها كل من عائلة الحضارة الإسلامية وعًائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالا للشك في أن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًا ، لهذا يهدف الحديث عن التواصل الحضاري أو التفاعل الحضاري أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية باعتباره جزءًا أساسيًا في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة العسكرية .(6/84)
ثم يستطرد قائلاً : والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة ، فهذا الموضوع لم يطرق بعيدًا عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب المقهورة والمستضعفة ، فعندما طرحوا منظورًا أوروبيًا لهذا الموضوع كانوا في أغلبهم يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم ومعايير ومفاهيم ، وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب الحضارات الأخرى ، أو طمسها ، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها ، وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية ، وإلى ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل ، فتصبح مكشوفة أمام طغيان المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات ، وتقف على العتبات ، دون السماح لها بالدخول إلى صدر البيت ...................... الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!
فالمعركة هنا معركة حضارية شاملة ، أي سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية ، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية أيضًا ، وما دام الغرب يشن علينا حربًا شاملة فلا بد من مواجهته بحرب شاملة ، تواجه بالكفاح وحتى إذا سلمنا بصحة مقدمة هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها ، فإن النتيجة التي توصلوا إليها خطأ ، لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار ، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دمائنا ، بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى ولو كانت غير متكافئة ، على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت التربة بالبقاء ، بعيدًا عن يد الغرب فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية .
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف ( كما سبق ووضحنا ) التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي ، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة ، وهذا يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية والجريمة والانحراف والشذوذ الجنسي وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى انهيار الحضارة الغربية من داخلها ، أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وبالتالي عدم التورع عن استعمال أقصى قدر من العنف ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة العسكرية تدور بلا توقف مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو بالتصادم مع بعضها البعض وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية قد أدت إلى قتل 62 مليون إنسان معظمهم من الأوروبيين فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة المسلحة والحرب الشعبية ، وعلينا أن نواجه بالوسائل السياسية ونواجهه برفض الخضوع لوسائل النهب التي يمارسها ومن خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع ويعتمد على قوانا الذاتية ويقطع تمامًا خيوط التبعية مع الغرب ، ونواجهه أيضًا بتصفية كل مراكز الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي ، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد على تأكيد قيمنا الحضارية ، ونواجهه بالوحدة ، ورفض التجزئة التي فرضها علينا ، ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة ، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب حضارية شاملة .
ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة ، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي على الجانب الثقافي ، لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل ويقلل قدرتنا على المواجهة ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض وبالتالي يجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، ولابد أن ننتبه إلى انه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن نستخدم قيمًا ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها ومهما كانت براقة فإنها لن تجدي في مواجهته ، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية ؟ ، لابد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيًات مستمدة من ذاتنا حتى تظل قادرة على الاستمرار . ................... الإسلام والعالم المعاصر ص 130 . أنور الجندي .
وقد فاقمها ( أي المواجهة) أن المجتمعات الإسلامية بطبيعة تكوينها يتعذر قولبتها في النموذج الغربي، ببساطة لأن لها منظومة قيم مغايرة، وبنيان فكري ونظر إلى الكون والحياة، مختلف عن الغرب تماما ،هذا الاستعصاء على الاحتواء لا يزال يثير حفيظة كثير من الغربيين، الذين عجزوا أو رفضوا أن يعترفوا بخصوصية القيم الإسلامية، التي لا تقبل التفاعل وترفض الذوبان والانسحاق.
يقول الدكتور / شاكر النابلسي : ولكي ندرك الفرق بين أيديولوجية الإسلام وأيديولوجية الغرب وسبب الصراع المحتمل بينهما، ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، دعونا نعقد مقارنة سريعة بينهما:
1. يقول الإسلام بأن الإنسان مخلوق، ويقول الغرب بأن الإنسان خالق.
2- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الكون المُطاع، ويقول الغرب، بأن الإنسان هو سيد الكون المُطاع.
3- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الإنسان، ويقول الغرب بأن الإنسان سيد نفسه.
4- يربط الإسلام وجود الإنسان والعالم بسبب خارجي هو الله، في حين ينظر الفكر العلماني في الغرب إلى الإنسان والعالم لذاتهما، في معزل عن أي سبب خارجي.
5- يُقرُّ الإنسان في الإسلام أن الغيب لله كعلم تفرد به ولم يطلع عليه أحداً - إلا من شاء - ، بينما يُلغي الغرب ما يُسمّى بالغيبيات والعلم بالغيب.
6- يعتبر الإسلام مجتمعاً مثالياً أخلاقياً روحياً ، بينما يعتبر الغرب مجتمعاً مادياً أخلاقياً مختلفاً.
7- يمتثل الإسلام للشريعة و لا يحكم العقل في الشريعة ولكنه يعمل في إطارها، في حين يمتثل الغرب للعقل تماماً ويحكمه في كل شيء ويرد ما لا يقره العقل.
فهل من أجل هذه الفروقات في العقائد يمكن للصدام أن يتم بين الإسلام والغرب؟
ولِمَ لا وقد كادت الحرب العالمية الثالثة أن تقع بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتيجة لاختلاف العقائد. ............بشيء من التصرف والزيادات من مقال له.
وبعد انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية راح الغرب يبحث عن "عدو" وتضافرت ظروف متعددة رشحت الإسلام كي يشغل ذلك الموقع بديلاً عن الشيوعية ويبدو أن هذه الفكرة راقت للأغلبية الأوربية والنخبة في الولايات المتحدة وغيرها .
فبعد غياب الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بصدارة "العالم الأول" فإن دعاة تمدد الإمبراطورية الأمريكية في فضاء الساحة التي خلت انتعشوا، الأمر الذي دعاهم إلى بلورة مشروعهم في كتابات عدة بينها المذكرة الشهيرة التي قدمت إلى الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997م حول القرن الأمريكي الجديد.(6/85)
يقول لورانس براون: ' لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا الخوف ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه ، أننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا اللدود ، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفر 'الصين ، اليابان ' فإنها ليست خطيرة لهذه الدرجة ، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته ، أنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي ' ..................د . مصطفى الخالدي.. د . عمر فروخ – التبشير والاستعمار.
وأحداث 11 سبتمبر وفرت لفريق الأصوليين المتعصبين والمتصهينين في الإدارة الأمريكية حجة قوية لاعتبار العالم الإسلامي عدواً يجب قهره وتطويعه، حتى لا يظل مصدراً يهدد الأمن القومي الأمريكي ولأن هذا العالم يكره الأمريكيين – كما ادعوا- فقد يخرج من بين أبنائه يوماً ما في المستقبل من يكرر ما جرى في 11 سبتمبر.
والخلاصة
نقول : إنه بالرغم من كل ذلك، فإن الدين في الدول الغربية لا يلعب إلا دوراً ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليس للدول الأوربية في الجملة حساسيات عقدية ولا ثارات ضد الإسلام بالمعنى الدقيق رغم اختلاف الايدولوجيات السالفة ، هذا إذا استثنينا مجتمع المتدينين المتعصبين في الولايات المتحدة وغيرها ، وإذ كان الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن اسم الإسلام أصبح مخيفاً لكثيرين الآن في الغرب ، وهذا الخوف نابع من انطباعات زمنية وليس من تأثيرات عقدية (بما يحمل اللفظ من معنى) !! .
ولكن هذه الخلفيات يمكن أن تسوغ لنا أن نقول أن الغرب بالمفهوم الذي تحدثنا عنه ليس ضد الإسلام كعقيدة ودين، ولكنه متمسك بإضعاف الإسلام وتقليص دوره في المجتمع.
لكننا إذا نظرنا إلى المشهدين من زاوية المقاصد والمآلات فلا مفر من أن نعترف بأن عملية الإضعاف هي في حقيقة الأمر نوع من إماتة الإسلام وتضييق الخناق عليه إلى حد خنقه في نهاية المطاف ، وقد يجوز ذلك أن نقول أن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بالنتائج، فالإماتة في النتيجة لا تختلف كثيراً عن القتل، إذ في الحالتين تشل حركة الإسلام ويفقد "روحه" حتى وإن استغرقت عملية الإماتة وقتاً أطول.........من مقال للأستاذ فهمي هويدي .
وبالرغم من ذلك نقول : إن إطلاق العداء للغرب خطأ كبير. فليس الغرب باطلاً كله ولا ظالماً كله ، وإنما ينبغي أن يتحرى المؤمن العدل في أحكامه والضبط في مشاعره.
ولا أدل على ذلك مما استطعنا جمعه من كاتبة غربية مثل (شرين هانتر) في كتابها (مستقبل الإسلام والغرب) ، والذي كانت فيه تحاول الإنصاف حتى أنها اعترفت بأمور كثيرة هي في حقيقتها مرة عند الغربيين منها على سبيل المثال :
أ – تقرير حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يهزم من خلال انتصارات عسكرية وأمثالها كما هزمت النازية والاشتراكية وأمثالهما.
ب – إن الايدولوجيا لا يمكن أن تفصل عن الحياة الاجتماعية ذلك لان المسألة الاجتماعية يجب أن تقام – ولو بشكل لا شعوري – على المسألة الفلسفية والاعادت بلا هدف ولا مبررات.
ج – إن الغرب لا يأبه بالقيم التي يدعيها كالديمقراطية وحقوق الإنسان إذا لم تخدم مصالحه.
د – إن العلمانية لا تجتمع مع النظام الديني حتى ولو كان مستمداً من المسيحية أو اليهودية.
هـ – إن الذين ينظرون إلى رؤى الإسلام بسطحية هم سطحيين .
و – السخرية من هنتنگتن (3) عندما يقول إن الإسلام لا يعرف المساواة
ز – التفريق بين إيمان الإسلام بحقوق الإنسان وعمل المسلمين.
ح – الاعتراف بان العلمانية فرضت فرضاً على العالم الإسلامي.
ط – إن الغرب قد ينطلق من مواقف أخلاقية منحطة كالحسد والحقد وأمثال ذلك.
ولا شك أن هنالك أسباباً عديدة تدعو غالبية المسلمين للشعور بحالة من النفور من السياسات والمواقف الغربية والتي اتسمت بماضٍ استغلالي استعماري وحاضر لا يقيم العلاقات على العدالة والإنصاف ، وهنالك شعور يسود في أوساط المسلمين أن هنالك تحيزاً ثقافياً ودينياً يسود أوساطاً واسعة في الشعوب الغربية ضد الإسلام. وأن موقف الإعلام الغربي الذي يأخذ صورة العالمية اليوم مناهض مناؤي للإسلام، ثم إن هنالك رموزاً حية لانحياز الغرب إلى جانب المعتدين على بعض شعوب الأمة المسلمة ومظاهرته لأولئك بالسلاح وبالمواقف السياسية ، وأبلغ الأمثال على ذلك هو الموالاة المطلقة لغالب دول الغرب لإسرائيل.
فكل هذه أسباب لا تفرش الطريق إلى محبة وتواصل مع الغرب. بيد أن الحكمة تشير أن الطريق الأوفق لا يتمثل في تسعير العداوة والبغضاء للشعوب والحكومات الغربية، بل بذل الجهود لإزالة التحيزات الثقافية ومناهضة الحملات الإعلامية والعمل على إحداث تغييرات في سياسات الحكومات الغربية وكل هذا بالإمكان من خلال العمل المثابر الدؤوب.
بيد أن إزالة نزعة العداء للغرب والتي تتفجر الآن في أعمال ترويعية لا تفرق بين المدني والعسكري، وبين الغافل والظالم لن يتم من جانب واحد. فالغرب الذي يجتهد اليوم في البحث عن أنجع السبل لمناهضة الإرهاب يتوجب عليه أن يدرك أن أقصر الطرق لمناهضة الأعمال الإرهابية هو التعامل بعدالة ونزاهة مع الشعوب الإسلامية.
فذلك هو السبيل لنيل ثقة أهل التوسط والاعتدال والذين هم الضمانة الأولى لكبح نزعات التطرف والغلو.
ولكن السياسة الأمريكية اليوم ماضية في منطقها الاستعلائي، وتكاد تقاريرها المتغطرسة أن تقول شيئاً واحداً لقد انتصر الغرب على الشرق، وتفوقت المادة على الروح، وأن عصر المادية الأمريكية هو نهاية التأريخ.
إن مسؤولية الاتصال والتواصل السليم بين العالم الإسلامي والغرب مسؤولية مشتركة، ولسنا في مجال تحديد التقصير أو الخطأ من أحد الأطراف، ولكن واقع العلاقة الآن يفرض علينا أن ندعو إلى بناء هذه العلاقة على أساس سليم ووفق منهج علمي يليق بتاريخ هذه العلاقة، وبالكثير من جوانبها المهمة، وبأثرها في تحقيق السلام والخير للبشر جميعاً، فهي علاقة، بين مئات الملايين من البشر.
والحقيقة أن القيم الإسلامية إنما ترفض الجانب المعادي للإنسانية في الغرب كالتحلل الجنسي، واستغلال الشعوب، ورفض الحياة الخلقية والكيل بمكيالين والعمل على محو الثقافات الأخرى، والاستعمار بشتى ألوانه، وأمثال ذلك وفيما عدا ذلك فان هناك نقاط التقاء كثيرة ونقاط تقبل الحوار.
يقول الدكتور المسيري : "فعداء الغرب للإسلام ليس عداء في المطلق، وإنما هو عداء للإسلام المقاوم، ولأي شكل من أشكال المقاومة تتصدى لمحاولة الغرب تحويل العالم إلى مادة استعمالية". ..............الإسلام والغرب.
ومع هذا تظل إمكانية الحوار والتفاهم قائمة، وإن كان ثمة عائق أساسي وهو أن الرؤية الغربية الإمبريالية الداروينية غير عقلانية. فمن يجعل القوة معياراً واحداً ووحيداً ولا يقبل الاحتكام إلى منظومة قيمية خارجة، إنسان غير عقلاني، لأن العقلانية تفترض وجود معايير إنسانية وأخلاقية مطلقة خارج الإنسان يمكن الاحتكام إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتحاور في غياب معايير أخلاقية وإنسانية يمكن الاحتكام إليها والإهابة بها؟
وأرى ـ والله أعلم ـ أن هناك ثلاثة مستويات للحوار:(6/86)
ا- الحوار بين الأنداد: وهو حوار بين طرفين يعترف كل منهما بإنسانية الآخر وبحقوقه وسيادته. والهدف من الحوار هنا هو تسوية بعض الخلافات التفصيلية الجزئية التي لا تنصرف إلى الكليات أو المنطلقات.
2. الحوار النقدي: إذا كان أحد الأطراف لا يعترف بإنسانية الآخر وحقوقه وسيادته، فمن واجب الطرف الثاني أن يوجه النقد للطرف الأول ويبين له خلل موقفه، ويدعم نقده بالحجج والبراهين، كما يحدث مثلاً حينما نحاور الدول الأوروبية التي نختلف معها في بعض الأمور المبدئية، والتي تقبل الحوار ولا تلجأ إلى العنف.
3. الحوار المسلح: إن استمر الطرف الأول في إنكار إنسانية الطرف الثاني وحقوقه وسيادته، وحوَّل إنكاره هذا إلى فعل ظالم باطش كأن يستولي على أرض الطرف الثاني أو يعتدي عليه، فإن من واجب الطرف المعتدى عليه أن يصده ويقاوم ظلمه وبطشه بأن يرسل للظالم رسائل نقدية مسلحة ليؤكد إنسانيته وسيادته ويحصل على حقوقه المغتصبة.
وهذا ما يحدث في فلسطين المحتلة ، فالإسرائيليون ينكرون وجود الفلسطينيين، فيقوم الفلسطينيون بإرسال رسائل مسلحة لهم تأخذ شكل انتفاضات شبه سلمية (مثل انتفاضة 1987) وانتفاضات مسلحة (مثل انتفاضة الأقصى)، وهي رسائل تؤكد للإسرائيليين أن الشعب الفلسطيني -صاحب الأرض- موجود وحي ويقاوم لاستعادة أرضه.
ولابد أن يتم الحوار على جميع المستويات، فالحوار الودي بمفرده مع من يؤمن بالقوة معياراً يتيماً لا يجدي فتيلاً، والحوار المسلح بمفرده يدخلنا في طريق مسدود. وهذا ما فعله الفيتناميون، فكانوا يجلسون على مائدة المفاوضات ويقومون بحملات إعلامية يتوجهون بها إلى أنصار السلام في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، ويوجهون النقد إلى المؤسسة العسكرية الأميركية التي بطشت بالشعب الفيتنامي دون وجه حق، ويقاتلون -في الوقت ذاته- في ميدان الحرب بعزم وإصرار، وبذلك تم تحويل المكاسب الميدانية إلى مكاسب سياسية
وبالمثل، يمكن أن يأخذ الحوار مع الغرب أشكالاً كثيرة، فلا يكفي السعي لتجميل صورتنا وتوضيح مشروعية موقفنا، إذ لابد من توجيه رسائل نقدية إلى الغرب (من خلال حملات إعلامية وحوارات مكثفة) تبين له أن دعمه لإسرائيل وهجومه على العالم العربي لا يمكن أن يظل أمراً مجانياً.
ويجب تحويل الحوار النقدي إلى حوار مسلح إذا استلزم الأمر من خلال عمليات المقاطعة والتهديد بسحب الاستثمارات وكل أشكال المقاومة المتاحة. أي يجب أن يدرك الآخر المعتدي أن هناك ثمناً لابد أن يدفع، وهم يفهمون تماماً مسألة الثمن هذه، فكما قال رئيس الوزراء البريطاني غلادستون "لا يوجد لدينا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لنا مصالح دائمة". ..................................من مقال الإسلام والغرب نشر بتاريخ 4/11/2004.
وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يقرر :
* أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف الرباني للإنسان في عمارة الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30).
* وأن الناس جميعاً مؤهلون خلقه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ), ومهيئون فطرة لأداء هذه المهمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } (البقرة: من الآية31))..{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50)
*
* وأن الناس مكلفون بالتعاون لتحقيق عمارة آمنة للأرض {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية2).
* وأنهم مدعوون للتكامل والتعارف، من أجل إنجاز شامل وعادل لمهمة الاستخلاف الرباني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات:13) .
* وأن الناس شركاء في الانتفاع العام بنتائج سيرهم وكدحهم لعمارة الأرض , وبكلمة أخرى هم شركاء في الانتفاع بثمرات العطاء الحضاري والتكنولوجي والصناعي والزراعي والحيواني {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك: من الآية15) .
* ولكن ذلك كله وفق قواعد ومعايير احترام حق التمليك , والتزام ضوابط ومعايير نظم وآليات الانتفاع المتبادل العادل.
اعتماد الحوار الجاد بين الحضارات كأساس للتعارف من أجل :-
1. أن يتعلم الناس كيف يتعامل كل منهم مع الآخر وكيف يجل الجميع كرامة الإنسان .
2. أن تكشف القيم المشتركة وتراعى الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن .
3. العمل لمنع العدوان والاضطهاد والظلم بين الناس .
4. التأكيد على أن الأسرة المؤسسة على التزاوج الشرعي بين الرجل والمرأة هي الوحدة الأساس في بناء المجتمعات الآمنة .
5. التأكيد على أن الأسرة وحدة أساسية من مؤسسات المجتمع المدني وأنها المصدر الأكفأ لأجيال مسؤولة ومنتجة .
6. العمل معاً على إقامة العدل الرباني بين جميع الناس على اختلاف أقوامهم وأجناسهم ومعتقداتهم وألوانهم .
7. العمل على إزالة خلل التوازن بين حقوق الإنسان وواجباته لإنهاء حالة الخلل والاضطراب في مسيرة الحضارة البشرية .
8. العمل على مساعدة الفقراء لتحرير أنفسهم من الظروف القاسية التي تتنافي مع كرامة الإنسان ووشائج الأخوة الإنسانية .
9. العمل على إنهاء ظاهرة التعامل بالمعايير المزدوجة إقليمياً ودولياً .
10. العمل على إزالة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية لاستفحال ظاهرة العنف والإرهاب في العالم .
11. التأكيد على ضرورة السير معاً بسلام ووئام على أساس من إرادة الله تعالي وطاعته لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل . ووقف ظاهرة التدهور الأخلاقي والتفسخ الأسرى ووضع حد لمروجي منهجية الحروب وتكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل , وإلا سيكون الناس عرضة لمزيدٍ من الهلاك والدمار
ونحن - المسلمين - إذا نقول بذلك كله لا ننطلق من فراغ، بل نستند على أساس صلب ومرجعية عظيمة رسم معالمها وأبان سبل نهجها كتاب الله العظيم وسنة رسوله المبعوث رحمة للعالمين سيدنا وإمامنا الهادي البشير نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه عبر ثلاثة مواثيق متلازمة ومتكاملة هي الفريدة في نوعها وسبقها على مدار التاريخ البشري كله وهي:
أولاً : ميثاق الموطنة أو (العقد الاجتماعي الوطني) الذي تضمنته الوثيقة المشهورة في كتب السيرة (بصحيفة المدنية ) والتي تعتبر بحق أول ميثاق للمواطنة في التاريخ البشري يقنن ويؤصل لعهود ومواثيق المواطنة المشتركة ، في إطار التنوع الديني والثقافي ، مما تضمنته تلك الصحيفة من قيم ومبادئ :
1. أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية أمة واحدة من دون الناس .
2. وأن الحرية الدينية مكفولة لكل مواطن .
3. وأنهم جميعاً مسؤولون عن رد العدوان وحفظ سيادة الأوطان .
4. وأن عليهم النصح والبر ، فيما ليس فيه إثم .
5. وإن الجار كالنفس ، غير مضار في أمنه وكرامته.(6/87)
فهذه القواعد السالفة الذكر ، وغيرها مما جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وتكون بتكاملها المنطلق الأساس لعقد المواطنة في نظام الإسلام وشرعته ، الذي يؤكد أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية ، وهم أمة واحدة تتساوي مصالحهم ، وتتكامل حقوقهم وواجباتهم ، وأن أمنهم واحد ، ومصيرهم واحد ، من غير تمايز ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح ، ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام يقوم على ما يلي :-
أ. دين الدولة : الإسلام (دين الأكثرية ) القرآن والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الأساس والوحيد لمطلقات وثوابت الشريعة الإسلامية ، والإسلام هو أساس الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع .
ب. عقد الإيمان : وهو للجميع وذلك بإنفاذ شريعته سبحانه وتعالي في تحقيق مصالح المواطنين، وإقامة العدل بينهم وصون كرامتهم ، وتوفير أسباب رزقهم وأمنهم واستقرارهم.
ت. عقد الأداء : وهو عقد بين الحاكم والمحكومين من المسلمين ، يلتزم الجميع بموجبه بإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة ، من قيم ومبادئ ونظم وأعراف وتقاليد مثل : الدستور وغيره في إطار عقد الإيمان وما تضمنه من ثوابت ومنطلقات ، والعمل معاً على تحقيق مصالح الناس وصون البلاد وأمنها واستقرارها وسيادتها .
وهذا يعني ويؤكد بوضوح ما يلي :-
1. أن الله تعالى : على أساس من ( عقد الإيمان ) هو المصدر الوحيد لثوابت ومنطلقات التشريع في المجتمع المسلم ( مجتمع الأكثرية).
2. أن الحاكم على أساس من ( عقد الإيمان )،والتزاماً بعقد (الأداء) : مسؤول أمام الله تعالي ، و مسؤول أمام الشعب عن التزام وتطبيق شريعة الإسلام والتزام وإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة من مواثيق ونظم (الدستور وغيره )، والعمل بأمانة وإخلاص على إقامة العدل بين الناس جميعاً .
3. أن الشعب على أساس من (عقد الإيمان) والتزاماً بما ينص عليه (عقد الأداء )ويتناقص مع مواثيق عقد الإيمان وعقد الأداء ومطالب كذلك بتحمل مسؤولياته في إعانة الحاكم [ولي الأمر] وبذل النصح والمشورة له بما يعينه على أداء مهامه ومسؤولياته وواجباته ,وفق عقد الإيمان وعقد الأداء ,وبما يحقق مصالح المواطنين وأمن البلاد وسيادتها وارتقاءها . والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا : وماذا عن موقع المواطن غير المسلم في ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام ؟.
ونجيب فنقول : وحيث أن المظنة بأهل الإيمان بالله تعالى أياً كانت طبيعة اعتقادهم أنهم من حيث الأصل والمبدأ يحرصون على تحقيق إرادة الله تعالى ومرضاته ، وعلى أساس من هذا الظن الحسن أعتقد أن العقد الاجتماعي في الإسلام يتسع بكل موضوعية وجدية للمواطنين غير المسلمين في ضوء التوضيح التالي:
أولاً : أحسب أن عقد الإيمان يتسع لهم ، باعتبار أن ثوابت الشرائع الربانية التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام متكاملة ، ولا تصادم ولا تناقض بينها من حيث الأصل، وقد أكدت جميعها على إقامة العدل ، وكرامة الإنسان وحريته ، وعلى الحب والتسامح في مرضاة الله ، والتعايش الآمن بين الناس ، وعلى سلامة البيئة وعدم إفسادها، وحثت على استثمار ما في السموات والأرض لصالح كرامة الإنسان وصون حياته، والشريعة الإسلامية تؤكد على ذلك كله
وثانياً : فعقد الإيمان هو الضامن والحارس الوجداني لتحقيق هذه القيم الربانية وغيرها من أجل صون كرامة الناس جميعاً.
ويتسع ( ثالثاً ) لفعاليتهم وممارسة حقوقهم وأداء واجباتهم ، باعتبار أن كل مواطن من حيث الأصل والمبدأ يحرص على:
1. حرية اعتقاده وممارسة عبادته .
2. احترام خصوصياته وحقه بالاحتكام إلى قيمه الدينية فيما يتعلق بشؤونه الشخصية.
3. تأمين مصالحه الدنيوية دون الإضرار بمصالح غيره ، ومن دون انتقاص أو تميز.
4. تحقيق طموحاته وآماله الشخصية والوطنية في سياق المصالح العامة للمواطنين.
5. العيش بكفاية وأمن واستقرار.
6. المشاركة في خدمة بلده ، والمحافظة على أمنه واستقراره وسيادته.
وباعتقادي أن ذلك كله وغيره مضمون ومكفول في العقد الاجتماعي في الإسلام ، ولمزيد في التوضيح نقول أن الإسلام كما هو معلوم عقيدة وشريعة.
والعقيدة : وهي التي تمثل الخصوصية الدينية للمسلم ..فقد حسم الإسلام أمر الآخرين معها بقول الله تعالى :( لكم دينكم ولي دين) ، أي أن المواطن غير المسلم في المجتمع غير المسلم له حرية الاعتقاد وله حرية ممارسة العبادة.
أما الشريعة : فهي تتكون بصورة رئيسة من شقين اثنين:
1. قواعد وأحكام ومبادئ تتعلق بالأحوال الشخصية .
2. قواعد ومبادئ ونظم وضوابط تتعلق بالحياة العامة للناس.
فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، فقد حسم الإسلام أمر المواطنين غير المسلمين بشأنها ، بأن أعطاهم حق التحاكم في ذلك إلى شرائعهم الخاصة إن رغبوا .
أما ما يخص الجزء من الشريعة الإسلامية المتعلق بالحياة العامة ، ونظم ومبادئ تصريف مصالحها ، فأن المواطنين غير المسلمين ، فهم جميعا سواء دون تمييز ، تحكمهم جميعاً مواثيق الأمة ولوائحها الدستورية ، وعلى أساس مما سلف ، لا أرى أن هناك أدنى إشكالية للمواطنين غير المسلمين مع الشريعة الإسلامية وميثاق المواطنة ( العقد الاجتماعي الوطني).
ثانياً: الميثاق العالمي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) ، الذي تضمنته الوثيقة المعروفة والمشهورة في كتب السيرة ( بخطبة حجة الوداع ) ، التي أصلت وأسست لأول ميثاق عالمي ، يرسم القواعد والمبادئ الجامعة لسياسة دولة الإسلام الراشدة في مستواها العالمي ، ويقنن للمعايير والضوابط المنصفة للتعايش البشري الآمن ، في إطار التنوع القومي والعرقي واللوني والجنسي والديني ، وكان من أبرز ما جاء بخطبة الوداع أو الميثاق العالمي ( العقد الاجتماعي العالمي) َقَوله صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بالتَّقْوَى ، أَبلَّغْتُ ؟ " ، قَالُوا : بلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ"...........................أخرجه الإمام أحمد في المسند.(6/88)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَاب اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ ، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" ..........................................................................................................البخاري .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا عِبَادِي : إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا" .........................................................................................................مسلم
1. أيها الناس إن ربكم واحد.. تأكيداً على وحدة مصدرية الإيمان.
2. إن أباكم واحد .. تأكيداً على وحدة الأسرة البشرية .
3. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .. تأكيداً على قدسية حياة الإنسان وممتلكاته .
4. أيها الناس إن الله قد قضى لا ربا .. تأكيداً على الأمن الاقتصادي.
5. أيها الناس إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ..تأكيداً على احترام الوقت وقدسية الأمن والسلام وسلامة البيئة.
6. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً فلكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً. تأكيداً على أهمية دور المرأة شريكة متكاملة الشراكة مع الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة.
7. أيها الناس إن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً فلا تظالموا تأكيداً على أن العدل أساس كل فضيلة وأنه الحارس الأضمن لأمن العباد والبلاد.
إن هذه الأعمدة السبعة ، التي تضمنها الميثاق العالمي لخطبة الوداع ، وما يتفرع عنها من قيم ومبادئ ، وما يتسق معها مما تزخر به توجيهات القرآن الكريم ، ومما تفصل فيه وترفده أقوال وأفعال السنة المطهرة ، وما استنه الخلفاء الراشدون المهديون من بعد ، لهي بجملتها تكون الأسس الراسخة ، والمعالم الجلية للميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) للنهوض بشرف مهمة الاستخلاف في الأرض ، والاضطلاع بمسؤوليات أمانة عمارتها ، وإقامة العدل في ربوعها ، والميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي الإسلامي) يشكل الأساس القيمي والمعيار الأخلاقي ، لتصريف شؤون الناس وإدارة مصالحهم المشتركة وتحقيق التعايش العادل والآمن بينهم وفق أسس ومنطلقات الميثاق العالمي للمصالح البشرية ، الذي رسم قواعده وحدد منطلقاته ربهم وخلقهم جل شأنه اللطيف الخبير بما ينفعهم ويصلح شأنهم.
ثالثاً: الميثاق العالمي للمصالح البشرية .. ويقوم على قواعد ومنطلقات عامة منها:
1. أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف في الأرض .
2. أن عمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس غايتان أساسيتان لأمانة الاستخلاف الرباني
3. أن الناس شركاء في ثروات الكون ، على أساس من احترام حق التملك وصون مشروعية حق الانتفاع.
4. أن حياة الإنسان وكرامته ، أمران مقدسان لا يجوز انتهاكهما بغير حق.
5. أن الرجل والمرأة شريكان تتكامل مسؤولياتهما من أجل عمارة الأرض وإقامة العدل.
6. أن الأرض والبيئة ، هما سكن البشرية المشترك ينبغي المحافظة على سلامتهما وعدم إفسادهما.
7. أن الحقوق والواجبات أمور متكاملة ومتلازمة ، لتبقي العلاقة متوازنة ومنضبطة ، بين مسؤوليات الإنتاج وأخلاقيات ومسؤوليات الاستهلاك.
8. أن الأمن الإقليمي والأمن الدولي ، أمران متلازمان ومتكاملان لا يجوز بحال انتهاك أحدهما لحساب الآخر.
9. أن التدافع الحضاري والتعاون البشري ، أمران واجبان لدرء المفاسد والمخاطر، وجلب المصالح والمنافع المشتركة بين الناس .
10. أن التعارف والتواصل الثقافي والمعرفي بين الناس ، أمر إيجابي لتنمية العلاقات وتطوير المصالح المشتركة بينهم.
11. أن التنوع الديني والثقافي ينبغي أن يكون حافزاً على التنافس في عمل الخير، لا مادة للصدام والنزاع.
12. أن السلم والتعايش العادل والآمن هو أصل العلاقة بين الناس والمجتمعات.
إن هذه المواثيق الثلاثة تكون في تكاملها الأساس لمنظومة الإسلام من أجل عالمية عادلة وعولمة راشدة آمنة .. والإسلام وهو يطرح هذه المواثيق الثلاثة بشأن التعامل بين الناس في الحياة الدنيا .. إنما هو تأكيد على رسالة الإسلام هي رسالة الحياة للناس دون تمييز العولمة والتعاون الدولي مشاركة أم استقلال حامد الرفاعى
إذن والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ولو من الناحية النظرية هو التعاون على أساس استقلال كل منهما وعلى أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم أو نهب الأخرى ، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون ؟.
يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم الطبيعة ونقلها دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها أي في الشق العلمي دون الشق القيمي ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم ، وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك ، بل وتضرب أي نهضة علمية في أي مكان خارج دائرتها الحضارية ؟ !
نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون ، ويحرص عليه ، ولكن التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق ، التعاون يقوم على استقلال حضاري كامل فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها دون شقها القيمي أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقًا لمعًاييرها الحضارية ، وجهتها للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب ، أما نحن فمن المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها وتصبح جزءًا من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقا لمعًاييرنا وقيمنا الحضارية في إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا .
هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب ؟(6/89)
يقول الأستاذ محمد مورو :قلنا أنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب ولا التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لانتمائهما إلى عًائلتي حضارتين مختلفتين ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعًا للنهب والسيطرة . وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية المستقلة ، ولكن هل هناك فرصة للتعاون ؟ .. هل يقبل الغرب هذا التعاون ؟ .. هل تاريخنا معه يسمح بذلك ؟ .. هل تركيب الحضارة الغربية تسمح بذلك ؟ ..
إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية . ورخاء ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لابد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر والعنصرية ؟ هل هم مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو مع غيرنا ؟
أعتقد أن ذلك صعب ، بل يبدو مستحيلا ، وبالتالي فإمكانية التعاون بشروطها الصحيحة صعبة أيضًا ، بل وتبدو مستحيلة وحتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل الشمال عن القهر والعنف والعنصرية فماذا يبقى من الحضارة الغربية ؟ أنهم يسقطونها تمامًا ، أنهم يفقدونها سماتها الأساسية ، أي يقبلون الاندماج في نمط حضاري آخر وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً ، فإننا لن نعاملهم معاملة التابع ، بل معاملة الإسلام التي تقول أنهم أصبحوا مثلنا تمامًا لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص الحضارة الغربية ذاتها ، وبالتالي فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلا ً، ورأي أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون ، فهم ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تمامًا وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسييليف:
' إن أمريكا الآن تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة والتي تركزت كل الجهود الأمريكية خلال أكثر من أربعين عامًا للقضاء عليها ' .
وهذا المعلق السوفييتي المشهور فاسييليف استخدم في الحقيقة نفس المصطلح المستخدم دائمًا من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا ، وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف مدارسها هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ .. الإجابة: هذا صعب بالطبع.
إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال الحضاري لكل منا ، إلا أنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك ولا رأي قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك ، ولا تداعيات التاريخ القدم والحديث تسمح بذلك ، وبالتالي لكي نعيش لا نخضع ونذوب وننتهي لابد من المواجهة ...............................الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!
معوقات الحوار
مما تقدم يمكن إجمال أهم معوقات الحوار الديني و الحضاري في ثلاث نقاط:
1- معوقات تاريخية سياسية نتجت عن صراعات وحروب بين طرفي الحوار: الإسلام والغرب، لم تنته حتى عهد قريب، مثل الحروب الصليبية ، وحرب ما سمي بالتطهير العرقي في جمهورية البوسنة والهرسك ، وأخيراً العراق وأفغانستان والصومال على اعتبار أن أثيوبيا ما هي إلا ذنب للغرب في قارة أفريقيا وتحارب المحاكم الإسلامية بالوكالة .
وكذلك موقف الغرب غير المنصف من القضية الفلسطينية، لقد أصبح المسلمون بذلك لا يواجهون عقدة التغلب على الماضي فقط، بل أيضا معضلة التغلب على الحاضر الماثل أمام العيان، والذي لا يبشر- إذا ما استمر- بمستقبل يبعث على التفاؤل.
2- معوقات تأويليه عند بعض المسلمين والغربيين المسيحيين، تتمثل في عدم اعتراف أحد أطراف الحوار بسماوية الدين الآخر.
فبينما يعترف الإسلام بسماوية مصدر كل من اليهودية والمسيحية، بل ويجعل الإيمان بصدق رسالتي موسى وعيسى (عليهما السلام) ركنا هاما من أركان العقيدة الإسلامية، لا نجد ما يقابل ذلك من اليهود والمسيحيين، إذا ما استثنينا من ذلك الإشارة غير المباشرة التي تضمنها قرار المجمع الكنسي الثاني الصادر عام 3/1964.
3- معوقات فردية تتعلق بمدى أحقية الشخص المشارك في الحوار في الحديث باسم دينه واعتبار نفسه ممثلا للقاعدة العريضة لهذا الدين أو ذاك، والتشكيك في هذه الأحقية يأتى من الداخل كما يأتى من الخارج.
أعتقد أن كلتا النقطتين الأولى والثانية واضحتان ولا تحتاجان إلي تفصيل قد يخرج هذا البحث عن إطاره المحدد له في هذا الموضع. أما النقطة الثالثة فتستحق، في نظرى التوقف عندها بعض الوقت، لأنها تمثل عائقا خفيا لا يظهر في كثير من الأحيان، بينما هي سبب أساسي في تأخر ظهور نتائج إيجابية للندوات والمؤتمرات والأبحاث التي جندت لخدمة وإثمار الحوار الدينى والحضاري. وتتمثل هذه الصعوبة في أن كثيراً ممن يؤيدون ويشاركون بفاعلية في أنشطة الحوار الديني يواجهون غالباً هجوماً على الجبهتين الداخلية والخارجية. ففي الداخل يتهمهم غير المؤيدين للحوار، ممن لا يرون فيه سوى مضيعة للوقت بلا جدوى بالتفريط وتقديم التنازلات الكثيرة للطرف الآخر طلباً للشهرة والمجد الشخصي على حساب الدين، وأنهم لا يمثلون القاعدة العريضة للمسلمين من وجهة نظرهم.
أما في الخارج فيتهمهم الطرف الآخر للحوار بالتزمت، والرجعية، وعدم المرونة لمجرد أنهم ليسوا على استعداد للتفريط في هويتهم الإسلامية، أو التنازل عن أى مبدأ من المبادئ الأساسية لعقيدتهم. فهم بذلك مفرطون في التحرر في نظر بعض إخوانهم من جانب، ومفرطون في المحافظة أو التزمت في نظر بعض محاوريهم من جانب آخر. بل إنني أكاد أدعى أن الغرب يريد التحاور فقط مع أشخاص تتوافر فيهم شروط يحددها هو، وينيب عمن يريد ذلك أنه حينئذ سيتحاور مع نفسه، وليس مع الغير ، وهو المطلوب.
وقبل الانتقال إلى الحديث عما يمكن أن يقرب بين وجهات نظر طرفي الحوار أود طرح بعض الأسئلة التي تتضمن ذكر أهم المعوقات وتشير في ذات الوقت، بطريق غير مباشر، إلى كيفية التغلب عليها انتصاراً لقضية الحوار الديني والحضاري:
1- هل حضارة العصر الحديث حضارة إنسانية بالفعل ، وبالتالى تستحق منا نحن ـ المسلمين ـ السعى إليها بكل الوسائل المتاحة، والتضحية من أجلها ببعض مبادئنا؟
2- هل يخلو الإسلام حقا من كل مقومات التقدم بالدرجة التي تجعله نقيضا لها؟
3- كيف نفسر عدم تغير التصور الخاطيء عن الإسلام في الغرب على الرغم من وجود كم هائل من المؤتمرات والأبحاث المتخصصة، إضافة إلى الاحتكاك المباشر اليومى مع المسلمين في الغرب؟
4- هل يبرر وجود عقدة ذنب في الغرب تجاه جماعة دينية معينة التأييد المطلق لهذه الجماعة بغير حق ضد جماعة دينية أخرى وان كانت الأخيرة على الحق؟
5- لماذا يسقط الغرب نتائج تجاربه السلبية مع الكنيسة في العصور الوسطى على الإسلام دون اعتبار لأي فارق بينهما؟ النماذج السلبية الموجودة حاليا في بعض البلاد الإسلامية لا تبرر ذلك.(6/90)
6-هل من العدل إرجاع كل مظاهر العنف الموجودة في بعض البلاد الإسلامية إلى أسباب داخلية فقط دون أدنى تأثير أو توجيه من الخارج؟
7- لماذا يتهم الإسلام مباشرة بالعنف كلما اتهم متطرف مسلم في عمل إرهابي، حتى قبل أن يثبت عليه الاتهام، بينما لا نجد من يتهم اليهودية أو المسيحية بالعنف قط، رغم الأعمال الهمجية أللإنسانية التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها إلى اليوم يهود ومسيحيون وهندوس وبوذيون ضد المسلمين؟
8- لماذا يصر الغرب والمغتربون في بلادنا على اعتبار المبدأ الإسلامي بربط الدين بالدولة تخلفاً، وبالتالي كل من ينادى بفصلهما تقدمياً؟.
9- هل يسعى الغرب حقا إلى تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل دول العالم على السواء؟
10-هل تستطيع الأنظمة الديكتاتورية الموجودة في بعض الدول الإسلامية أن تظل في الحكم دون دعم من الغرب؟
هذه هى بعض الأسئلة التي يمكننا من خلالها أن نضع أيدينا على بعض أسباب الإحساس بعدم الثقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين تجاه الغرب، وتجاه كل من ينتسب إلى أيديولوجية من الشرقيين.
إضافة إلى ذلك فقد تدفع هذه الأسئلة كل منا إلى مزيد من النقد الذاتي البناء الذي يُعد السبيل الوحيد للوصول إلى تحاور موضوعي، يمكن أن يثمر تعاوناً إيجابياً يعود على الجميع بالخير والسلام.
ومشكلتنا ـ في الواقع ـ ليست مع الإنسان الغربي، وإنما مع الحكومات والإدارات الغربية، ومشكلتنا مع الغرب بصفته الاستعمارية الاستكبارية؛ لا بصفته الإنسانية.
إننا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب فيما يملك من الإمكانات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافؤ المصالح، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه، وهذه هي المشكلة.
وعندما يحترمنا الغرب فإننا لا بد أن نحترمه، ولكنه إذا لم يحترمنا فمن الصعب أن نشعر بأي احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فلن نقدّم للغرب عندها باقة ورد.
منطلقات تدعم الحوار مع الغرب
يقول تعالي : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِ نْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
ويقول تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ ، فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ ، وَيَقُولُ : أَلَا غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلَاحِمُ ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ ، فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ( أي الراية أو اللواء ) ، مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ آلَافٍ"..... .........................................أخرجه الإمام أحمد .
في المقابل للنقاط التي أوجزت فيها معوقات الحوار توجد منطلقات إسلامية كثيرة وإيجابية إلى أبعد الحدود يمكنها- إذا أحسنا توظيفها- أن تمهد الطريق لحوار ديني حضاري بناء بين العالم الإسلامي والغرب بمفهومه الواسع الذي يشمل كل الدول غير الإسلامية، ويتطلب ذلك منا أولاً أن نجعل من تراكمات الماضي المؤسف، ومن وقائع الحاضر المؤلم دافعاً قوياً يدعم الإيمان بضرورة الالتقاء على كلمة سواء، والثقة بأن العنف لم ولن يحسم الصراع لصالح أحد الأطراف، فضلاً عن أن يقرب بين نقاط الخلافات العقدية والمنطلقات الثقافية، فيصبح الحوار الديني الحضاري على رأس قائمة أولوياتنا.
إن الشعور بالمرارة الذي تكنه الشعوب الإسلامية عامة تجاه الغرب أشد مما يكنه الغرب تجاه المسلمين. فقد ساءت آراء المسلمين عن الغرب وعن الشعوب الغربية بصورة كبيرة على مدار العام الماضي. ويحمل المسلمون الغرب مسئولية توتر العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك فإن هناك أيضًا بعض المؤشرات الإيجابية, من بينها حقيقة انخفاض معدلات دعم 'الإرهاب' في معظم البلدان الإسلامية.
وفي نفس الوقت على الرغم من عمق الانقسامات في العلاقات بين الشعوب الغربية والإسلامية, كشف الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Pew Global Attitudes أن نظرة كل طرف للآخر ليست جميعها سلبية. على سبيل المثال, في أعقاب الأحداث الصاخبة التي حدثت العام الماضي, لازالت الأغلبية العظمى في فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحتفظ عامة بآراء إيجابية عن المسلمين, على الرغم من أن دولة إسبانيا شهدت العام الماضي هبوطًا حادًا في نظرة شعبها الإيجابية تجاه المسلمين حيث انخفضت إلى 29% بعد أن كانت 46%, وكان معدل الهبوط أكثر اعتدالاً في بريطانيا العظمى, حيث انخفض من 73% إلى 63%(4).
وبشكل عام, تعد آراء الألمان والأسبان تجاه المسلمين والعرب أكثر سلبية من نظرة الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين للمسلمين. فهناك 36% فقط من الألمان, و29% من الأسبان ممن لهم آراء إيجابية عن المسلمين, في مقابل [ 39%, و33%, على التوالي ] ممن لديهم انطباعات إيجابية عن العرب. في حين أن الأغلبية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لديهم انطباعات إيجابية عن المسلمين, ونفس النسب تقريبًا لديها انطباعات جيدة عن العرب(5).
وتتمثل أهم دعائم إنجاح الحوار الحضارى فى القناعة المبنية على الواقع في وجود نقاط التقاء مشتركة بين الإسلام والمسيحية، والعزم الصادق على استثمارها إلى أقصى حد ممكن بهدف الوصول إلى فهم صحيح، واحترام متبادل وتعاون بناء مخلص بين جميع أطراف الحوار.
يضاف إلى ذلك ما يمكن استخلاصه من خلال البحث في المعوقات التي أوجزتها في ثلاث نقاط وأعدت صياغتها في عشرة أسئلة، سبق ذكرها قبل قليل وفضلاً عن المبدأ الإسلامي المتضمن بعض آيات الذكر الحكيم والذي يأمرنا فيها ربنا عز وجل بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وألا نجادل غيرنا إلا بالتي هي أحسن. والمقصود بالدعوة فى معنى النص القرآني يرادف المعنى المقصود بالحوار الديني الذي نسعى جميعا إلى تدعيمه.
يقول تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
وعَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ" .................................................................أخرجه الإمام أحمد.
و أوجز في النقاط التالية أهم المنطلقات الإسلامية المدعمة ، في نظري ، للحوار الديني الحضاري:(6/91)
1- يؤمن المسلم بصدق نبوة الأنبياء الذين تلقوا الوحي الإلهي ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى، ثم خاتمهم محمد (عليهم الصلاة والسلام)، وكذلك بصدق أصول رسالاتهم السماوية يقول تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)
2- يلبي الإسلام جميع جوانب الحياة الإنسانية، المادية والعقلية والروحية بدرجات متوازنة كما قدم للإنسان منهجا حياتيا متكاملا يقوم على الربط التام بين الإيمان والقول والعمل، ولا يعترف بما يهمل فيه أحد هذه الأركان يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}الصف.
3-- يعد الإسلام كل عمل نافع في الدنيا لا ينتج عنه أي ضرر لفاعله أو لغيره من البشر جزءاً من عبادة الله. ولا يسأل إنسان إلا عما يفعل، وإذا ما أخطأ دون قصد، أو بقصد، ثم تاب عن ذلك توبة نصوحاً، فرحمة الله وسعت كل شيء يقول تعالى : {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} سورة الأنعام ، ويقول أيضاً : {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) } سورة الأنعام .
4- يقدم الإسلام للإنسان نظاماً اجتماعياً متكاملاً، يضم في تناسق تام المصلحة العامة والمصلحة الخاصة،الدينية والدنيوية، ويرفض رفضاً باتاً الفصل بين الدنيا والدين، وبالتالى فلا يقبل المنهج الغربي العصراني (العلماني). ويستمد الإسلام هذا المنهج في عصر النبوة، حيث كان رسولنا الكريم نبيا وحاكماً لأول دولة إسلامية أسسها في المدينة المنورة ، وكتب لها دستورها الذي تضمن تنظيماً دقيقاً لكل ما احتاجته من مؤسسات وقوانين عُرفت في كتب السيرة بصحيفة المدينة .
5-الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل قادر، ولم يحاربه كما يدعي البعض، ويكفي أن أول خمس آيات أنزلت منه تأمر بالقراءة وطلب العلم، قال تعال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}العلق . ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك في تكريم العلماء فيقول رسولنا الكريم: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ "أخرجه ابن ماجه والترمذي. فلا وجه إذاً لمقارنة الإسلام بالكنيسة فى هذا الصدد كما يفعل دعاة العصرنة (العلمنة) من الغربيين أو المستغربين الشرقيين.
6- تتفق الحقائق العلمية الثابتة التي توصل إليها العلم في العصر الحديث مع تفسير النصوص القرآنية الواردة فى تلك المجالات قبل أربعة عشر قرناً، ويفسر لنا سبب التقدم العلمي الهائل الذي تميزت به الحضارة الإسلامية في عصر قوتها الأولى.
7- أثبت الإسلام قدرته على التعامل مع كل المستجدات والمتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الحياة بفعل تغير الزمان والمكان بواسطة منهجه الفقهى المرن والمتعدد الوسائل (الأدلة الشرعية)، حيث يحتل العقل السليم الموضع اللائق به وبصفته مناط التكليف فى الإسلام، ويأتي في المرتبة التالية بعد القرآن والسنة لكونه أساس الاجتهاد والطريق الرئيسي للإجماع والقياس وسائر الأدلة الأخرى مثل " المصالح المرسلة وسد الذرائع، ومعرفة مقاصد الشريعة ..............وغير ذلك مما يعرفه دارسو أصول الفقه الإسلامى .
8- الحرية السياسية المتمثلة فى حرية التعبير عن الرأي والمشاركة في الحكم مكفولة فى الإسلام، ومنصوص عليها فى القرآن الكريم، ومطبقة فى السنة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين ،يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ، وقد أرسى الإسلام بذلك القواعد الأولى لنظام " ديمقراطي" تتعدد فيه المؤسسات والاختصاصات، يأتي على قمتها مجلس الشورى أو مجلس " أهل الحل والعقد " حسب التعبير الإسلامي.
9- كان الإسلام ولا يزال منفتحاً على الثقافات الأخرى، وكان على المسلمين التعامل والتفاعل باستمرار مع عناصر ثقافية غربية وجدها في البلاد التي فتحها، وأخذوا منها ما رأوا فيه فائدة، وتركوا غير ذلك دون خوف على هويتهم الإسلامية، وعملاً بقول رسولنا الكريم " الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا "أخرجه الترمذي في العلم ، وابن ماجة في الزهد .
10- يوجد في الإسلام جهاز مناعة ذاتية يبدأ العمل عندما يتخطى التأثير الخارجي حدود الإيجابية وينقلب إلى تغريب ثقافي يهدد استقلال الهوية الإسلامية، ولا يتوقف جهاز المناعة الذاتية عن العمل حتى يعيد التأثير الغريب إلى ما دون حد الخطر، ولقد عرف النبي $ هذا الخطر قبل حدوثه فأخبرنا قائلاً: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " أخرجه أبو داوود.
تضمنت هذه النقاط العشر أهم العناصر الإيجابية في التصور الإسلامي والتي تصلح لأن تكون منطلقات قوية لتفاعل وتلاقح إيجابيين بين الإسلام والغرب في العصر الحاضر مثلما كان في عصر قوة الحضارة الإسلامية التي امتدت إلى ما يقرب من ثمانية قرون.
وفي المقابل هناك بعض الملحوظات على موقف الغرب أدت ولا تزال تؤدي- في نظري - إلى تأخر حدوث الوفاق والثقة والتعاون الجاد المثمر بين الإسلام والغرب، وأوجز هذه الملحوظات فيما يلي:
1- يبدو أن كثيراً من الباحثين والسياسيين والإعلاميين فى الغرب لم يعوا بعد أن كثيراً من الباحثين المسلمين أصبحوا يتقنون قراءة ما بين السطور وما تتضمنه بعض العبارات من مغالطات مغلفة بغلاف يظهرها في مظهر الحقائق الثابتة، وأن هؤلاء المسلمين قادرون على الرد المنهجى، والدليل على ذلك استمرار كثير منهم في تكرار ذات المغالطات الموروثة عن العصور الوسطى، والتي ثبت خطؤها عند كثير من الباحثين الجادين، أيضا في الغرب(6). فلا بد من مراجعة جادة لهذا الموقف غير المنصف الذى لا يشجع على الحوار.
2- لعل الغرب لم يدرك بعد أن مرحلة الانبهار اللامحدود التي سادت لفترة طويلة بين المسلمين قد انتهت إلى الأبد، وحل محلها الرغبة الملحة في المساواة التامة، والاحترام المتبادل بين الطرفين.(6/92)
3- للمسلمين وجهة نظر خاصة في تقييم التقدم العلمي الحديث حسب المفهوم الغربي، فيرى المسلمون أن التقدم العلمي الحديث قد اندفع في الاتجاه المادي مهملاً الجانب الروحي في الإنسان، كما أن الغرب قد اقتطع لنفسه النصيب الأعظم من ثمار هذا التقدم، ولم يترك لغيره سوى الفتات الذي يجعلهم دائماً مرتبطين اضطراراً بالغرب.
4- إن الربط المتعسف بين التقدم العلمي وعصرنه (علمنة) الحياة العامة يكشف عن محورية فكرية غربية يريد الغرب فرضها على الغير دون اعتبار لاختلاف المنطلقات والتصورات الدينية والثقافية للغير، إن البحث الموضوعي في التاريخ الإسلامي يثبت بالقطع التلازم بين القوة السياسية وقوة تغلغل العقيدة وهيمنتها على الحياة العامة في العالم الإسلامى.
وفى المقابل فقد بدأ تصدع أركان الدولة الإسلامية مع بداية انحراف نظام الحكم عن هذا المنهج وخضوعه للأهواء والرؤى الشخصية والاندفاع في فصل الأمور العامة في مجال السياسة والاقتصاد والتشريع عن الدين، وقصره على الأمور الفردية الخاصة.
5- مما يؤسف له حقاً أن نجد الغرب يحتفي بكل من يتجنى ويتطاول على الإسلام بغير الحق، ويضفي عليه ما لا يستحق من ألقاب التكريم، فهو مفكر حر شجاع، وثائر على مظاهر التخلف المرتبط بالدين، وتنهال عليه الجوائز التقديرية من أكبر المؤسسات الأدبية، ويفسح له مجال التدريس في الجامعات الأوربية رغم ارتفاع نسبة البطالة بين الأكاديميين من الأوروبيين وما يستتبع ذلك من وسائل الحماية باهظة التكاليف ......إلخ.
لقد أصبح التطاول علي الإسلام أسرع وأقصر الطرق إلى الشهرة وكسب العيش في الغرب، رغم أن هؤلاء الذين أصبحوا فجأة من كبار المفكرين الأحرار والمناضلين المغاوير، كانوا قبيل هذا التطاول ضمن المغمورين من متوسطي الكفاءة العلمية.
6- لقد أثبتت التطورات السياسية في العقود الأخيرة أن حماس الغرب لتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان له حدود جغرافية وثقافية، فعلى سبيل المثال، عندما شرعت حكومة طالبان الجديدة في أفغانستان في تطبيق تعليمات متشددة على السيدات قامت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية بالمظاهرات المنددة لتلك الإجراءات، والتي طالبت فيها الحكومة الأفغانية بالرجوع عن تلك القرارات (الظالمة).
بينما كان رد فعل هذه المنظمات في غاية التواضع عندما كانت الاعتداءات الصربية والكرواتية الهمجية تحصد الآلاف من النساء والأطفال والرجال العزل من المسلمين فى البوسنة والهرسك على بعد بضعة أميال، وعلى مسمع ومرأى من العالم الغربى المتحضر- نصير حقوق الإنسان- وكذا ما حدث أخيراً في أبي غريب وكثير من مدن العراق ،كل ذلك وعلى مدى سنوات طويلة سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من المسلمين.
7- إن تخوف الغرب من نظام حكم إسلامى قد يجد مبرراً له في النماذج السلبية الموجودة في بعض الدول الإسلامية، إلا أن النظرة الموضوعية لنظام الحكم الإسلامي الصحيح سوف تقوض كل أساس لهذا التخوف ويكفي لذلك أن تعاد قراءة التاريخ الإسلامي من جديد بموضوعية وتجرد صادق، خاصة تاريخ الحكم أثناء الخلافة الراشدة.
8-إن أكثر ما يقلق المسلمين في الآونة الأخيرة هو تركيز الإعلام الغربي بكل وسائله على إظهار الإسلام فى صورة العدو الجديد الذى يهدد الحضارة الغربية الحديثة، إتباعاً لمخطط عدائي صريح موجه ضد المسلمين، ترعاه جهات مخضرمة في العداء للإسلام، وعلى رأسها مؤسسات صهيونية ذات نفوذ مالي وسياسي وإعلامي في الغرب. والإسلام بريء من هذا الاتهام الباطل ذي الأهداف المعروفة لكل مطلع في هذا المجال.
نقاط تلاق بين الإسلام والغرب:
رغم ما ذكر من نقاط اختلاف، ونقاط نقد، وتحفظات من جانب المسلمين على موقف الغرب من الإسلام في الماضي والحاضر، إلا أنني أجد نقاط التقاء أساسية وعديدة، لا تساعد فقط على إنجاح الحوار بين الإسلام والغرب بل يمكن أن تكون إكمالاً وتحدياً بناء للحضارة الغربية الحديثة، أوجز هذه النقاط فيما يلي:
1- أولاً وقبل كل شيء لم يكن الإسلام يوماً ما عدواً للحضارة الغربية، القديمة أو الحديثة، فضلاً عن قناعة المسلمين بوجود وضرورة وجود علاقات ثنائية متبادلة فى شتى المجالات، خاصة الثقافية والحضارية بين الإسلام و الغرب.
2- كل من الإسلام والحضارة الغربية يشجع البحث العلمي، ويؤمن بضرورة تطوير حياة الإنسان إلى الأفضل، إلا أن الإسلام يفرض ضوابط خلقية واجتماعية للبحث العلمي من شأنها أن تبقي على العلم خادماً للإنسان كي لا ينقلب عليه فيدمره، إلى جانب ضرورة الحفاظ على التوازن الطبيعي بين الإنسان والبيئة بكل عناصرها الطبيعية.
3- كل من الإسلام والغرب يحترم ويحمي الملكية الفردية، ويسعى إلى تحقيق أفضل استثمار للطاقات والموارد الطبيعية ويشترط الإسلام ألا يأتي ذلك على حساب فئة من البشر أو عنصر من عناصر الطبيعة، لذلك حرم الربا وأحل البيع، كما حرم الإسراف في استنزاف الموارد الطبيعية.
4- كل من الإسلام والغرب يؤيد ويحمي التعددية في الحكم، وحرية التعبير عن الرأي، الإسلام لا يعتبر المساس بالشعور الديني أو الأخلاقي للآخرين جزءاً من حرية الفكر أو التعبير عن الرأي فحسب، بل هو تعدٍ على حقوق الآخرين، يستحق فاعله العقاب العادل، وللإسلام تصور خاص عن التعددية، يتمثل في مجلس للشورى يضم ممثلين عن كل جماعات الأمة، يسمون أهل الحل والعقد، وقد اختلفت آراء الفقهاء فى مدى إلزامية رأي هذا المجلس، فمنهم من رأى أنه ملزم للحاكم، ومنهم من ذهب إلى أنه غير ملزم، والراجح أنه ملزم........................الأحكام السلطانية للماوردي ص 5-7.
5- استحدث الإسلام مؤسسة اجتماعية جديدة تعمل بالتعاون مع المؤسسات القانونية والأمنية المعروفة، على حفظ النظام فى الأماكن العامة والأسواق، تسمى " هيئة الحسبة" ومن أهم أهدافها درء الأسباب التي تؤدى- إذا أهملت- إلى وقوع المخالفات القانونية في الأماكن العامة مثل مخالفات الآداب، ومحاولات الغش بشتى أنواعه التجارية والإدارية، وما شابه ذلك من أمور قد تخفي على الجهات التقليدية المسئولة.
6- يحرص الإسلام- مثل الغرب - على ضرورة احترام وتطبيق حقوق الإنسان، ويؤكد الإسلام على ضرورة أن يشمل ذلك كل البشر بقدر متساو، وأن يراعى ذلك في حالات الحرب أو السلم، كما يشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول الكريم ووصايا الخلفاء الراشدين. يقول تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة ، ويقول عز من قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) سورة المائدة ، ويقول أيضاً : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (61) سورة الأنفال .(6/93)
7- المحافظة على سلامة البيئة واجب شرعي على كل مسلم لأنه مستخلف من الله في الأرض لأعمارها، وسوف يحاسب الإنسان على كل ما جناه في حق البيئة التي خلقها الله وسخرها لخدمة الإنسان، فالمحافظة عليها واستثمارها بما ينميها ويزيدها قوة هو من واجب شكر النعمة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد هذا الواجب الشرعي ، يقول تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة. وقد روي عن الرسول الكريم $ أنه قال: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
8- يحرم الإسلام كل أنواع الظلم الاجتماعي، ويؤكد المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم، على اختلاف ألوانها وألسنتهم وأجناسهم ومستوياتهم الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات ، كما أنه وإن لم يحرم الرق بنص شرعي صريح، إلا أنه حبب في عتقهم، وجعله من كفارات الكبائر ، يقول تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } سورة البلد .
9- يتضمن مبدأ المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم تصوراً خاصا لما يسمى " قضية المساواة بين المرأة والرجل" فمما لاشك فيه أن وضع المرأة في كثير من البلاد الإسلامية،الذي يرجع إلى عادات وتقاليد جاهلية يرفضها الإسلام، يحتاج إلى مراجعة موضوعية عادلة تعطي المرأة حقها الشرعي الذي قسمه الله لها، متفقاً مع طبيعتها التي تختلف بلا شك في بعض الجوانب عن طبيعة الرجل، إلا أن هذا الاختلاف، كما أنه لا يبرر بأية حال سلب حقوقها الطبيعية والشرعية، لا يعفيها من القيام بواجباتها التى تتفق مع طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عليها، مثل واجب الأمومة الذي لا يدانيه في الأهمية أي وجب آخر لرجل أو امرأة، ويؤكد ذلك عديد من آيات الذكر الحكيم ، يقول تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة، ويقول تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء ، وكثير من الأحاديث الشريفة ، قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ". أخرجه الترمذي وغيره .
وصدق الشاعر حين قال :
"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق "
ومن حيث المبدأ، لم يحرم الإسلام على المرأة ممارسة أي عمل شريف لا يجبرها على تعدى حدود الشرع الخلقية، من حيث الملبس أو الاختلاط المشبوه مع الرجال غير المحارم.
وأفضل الأعمال بالنسبة للمرأة وأبعدها عن الشبهات، خارج المنزل، هي الأعمال التي تخص النساء والأطفال خاصة في مجال الطب والتمريض والتربية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك تحريم عملها في غير هذه المجالات طالما روعيت الضوابط الخلقية الشرعية المتفق عليها.
10- يدعو الإسلام (مثل المسيحية) إلى التسامح ويرفض كل أساليب الإكراه في الدين أو التعصب العرقي أو غير ذلك. قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (256) سورة البقرة.
11- يدعو الإسلام، كما تدعو المسيحية، إلى التواد، والتراحم، والتكافل بين كل أفراد المجتمع فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير tماٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".أخرجه مسلم.
ويضمن ذلك في الإسلام نظام دقيق لتوزيع الحقوقى والواجبات داخل دوائر اجتماعية تبدأ من الأسرة، ثم الأقارب، ثم الجيران، ثم البلدة، ثم تتسع إلى أن تشمل كل أفراد المجتمع، بل والأمة الإسلامية كلها بمن يعيش فيها من غير المسلمين.
ويشرف على تطبيق ذلك مؤسسات بعضها رسمي مثل وزارة الأوقاف، وبعضها خاص تمول عن طريق ما يأتيها من أموال الزكاة والصدقات بكل أنواعها،قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة.
12- يتضمن التصور الإسلامي كلاً من الجانب التشريعي للحياة، الذي اهتمت به أيضا اليهودية،والجانب الروحاني الذى ركزت عليه المسيحية، يتجلى ذلك في إجازته للعقاب على الخطأ من جانب، وحثه على مقابلة الإساءة بالعفو عند المقدرة، بل ومقابلة السيئة بالحسنة، بمعنى أن تحسن لمن أساء إليك، وقد ورد هذا المعنى في كثير من آيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة ، يقول تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت. وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "..أخرجه أحمد والطبراني .(6/94)
13- إن الحرية الإنسانية الحقيقية لا تتحقق في أجل معانيها إلا إذا أفرد الإنسان ربه بالعبودية الخالصة، لأنه بذلك لا يكون عبدا لأي إنسان، أو لأي مخلوق آخر فى الطبيعة ، يقول تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة ، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟!. قَالَ :أ"َنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" متفق عليه . فهذه الطبيعة مسخرة للإنسان طالما هو يحسن استثمارها، وإعمارها كما أمره خالقه(7).
وبعد... أرجو أن أكون قد وفقت إلى إيجاز أهم النقاط التي تتعلق بموضوع هذا البحث المتواضع الذى حاولت فيه التعريف بأهم نقاط الاختلاف، ونقاط التلاقى بين الإسلام والغرب وكذلك المنطلقات الإسلامية التى تصلح لأن تكون كلمة سواء، وقاعدة مشتركة يبنى عليها حوار بناء يحفظ لكل طرف حقه فى الاحتفاظ باستقلاليته وهويته الدينية والحضارية، دون المساس بحق الآخر فى الاستقلال الدينى والحضاري.
فعندما كانت السيادة الإسلامية في أوج قوتها، خاصة في العصور الوسطى المسيحية، أغفلت التطورات الجذرية التي طرأت في الجانب الآخر وهو الغرب.
وقد حدث الشيء نفسه للدولة المغولية، ومن بعدها الدولة العثمانية، ولم تختلف الحال عن ذلك بالنسبة للدول الأوربية الاستعمارية في العصر الحديث وفى كل تلك الحالات كان الانحطاط الحضاري النتيجة المنطقية لغرور القوة والعظمة، ولم تتعلم اللاحقة من السابقة فذاقت كلها ذات المصير، وإنْ كان ذلك بنسب متفاوتة، فهل نتعلم نحن اليوم مسلمون وغير مسلمين من دروس التاريخ؟!!!.
إنني على ثقة تامة أن كلاً من المجتمعين الإسلامي والغربي يمكن أن يكمل أحدهما الأخر ويصلا يداً بيد إلى حياة أكثر أمناً وسلاماً وعدلاً ورخاءً.
فعند أبي داوود سَألَ جُبَيْرٌ بنُ نُفَيرٍ ذا مُخبرٍ الحبَشي t عَنِ الْهُدْنَةِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ".....أخرجه أبو داوود في سننه وصححه الألباني
إذاً الهدنة ( المصالحة الآمنة ) ممكنة من حيث الاستقراء الذي طرحناه عبر هذه الأطروحة ، وهي قادمة لا محالة من الناحية الشرعية حيث أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، ونحن نؤمن بما قاله صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ، ونستشهد على ذلك بما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدي بن حاتم رضي الله عنه ، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ : "يَا عَدِيُّ ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ "؟. قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" . قُلْتُ : فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟. "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى " .قُلْتُ :كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟. قَالَ : "كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟. فَيَقُولُ : بَلَى . فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا ، وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟. فَيَقُولُ: بَلَى . فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " . قَالَ عَدِيٌّ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. أخرجه البخاري في صحيحه .
بقي أخي القارئ الكريم أن تعرف أن عدي بن حاتم t يوم أن جرت معه هذه الحادثة كان نصرانياً !!!!.
ولكن ما الكيفية المناسبة لهذا الحوار ؟
أولا: بساطة المعنى ووضوح الفكر
يستند الحوار المثمر مع غير المسلمين على البساطة فى اللفظ، والوضوح فى المعنى، واليسر فى الدين، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس. وأحيا الأخلاق، ورفع من شأن الفضيلة فى زمن قياسي كما فعل محمد بن عبد اللهr، من خلال نشاط تبين من خلاله أن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى مقدرة عقلية وملكات ذهنية كبيرة، وإنما يرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذى يخاطب فطرة الإنسان، ويتعامل مع ظروفه، ويلبي رغباته، ويعالج قضاياه، ويرد على تساؤلاته، ويربط في تناسق وانسجام، بين ما يتضمنه من حقائق وواقع الحياة، فمشكلات الناس وقضاياهم، يجدها الإنسان معروضة بصورة مبسطة، سهلة الفهم والاستيعاب فى القرآن الكريم، وفى سنة الرسول r.
ثانيا: حوار يستند إلي منطق العقل ويقوم على الحجة البالغة
لقد كتب الله فى سننه أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون، كما كتب الله فى لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه.
وقد جعل الإسلام العقل حكماً في كل شيء، فمن ربى على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يعرف أنه خير ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.
والحوار يجب أن يحترم العقل الإنساني ، ويقدر الفكر البشري ويضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد.(6/95)
وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية، يؤكد ذلك ما قاله الله تعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف ، وقال : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (174) سورة الأعراف ، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) سورة الروم.
وتشير كافة الأدلة والبراهين على أن الإسلام دين يقوم على المنطق، ويستند إلى البرهان في مخاطبة الناس جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين، وقد أمر الله بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعنى فقد شخصية الإنسان، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرم كل ما يؤثر عليه من المسكر والمفتر، ووضع عقوبة قاسية لمن ينتهك حرمته.
والحوار مع غير المسلمين يجب أن يستبعد أسلوب الأهاجة والإثارة ، لأن هذا الأسلوب وإن حقق بعض أغراضه لدى جماهير المسلمين، إلا أنه لا يصلح لمخاطبة غير المسلمين، ولعله من غير المنطقي مخاطبة غير المسلمين بالحجج القرآنية والنهج النبوى، والسبيل الوحيد للحوار معهم هو الأدلة العقلية، والأمثلة الحياتية، والحجج المنطقية
ثالثا: الحوار بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن
الحوار بالكلمة الطيبة يأتى فى مقدمة طرق التفاهم مع غير المسلمين،لأن هذه الكلمة هى التى تحمل للناس البشرى، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، ولا تسيء إلى أحد، ولا تعنف أحداً، وهى الكلمة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها، وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها، وهى البلسم الشافي يداوى الجروح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.
وإمعانا في التسامح والرفق والرحمة والصبر حث الإسلام على التحلي بحسن الخلق، وسماحة النفس، ولين القول، والإعراض عن اللغو فى الحديث، وعدم التجاوز فى القول، وقد نهج محمد بن عبد الله rهذا النهج، مجسداً كل معانيه، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين ملتزماً في ذلك بأوامر الله جل وعلا الذى حثه على اللين والرقة فى معاملته للجميع.
رابعا: التدرج المرحلي في الحوار.
التدرج هو واحد من أبرز المناهج المناسبة للحوار بين المسلمين وغيرهم،لاسيما أصحاب الديانات السماوية الأخرى نظرا لوجود مساحة مشتركة من التفاهم بين الإسلام والعقائد الأخرى، وهنا يجب أن يبدأ الحوار بالعوامل المتفق عليها، ويتدرج بعد ذلك حتى يصل إلى القضايا الخلافية، يجب أن تعتمد عليها وسائل الإعلام فى مخاطبة غير المسلمين.
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هى التى جعلته يبقى على نظام الرق الذى كان سائدا فى العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة فى تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حل، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج (20).
وبعد... وفى ضوء هذه الحقائق فإننا نستطيع أن نجمل هذه الركائز التى يقوم عليها المنهج الإسلامي في الحوار مع غير المسلمين وذلك فى النقاط التالية:
1- أن الحوار مع غير المسلمين ضرورة حياتية لتحقيق التفاهم والتعاون والتقارب بين المسلمين وغيرهم.
2- نتحمل كمسلمين أهمية كبيرة في توضيح القيم الإسلامية البناءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى وتصحيح الصورة الذهنية التي تروج لها الوسائل المغرضة لتشويه هذه الصورة وإحداث الفتنة بين المسلمين وغيرهم.
3- يؤكد الحوار على تأكيد المبادئ النبيلة التى يحث عليها الإسلام لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للناس جميعاً.
===============
أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!
إعداد: عادل الراجحي
اشتق لفظ التطبيع (Normalization) من الكلمة الإنكليزية (Normal) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه)، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).
حقيقة التطبيع مع اليهود:
"أنه يشمل (كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين) ويهدف إلى (إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م).
وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' (موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت).(6/96)
وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله - تعالى ـ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة: 1).
ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين، " يقول اليهودي هركابي (الأب الروحي لرابين): لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب؛ لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية " كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي)، ويقول شيمون بيريز: إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها (إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران).
ثانياً: إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع:
هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع:
1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام.
2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم "، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن: ليوسي ميلمان ودان رفيف) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك.
3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة، وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز)الذي طرحه في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عام 1993 م، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى (الشرق الأوسط الكبير) الذي من أبرز عناصره:
- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية - غربية - إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.
- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية ".
4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهيئ لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح.
5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم.
6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.
ثالثاً: مراحل التطبيع:
المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م (اللقاءات السرية):
كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن، وبعضها قبل حرب 1967م، وما كشفه كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن: عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 - 1976 م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر والكيان الصهيوني .
المرحلة الثانية: مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م (كسر الحاجز النفسي):
زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977 م، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979 م، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً.
المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...(الهرولة السريعة):(6/97)
جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية.
المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م (التهدئة التكتيكية):
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى):
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.
المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق (الهرولة الجماعية):
يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وهو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توافر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي.
رابعاً: نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني:
أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني 1979 م):
" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:
1-يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي.
2-يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.
3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض." (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية).
ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله _تعالى_: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن.
ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن والكيان الصهيوني 1994 م ):
لا يخفى اهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
خامساً: من وسائل التطبيع:
من أخطر وسائل التطبيع، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:
1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.(6/98)
2 - إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:
أ - الطعن في الإسلام وادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية...الخ.
ب - القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.
جـ - الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.
3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ – تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – وإلغاء ذاكرة الأمة.
4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية، تفتقد المرجعية العلمية، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة.
5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.
6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالإرهاب.
7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة (عزمي بشارة) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.
فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً.
سادساً: من فعاليات التطبيع:
ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية والصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار " مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:
- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.
- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.
ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش (مارس 1994م)، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة"، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب.
وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:
- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).
- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).
- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.
- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.
من آثار التطبيع
أولاً: فلسطين:
1 - الجانب السياسي:(6/99)
من أبرز المبادئ اليهودية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين العمل على عدم تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية مستقلة؛ لأن إقامتها يعني وجود منافس حول الشرعية المرتبطة بالأرض التي يعيش عليها اليهود، وأخطر من ذلك سياسة استيعاب الشعب الفلسطيني عن طريق:
- استيعاب الفرد معنوياً وحضارياً سواء بإيجاد الاحترام والانتماء العربي أو بإيجاد الإعجاب بالحضارة اليهودية.
- تشجيع زواج العربي باليهودية وخاصة الشرقية مع مخالفة ذلك لمبادئ النقاء اليهودي ولكن ذلك قد يؤدي في الأمد البعيد إلى إضعاف العنصر الفلسطيني.
- الاستئصال العضوي وله وسائل متعددة كالقتل أو الطرد أو التشجيع على الهجرة الدائمة.
وإذا نظرنا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، فإنها تجد نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والاستخباراتي خصوصاً، مما يضرها وهذا بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما تقلل مساحة الوجود للفصائل الفلسطينية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل لهذه الفصائل.
2 - الجانب الاجتماعي:
سعى اليهود للتقليل من تكاثر المسلمين في فلسطين (عام 1948م) خاصة وبقية الأراضي المحتلة بوسائل متعددة كنشر الأمراض الجنسية وترويج مواد استهلاكية وأدوية تؤدي إلى العقم، وقد صرح وزير الصحة الفلسطيني السابق عبد العزيز شاهين عن اكتشاف ما يقارب العشرين طناَ من علكة لبان تسبب العقم كانت توزع داخل فلسطين المحتلة.
3 - الجانب الاقتصادي:
منذ العام 1967م بدأ اليهود باستخدام العملة اليهودية في المناطق المحتلة وتحويل أفرع البنوك العربية إلى بنوك يهودية وفتح باب التبادل التجاري بين المناطق المحتلة و الكيان الصهيوني وتشجيع زراعة المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الكيان الصهيوني للاستهلاك المحلي أو قيامه بتصديرها إلى أوربا وتنشيط إدماج العمالة العربية في قوة العمل اليهودية لتوثيق الامتزاج الاقتصادي ولكن بشروط قاسية حيث يعمل العربي ساعات أكثر من اليهودي ويأخذ أجراً يماثل نصف أجر العامل اليهودي الذي يؤدي العمل نفسه، إضافة إلى تعرض بعض العمال العرب إلى اعتداءات عنصرية من رجال الشرطة أو رجال سلاح الحدود اليهود بل وحتى من العمال اليهود.
ومع استمرار مسلسل الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية تزايد عدد الأسر الفقيرة إما بسبب مقتل عائلها أو اعتقاله، وكان من نتيجة ذلك سيطرة اقتصادية يهودية شبه كاملة على الضفة وقطاع غزة، بلغ فيه حجم التعامل الاقتصادي مع اليهود 83% وحقق اليهود من ورائها سوقاً يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الأفريقية، وبعد بدء مسلسل المفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني ظهر منذ البداية الاهتمام الأميركي ـ الصهيوني بالمضمون الاقتصادي للعملية السلمية، حيث تم التركيز بشكل خاص على ضرورة البدء بإقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد بادرت مدرسة جون كيندي في جامعة هارفارد إلى دعوة اقتصاديين أكاديميين من فلسطين والأردن والكيان الصهيوني ليعملوا تحت أشراف اقتصاديين أميركيين على تحديد مستقبل التعاون الاقتصادي بين بلدانهم وعقد ذلك المؤتمر قبل توقيع اتفاق أوسلو، وتم بعد ذلك اعتماد الكثير من توصياته في الاتفاقية الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير التي وقعت في باريس العام 1994 م.
وقد كان الفلسطينيون قد وعدوا عند توقيع اتفاقية أوسلو بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولكن الواقع الحالي يشهد بما يعانيه ساكني مسرى الأنبياء من فقر وحاجة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.
ثانياً: مصر:
1 - الجانب السياسي:
تم عزل مصر عن محيطها العربي فلم يكن لها دور في أحداث عظام وقعت بعد توقيعها لاتفاقية (كامب ديفيد) كتدمير المفاعل النووي العراقي وقمع اليهود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشراسة ودعمهم لإثيوبيا ولحركة التمرد في جنوب السودان وغيرها من الأحداث، أما على الصعيد الداخلي فقد كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس (الإسرائيلية)، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري (الإسرائيلي) بالسفارة، والتي كشفت في أوائل أغسطس 1985م، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية (الإسرائيلية)، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى (إسرائيل) عبر الحقيبة الدبلوماسية، وكذلك قام ضباط "الموساد" بالسفارة (الإسرائيلية) بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى (إسرائيل)، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.
وهناك قضية (الإسرائيليين) الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلماَ للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها.(المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م).
2 -الجانب الثقافي:
نشر المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م، بحثاً بعنوان مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والإستراتيجية الصهيونية، وهذه مقاطع من البحث:
]ضمن الإطار التطبيعي أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة، ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية، وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 م "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع، ونظراً لكونه الأخطر في ميدان إستراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلية)، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني حيث ركّز المركز جهوده خلال مدة ماضية للحصول على معلومات عن طلبة كليات العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، فاختير عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت المجهر، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة كتب فيها:(6/100)
بناء على تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات، ونودّ أن ننبهكم أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أحدث ما توصل إليه العلم، فأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدها جهاز لتحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة، و الثاني جهاز لإنتاج سماد يعيد خصوبة الأرض، ويحول الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، لطالب في كلية الزراعة، وهو الوحيد الذي قابل السفير الإسرائيلي في اليوم التالي ليعرض اختراعه، فعرض عليه السفر، وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافأة لكل يوم يقضيه في الكيان الصهيوني، إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في البنك الأمريكي المصري.
والمؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً تطبيعية في جسد المجتمع المصري لا حصر لها، وسوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي:
1- الجامعة الأمريكية في القاهرة.
2- المركز الثقافي الأمريكي في مصر.
3- مؤسسة فورد: يرى باحثون منصفون أنها من أخطر مؤسسات التغريب العالمي الأمريكية، وقد انفردت بتمويل (أبحاث ودراسات الشرق الأوسط) وعبر هذه المؤسسة تقوم وكالة التنمية الأمريكية: (aid ) بتخصيص حوالي مئة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم.
4- مؤسّسة راند الأمريكية، وهي مؤسسة دراسات وأبحاث تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية.
5- معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد "إم-إي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).
6- الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.
7- مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية).
8- "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، ويتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي , كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة، وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها هذا المركز:
-بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".
-دراسة ليوناردو بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".
-دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".
ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري وتمثّل ذلك في عشرات الأبحاث المموّلة ومنها:
دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة... إلخ.
9- هيئة المعونة الأمريكية: استطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل)، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعونة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» [
وقد أوردت صحيفة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م تحت عنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وبينت الصحيفة أيضا: أن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس محبة الحضارة الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.
3 -الجانب الاجتماعي:
أ- ازدياد أعداد المصابين بمرض السرطان بسبب الكثير مما يتم استيراده من الكيان الصهيوني.
ب- انتشار المخدرات بشكل كبير بين فئات المجتمع كلها.
ج - السماح بدخول اليهوديات بأعداد كبيرة بزعم تنشيط السياحة فقمن بنشر الأمراض واقترنت الكثير منهن بشباب مصريين حتى بلغ عدد الزيجات أكثر من عشرين ألفا زواجاً مختلطاً.
د- ظهور جماعات منحرفة من الشباب تحمل عقائد باطلة كمن يتسمون بعبدة الشيطان.
4 - الجانب الاقتصادي:
يعد هذا الجانب من أبرز الجوانب التي يحرص عليها اليهود لأهميته، وقد وقعوا مع مصر على اتفاقية الكويز:(QIZ: qualifying industrial zones) في 12/2004 م، لإقامة المناطق الصناعية (في طور التأهيل) ، وهذه الاتفاقية هي تطبيق للقسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا والكيان الصهيوني المبرمة عام 1985 م، وهي ليست اتفاقية مستقلة بين حكومتين من الناحية الفعلية فقد وافق الكونجرس الأمريكي على إعطاء الرئيس الأمريكي الإذن بالسماح لمصر والأردن بتصدير منتجاتهما إلى أمريكا دون دفع رسوم جمركية بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي بنسبة 7,11 % كحد أدنى، وهي تشمل كل الصناعات والسلع، وقد تم في مصر استبعاد أهم المناطق الصناعية التي تنتج الملابس الجاهزة كمدينة المحلة الكبرى (قلعة النسيج في مصر) ومدينة 6 أكتوبر والتي يوجد فيها أكثر من 200 مصنع وغيرها من الأماكن فلا تشملها الاتفاقية، ويتضح من هذا الاستبعاد مراعاة مصالح خاصة لبعض رجال الأعمال، واتفاقية الكويز تناقض اتفاقية التجارة الدولية (الجات) والتي تؤكد على عدم وضع شروط تفصيلية لبعض الدول دون البعض الآخر، وكذلك هي مخالفة للقانون والدستور المصري لأنها حفظت في مجلس الشعب دون عرضها للنقاش، بل لم تنشر إلى الآن؟(6/101)
ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الاتفاقية أنها لم تحدد الحد الأقصى للمكونات الإسرائيلية الداخلة في المنتجات، وهي ستساهم في زيادة الكساد للمصانع المصرية وستمكن اليهود من اختراق منظومة المعلومات الخاصة بالصناعة المصرية وستدخل غالب الأرباح الناتجة منها للخزينة اليهودية وستتسبب في هروب رؤؤس الأموال العربية وستقضي على حلم السوق العربية المشتركة، وكذلك فإنها ستمكن بقية الدول العربية من إظهار التطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وما سيتبع ذلك من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر.
ومن أبرز المستجدات في الجانب الاقتصادي، قيام شركة (EMG) الصهيونية – المصرية المشتركة بالتوقيع على صفقة لشراء الغاز الطبيعي مع وزير البترول المصري (سامح فهمي) وشركتين حكوميتين تعملان في مجال الغاز في مصر حيث سيتم سنوياً شراء 7 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري ولمدة عشرين عاما بقيمة 5,2 مليار دولار تقريبا ثم بيعه بعد ذلك إلى شركة الكهرباء (الإسرائيلية)، وذكرت مصادر رسمية في مجال الطاقة بالكيان الصهيوني: إن كمية الغاز المتبقية سيتم بيعها لتركيا واليونان ودول أوربية أخرى، وقالت تلك المصادر: إن نسبة الغاز التي ستنقل لشركة الكهرباء الإسرائيلية تصل إلى1,7 مليون متر مكعب في العام الواحد وتقوم شركة(EMG) حالياً بإجراء مفاوضات مع شركات(إسرائيلية) أخرى لبيع كميات من الغاز المصري لها، والشركة يمتلك رجل الأعمال الإسرائيلي (يوسي ميمان) نسبة 25% ويمتلك رجل الأعمال المصري (حسين سالم) نسبة 65% أما الحكومة المصرية فتمتلك 10% فقط من أسهم الشركة.
وكذلك نقل موقع (مفكرة الإسلام) على شبكة الانترنت الخبر التالي: كشف موقع صهيوني أن الرئيس المصري (حسني مبارك) أبلغ (شيمون بيريز) نائب رئيس الحكومة (الإسرائيلية) بموافقته على إقامة منطقة زراعية مشتركة على الحدود المصرية- الصهيونية وذكر موقع (القناة السابعة) العبري الإخباري أن (بيريز) أجرى اتصالاً هاتفياً برئيس مجلس مدينة (رامات هناجف) بصحراء النقب وأبلغه موافقة الرئيس مبارك على مشروع مشترك لتطوير المنطقة الحدودية بين مصر و (إسرائيل) وإقامة مشروع زراعي على مستوى عالٍ يندرج ضمن مشاريع التعاون الإقليمي المشتركة، وقال (موشيه برائيل) مراسل الموقع: إن الرئيس مبارك وافق كذلك على مشروع تقدم به مجلس مدينة (رامات هناجف) يقضي بإقامة معبر سياحي لاستقبال السائحين بالقرب من معبر (نيتساناه) الحدودي بين مصر و(إسرائيل) .
وأخيراً لا يخفى ما يعيشه الناس في مصر من أزمات اقتصادية خانقة متتالية وصل فيها معدل البطالة إلى 5,10 % والدين الخارجي إلى أكثر من 30 مليار دولار وبلغ الدين الداخلي ما يزيد على 300 مليار جنيه.
ثالثاً: الأردن:
1- الجانب السياسي:
"كانت اللقاءات بين الملك حسين واليهود مستمرة عن طريق الوسطاء منذ العام 1950 م، ثم تطورت حتى بدأ اليهود يبلغون الملك حسين بمحاولات اغتياله (1958 م) عن طريق بريطانيا، وفي عام 1960 م اغتيل رئيس الوزراء الأردني المجالي وكان المستهدف هو الملك حسين، وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى سوريا فقام الملك حسين بنقل جزء من قواته المرابطة على حدوده مع فلسطين إلى حدوده مع سوريا وأكد على اليهود بعدم استغلال ذلك، ولكنه عدل عن الفكرة فيما بعد، ثم كان اللقاء الأول للملك حسين مع المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في سبتمبر عام 1963 م، ثم تتابعت اللقاءات إلى أن التقى الملك حسين مع موشي ديان في لندن عام 1977 م " من كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، ولا يخفي مقولة الملك حسين عندما أدخل اليهود في قائمة المؤمنين حيث قال في خطابه يوم 15\11\1994 م:" إن السلام المعقود مع إسرائيل سيكون سلاما تنعم به الأجيال من العباد المؤمنين من نسل إبراهيم, ويؤدي إلى علاقات الإخوة بين المؤمنين الذين جعل الله لهم القدس محج أنظارهم جميعا.
2- الجانب الاقتصادي:
بعد أن وقع الأردن على (اتفاقية الكويز) مع الكيان الصهيوني عام 2003 م، هبط الميزان التجاري الأردني مع الكيان الصهيوني من 24 مليون دولار عام 1999 م إلى عجز بقيمة 26 مليون دولار عام 2003 م وقد تسببت هذه الاتفاقية بخسارة كبيرة لكثير من مصانع المواد الكهربائية وزيادة نسبة البطالة أيضا، ويمكن رصد عينة من ممارسات التطبيع التجاري والصناعي بين الجانبين خلال الأعوام الماضية:
1 ـ يعمل الإسرائيليون على الاستفادة من رخص الأيدي العاملة الأردنية لزيادة إنتاجهم وخفض كلفة الإنتاج، وذلك عبر نقل مصانعهم إلى الأردن، أو اتخاذ مصانع وكيلة لهم في المناطق الصناعية.
2 ـ تهتم هذه المصانع بالاستفادة من الانفتاح الأردني الواسع على الدول العربية لترويج بعض منتجاتها في دول لا تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني بوصف هذه البضائع أردنية المنشأ والإنتاج.
3- من المشاريع الهامة التي نجح (الإسرائيليون) في إقامتها:
أ ـ تمكنت شركة " شتراوس " الإسرائيلية المتخصصة في صناعة منتجات الألبان من نقل جزء من صناعاتها إلى الأردن في منتصف عام 1998 م، وقد خطط لتصدير الكثير من الإنتاج إلى الدول العربية، غير أن الشركة تعاني من صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتها حيث اكتشف عدد من التجار مصدر الألبان الذي تصلهم منه، مما جعل السوق الرئيسي لها هو الدول العربية بوصفها منتجات أردنية.
ب ـ خرّجت كلية " شنكر"الإسرائيلية لتعليم مهنة الحياكة وفنون الموضة وإنتاج الملابس الجاهزة خمسة عشر عاملا أردنيا على نفقة مؤسسات إسرائيلية بهدف إلحاقهم بالمصانع الإسرائيلية التي أقيمت في الأردن.
وقبل فترة وجيزة أعلن رسمياً عن تطوير الاتفاق التجاري الذي يربط بين الكيان الصهيوني والأردن، ما يعطي مزيداً من الفرص للتعاون فيما بينهما للتصدير المشترك لأوربا، فقد أجرت صحيفة (هارتس)العبرية حواراً مع مسؤول التجارة بالإتحاد الأوروبي (بيتر مندلسون) حيث أكد أن هذا الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوربي مع الأردن و الكيان الصهيوني لم يكن رد فعل متأخر لاتفاق (الكويز) الموقع مع الولايات المتحدة، وقال:إن التعاون معهما بدأ قبل تنفيذ هذا الاتفاق، وعن إمكانية التوقيع على اتفاق مماثل بين مصر والكيان الصهيوني قال المسئول الأوربي: إنه يتمنى دخول مصر تلك المنظومة التجارية، كما أشار إلى أن الإتحاد الأوربي يبدي اهتماماً خاصاً باتفاق التجارة الحالي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وأنه معني باستمراره في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه حيث أن مسئولي الاتحاد الأوربي يرون أن هذا الاتفاق إذا تم وقفه سيؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع، كما سيضر بمحادثات السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حسب رأيهم.
وأخيرا فالشعب الأردني المسلم والذي ظلت قيادته متمسكة بتعهداتها للعدو الصهيوني لا يزال يئن من شدة الحاجة والفاقة، وأرضه تحوي من الخيرات والثروات الشيء الكثير، حتى وصل الحال " بحاملي درجة الدكتوراه - العاطلين عن العمل - أن يسيروا في مظاهرات في شوارع عمان " (تقرير بثته فضائية الجزيرة).
رابعاً: موريتانيا:(6/102)
وضع موريتانيا الجغرافي وثقلها السياسي الهش جعلها دومًا بعيدة عن الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني , إلا أن نظام معاوية ولد الطايع (المخلوع) مد جسور العلاقة مع الكيان الصهيوني , وجعل من بلاده أول بلد عربي خارج دول الطوق يكسر حاجز التطبيع مع الصهاينة, ليكون ثالث نظام عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني، ولعلنا نقول: إن علاقات موريتانيا مع الكيان الصهيوني تفوقت واتسمت بدفء مستمر لم تشهده علاقات الكيان مع أية دولة عربية أخرى, ففي نوفمبر 1995 م وقعت موريتانيا اتفاقًا تعترف فيه بالكيان الصهيوني وتقيم علاقات معها، و في أكتوبر 1998م زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني الكيان الصهيوني؛ حيث عقد محادثات مع (رئيس الوزراء الصهيوني السابق) بنيامين نتانياهو، ثم أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني في أكتوبر 1999م, وفي ذات العام تواردت الأنباء عن سماح النظام الموريتاني بدفن نفايات نووية من الكيان الصهيوني في البلاد في صفقة لم يتم الكشف عن جميع أبعادها، وقد زار وزير الخارجية ولد عبدي الكيان الصهيوني في مايو 2001م اجتمع خلالها مع (رئيس الوزراء الصهيوني) أرييل شارون، و(وزير خارجيته) شيمون بيريز، و في أبريل 2002م قاومت الحكومة الموريتانية الضغوط لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، بسبب حملته العسكرية الإجرامية على الفلسطينيين في الضفة الغربية, مع أن مصر قد اضطرت تحت الضغوط الشعبية إلى سحب سفيرها من الكيان الصهيوني وتبعتها في ذلك الأردن، و في مايو 2005 م أجرى (وزير الخارجية الصهيوني) سيلفان شالوم محادثات مع مسؤولين بارزين في الحكومة الموريتانية.
خامساً: المغرب:
يمثل النظام المغربي حالة فريدة في التطبيع من خلال أدواره التاريخية في تسهيل الاتصالات الإسرائيلية - العربية بالمنطقة،منذ بداية الستينات حيث كان يعمل على تهجير المغاربة اليهود إلى الكيان الصهيوني مقابل رسوم مالية بالدولار، ويشكل حجم الجالية اليهودية الكبير وسيلة تواصل دائم بين الجانبين، حيث يوجد حوالي مليون يهودي مغربي بالكيان الصهيوني و300 ألف يهودي مقيم بالمغرب، وهو أكبر عدد لطائفة يهودية في دولة عربية، كما يوجد في المغرب عدة جمعيات يهودية تعمل في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني كجمعية هوية وحوار التي تأسست عام 1974 م، والتجمع العالمي لليهودية الذي تأسس عام 1985م، والمركز العالمي للأبحاث حول اليهود المغاربة الذي تأسس عام 1995 م ، ثم الاتحاد العالمي لليهود المغاربة الذي تأسس في 3 مايو 1999م.
وقد قام النظام المغربي بدور كبير في اتفاقية (كامب ديفيد)، ففي اللقاء التمهيدي بين الحسن الثاني وموشي ديان - وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك - الذي سأل الملك متعجباَ عن كيفية عمله كمنسق بين الكيان الصهيوني والدول العربية، أجاب الملك بكل سهولة: (أتعرف أنه لو علم بوجودك هنا فلن يطيح هذا العمل بي عن العرش والسبب شعبيتي الكبيرة بين اليهود)، ثم تلا ذلك عدد من الاجتماعات بين (موشي ديان) و حسن التهامي (أحد ضباط ثورة يوليو وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) مبعوث الرئيس السادات في مدينة (أفران) بالمغرب سنة 1977 م.
وأخيراً لا يخفى ما أعلنته غالب دول الجامعة العربية بما فيها بعض دول الخليج عدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان اليهودي وذلك عام 1994 م، إلا أن بعضها ما زال ملتزماً بشئ يسير منها، وهذه المقاطعة هي التي كبدت اليهود بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مئة مليار دولار، " وما وصفته الصحافة الأميركية بهدف (إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا The International Rehabilitating of "Israel") وهو هدف يتطلب تحقيق أمرين: الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، والثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية إلى إن السلام في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني، ففي ثلاث سنوات تقريبا تم تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا، على ثلاثة محاور: المحور الأول إقامة علاقات دبلوماسية مع بلدان كانت لا تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحا أن الكيان الصهيوني يولي بلدان جنوب شرقي آسيا اهتماما خاصا.
أما المحور الثاني فهو أن البلاد التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية للكيان الصهيوني أخذت تفتح أسواقها للبضائع الصهيونية، وتقيم مع الكيان الصهيوني مشاريع مشتركة، وعلى سبيل المثال زادت الصادرات من الكيان الصهيوني للبلدان الآسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23 في المئة وأصبحت تعادل حوالي 13 في المئة من مجمل الصادرات الصهيونية بعدما كانت اقل من 8 في المئة ولقد ازداد حجم التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وكوريا الجنوبية حوالي 50 في المئة ما بين 1994 ـ 1996م، كما أصبحت الصين مستوردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فإن الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في الكيان الصهيوني بعد العام 1994م: Intel General Motors, Westinghouse, Mottorola, Salmon, Cablet Wireless, Daimler Brewze, Siemens, Brothers, ولقد أتت هذه الشركات إلى الكيان الصهيوني لأنها ترى في اقتصاد الكيان الصهيوني شريكا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، وهي لا تقيم مصانعها في الكيان الصهيوني من اجل سوقه المحلي، ولكن لأنها تستخدم سوق الكيان الصهيوني بوابة لأسواق الشرق الأقصى أولاً، وأسواق الشرق الأوسط ثانياً، وهكذا بينما كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني عام 1991م لا يتعدى 400 مليون دولار، أصبح عام 1996 م حوالي 2.9 بليون دولار، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في الكيان الصهيوني في العام 1996م، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر" (مجلة الوسط 1-5-2000م
===========
ظاهرة الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ وشريعته في الغرب
والكلام حولها يقع في محاور، هي:
1. مقدمة.
2. ثم حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي_صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.
3. يليها: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.
4. وأخيراً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.
أولاً مقدمة: العداوة القديمة.. والسنة الماضية.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آل محمد، كما صلى على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما بارك على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنه حميد مجيد، وبعد:(6/103)
إن الاستهزاء بمحمد_صلى الله عليه وسلم_ تكذيب وكفر بالله -سبحانه-؛ لأنه_صلى الله عليه وسلم_ "رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" [ الأعراف :61] ثم هو استهزاء وتكذيب بجميع الأنبياء والمرسلين، حيث إن من كذب بنبي فقد كذب بجميع الأنبياء، "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء : 92] "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[ البقرة:285].
فما صنعه بعض النفر من الدنمارك، وأشد منه ما صنعه قبلهم قساوسة العصر، تبعاً لأسلافهم من رهبان الماضي، كفر بجميع الرسل، وتفلت عن القيم العالمية القاضية باحترام الأنبياء -عليهم السلام-، فضلاً عن كونه قلة أدب وسفه من قبيل سفه الصبيان الذين إذا أعجز أحدهم أمر لجأ إلى كيل السباب والتنقصات.
ولا شك أن اللجوء إلى هذا الأسلوب يدل على أن القوم قد أعيتهم الحيلة، وشعروا بالهزيمة المعنوية الممهدة للهزيمة الحسية، فاخرجوا آخر ما في كنانتهم من سهام...
وقد دأب أعداء الرسل -إذا أعيتهم حجة الإسلام البالغة ودمغتهم محجته الواضحة- دأبوا يسارعون في حيدة واضحة، ليخرجوا الحوار حول ذلك التشريع الرباني والهدي الإلهي الذي جاءتهم به الرسل من عند الله إلى قضية أخرى يعتمدون فيها على نقل المعركة من ميدانها الصحيح إلى ميدان لا يجاريهم فيه الشرفاء، فينتقصون من جاءهم بالحق من عند الله، ويرمونه بالمثالب والمعائب فعل العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة المائل لصرف الناس عن الحق والهدى بتطوير الخصومة عن طريق استفزاز أصحاب الحق.
قال الله _تعالى_: "وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [ الذاريات: 38] جاء موسى وجاءت معه الحجة الظاهرة والسلطان المبين، فماذا فعل أستاذهم فرعون لما أتته تلك الحجج والآيات البينات؟ "فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ" [ الذاريات: 39] لجأ للتهم والسباب!
ومع أن هؤلاء اليهود اكتووا بفرية فرعون"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"[ص:4]، لكنهم لم يعتبروا فعادوا لمّا بعث موسى يقولون:"سَاحِرٌ كَذَّابٌ"!، قال ابن جرير في تفسيره بعد أن ذكر سنده لقتادة في قوله: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" [مريم:34] قال: امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله وثالث ثلاثة وإله، وكذبوا كلهم ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه1؟. والشاهد رمي اليهود لعيسى بأنه ساحر كذاب، وقد أخبرنا الله عن حالهم، فقال: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ" [البقرة: 113].
"وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [الأعراف: 65] فكيف جابهوا تلك الدعوة؟ "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين" [الأعراف: 66] .قال القرطبي: "في سفاهة أي في حمقة وخفة عقل"2،وهكذا تسير قافلة الأنبياء، والصورة تتكرر؛ "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" [الذاريات: 52-53]. قال الطبري: يقول _تعالى_ ذكره كما كذبت قريش نبيها محمداً_صلى الله عليه وسلم_ وقالت هو شاعر أو ساحر أو مجنون كذلك فعلت الأمم المكذبة رسلها الذين أحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقومه ما أتى هؤلاء القوم الذين ذكرناهم من قبلهم يعني من قبل قريش قوم محمد_صلى الله عليه وسلم_ من رسول إلا قالوا: ساحر أو مجنون كما قالت قريش لمحمد_صلى الله عليه وسلم_3. قال القرطبي: "أتواصوا به"! أي: أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف للتوبيخ والتعجب، بل هم قوم طاغون أي: م يوصي بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان.
وهذا الطغيان الجامع لأعداء الرسل دأب أهل الباطل جميعاً كما يقول الأستاذ سيد قطب في تعليقه على كلمة فرعون في موسى"إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] ."أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح عن وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان واختلاف المكان؛ والقصة قديمة مكررة تعرِض بين الحين والحين".
وإليك بعض نصوص التلمود عن المسيح عيسى بن مريم لتعلم أن القوم على طريقهم سائرون:-
- جاء في التلمود : "إن المسيح كان ساحرًا ووثنيًا".
- وقالوا: "إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين الزفت والقار".
- وفي التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها".
ويا سبحان الله إن من العجب أن أشد الناس بلاءً هم أعظم الناس حرمة، وهم الأنبياء كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فإذا كان إيذاء المؤمنين الطيبين بغير ما اكتسبوا بهتان وإثم مبين كما قال _تعالى_: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً" [الأحزاب :58] . فإن إيذاء الخاصة أشد إثماً، ولهذا جاء في أشرف أحاديث الأولياء "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"4، وإيذاء أهل العلم والدعاة منهم أشد حرمة حتى قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63] .لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ، فكيف إذا كان هذا العالم أو الداعية ممن أصفاه الله على العالمين إنسهم وجنهم، بل وملائكتهم "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [آل عمران: 33-34]
وقد قال _سبحانه_: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب: 57].(6/104)
إن مما خُبرنا به من أنباء الماضين أن بلعام ابن بعاورا كان من بني إسرائيل، وزعموا أنه علم اسم الله الأعظم فسخر علمه في حرب نبي الله موسى وشرع يدعوا عليه، فقال الله في القرآن مبيناً مثله: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" [الأعراف: 175-177].
ولهذا لا ينبغي أن يعجب من صنيع المستشرقين المتحاملين ومن كتاباتهم منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي الذين تنوعت حملات إساءتهم وتشكيكهم بصحة رسالة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ومصدرها الإلهي، أو في بعض أخباره وآثاره وخصائصه.
ويؤكد المفكر النصراني المعروف المستشار إدوار غالي الدهبي أن هذا التشويه الذي يقوم به الغرب ليس نابعا عن فكر أو قراءة موضوعية لسيرة نبي الإسلام، وإنما هو تشويه متعمد لا يصدر إلا عن أحد نوعين من الناس إما جاهل وإما حاقد مأجور يعمل لحساب النفوذ الصهيوني الذي يهمه أن يشوه الديانات السماوية وخصوصاً الدين الإسلامي ورسوله وأتباعه. وعلى هذا فهو ردة فعل طبيعية لإفلاس الحجة وفقد المنطق.
وبعد هذا التمهيد الذي حكى تاريخاً قديماً وقريباً يبين أصل هؤلاء وأسلافهم وعاقبتهم، أشرع في ذكر:
ثانياً: حقائق سريعة تبين حجم الإساءة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب.
والحوادث كثيرة، ولكني أكتفي بنماذج لها مراميها، فأشير على الصعيد الإعلامي إلى نماذج محدودة، وعلى الصعيد الديني إلى نماذج لشخصيات مشهورة مقربة من الإدارة الأمريكية:
- فأما الصعيد الأول فمنه ما نشرته صحيفة هيوستن برس الأمريكية الأسبوعية، في ولاية تكساس من إعلان لدار عرض أمريكية، تعرض فيلماً إباحياً بعنوان: 'الحياة الجنسية للنبي محمد'.
ورغم الاحتجاجات التي تلقتها دار السينما من مسلمي ولاية تكساس، إلا أنها رفضت إيقاف عرض الفيلم، واستعانت بالشرطة لصد المتظاهرين.
وبالطبع لم يتم اتخاذ أي إجراء لمنع عرض الفيلم من قبل المسؤولين.
- ومن الحوادث القديمة نسبياً والتي تذكر في هذا الصدد حادثة الهجوم على المقر الرئيس لمنظمة "بني بريث"5 ومبنيين رئيسيين في واشنطن العاصمة عام 1977م طلبت فيه مجموعة إسلامية بإلغاء الفيلم السينمائي "محمد رسول الله،" ودفع مبلغ 750 دولاراً كغرامة، وتسليم الرجال الذين قتلوا "مالكوم إكس"6 الداعية المعرف باسم: الحاج مالك شباز.
والغرض من هذا بيان أن الحملة على نبينا _صلى الله عليه وسلم_ قديمة في الغرب وقد كانت لها آثارها إذ ذاك، ولكنها تنشط حيناً وتضمحل حيناً آخراً.
* ومن هذا القبيل نشاط عدد من الإعلاميين الغربيين قديماً وحديثاً ودأبهم على تشويه صورة الإسلام والمسلمين عن سبق إصرار وترصد بدعوى حرب الراديكالية7:
o وهذا ليس بالأمر الجديد ففي عام 1985 خصص الإعلامي الفرنسي المخضرم (برنار بيفو) في برنامجه الثقافي الذائع الصيت "أبوستروف" أو فاصلة بالعربية، حلقةً خاصةً عن "القرآن والعنف"، دعا إليها محمد أركون، وعلال سي ناصر وجيل كبيل وآخرين. رغم هذا العنوان القاطع للحلقة الذي يربط دون تردد بين القرآن والعنف، نجد أن هذا الصحافي يعترف منذ البداية وهو يقدم للموضوع بأنه لم "يقرأ" القرآن! إلا أنه، في ما يبدو، كان قادراً على استخلاص الحكم بأن القرآن يدعو للعنف حتى بدون قراءته!
o واليوم تجد بعض الكتاب قد نذر نفسه لتلك المهمة ومن أمثلتهم الكاتب: دانييل بايبس Daniel Pipes المعروف بانتقاده للسياسات العربية ودعمه للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط الذي يلهج بذكر التهديد الإسلامي الوشيك، وله إسهامات كثيرة في هذا الصدد8. آخرها مقال يحرض فيه على منظمة (كير) ويدأب فيه على تشويه صورتها نشر في الشهر الماضي.
-وأما الصعيد الثاني فهو متمثل في بعض القيادات الدينية، فبعض الإساءات العظيمة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ خرجت من أشخاص لا يقال ليست لديهم خبرة بالأديان، بل لهم خبرة بالأديان، بل إن الإساءة إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جاء من رجال الدين النصارى أنفسهم، فقبل ثلاثة سنوات في عام 1423 نشطت حملة قساوسة في أمريكا غرضها الطعن في نبينا _صلى الله عليه وسلم_ وتشويه صورته:
o فعرف منهم (جيري فالويل Jerry Falwell)9 وهو صاحب كتاب: (فلنتقدم إلى معركة هرمجدون)10، وضع في أوله–عليه من الله ما يستحق- سيرة زائفة لنبينا _صلى الله عليه وسلم_، ويجدر هنا قبل نقل كلمة ذائعة له أن يُعلم أن حزب بوش في 16/أكتوبر/2002 قام بتكريم كل من القسيسين (بات روبتسون) و(جيري فالويل) هذا لمساهمتهم في دعم التيار اليميني المحافظ والحزب الجمهوري.
يقول جيري فالويل في حديث له بث يوم الأحد بتاريخ 6/أكتوبر/2002 على برنامج "60 دقيقية" قال : "أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، لقد قرأت ما يكفي.. من المسلمين وغير المسلمين، إنه كان رجل عنف، ورجل حروب".. وهذا يشعرك بمعنى الإرهاب الذي يحاربون! ونحن لا ندري ماذا قرأ للمسلمين؟ هل قرأ " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"[ الأنبياء: 107]!
وعلى العموم فكلمة هذا الكافر هي نفسها شر من كلمة أسلافه أعداء الأنبياء "....يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" [القصص: 19]، فتلم حادثة عين قبل النبوة لها حظها من الخطأ، وأما هذه فعين كلمة فرعون "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر: 26] .إنها كلمة قوم السوء الفاسقين " أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ" [الأعراف: 127]. وهي الكلمة التي قيلت عن يسوع في التلمود: "لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها"!
o مثال آخر قول (بات روبرتسون Pat Robertson)(11)، أحد مؤيدي بوش وقد كان له أثره الكبير في فوز بوش برئاسة الحزب الجمهوري في مارس 2000، فقد كان يقود الإتلاف اليميني المسيحي المؤيد له، وقد كشف عن هذا منافس بوش، جون ماكين، كما أن بوش يدعمه أعظم الدعم12، وقد أشير إلى تكريم الحزب الجمهوري له مع (جيري)، وقد تصدر (نشيد المسيح!) افتتاح أعمال المؤتمر القومي للحزب الجمهوري من أجل اختيار بوش مرشحاً رسمياً في مارس 2000، وأعلن فيه تبنيه لأفكار تيار اليمين المسيحي.
يقول بات روبرتسون في برنامج هانتي وكلولمز Hannity & Colmes الذي بث في قناة فوكس الإخبارية Fox News: "أنا أقول هذا القرآن ماهو إلاّ سرقة من المعتقدات اليهودية.. ثم استدار محمد بعد ذلك ليقتل اليهود والنصارى في المدينة. أنا أقصد.. أن هذا الرجل كان قاتلاً سفاك دماء"، وقال: "أظن أن الإرهاب قد غدا تياراً وليس فقط عند حفنة من المتطرفين. إذا اشتريت مصحفاً اقرؤه بنفسك فستجد عنفاً يبشر به".(6/105)
وقد أجبر هذا الرجل على الاعتذار عن قوله هذا، ولكنه عاد ليقول في كتابه الذي صدر حديثاً باسم: الاسم (The Name) ص71: "الإسلام أسس بواسطة مجرد فرد بشري مقاتل يسمى محمداً، وفي تعاليمه ترى تكتيك نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً" وقال: "الإسلام بخلاف المسيحية في تعاليمه الأساسية تعصب عميق ضد أصحاب الديانات الأخرى"، فتأمل قوله عن النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إنه كان يدعو قومه إلى قتل المشركين ..إنه رجل متعصب إلى أقصى درجة إنه كان لصاً وقاطع طريق .. ما يدعو إليه خديعة وحيلة ... 80% من القرآن نقل من نصوص النصرانية واليهودية...ثم استدار ليقتل اليهود"..
تذكرت وأنا أقرأ هذه التهمة كلمة اليهود في التلمود: " الناصري [أي المسيحي] هو الذي يتبع تعاليم كاذبة, يبتدعها رجل يدعو إلى العبادة في اليوم الأول التالي للسبت". فقلت صدق الله " تَشَابَهَت قُلُوبُهُمْ" [البقرة: 118]!
وهذا الكلام فيه من مغالطات أسلافه الماضين الشيء الكثير.. بل هو مكرر ممجوج رده القرآن "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"[العنكبوت: 48]، " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" [النحل: 103].
ثم تتكرر الصورة مرة أخرى فيجعل المفسدين من الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل بمكة والمدينة ونقضوا العهود والمواثيق وعمدوا إلى قتل النبي مراراً وقتلوا من أتباع دينه من قتلوا يجعل هؤلاء المجرمين المفسدين ضحية ويجعل المسلم البريء مفسدا!
o مثال ثالث: يقول (جيري فاينز) 13 -الرئيس السابق للمؤتمر السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية، والذي يمدحه بوش جهاراً فيذكر عنه أنه من المتحدثين بصدق عن دينهم، وهذا الرجل عمد بوش ليكون من النصراء الأوائل لسماحة العقيدة: "... شاذ يميل للأطفال وتزوج 12 زوجة آخرهن طفلة عمرها تسع سنوات..".
وهذا الكلام قول من قائله بغير عرفان، وكذب بين لا برهان له به ويكفي أن يعلم قائله أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ تزوج زوجه الأولى خديجة وهي تكبره بأكثر من خمسة عشر عاماً، وأنه لمّا بنى بعائشة وهي ابنة تسع لم ينكر أحد هذا ولا تكلم به المنافقون الحاضرون الذين هم في الحرص على الكيد والطعن في النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع جيري هذا سواء، ولكنهم أعلم بواقع ذلك الجيل، وأعرافه، معهود عندهم أن تنكح المرأة إذا بلغت التسع وبلغت شأن النساء، ولذلك ما بنى بها النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى بلغت التسع بالرغم من أنه تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين. ثم إنه لم يتزوج بكراً غيرها، وهو سيد قومه، بل سيد البشرية جمعاء، بل سيد البشر أجمعين.
ثم إن هذا الكلام يذكرنا بكلام قتلة الأنبياء من قبله في المسيح ابن مريم وأمه، فقد اتهموها بالشذوذ في تلمودهم، فقالوا في تلمودهم: "إن يسوع المسيح كان ابناً غير شرعي، حملته أمه خلال مدة الحيض من العسكري بانديرا بمباشرة الزنا".
وأخيراً يحسن التنبيه إلى أن هؤلاء القساوسة تجيء إساءاتهم في مجامع مشهودة، أو منابر مبثوثة، في مناسبات مقصودة، فهم يعنون ما يقولون ويتعمدونه ويرتبونه فليست هي فلتات لسان من قبيل الفلتات التي تفضح من انطوى على عداء للإسلام ولرسول البشرية لا يظهره، بل العداوة معلنة صريحة يدعى لها، ولهذا جيري فاينز اختار الاجتماع السنوي في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية ليلقي طعوناته في نبينا _صلى الله عليه وسلم_، ولم يكتفي بذلك فقط بل قال: إن الله الذي يؤمن به المسلمون، ليس هو الرب الذي يؤمن به المسيحيون، وقال: 'لن يقوم الرب بتحويلك إلى إرهابي يحاول تفجير الناس و أخذ أرواحهم'، ومع ذلك يلقون تأييد الحزب الجمهوري، وينالون ثناء بوش، فمن الطبيعي بعدها أن يتأثر بهم الإعلام، الذي هم سلفاً جزء منه بمؤسساتهم الإعلامية النصرانية المتعددة.
ثالثاً: بيان صورة الإسلام لدى الغرب وأسبابها.
الكلام في هذا الجانب مؤلف من جزأين، الأول عن صورة الإسلام لدى الغرب، والثاني: أسباب تلك الصورة.
أما الجزء الأول فقد صدر كتاب بعنوان: (صورة الإسلام في الإعلام الغربي)، لمؤلفه الدكتور محمد بشاري يرصد فيه الكيفية التي يتناول بها الإعلام الغربي قضايا الإسلام والمسلمين في ضوء الحملة المتصاعدة والتي تسعى لتشويه صورة العرب والمسلمين وهي الحملة التي تزايدت وتيرتها خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
ولعله يحسن قبل أن أنقل كلام كاتب ينتمي إلى الإسلام أن أذكر نقولاً عن الطرف الآخر فأستشهد أولاً بما جاء في مقال للكتاب المعادي للإسلام بجدارة دانييل بايبس وقد جاء فيه ما نصه14:
"يوماً بعد يوم، تتغيّر نظرة الأمريكيين إلى الإسلام والمسلمين لتصبح أكثر سلبية -هذا ما جاء في استطلاعٍ مهمٍّ نشره [مركز پـيو للأبحاث] في الأسبوع الماضي [عام 2003م].
ربما كان التطوّر الأكثر إثارةً في الاستطلاع، هو ازدياد عدد الأمريكيين الذين يجدون بأن الإسلام -على الأرجح- دينٌ [يشجّع أتباعه على العنف] أكثر من الأديان الأخرى. ففي شهر مارس من سنة 2002 كان هناك خمسة وعشرون بالمئة من الذين استُطلِعت آراؤهم يؤيدون هذه النظرة. أما الآن، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 44 بالمئة.
هناك اتجاهات أخرى تتعلق بالإسلام تتّسم أيضاً بالسلبية:
• فيما يتعلق بالمسلمين الأمريكيين: 59 بالمئة من الذين استُطلعت آراؤهم في نوفمبر 2001 كانوا ينظرون إلى المسلمين الأمريكيين نظرة إيجابية. هذه النسبة هبطت إلى 54 بالمئة في مارس 2002 وهي الآن بحدود 51 بالمئة.
• فيما يتعلّق بمرشح رئاسة الجمهورية: أظهرت الاستطلاعات أنّ نفور الأمريكيين من فكرة التصويت لمرشحٍ مسلمٍ لرئاسة الجمهورية، هو أعظم من نفورهم من فكرة التصويت لمرشحٍ ينتمي إلى أي دينٍ آخر. 31 بالمئة من الأمريكيين يقولون "لا" لمرشح مسلم، مقابل 20 بالمئة بالنسبة لمرشح مسيحي إنجيلي، و 15 بالمئة لمرشح كاثوليكي و 14 بالمئة لمرشح يهودي.
• فيما يتعلق بالقيم المشتركة: جواباً على سؤال فيما إذا كان "الدين الإسلامي ودينك يشتركان بأمور كثيرة متشابهة"، 31 بالمئة من الردود كانت إيجابية في نوفمبر 2001 ثم أصبحت 27 بالمئة في مارس 2002 بينما انحدرت في هذه السنة إلى 22 بالمئة" ا.هـ.
ولعل هذا يكفي.
أما ما يقوله المسلمون فأقتطف من كتاب محمد بشاري؛ (صورة الإسلام في الإعلام الغربي) بعض المقتطفات، ولم يحصل لي الاطلاع على الكتاب بيد أني قرأت تقريراً عنه جاء فيه ملخص يصلح أن يثبت هنا، فمما قاله الملخص: إنه "في إطار تزايد موجة العداء للمسلمين في الإعلام الأوروبي يشير المؤلف إلى مجموعة من القضايا التي تعكس هذا التوجه ومن ذلك:
- ملف قضية الفتيات المحجبات، فتحت عنوان: هل هو صراع حضاري أم ماذا؟ تناولت مجلة دير شبيغل بهذا العنوان المستفز القضية وعدتها صراعاً يتفجر من جديد، متسائلة عما إذا كان هذا الصراع يهدد المجتمع المسيحي أو العلماني؟(6/106)
- أما في النمسا فإن الدنيا قامت ولم تقعد عندما تزوجت لوسيا دحلب السويسرية المسلمة من المواطن الجزائري علي دحلب، واعتنقت الإسلام وارتدت الحجاب، حيث انطلقت حملة إعلامية عنصرية ضدها في أثناء احتفال أقيم في المدرسة الابتدائية التي تدرس فيها لوسيا حضره الآباء وأولياء الأمور وبعض ممثلي أجهزة الإعلام المحلي. أما مجلة الاكسبريس فقد اختزلت موضوع الحجاب الإشكالي بعنوان: الحجاب المؤامرة.. كيف يتسلل الإسلاميون؟
ويحوي الموضوع مفردات تثير فزعاً واضحاً لدى القارئ الفرنسي ومنها الارخبيل الإسلامي، الجماعة الإسلامية المسلحة، تفشي الحجاب، والذي راحت كاتبة تصفه بأنه عملية إرهابية!
- أما بالنسبة لقضية المرأة فإزاء التناول غير المحايد للإعلام الغربي لهذه القضية إلى حد أن أصبح أول ما يتبادر إلى ذهن الإعلامي الفرنسي في أثناء تناول موضوع المرأة هو تعدد الزوجات المشروع في الإسلام والممنوع في الدستور الفرنسي.
وفي مقال بمجلة الاكسبرس مثلاً نقرأ تنديداً شديداً موجها إلى القادة السياسيين بسبب سماحهم بممارسات جاهلية قديمة مثل تعدد الزوجات، ختان البنات، الإسلام المتشدد، وحتى دروس تلقين اللغات الأصلية لأبناء الأقلية المسلمة والعربية.
- ثم ينتقل المؤلف إلى جانب آخر يتمثل في تشويه مفهوم الجهاد في الإعلام الغربي، ومن ذلك تأكيد البعض على أن الإسلام هو دين حرب. وأصبح يكفي أن تتم الإشارة في أي مقال لمصطلح الجهاد مقرونة بترجمة في اللغة الفرنسية «الحرب المقدسة» لكي تثار الزوابع والهواجس والمخاوف.
ولا يتطلب الأمر أن يكون هناك حدث ذو دلالة لكي يتم التخويف من الإسلام، وإنما أصبح ينظر إلى كل ما يتعلق بالمسلمين على أنه كذلك، ومن ذلك على سبيل المثال أن صحيفة لونوفيل أوبزرفاتير نشرت مقالاً عما وصفته بانفجار الحالة الإسلامية في فرنسا، فهناك في تلك [المدة] أكثر من ألف مسجد وأكثر من ستمئة جمعية إسلامية.
وهذا انفجار يعود إلى حوالي 17 سنة يطرح مشكلاً فريداً على المجتمع الفرنسي. ويضيف صاحب المقال المذكور: إن تكرار العمليات الإرهابية واختطاف الرهائن تندرج ضمن استراتيجية مضادة للغرب، وذلك عبر تمرير خطاب الجهاد في معناه العدواني.
- ويجول المؤلف في الإعلام البريطاني ضمن جولته في الإعلام الأوروبي فيشير إلى أن الصورة لا تختلف كثيراً عن طبيعة الصورة الموجودة في باقي الدول الأوروبية، والتي تصنف الإسلام بالدين البدائي والإرهابي وأنه الدين الذي يتعارض مع الحضارة والبديل عن الشيوعية وأيديولوجياتها خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
- وفي ذلك نشرت صحيفة صنداي تايمز مقالاً لكاتب يدعى بيير جرين دورتون بعنوان: الوجه القبيح للإسلام. قال فيه: إن الإسلام الذي كان حضارة عظيمة تستحق الحوار معها قد انحط وأصبح عدواً بدائياً لا يستحق إلاّ الإخضاع.
- ويقدم المؤلف في هذا الجزء عرضا للعناوين فقط والتي تستصرخ بداخل القارئ الفزع من الإسلام، مثل:
- المسلمون قادمون.
- الحروب الصليبية مستمرة.
- سيف الإسلام يعود من جديد.
- العالم يتحكم فيه بدو الصحراء وشيوخ [النفط].
وما زالت هذه الحملات الإعلامية تظهر بين الفينة والأخرى مما يساهم بطبيعة الحال في تنميط صور مغلوطة تماماً عن الإسلام بوصفه ديناً للكراهية والتعصب والعنف.
- ولعل أبلغ تعبير عن وضعية الإسلام في الإعلام والإدراك الغربي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» وهي الكلمة التي دخلت قاموس السياسة الأوروبية وتحولت إلى مفردة لها معان محددة في عصرنا كما حصل في القرن التاسع عشر مع مفردة اللاسامية وتحت مفردة «الإسلاموفوبيا» وهي كلمة يقصد بها «الرِهَابُ الإسلامي» كمصطلح لمعنى الخوف من الإسلام بدأت تعقد المؤتمرات السياسية وتدار الندوات الفكرية لمعالجة مواضيع المخاوف من الإسلام وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
- ومن الصور التي يعرض لها المؤلف وتشير إلى الظلم البريطاني للإسلام والمسلمين نشر وسائل الإعلام هناك مزاعم وادعاءات تزعم فيها أن الثقافة الإسلامية مختلفة جملة وتفصيلا عن الثقافات الأخرى، كذلك تتضمن هذه الصورة الثانية انتقادا بريطانيا حادا للنظام الاجتماعي في الإسلام، والذي يعتمد بشكل أساسي على الأب الذي ينسب الأبناء إليه دون أمهم ويتولى مسؤولية الأسرة كاملة وغير ذلك.
- وإذا كانت هذه هي الصورة فيما قبل أحداث سبتمبر فلنا أن نتخيلها فيما بعد هذه الأحداث، فقد زاد معدل خضوع صورة الإسلام والمسلمين للتشويه والتحريف. وقد تفرعت أصناف تشويه صورة الإسلام والمسلمين ما بين التصريحات الأكاديمية والسياسية والإعلامية.
- واذا كانت الصورة التي ترسخها وسائل الإعلام مشوهة بسبب سيطرة اللوبيات الإعلامية اليهودية عليها أو بسبب وجود عقليات عنصرية متطرفة استغلت أحداث ستبمبر لكي تفرغ ذلك المكبوت من أجل تفعيل تشويه صورة الإسلام فقد كانت هذه الأحداث فرصة مواتية أيضا لبعض السياسيين الغربيين والدينيين لكي يمرروا خطاب العنصرية والاستعلاء.
فمن الدعوة إلى هدم الكعبة إلى وصف الإسلام بأنه دين شيطاني جديد على لسان القس البروتستانتي المعروف (فرانكلين غرام) إلى (بيرلسكوني) الذي راح يؤكد على أن الغرب يجب أن يثق في أن حضارته أرقى من الحضارة الإسلامية وهو يضع استراتيجيته لقمع ما وصفه بالإرهاب.. كلها تنويعات على تشويه صورة الإسلام.
- وهي مواقف تمتد لتصل إلى الكاتبة والصحافية الإيطالية (أوريانا فالاتشي)، والتي راحت تؤكد رسالة لها على أن الغرب يعيش حربا صليبية بالفعل.. حرب يسمونها جهادا.. حرب لا تريد أن تغزو أراضينا بل أرواحنا، حرب تريد القضاء على خيراتنا وعلى حضارتنا!
- أما رئيس تحرير مجلة لوبوان الفرنسية فيقول في مقالة افتتاحية له بعد أحداث سبتمبر: إنه من ضمن الملاحظات العديدة التي نخرج بها من هذا الحدث هو أن الإرهاب المستشري أكثر في العالم اليوم يتعلق بالتطرف الإسلامي.
مضيفا إن الغرب يجهل القوة الصامتة للحركات الإسلامية وللمسلمين كافة؛ لأن هناك مليارا منهم في العالم وأنه حتى لو كان هذا المليار لا يساند الإرهاب فإنهم لا يعارضون الانخراط في أعمال الجهاد والحرب المقدسة.
- أما في بريطانيا فقد نشرت جريدة الصنداي تليغراف مقالا بعنوان «هذه الحرب ليس موضوعها الإرهاب بل الإسلام»، أما الصحافة الأميركية فحسبما يشير المؤلف فقد أثبتت دراسة بشأنها أنها بدأت في الهجوم المباشر على الدين الإسلامي باعتباره دينا يحض على العنف والانتقام وكان هذا النمط من المعالجة الصحافية متوازيا مع الهجوم على المسلمين.
- كما لجأت الصحافة الأميركية والبريطانية إلى تخصيص مساحات واسعة لشخصيات ذات تأثير في المجتمع للإدلاء بشهادتها المعادية والداعمة للأهداف التي كانت تعمل من أجلها في هذه المرحلة وهو ما نراه مثلاً في أقوال (صامويل هنتنغتون) بأن المسلمين يشكلون 20 % من سكان العالم وهم وحدهم مسؤولون عن 80% من الصراعات والاضطرابات في عالم اليوم.
- أما في هولندا فقد نشرت مجلة «هاخسابوت» في متنصف أكتوبر مقالا دعا فيه كاتبه إلى مراجعة جذرية للوجود الإسلامي في هولندا وإلغاء مدارس المسلمين مضيفاً: إن الوقت حان للتاكد من إمكان التعايش مع الدين الإسلامي بوصفه ديناً يحترم القيم الديمقراطية للدولة الغربية والنظام الدستوري والقانون.(6/107)
هذا بعض ما ذكره المؤلف، وأما التصريحات التي أعقبت حادث 11 سبتمبر فمشهورة من أبرزها تصريحات لأصحاب برامج مشهورة يرددون مثل هذه العبارات ومن هؤلاء:
- بني هن15(Benny Hinn) الذي يقول: "هذه ليست حرب بين العرب واليهود، إنها حرب بين الله وبين الشيطان".
- وتقول آن كولتر (Ann Coulter ) في مقابلة أجرتها على قناة NBC عقب أحداث سبتمبر: "نحن يجب أن نجتاح بلدانهم، ونقتل قادتهم، ونحولهم لنصارى"16!
ولعل العرض السابق كاف في بيان الجانب الأول المتعلق بصورة الإسلام لدى الغرب.
أما الجانب الثاني، وهو: أسباب تلك الصورة، فقد كتب علاء بيومي مدير الشؤون العربية في كير مقالاً جدياً يوضح أحد أسس تلك الأسباب ولاسيما الخراجية منها، قال ما نصه:
((يوضح ديفيد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب قاما بتحريره عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى" (1999) أن جذور رؤية الغرب الراهنة للإسلام والمسلمين تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي الذي شهد بداية الحروب الصليبية والمراحل الأولى لنشأة الهوية الغربية الحديثة.
ويقول الكاتبان: إن الأوربيين في تلك [المدة] كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدماً، وهي الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهما، [لكن لديهم شعور] دائم بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوربية ومن ثم الغربية الحديثة.
ويرى المؤلفان أن الإسلام لعب دور شبهاه "بنيجاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوربي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوربيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم، وبناء ثقتهم في مواجهة عدوا أكثر قوة وتحضرا.
وفي الكتاب نفسه يرى دانيال فيتكس [وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأمريكية] أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في [المدة] كانت علاقة أوربا بالإسلام فيها هي علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوربيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملأه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة، كما نظروا للرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_ على أحسن تقدير على أنه واحد من اثنين، إما "قس كاثوليكي فشل في الترقي في سلم البابوية" فقرر الثورة ضد المسيحية أو أنه "راعي جمال فقير تلقى تعليمه على يد راهب سوري" ليشكل دينا جديدا من "قشور العقيدتين المسيحية واليهودية".
كما نظر الأوربيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة فمن ناحية نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا للحجاب على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة - كما يري جون اسبزيتو – أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأمريكية – في كتاب (التهديد الإسلامي: حقيقة أم أسطورة؟) (1992) – إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوربا، وعلى رأسهم مارتن لوثر - زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي – الذي نظر للإسلام على أنه "حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية؛ لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".
معرفة الإسلام للسيطرة عليه:
مع دخول عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر دخلت نظرة الغرب للإسلام مرحلة جديدة وصلت إلى قمتها خلال عصور الاستعمار الأوروبي الذي اجتاح شرق العالم القديم خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
ويرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها الاستشراق (1978) أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاوناً وثيقاً مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية لمدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
وخلال هذه المرحلة نظر الغرب للشرق - بما في ذلك العالم الإسلامي – بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى، ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:
أولا: النظر للشرقي أو للمسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.
ثانيا: تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر من خلال سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الأخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال تم النظر للشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، كما نظر الغربي للشرقي على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، كما رأى الغربي الشرقي على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.
ثالثاً: وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسياً واقتصادياً وثقافياً على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق بما في ذلك العالم الإسلامي بأوربا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية، ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق ولإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية ولمحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.
رابعاً: وقف الغرب موقفاً منزعجاً ومتشدداً وأحياناً انتقامياً تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل: اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.
خامساً: النظرة السابقة لعبت دوراً مزدوجاً خطيراً في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب، الدور الأول هو تشويه هذه الصورة، والثاني هو تبرير الاستعمار الأوربي واستنزاف أوربا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر)) ا.هـ.
وهذا تحليل جيد مستنده كتابات الغربيين أنفسهم.
وقد اشتمل كلامه على أسباب شتى تدور كلها على قوله الله _عز وجل_: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ..." [البقرة:120]. وهذا ولاشك عامل مهم بل هو أهم العوامل التي تدفع لتشويه صورة الإسلام في الغرب، وإلاّ لو كان هناك عدل وإنصاف لم يؤاخذ الإسلام والمسلمين بأخطاء فردية وتجاوزات توجد في كل الأديان والشعوب مثلها بل أضعافها.(6/108)
وأخطأ من ظن أن الإشكال مع الغرب جاء من جهة عدم تصورهم جميعاً للإسلام أو لنبيه _صلى الله عليه وسلم_، وقد شاعت في الأزمة الراهنة (الرسوم) عبارة غير دقيقة اتخذت كشعار ونصها: (لو عرفوه لأحبوه)، والله _تعالى_ يقول: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [آل عمران:71]. ويقول _عز وجل_: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" [الأنعام:20]، فكثير منهم يعرفون الكتاب ويكتمونه حسداً وبغياً، وكثير منهم يعلمون أن محمداً هو رسول الله حقاً، ومع ذلك أبوا إلاّ أن يناصبوه العداء في الحاضر، كما ناصبه أسلافهم العداء في الماضي، وهم يعلمون، ولهذا أثنى الله على من خالف هواه منهم، وانصاع للحق الذي عرف فقال _سبحانه_: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [لأعراف:157].
وفي قصة إسلام عبدالله بن سلام الحبر البحر _رضي الله عنه_ في صحيح البخاري وغيره أن عبد الله بن سلام جاء رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل نبي الله _صلى الله عليه وسلم_ فأقبلوا فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق فأسلموا".
قالوا: ما نعلمه.
قالوا للنبي _صلى الله عليه وسلم_ قالها ثلاث مرار قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟
قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟
قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم.
قال: "يا ابن سلام! اخرج عليهم".
فخرج فقال: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا كذبت فأخرجهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
وهكذا النصارى لسوا بمنأى عن نهج هؤلاء.
وقد ثبت عند البخاري وغيره أيضاً حديث أبي سفيان في كتاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لعظيم النصارى، هرقل الروم، وخبر أبي سفيان معه، وفيه قول: " فقال [يعني هرقل] للترجمان قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين، و "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون").
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
والشاهد مما سبق بيان أنه قد أخطأ من ظن أن سبب العداوة من جميع اليهود والنصارى لنبينا _صلى الله عليه وسلم_ عدم علمهم به أو بصدق رسالته.
وكما أن هذا السبب لا ينبغي أن يغفل ويهمل، فإن من الواجب كذلك ألا يغالى فيه ويزايد، فإن هذا من دوعي تفاقم الإشكال لا حله، وهذا مقتضى الإنصاف الذي علمناه إياه ديننا، كما في قول الحق _سبحانه_: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113].
وعدم المغالة فيه تكون بمراعاة أمرين:(6/109)
أحدهما: استحضار أن هناك خمسة طوائف من الغربيين، فكما أن هناك طائفة أولى من المستكبرين باطري الحق وغامطي الإسلام، فإن هناك طائفة ثانية من الجهلة المغرر بهم، أما الطائفة الثانية فلا يعرف أهلها عن الإسلام إلاّ ما صورته الطائفة الأولى، فهؤلاء المساكين يحب أن يستنقذوا من بني الإسلام، فيعرفوا بنبي الثقلين وبدين الحق فتعرض لهم صورته المشرقة في سكينة وهدوء، وتقصير المسلمين في حقهم من أفحش الظلم لهم.
أما الطائفة الثالثة فهي بين هؤلاء وهؤلاء وهم المعرضون الذين لا يريدون معرفة الحق وتمييزه من الباطل، يصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم، إما لهوى أو ظلم أو جهل، وهؤلاء ينبغي أن يرغبوا في الإسلام وينبهوا إلى أهمية النظر فيه، قبل أن يُلحقوا بالفريق الأول.
وأما الطائفة الرابعة فهم المنصفون من الغربيين الذين عرفوا شيئاً من الإسلام فبانت لهم تعاليمه السمحة، وتشريعاته الحكيمة، وعرفوا شيئاً عن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ فعظموه، فوقفوا موقف أبي طالب من محمد _صلى الله عليه وسلم_، وقاموا مقام غيره ممن حمى بعض أهل الإسلام وذب عنهم.
ومن هؤلاء على سبيل المثال جوسلين سيزاري (الباحثة الفرنسية)، روبرت فيسك الصحافي البريطاني، ماركوس بورج استاذ علوم الدين في جامعة أوريغون الأمريكية، فرانسوا بورجا الباحث الفرنسي المرموق وكذلك كارين أرمسترونج الكاتبة البريطانية والراهبة الكاثوليكية سابقا وصاحبة العديد من المؤلفات عن الإسلام والمسيحية واليهودية.
بل الأمير الإنجليزي تشارلز وشهادته النادرة التي أسقط فيها صفة التطرف التي يحاول الإعلام الغربي أن يربطها بالإسلام إلى جانب دفاع تشارلز عن فضل الحضارة الإسلامية على القارة الأوروبية وعلى الحضارة الغربية بصفة عامة.
وأمثال هؤلاء ينبغي أن يعرف لهم فضلهم، وأن يكافؤوا عليه، وأن يحرص على دعوتهم وهدايتهم، وحري بمثلهم أن يسلموا إذا تعرفوا على الإسلام أكثر.
وأما الطائفة الخامسة والأخيرة فهم مسلمو الغرب، فهؤلاء ينبغي أن نكون ردءاً لمحسنهم، حادبين على مسيئهم، حريصين على هدايته وتوجيه التوجيه الأمثل.
أما الأمر الثاني الذي تنبغي مراعاته:
فهو معرفة الأسباب الأخرى التي ساعدت على تشويه صورة الإسلام والمسلمين، على الرغم من توافر عوامل التعريف بالإسلام وأهله في عصر الفضائيات وثورة الاتصالات.
ولعل أهما ينحصر في اثنين:
الأول: تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية.
والثاني: عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ.
ولاشك أن هذين السببين يتداخلان مع ما سبق ذكره، ولاسيما الثاني فإن أثر الغرب في هذا ظاهر، بيد أن الغرب ليس هو كل شيء فيه، كما أن حقد الغربيين له من يدعمه من الأطراف العميلة المؤثرة وليست كل شيء فيه.
أما تقصير بني الإسلام في عرض صورة الإسلام الواضحة النقية فيشمل أموراً منها:
* تقصيرهم في عرضه ابتداء.
* وتقصيرهم في تنقية الصورة المشوهة بالشبه الغربية أو المستغربة الناطقة بالعربية.
* تقصيرهم في بيان الأخطاء ومعالجتها، على المستوى الداخلي والخارجي، فعندما تزور ممارسات باسم الإسلام خطأ، ثم لا يوضح بجلاء أن الإسلام منها براء داخل الصف المسلم أو خارجه، فإما أن تبقى الصورة مشوهة عند إغفال الاعتراف بالخطأ وتصحيحه في الذهن الغربي، وإما أن تتكرر الأخطاء عند إغفال توعية الصف المسلم وحواره وتعريفه بالخطأ الذي وقع فيه.
وأما عرض صورة لمسخ مشوه والتصريح بأنها صورة الإسلام، أو الإيهام بذلك، عمداً أو خطأ، فذلك يشمل أمور أيضاً:
* منها الممارسات التي يعتقد بعض الجهلة أو المتحمسين أو المنهزمين أنها من الإسلام والإسلام منها براء.
* ومنها ما يزوره العلمانيون وأضرابهم وأذنابهم من دعاة التنوير بإحراق الفضائل، الذين يزعمون جهلاً أو كذباً أن الإسلام لايعارض ما يعرضون وأن معارضته تشدد أو تزمت.
* ومنهم ما يُعرض في وسائل الإعلام المسلمة، أو يعرض في واقعهم من تعاملات مشينة، أو ممارسات تخالف هدي الإسلام، بغير نكير في أحيان، وبنكير لايلتفت إليه في أحايين أخرى، فكل هذا مما يوهم الغربيين بأن تلك الصورة المشوهة هي الإسلام.
فلعل ما سبق من أسباب داخلية وخارجية، هي أعظم الأسباب التي قادت إلى تشوه صورة الإسلام لدى الغرب.
ويحسن التنبيه إلى أن العلاج الذي نملكه يتعلق أولاً بعلاج المظاهر والأسباب التي للمسلمين فيها يد، كتصحيح واقعهم، مثلاً وإنكار المناكر التي ليست من الإسلام في شيء.
ثم ثانياً بمدافعة الباطل وأهله الناقمين على الإسلام ومجاهدتهم جهاداً كبيرا من أجل إيصال صورة الإسلام للناس بيضاء نقية كما جاءنا به محمد _صلى الله عليه وسلم_.
وهذا يتطلب خطاباً إعلامياً عصرياً نقدياً وموضوعياً يغزو الأسواق الغربية ويبتعد عن رتابة الخطاب الإعلامي الغربي والإسلامي الموجود اليوم.
كما أن الحاجة إلى الاتجاء إلى الله ماسة، والاعتماد عليه كبيرة، والدعاء لأهل الضلال من الكفار بمعرفة الحق واتباعه، وفي صحيح البخاري ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فكما أننا بحاجة إلى دعاء الله بأن يهلك الظالمين المستكبرين المعرضين من الكافرين المستهزئين، نحن أيضاً بحاجة إلى أن نسأله سبحانه أن يهدي ضالهم ويدل حائرهم ولاسيما أولئك النفر الذين لا يزالون ينافحون عن الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.
رابعاً: تحرير مفهوم حرية التعبير واحترام الأديان والمقدسات.
شاعت عند الغربيين منذ قرن من الزمان عبارة يبدو أن من أشهرها بينهم أحد أعمدة كتاب الخيال العلمي ألا وهو الكاتب الشهير المولود أوائل القرن الماضي روبرت هاينلاين (Robert Heinlein). الذي قال: " حقك في أرجحة قبضتك ينتهي حيث تبدأ أنفي"17!
ويصوغها بعضهم في شكل طرفة يصور فيها رجلاً يتثاءب ويتمطى على مقعده بحديقة عامة، فيفرد يده بكل قوة لتستقر في أنف جاره الغافل، والذي ما أن رقأ دمعه، وذهب احمرار وجهه، واختفت أصداء صرخته، حتى قال لجاره: بهدوء –يغبط على تمالك نفسه فيه-: يا عزيزي لقد هشمت أنفي!
فما كان من جاره إلاّ أن فرَّ ثغره مبدياً أسناناً صفراء في ابتسامة باردة، ثم قال مجيباً صاحبه: أنا.. أنا حر! أتمطى كيف شئت أن أتمطى!
وبعدها أظلمت الدنيا أمامه إثر شيء صلب اصطك بصدغه، وكان آخر ما سمعه كلمات بل صرخات يقول فيها جاره الذي تصاعدت أبخرة الغضب من رأسه، وحاكى لونه لون الجزرة، بينما انطلقت أطرافه الأربعة نحوه كأنها نبال: حرية يدك تنتهي حيث تبدأ حرية أنفي يا...
ومن رحمة الله به أن حجب عنه سماع بقية الكلمات فقد أغمي عليه إثر اصطكاك بعض الأطراف برأسه!
ولعل مضمون هذه العبارة أمر بدهي، كما أن ما يرد عليها من قيود أمر بدهي كذلك، ومن ذلك ما قاله السياسي الأمريكي نجم المحافظين الصاعد والمدافع عن الحريات الفردية الشهير بول جاكوب (Paul Jacob) إذ قال ما حاصله: إنك قد تملك الحق في أرجحة قبضتيك حتى تستقر ليس فقط على رأس أنف صاحبنا، بل أبعد من ذلك بنصف بوصة إلى حيث يتكوم أنفه!
وذلك في حالات المجازاة بالمثل، أو الدفاع عن النفس، شريطة ألا يصل ذلك إلى حد أبعد من: (العين بالعين)18.(6/110)
ولعل هذه أمور بدهية لا يجادل في مجملها عاقل، غير أن الجدال انتصب في بعض الصور والتطبيقات التي تُلحق بها. والحق أن كثيراً من الأمثلة التطبيقية قد تكون محل نظر وتأمل، يكتنف القول بأنها من قبيل تلك البدهيات حق وباطل، بيد أن الجدل في بعضها من قبيل إنكار البدهيات والاعتراض بالجدل المحض من أجل تسويغ واقع منحرف باسم الحرية.
ولعله مر بك –أيها الفاضل- يوماً أحد المجادلين في مسألة واضحة محاولا تسويغ الخطأ الذي أخطأه، ولعلك لا تنسى أي شيء انقذف في رُوعِك تجاه ذلك المكابر باطر الحق، وغامط الناس، المعرض عن الانصياع للصواب.
وحقاً:
مَن ناطَ بِالعُجْبِ عُرى أَخلاقهِ نيطَت عُرى المَقتِ إِلى تِلك العُرى
وحتى لا يكون هذا، فتكثر القبضات الطائرة والأنوف المحطمة، ولغيره، وضع الحقوقيون قوانينهم الوضعية لتكفل عدم المساس ببعض تلك الحريات البدهية، وإن أدى الأمر إلى منع الحرية عن طريق الحبس بل القتل لأولئك العابثين بالحريات ولو باسم الحرية.
نظرة إسلامية في القوانين العالمية:
هل يستقل العقل بوضع قوانين تضبط الحريات:
ولعل هذا يساهم في طرح الفلسفة الإسلامية ونظرتها لتلك القوانين.
في تقديري أن من استقلوا بعقولهم زلوا في وضع كثير من تلك القوانين، وهذا أمر من الطبعي أن يعرض لمن خرج من البشر عن دائرة ضوء الوحي المنزل من عليم بخلقه لطيف خبير، وإن لم تكن لهم أهواء وعجر وبجر فكيف إذا كانت ثمَّ؟
ولا أدل على ذلك من التعديلات والاستدراكات التي تطرأ على تلك القوانين على الرغم مما بذل لأجل وضعها، مع أن النقل واقع –ولو خفية- عن الأمثلة السابقة سواء أكانت مجلة أحكام عدلية عثمانية، أو تشريعات سماوية محفوظة.
إن جمهور الأمم والشعوب يقرون بوجود خالق وقد دل هذا الكون وما اشتمل عليه من نواميس وإحكام على أنه خالق عليم سميع بصير خبير قدير مريد. ولن يجد أحد جواباً صواباً عن السبب المنشيء لحدوث الحوادث وكل ما هو جائز الوجود، فيبين سبب عدم ما لم يوجد منها، أو وسبب وجود ما وجد منها إلاّ إذا أقر بخالق تلك بعض صفاته، لا تجري عليه أقيسة الشبه بالخلق، وبعدها يصح أن يسند إليه ترجيح طرفي الوجود أو العدم، وإلاّ ساقه الاقتصار في العزو إلى الأسباب إلى سلسلة مجهولة.
وكما أن خلق الخالق سبحانه وتعالى كان معجزاً محكماً، فكذلك أمره وتشريعه المحكم الباقي.
ولهذا فإن من استقل بعقله وخرج عن نور ومحدادت الوحي المنزل ممن استتم علمه وكملت قدرته، فإنه بمثابة من انحاز في أرض زرعت بالألغام، نحو رقعة منها مظلمة مليئة بسبل الردى، فأنى لمثل هذا السلامة ما لم يسلط أضواء الوحي على طريقه، ويحسن قراءة محدداته فيها؟
نعم قد يرشده عقله وما أوتي من وسائل حس لتجنب ما نتأ من العوارض أو غار مثلاً، ولكن لن يسلم من جميعها إلاّ من شذ، وليس ذلك بفضل العقل الذي لا يعلم، فليس مع صاحبه الناجي غير الجهل، ولكن بفضل الله الذي سلّم وألهم. وقد دل خلق الله على إرادته وقدرته وعلمه.
وقد يقول قائل لم هذا التصوير ولم لا يكون العقل هو السراج الذي ينير الطريق للبشرية، وجوابه يتلخص في أن العقل آلة استنباط واستنتاج تعمل في معطيات الواقع التي يقود إليها الحس، ووفقاً لمعطيات الحس قد يلتذ الإنسان أو يتأذى، وبهذا قد يعلم العقل ملاءمة الفعل له أو منفاته، وهذه الأفعال كثيراً ما تتعارض فيها الرغبات فقد يلتذ أحدهم بما يتأذى به الآخر، فيتباين الحكم العقلي لكل منهما وفقاً لرغباته ومصالحه، كما أنه ثمت أمور تضطرب أحاسيس الناس تجاهها وتختلج مشاعرهم عندها، وهنا يتعطل استدلال العقل بالحس ويحتاج إلى ما يضيء له الطريق، وقد لا تختلف حواس الناس لكنها تعجز نظراً لقصورها وحدودها التي لا تتجاوزها قدرة البشر مع أن للشيء الذي عجزت عن إدراكه أثره، فالعين –على سبيل المثال- قد تحتاج لأمر خارج عنها حتى تبصر مع توافر شروط الرؤية وانتفاء موانعها إذا كان ما يراد إبصاره خارج عن حدود قدرتها، فإذا قَصُرت الحواس عن إدراك أمر غيبي أو مشهود، أو اختلفت فيه أو في تقدير ما يترتب عليه، وما ينبغي له، احتاجت البشرية إلى ما يعرفها هل هذا الفعل سبباً للذم أو العقاب، أم لا؟ وما مقدار الذم أو العقاب الذي يستحقه من قارف ما اتفقت العقول على قبحه، واختلف في مقدار جزائه؟
وإلاّ فلو اتفقت العقول البشرية الصحيحة –وهذا ما يزيفه الواقع- لاكتفينا بحكم العقل حتى في المجتمع الواحد الذي يتغير ويتبدل رأي عقلائه قرناً إثر قرن.
التفريق بين فلسفة الإسلام ومعتقد أهله في شأن القوانين البشرية وبين التعامل مع واقعها:
إذا تقررت تلك النظرة للقوانين التي يفرضها منطق القوة، فإن هذا لا يمنع التعامل مع واقعها بحكمة وفقاً لفقه القدرة ومقتضى المصلحة الشرعية، مع بقاء الرأي والمعتقد في تلك القوانين وفقاً لما تقتضيه النظرة الإسلامية، فإذا اختلت موازين القوى وتغيرت الطاقات والقدرات وأمكن صياغة تلك الأحكام وفقاً للنظرة الشرعية فبها ونعمت، وإلى ذلك الحين تظل المدافعة، ونافذة بيان الرأي وإثبات جدارته وصلاحيته مشرعةً يمكن من خلالها إذاعة فلسفة الإسلام ورؤاه في أمثال تلك القوانين، وذلك أول سبيل الدعوة إليها، شريطة أن يقوم بذلك المأهلون العالمون بالشرع والواقع.
أما التعامل مع واقع تلك القوانين المفروضة فيكون بالاستفادة مما تنص عليه من حق لا يخالف شرائع الإسلام في الجملة، كاحترام الأنبياء مثلاً.
وبالمقابل العمل على حكم وإخضاع الباطل منها لقوانين أخرى مجملة تعارضها والمدافعة في هذا الإطار بحسب الطاقة، تماماً كما يفعلون في مساسهم بالحريات الدينة للمسلمين وعدم احترامهم لما يجِلّون كنبينا _صلى الله عليه وسلم_ بحجة الحريات الصحفية، فهذه الصورة يمكن أن تعكس في المجتمعات الإسلامية.
احترم الأديان نموذجاً:
وإذا تقرر هذا فإن مسألة احترام الحريات الدينية مسألة مجملة، لا يمكن أن نقبلها جملة، ولا يمكن أن نردها جملة.
فاحترام الأنبياء مثلاً قضية محل اتفاق فيمكن حينها تفعيل الاستفادة من القوانين الدولية لتقريرها والأمر بها وعقاب من يخالفها بأقصى ما يتاح لنا، وهذا بطبيعة الحال لن يوافق التصور الإسلامي بكامله ولكن العمل على تخلية الأرض من ازدراء الرسل والتقليل منه قدر الطاقة مطلب شرعي ومقصد إسلامي يسعى إلى تحقيقه بما في الطاقة.
أما إذا اقتضت قوانين الحريات الدينية تعدياً على المجتمع المسلم وإظهاراً للمنكر بين أهله ودعوة للردة عن الدين، فحينها ينبغي أن يحسم ذلك بما أمكن في المجتمع المسلم، ويدافع بأن حرية الأغلبية مقدمة، ومقدساتها ينبغي أن لا تنال ونحو ذلك.
ولعل التفريق بين نظرتنا إلى تلك القوانين وبين تعاملنا معها حال كونه ضرورة وقتية، النسبية فيها وتحميلها أوجه هو واقع الغرب في تعامله معها لا يختلف عما ذكر كثيراً.
منهجية الغرب في التعامل مع قوانين الحريات الدنمارك نموذجاً:
عوداً على بدء بعد هذا الاستطراد فإن البشر قد وضعوا قوانين تضبط ما رأوه حقوقا وتحميها.
وتلك القوانين والتشريعات لا تخلو من حق ظاهر، ومنها ما هو عالمي التزمته ساسة الدول جميعاً فضلاً عن واضعيها.
إلاّ أنك تجد عند التطبيق تفلت بعض دعاتها من الغربيين عنها، وبينما يوغل هؤلاء في انفلاتهم من قيمها يغضي الطرف آخرون زعموا أنهم حماة الحرية وناصبو نصبها.(6/111)
ولنأخذ على سبيل المثال صنيع الدنمارك الأخير فقد أُطلقت يد الإعلام هنالك فنال بعضهم من بعض شعائر الإسلام بل من رسول البشرية _صلى الله عليه وسلم_.
وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من المسلمين في الدنمارك، تمثل ديانتهم الديانة الثانية في تلك البلاد من حيث تعداد السكان19، فضلاً عن شعوب كاملة يسوؤها ويغضبها ويزكي روح البغض والبراء في نفوسها مثل هذا الصنيع، إلاّ إنك لا تجد لأدعياء الحقوق أثراً، بينما لم يعبأ الساسة والمتأمرون بمشاهد الأسى والأسف التي علت وجوه المسلمين.
وكأنهم لم يوقعوا بالأمس أو يدعوا العالم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان20، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية21.
لقد جاء في الإعلان العالمي ما نصه: "الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها"22. ثم قرر الإعلان أن من الحريات الدين في غير موضع ومن ذلك نص المادة الثامن عشرة: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين".
وجاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ما نصه: " تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف"23.
فبموجب نص الإعلان العالمي فإن على حكومة الدنمارك أن تحترم الدين الذي أفادت تقارير الأمم المتحدة نفسها أنه أكثر الأديان انتشاراً.
فهل من احترام الدين السخرية من نبي ملة تعظمه مليار نفس بشرية على وجه الكرة الأرضية اليوم؟
وبموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية فإن على الحكومة الدنماركية وغيرها أن تحظر بالقانون أي دعوة تثير الكراهية الدينية لدى المسلمين.
وأي شيء يثير الكراهية لدى المسلم أكثر من انتقاص من لا يؤمن حتى يكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟
إن أمثال تلك الطعونات الرعناء في الإسلام وفي نبي الإسلام تنبئ عن مصداقية بعض الدول الغربية وتبين ما يعنيه التزامهم بتلك القوانين المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، أو حقوق الإنسان عموماً.
وكذلك فإنها تفضح المعيار المزدوج للدولة التي نصبت نفسها مسؤولاً عن احترام الحريات الدينية.
لقد جاء في التقرير السنوي الأمريكي حول الحريات الدينية في العالم عام 2004م ما نصه: " وتعترف الولايات المتحدة بمسؤوليتها الخاصة بالنسبة لاحترام تلك المعايير في الحفاظ على الحرية الدينية وفي حمايتها"24.
وأكد ذلك الرئيس جورج بوش عام 2005م إذ نقل عنه ما معناه: "على الرغم من تقدم الولايات المتحدة بسبب الحرية، نتذكر بأن الحرية ليست هدية أمريكا إلى العالم، لكنها هدية الله إلى كل رجل وامرأة في هذا العالم. هذه الحقيقة تقود جهودنا لمساعدة الناس ليحرزوا حرية دينية في كل مكان"25.
فهم يزعمون إذاً أنهم مبعوثون من قبل الله من أجل الحفاظ على الحريات الدينية وحمايتها.
فما رصيد هذا الزعم من التطبيق العملي ولنأخذ الدنمارك الذي تزايدت فيه الإساءة لنبي الإسلام ولدينه في السنوات الثلاث الأخيرة وبالأخص بعد عرض فلم الخضوع (Submission) الذي أساء إلى الإسلام أواخر عام 2004م، وكان قد أثار موجة احتجاجات إسلامية أول ما صدر -في هولندا- أسفرت عن مقتل مخرجه "ثيو فان جوخ" (Theo Van Gogh) ببعض شوارع أمستردام في أول عام 2004م.
مع ذلك جاء التقرير الأمريكي الأخير للحريات مليئاً بالمفارقات أو النفاق السياسي على حد قول البعض.
فقد أكد أن الدستور الدنماركي يعزز الحرية الدينية، ويحترم الحق الديني عموماً، وأنه لم يكن هناك تغير في مكانة احترام الحرية الدينية أثناء المدة التي غطاها التقرير، وأن الحكومة واصلت سياستها في تعزيز حرية ممارسة الدين.
بيد أن التقرير أشار إلى اشتراط الدستور عندهم أن يكون الملك الحاكم عضواً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، وأن الكنيسة اللوثرية الإنجيلية هي المجموعة الدينية الوحيدة التي يمكن أن تستلم الإعانات المالية أو الأموال الرسمية مباشرة من خلال نظام الضرائب. وذكر أيضاً أن 12% تقريباً من دخل الكنيسة يجيء من الإعانات المالية الرسمية.
ولم ينس التقرير أن يشير إلى حالات مسجلة مما يسمى بحوادث معاداة السامية مع أن الحكومة الدنماركية حققت في بعضها وأدانت المسؤولين عنها.
وكذلك نشرت مقالاً شاركت به السفارة الأمريكية في تقرير معاداة السامية يناير 2005م وذلك في صحيفة كريستيليج داجبلاد (Kristelig Dagblad) اليومية الوطنية، وهي الصحيفة الدينية الوحيدة بالدنمارك، أكدت فيه على حاجة الحكومات إلى اتخاذ خطوات صلبة لمعالجة قضية الانتهاكات المعادية للسامية المتزايدة في أوروبا وروسيا على حد وصف التقرير.
المفارقات في تطبيق قوانيين الحريات:
الشاهد مما سبق بيان المفارقة بين المكاييل التي تكيل بها بعض الدول التي تزعم رعاية الحرية وابتعاث الله لها لأجل صيانتها، فبينما تدرج دولاً كالسودان ضمن القائمة السوداء مع أنه لم ينص دستورها على ما نص عليه دستور الدنمارك في شأن الحاكم، ولا أُثبتت فيها حالات اضطهاد لأجل الدين لنصارى أو وثنيين، ولا يعرف نص في مواد أحكامها يأذن بدعم المسلمين على حساب غيرهم26، تشيد هنا بالتزام الدنمارك بالحريات الدينية وفي غير موضع، وبينما ينص على أن حكومة السودان تضيق باب بناء الكنائس وإحداثها، لايشار إلى تضييق الدنماركيين على أصحاب ثاني أكبر دينانة عندهم في بناء المساجد وإحداثها!
وبينما توضع المملكة العربية السعودية ضمن قائمة الدول التي لا تحترم الحريات الدينية تغفل الدنمارك، مع أن الأخيرة يهزأ فيها بنبي ودين جهاراً، والأولى لو تجرأ فيها مسلم فسخر من المسيح –عليه السلام- لتعرض لأشد العقاب. فما لهم كيف يحكمون!
ومن جهة أخرى يتعرض التقرير لقضية معاداة السامية على الرغم من جهود الدنمارك في هذا الصدد، وعلى الرغم من محاسبة الدولة لبعض المدانين في نحو هذه القضية، وعلى الرغم من أن اليهود شرذمة لا يتعدى تعدادها السبعة آلاف نسمة في الدنمارك، بينما يعرض عن الإساءات التي يتعرض لها الإسلام ثاني أكبر دين بالبلاد وكذلك المسلمون عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة!
بل يُعَرِّضُ التقرير في معرض ذكر معادة السامية بالمسلمين المثيرين.
وبينما يحظر على البعض البحث ولو في مسألة تاريخية كشأن المحرقة اليهودية سداً لذريعة معاداة السامية! يباح لآخرين الطعن في دين المسلمين ونبيهم _صلى الله عليه وسلم_ جهاراً نهاراً على الملأ.
وبعد ذلك يرون بوقاحة قول المسيح –عليه السلام-: "أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بِمِثْلِهِ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ الْخَدَّ الآخَرَ"27.
وقوله: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَبَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَأَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضْطَهِدُونَكُمْ"28.
أهم حقاً أتباع عيسى _صلى الله عليه وسلم_، أم الذين قال فيهم القطامي:
تراهم يظلمون من استركوا ويجتنبون من صدق المصاعا29!
ويحق لنا أن نتساءل وإن كان الجواب واضحاً:
أبعض الظالمين وإن تعدى شهي الظلم مغفور الذنوب؟
وأقبح من نحو هذا الذي يتبجحون به، محاولة بعضهم إناطة أسباب بعض مظاهر الغلو في الدين بدعوات خرجت أكابر الدعاة والهداة، ويغفلون أفعالهم هذه وهم يعلمون أن كل فعل له ردة فعل معاكسة في بعض النفوس!
والخلاصة:(6/112)
هي أن مفهوم حرية التعبير في ما يتعلق بجناب الأنبياء واحترامهم قانون دولي مقرر على وجه العموم، بل إن التعريض ببعض معتقدات الأديان وما يعظمون مما لايرقى إلى درجة الأنبياء حرمته مقررة في قوانينهم الدولية، ولهذا تجد أن المحرقة المزعومة لايجرؤ كثير منهم على الكلام فيها باسم الحرية، ومن تكلم حوسب. أما الكلام في الإسلام ونبيه _صلى الله عليه وسلم_ فلا يعتبرون فيه المواثيق الدولية بحجة الحرية.
وهذا التناقض ليس منشؤه غموض في القانون أو لبس في حدود مفهوم الحرية، وأما اللغط الذي يدور حول هذا المفهوم فما هو إلاّ صخب يستر به كثيرون ما تكن صدورهم من عدم اعتبار لدين الإسلام ولانبيه.
وإلاّ فإن جماهير أمم الأرض لهم معتقداتهم ولهم مقدساتهم التي يرفضون أن تمس أو تنال بسوء، فإذا سألت أمم الأرض عن رأيهم في عد السخرية والاستهزاء أو التنقص والشتم لمعتقداتهم ومقدساتهم حرية مأذونا بها لقالوا: لا. بل ذلك سوء أدب وتعد على الآخرين.
ولكن يقع الإشكال في التطبيق، فإذا طعن مسلم في تثليث النصارى أو سخر بدعوى صلب المسيح، أو سفه معتقد اليهود في التلمود، فلن يعد المسلمون ذلك من منطلق الرؤية الإسلامية سخرية ولاتنقصاً ولا سباً لمقدس له حق القداسة بل إهانة لشيء من حقه أن يهان، أما هل تقتضي المصلحة إظهار ذلك أو ينهى عنه من باب قول الله _تعالى_: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الأنعام:108]. فهذه هو الذي يدخله تفصيل وقد يقع فيه الاختلاف بينهم.
فكذلك النصارى-وهم سواد الغرب الأعظم- واليهود لا يرضون أن تمس مقدساتهم باسم الحرية، أو يسخر من بعض مهماتهم الدينية فضلاً عن أنبيائهم باسم الحرية، ولكن كثيراً منهم لايعتقدون أن الإسلام دين حق، وأن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ رسول كريم.
ولكن لما كانت مجتمعاتهم خليطاً من الأديان والفرق النصرانية المتنوعة اقتضت المصلحة أن يعقدوا المواثيق الدولية الناصة على احترام الأديان.
فإذا تعارضت تلك المواثيق والقوانين مع القيم التي قامت عليها المجتمعات الغربية كالحرية وقع الانفصام في ردة الفعل تجاه الحوادث بحسبها، فإن كانت تمس ما من أجله أنشأت تلك القوانيين لم يكن للحرية أن تتجازوها إذ قيام المجتمعات واستقراراها لا يكون إلاّ باحترامها، لم يكن ليد الحرية أن تمتد لتهشم أنف المجتمع.
وإذا كانت الحادثة لا تدخل في ما من أجله أنشأت تلك القوانين وإنما دخلت تبعاً، وليس ذلك المقدس المهان مما يهدد استقرار المجتمع الغربي فعندها يكون لحرية التعبير مجال واسع، فقيم المجتمع مقدمة على المقدسات الوافدة التي ليست من مقدسات المجتمع في شيء بل ربما كانت من ما يناصبه العداء.
وحتى يفعل القانون الموجود ليحمي حقوق المسلمين فلا سبيل إلى ذلك إلاّ بأن يثبت أهل الإسلام أنفسهم، ويظهر أثرهم.
وهذا ما ينبغي أن يسعى أهل الإسلام في تحقيقه بحكمة يعقل أصحابها ما هو الذي في طاقتهم، وإلى أي درجة يؤثر في تحقيق مطلوبهم، وإلى أي درجة ينبغي أن ترتفع قدرتهم ليحصل تمام مطلوبهم، وكيف لهم أن يرفعوها.
ثم يكون التعامل مع معطيات الواقع وتدار بحيث يسلك كل سبيل شرعي يقلل على الأقل من حجم الإساءة للإسلام ولنبيه _صلى الله عليه وسلم_ في الغرب، إلى أن يعز الله دينه، ويظهر عباده الصالحين، وحين يقطع دابر المستهزئين المتنقصين للمرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
=============
نظرية الأوتار الفائقة ... سبقناهم !
عزيز محمد أبوخلف
كلما مرت فترة من الزمان يطلع علينا العلم التجريبي بنظريات واكتشافات تبهر العقول، وقد تصيبها أحياناً بالحيرة والذهول. والحضارات المستقرة التي يكون لها حظ في قيادة العالم، من الطبيعي ان تتسلم أيضاً قيادة التقدم العلمي. لهذا كان من المتوقع من الحضارة الإسلامية، وقد سادت الدنيا قروناً عديدة، ان تبهر الناس بمثل هذه الحوادث العلمية الكبيرة، فهي أحق بها من الناحية المنطقية. ولكن الذي حدث هو أن المنطق نفسه كان عامل تأخير وتخلف لهذه الأمة، مما جعلها تغيب بكل قدراتها عن أي إبداع علمي يذكر، إذا استثنينا بعض الإنجازات القيمة من علماء لم يجعلوا معيار تقدمهم يستند إلى المنطق الأرسطي وعلم الكلام اليوناني.
شهد العلم الحديث تطورات هائلة في أفكاره كان بعضها أشبه بالثورات العارمة، وقد صاحب ذلك اختراعات واكتشافات لا تقل أهمية عن النظريات التي أسست لها أو انبثقت عها. واكثر ما يشغل العلم ولا يزال تركيب الكون والقوانين التي تحكمه، حيث انطلق من تأملات الأقدمين مروراً بقوانين الحركة والنظرية الذرية واجزاء الذرة والنسبية والكوانتا والحقول، وأخيرا، وربما آخراً !، نظرية الاوتار الفائقة. وقلنا آخراً ولم نقل وليس آخراً، لأن من أبدع هذه النظرية يرى أنها تفسر كل شيء أي هي بمثابة النظرية الأم. ولكن لا تتعجلوا، وكالعادة ووفق قاعدة سبقناهم، فلن نعدم من يزعم ان علماءنا أشاروا أو نبهوا إلى هذه النظرية كما نبهوا إلى غيرها. وأيضا لن نعدم جانباً من الإعجاز العلمي سبقناهم إليه في آيات القرآن أو أحاديث المصطفى عليه السلام.
ما هي نظرية الاوتار الفائقة؟
نظرية الأوتار الفائقة superstring theoryهي أفكار جديدة حول تركيب الكون من إبداع الفيزياء النظرية، تستند في صلبها إلى معادلات رياضية معقدة، تحاول تفسير أمور مجربة. تقول هذه النظرية ان الأشياء مكونة من أوتار حلقية أو مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. هذه الأوتار تتذبذب فتصدر نغمات يتحدد بناء عليها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والالكترون وغيرها. وتكمن ميزة هذه النظرية في أنها تأخذ في الحسبان كافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحدها في نظرية واحدة، تسمى النظرية الأم.
الكون في تصور هذه النظرية هو عالم ذو عشرة أبعاد، على خلاف الأبعاد الأربعة التي نحس بها. ويقول أصحاب هذه النظرية بأن الأبعاد الأخرى متكورة على نفسها فهي غير محسوسة لنا، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل كميات هائلة من الطاقة تحتاج إلى مسرعات نووية بحجم المجرة!. فهذه النظرية تقدم تصوراً جميلاً للكون ضمن إطار موسيقي يقول لنا بأن كل شيء هو نتاج نغمات وذبذبات لأوتار صغيرة. ما نحن إذاً إلا نتاج الموسيقى وفق هذه النظرية الحديثة. ولكن لا بد من التأكيد على أن هذه النظرية هي نظرية في حد ذاتها، أي ليست تخبر عن واقع تجريبي، والتأكد منها يحتاج إلى جهود جبارة من الطاقة توازي ما حدث في اللحظات الأولى من الانفجار العظيم.
أصلها عندنا: الوتر الفرد(6/113)
لا نستبعد أن يطلع علينا أحدهم فيقول: سبقناهم في هذه النظرية كما سبقناهم في غيرها!. وهذا السبق قد تتبناه أكثر من جهة. فالذرة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم تعني أصغر ما يمكن من النمل، أو الفتائل المتناهية في الصغر، أو الهباء المصاحب للاشعة. وهكذا فالذرة هي أصغر شيء بأشكال متعددة، والوتر الصغير هذا يمكن اعتباره أصغر شيء!. أيضاً الجوهر الفرد الذي تبناه علماء الكلام ليؤسسوا به لعقائد الإسلام والدفاع عنها، هو شيء متناهي في الصغر، متحيز لكن ليس له مكان، وهو آخر ما تصل إليه المادة بعد التقسيم المضني. فلم لا يكون هو نفسه الوتر المتناهي في الصغر؟ ويجوز لنا والحالة هذه أن نسميه بالوتر الفرد!.
نحن لا نشكك في اخلاص أهل الإعجاز العلمي، ولا في نوايا علماء الكلام الذين اجتهدوا في الدفاع عن عقائد الدين، لكننا نرفض ربط الإسلام بالنظريات العلمية وجعلها أساساً في عقائده، بل لقد وصل الأمر بعلم الكلام إلى أن جعلها أمورا مقدسة لا يتطرق إليها شك. وهذا واقع فعلاً في تبني علم الكلام لنظرية الجوهر الفرد ذات الأصل اليوناني، وفي تبنيه لحرفيات المنطق الأرسطي الذي لا يورث غير التخلف والتعالي عن ركب التقدم العلمي. اما أهل الإعجاز العلمي فإننا نطالبهم إذا كانوا على حق ان يأتوا بالجديد في الوسط العلمي باقتراح النظريات والأفكار العلمية، لا بالانتظار على أبواب العلم حتى إذا ما طرحوا فكرة أو نظرية قلنا: سبقناكم!.
صلاة الجنازة على الجوهر الفرد
هل نقول بأنه آن الأوان أن نقبر هذه الأفكار العقيمة التي أضرت بالأمة وعوقتها عن التقدم، مثل نظرية الجوهر الفرد، وأفكار المنطق الأرسطي غير المجدية، وكلها ذات علامة تجارية يونانية؟. إن المنطق الذي يتمسك به من يأخذ بهذه الأفكار يحتم عليهم أن يتركوها وأن يفسحوا المجال للأفكار الجديدة كي تحل محلها. أليست نظرية الجوهر الفرد انعكاساً للأفكار العلمية التي كانت سائدة ومتداولة في تلك الأيام، وقد تبناها علم الكلام للدفاع عن العقائد، وها نحن أمام أفكار جديدة ترفض مثل هذه النظريات جملة وتفصيلا. من المنطقي أن من يربط العقيدة بالنظريات العلمية السائدة ان تكون عقائده متحولة، لأن النظريات العلمية نفسها قابلة للتعديل والتطوير باستمرار. فما الذي يُبقي عقائد الإسلام مرتبطة بنظرية الجوهر الفرد؟. إن على من يتبنى مثل هذه الأفكار أن ينعاها في صحائف الفكر، وأن يدعو للتكيبر عليها أربعاً، من اجل وأدها في مقابر الفكر، دون أن يسأل عنها بأي ذنب قتلت!.
==============
ضعف شخصية النسوان ..! لعدم مخالطة الرجال والفتيان ..!!
ما جمّل الله المرأة بزينة .. وما حلاّها بحلية .. أجمل ولا أروع من الحياء .. فهو مدار رفعتها .. ومنبع تميزها .. وتاج وقارها .. وعنوان جمالها وملاحتها .. به وحده تسمو.. ومن أجله تُطلب .. وفي محرابه تعتكف .. لا شيء يُرغّب في المرأة ويزيد من حرص الرجل على الارتباط بها .. مثل حيائها .. إذ به وحده يقاس عفافها وخفرها .. فإن فقدته .. فهو دليل على انغماسها في مستنقع الرذيلة .. وتخبطها في دياجير الفجور .. إذ لا وازع لها عن هذا وذاك إلا حياؤها الذي هو جزء من إيمانها .. بل حتى ولو لم تكن مؤمنة .. فسيمنعها حياؤها من مقارفة الشرور والسير في دروب الغواية والفجور .. وقد كانت المرأة على مر العصور ـ عند كل الشعوب ـ مشتهرة موسومة بالخفر والحياء .. حتى لكأنما هو عنوانها .. ودليل أنوثتها .. وأشعار العرب في الجاهلية ملئ بالتغني بخفر المرأة .. وحيائها .. فهذا الشنفرى يصف زوجه فيقول :
كأن لها في الأرض نسي تقصه *** على أمها وإن تكلمك تبلت
وقد كانت المرأة في أوربا وغيرها من بلاد الكفر وإلى زمن قريب ترتدي من الملابس أوسعها وأطولها.. ثم كانت الثورة الأوربية بعد سنين رهيبة من اضطهاد الكنيسة وتسلطها الجائر على الناس ومنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم ومتطلبات حياتهم باسم الدين المحرف .. فمنعوا الطلاق وحرموه .. ورفضوا أي اكتشاف علمي وحاربوه .. وغير ذلك من صنوف القهر والاستعباد .. بينما كان الرهبان والراهبات يمارسون الدعارة والفجور في كنائسهم .. حتى لقد اكتُشِفت مقابر لأطفال داخل كنائسهم .. فنتج عن هذا ردة فعل عكسية خرج الناس فيها على كل القيم والمثل مطالبين بالحرية الكاملة .. والانفلات من ربق وعبودية الكنيسة .. وما زاد عن حده انقلب إلى ضده .. فكانت النتيجة هذا الانحلال والتفسخ والعهر العارم .. الشامل .. لكل دول الكفر .. ومن سار على نهجها.. حتى وصل الحال بهم أن غدو مثل البهائم .. يمارسون الجنس في الطرقات .. والأماكن العامة .. بل وصل الأمر إلى انتكاس الفطر والشذوذ .. مما لم تقع فيه حتى البهائم .. فمال الرجل إلى مثله والمرأة إلى مثيلتها .. وهذه نتيجة طبيعية للإغراق في الرذيلة والانغماس في ممارسة الفحش والدعارة .. بدعوى التقدمية .. والتحرر من الكبت باسم الحرية الشخصية ..
أما المرأة العربية فقد كانت مضرب المثل في الخفر والحياء والحشمة .. ثم جاء الإسلام فرسخ هذا المفهوم وأصّله وربطه برباط وثيق .. ورتب عليه الأجر والعقاب .. فأصبحت المرأة المسلمة ترفل في ثوب الحياء والحشمة والعفاف بدافعين.. الأول فطري غريزي .. والثاني عقائدي ديني .. استجابة وامتثالا لأمر مولاها .. فغدت بهذا درة مصونة .. وجوهرة مكنونة .. وملكة متوجة .. وبقيت كذلك على مر العصور في تاجها العاجي لا تنزل منه ولا تتنازل عنه برغم كل الحوادث العاصفة من حولها ..
ثم كانت الحملة الاستعمارية على مصر .. فجاءت ومعها المومسات بملابس العهر .. والفجور .. فبهرن ضعاف الإيمان .. وسلبن ألباب متبعيّ الشهوات .. فنادوا المسلمات الطاهرات بالمضي على خطاهن .. والسير على دربهن باسم التقدمية .. والانفلات من القيود والرجعية .. وبرغم كل المحاولات المستميتة للتصدي لهذه الدعاوى الفاجرة .. إلا أن حال المسلمين كان مهيئا لقبول مثل هذه الضلالات بسبب الجرم الكبير الذي اقترفته أيدي الصوفية والمرجئة في العالم الإسلامي بطوله وعرضه ..
ويوم بعد يوم تغرق المرأة المسلمة في هذا المستنقع الآسن وتزداد فيه انغماسا .. حتى إنك ترى بعض الدول العربية كأنها قطعة من أوربا أو أمريكا .. بينما ترى بقية الدول تسارع الخطى لتلحق بالركب .. يدعم ذلك كله منافقي العصر ومروجي العهر ..(6/114)
وكان آخر هذه الصيحات والأصوات النشاز .. ما كتبه أحد أبواق الضلال في إحدى الصحف المحلية استهجن فيه فصل النساء عن الرجال في الأماكن العامة كالحدائق والأسواق والمناسبات الثقافية .. معتبرا أن هذا الفعل لا سابقة له في الإسلام .. ولا مستند له من دليل قولي أو فعلي على مر العصور .. خاصة في العصرين الأموي والعباسي باعتبارهما عصري ازدهار الحضارة الإسلامية ووجود الأسواق والمتنزهات والمناسبات الثقافية فيهما على حد زعمه .. وأرجع السبب في تعرض المرأة للأذى والمضايقات إلى ضعف شخصيتها نتيجة القيود التي فُرضت عليها رغبة في حمايتها .. معتبرا حال المرأة حتى وهي تطلب عدم مخالطة الرجال ومزاحمتهم ( أشبه بإنسان أصابه توتر ومرض نفسي وحاول أن يقاوم فلم يستطع واستسلم واستعان عليه بالحبوب المهدئة ) فما طلبها العزلة إلا نوع هروب ناتج عن ( ضعفت شخصية المرأة إلى حد جعلها أضعف من أن تستطيع الدفاع عن نفسها) وهي بفعلها هذا تجني ـ في نظره ـ على نفسها بهذا المخدر الوقتي .. وستحتاج إلى علاج للمشكلة الأخرى التي ستقع فيها نتيجة عدم مخالطتها للرجال في الأسواق والحدائق والمناسبات الثقافية ..!!
والقضية ـ كما هي عادة المنافقين ـ عائمة ..! تشابكت فيها أمور كثيرة وتداخلت فيها عناصر متعددة .. استخدم فيها الكاتب أسلوب التمييع والتلميح دون التصريح حتى يترك مجالا للاحتمالات من جهة ليهرب فيما لو قوبل بالحقيقة .. ويلبّس على الناس من جهة أخرى مسلمات ثابتة لديهم بزعمه أنها ليست من الدين ولا مثال لها فيما سبق وإنما هي بدعة مستحدثة .. لكنه لم يجزم بذلك صراحة وإنما أوردها على شكل تساؤلات في أولها ثم جزم بها في آخرها .. كما في قوله : ( هل ظاهرة عزل المرأة التي تستشري لدينا في العصر الراهن لها مثال في العصور السابقة أم إنها ظاهرة جديدة وفريدة ابتدعناها, مضطرين, على غير مثال بعد أن ضعفت شخصية المرأة إلى حد جعلها أضعف من أن تستطيع الدفاع عن نفسها)
والكاتب يعرف جيدا ـ كما يفترض ـ أن المرأة المسلمة فيما سبق لم تكن خرّاجة ولاجة من سوق إلى سوق ومن حديقة إلى أخرى ومن متنزه إلى غيره .. كما هو حال كثير من نساء اليوم .. ولكنه يزيف الحقائق ويقلب الأمور وفق رغباته .. فلا يكفيه ما وصل إليه حال بعض نساء اليوم من كثرة الخروج من المنزل من غير ضرورة بل يريد أن يكون مع ذلك وفوقه اختلاط النساء بالرجال وتزاحمهم في الأماكن العامة والأسواق والمناسبات الثقافية .. ولا بد أن يصاحب ذلك سفور وتبرج وإلا كيف تستمتع المرأة بما خرجت من أجله وهي متسترة محجبة .. وهذا ما يدعو إليه بإلحاح أصحاب الشهوات ليل نهار ..! تحت مسميات عدة .. مرة تحت مسمى الحرية وفك القيود والأغلال .. ومرة تحت مسمى تفعيل الجزء المعطل والاستفادة من طاقاته .. واليوم تحت مسمى عدم إضعاف شخصية المرأة بعزلها عن الرجال وحمايتها منهم وما يترتب على ذلك من أمراض نفسية نتيجة هذا العمل المبتدع ..
الغرب الكافر اليوم ينادي بالعفة وعزل النساء عن الرجال إلا المنافقين من بني جلدتنا بدأوا من حيث انتهى سادتهم وصدق حبيبنا صلى الله عليه يوم وصفهم بقوله : ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا )
والمصيبة الكبرى أن يزعم هؤلاء الروبيضات أن دعاواهم الباطلة ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نهج السلف الصالح ما يخالفها .. ويُنشر هذا في صحيفة سيارة تتلقفها الأنفس المريضة وتروّج لها بين العامة .. ثم تصبح مع مرور الأيام واقعا مشاهدا تكون قد ألفتها الأسماع ثم تعتاد عليها الأبصار .. فتغدو وكأنها واقع لا مفر منه ولا محظور فيه ..
كيف يكون عفاف المرأة وحياؤها وخفرها ورغبتها عدم مخالطة الرجال ومزاحمتهم مرضا نفسيا ؟!.. يؤدي إلى إضعاف شخصيتها .. ومن ثم تحتاج معه إلى علاج ودراسة حالة ..؟؟!!
الله عز وجل يأمر خيرة خلقه .. وأطهرهم قلوبا .. وأبعدهم عن مواطن الشبه يأمرهم بغض أبصارهم وحفظ فروجهم { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ..} ويأمرهم إذا سأل رجالهم نساءهم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب.. { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .. }
ويأمر سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين بالستر والعفاف حتى لا يتعرضن للأذى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ويأمر أطهر نساء الأمة وأبعدهن عن مواطن الشبه والريبة ومن سار على نهجهن واقتدى بهن بالقرار ولزوم البيت { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.. } بل ويأمر العجوز التي لا رغبة لها في الرجال ولا رغبة للرجال فيها ألا تتبرج بزينة وأن تستعفف : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحث المرأة أن تصلى في بيتها فهو خير لها حتى من أدائها في المسجد الحرام كل هذا صونا لها ولحيائها من أن يخدش ..
يقول صلى الله علية وسلم : ( صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من صلاتها خارج )
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( المرأة عورة وإنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان و إنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها )
ومع كل هذا يأبى المنافقون إلا أن يسموا الحشمة والحياء وعدم مخالطة النساء للرجال مرضا نفسيا .. وبدعا من القول والفعل لا مثيل ولا سابق له .. ويرجعون ما تتعرض له من مضايقات لضعف شخصيتها فقط نتيجة عزلها عن الرجال وحجبها عنهم ..
خالد الحاني
================
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بذوي الاحتياجات الخاصة
محمد مسعد ياقوت**
لقد كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة لحرية الإنسان، والقضاء على عبودية البشر للبشر، فقرر الحرية الإنسانية وجعلها من دلائل تكريم الخالق للإنسان، وأولى اهتمامًا خاصًّا للعبيد، فضيق صلى الله عليه وسلم مصادر الاسترقاق ووسع منافذ التحرير، ورغب الناس في تحرير العبيد، وأخبر أن من أعتق عبدًا أعتق الله له بكل عضو عضوًا من أعضائه من عذاب النار يوم القيامة.1(6/115)
وقد بيّن المستشرق الألماني "آدم متز" أن العتق يُعَدّ مبدأ من مبادئ الإسلام، فيقول: "كان في الإسلام مبدأ في مصلحة الرقيق، وذلك أن الواحد منهم كان يستطيع أن يشتري حريته بدفع قدر من المال، وقد كان للعبد أو الجارية الحق في أن يشتغل مستقلاً بالعمل الذي يريده.. وكذلك كان من البر والعادات المحمودة أن يوصي الإنسان قبل مماته بعتق بعض العبيد الذين يملكهم"2.. بل رفع صلى الله عليه وسلم من شأن العبيد حتى جعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم -كما يقول المفكر النصراني نظمي لوقا-: "العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش!"3.
ومن هنا وقفت قيادات قريش الأرستقراطية في وجه الدعوة التي ترنو إلى تحرير العبيد وتنادي بالمساواة التامة بينهم وبين السادة، ولقد كانت قيادات مكة تساوم قائد الدعوة على طرد هؤلاء العبيد مقابل إقرار قيادات مكة بالإسلام، ومن ثَم نزل القرآن الكريم محذرًا رسول الله أن يترك العبيد أو أن يطردهم، وهم الذي بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة، ويدعون ربهم الواحد الأحد صباحًا ومساءً، يريدون ببذلهم وجه الله تعالى، لا يبتغون منصبًا أو جاهًا كما يبتغي غالبية السادة.. فقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، إن هؤلاء العبيد -في الشرع الإسلامي السمح- هم أعظم قيمة وأكثر بركة وأرق أفئدة وأطهر نفسًا، من هؤلاء السادة الذين يستعبدون الناس، ويتجبرون في الأرض بغير الحق.. هؤلاء العبيد نزل من أجلهم الأمر من السماء إلى رائد الدعوة صلى الله عليه وسلم بأن يضعهم في عينيه! بل نزل التحذير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يلتفت عن العبيد إلى زينة الكبراء، أو أن يتلهى عن العبد ويطيع السيد المارق.
أما العبيد فقد وجدوا الكرامة والحرية، في تعاليم الإسلام الإصلاحية، وفك رقابهم من طوق الفقر والذل، وخلصهم من عبادة الحجارة وسياط السادة. بل جعل منهم سادات المسلمين، حتى أُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعليقًا على حادثة شراء أبو بكر لبلال بن رباح رضي الله عنهما ليعتقه من الرق فقال: "سيدنا وأعتق سيدنا!".
تعاليم نبوية في تحسين أوضاع العبيد
إن المتأمل في التوجيهات النبوية يجدها تشي بالجهد الجهيد الذي بذله نبي الإنسانية في سبيل تحسين أوضاع العبيد والإماء ويعرف بحق كيف كانت مكرمة العبيد في الإسلام. وهذه بعض التوجيهات النبوية التي نذكر بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: وصيته صلى الله عليه وسلم بالعبيد والإماء:
كان آخر كلمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بروحه الشريفة، وقد حضره الموت، الوصية بالعبيد والإماء.. فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"4 ! إنه يوصي بالعبيد، وهو في سكرات الموت! فهو الذي احتضنهم حيًّا، وأوصى بهم بعد مماته خيرًا، فكان خير معلم لهم وخير أب وخير محرر.
ثانيًا: تحذيره صلى الله عليه وسلم من إيذاء العبيد والإماء:
فكان يغضب أشد الغضب من ضرب العبيد أو إيذائهم فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنت أضرب غلامًا لي؛ فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتًا: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ.. لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ"! فالتفتُ فإذا هو النبي! فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله تعالى. قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَعَتْكَ النَّارُ أَوْلَمَسَّتْكَ النَّارُ"5
هكذا كان رسول الله يربي تلاميذه، ويفقه شعبه، على احترام آدمية الناس، وخاصة الضعفاء منهم والعبيد والخدم والأجراء.
ويمتد هذا النداء الأبوي إلى حكام المسلمين في كل زمان ومكان؛ فيلزمهم بحماية العبيد من التعذيب أو الاضطهاد، فضلاً عن السعي الجاد لتحريرهم.
ثالثًا: أمره صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى العبيد والإماء:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألطف الناس بالعبيد، وأرفق الناس بالإماء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفًا! والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه!! وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه"6.
وعن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربدة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة [يعني من نفس الثوب] فسألته عن ذلك. فقال: إني ساببت رجلاً، فعيرته بأمه [قال لعبد: يا ابن السوداء] فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أعيرته بأمه!؟ إنك امرؤ فيك جاهلية! إخوانكم خولكم [العبيد والإماء هم إخوانكم في الدين والإنسانية]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده: فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"7.
فحرم السخرية من العبيد أو الاستهزاء بألوانهم أو أنسابهم، كما حرم إجهاد العبد في الخدمة، وأوجب مساعدته إذا كُلّف ما يغلبه.. وحذر الفقهاء من استعمال العبيد على الدوام ليل نهار، فقالوا: إذا استعمل السيدُ العبدَ نهارًا أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، وقالوا: يريحه بالصّيف في وقت القيلولة، ويمنحه قسطه من النّوم، وفرصة للصّلاة المفروضة. وإذا سافر به يجب عليه أن يحمله معه على الدابة أو يتعاقبان على البعير ونحوه.
بل قالوا: "إن كان العبد ذمّيًّا فقد ذكر بعض الفقهاء أنه لا يمنع من إتيان الكنيسة، أو شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك دينه، نقله البنانيّ عن قول مالكٍ في المدوّنة"8
وتأمل معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن عيّر العبد: "إنك امرؤ فيك جاهلية".. دلالة على أن صفة من يهينون العبيد ويؤذونهم بالقول أو الفعل، فوصفهم بالجهل، وربطهم بعصور الجاهلية، وعهود التخلف.
رابعًا: تحريك الجهود الشعبية لمكافحة الاسترقاق:
شغل الرقُ سلمانَ الفارسي رضي الله عنه حينًا من الزمن.. فقد كان مولى عند أحد الوجهاء، حتى فات سلمان عددًا من المشاهد مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، منها بدر وأحد.
فذهب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكاتب سيده، فكاتبه على ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب.
وشارك المسلمون في أداء هذا الدين عن سلمان، فأحضروا له النخل وحفروا معه أماكنها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه بيده الشريفة وعُتق سلمان.
وكانت أول مشاهدُه غزوة الأحزاب، وكان هو صاحب فكرة إنشاء خندق عظيم حول المدينة لتحصينها من الغزاة.. ولما نجحت الفكرة، زاد تقدير الناس لسلمان؛ نظرًا لرجاحة عقله، وجهده في خدمة دولة الإسلام بفكرة الخندق، فقال الأنصار: سلمان منا! وقال المهاجرون: سلمان منا!.
فقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت!!"9
وهكذا ارتفع شأن العبيد في دولة الإسلام بجهدهم وخدمتهم للمجتمع، ولم تكن عبوديتهم أيما يوم من الأيام تشينهم بين إخوانهم المسلمين.(6/116)
وفي ذلك أيضًا النموذج العملي الذي حشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم جهود شعبه من أجل تحرير عبد. وهو بذلك يلزم المجتمع بضرورة تضافر الجهود الشعبية لفك الإنسان من الرق.
خامسًا: سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه":
شرع الإسلام منفذًا لتحرير العبيد عن طريق سن قاعدة "كفارة ضرب العبد عتقه" والذي لم يكن موجودًا أيام الجاهلية، فمنح حق الحرية للعبد إذا ضربه سيده.
فعن أبي صالح ذَكْوَانَ عن زَاذَانَ قال: أتيتُ ابن عمر، وقد أعتق مملوكًا له، فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: مالي فيه من الأجر مَا يَسْوَى هذا.. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أو ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"10
سادسًا: كفالة الدولة الإسلامية للعبد المعاق أو المريض:
فلقد كان لِزِنْبَاعٍ أبو روح رضي الله عنه -أحد الصحابة- عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرَ بْنَ سَنْدَرٍ، فوجده يقبل جارية له، فقطع ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فأَتَى الْعَبْدُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزنباع: "مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟" قَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فذكر له ما فعل بالجارية!.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد: "اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ" فقال العبد: يا رسول الله فمولى من أنا؟ فقال: "مولى الله ورسوله".. فأوصى به المسلمين؛ فلما قُبض جاء العبد إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، تجري عليك النفقة وعلى عيالك، فأجراها عليه حتى قبض.. فلما استخلف عمر رضي الله عنه جاءه فقال: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أين تريد؟ قال: مصر، قال: فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضًا يأكل منها!!11.
فالدولة -في الشرع الإسلامي- تكفل أصحاب الإعاقات من العبيد، -كما رأيت- كالمواطنين الأحرار، وقرر لهم الراتب المالي الدوري الذي يغنيهم عن التسول أو سؤال الناس
فرية سن الاسترقاق!
ورغم جهود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير العبيد فإن بعض الحاقدين زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سن الاسترقاق! ونحن نترك العلامة "لايتنر" يرد على هذه الفرية، فيقول: ".. إنا نرى الأغبياء من النصارى يؤاخذون دين الإسلام كأنه هو الذي قد سنّ الاسترقاق، مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد حضّ على عتق الرقاب، وهذه أسمى واسطة لإبطاله حقيقة"12..
كذلك يتحدث الكاتب الفرنسي "فانسان مونتييه"، مستنكرًا هذه الافتراءات، فيقول: "إنهم يتهمون الإسلام بظاهرة الرَقّ التي وُجِدَتْ قبل الإسلام وليس بعده، بل حين انتشر الإسلام وطُبقت تعاليمه كان يسعى لإلغاء الرّق، بل إن كثيرًا من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقربًا وطاعة لله"13..
ويتحدث المفكر الإنجليزي "كويليام" عن هذه الروايات التي اختلقها الحاقدون، وزعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، سن الاسترقاق والخناسة.. فيقول:
"إن روايات كهذه مجردة بالمرة عن الحقيقة، لا يمكن تصديقها وتصور وقوعها"14.. ويدلل على حقيقة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم له الفضل في القضاء على النخاسة في الجزيرة العربية، فيضرب مثالاً بمناطق شرق ووسط إفريقيا التي تفشت فيها مظاهر النخاسة والاسترقاق، ويبين أن السبب في تفشي هذه المظاهر في هذه المناطق هو "لأن الإسلام لم يدخل فيها!! وبرهان ذلك أن الإسلام من خصائصه إبطال النخاسة إبطالاً دائمًا!!15".. رغم أن تجار النخاسة والرق -كما يقول إدوار بروي- كانوا "من الأوروبيين"16.. ومن ثَم.. "توقفت حركة التطور في البلدان [الإفريقية] على أثر العبث الذريع الذي أحدثه في تلك الأرجاء تجار النخاسة والرق من الأوروبيين"!17.
وإذا قيل: إن الإسلام لم يلغِ الرق والاتجار بالبشر إلغاءً كاملاً رغم عظم مجهودات نبي الإنسانية صلى الله عليه وسلم في مكافحة الاسترقاق.. فجواب ذلك أن الدولة الإسلامية وحدها لا تستطيع أن تقضي تمامًا على عادة الاسترقاق والاتجار بالبشر، وذلك لعدة أساب وجيهة ومنطقية..
السبب الأول: أن مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر كانت متأصلة ومنتشرة في المجتمعات الإنسانية، العربية وغير العربية، منذ قديم الزمن، فكان على الشرع الإسلامي -كعادته- أن يستخدم التدرج في القضاء على المنكرات والأعراف الفاسدة، فضيّق منافذ الاسترقاق ووسع أبواب العتق.
السبب الثاني: أن هذه العادات كانت قبل ظهور الإسلام بمثابة الأعراف الدولية، فقد كانت جميع الدول والإمبراطوريات -دون استثناء- تمارس الاسترقاق والاتجار بالبشر، ومن ثَم فإن القضاء على الرق يحتاج إلى اتفاق دولي عام، يلزم الجميع بمنع الاسترقاق أو الاتجار بالبشر.. ومعلوم أن الدولة الإسلامية أيام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن من القوة والانتشار بالقدر الذي يسمح لها بمنع هذه العادات.
السبب الثالث: أن الناس كانوا حديثي عهد بالإسلام، وإذا أصدرت الدولة قرارًا بمنع الرق؛ فسوف يقع حرج شديد على هؤلاء الناس الذين أصبحت تجاراتهم وأعمالهم تقوم على كاهل هؤلاء العبيد.. فكان على النظام الإسلامي أن يأخذ بمبدأ التدرج في منع الاسترقاق والاتجار بالبشر.
السبب الرابع: أن الدولة الإسلامية لم تكن تمتلك من الإمكانيات الاقتصادية والمالية بحيث تتمكن من كفالة هؤلاء العبيد بعد تحريرهم، أو حتى توفير فرص عمل لهم جميعًا، فمن المعروف أن العبيد كانوا في كفالة أسيادهم، يطعمون من مال السادة، ويحترفون لهم في مهنهم
تحريم الاتجار بالبشر
ومن دلائل مكافحة الاسترقاق في الشرع الإسلامي، تحريمه لكافة صور ومظاهر الاتجار بالبشر، وخاصة النساء والأطفال الأحرار.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"18.
فجعل الاتجار بالبشر من أبواب الخيانة والغدر والظلم، والله عز وجل خصم لجميع الغادرين إلا أنه أراد التشديد على هذه الأصناف الثلاثة، فقد ارتكبوا جرمًا شنيعًا يتعلق بحقوق الإنسان، فأحدهم غدر بأخيه الإنسان، فعاهده عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والثاني باع أخاه الإنسان الحر، والثالث أكل مال أخيه الإنسان الأجير، وهو داخل في إثم المتاجرة بالبشر كالثاني؛ لأنه استخدمه بغير حق، وخالف الأمر النبوي: "أَعْطِ الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"19.(6/117)
وجريمة الاتجار بالبشر -التي حرمها الشرع الإسلامي الفضيل- تتسربل بصور عديدة مارستها المجتمعات الجاهلية في القديم والحديث.. فمارستها قبائل العرب ودول الفرس والرومان قبل بعثة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقطعون الطرق على الأحرار، فيسرقون أموالهم ويبيعونهم في أسواق النخاسة على أنهم عبيد.. وفي العصر الحديث مارس الأمريكان هذا السلوك الجاهلي مع الزنوج، فخصصوا الهيئات التي تبيع وتشتري فيهم، وهم أحرار، ومارسوا أبشع صور التمييز العنصري في حقهم. إضافة إلى ظهور جماعات المتاجرة بالأطفال والنساء؛ لغرض الاستغلال الجنسي التجاري، ناهيك عن استغلال هذه الجماعات للكوارث الطبيعية والحروب لممارسة نشاطها، وخير شاهد ما حدث في كارثة تسونامي وما أعلنته الصحف عن أرقام مفزعة للنساء والأطفال الذين تم الاتجار بهم في ظل هذه الكارثية الإنسانية، الأمر نفسه حدث مع ضحايا الشعب المسلم في البوسنة والهرسك بعد ما أعمل فيه الجيش الصربي الذبح، فتم بيع آلاف الفتيات والأطفال على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر).. وتحولت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى مراكز كبرى للاتجار بالبشر من جانب العصابات المنظمة التي تحصد سنويًّا ما بين 8 و10 مليارات دولار من الاتجار بالأطفال والنساء، وذلك وفقًا لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية... بيد أن الشرع الإسلامي الكريم حرّم بيع الأحرار، وناهض تجارة البشر بالبشر، وحرم إكراه الفتيات على ممارسة البغاء فقال الشارع الحكيم: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].
إلى جانب أن جريمة الاتجار بالبشر تنتهك حق الإنسان في الحرية، وتنتهك حقوق الأطفال والنساء في العيش في بيئة آمنة صالحة، فهي تنزعهم من أسرهم ومن بين آبائهم وأمهاتهم إلى جحيم الاستغلال الجنسي والسخرة والتعذيب النفسي والجسدي.. وكلها مظاهر حرمها الإسلام وحاربها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
هكذا كان المنهج النبوي في التعامل مع مظاهر الاسترقاق والاتجار بالبشر؛ ليسجل أمام الله تعالى ثم التاريخ أن النظام الإسلامي هو أول نظام في تاريخ البشرية ناهض الاسترقاق وحارب المتاجرة بالبشر.
---------------------------
** الأستاذ محمد مسعد ياقوت داعية مصري، وباحث مشارك في إعداد بعض المشاريع العلمية الهامة، ومُعِد ومقدم برامج في التلفزيون المصري والفضائيات العربية، وعضو لجنة الكتاب الأفارقة والآسيويين. yakoote@gmail.com
(1) حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، باب فضل العتق، ح: 1509: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار" (الإرب هو العضو)
(2) آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/ 290 .
(3) نظمي لوقا: محمد الرسالة والرسول، ص 185
(4) صحيح - أبو داود ،ح: 5156، أحمد، ح: 585
(5) صحيح - أبو داود ، باب حق المملوك، ح: ( 4492) .
(6) صحيح - أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (116)، أبو حنيفة في مسنده (40)، الحارث في مسنده (939)، وذكره ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية ( 3931 ).
(7) صحيح - البخاري،كتاب الإيمان، برقم 30، مسلم، كتاب الإيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل، رقم: 1661
(8) عن الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، باب "رقّ"
(9) الحاكم في المستدرك، ح: 6541، الطبراني: المعجم الكبير،ح: 6040، والقصة منتشرة في كتب السيرة، في ثنايا أحداث الخندق .
(10) صحيح - سنن أبي داود ، ح: 4500 .
(11) حسن - أحمد ( 2/ 182 )، أبو داود ( 4519 ) ابن ماجه ( 2680 ).
(12) لايتنر :دين الإسلام ، ص 7
(13) انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا، 231
(14) عبد الله كويليام: العقيدة الإسلامية ، ص26
(15) المصدر السابق
(16) إدوار بروي: تاريخ الحضارات العام 3/ 564
(17) المصدر السابق
(18) صحيح - رواه البخاري، كتاب البيوع ، باب إثم من باع حرًا، ح: 2075
(19) حسن - البيهقي، ح: (11439)، عن أبى هريرة
المصدر : إسلام أون لاين، صفحة مع الحبيب، قسم أخلاق الحبيب
===============
العلمانية (أسباب ظهورها ،آثارها ,عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي ,أبرز دعاتها)
كتبه
بندر بن محمد الرباح
عضو الدعوة والإرشاد بالقصيم
المقدّمة
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى
آله وأصحابه وسلم .
أما بعد:
فإنه لما كان المسلمون يجمعهم كتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجمعهم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانوا أمة واحدة قوية وعزيزة ورائدة.
ولكن لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية.
وما لذلك من سبب سوى البعد عن منهج الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هداية ونوراً وإخراجاً للناس من الظلمات إلى النور.
وهذا البحث يتناول جانباً مهما وخطيراً من جوانب هذا التيار الفكري الذي وفد على الأمة الإسلامية واستهدف إبعادها عن عقيدتها وربطها بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله ومنهج رسوله e.
وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار "العلمانية" ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً.
هذا وقد جعلت البحث في مقدمة وفصلين وخاتمة:
المقدمة : وفيها أهمية الموضوع وخطة البحث.
الفصل الأول: تعريف العلمانية وأسباب ظهورها، وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.
المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب
الفصل الثاني: في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي وأبرز دعاتها وآثارها على العالم الإسلامي
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي
المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث.
الفصل الأول:
تعريف العلمانية وأسباب ظهورها
وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.
المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها كلمة عربية مشتقة من العلم, بل هي مبالغة تشير إلى الاهتمام بالعلم والعلماء, ولا غبار على هذا - لو كان على ظاهره - من الوجهة الإسلامية حيث اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء, ولكنها حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لتغريب المسلمين فإن الأمر يصبح غير ذلك, إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى, وإنما تكون ترجمة عربية للفظ أجنبي له مدلوله الخاص, ولذلك أجمع الكثير من رواد الفكر الإسلامي على أن " العلمانية " ترجمة للكلمة الإنجليزية ( سيكولاريتي Secularity ) أي لا ديني, أو غير عقيدي, ونستنتج من ذلك أن العلمانية تعني اللادينية(1).(6/118)
جاء في معجم ألفاظ العقيدة: أن العلمانية تأتي لمعان منها: العالمية, ومنها اللادينية. ومنها فصل الدين عن الدولة وعن الحياة.
وكلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي مشير إلى انتصار العلم على الكنيسة التي حاربت التطور باسم الدين (2).
وهي على هذا كلمة مضللة خادعة ابتدعها الغرب لصرف الناس عن الاهتمام بالآخرة كما تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة: هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا فقط, وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر.
وفي معجم ويبستر الشهير: العلمانية: " رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها", ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: " بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين"(3).
____________________
1- صور من مواقف العلمانية في محاربة الإسلام عن طريق التعليم. حسن ملا عثمان ص172-173 بحث مقدم إلى مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض, جامعة الإمام - العدد السابع 1403هـ
2- معجم ألفاظ العقيدة, ص286.
3- جذور العلمانية. د. السيد أحمد فرج, ص105
وهي من خلال النصين السابقين دعوة صريحة إلى نبذ الدين والاهتمام بالحياة وإسقاطه من الحسبان وإقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, وآن للأمة أن تعمل وللفرد أن يعمل ما تشاء وما يشاء دون التفات لأوامر الدين ونواهيه حسب ما يمليه الواقع المادي سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو التربوية (1)
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو " فصل الدين عن الدولة ", وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة, ولو قيل أنها " فصل الدين عن الحياة " لكان أصوب, ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو " إقامة الحياة على غير الدين " سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود: فبعضها تسمح به, كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية, وتسمي منهجها " العلمانية المعتدلة " أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين, وذلك مقابل ما يسمى " العلمانية المتطرفة "أي المضادة للدين, ويعنون بها المجتمعات الشيوعية ومشاكلها.
ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية... الخ.
_____________________________
1- العلمانية نشأتها وتطورها. سفر بن عبد الرحمن الحوالي, ص24.
المبحث الثاني
أسباب ظهور العلمانية في الغرب
هناك أسباب كثيرة أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب كان من أبرز هذا الأسباب
ما يلي:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة:
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.
وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:
أ - الطغيان الديني:
إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد،أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس).
وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهراً، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.
وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل" اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
أما العبادات فقد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوساً تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.
وأما الأحكام التشريعية فمعظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من الشرع.
ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهاً" يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائناً من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر.
ومن أمثلة الأحكام التي غيرتها الكنيسة الختان حيث أنه كان واجباً فأصبح حراماً، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركاً ووثنية فأصبحت تعبيراً عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالاً فأصبح محظوراً، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكراً فأصبحت الضرائب الكنسية فرضاً لازماً، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجاً.
وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة.
ومن أمثلة ذلك التعميد وتقديس الصليب وحمله وعقيدة الخطيئة الموروثة وصكوك الغفران والحرمان وحياة الرهبنة(1)
إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ ديناً من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية.
ب- الطغيان المالي:
إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.
جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم "(2).
وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله" (3).
___________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 128-132.
2- متى 10 :10-11
3- مرقص 10:22
إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.
ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيما يلي:
1-الأملاك الإقطاعية:(6/119)
يقول ديورانت: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلاً يمتلك(15000) قصر صغير، وكان "الكوين فيتور" أحد رجال الدين سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض،.
وكانت أملاكها المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات".
2-الأوقاف:
كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف" - وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله".
3-العشور:
فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها .
4- الهبات والعطايا:
وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران، إذ انهالت التبرعات على الكنيسة، وتضخمت ثروات رجال الدين تضخماً كبيراً.
هذا. ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنيسية التي كانت تدرُّ الأموال الطائلة على رجال الكنيسة؛ فمثلاً في سنة1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس.
5- العمل المجاني "السخرة":
لم تقنع الكنيسة بامتلاك الإقطاعيات برقيقها وما يملكه بعض رجال الدين من آلاف الأرقاء، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، ولاسيما بناء الكنائس والأضرحة وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محدودة، هى في الغالب يَوْمٌ واحِدٌ في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكورا (1).
وبهذا يتبين لنا أن الانحراف والفساد الديني والاجتماعي قد وصل على يد الكنيسة النصرانية ورجالها وتعاليمها المزيفة إلى حد لم يعد يتحمله الناس ولا تطيقه فطرة البشر، حيث شقيت أوروبا برجال الدين الدجالين، وبتسلطهم ونفوذهم باسم الدين، وباسم الرب.
ج-الطغيان السياسي:
أما الطغيان السياسي فقد بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولايستجيبون لأوامر الخلع البابوية.
ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم:
الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها على الإطلاق.
وذلك أن الكنيسة كانت هي صاحبة السلطة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى قامت النهضة العلمية هناك.
وفي هذه الأثناء وقعت الحروب الصليبية بين المسلمين والأوروبيين،واستمرت طوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلادي،واحتك الصليبيون خلالها بالمسلمين ووقفوا عن كثب على صفات الإسلام وروعته في جميع مجالات العلوم والفنون، في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، حيث كانت المدارس
____________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 138-143.
والجامعات المتعددة في كل مكان في بلاد المسلمين، يؤمها طلاب العلم ومنهم الأوروبيون الذين وفدوا يتعلمون من الأساتذة المسلمين، وترجمت بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية.فلما عاد أولئك الأوروبيين الذين تأثروا بنور الإسلام وعرفوا أن الكنيسة ورجالها عملة مزيفة، ووسيلة للدجل والتحكم الظالم في عباد الله، أخذ هؤلاء يقاومون الكنيسة ودينها المزيف وأعلنوا كشوفا تهم العلمية والجغرافية، والعلوم الطبيعية التي تحرمها الكنيسة، وعند ذلك قامت قيامة من يُسمون لدى النصارى برجال الدين، واحتدم الصراع، ومكث قروناً بين رجال العلم ورجال الكنيسة، فأخذوا يُكفّرون ويقتلون ويحرقون ويشردون المكتشفين، وأنشأت الكنيسة محاكم للتفتيش لملاحقة حملة الأفكار المخالفة لآرائها وأفكارها.
ومكث هذا الصراع عدة قرون، وانتهى بإبعاد الكنيسة ورجالها عن التدخل في نظم الحياة وشئون الدولة، فالدين - بمعنىً أوضح - مهمته داخل جدران الكنيسة فقط ولا داعي لوجوده خارجها، ويكون لرجال الدولة والعلم إدارة شئون الحياة بالأسلوب الذي يناسبهم سواء أكان متفقاً مع مبادئ الدين أم لا ؟!! (1)
وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأولى أن نسمي ما حدث في أوروبا صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم أو بين رجال الدين والعلماء.
ونظراً لأن الصراع الدامي الطويل قد انتهى بأول انتصار حاسم لأعداء الكنيسة اثناء الثورة الفرنسية فإننا سنتناول ذلك بإيجاز.
ثالثاً: الثورة الفرنسية:
ونتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، ووقوفها ضد مطالب الناس، دبّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، لاسيما الشعب الفرنسي.. فأعدوا الخطط اللازمة؛ لإقامة الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين النصراني المحرف الذي حارب العلم عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة وإبعاد رجالها عن التحكم الظالم.
وفعلاً قامت الثورة الكبرى عام (1789م) واستطاع اليهود أن يجنوا ثمرات
____________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص133-136 .
عملهم على حساب آلام الشعوب، والدماء التي أهرقت من جرائها، واستطاعوا أن يظلوا في الخفاء بعيداً عن الأضواء، وأن يزوروا كثيراً من الحقائق التاريخية؛ لستر مكايدهم وغاياتهم، واستطاعوا أن يصوروا هذه الثورة وما جرّت وراءها بالصورة الجميلة المحببة، وأن يجعلوها إحدى الأعمال التاريخية المجيدة، وذلك عن طريق الدعايات والإشاعات المزخرفة المقرونة بالشعارات البراقة التي انخدع بها الناس، وأخذت ترددها دون أن تفهم الهدف الذي ترمي إليه.
ووضع اليهود شعاراً مثلثاً لهذه الثورة هو "الحرية، والمساواة، والإخاء".
أما أصل مخططات هذه الثورة فقد وضعها جماعة النورانيين من الحاخامين اليهود، واستخدموا للبدء بالدعوة إليها بين سادة المال اليهود العالميين، الثري المرابي الكبير "روتشيلد الأول" ثم ابنه "ناتان روتشيلد".
ومما يدل على أن الثورة الفرنسية هي من صنع اليهود وتدبيرهم ماتتبجح به بروتوكولاتهم فتقول: "تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها "الكبرى"إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا".
وتقول: "كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس "الحرية، والمساواة والإخاء" كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر.(6/120)
وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الخطورة، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية، لادينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب - وليس باسم الله - وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة،وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة...
وقد سرت الثورة إلى كل الغرب؛ لأنه لا يدين بالإسلام دين العلم والحق والعدل.
رابعاً: نظرية التطور:
في سنة 1859م نشرالباحث الإنجليزي "تشارلزداروين"كتابه "أصل الأنواع"(1) الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون
___________________________
1- ترجمه للعربية إسماعيل مظهر
الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها فاحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية مالم يكن في الحسبان.
وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد استغلها اليهود استغلالاً بشعاً.
وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية: بـ "بإنَّها أبوها الكفر وأمها القذارة".(1)
والنظرية الداروينية باطلة بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وباطلة بجميع الكتب السماوية، وباطلة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان،
وباطلة بالعقل الصحيح، وبالفطرة السليمة من الشذوذ والانحراف.
فبنو آدم وجميع الحيوانات والطيور، وجميع مافي البراري والبحار، من آلاف السنين وهي على ما هي عليه لم تتغير أشكالها ولا أسماؤها.
ومذهب داروين باطل؛ لعدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع من مخلوقات الله، فمن الذي عاش آلاف السنين حتى شاهد تغير الإنسان من خلية إلى حشرة إلى حيوان إلى قرد كما يزعم داروين، وهو الذي لم يعش سوى أقل من 75 سنة.
قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.
والنظرية باطلة بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فالله تعالى إنما أهبط من الجنة أدمياً يعقل ولم يهبط حشرة ثم صارت حيواناً لا يعقل ثم صار قرداً (2).
____________________________
1- مذهب النشوء والارتقاء ص 23 وما بعدها
2- أنظر نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي . د/ محمد العرمابي , ص48 وما بعدها .
خامساً: دور اليهود :
وليس غريباً بعد الذي تقدم - كما جاء في الثورة الفرنسية - أن يكون اليهود وراء الدعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وذلك من أجل السيطرة، ومن أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.
هذه أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور هذا الفكر الجاهلي، والذي هيمن على أوروبا كلها، وأصبح يحمل شعارات الإلحاد والفوضى الأخلاقية عناداً للكنيسة ورجالها.
والحق أَنَّ هذه الأسباب وتلك الظروف ليست مبررة لابتعاد النصارى وغيرهم عن الدين.
وفكرة أن العلم لا صلة له بالدين وأن الدين يحارب العلم، هي الفكرة السائدة في الغرب طيلة القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر الميلاديين، ومع إطلالة القرن
العشرين بدأت بوادر التفاهم والمصالحة بين رجال الكنيسة والاتجاه الجاهلي، وانتهت بتنازلات كبيرة من الطرفين إلى أن دخلت الأحزاب الدينية النصرانية مجالات السياسة في بعض الدول الغربية.
المبحث الثالث :
آثار العلمانية في الغرب
على الرغم من أن الحضارة العلمانية الغربية قد قدمت للإنسان كل وسائل الراحة وكل أسباب التقدم المادي، إلا أنها فشلت في أن تقدم له شيئاً واحداً وهو السعادة والطمأنينة والسكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيداً من التعاسة والقلق والبؤس والتمزق والاكتئاب، وذلك لأن السعادة والسكينة أمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي جعل الطمأنينة والوقار في قلوب المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما أطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم.
وكيف تنزل السكينة في قلوب أناس أقاموا حضارتهم على غير أساس من الإيمان بالله تعالى وشرعه ؟
بل الذي يحصل لهم هو مزيد من القلق والتعاسة والضيق والخوف يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": يقول : "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به".
وبهذا يتبين لنا حالة القلق الرهيب التي تعيشها المجتمعات التي تسير على غير هدى الله وشرعه، على الرغم من تقدمها المادي، ووصولها إلى أرقى أساليب التقنية الحديثة.
وهذا ما أيده الواقع الملموس في البلاد التي ابتعدت عن شرع الله، فالإنسان إنما يكون في حالة طيبة نفسياً وبدنياً عندما تقوى صلته بالله تعالى، ويلتزم بأوامره ويجتنب نواهيه.
ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "في القلب شعث - أي تمزق وتفرق - لا يلمهُ إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً" (1).
إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - ولا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الإفلاس والحيرة والضياع.
وإن مما نتج عن ذلك مما هو مشاهد وملموس ما يلي:
1- الولوغ والانغماس في المشروبات الروحية والإدمان على المخدرات.
2- الأمراض العصبية والنفسية.
3- الجرائم البشعة بمختلف أنواعها كالسرقات، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والقتل وغيرها.
4- تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين.
5- انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، والسيلان، وأخيراً يبتلي الله تلك المجتمعات بالطاعون الجديد وهو مرض "الإيدز".
6- الانتحار.
إن الغرب يعيش حياة الضنك والقلق، فلا طمأنينة له ولا راحة، ولا انشراح لصدور أهله، بل صدورهم في ضيق وقلق وحيرة، وما ذلك إلا لضلالهم وبعدهم عن الله، وإن تنعموا ظاهراً في الحياة الدنيا.
قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
________________________
1- مدارج السالكين ج3/ص164
الفصل الثاني:
في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي(6/121)
وأبرز دعاتها وآثارها السيئة على العالم الإسلامي
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي
المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
المبحث الأول
عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي
بدأت فكرة العلمانية تغزو العالم الإسلامي منذ زمن طويل لكنها لم تتمكن إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، حين طبقت - على مستوى الدولة - على أنقاض الخلافة العثمانية ثم سرت إلى أكثر بلدان العالم الإسلامي وكانت هناك عدة عوامل رئيسية ساعدت على ظهور انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي أهمها:
أولاً: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة:
بسب انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة، كثرت البدع والخرافات والشعوذة والأهواء وقلَّ الفقه في الدين
بينهم ومن انحراف بعض المسلمين عن عقيدتهم ظهور الفرق الصوفية
بينهم، وكان من الأخطاء الأساسية في الفكر الصوفي النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا تلك التي يبدو أنها متأثرة بالفكر البوذي والفلسفات المنحرفة.
وحدث أن أقبل العامة بقيادة المتصوفين على الطقوس والأوراد. وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية، وهذا الانحراف العقدي وقع قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية، وفي آخر عهد العثمانيين ازداد الأمر سوءاً وتطورت الانحرافات حتى توهم الناس أن العبادة هي ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي، وذلك بما يمارسه الناس من بدع الأضرحة والمشاهد والمزارات، وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً حين كانت جيوش المستعمرين تقتحم المدن الإسلامية، والمسلمون يستصرخون بالأسياد أو الأولياء الذين قد مضى على وفاتهم مئات السنين.
ومن ذلك قول بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر
وقال:
عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضّرر (1)
_________________________
1- تغريب العالم الإسلامي سعيد القحطاني ص 122
ولذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عنهم:
"وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم، حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله، والغضب والغيرة لمحارم الله، مالا يوجد فيهم، حتى إِنَّ كثيراً منهم يعدون ذلك - أي الجهاد - نقصاً في طريق الله وعيباً" (1).
بل ربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم".
ثانياً: الاستعمار للعالم الإسلامي :
لقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات قوية من قبل أعدائه عبر عصور التاريخ، ولكن لما كان المسلمون متمسكين بدينهم وأكثر استعداداً للجهاد في سبيل الله، استطاعوا أن يردوا حملات أعدائهم، ولكن لما ضعف المسلمون وكثرت فيهم البدع والخرافات واجتالتهم الطرق الصوفية، ولجأ بعضهم إلى التعلق بالقبور والتمسح بها والذبح لها ودعاء الموتى، واستسلم بعضهم إلى ملذات الدنيا، والبعض الآخر بدأ يتشبث بالأفكار الوافدة، وقعدوا عن الجهاد، بعد ذلك انقض عليهم الأعداء من كل جانب ولم تنته الحربان العالميتان
إلا وكثير من البلدان الإسلامية تحت سيطرت الاستعمار ولم يكن مخطط الاستعمار أن يستغل خيرات تلك البلاد ويستعبد سكانها فحسب - كما يظن البعض - بل كان أهم مخطّطاته محاربة الإسلام، وتجهيل المسلمين بحقيقة دينهم بجميع الوسائل الممكنة له الظاهرة والخفية.
وسوف أذكر أهم الوسائل التي استعملها الاستعمار في محاربة المسلمين:
أ- نشر الثقافة الغربية على نطاق واسع، مع السعي في التخفيف من الثقافة العربية الإسلامية أو القضاء عليها إن أمكن ذلك ولو مع طول الزمن.
ب- تشجيع مدارس التبشير المسيحي، وتدوين مناهجها لكي ينصرف أبناء المسلمين إليها تاركين مدارسهم الإسلامية، وقد نجح في ذلك كله.
ج- تشجيع الطوائف المنحرفة التي تعمل باسم الإسلام في ميدان الدعوة كالقاديانية، وبعض الطوائف الصوفية؛ ليتمكن من ضرب الإسلام ودعوته من الداخل بأيد تنتمي إليه، تلهج بذكره، وهذا أخطر سلاح استعمله الاستعمار ضد الإسلام ودعوته.
_________________________
1- الاستقامة ج1/ص268
هـ- اعتبار اللغة الإنجليزية لغة رسمية في كثير من البلدان العربية والإسلامية، مما جعل شباب المسلمين يقبلون على هذه اللغة في الوقت الذي يجهلون فيه لغتهم الأصلية، بل استطاع الاستعمار أن يحمل الشباب السذج على كراهية الإسلام وأهله بدعوة أنه دين تعصب، ودين تأخر، وانطلى هذا الكلام على شباب المسلمين؛ لجهلهم حقيقته فضلوا.
وبسبب الاستعمار والتبشير انتشرت المعتقدات العلمانية في العالم الإسلامي.
وقد حرص الغرب منذ وطئت أقدامه أراضي المسلمين على نشر العلمانية بأكثر من سبيل. وكان أهم مجالات نشرها ووسائلها فيما يلي:
1- في التعليم وله في ذلك أكثر من سبيل أهمها:
(أ) حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً.
(ب) الابتعاث إلى الدول غير الإسلامية وحقق ذلك الابتعاث نتائجه المقصودة.
(ج) نشر المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.
(د) تمييع المناهج الإسلامية باسم التطور.
(هـ) نشر الاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم وقد بدأوا بها في الجامعات.
2- في الإعلام والإعلام يخاطب الملايين من الناس ببرامجه، وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة مقروءة أو مسموعة أو منظورة.
3- إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق.
ومما يدل على دور الاستعمار في نقل العلمانية إلى البلدان الإسلامية أن أول عمل قام به الإنجليز في الهند هو إلغاء الشريعة الإسلامية، وأول عمل قام به نابليون في مصر هو تعطيل الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الفرنسي محلها، وأول عمل قام به المخطط اليهودي الصليبي في تركيا هو إلغاء الشريعة الإسلامية ثم إعلان تركيا دولة لا دينية (1).
"وأخيراً غادر المستعمرون ديار المسلمين بعد أن خلفوا على تركتهم ورثة مخلصين؛ ليحافظوا عليها، ولأنهم يتمكنون من العمل في صالحهم أكثر مما يتمكنون هم بأنفسهم".
_____________________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 41-43
ثالثاً: الغزو الفكري:
وذلك بمحاولة إبعاد المسلمين عن دينهم بوسائل مختلفة، وتحت أسماء خادعة رقيقة مثل: "التغريب، التحديث أو الحداثة، التحضر، التغيير الاجتماعي، وعملت العلمانية في مجالاتها، وشقت طريقها في مجاريها".
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة.
وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحبُّ ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.." (1).
رابعاً: المستشرقون:
لقد سلك المستشرقون طرقاً عديدة في الوصول إلى أغراضهم ومنها:
1- التدريس الجامعي.(6/122)
2- جمع المخطوطات العربية وفهرستها.
3- التحقيق والنشر والترجمة .
4- التأليف في شتى مجالات الدراسات العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الاشتراك في بعض المجامع اللغوية، والمجامع العلمية في العالم الإسلامي.
والتأليف من أخطر وسائلهم حيث ألفوا كثيراً من الكتب التي تطعن في الإسلام
______________________________
1- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز
وتتلخص جهود المستشرقين في هذا المجال فيما يلي:
1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.
2- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
3- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني.
4- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
5- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
6- تشويه الحضارة الإسلامية وتاريخها.
7- تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي، والزعم بأنها حركات إصلاح.
8- إحياء الحضارات القديمة.
9- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
10- تربية الأجيال تربية لا دينية.
وقد انتشرت هذه المعتقدات مع الأسف في بعض دول العالم الإسلامي (1).
خامساً: المنصّرون:
كما أن للمستشرقين والمنصرين أهدافاً مشتركة لهم وسائل متداخلة، ويمكن القول بأن ميدان المستشرقين الأساسي هو الثقافة والفكر، بينما يركز المنصرون جهودهم في النواحي الاجتماعية والتربوية.
وقد نقل المنصّرون العلمانية من خلال نشراتهم وكتبهم ومن خلال التمثيليات
والأفلام، ومن خلال المدارس المختلفة التي بدأت بالأجنبية، ثم كان تأثيرهم على مناهج التعليم الوطنية.
ووسائل المنصرين في هذا المجال كثيرة جداً نذكر منها:
1- استخدام الطب كوسيلة للتنصير.
2- استخدام أعمال الخير والخدمات الاجتماعية: كإنشاء ملاجئ للأيتام، ومراكز رعاية اجتماعية للفقراء والمحتاجين.
3- استخدام الطلبة وعامة الناس في التنصير.
_______________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 545-549
4- استخدام الرشوة.
5- استخدام المكتبات والصحافة.
6- استخدام النوادي والجمعيات.
7- الاهتمام بالمرأة المسلمة وذلك بمحاولة إبعادها عن عقيدتها وإغرائها بتقليد المرأة الغربية.
8- المؤتمرات المشتركة.
9- البعثات الخارجية.
10-إنشاء المحاضن والمدارس والجامعات الأجنبية.
11-استخدام القوة أحياناً (1).
إلى غير ذلك من الأساليب التي استخدمها المنصرون في الوصول إلى غاياتهم المكشوفة؛ كبناء الكنائس، وتوزيع الأناجيل، وإقامة الندوات، والاهتمام بإفساد الريف الإسلامي - الذي يتميز عادةً بالمحافظة على القيم الإسلامية - والسيطرة على وسائل التربية والإعلام واستخدامها في سمومهم، وتوهين العقيدة الإسلامية في النفوس، مع صرف العناية إلى الأطفال، والنفاذ إلى عقولهم من خلال تلك الوسائل.
سادساً: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية:
وذلك كالنصارى، واليهود، والشيوعيين، وأصحاب الاتجاهات المنحرفة من جمعيات وأحزاب ونحوهم، وكل هؤلاء لاينعمون بضلالتهم وانحرافهم وفسادهم إلا تحت شعار كشعار ما يسمى بالعلمانية، لذلك تضافرت جهودهم على نشرها وبثها، والدعاية لها، حتى انخدع بذلك كثيرون من السذج، وأنصاف المتعلمين من أبناء المسلمين.
سابعاً: تقدم الغرب في العلم المادي
إن تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي والقوة جعل كثيرين
من المسلمين ينبهرون بذلك التقدم، ويعزونه إلى الاتجاه الجاهلي الحديث
_______________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 42
(العلماني)، وصدقوا دون تفكير مزاعم الكفار بأن الدين معوق للعلم، وظنوا أن بلادهم لا تتقدم حتى تفصل الدين -الإسلام- عن الدولة والحياة، وهذا بلا شك جهل بالإسلام جنى ثماره النكدة أكثر المسلمين (1).
ثامناً: البعثات إلى الخارج:
إن الطلاب الذين يذهبون من أبناء المسلمين إلى الدول غير الإسلامية، ولم تكن لديهم الحصانة الكافية من عقيدتهم، إن هؤلاء من أخطر الوسائل؛ لأن كثيراً منهم تعلقوا بقيم الغرب أو الشرق ومثله وعاداته، وقد عاد هؤلاء إلى بلدانهم وهم يحملون ألقاباً علمية وضعتهم في مناصب التوجيه، ونظر الناس إليهم على أنهم قدوة؛ لأنهم وطنيون (2).
_______________________
1-مجلة البيان عدد 159ص39
2- العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549
المبحث الثاني :
ابرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
سوف أذكر إن شاء الله في هذا المبحث بشكل مختصر تاريخ دخول العلمانية إلى عدد من الدول الإسلامية ثم أختمه بذكر بعض دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
أولاً : تاريخ دخول العلمانية إلى بعض الدول الإسلامية
1- في مصر : دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون . وقد اشار اليها الجبرتي الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر واحداثها بعبارات تدور حول معنى العلمانية وان لم تذكر الفظة صراحة .أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يدعى اليأس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه قال فيه وادخل الخديوي اسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م،وكان هذا الخديوي مفتونا بالغرب ،وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا .
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة الإسلامية بتدبير الإنجليز وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر .
3- الجزائر : إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830 م
4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906 م.
5– المغرب : ادخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا : لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك ، وان كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة .
7- العراق والشام : الغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيها .
ثانياً : من اشهر دعاة العلمانية في العالم العربي الإسلامي
كثر دعاة العلمانية في العالم الإسلامي لكن من أشهرهم
أحمد لطفي السيد ، إسماعيل مظهر ، قاسم امين ، طه حسين ، عبد العزيز فهمي ، ميشيل عفلق ، سوهارتو ، مصطفى كمال اتاتورك ،جمال عبد الناصر ، أنور السادات ( صاحب شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) ، د. فؤاد زكريا ، د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة ، وغيرهم (1) .
______________________________________________
1- أنظر عدد من المقالات في موقع صيد الفوائد على شبكة الانترنت
المبحث الثالث:
آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم.
وسوف أشير إلى بعض الآثار السيئة التي جنتها المجتمعات الإسلامية من تطبيق العلمانية:
1- رفض التحاكم إلى كتاب الله تعالى، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن ذلك بالقوانين الوضعية المقتبسة عن أنظمة الكفار، واعتبار الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تخلفاً ورجعية.
2- جعل التعليم خادماً لنشر الفكر العلماني
وذلك من خلا ل الطرق التالية:
أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية.
ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن، وتكون في آخر اليوم الدراسي وقد لا تؤثر في تقديرات الطلاب.
ج- منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم وتزييف ضلالاتهم.(6/123)
د- تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل لا تعارضه.
3-إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد. فالمسلم والنصراني، واليهودي، والشيوعي، والمجوسي، وغيرهم يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني.
4- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية وذلك عن طريق:
أ- القوانين الوضعية التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها.
ب- وسائل الإعلام المختلفة التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة.
ج- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والمؤسسات.
5- الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهى دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو التاريخ، أو المكان، أو المصالح، أو المعيشة المشتركة، أو وحدة الحياة الاقتصادية، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل الاجتماع ولمّ الصف، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعدُّ عاملاً من عوامل التفرق والشقاق (1).
ولا شك أَنَّ الفكرة القومية أو الوطنية وفدت إلى ديار المسلمين من الغرب، ولقد كان ظهور هذه الفكرة مصدر شر على جميع المسلمين.
6-الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي
ولا تمييز فقد قام بهذه الفكرة كثير من دعاة التضليل للأمة الإسلامية عند ضعف المسلمين وتفرقهم، حيث زعموا أن سبيل التقدم والنهضة، هو السير خلف ركاب الغربيين، والأخذ بمنهجهم وطريقتهم في كل شيء، حتى نكون مثلهم في الحضارة الحديثة، بخيرها وشرها، وما يحمد منها وما يُعاب.
ونتيجة لتلك الدعوات المغرضة من أدعياء الفكر، ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى الدول الأوروبية، لإكمال تعليمهم، وغالباً ما يتأثر هؤلاء الطلاب بعادات الغرب وأفكاره (2).
___________________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 42
2- -مجلة البيان عدد 195ص42
7- الزعم بأن الشريعة الإسلامية لا تتوافق مع الحضارة الحديثة:
وهذا الزعم جاء نتيجة لاحتكاك أبناء الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة، فظنوا - جهلاً - أن الإسلام لا يتوافق مع الحياة العصرية، ولا ينسجم مع متطلبات الإنسان في هذا العصر بل قالوا إن الشريعة الإسلامية
هي السبب في التخلف والرجعية، وأن السبيل إلى التخلص من هذا الداء، والنهوض بالأمة إلى التقدم والحضارة هو نبذ الإسلام وتعاليمه (1).
فهذه بعض الآثار والثمار السيئة والخبيثة التي انتجتها العلمانية في البلاد الإسلامية التي تبنت العلمانية.
"والعلمانيون في العالم الإسلامي يعرفون بالاستهانة بالدين، والتهكم والاستهزاء بالمتمسكين به، كما يعرفون بإثارة الشبهات، وإشاعة الفواحش (كالسكر، والتبرج، والاختلاط المحرم) ونشر الرذائل، ومحاربة الحشمة والفضيلة، والحدود الشرعية، والاستهانة بالسنن، كما يعرفون أيضاً بحب الفساق والكفار والإعجاب بمظاهر الحياة الغربية وتقليدها.
__________________________
1 - العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549
الخاتمة
وبعد حمد الله - تعالى - وتوفيقه لي على إتمام هذا البحث المتواضع أود أن ألخص أهم ما اشتمل عليه فيما يلي:
1- إن العلمانية اصطلاح جاهلي، لا صلة له بالعلم، وإنما سماها أعداء الإسلام بذلك إمعانا منهم في التضليل والخداع، وإلا فإن عزل الدين عن العقيدة والشريعة وجميع نواحي الحياة يعني في الإسلام الكفر، والمروق من الدين، وحكم الجاهلية وتعطيل حدود الله وشرعه.
2- إن أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في أوروبا هو التحريف في أصول الدين، وتسلط رجال الكنيسة دينياً، واقتصادياً، وسياسياً، ولا يخفى ما لليهود من دور بارز في ذلك.
3- إن ظروف نشأة العلمانية في أوروبا لا تنطبق على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وذلك لأنه - بحمد الله - ليس في الإسلام تحريف في مصدر عقيدته، وليس فيه كهنوت، ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وأنه لا عصمة لأحد إلا للرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغونه عن الله - تبارك وتعالى -
4- أَنَه ليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، بل إن الإسلام يدعو إلى العلم النافع المثمر، ويحث عليه، كما أن الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومجتمع ومكان.
5- إن من أسباب انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وسيطرة الاستعمار الغربي والشرقي على كثير من أقطاره عسكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، بالإضافة إلى إعجاب كثير من المسلمين بتقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.
6- إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الأوروبية قد حولها إلى الإفلاس والحيرة والضياع، وحياة الضنك وعدم الطمأنينة، وذلك بسبب ابتعادها عن الإيمان بالله - تعالى - وشرعه، كما أنه كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وذلك لابتعادهم عن نور الكتاب والسنة.
7- إن العلمانية تتعارض مع الإسلام تعارضاً تاماً في شتى المجالات، ولا وجه للمقارنة بينهما على الإطلاق، وذلك لأن الإسلام نظام إلهي شرعه رب الخلق الذي يعلم أحوال عباده، وما يصلح معاشهم، وما يحقق لهم الخير في دنياهم وأخراهم.
والعلمانية هى من وضع البشر وهم يخضعون للأهواء والشهوات، وتتغلب عليهم العواطف البشرية التي تحيد بهم عن الحق والصواب.
هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يعزّ دينه ويعلي كلمته، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، ويعافينا من أسباب غضبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
===============
الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا
المحاور
مقدمة
عناصر الشخصية الإسلامية
مزايا الشخصية الإسلامية
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
الخلاصة
الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا
* تنطلق من العقيدة وتستهدف خيرَي الدنيا والآخرة.
* الطابع الإيماني يصبغ كل نشاطاتها، وهو العلامة المميزة لها.
الشخصية) في جميع عناصرها وتنوع مقوماتها: (
o هي اليد التي تَرسم على لوحة الواقع صيغةَ السلوك.
o وهي الشخص الذي تظهر صورتُه سلوكًا على مرآة الحياة.
الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا
* وتتميز الشخصية الإسلامية في هذا الصدد بسمات إنسانية معينة، تختلف كل الاختلاف عن سمات الشخصية غير الإسلامية؛
* لأنها تختلف عنها في الدوافع والمحفزات والتكوين الذاتي ونوعية السلوك ومقياس العمل والاختيار...
* فضلاً عن تقرير المواقف والغايات والأهداف؛ وهو ما ينتج عنه اختلاف في طبيعة السلوك، ونوعية المواقف والممارسات الحياتية.
لماذا ؟!!!
* تنطلق الشخصية الإدارية الإسلامية الناجحة من العقيدة .
* وتتقوم بمقومات:
+ الفكر الإيماني
+ والعاطفة الإنسانية
+ والإرادة الملتزمة
+ والمقياس الإيماني للسلوك.
* كما تفرز- دومًا- وحدة سلوكية وفكرية وعاطفية متماسكة متكاملة، ضمن إطار التنظيم الاجتماعي العام، الذي يستهدف تشييد الهيكل الحضاري وصوغ التاريخ وصنع الحياة.
الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا
الشخصية الإسلامية... الناجحة إداريًّا(6/124)
إذاً ، فما سمات الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا؟ وكيف يمكن للمرء أن يبني شخصيته الإدارية طبقًا للرؤية الإسلامية؟
عناصر الشخصية الإسلامية
للشخصية عناصر أساسية، ومقومات رئيسة تتقوم بها، بحيث تقرر هذه العناصر والمقومات طبيعة الشخصية، وتحدد هويتها وآثارها السلوكية والتعاملية في خارج الذات الإنسانية.
* والذي يهمنا هنا دراسة الشخصية، وتحديد معالمها الرئيسة، وتبيان مقوماتها وعناصرها الأساسية التي تصنعها، وتحدد ماهيتها وكيانها وتصبغ كل نشاطاتها ومواقفها، وللشخصية الإسلامية أساس وقواعد يُشاد عليها وجودها، وتُبتنى عليها كل مظاهر تَحقُّقِها وتَجسُّدِها، بحيث تتميز عن غيرها من الشخصيات بما يلي:
+ التكوين الذاتي.
+ بالدوافع والمحفزات.
+ بالاختيار وتقرير المواقف.
+ بنوعية السلوك ومقياس العمل، وصدق الله القائل: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}
فالشخصية الإسلامية هي الشخصية المصبوغة بصبغة خاصة، والموسومة بميسم معين؛ هو ميسم الإيمان، وصبغة الإسلام، والالتزام بحدوده.
عناصر الشخصية الإسلامية الملتزمة
* الفكر الإيماني.
* العاطفة الإنسانية.
* الإرادة الملتزمة.
* المقياس الإيماني للسلوك .
* فتلك الركائز الأساسية الأربعة القائمة على أساس الإيمان بالله والارتباط به، هي العناصر التي تتكون بها الشخصية الإسلامية، وتتميز بواسطتها عن الشخصيات الأخرى.
* وهي بدورتها تتفاعل بعضها مع بعض لتكون المخطط الهادف، والحارس اليقظ لتحديد الموقف السلوكي، حينما تتفاعل الدوافع والمحفزات والغرائز الواقفة خلف الشخصية...
* وعندها تحتك بمثيراتها ومواضع تؤججها في المحيط والبيئة الإنسانية التي تواجهها الشخصية في الخارج...
* فيكون موقع الشخصية على هذا الاعتبار موقع القائد، والمسيطر الذي يوجه حركة الذات- بكل ما فيها من نوازع واتجاهات وغرائز- الوجهة التي تختارها الشخصية، وترغب في الظهور بها في العالم الخارجي حسب طبيعتها وماهيتها.
وتتخذ الأفكار مركز التوجيه وتحديد الهوية لبقية العناصر: العاطفة، والإرادة، والمقياس السلوكي، فإن كانت طبيعة الأفكار إيمانية، تقوم على أساس الإيمان بالله، فإنها ستنسحب بصبغتها الإيمانية على عناصر الشخصية، وتحدد كل مساراتها واتجاهاتها لتنطبع هذه الصبغة الشخصية على السلوك والمواقف.
أما إن كانت عناصر الشخصية غير إسلامية تقوم على مفهوم الشرك والإلحاد، أو العلمانية والانفصالية التي تباعد بين الإيمان والحياة، فإن هذه الشخصية ستكون شخصية جاهلية تصطبغ كل عناصرها - من عاطفة، وإرادة، ومقياس سلوكي- بهذه الصبغة الجاهلية التي تميزها عن الشخصية الإسلامية بدرجة تظهر فيها آثار الشخصية واضحة، متجسدة في السلوك والتعامل.
بحيث نشاهد الفرق واضحًا متميزًا بين الشخصية الإسلامية وتلك الشخصية الجاهلية؛ سواءً في العناصر الأساسية (الفكر والعاطفة والإرادة والمقياس العملي للسلوك)، أو في المظهر الخارجي للشخصية، الذي يرسمه ويعبر عنه السلوك والتعامل الإنساني.
عناصر الشخصية الإسلامية
* الفكر: طريقة التفكير (منهج التفكير) ، العقيدة ، الثقافة.
* العاطفة.
* الإرادة الملتزمة.
* المقياس الإيماني للسلوك
1. الفكر
* يحتل الفكر موقع القاعدة والمصدر الذي تتفرع عنه وتنمو عليه كل عناصر الشخصية الأخرى؛ لذلك فإن الأفكار تشكل الهيكل الرئيس في بناء الشخصية، والمحور الأساس الذي تدور عليه وتتجه معه كل المقومات الأخرى.
* ويتميز الفكر الذي تتكون به الشخصية الإسلامية عن غيره من الأفكار المقومة للشخصيات المتعددة الأخرى بعناصره الأساسية الثلاثة:
o طريقة التفكير (منهج التفكير).
o العقيدة.
o الثقافة.
أ. طريقة التفكير
* إن طريقة التفكير هي:
المنهج والأسلوب الذي يمارس الفكر نشاطاته وجهوده وفق خطته، فإن كان المنهج أو طريقة التفكير مادية- تقوم على أساس الحس والتجربة فقط- كان التفكير ماديًّا تجريبيًّا، لا يستطيع أن يوصِّل إلى اكتشاف الإيمان، واستنتاج فلسفة للقيم الخلقية والروحية في الحياة؛ لأن تلك الحقائق ليست من الأمور التي تستطيع التجارب والمختبرات أن تكشفها أو تتوصل إليها.
أ. طريقة التفكير
* لذلك فإن المنهج الذي يحصُر نفسه بحدود التجارب المادية- في الفهم وتحصيل المعارف واعتناق العقائد - يتناقض بصورة أساسية مع المنهج الإسلامي الذي يقوم على أساس الإيمان بالتفكير العقلي المجرد، كأسلوب علمي للبحث عن الإيمان، وكمنهج رائد في طريقة المعرفة الإلهية.
* إلا أن التفكير الإسلامي- مع إيمانه بهذا المنهج واعتماده عليه- لا يغفل أهمية استخدام التجربة، ويهمل الطريقة التجريبية في تحصيل المعارف وانتزاع المفاهيم التي تُغني الفكر بالمعلومات والمقدمات الموصلة إلى الإيمان والتصديق برسالة الأنبياء.
أ. طريقة التفكير
* فالطريقة العقلية في التفكير- وحدها- تستطيع أن تدرك وجود القيم الروحية والأخلاقية؛ وهي وحدها تستطيع أن توصل الفكر إلى الإيمان بالله، وتعمل على تحرير الإنسان من سيطرة الحياة المادية، بحيث تصبح المكاسب المادية- من مال وثروة وجاه ومُتَع ولذَّات- أشياء ثانوية في الحياة، لا ترتبط بها الشخصية الإسلامية إلا بقدر ما تحتاج إليه في تدبير شئون الحياة، وِفق طريقة شريفة نظيفة موصلة إلى الغايات الروحية السامية.
أ. طريقة التفكير
ويسهم منهج التفكير في بناء الشخصية وإقامة أهم دعائمها، وبدون هذا المنهج يُصاب الفكر الإيماني ومكتسباته الفكرية بفوضى وضياع يؤديان إلى ذوبان الشخصية وازدواجها .
أ. طريقة التفكير
ب. العقيدة
* تسهم إسهامًا فاعلاً في بناء الشخصية؛ لأنها تشكل النظرة التفسيرية للحياة والوجود وللعالم الخارجي، فتُسلَك كأساس لتصور الإنسان للمواقف والسلوك والعلاقات، وكمنطق للتقويم وإصدار الأحكام على الأشياء وفهمها.
ب. العقيدة
* وليس في عالم المعتقدات عقيدة كعقيدة التوحيد- الإيمان بالله وإفراده بالعبادة وحده - من حيث سعتها وشمولها، وانطباقها على كل موقف وسلوك إنساني؛ حتى لتُسلَك هذه العقيدة (الإيمان بالله وما يتفرع عنه) كرائد يخطط للإنسان طريق السَّير، وقائد يتقدم المسيرة، ومحورٍ تدور عليه كل نشاطات الإنسان..
ب. العقيدة
* فالإنسان المسلم يُقوِّم كل أعماله وتصرفاته ومواقفه وعلاقاته على أساس:
+ الإيمان بالله، والاستجابة لأمره، وحب التقرب منه والتعبد له..
+ وعلى أساس أن عالم الدنيا هو عالم التراب الفاني، وأن الخُلد والنَّعيم والسعادة الأبدية متحقِّقة في عالم الآخرة..
+ وبهذا الطابع الإيماني تنطبع كل نشاطات الإنسان المسلم، فيكون هذا الطابع هو المميز لشخصيته، والعلامة البارزة لمجتمعه وحياته.
ب. العقيدة
* وتمثل العقيدة أساس تصور الفرد للموقف والعلاقة والسلوك والتقويم للآخرين في كل مناحي الحياة، وخاصةً الفرد الإداري في المؤسسة.
جـ. الثقافة
* تشكل الركن الثالث في بناء الجانب الفكري في الشخصية، والثقافة ليست مجموعة المعارف التي يكتسبها الإنسان ويحتفظ بها بطريقة معزولة عن الحياة، بعيدةً عن الممارسة؛ وإنما الثقافة هي المعرفة التي تؤثر في اتجاه السلوك وتوجُّه حياة الإنسان.
* والإنسان المثقَّف هو الإنسان المهذب؛ أي الإنسان الذي شذَّبت وهذَّبت المعارف -التي اكتسبها- كل سلوكه، وخلصته من الشوائب والانحرافات.
جـ. الثقافة(6/125)
* لذلك يُسمَّى الإنسان الذي يحمل الأفكار والمعلومات- وهو شاذ منحرف في أفكاره وسلوكه- "إنسانًا متعلمًا"، وليس مثقفًا...
فالمثقف هو:
الإنسان الذي يحمل الفكر السليم، ويسلك على أساسه السلوك السويّ.
* وعلى هذا الاعتبار يكون الإنسان المثقف هو..
o الإنسان السوي السلوك..
o والمستقيم الاتجاه..
o وليس هو الإنسان الذي يكتنز مجموعةً من المعارف دون أن تغير سلوكه أو تؤثر في حياته؛
وبذا يكون للثقافة أثرٌ بالغ الأهمية على الشخصية، وعلى اتجاهها في الحياة.
جـ. الثقافة
* وترتبط الثقافة الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة ومنهج التفكير، فالثقافة وليدة العقيدة والمنهج، ونتاج التحصيل العلمي الملتزم بهذين المحوَرَين؛ لذلك نقول هذه ثقافة إسلامية، وتلك ثقافة مادية غربية، أو مادية شيوعية، أو ثقافة يونانية... إلخ، ويأتي هذا الاختلاف في نوع الثقافة من اختلاف العقيدة والمنهج اللذَيْن يحددان طبيعة الثقافة وقيمتها العلمية في الحياة.
* والثقافة- من وجهة النظر الإسلامية- هي المعرفة التي تساعد الإنسان على فهم الحياة وكيفية العيش فيها، وبذا تكون الثقافة جوهر الشخصية الإدارية ومادة بنائها.
جـ. الثقافة
2. العاطفة
* العاطفة: هي الرابطة، أو العلاقة النفسية بين الإنسان من جهة، وبين الله ثم الناس والأشياء التي تحيط بالإنسان من جهة أخرى، فهذا الاتجاه النفسي- اتجاه الحب والكراهية- هو الذي يحدد الموقف النفسي للإنسان نحو نفسه وغيره، وهو الذي يكوِّن نوع الرابطة أو (العاطفة).
* وتتميز: العواطف الإسلامية بأنها عواطف إنسانية نبيلة، تتَّسم بالنَّقاء والسلامة من الانحراف والمَيْل العدواني، وتنبثق عن فكرة الإيمان بالله وتوحيده، فالمسلم يرتبط بعاطفة الحب مع الله والناس والعالَم من حوله، على أساس واضح، وحسب مقياس ثابت.
2. العاطفة
* فهو يحب الله، ويبني على أساس هذا الحب كل عواطفه وميوله النفسية من الحب والكراهية؛ فيحب الخير والجمال، ويحب الناس والأشياء التي يرتبط بها وتتفاعل أحاسيسه ومشاعره معها؛ ويكره الظلم، ويعطف على المظلوم، ويشارك بإحساسه الوجداني الإنسانَ المتعرض للألم؛ ويشاطر الآخرين الفرحَ والسرور..
فيتألَّم إذا رأى فقيرًا جائعًا، أو مريضًا يتضوَّر ألمًا، أو إنسانًا ألحَّت عليه المحنة، أو متسافلاً يمارس رذيلة؛ ويُسَرُّ إذا السرور يملأ قلوب الآخرين، ويفرح إذا رأى غيره يعمل الخير، ويتمتع بالنِّعم، ويمتلئ قلبه سرورًا إذا شاهد شيئًا جميلاً، ويعطف على الحيوان، ويشمله برعايته إذا تعامل معه؛ لأن في كل هذه المواقف ما يحبه الله، أوما يكرهه.
2. العاطفة
* فالمسلم الملتزم يتعامل مع كل شيء يشاهده أو يحسه بعاطفة إسلامية تقوم على أساس العلاقة بالله؛ فهو يحب ويكره لله، ويقترب من الآخرين أو يبتعد عنهم على أساس علاقتهم بالله.
* وتتميز العاطفة الإسلامية أيضًا بأنها عاطفة إنسانية نبيلة، تقوم على أساس من رشد العقل واتجاه المعتقد واستقامة الخط واتزان الانفعال..
* فالمسلم يحب في الله، ويبغض في الله؛ وهو خصب العاطفة، يقِظ الوجدان، سليم الاتجاه، متَّزن الانفعال؛ وهذا هو المطلوب في الشخصية الإدارية.
2. العاطفة
* قد أوضح القرآن الكريم طريقَ العاطفة، ورسم لها مسار التعبير عن شحناتها النفسية، فقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} كما قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}
2. العاطفة
* فهاتان الآيتان الكريمتان رسمتا طريق العاطفة الإسلامية، وأكدتا للمسلم أن حبه حب لله؛ وهو حب صادق شديد الإخلاص، يدله على حب الخير واستحسانه، وكراهية الشر والفساد وأهله، كما أن هذا الحب والكره لا يقوم على أساس ميل انفعالي تافه، ولا يصد عن شطط نفسي عائم، بل يتحدد وفق خط واضح، ويلتزم بمقياس دقيق.
2. العاطفة
* المسلم يحب كل ما أحبه الله، ويبغض كل ما أبغضه الله، من غير أن يخضع هذا الحب والكره لانفعالاته النفسية، أو لاندفاعاته التي لا تستطيع التمييز بين الخير والشر في حالات طغيان الأنانية، أو سيطرة الرضا والغضب، أو رجحان الربح والخسارة الذاتية الضيقة، أو الحسابات الآنية العاجلة.
* لذا فإن القرآن ربط عواطف الإنسان المسلم بمسار عقائدي وبقيادة عقلية واعية؛ ليسيرَ بعواطفه على خطِّ العقيدة الواضح، ويسقيها وينمِّيها بحرارة الإيمان وحبًّا لله، فتغدو حيةً واعيةً متدفقة.
2. العاطفة
3. الإرادة الملتزمة
* ويقصد بها:
+ الإرادة القوية القادرة على الاختيار..
+ والمتمكنة من القبول والرفض..
+ وِفْق مقاييس وأحكام واضحة نيرة.
3. الإرادة الملتزمة
* وبالإرادة:
o يسيطر المسلم الإداري الملتزم على كل أطراف شخصيته.
o ويقودها وفق منهج حياتي ملتزم.
o يستطيع أن يمتنع عن فعل الحرام.
o يستطيع أن يصبر على المحن ويتحمل الشدائد وعظائم الأمور.
o يستطيع أن يتحمَّل مسئوليته في الحياة.
o ويؤدي واجبه مهما يكن شاقًّا وثقيلاً.
3. الإرادة الملتزمة
* أما الشخصية الفاقدة للإرادة...
+ فشخصية هُلامية...
+ مائعة...
+ قلقة...
+ متأرجحة؛
لأنها لا تمتلك قوة الإرادة ، و لا وحدة الهدف.
4. المقياس الإيماني للسلوك
* فالشخصية الإسلامية تمتلك مقياسًا واضحًا للسلوك هو مرضاة الله سبحانه، وفي ذلك رُوي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا هممت بأمر فتدبر عاقبتَه، فإن يَكُ راشدًا فامضه، وإن يَكُ غيًّا فانْتَهِ".
4. المقياس الإيماني للسلوك
* فالمسلم الملتزم لا يسلك سلوكًا عشوائيًّا غير موزون، بل يضع كل فعل وموقف في ميزان الأعمال قبل أن يُقدم عليه، فإن وجد عملاً متطابقًا مع مرضاة الله، متَّسقًا مع منهج الحق والخير... أجاز لنفسه الإقدام عليه، والشروع في تنفيذه..
4. المقياس الإيماني للسلوك
* أمَّا إن وجده شاذًّا متعارضًا مع هذه المقاييس، بعيدًا عن رضا الله، غير متطابق مع مبادئ الخير، فإنه يعمد إلى إلغائه، ويعلن رفضه والانسحاب منه.
وهذا المقياس الإيماني الدقيق هو مقياس يستهدف حب الخير من أجل أنه خير، وصنع المعروف حبًّا في المعروف؛ تقربًا من الله، وبحثًا عن رضاه بعيدًا عن الأنانية والنفعية والمادية.
مزايا الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا
مزايا الشخصية الإسلامية الناجحة إداريًّا
* الاتجاه العقلي.
* الإيجابية.
* الالتزام.
* التوجه المستمر نحو الكمال.
* الاتزان.
* الإحساس الإنساني (يقظة الضمير والحس الوجداني).
* النزعة القيادية.
1. الاتجاه العقلي
* تتميز الشخصية الإسلامية الإدارية بأنها شخصية عقلية؛ أي يسيطر العقل فيها على كل تصرفات الفرد وبواعثه ودوافعه وعواطفه وغرائزه وطريقة تفكيره... فللعقل مقام القيادة والتوجيه في الشخصية الإسلامية؛ إذ يظهر أثره واضحًا في مجال السلوك والعلوم والمعارف... إلخ.
1. الاتجاه العقلي(6/126)
* فسلوك المسلم لا يخضع للاندفاع الغريزي التائه، ولا للميل الأناني والهوى الشخصي الذي تضيع فيه قيم الحق والعدل، وتتلاشى أمامه قواعد الأخلاق... بل يدور السلوك عنده- في امتداد أبعاده، واختلاف مظاهره- حول مركز العقل، ويتحرك على ضوء إشارته وهدي صوته.
* وقد ورد في الحديث:"لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك، ولا أكملته إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب".
* وكما يظهر دور العقل واضحًا: في مجال السلوك والمواقف الإنسانية، يتجلى دوره كذلك واضحًا في مجال العلوم والمعارف، ومناهج البحث والتحصيل العلمي في حياة المسلمين؛ فنظرة المسلم إلى الأشياء، وفهمه وتفسيره لها، ليس فهمًا ماديًّا صرفًا، ولا تفسيرًا حسيًّا متحجرًا، بل يجري هذا الفكر والتفسير بطريقة واعية، تتجاوز حدود الحس والتجربة، وتوسع آفاق المعرفة والثقافة.
1. الاتجاه العقلي
2. الإيجابية
* المسلم الإداري الملتزم إنسان إيجابي يعيش:
+ في حركة فكرية ونفسية وجسدية بنَّاءة
+ بعيدًا عن السلوك التخريبي الهدام
+ رافضًا التحجر والجمود
+ ولا يرضى بالسلوك الانهزامي الذي يتهرب من نشاطات الحياة أو يبتعد عن مواجهة الصعاب.
2. الإيجابية
* لأن الإسلام يبني في المسلم الروح الإيجابية التي تؤهله للعطاء, وتنمي فيه القدرة على الإنتاج والإبداع :
بما يفتح له من آفاق التفكير والممارسة، وبما يزوده به من بناء ذاتي، ودافع حركي، ليعده إعدادًا إنسانيًّا ناضجًا لممارسة الحياة بالطريقة التي يرسمها، ويخطط أبعادها الإسلام؛ لأن الحياة في نظر الإسلام عمل وبناء وعطاء وتنافس في الخيرات.
قال تعالى: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
* فقد دأب الإسلام على جعل الحياة كلها مجالاً مباحًا للإنسان يمارس فيها نشاطه، ويستثمر فيها طاقته وجهوده، عدا ما حرم عليه من أشياء ضارة، أو ممارسات هدامة.
* فالمسلم أينما توجه يجد المجال الرحب، والمتسع الذي يستوعب كل جهوده وطاقاته ونشاطه، دون أن يجد الزواجر السلبية، أو يواجه النواهي التي تقتل قابليته وطاقاته، أو تشل وعيه وإرادته، وبذا يبقى طاقة حية، وقوة بناءة، تسهم في تجسيد مضامين الخير، وتشارك في العطاء والعمل.
2. الإيجابية
* وصدق أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب"- كرم الله وجهه- وهو يصف هذه الشخصية بقوله: "فمن علامة أحدهم: أنك ترى له قوة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غنى، وخشوعًا في عبادة، وتجملاً في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى، وتحرجًا عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر، يبيت حذرًا ويصبح فرحًا؛ حذرًا لما حذر من الغفلة، فرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب، قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبًا أمله، قليلاً زلله، خاشعًا قلبه، قانعة نفسه، منزورًا أكله، سهلاً أمره، حريزًا دينه، ميتة شهوته، مكظومًا غيظه،
2. الإيجابية
2. الإيجابية
الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين، كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيدًا فحشه، لينًا قوله، غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلاً خيره، مدبرًا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب حب الألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصائب ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بُغي عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بُعْده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودونه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعد بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة" (نهج البلاغة)
3. الالتزام
* يبني الإسلام شخصية المسلم على أساس وحدة فكرية وسلوكية وعاطفية متماسكة، بحيث تقوم هذه الشخصية على أساس من التنسيق والتوافق الفكري والعاطفي والسلوكي الملتزم، الذي لا يعرف التناقض ولا الشذوذ؛ لينسحب هذا الالتزام على كل مواقف الإنسان وأنماط سلوكه ونشاطه، الفردي والاجتماعي، فالأديب المسلم والمفكر والفنان والمثقف والعالم... إلخ
كل واحد منهم يخضع ممارسته ونشاطاته لقواعد الإسلام وقِيَمِه، ويسهم في بناء الحضارة الإسلامية بتوافق وانسجام تام مع الخط الحضاري الإيماني العام، تمامًا كما يفعل رجل المال والاقتصاد، والعامل المنتج، والسياسي القائد... إلخ.
3. الالتزام
* فكل واحد من هؤلاء يخضع سلوكه لمقاييس وقيم وموازين ثابتة لديه، بحيث تأتي كلها وفق الخط الإسلامي الواضح، تمامًا كما ينسحب هذا الالتزام على الممارسة اليومية في العبادات والأخلاق والعلاقات الفردية المتعددة... إلخ.
3. الالتزام
* وهكذا، فإن الشخصية الإسلامية الإدارية الملتزمة تفرز دومًا وحدة سلوكية وفكرية وعاطفية متماسكة متكاملة، دونما ثغرة أو تناقض أو انحراف، بحيث تنكشف هذه الجهود الفردية ضمن إطار التنظيم الاجتماعي العام لتشييد الهيكل الحضاري وصنع صيغة التاريخ وصور الحياة، فالكل يعمل ويؤدي دوره ضمن خارطة بناء اجتماعي وعقائدي متكاملة متناسقة، كما تنسق عاملات النحل جهودها لبناء خليتها وفق شكل هندسي متكامل.
4. التوجه المستمر نحو الكمال
* للشخصية الإسلامية مثل أعلى، وقيم عليا رائدة في الحياة، تتمثل في تصور الإنسان المسلم لقيم الخير والكمال البشري الذي تحقق مجسدًا في القوة الفذة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }
4. التوجه المستمر نحو الكمال
* فالشخصية الإسلامية:
* تنزع دومًا إلى الوصول إلى هذا المثل الإنساني الأعلى.
* وتبرمج مسيرتها، وتصحح مواقفها على ضوء هذا المقياس.
* وهي تجد قبل هذا المثل الإنساني الحي، فكرة الكمال الإلهي المتسامي.
* وتعرف صفات الخالق العظيم، المتصف بالخير والكمال المطلق، من العدل والرحمة والصدق والكرم والحلم والعلم والشفقة والسلام.
4. التوجه المستمر نحو الكمال
* فتكون تلك الصفات محبوبة لدى المسلم؛ لأنها صفات معبوده، فهو دومًا يتجه نحوها، وينزع إلى الاتصاف بما يلائم إنسانيته من معانيها؛ أملاً في تحقيق مرضاة الله، وسعيًا وراء الكمال الذي يوصله إلى النعيم والفردوس.
5. الاتزان
* من مميزات الشخصية الإسلامية أنها شخصية متزنة لا يطغى عليها التفكير المادي، ولا الانحراف الفكري المتأتي من سيولة العقل، وامتداده اللامعقول، كما لا يطغى جانب من الميول والنوازع على بقية قوى الإنسان ودوافعه.
* فالمسلم يطلب الدنيا ويسعى للآخرة، ويستمتع بلذات الحياة ويستعد لعالم الجزاء، ويعمل ويفكر وينتج، بحيث يملأ كل جوانب الحياة عطاءً ونشاطًا.
5. الاتزان(6/127)
* هو حينما يمارس ذلك ضمن مفهوم روحي، وتفكير إيجابي، لا يفصل بين الدنيا والآخرة، بل يوحد بينهما، ويربط بين أبعادهما، كما يربط بين السبب ونتيجته, مستلهمًا تلك الروح من وحي القرآن وتوجيهه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
* فهو دومًا شخصية متزنة، يشبع كل جانب، ويعطي كل شيء حقه، لا يفرط في شيء ولا يتعدى الحد المعقول في استعمال أي شيء.
* إذا أحب أحد كان معتدلاً، وإذا أبغض أو غضب أو عاقب كان معتدلاً، وإذا أكل أو شرب أو أنفق كان معتدلاً. قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .
5. الاتزان
* فالمسلم الإداري حينما يأكل ويشرب ويتزوج، ويحب ويكره، ويغضب ويعاقب، ويتكلم ويتعب وينام، وينفق ويتعبد ويزهد، ويستمتع بالملذات، ويتعامل مع الآخرين... إلخ؛ إنما يمارس هذه الأفعال جميعًا وفق منطق الاعتدال والاتزان الذي يسيطر على نظام الحياة، ويتحكم في مسيرة الوجود من غير إسراف ولا إفراط أو تفريط..
* انطلاقًا من الإيمان بأن الاعتدال هو منطق الوجود؛ وهو قانون الحياة التي انتظمت أبعادها ومسيرتها على أساسه، وأن الخروج على هذا القانون الكوني العام يعرض الشخصية للاهتزاز والاضطراب، ويقود وجود الإنسان بكامل أبعاده الجسمية والروحية والنفسية إلى الانهيار والشذوذ.
5. الاتزان
6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني
* تمتاز الشخصية الإسلامية بأنها شخصية تتمتع بحس إنساني يقظ، وضمير متفتح، يميل دومًا إلى التعاطف والرحمة، وينفر من القسوة والشدة.
6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني
* فالمسلم الملتزم شديد الإحساس والمشاركة الوجدانية، رقيق القلب، متفتح العاطفة؛ لذلك فهو سريع التفاعل والتعاون في مجالات البر والإحسان إلى الآخرين... يخف إلى إنقاذهم في شدائدهم، ويهب إلى مواساتهم في محنهم، ويشاطرهم في أفراحهم، لا يقسوا ولا يجفوا، مستوحيًا هذه الروح من مواقف القرآن الكريم، رافضًا أن يكون من أولئك القساة الجفاة الذين لا يُؤلفون، ولا يألفون أحدًا، ولا ترق قلوبهم، ولا يحسون بإحساس الآخرين، ولا يشاركونهم في أفراحهم، ولا يشاطرونهم أحزانهم... أولئك الذين ماتت العواطف الإنسانية النبيلة في نفوسهم، وأجدبت من معاني الخير حياتهم.قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }
* ويأتي اهتمام الإسلام بتربية الضمير، وتنمية الحس الوجداني نتيجة لإيمانه بأن الضمير الحي والحس الوجداني المرهف هو الطريق إلى التفاعل والترابط البشري السليم، وهو القاعدة النفسية التي تشاد عليها أسس العلاقات والروابط الإنسانية.
* وقد حثت الأحاديث والروايات المتعددة على ذلك، وحببته وزينته بقدر ما كرهت القسوة، ولعل من أبرز مظاهر يقظة الضمير، مظهر الإحساس بالذنب والشعور بالخطيئة، ومحاسبة النفس عليها؛ تمهيدًا لرفضها والإنابة منها، والتوبة من العودة إليها.
* كما تتجلى هذه الظاهرة بأسمى صورها في شخصية المسلم، عندما تعيش بوعيه وإحساسه كأرقى ما تكون صور الحس واليقظة الوجدانية.
6. الإحساس الذاتي: يقظة الضمير والحس الوجداني
7. النزعة القيادية
* يشعر المسلم صاحب الشخصية دومًا بأن على عاتقه مسئولية رسالة كبرى، ودرور تاريخي مهم يجب عليه أن ينهض به ويؤديه.
* وهذا الدور هو: إصلاح البشرية وهدايتها وقيادتها نحو شاطئ العدل والسلام.
* فهو يؤمن دومًا: بأنه داعية خير، ورائد إصلاح، ومتمم لمسيرة الأنبياء في تبليغ رسالة الإيمان وإنقاذ البشرية.
7. النزعة القيادية
* لذا فهو:
+ لا يقنع من نفسه بإصلاح نفسه فقط..
+ ولا يقر اللجوء إلى الانكماش والعزلة والابتعاد عن أوضاع مجتمعه وعالمه..
+ ولا يرضى بأن يكون مقودًا بغير قيادة الإيمان..
+ ولا يعترف بتسليم قيادة البشرية لأيد لا تعرف معنى الإصلاح، ولا تفكير الخير، ولا يعنيها في أي هاوية سقطت البشرية.
7. النزعة القيادية
* وهذا النزوع القيادي يربيه القرآن الكريم في نفس المسلم، ويحثه عليه، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} .
* فالقرآن هنا، وفي الآية الأولى، خاطب المسلمين ونبيهم بأنهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ لأنهم هم الدعاة، وهم المبلغون لرسالة الإيمان، وهم القادة إلى الخير.
* وفي الآية الثانية، يسوق أهداف الإنسان المؤمن القيادية لصيغة الدعاء فيقول: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}؛ أي اجعلنا قادة للإيمان والتقوى والخير والصلاح.
السلوك ودوره في تنمية الشخصية الإسلامية
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
* يعتبر السلوك المظهر المجسد لمحتوى الشخصية، واللسان المعبر عن هويتها وحقيقتها، والسلوك ليس عنصرًا من عناصر الشخصية، بل هو الوجه الخارجي للشخصية والانعكاس الطبيعي والظل العملي لها.
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
* وتتميز الشخصية الإسلامية بسمات سلوكية إنسانية معينة تختلف كل الاختلاف عن سلوكية الشخصية غير الإسلامية؛ لأنها تختلف عنها في الدوافع والمحفزات والغايات والأهداف..
* فينتج عن هذا الاختلاف، اختلاف في طبيعة السلوك، ونوعية المواقف والممارسات؛ لذا فإننا نشاهد التباين واضحًا بين سلوك المسلم الملتزم، وغيره من الشخصيات الأخرى في موقفه من قضية معينة أو تقويمه لها.
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
* فالعامل المسلم، أو رجل الأعمال المسلم الملتزم، أو الإداري المسلم مثلاً، حينما يُمارس عمله فإنه يخلص فيه، وينميه على أكمل وجه، من حيث الدقة والاتقان، وهو يفعل ذلك؛ لأنه يؤمن بأن الإخلاص في العمل واجب مقدس، ووجوبه متأتٍّ من كونه خيرًا يُحبه الله سبحانه فهو يحققه حبًا بالخير، وبحثًا عن رضا الله سبحانه وتعالى، وأداءً لواجبه أمام خالقه.
* بعكس الشخصية غير الإسلامية، فإن صاحبها لا يهمه الإخلاص في العمل كقضية أخلاقية واجبة بذاتها، بل هو يُحافظ عليها إذا دعت الضرورة؛ من أجل التفوُّق والمنافسة وجلْب العملاء، أو تحقيق ربح مادِّيٍّ أكبر، ولولا الخطر على بضاعته وإنتاجه لما ألزم نفسه بالإتقان والإخلاص.
* والسياسي المسلم حينما يقِفُ أمام قضية سياسية ويجد نفسه قادرًا على كسب الموقف فيها عن طريق الغدر أو الخديعة، وتوريط الآخرين فإنه لا يقدم على ذلك برغم هذه القدرة وبرغم قدرته على تحقيق ما كان يصبو إليه، بل يترفَّع ويتورَّع، بعكس السياسي الآخر، فإنَّه يعتبر هذا الأسلوب حنكةً، ودهاءً، وعبقريةً سياسيةً، وفرصةً سانحةً لتحقيق أهدافه.
* والواقع أن الشخصية في جميع عناصرها، وتعدد مقوماتها هي:(6/128)
* اليد التي ترسم على لوحة الواقع صيغة السلوك.
* وهي الشخص الذي تظهر صورته سلوكًا على مرآة الحياة.
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
وهكذا نفهم أن السلوك هو:
صياغة التشكيل الخارجي لمحتوى الشخصية ومضمونها الباطن... قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
السلوك ودوره في تنمية الشخصية
الخلاصة
إن بناءُ الشخصية- طبقًا للشخصية الإسلامية- يتطلب منك أن تكون صاحب فكر، أي:
* صاحب فكر مستنير وقوي.
* تمتلك عقيدة قوية.
* تحمل فكرًا سليمًا، وتسلك على أساسه سلوكًا سويًا.
* صاحب عاطفة إنسانية نبيلة نقيَّة من أي انحراف ومتزنة.
* مالِكًا لإرادةٍ قوية تسير وِفْقًا لمنهج ملتزم؛ حيث الصبر وتحمل الشدائد.
* لديكَ مقياس (ترمومتر) تقيس به درجة سلوكياتك.
وعندها ستكون صاحب شخصية: ذات عقلية واضحة.. إيجابية.. ملتزمة.. سائرة باستمرار نحو الأفضل.. متَّزنة.. قيادية.
وإن لم تفعل ذلك وجدت نفسك صاحب شخصية: ضعيفة.. شاعرة بالنقص باستمرار.. خائفة.. فاقدة للاتزان.. لا تنسجم مع البيئة المحيطة.. ومزدوجة الشخصية؛ نتيجة الجهل وعدم وضوح الأفكار لديها.
لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!
* لأسباب كثيرة: منها الواقع العالمي المعاصر؛ حيث تجد الفرد الخالي من الشخصية القوية الأصيلة غريبًا معزولاً عن نفسه وعن الآخرين. ويفقد بسبب ذلك الكثير، بدءًا من نفسه وحتى المحيطين به من مرؤسيه وزملائه ومديريه.
أخيرًا
* والواقع أن خلاص أي إنسان مما هو فيه من مشكلات، وأزمات لا يكون إلا:
* بالنمو الروحي والعقلي.
* وتحسين ذاته وإدارتها على نحو أفضل.
وأفضل شيء يتم من خلاله ما سبق هو تربية وتنمية الشخصية طبقًا للشخصية الإسلامية.
أخيرًا
لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!
* إن تنمية الشخصية لا تحتاج إلى مال ولا إمكانات ولا فكر معقد، وإنما تكمن الحاجة في الإرادة الصلبة والعزيمة القوية.
* ولقد تعلمنا من تجارب السابقين- أممًا وشعوبًا وأفرادًا- أن أفضل وسيلة لمواجهة الخارج وضغوطه الصعبة هي تدعيم الداخل وإصلاح الذات واكتساب عادات جديدة ثم يأتي بعد ذلك النصر والتمكين.
أخيرًا
لماذا عليك أن تبدأ في الاهتمام بشخصيتك لتنميها؟!!!
* هدفك الأسمى: أي الهدف الأعلى الذي يسمو فوق المصالح المادية والغايات الدنيوية، فلا تغرق في التفاصيل وتعقيداتها فيجعل هذا إحساسنا وشعورنا للهدف ضعيفًا، فلا تصل إلى المستوى المطلوب لتنمية الذات.
* الاقتناع بضرورة التغيير: الوضع الحالي حتى وهو جيد أو مقبول لابد فيه من التفوق على الذات والتغلب على الصعاب وتحسين الجيد إلى ممتاز، وسوف تجد التحسين أمامك فتمسك به مهما كانت ظروفك.
لا تنس
* الشعور بالمسئولية: إذا ما استشعرت حجم المسئولية الملقاة على عاتقك والأمانة التي في جيدك، فسوف تبادر لأدائها؛ لأن الله عز وجل سيسألك عنها، فإذا ما كنت (قزمًا) في مواجهة المسئولية فسوف يتبلد إحساسك، وتكون مثل كل الباقين، فإذا كنت تريد ذلك فأنت وشأنك!.. وإن كنت تريد الشخصية الإدارية الحقيقية فانهض وانفض عنك غبار الكسل.
لا تنس
أن تكن صاحب إرادة صلبة وعزيمة قوية: هذا شرط أساسي لتنمية الشخصية الإدارية الصلبة والعزيمة القوية.. ألم تر مسابقات المعاقين؟ وكيف ينجحون بإصرار في تحقيق ذاتهم؟ ألم تشاهد البطل المصري المعاق، وهو يعبر (المانش) من إنجلترا إلى فرنسا في ظروف صعبة؟ ألا ترى الرياضي وهو يواصل التدريب باستمرار للوصول إلى المستوى الذي يأمله؟ بماذا يحققون رؤياهم وأحلامهم؟ بالإرادة الصلبة والعزيمة القوية...
فالاختيار عندك:
إما الخنوع والسلبية والاتباع للغير
لا تنس
* تمحور حول مبدأ... فالمبادئ هي فقط الباقية، والذي يخسر مبادئه يخسر ذاته، ومن يخسر ذاته لا يصح أن يُقال إنه كسب بعد ذلك شيئًا.
* حافظ على الشمول والتكامل في بناء شخصيتك، فلا تأخذ شيئًا وتترك آخر، ولا تنجذب نحو محور من المحاور وتترك الباقي.
* التزم في بداية تنمية شخصيتك بالخصال الطيبة، وروِّض نفسك على الالتزام بها خطوةً خطوةً.
* إذا ما كانت طبيعة عملك تستلزم تعاملاً مع الناس فاصبر عليهم، وتحمَّل الأذى حتى تعتاد الصبر وتتحلَّى به.
والآن
* انتهز الفرصة واستثمرها طالما أنها هي الأحسن، فأنت لا تدري ما الذي سوف يحدث غدًا، وباشر ما هو ممكن الآن، ولا تنشغل بالأبواب التي أُغلقت.
* ابدأ مع الآخرين من عندك، فالكل يطلب من الآخرين أن يقدروا ظروفه وأوضاعه، وأن يشعروا بشعوره، وقليل من الناس مَن يطلب هذا الطلب من نفسه- أي يقدر ظروف الآخرين ويشعر بشعورهم- فكن أنت من القلة التي تسعى نحو الناس، وليكن شعارك:
"البداية عندي"
والآن
* انتهِز الفُرَص لإبداء التقدير والمجاملات لمن حولك، والعون في وقت الأزمات، واصفح عن زلات من أخطأ منهم تجاهك، فهذا له تأثير عميق في النفس البشرية سينعكس عليك منهم...
وسيفيدك كثيرًا.
والآن
* اختر زميلاً لك لتستند إليه في الملمَّات، وليعينك وقت الشدة ولتبُحْ له بما في نفسك، فالإنسان يحتاج في حياته دائمًا إلى صديق يكون له زينةً في الرخاء، وعصمةً له من البلاء، فلقاء هذا الزميل يُزيل عنك الأحزان، وتذكر دائمًا...
أن المرء قليل بنفسه كثير بمن حوله، والغريب هو الذي ليس له حبيب.
والآن
* أهِّل نفسَك لأن تعمل ضمن فريق، فنحن نعيش في عالم المجموعات لإنجاز الأعمال، فالعمل أصبح معقدًا، ولابد من ارتفاع مستوى الأداء والإنتاج في العمل، ولن يتم هذا العمل إلا...
بالعمل الجماعي .
والآن
وحتى إن كنت تجيد فن العمل الفردي فلابد من
* حسن الاستماع والإصغاء لوجهة نظر الآخرين.
* فهم طبيعة العمل ودورك فيه.
* فهم الخلفية النفسية والثقافية لأفراد المجموعة التي تتعاون معها.
* احرص على استشارة أفراد المجموعة في كل جزئية في العمل المشترك التي تحتاج إلى قرار.
* الاعتراف بالخطأ ومحاولة التعلم منه.
وحتى إن كنت تجيد فن العمل الفردي فلابد من
* عدم الإقدام على أي تصرف يجعل زملاءَك يُسيئون فهمه.
* عدم إفشاء أسرار العمل أو التحدث عن أشياء ليست من اختصاصك.
* المبادرة لتصحيح أي خطأ يصدر من أي فرد من أفراد المجموعة وِفْق آداب النصيحة.
* تحمَّل ما يحدث من تجاوزات وإساءات من الأفراد.
* اسع لمرضاة الله عز وجل دائمًا.
* استحضر النية الصالحة في عملك.
* النجاح لابد أن يكون داخل نفسك أولاً.
* ليكن لك دائمًا أهداف مرحلية قصيرة.
* أخضِع دوافعك لمبادئك.
* دافع عن الغائبين.
* طوِّر مهارةً لك كلَّ عام.
================
اللغة العربية التحديات والمواجهة
للأستاذ/ سالم مبارك الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية : التحديات والمواجهة
الحمد لله الذي رفع هذه اللغة و أعلى شأنها , حيث أنزل بها خير كتبه و أفضلها , والصلاة و السلام على أفصل الأنبياء و خاتم المرسلين , نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :ــ(6/129)
إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا , فيحق لنا أن نفتخر بها , و نعتز بها و يجب علينا أن نذود عنها و نوليها عناية فائقة . و يتمثل واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها و تخليصها مما قد يشوبها من اللحن و العجمة و علينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات و جملة من الألفاظ والتراكيب بل يتعين عينا أن نعتبرها كائناً حياً , فنؤمن بقوتها و غزارتها و مرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد مقوماً من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .
ما اللغة :-
لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة و مفهومها , وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة و يرجع سبب كثرة التعريفات و تعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم , فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :ــ
1. يعرفها ابن جني 1 بقوله : (( أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) .
2. اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع ، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أ والحركات التي يقوم بها جهاز النطق ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية2 .
3. ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس 3.
4. صورة من صور التخاطب سواء كان لفظياً أو غير لفظي .
5. اللغة كما يقول ( أوتو يسبرسن ) : نشاط إنساني يتمثل من جانب في مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها فرد أو أفراد آخرون .
6. اللغة نظام الأصوات المنطوقة .
7. اللغة معنى موضوع في صوت أو نظام من الرموز الصوتية 4.
8. ادوارد سابيير : اللغة وسيلة إنسانية خالصة , وغير غريزية إطلاقا , لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية 5 .
9. انطوان ماييه : إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية أو قيمتها من الناحية الحضارية .
10 . اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين شخصين أو بين أفراد جماعة معينة , وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل وفق نظم معينة .
واللغة نعمة من الله عزّ وجل للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي تمتلك نظاما من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها . فيقال : لغة الحيوان ، ولغة الطير ، ولغة النبات ، قال تعالى :( ( وعلمنا منطق الطير )) النمل / 16. .. ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق .
وظائف اللغة :- 6
يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أن وظيفة اللغة هي التعبير أو التواصل أو التفاهم رغم أن بعضهم يرفضون تقييد وظيفة اللغة بالتعبير او التواصل ؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا انه ليس الوظيفة الرئيسة .
(( وقد حاول " هاليداي " halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية :
1. الوظيفة النفعية ( الوسيلية ) :ـ
وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها " أنا أريد " فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم ..
2. الوظيفة التنظيمية :ــ
وهي تعرف باسم وظيفة " افعل كذا .... ولا تفعل كذا " من خلال اللغة يستطيع الفرد ان يتحكم في سلوك الآخرين , لتنفيذ المطالب أو النهي و وكذا اللافتات التي نقرؤها وما تحمل من توجيهات وإرشادات ...
3. الوظيفة التفاعلية :
وهي وظيفة " أنا و أنت " تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته , فنستخدم اللغة في المناسبات , و الاحترام , و التأدب مع الآخرين .
4. الوظيفة الشخصية :
من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤاه الفريدة , ومشاعره و اتجاهاته نحو موضوعات كثيرة , وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين .
5. الوظيفة الاستكشافية :ـ
وهي التي تسمى الوظيفة " الاستفهامية " بمعنى انه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة .
6. الوظيفة التخيلية :ــ
تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية ، كما يستخدمها الإنسان للترويح , أو لشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل , وإضفاء روح الجماعة , كما هو الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية ...
7. الوظيفة الإخبارية ( الإعلامية ) :ــ
باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه , بل ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة , وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية , اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة معينة أو العدول على نمط سلوكي عير محبب .
8. الوظيفة الرمزية :ــ
يرى البعض ان ألفاظ اللغة تمثل رموزاً تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي , وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية . )) 7
واللغة كالكائن الحيّ ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار , مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية فعندما يتطور المجتمع حضارياً وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس ... فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة ، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .
نشأة اللغة :-
أما حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية لن نخرج منها بكثير فائدة بله أن تشتت أفكارنا فقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة والمتكلمين واللغويين , وذهبوا في البحث مذاهب شتى : فهذا يقول مصدرها التوقيف من الله , وذلك يقول مبدؤها الطبيعة , وآخر يقول منشؤها الاصطلاح والتواطؤ ــ ويكفينا هنا أن نعلم أن هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة ، أشهرها أربع نظريات :
(1)/ نظرية التوقيف : قال بها أفلاطون وأبو علي الفارسي ، وابن حزم ، وابن قدامة , وأبو الحسن الأشعري , و الآمدي , وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون بقوله تعالى
: (( وعلّم آدم الأسماء كلها )) " البقرة /31". وبما جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية ، وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس حيّة فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء ، وجميع حيوانات البرّيّة )) ، الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).
(2)/ نظرية المواضعة والاصطلاح : قال بها سقراط ، وديمقريط ، وآدم سميث ، ومن العرب أبو الحسن البصري ، وأبو إسحاق الاسفراييني ، والسيوطي ، وابن خلدون .(6/130)
(3)/ نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر , وأول من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: (( وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل 8 )) , ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضاً بعد أن ناقش الرأيين السابقين , والأسلم ألا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب الثلاثة .
(4)/ نظرية الغريزة : يريدون أن الله زوّد الإنسان بآلة الكلام ، وبجهاز للنطق ، فهو حتما سينطق شاء أم أبى .
والحديث في أصل نشأة اللغة ـــ على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي ـــ فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة واقعية في وضعها الراهن , وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تماماً مع توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة ...
وبعد هذه التوطئة البسيطة عن ماهية اللغة ، ووظائفها . ننتقل إلى معنى لفظة ( العربية)
ما هي العربية :-
متى كانت العربية ؟؟ علم ذلك عند الله , ولكنه سبحانه لم يصادر حريتنا في أن نحاول معرفة أي شيء يمكن أن يبلغه قدراتنا بالقطع , أو بالحدس والتخمين . يقال إن العربية تنحدر من اللغة الآراميّة , وهي التي تكلم بها آرام بن سام بن نوح عليه السلام
واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية وعلماء اللغة حديثاً يصنفون كل السلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة ( أم ) أطلقوا عليها ((اللغة السامية )) و أول من أطلق هذه التسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م وواضح أنها تسمية عنصرية اقتبسها من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار(العهد القديم) (الأصحاح 10 سفر التكوين) في ظل تقسيم وهمي للأجناس البشرية مستمد من أبناء نوح وهم : سام وحام و يافث , فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟
أصبح يقينا لدى الباحثين المنصفين، أن وصفنا لحركة المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بالفتح والفتوحات الإسلامية أصبح تعبيرا خاطئا, فهو لم يكن فتحا بل كان تحريرا للعرب من الحكم الأجنبي كهدف سياسي, وهو توحيد للعرب في الموقع المكاني بمعناه الجغرافي كهدف قومي, كما انه من الخطأ القول بأن العرب ساميون والصحيح هو القول ان الساميين عرب.
السامي والسامية والساميون، تعريف يطلق على التجمعات والكيانات البشرية التي تواجدت في فلسطين وغور الأردن وجنوب العراق وشبه الجزيرة العربية, باعتبار أن كل هذه المناطق، تشكل وحدة جغرافية واحدة, والمعروف أن الجميع جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وبالتالي فقد ذهبوا إلى أطراف شبه الجزيرة العربية, في هجرات عدة متتالية, وقد استحالت لغة وألسنة هذه الأقوام إلى اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية, والسامية أيضا هي مصطلح يطلق على كل الشعوب والأمم والقبائل قديما وحديثا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف ان التوراه أول من أشار بالنص إلى ذلك التقسيم كما سبق وأسلفنا.
بعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة (عربة) في بلاد تهامة, وقيل أنها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة، أول من تكلم العربية على صورتها المعروفة وقيل أيضا أنهم سموا كذلك نسبة إلى فصاحة لسانهم في الإعراب , وقد وردت تسمية (( العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري 9))... والأقوام الذين تكلموا العربية لا يحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم. وهولاء لم يصل لنا شيء من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومن ينحدر منهم .. وأخيرا العرب المستعربة وهم أبناء إسماعيل العدنانيون .
إن الموروث الكتابي العربي أعمق جذوراً مما يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون ( بابليون و آشوريون ) بالخط المسماري وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام ،، وكذلك مخطوطات أوغاريت ــ وتل العمارنة ــ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد 10.
وتأسيسا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر .
إن الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا 11,, ويرتبط باللغة العربية التي نعتز بالحديث بها .. ولهذا فإهمال الأدب القديم ـــ والاتجاه أكثر إلى الأدب الحديث يساعد من يروج للفصل بين الآداب القديمة (( حيث امتداد أخلاق الآباء والسلف)) وبين الآداب الحديثة ولسنا بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها وتكوين هويتها وثقافتها وضمان تماسكها وتواصل أجيالها .
العربية لغة مقدّسة :-
العربية لغة القرآن الكريم ، وهو مهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة .
قال تعالى : (( إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))(الشعراء/193ــ 195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية ، خصوصاً حين ناط الله بها كلامه المنزل ، قال تعالى :-(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ))( الزخرف/ 3 ) وقال تعالى :- (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون )) " فصلت / 3" . وقال (( قرآناً عربياً غير ذي عوج )) ( الزمر/28) ومن هنا قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ،، وقد تكفل الله بحفظها ضمنياً في قوله : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) " الحجر/9" .
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين : (( كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية ، ولما سئل جون فرن عن اختياره للغة العربية , قال انها : لغة المستقبل , ولاشك أنه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه ) 12.
فضل تعلّم العربية :-(6/131)
يرى كثير من العلماء أن الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النفاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فانه يورث النفاق )) (أخرجه الحاكم في المستدرك) ؛ فلا نعجب إذا علمنا أن من العلماء من أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم )) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها , و قال ابن تيمية : (( إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بالعربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب )), وقال ابن فارس : (( لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم ))13 . وقال أبو هلال العسكري : (( فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه )) وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها , فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة , حتى أثر عن أبي الريحان البيروني قوله : " لأن أشتم بالعربية خير من أن امدح بالفارسية " و قد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتاً لا تحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" : (( من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل,تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ..)) وقال المطران يوسف داءود الموصلي : (( من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث ان عباراتها سلسة طبيعية,يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف )) 14.
هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حباً عظيماً , ووهبوا لها نفوسهم , فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصلوا نحوها وصرفها حتى بلغت درجة الكمال والصفاء ، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية و الثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول أحدهم : فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها ، ونظروا إليها نظرة ازدراء و اتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر .
واجبنا تجاه العربية :--
إن خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولو من وجه بعيد . وإن السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة لغة القرآن ,, عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم ,, غاروا عليها ، وغاروا على بيانها المعجز أن تدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج ... فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها ...
ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن ، حيث أن هناك حوالي مليون مخطوطة عربية موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف مجلد / والعراق والمغرب 35ألف مجلد / وتونس 25ألف مجلد / وبريطانيا و سوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15ألف مجلد / والهند والسعودية 15ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن 10 ألف مجلد / ايطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))15 .
كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها , بالإضافة إلى استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة العربية .
إن من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها , وتفكيرها بغير أدواتها , وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها ,, والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة ، واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف المتفرج ، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي . وقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ونكشف عن نواياهم الخبيثة ونثبت للعالم أن هذه اللغة ثرية غنية باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي الشرس من الداخل والخارج ...
التحديات والمواجهات : ــ
التحدي الأول :- اتهامها بالعقم والجمود والتحجّر والقصور ، وأنها لم تعد ملائمة لأساليب القرن الحادي والعشرين عصر الثورة المعلوماتية و الاختراقات الفضائية ، فكان منا من نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة , وآخر يلحّ في الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغة غير عربية ؛ ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن .
المواجهة :ـــ
أولاً :- الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها , فخاصية الاشتقاق من أعظم ما امتازت به العربية , فبالاشتقاق عملت على زيادة موروثها اللفظي والمعنوي كلما تقدم الزمن ،،(( وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومن ذلك قوله فيما صح عنه : " يقول الله :( أنا الرحمان خلقت الرحم , وشققت لها اسم ) والحديث في مسند الإمام أحمد ))16 ولنأخذ على سبيل المثال مادة (( كتب : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة – كتاب ــ مكتبة ....)) : إننا نستخدم هذه الكلمة وعمرها أكثر من 1500عام ، مأخوذة من ( الكَتْب) بسكون التاء ، قال الجوهري : أصله في اللغة للسقاء ، تقول : كتب السقاء ، إذا خرّزه بسيرين ، فهي في معنى / الضم والجمع/ .. ومنه الكتيبة للجيش ، ثم انتقلت اللفظة إلى الكتابة . وإنما قلنا أن أصلها السقاء لأن العرب عرفت السقاء واحتاجت إليه في ترحالها في الصحاري واحتاجت إلى صلاحه قبل أن تعرف الكتابة ،، ولو عرفت ما للسقاء ( القربة ) من الأسماء لهزك العجب . إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.(6/132)
ومن الطريف لمعرفة سعة هذه اللغة ما نقله (( صاحب " المزهر " عن حمزة الأصبهاني : أن الخليل ذكر عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل من غير تكرار وهي اثنا عشر مليون بناء وثلاثمائة وخمسة أبنية وأربعمائة و اثنا عشر ( 12305412 )) 17 و ما ذكره د/ محمد نعمان الدين الندوي في مجلة الأدب الإسلامي قال : (( عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ [5,099,400]، من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ [6,699,400] ، بينما نجد الفرنسية لا تحتوي إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة(25000) ، والإنجليزية على مائة ألف كلمة(100000) فقط) 18. ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .
فانظر يا رعاك الله إلى هذا البحر الهائج قال حافظ :-
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ثانياً :- اللغة العربية تتميز بثبات الأصول ومرونة الفروع ، وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل . (( وبهذه المرونة عولجت مسألة المصطلحات , وقد لاحظ ألفرد غيوم هذه الخصائص فعلق عليها بقوله " صلح اللسان العربي للتعبير عن العلاقات بإيجاز أكثر من اللغات الآرية لمرونته وقابليته الاشتقاقية الفائقة في الاسم والفعل ...)) 19 . فاللغات الأوربية تتغير معاجمها بين الحين والحين ولا يمر قرن واحد إلا ويصيبها تغيير أساسي في مفرداتها وقواعدها . بينما للعربية قدرتها الفائقة على استخدام أكثر من طريقة لتثبيت ألفاظ جديدة في قاموسها : كالقلب المكاني ، والنحت ، و التعريب .. وغيرها . ومن مرونتها كذلك ، الظواهر الصوتية من إبدال ، وإدغام , وإظهار , وإخفاء , وروم ، وإشمام , وأيضاً اسم المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل ... وغيرها , تلك المرونة التي أتاحت لها أن تغدو لغة الحضارة في القرون الوسطى . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))
قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
ثالثاً :ــ وهي لغة المترادفات إذ يكثر أن يكون للمسمى الواحد أكثر من مفردة لغوية واحدة بل قد تصل إلى العشرات بل المئات ولا ننسى أن كثير من هذه المترادفات نشأ من تعدد اللغات , او من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات ، قال ابن فارس في الصاحبي : (( فإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد وكذلك الأسد والفرس ...)) . وقد سمع أن معاني ( العين ) تنيف على المائة ، ومعاني ( العجوز ) تنيف على الثمانين ، ومعاني ( الكرم ) على الثلاثين ،، قال ابن خالويه : جمعت ( للأسد ) خمسمائة اسم ، و ( للحيّة ) مائتين . وذكر صاحب القاموس في مادة ( سيف ) أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم قال : وذكرتها في ( الروض المسوف ). فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :
درج , حبا , حجل , خطر , دلف , هدج , رسف , اختال , تبختر , تخلج , أهطع , هرول , تهادى , تأود... لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .
رابعاً :ــ علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى( تبسيط النحو / صعوبة النحو ... الخ ) ولا تعدو أن تكون معولاً يحاول ان يصيب مقتلاً في كيان هذه الأمة , وهي محاولات هدامة تحاول إضعاف العربية كما قال ذلك الشيخ ( ابن باز ) . .
بينما تلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها , ويضيع هذا التمييز اذا اختل هذا فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب ،، فاعل + فعل + مفعول ،، فإذا أردت أن تقول : أكل زيد طعاماً ، يجب أن تقول : زيد أكل طعاماً . ولا يجوز أن تقول : أكل زيد طعاما ,,, أما في اللغة العربية فأنت تقول : أكل زيد طعاما / وزيد أكل طعاماً / و أكل طعاماً زيد / وطعاماً أكل زيد / وطعاماً زيد أكل ، فتأمل هذا وتدبره . وفي معرض الحركات فإن جملة ( ما أحسن زيد ؟!.) يمكن أن تكون استفهاما وتعجبا وذمّا ؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ونظام الأعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
التحدي الثاني :ـ تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلا عن المثقف العادي . وقد بلغ مداه وأقصاه في ما يسمون أنفسهم ( أهل الحداثة ), والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول (( والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:
1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف «العصرنة»!!
2 - الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.
ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب حداثي، وأسمى سارتر مجلته «العصور الحديثة»!!
وفي الستينيات زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير.
ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد نفسه مدعياً الدعوى نفسها.
وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد، والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية. )) 20 .
وكما أصابت شظايا تفجير اللغة الأدب الشعري فقد امتدت لتطال النثر وخصوصاً النقد : فالناقد يتحدث بأسلوب موغل في الغموض والتعمية وغير مفهوم وبلغة غريبة , سواء في ما ترجم من مؤلفات النقاد أو في كثير من الكتب النقدية , كل ذلك باسم الحداثة وتفجير اللغة .
المواجهة :ـــ إننا لا نرفض الشعر الحديث جملة وتفصيلاً ،، ولكننا أيضا لا نتركه يعبث في أدبنا ويهين مقدساتنا ويخبط فيه خبط عشواء .. لابد من وضع مفتاح نقدي وإطار ومعيار فني تنظم سير الشعر الحديث وتكشف عن جماله فيستمتع به القارىء . أن الحياة فرضت علينا لوناً ولغة جديدة ــ وهذا طبيعي ــ ولكن أريد أن افهم هذه اللغة وأمتع حاستي الفنية من أدبها .(( أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش... و... ـ كل أولئك حداثيون 21 )) .(6/133)
فحينما ننظر لهذا الركام من حولنا , الذي انتفش , وأصبحت له مؤسسات تعني به وترّوج له , وتكرم الداعين المتسربلين برداء الحداثة حينما ننظر إلى كل هذا نستشعر مدى المسئولية الملقاة على عاتقنا لحفظ اللغة العربية , إنها مسئولية عقدية وأدبية ؛ لأن حماية العربية ــ وهي لغة القرآن ــ من هذا السيل الجارف من الركاكة والرطانة تصبح واجباً دينياً قبل أن يصل ببعض الملاحدة أن يتطاول على أسلوب القرآن المعجز وحلاوته وطلاوته فيتهمه بالدونية والقصور والإخفاق.
التحدي الثالث :- ما يروّج له أعداء الإسلام والعروبة الحاقدون من الدعوى إلى أن نستبدل بالفصحى اللهجات العامية واللغات المناطقية والإقليمية القومية الضيقة أو إحياء لغات قديمة ميتة , وكذلك الدعوة إلى اللاتينية بزعمهم أنها أكثر مرونة واختصارا في النطق .. وقد مشى تيار الهدم هذا في اتجاهين يكمل احدهما الآخر هما الاستشراق والاستغراب :ــ
الأول :- اتجاه المستشرقين الذين أوكلت لهم مهمة التدريس في الجامعات والمدارس فشغلوا مناصب عليا ، وتولوا مهام جسيمة ، وسيطروا على كراسي الدراسة .. فألفوا كتباً في الدين واللغة هي اكبر من علمهم نفثوا فيها سمومهم ودسوا فيها أفكارهم هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أنهم غرسوا في الطلاب والكوادر هذه الأفكار فأشربت قلوب العديد من العرب ,, ومن جهة ثالثة
أنشأوا المدارس والجامعات التبشيرية والغربية في بلاد المسلمين وجعلوها أوكاراً لأغراض تجسسية خبيثة كالجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت مركزاً للاستخبارات في فترة زمنية .
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية بلا نهاية :ــ
في فترة العصور الوسطى في أوربا ، و الممتدة من 476م ـــ 1600م ، حدث في الوطن العربي الإسلامي أمران مهمان :-
الأمر الأول : الحروب الصليبية الممتدة من ( 489هـ ــ 690هـ) اي ( 1096م ــ 1291م )
لمدة قرنين كاملين انتهت بالإخفاق ، واليأس من حرب السلاح ، ولكنها تركت في نفس الوقت بصيصاً من التنبّه والتيقظ بسبب احتكاكهم المستمر بحضارة راقية عير عادية .
الأمر الثاني :- وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول 857هـ / 29مايو1453م
سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ، ودخلها محمد الفاتح بالتهليل والتكبير ، واهتز العالم الأوربي هزة عنيفة مليئة بالخزي وممزوجة بالحقد والكراهية والغضب . ومنذ ذلك اليوم ، بدأت أوربا تتغير إلى الأمام ، وبدأ العالم الإسلامي يتراجع إلى الوراء ، فكان أول تراجع نحصده هو سقوط الأندلس بعد أربعين عاما فقط من فتح القسطنطينية أي عام 1493م .. ومن يومئذ بدأ الرهبان وتلامذتهم معركة أخرى أقسى من معركة الحرب والسلاح ( معركة العلم والمعرفة ) 22 00
النهضة الموءودة 23:ــ
لقد فتن العالم الشرقي أوربا فتنة لا توصف ، وامتلأت قلوبهم رغبة في امتلاكه ،، وتنبه الملوك والرهبان و عقلاء الرجال إلى سؤال خطير : ما سرّ قوة هذه الحضارة ؟؟ فكان الجواب : إن سرّ قوتها هو في العلم ( علم الدنيا وعلم الآخرة ) .
في ظل هذه الغفلة المطبقة على دار الإسلام ، كانت هناك نهضة هادئة ، سليمة ، بطيئة ، يقوم بها كوكبة من العلماء الذين تنبهوا لضرورتها وأهميتها ، نذكر منهم على سبيل المثال : ــ
البغدادي عبدا لقادر بن عمر ( في مصر ) 1620م ـــ 1683م . صاحب ( خزانة الأدب )
الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم ( في مصر) 1698م ــ 1774م .
محمد بن عبد الوهاب ( في الجزيرة العربية) 1703م ـــ 1792م .
المرتضى الزبيدي ( في الهند ومصر ) 1732م ــ 1790م . صاحب( تاج العروس )
الشوكاني محمد بن علي ( في اليمن ) 1760/ ـــ 1834م .
هذه النهضة السليمة الهادئة لم يعرفها على حقيقتها غير ( المستشرقين ) فهبوا هبة الفزع ، وسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة ويضعونها تحت أبصار ملوك المسيحية الأوربية ورؤسائها ويبصرونهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه ( اليقظة ) الوليدة إن تمت .
و الاستشراق جهاز خبيث جاء متخفياً في عباءة العلم والبحث ، ساح في دار الإسلام في تركيا ، وفي الشام ، ومصر ، وفي الهند ... وفي غفلة أهل دار الإسلام عن حقيقة هذه الأشباح الغربية التي تتجوّل في الطرقات وتسير في الشوارع في كل لباس ، في زى التاجر ، وفي زى السائح ، وفي زى الباحث المنقب ، وفي زى طالب العلم ، وفي زى المسلم البسيط .... الخ . فاكتسب هذا الجهاز مع تطاول السنين خبرة واسعة عن دار الإسلام ( الحصينة) وصاروا يستخرجون كل شيء عن دار الإسلام عن أحوال الخاصة والعامة ، والعلماء والجهلاء ، والملوك والسوقة ، والجيوش والرعية ، والقوة والضعف ، وتدسسوا حتى أخبار النساء في الخدور ، لم يتركوا شيئا إلا وفتشوه وعرفوه ,.. ومضت سنوات طويلة ، والتقارير ترفع إلى ملوك المسيحية بكل ما يعلمونه عن دار الإسلام ،، وما خبروه وشاهدوه عياناً عن الغفلة المطبقة على دار الإسلام .. فنشأ بفضلهم ( طبقة الساسة ) ، أو من سموا بعد ذلك ( رجال الاستعمار ) .. ... و أكدت التقارير الاستشراقية انه ليس للمسيحية خيار سوى العمل السريع والمحكم .. واهتبال الغفلة المحيطة بالمسلمين ،، فقد كان الفرق بيننا وبين ما وصلت إليه أوربا الآن هو خطوة واحدة لمن يصل إليها أولاً .
الاستعمار العسكري¯ ومساوئه :ــ
وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي كان أول من حرّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر هو الفيلسوف الألماني ( ليبنتز ) ت/ 1716م .... وفي عام 1/7/1798م تحرك نابليون بجيوشه لاحتلال مصر ،، الذي يسمونه الآن (( عصر النهضة )) وخلف هذا الاستعمار جملة من النتائج السلبية عادت على العرب والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر:ـــ
1. سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ودليل السرقة قائم وموجود في مكتبات أوربا 25، وكان همهم يوم ذاك هو السطو على كتب ( الحضارة ) أولا ، ثم ( التاريخ ) ثم كتب ( الأدب ) فكأن الحملة الفرنسية جاءت لتجريد دار الإسلام في القاهرة ممن أسباب اليقظة المادية المتمثلة في : الكتب ، والمراجع ، وتصفية العلماء ، وإعدام الطلبة .
2. تصفية البلد من رؤوس العلم , ومن طلبة العلم , لأنهم مصدر المقاومة والصحوة (( فقد فعل هذا السفاح ما لم يفعله جنكيز خان ، إذ كان له في كل يوم خمسة أشخاص يقتلهم في القاهرة وحدها ويطوف برؤوسهم في شوارع القاهرة ، وكان يأمر قواه أن يتشبهوا به ،،، ويرشده المستشرقون أن يختارهم من الطلبة النابهين ورثة علم ( الزبيدي ) و( الجبرتي) ليستأ صلوا جذور اليقظة )) .(6/134)
3. ما كان للاستعمار الغربي بحقده الدفين وخبرته الواسعة .. أن يترك هذه اللغة التي يعرفها معرفة جيدة ويدرك آثارها الاجتماعية والسياسية (( ما كان له أن يدعها تنمو بإيقاعات سريعة تتساوق وإيقاعات النمو الحضاري العام , فأخذ يوجه إليها الضربة تلو الضربة , تارة بقرار سياسي .. وتارة بفتنة عمياء تثير الجدل وتعيق عن العمل .. وتارة باستعمال أبواق لا خلاق لها للترويج للغة مهجورة متخلفة أو للدعوة إلى عامية شائعة ...ففي مصر وجه اللورد كرومر ضربة قوية للعربية ؛ إذ جعل لغة التعليم الرسمي والعالي الإنكليزية ... وفي الجزائر أصدر الفرنسيون عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة وضمن شروط محددة هي :ــ
1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير .
2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد .
5. استبعاد دراسة التاريخ العربي والإسلامي , والتاريخ المحلي وجغرافية القطر الجزائري والأقطار العربية الأخرى .
8. استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه .
ويمكن أن نقول أن ما حدث في مصر والجزائر حدث مثله في سائر الأقطار العربية المستعمرة))26 حيث كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .
ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .
4. محاربة العقيدة الإسلامية ؛ لأن الإسلام يرفض الاعتداء ويحث على محاربة المعتدي (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .
5. مسك الاستعمار زمام الجانب الاقتصادي , والتعليمي بيده ؛ فكانت النتيجة " الفقر و الجهل و المرض " .
حتى إذا انتهى عهد الاستعمار العسكري ــ أو في أثنائه ــ قام ( المستشرقون ) باستكمال بقية المخطط في السنوات التالية , فأخذ نمو العربية يتعثر هنا وهناك في الأقطار العربية كلها ولعل من المناسب هنا أن نذكر أشهر المستشرقين وأهمهم :ــ
لويس ماسينيون كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية وإحلالها محل الفصحى .
دلمور القاضي الإنجليزي , عاش في مصر وألف عام 1902م كتابا أسماه( لغة القاهرة ) .
ويليام ويلكوكس دعا عام 1926م إلى هجر العربية , وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية يقول : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .
دنلوب قسيس إنجليزي ومبشر خبيث وعات عين في 17 مارس 1897م سكرتيراً عاما لوزارة المعارف ، وكان أول ما فعله هو تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق المرتبط بالعربية ، وإثارة القومية الفرعونية البائدة ، فجعلهم في حيرة بين انتمائين : الثقافة العربية الإسلامية ، والانتماء إلى الفرعونية لغة الأجداد الكفار . وهذا الذي لا تزال تسير عليه مصر في فكرها ولبسها والإعلام المصري خير شاهد على ذلك .
ارنولد توينبي هاجم العربية ورآها لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس الدينية فقط كالصلاة والدعاء شأنها شأن العبرية لغة الكتاب المقدّس .
سبيتا مستشرق ألماني دعا عام 1880م إلى العامية بدل الفصحى .
غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول: (( ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا ان تكون هي نفسها في أمان )) .
هاملتون جب يقول : (( إن الغرض من الجهود المبذولة لحمل المسلمين على الحضارة الغربية هو تفتيت حضارة الإسلام وتغيير خصائصها جذرياً عن طريق التعليم ، والإعلام ، والثقافة )).
كيمون مستشرق فرنسي له ( باثولوجيا الإسلام ) قال:ــ(( اعتقد أن من الواجب ابادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر )) .
جولد زيهر مستشرق يهودي مجري من أخطر المستشرقين وأشدهم هجوما ، وهو عضو بارز من محرري دائرة المعارف الإسلامية ، ولد 1850م وهلك عام 1921م ، درس في مدارس اللغات برلين ، ليبزج ، فينّا ، رحل إلى سوريا عام 1873م ، تتلمذ على يد الشيخ / طاهر الجزائري ، ثم رحل إلى مصر حنى نضلّع في العربية ، له دراسات في القران و الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله , ، آراؤه عفنة ، وبحوثه مسمومة ، وهجومه عنيف على المقررات العلمية الثابتة .
يوسف شاخت أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية ، له كتب في الفقه أشهرها ( أصول الفقه الإسلامي ) .
عطية سوريال مصري الوطن ، مسيحي العقيدة ، شديد الحقد على الإسلام . كان أستاذا بجامعة الإسكندرية .
فيليب حتي لبناني مسيحي ، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية ، كبير الدهاء ، واسع الحيل والمكر ، يخفي حقده على الإسلام بالتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية ، كان مشرفاً على الدراسات التي يقدمها الطلاب في التاريخ الإسلامي ، واللغات الشرقية .
اللورد كرومر له كتاب ( مصر الحديثة ) وكتاب ( لغة القاهرة ) , جعل لغة التعليم الرسمية هي الإنجليزية , وقد أشار حافظ إبراهيم إلى محاربة كرومر للعربية بقوله :ـ
قضيت على أم اللغات وإنها قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
هوارد ويلس رئيس سابق للجامعة الأمريكية ببيروت بقول :ــ(( التعليم في جامعتنا ومدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم ، وانتزاعه من قبضة الإسلام ))، ولقد وصل فعلاً خريجو الجامعة الأمريكية ممن غسلت أدمغتهم إلى المناصب القيادية في أكثر البلاد العربية .
ونحن لا ننكر دور المستشرقين في الدراسات الإسلامية ، ولكننا نرتاب في نواياهم !!!
وللحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو : هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
(( وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق ... اما التيار الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التو فيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(6/135)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية .. وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية. ))27 ومنهم المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد .... الخ .
الاتجاه الثاني :- تعرضت العربية لضربات قاصمة من الخارج شدت أزرها فتن محرقة من الداخل أوهت عزيمتها ومزقت جسدها من أولئك الأذناب من المستغربين الذين يفكرون بالإنجليزية أو الفرنسية ثم يترجمونه إلى اللغة العربية مثل طلبة المستشرقين ، وبعض الذين يوفدون للدراسة في الخارج وكل متعصبي نصارى العرب الذين نبتوا في تربة نصرانية على أصول غربية 0 منهم على سبيل المثال لا الحصر :ــ
رفاعة الطهطاوي : أرسل في بعثة محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وكان في الخامسة والعشرين من عمره . (( ذكياً نعم ، نابهاً بين أقرانه نعم ، محبا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر .. غريراً ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها ... وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق معها مفاتن النساء ،، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس (6) سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات فولتير ، وجان جاك روسو ، ومونتسكيو ، وتعلم فن العسكرية , والرياضيات )) كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن (( تكون خطفاً كحسو الطائر ، وان يكون ما ألفه سطواً على كتب 0 حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درّبوه هناك .. وهذه المدرسة أحدثت صدعاً في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين ،، الأزهر في ناحية , و مدرسة الألسن في ناحية , والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )) 028
طه حسين :ــ ديكارتي المذهب ، علماني العقل والفكر ،عاش حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب بان لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم وتراثهم . قال في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : (( إن السبيل الى ذلك واحدة وهي ان نسير سير الأوربيين , ونسلك طريقهم ؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها )) ووصل به الولاء لمن تتلمذ عليهم أن يقول في صراحة أن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق وإنما كانت جزءا من حوض البحر المتوسط, وان روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض المتوسط وليست مع الشرق .... تتلمذ على يد المستشرق ( مرجيليوث ) وأشرف على رسالته ( في الشعر الجاهلي ) التي احدثت ضجة في الأوساط الأدبية , وشرخا في الثقافة الاسلامية ,, وقد ذكر الشيخ/ محمود محمد شاكر (( أن الدكتور طه ، قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي بما كتبه في جريدة الجهاد ، وبما صارحني به بعد ذلك ، وصارح به آخرين ، من رجوعه عن هذه الأقوال . ولكنه لم يكتب شيئا صريحاً يتبرأ به مما قال أو كتب . وهكذا عادة ( الأساتذة الكبار) يخطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السرّ )) 29.. شكراً لك يا أبا كلود ـــ اسم فرنسي أطلقه على ابنه ـــ شكراً لك يا مؤلف " الخطوة الثانية وإن غضب الغاضبون " .
ولا تزال آثار السموم الفكرية التي زرعها الاستشراق والاستعمار تبرز على أقلام أتباعهم وأجرائهم المتعاطفين معهم حيث لا فائدة منها سوى الهاء الباحثين عن القضايا الهامة إلى الرد على هذا وتفنيد آراء ذاك . فكم من باحث شغل نفسه ووقته للرد على سعيد عقل مثلاً , أو على أنيس فريحة , او على سلامه موسى , أو على عبد العزيز فهمي وهذا الأخير شغل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ثلاث سنين بمناقشات عقيمة حول الكتابة العربية بالحرف اللاتيني كان يمكن استثمارها في قضايا مصيرية مهمة تخدم الأمة واللغة والدين .
المواجهة
الفصحى والعامية تعايش سلمي قديم :
حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.
ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.
إن تجاهل كل هؤلاء المستشرقين والمستغربين لمسألة الازدواج اللغوي أي وجود العامية والفصحى في حقيقتها الراهنة في العالم المعاصر ة و إلصاقها بالعربية فقط هو صرف للقضية في غير مسارها الحقيقي ((فالازدواجية ظاهرة عامة لها أصولها ومقوماتها النفسية والاجتماعية وليست ذات صبغة مرضية كما يحاولون تصويرها إذا تكلموا عن العربية , وكأنها انفردت من بين لغات البشر بهذه الازدواجية . وعلى كل حال فان من المبالغة أن نتصور أن هناك ذلك البون الشاسع المتوهم بين عاميتنا وفصحانا خاصة بعد أن خطا التعليم بالناس خطوات واسعة نحو الفصيحة في سائر الدول العربية ... وما حدث تجاه مسألة الازدواجية من تهافت أدلة أولئك الشعوبيين حدث تجاه المسائل الأخرى التي باتت مفضوحة الارتباطات كالدعوة إلى الكتابة باللاتينية التي بلغت حداً من التهافت والسخف جعل أصحابها موضع تندر قبل أن يكونوا جديرين بالرد والنقاش ! ولكن هل انهزم أعداء العربية ؟؟؟ إنهم يعرفون أن هدم ذلك البناء الشامخ غير ممكن ولا ميسر لذلك فانه يكفيهم في كل مرحلة أن يخربوا بعض أطرافه ويقلعوا بعض أحجاره لعله يتاح لهم في المستقبل دك أعمدته وتخريب أساسه ..)) 30 .
لغة مختصرة موجزة : 31(6/136)
والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ... وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (flapper) و (recommendation) ... ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .
الإيجاز في الكلمات :/ وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :ــ
العربية وحروفها ... الفرنسية وحروفها ... الإنكليزية وحروفها
أم 2 ... mère 4 ... mother 6
أب 2 ... père 4 ... father 6
أخ 2 ... frère 5 ... brother 7
ومن الإيجاز حالي التثنية و الجمع :ــ
الباب البابان - البابين les deux portes the two doors
الباب البابان - البابين les deux portes the two doors
الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :
كتابه son livre كتابهم leur livre
وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :
( je suis heureux ) ، ( I am happy ) .
فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .
والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :
العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )
الفرنسية : ( Je ne l’ai pas rencontré )
العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will never meet him )
الفرنسية : ( Je ne le rencontrerai jamais )
وهكذا نرى أن العربية في عصرنا الراهن عاشت مرحلة صراع دام ضد القوى الخفية والظاهرة ومع ذلك فلا تزال تمارس وظيفتها السياسية والقومية في حفظ الوحدة اللغوية , كما تمارس وظيفتها في الحفاظ على الشخصية العربية والتاريخ العربي والإسلامي .
التحدي الرابع :ــ
الإعلام العربي واللغة العربية
والإعلام : هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير ، وروحها ، وميولها ، واتجاهاتها في نفس الوقت (( فهو أولاً وقبل كل شيء يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي , ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا : بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام 32))
الاتصال الجماهيري تتسع رقعته يوماً بعد يوم ، فالسماء وما فيها من أقمار صناعية ، والأرض وما فيها من مستقبلات فضائية ، كل يخاطب كلاً ويتصل به (( وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم , قد تحول إلى الإعلام , وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية , بكل لوازمها ومقتضياتها يضمن الغلبة الثقافية , التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري 33)) حيث ألغى الإعلام كل الحدود الجغرافية والسياسية للدول , فلم تعد الشرائح الاجتماعية تهتم عمّن تتلقى ،، يكفيها أنها تتلقى فحسب .. وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى ومن قناة إلى أخرى دون أن تكترث ،، وإن استقرت فإنها تستقر على قناة تعرف لغتها ، لأن العائق اللغوي يلغي مشاهدة أكثر من 70% من المحطات .. والتلفاز هو الوسيلة التي تستهلك اكبر وقت من حياة المشاهدين ، والمذياع في المرتبة الثانية ، ثم الصحف وتليها المجلة .
فإذا افترضنا أن الشرائح الاجتماعية لا تعرف إلا اللغة العربية ، فهذا يعني أنها هي المرشحة للخطاب الإعلامي ، سواء أكانت الفصحى أم العربية الميسرة ( MSA ) . ولكل لغة مستويان على الأقل : المستوى الذي يخاطب الخاصة وهو لغة المثقفين والمتعلمين ، ومستوى حوار العامة في الأسواق والشارع .
هناك شبه إجماع بأن هناك قراراً سياسياً أو إداريا يوجه اعتماد العربية الفصحى لغة للإعلام .
وإدارات الإعلام الرسمية تخطط برامجها على أساس أن الجمهور يقع بين حدين : الأمية ـــ والثقافة ، وما بينهما من درجات ، فتخاطبه بالفصحى ، وباللغة الثالثة ، وبالعامية .
إن أعلى نسبة للفصحى في الإعلام نلاحظها في البرامج التي تعتمد الخطاب الرسمي : كنشرات الأخبار ، والتقارير ، المناسبات السياسية ، والمسلسلات الدينية ... وغيرها ، وأعلى نسبة للعامية نجدها في برامج الأطفال ، والأسرة ، والبرامج المنوعة والترفيهية ، والمسلسلات المعاصرة ، والأغاني بكل لهجاتها .
والتلفاز وسيلة ذات جمهور واسع ، تستغرق اكبر وقت من مشاهدة الناس ، وتجده في كل مكان . كما انه يقدم أنماطاً من السلوك الاجتماعي واللغوي تفتقر إليها وسائل الإعلام الأخرى ، و مما يدل على أهمية هذه الوسيلة الإعلامية ــ رغم أن الصحيفة لها قاعدة عريضة وتستطيع المنافسة إذا أحسن استخدامها وتوجيهها ــ أنه أحكم قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد. حيث حول الإعلام بامكاناته الهائلة غرف التعليم التقليدي , بسبوراتها وأقلامها ومقاعدها و وساتلها , إلى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون , أو الانترنت , أو الكمبيوتر .
ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة , يقول برونو بتلهايم: Bruno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته ... فتصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا ..إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .(6/137)
يبين أصحاب الخبرات الطويلة في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة .
إننا بحاجة إلى ( تنمية الملكة اللغوية للمجتمع ) أي نقله من مستوى إلى مستوى أفضل ، ومن نمط بال إلى آخر متقدم ، ومن طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة , إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر إطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ، لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولان استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ،، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة 00
ظواهر سلبية في الإعلام المرئي :ــ
Ok / bravo /
(1) فشو العامية على ألسنة بعض المذيعين ولا سيما في المقابلات والمحاورات ، رغم أن الصحافة المقروءة استطاعت حتى الآن أن تصون نفسها من الانزلاق في اللهجة الدارجة نوعا.
(2) بعض الألفاظ الأجنبية كثيرة الترداد على ألسنة المذيعين مثل: وهذا العيب قلما نجده في الصحافة المقروءة 0
Orbit / art / Lbc / mbc
(3) الإيغال في التفرنج واللهث وراء كل ما يصدر عن الغرب حتى في أسماء القنوات الفضائية من مثل .... والسؤال الذي يفرض نفسه : مادام مضمون برامج التلفزة والإذاعة عربياً وباللغة العربية ، فما المسوغ لهذه الأسماء الأجنبية 0 إن الأجانب بطبيعة الحال لا يلتفتون إلى إذاعاتنا وبرامجنا ، ولا تعنيهم في شيء ، بل لا تحظى بأي قدر من الاهتمام لديهم ، ولا تلامس مشاكلهم ، وبينهم وبينها حاجز اللغة الأصم المنيع .
(4) إن المعول عليه الآن عند توظيف المذيع أن يكون ( فتاة ) يراعى في انتقائها أن تكون حسناء ، يافعة ، رشيقة القد ، مليحة الوجه ، أثيثة الشعر ..... أما ماعدا ذلك من إتقانها اللغة العربية وتجويد أدائها ، وحسن نطق مخارج الحروف .. فهذا أمر لا لزوم للتشديد فيه ، وربما لا يؤبه له . يكفي أن تكون سليمة من عيوب النطق وحبسة اللسان وما عليها في نهاية الأمر ألا أن ترسم ابتسامة على ثغرها 0
(5) ضحالة الأسلوب وضعف الزاد اللغوي لدى المذيعين غالباً ، وسبب ذلك قصور إطلاعهم على أساليب البلغاء وكلام الفصحاء .
(6) لغة الإعلانات :- غلبت الركاكة على اللغة الإعلانية وكثرت فيها الأخطاء والابتذال ، سواء في الصحف أو في التلفاز والإذاعة .. تراها منتشرة في كل مكان ، واللافتات منصوبة على جوانب الطرق ، وفي المحلات التجارية ، والمتاجر عباراتها سوقية عبارات هجينة ، مسفة ..
المواجهة :ـ
(( لذلك لابد أن نجيب في العملية الإعلامية عن السؤال الكبير: " لماذا ؟ " فنجدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي .. ثم نصل إلى السؤال : " كيف ؟ " فنضع الخطط والبرامج ونحدد الوسائل والأدوات في ضوء امكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه , ومن ثم تحديد الإجابة عن : " متى ؟ " وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل )) 34
حلول ومقترحات :ـ
(1)/ أن تستخدم وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى ، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير ،، واحترام قواعد اللغة .
(2)/ قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى .
(3)/ ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الكفاءة يتتبعون النشرات والتقارير والبرامج الأخرى .
(4)/ تقديم جوائز تشجيعية لكل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير في كل قطر .
(5)/ يجب تقديم دروس تقوية للعاملين بالإعلام ، يكون حضورها إلزامياً في مسائل العربية ونحوها وصرفها .
(6)/ إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين ، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر ، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام .
(7)/ إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة ، مع تصويبها وتعميمها على العاملين ليتم تلافيها .
(8)/ عدم قبول أي كادر إعلامي إلا بنجاحه في مادة اللغة العربية ، لأن هذا سيدفعهم للقراءة والمتابعة وتطوير قدراته اللغوية .
(9)/ أن يكون اختيار المذيعين قائماً على جودة اللغة العربية ، وإتقانهم لها ، فكراً وثقافة ، وكتابة موهوبة .
(10)/ زيادة الوقت المخصص للبرامج التثقيفية في اللغة العربية والعمل على رفع مستواها .
(11)/ تعميم لغة مشتركة تقرّب بين اللهجات ثم تلغيها بمرور الوقت .
(12)/ الربط بين الإعلام وأجهزته وبين خطط التعليم والمناهج المدرسية .
(13)/ عرض ترجمات الأفلام والبرامج الأجنبية على المراجعين المدققين اللغويين قبل تسجيلها ، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها .
(14)/ يفترض في الإعلانات التجارية أن تكون بلغة سليمة ناصعة ، آو على الأقل بلغة وسط بين العامية والفصحى .
(15)/ ينبغي عدم إدخال ألفاظ أجنبية على العربية في لغة الإعلانات ، لأن فيه إهانة لها ، وإنما يتم الترجمة أو التعريب حتى لا يؤدي هذا إلى ازدواجية لغوية .
(16)/ يجب أن تستثمر وسائل الإعلام الدعايات الإعلانية بإلزامها بلغة عربية فصيحة معاصرة ....لأن تأثير الدعاية الإعلانية في الأطفال سريع جداً 0
والله الموفق لما فيه خدمة الإسلام
الأستاذ/ سالم مبارك الفلق
اليمن / حضرموت
==============
النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة
د. جاسم سلطان
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسول الله r .. أما بعد:(6/138)
ففي هذه اللحظة التاريخية التي يتصاعد فيها صدى التحولات العالمية حتى يصم الآذان، ويعلو فيها صوت المآذن حتى ينتظم الآفاق, تنبعث من تحت الركام التاريخي الطويل أمة الإسلام, عارية الصدر إلا من جلال الحق في وجه قوى الظلام المدججة بأعتى الأسلحة الفتاكة للأجسام والعقول.. معركة تبدو للوهلة الأولى محسومة. تكون الغلبة فيها لمنطق القوة لا لقوة المنطق.. في هذه اللحظة نؤمن أن قدر الله غالب.. وأن دعوة الحق منتصرة.. فكما نهضت الأمة من سباتها ورفعت رأسها عالياً رغم كيد الخصوم وجهل الأحباب، فهي لا شك قادرة على تحصيل أسباب القوة والمنعة ولو بعد حين.. وحين تحرس القوة الحق. فلا يقف شيء أمامه..فإن الحق يأسر القلوب والعقول، والقوة تردع الطامعين والباغين. تلك هي الآمال، نقولها ونربطها بمشيئة الله عز وجل، واثقين من تأييده إن بذلنا وسعنا.
لماذا الفهم؟؟
إن موضوع النهضة، ومحاولة الكتابة عنه ضرورة لابد منها؛ لأنها متعلقة بأمرين مهمين وهما:
الأول: موضوع الفهم، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد قدم البخاري باباً أسماه "بابُ العلم قبل القول والعمل" وذلك لأن العمل بلا علم أمر فيه خلل كبير، فصواب العمل مقترن بالعلم الذي قاد إليه.
الأمر الثاني: والمرتبط بالموضوع الأول، هو ضرورة تنظيم الخارطة المعرفية الذهنية للعاملين في حقل النهضة. فكثير من المعارف والمعلومات التي يتلقاها الفرد الذي يهتم بشأن أمته تأتي من أطراف مختلفة، وفي غالب الأحيان تأتي أفكاراً متناقضة، ولا توجد خارطة معرفية منظمة مسبقة، بحيث يضع فيها الفرد العامل ما يتلقاه من معارف ومعلومات في مكانها الصحيح.
هذان الأمران؛ الفهم وتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في حقل الدعوة والمهتمين بأمر الأمة؛ يأتيان في قائمة الأولويات، ولعل الكثير من المخلصين اليوم يرون بوضوح حجم الاضطراب الذي يسود الساحة الإسلامية في قاعدتها الفكرية الواسعة، ما أدى إلى خلل على الجانب التنفيذي.
الخارطة الذهنية
وفكرة الخارطة الذهنية المنظمة يمكن تقريبها للقاريء بفكرة الحاسوب (الكمبيوتر)، أو فكرة الهاتف النقال، فتخيل معي أخي الكريم؛ لو أنك كنت ممن يستخدم الهاتف النقال دون أن يكون به قاعدة منظمة للبيانات، وقمت بإدخال الأسماء والأرقام، ثم أردت استعادة الأرقام وهذه الأسماء والتوفيق بينها، إنه سيتأكد لك أن هذا الأمر محال، فالأمر الذي يجعل الجهاز فعالاً ومنتجاً في مخرجاته؛ هو تنظيم قاعدة البيانات الداخلية التي تستقبل المعلومات من الخارج، وبالتالي تقوم بعمليات التحويل، وإخراجها لك مرة أخرى لتستفيد منها.
قس ذلك على عقل الإنسان فحينما تنظم القاعدة المعرفية في أي علم من العلوم أو معرفة من المعارف، يمكن منها أن تتحول الجزيئات إلى معنىً واضح، يسهل استخراجه والاستفادة منه.
مواقف الناس من قضية الفهم:
الصنف الأول: صنف محب، شديد العاطفة ولكنه لا يريد أن يتعب ذهنه بعلم ولا بفهم. ورغم صواب نية هؤلاء العاملين إلا أن خطرهم كبير أثناء مراحل السير، فهم عرضة للشبهات، والشبهات دواؤها العلم، وعند اشتداد الكروب قد يصبح هؤلاء عبئاً على الدعوة وحركة النهضة، حيث قد يركبون تيارا ًيقود إلى عكس اتجاه النهضة، ويؤدي إلى تدمير جهود العاملين فيها، وقديماً قيل "الرأي قبل شجاعة الشجعان". فإعمال النظر والفكر وحسن التصور مقدمة ضرورية لحسن العمل، ولذلك اشترط في العمل لكي يكون صواباً أن تتوفر له النية الصالحة. والنية الصالحة وحدها ليست كافية، بل لابد للعمل كي يكون صواباً أن يكون عن علمٍ وعن نظرٍ وعن تصورٍ صحيح.
الصنف الثاني: وهو صنف يمكن أن نقول عنه أنه قارئ بدرجة من الدرجات، ولكنه أيضاً غير راغب في البحث والتحقيق، وهذا الصنف من الناس كثير النقد، قليل العمل وينظر إلى كل أمر بمنظار أسود. وهؤلاء أيضاً يشكلون عائقاً وعبئاً على عملية النهوض والاستنهاض.
الصنف الثالث: هو صنف عامل ناقد باحث عن التطوير باستمرار، يستند إلى جهد ثري في محاولة البحث والنظر، مع عدم إهمال العمل وبذل الجهد، وعدم الاكتفاء بالمقاعد العادية البعيدة عن
ساحة الفعل، وهذا صنف مبارك تقوم عليه الدعوات وتتحقق به النهضات.
الصنف الرابع: فهو أيضاً صنف مبارك جهده منصب على البحث والنظر والتحليل والتفصيل، ولكن قد يشوب عمله البعد عن الواقع والاكتفاء بمستوى النظرية عن ملامسة الواقع وفهمه.
والشارع سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتبيّن فقال "فتبينوا"1، وأمرنا بطلب البرهان "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"2. وقد قرر العلماء أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والداعية في سيره في مشروع النهضة إنما هو يصدر الأحكام على الأشياء ويتخذ قرارات في أثناء السير، فإن لم يكن التصور واضحاً خرجت الأحكام أيضا منقوصة وقاصرة.
نحن أمام حاجة كبيرة جداً للعلم، حتى نستطيع أن نقوم بالعمل على وجهه الأكمل. وتجدر الملاحظة هنا أن العلم والعمل يسيران متوازيين مع بعضهم البعض، فالعمل يطرح أسئلة على العقل، تلجئ الإنسان لمزيد من البحث والنظر والعلم، والعلم يولد أفكاراً ومبادرات، والمبادرات حين تتنزل على الواقع تشذب وتطرح أسئلة جديدة، وهكذا تتولد الحياة في الأفكار ويزداد الإنسان علماً ويرتقي.
وبالتالي يلزم للإنسان المسلم الجانبان: الجانب العلمي والجانب والعملي، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر فإما أن يعمل الإنسان ويكون عمله عكس ما يتمنى ويشتهي لنقص علمه، أو يعلم الإنسان الكثير ولكنه أيضاً لا يمارس ما يعلمه في الواقع فتكون المحصلة أيضاً صفرية.
خطة البحث:
إن الإعداد لمثل هذا البحث - والذي هو ضمن سلسلة تتحدث عن قضية النهضة وأدواتها - قد استغرق ما يزيد على العشر سنوات. وتم تدريس مفردات هذه السلسلة في أقطار كثيرة. وهذه هي المحاولة الأولى لتجميع ما كان متناثراً، بين مخطوطات يدوية، وتسجيلات صوتية، ودورات تدريبية. وصياغته في سياق واحد. لذلك فقد لا يأخذ الكتاب الشكل المعتاد عليه في مثل هذا النوع من الكتب.
وتتناول السلسلة بوجه عام:
* فلسفة النهضة ووضع إطا ر يكمن فهمها من خلاله.
* قوانين النهضة، والتي تحكم حركات التحولات الاجتماعية.
* مشروع النهضة وأهدافه ووسائله ومراحله.
ويتناول هذا الكتاب الفلسفة الكبرى للنهضة. ويعتني بتحديد المستلزمات الأساسية للانتقال من طور الارتجال والاندفاع وضبابية الرؤية إلى الرشد ووضح الرؤية. ويتم كل ذلك من خلال:
* شرح بعض المصطلحات التي ينبغي الإحاطة بها لأي عامل للنهضة لتنظيم خارطته الذهنية وتحديد طبيعة المرحلة التي تمر بها أمتنا في طريقها نحو النهوض.
* وضع حركة النهضة في سياقها التاريخي.
* تحديد إطار لفهم مراحل التحول الحضاري، ومن ثم تحديد إطار لفهم المرحلة الحالية.
* تحديد نموذج وطريقة تفكير القائد المطلوب.
* تحديد احتياجات صانع القرار العامل للنهضة.
* توضيح أهمية دراسة التاريخ للقائد.
* تحديد صورة الإسلام الذي يجب استدعاؤها وتَمَثُّل العاملين للنهضة بها.
* تحديد التحديات التي يواجهها المشروع.
* الإجابة على السؤال الهام: من أين يبدأ الإصلاح؟
* توضيح دور ثقافة الأرقام ولغة الإحصاء في مشروع النهضة.
* هدم جدران الإحباط بمعاول الأمل.(6/139)
وقد رأينا أن نقسم هذا البحث إلى فصل تمهيدي، تليه أبواب متعددة لمحاولة توضيح فلسفة مشروع النهضة وأسسه ومنطلقاته. وصغنا هذه الأبواب على شكل مشاهد، نتحدث في كل مشهد عن الوضع الراهن ونقطة البدء لتغيير هذا الواقع وتصورنا للمشهد المستقبلي والخطوات العملية لتحقيق هذا المشهد.
تحديات واجهتنا:
لقد قمنا بتحديد الشريحة المستهدفة من هذه السلسلة، ومن هذا الكتاب، فيممنا وجهنا إلى الشريحة الغالبة من الشباب التي تتطلع إلى العمل الجاد. وإحداث التحولات الكبرى. وواجهتنا عدة معوقات، حاولنا التغلب عليها. مثل:
+ كيف يمكن أن يستفيد القارئ مما يقرأ، ليكون خارطته المعرفية المنظمة؟!
* وكيف يمكن تقديم المادة في شكل يجيب على حالة الإحباط المنتشرة بين صفوف الكثير من المجتمعات الإسلامية؟؟!
* وكيف يمكن أن تصبح الفكرة شائعة بين الجمهور؟!
* وكيف يمكن أن تغادر الفكرة رفوف النخب إلى الإنسان المتوسط والبسيط؟؟!
* وكيف يمكن أن تتحول الفكرة إلى مادة قابلة للاستخدام في النهضة في وجه دعاة اليأس والقنوط؟!
تلك هي الأسئلة، وكانت هذه محاولتنا لعمل رأس جسر لهذا المشروع الكبير، لنقله من ساحة التصور النظري البحت للطبقة العليا من المفكرين والمنظرين، إلى الطبقة الوسطى والدنيا التنفيذية في المشروع.
إن هذا الكتاب جزء من سلسلة نسأل الله أن تكتمل وتتكامل. نبدأها بهذه القطرة الأولى لتتبعها قطرات، وقد ترددنا كثيراً في إخراج هذه الورقات، والحديث عن هذا الموضوع بشكل مفتوح، ولكن تشجيع الأحباب، والكثير ممن استمع إلى هذه المحاولة قاد إلى اتخاذ القرار الأخير بنشرها، رغم يقيننا أنه ما زال الكثير والكثير الذي يتوجب علينا عمله، والقيام به، ولكن الأعمار بيد الله عز وجل، والإنسان لا يضمن إذا وجد اليوم أن يبقى إلى الغد، فالمسارعة في الخير - وإن كان قليلا ً- ونشره واجب لا يجب تأخيره، خاصة إذا حان وقته.
وأخيرا نسأل الله العون والسداد . فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمهيد
هناك الكثير من المفاهيم والنماذج، التي نرى أنه لا غنى عنها في مثل هذا النوع من الدراسات، نحاول أن نبسطها قدر الإمكان، ونبتعد عن التعقيد، وسنشير - في ثنايا هذه الدراسة- إلى المواضع الصعبة، والتي نرى أنه رغم صعوبتها، فإنه لابد للعامل أن يدركها، وأن يبذل الجهد في محاولة استيعابها، لضرورتها في تنظيم الخارطة الذهنية، وسنبذل ما نستطيع في سبيل ذلك والوصول إلى هذا النوع من التبسيط.
المشروع:
ولنبدأ بكلمة المشروع، ويتساءل القارئ ما وجه الحديث عن تفسير كلمة المشروع، ونعتقد أنها من الكلمات الهامة التي تشغب على بعض المتناولين لقضية النهضة، ويتساءلون فيها قائلين بأن وصف المشروع الإسلامي بأنه مشروع قول غير مشروع!! ونقول أن المتعامل مع قضية النهضة، يجب أن تكون لديه إجابة محددة، لمثل هذا السؤال فعندما نتعامل مع كلمة مشروع، ونفتح "منجد الطلاب" مثلاً نجد أن كلمة مشروع تحتمل المعاني التالية: ما سوغه الشارع، والأمر المشروع هو ما بدأت بعمله.
وفي نطاق هذين المعنيين، فالمشروع الإسلامي أمر سوغه الشارع، وهو أمر قد بدأ به وتتم الحركة في إطاره، فمن الناحية اللغوية يجوز لنا أن نتناول وأن نستخدم كلمة مشروع.
ويقول أهل الإدارة: أن كلمة مشروع تعني أنشطة متتابعة مصممة، للوصول إلى مخرجات محددة، من خلال ميزانية محددة، ومدى زمني محدد.3
ومن هذه الزاوية فإن كلمة مشروع التي نتعامل معها، لا تنطبق حرفياً على مشروع النهضة، ولكن يمكن أن نقارب ونسدد فيها، إذا كان المدخل مدخلاً إدارياً، حيث أن تحديد الزمن بدقة والذي تستلزمه عملية النهضة أو تحديد الموازنات الضرورية لعملية النهضة في إطارها العام الكبير أمر دونه خرط القتاد .
أما في العلوم السياسية فيقصد بكلمة مشروع أي أيديولوجيا2تسعى للهيمنة. وهنا ينبغي التركيز على قولنا أنها تسعى للهيمنة، فكل أيديولوجيا تسعى للهيمنة، يطلق عليها كلمة مشروع3، مثلما يتم الحديث عن الليبرالية كمشروع فيقال: (..Political liberalism as a project..).
إذاً يمكن التعامل مع الأفكار النهضوية على أنها مشروع، ويمكن أن نطلق ذلك إذا تعاملنا مع الكلمة بسعة في الإدارة أيضاً، أما من الناحية اللغوية فيمكن استخدامها قطعاً بدون تخوف. وفيما يخص العلوم السياسية فهي باب مفتوح يمكن التعامل معه بدون أي حرج، وبذلك تكون كلمة "مشروع" قد اتضحت وأصبح استخدامها مشروعاً في هذا المجال الذي نتحدث عنه.
النهضة:
إن الكثيرين ممن يتحدثون عن النهضة، لا يمتلكون إطاراً يحددون به معنىً للنهضة. ونود أن نشير إلى بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع. ولن نلجأ إلى المصطلحات الغامضة المتعلقة بتعريفها اللغوي، ولكن سنتناول موضوع النهضة من حيث أنها كلمة دخلت على اللغة العربية للتماهي مع كلمة النهضة التي وردت في التراث الأوربي، وبالتالي لا يمكن إدراك معناها في غياب المعنى الذي اجتلبت منه أساساً، وهو معنى كلمة النهضة في الثقافة الأوروبية. يقول الدكتور نور الدين حاطوم في كتابه "تاريخ عصر النهضة الأوروبية ": "(النهضة) تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490 و1560.. وهي بالمعنى العام الواسع تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها. وهي بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر. إنها ضمة تطلع وتوق وهواية وسمو أكثر منها مذهب أو نظام. إنها دافع داخلي جدد حياة العقل والحواس والمعرفة والفن."
ويقول في مقدمة الكتاب: "إن عصر النهضة الأوروبية أو القرن السادس عشر الذي ندرس تاريخه في هذا الكتاب هو العصر الذي يبدأ برحلة كريستوفر كولومبس الأولى سنة 1492، وحروب إيطاليا 1494، وينتهي بين وفاة اليزابيث ملكة إنجلترا 1603، وموت هنري الرابع ملك فرنسا 1610.. لقد حدثت في هذا العصر حوادث عظيمة، وتبدلات عميقة في أنظمة الدول الداخلية، وفي سيماء أوروبا العامة، وفي علاقات هذه القارة مع القارات الأخرى. ولذا تختلف حوادث القرن السادس عشر اختلافاً كلياً عما نعرفه في القرن الوسيط، الذي انتهى في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر". ويقول:(6/140)
"وإذا انتهى العصر الوسيط كما تنتهي الأشياء في التاريخ، إلا أن هذه الأشياء لا تزول تماماً، بل تبقى مع الزمن، فإننا نجد في حياة رجال القرن السادس عشر وأفكارهم وأعمالهم كثيراً من معالم العصر الوسيط الراحل. وليس في سياق التاريخ واستمراره انقطاع للحوادث البشرية، بل إن هذه الحوادث تجري في تطور بطئ مستمر، وقد يقع أن يحدث ما يؤخر سيرها، غير أنها تعاود الكرة وتستأنف تقدمها ولو ببطء وخجل." ويقول أيضاً: "تتجلى مظاهر التجديد في أوروبا عصر النهضة، بحوادث كبرى، وتطورات عظيمة، أشبه ما تكون بثورات،؛ فكرية دينية، أخلاقية سياسية تجديدية، في الاقتصاد الجديد."1. و يقول نور الدين حاطوم أيضاً: "وبدا لنا القرن السادس عشر وكأنه التفاتة نحو الماضي أكثر منها نحو المستقبل، أو رجعة نحو ماضيين يجملهما معاً، وهما القديم الوثني والقديم العبري- المسيحي، أو نحو الإلياذة والكتاب المقدس. وما النهضة والإصلاح الديني في البدء إلا حركتان متوازيتان وباتجاه واحد لتتعرف إحداهما بحقيقة الحياة الإنسانية في العصر القديم، ولتعيد الأخرى الدين المسيحي إلى نقاوته القديمة الأولى. فحين نحاول أن نجد ثورة، لا نجد في الحقيقة إلا رجعية.."
هذه الكلمات الهامة التي يشير إليها نور الدين حاطوم تشير إلى أن مفهوم النهضة في الفكر الأوروبي لم يكن قطيعة مع الماضي؛ بل هي تواصل معه واستجلاب الخيرية التي كانت فيه، ثم انطلاقٌ إلى المستقبل لمحاولة البحث عن فرصه، وما يمكن اقتناصه منه.
هذه قضية في غاية الأهمية، إذ يدّعي البعض في واقعنا الإسلامي بأننا يجب أن نترك الماضي بخيره وشره، وأن نتبنى ما عند الآخر بخيره وشره، وننطلق إلى المستقبل، وهذا أمر لم يحدث حتى في الحضارة التي يقوم
البعض بتقليدها والإعجاب بها.
كما يقول نور الدين حاطوم:".. ولكن يجب أن لا نأخذ بالظواهر فننكر على القرن السادس عشر كل تجديد. إن روح أي عصر من العصور لا يتمثل بعقلية الكتل والدهماء والجماهير، بل بعقلية الصفوة المختارة من أبنائه، فئة من الأبطال - كما يقول كارليل- حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر.."
وانظر إلى هذه العبارات "حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر" فرواد النهضة الذين تتحدث عنهم الحضارة الأوروبية في تلك الفترة، هم القلة التي حملت المشاعل وبدأت تكشف للناس عن جمال الماضي، وعن إمكانية الفعل في المستقبل، ولم تكن الفئة التي دعت إلى القطيعة مع الماضي، واليأس من المستقبل.
ونكمل مع نور الدين حاطوم : ".. وإذا درسنا رجال الفكر في هذا العصر، رأينا عندهم مفهوماً جديداً للعلم والطبيعة والدين والأخلاق الفردية و الاجتماعية. ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الأبطال يشعرون بأنهم في عصر حديث.."
إن الناظر في أعمال هؤلاء المجددين في هذا العصر يرى أنهم متقدمين على عصورهم، كما يقول نور الدين حاطوم ".. ولكن المجددين كثيراً ما يتقدمون عصرهم ويكونون عرضة لاضطهاد معاصريهم ممن لا يفهمون آراءهم: مثال ذلك كوبرنيك ( 1473 – 1543م)، فقد برهن على حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس، فحكم البابا بأن نظريته مخالفة للكتاب المقدس. وبالرغم من أن كوبرنيك نفسه كان من أبناء القرن السادس عشر، فقد كانت الفكرة الثورية الجديدة التي أتى بها
متقدمة على القرن الذي عاش فيه.."، وقل ذلك على ليوناردو دافينشي وغيره من المفكرين الذي اضطهدوا بسبب آرائهم، التي سبقت عصرهم وتقدمته.
نعود إلى معنى كلمة النهضة التي بدأنا بها ونقول أنها: حركة فكرية عامة، حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.
فهذه الكلمة تحتوي على جملة مفردات:
* حركة
* فكرية عامة
* حية
* منتشرة
* تتقدم باستمرار في فضاء القرن
* وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.
وتشمل مجالات العلم والدين والسياسية والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك. فهذه الحياة الجديدة وهذا التصور الجديد لإمكانية الفعل التاريخي، ولإمكانية النظر للكون بمنظار جديد، هي السمة الأساسية لما يسمى بعصر النهضة، وهي في الوقت نفسه ليست حركة في أرض منسابة سهلة، بل إن الحركة التي تقودها هذه النخب- التي أطلق عليها كارليل "الأبطال"- تتعرض للاضطهاد والتنكيل والمقاومة، ولكن ذلك جزء من ضريبة هذا الوضع النهضوي الذي يتحرك فيه المجتمع.
إذا قمنا بالمقاربة لكلمة النهضة في واقعنا المعاصر؛ سنجد التماثل والتماهي في حركة التيارات
الإسلامية الجديدة التي تدعوا إلى التطوير في التعليم والاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد، وتدعوا للارتباط بالنافع من تراث الأمة والخير من إنتاجها. هذا التمازج الحي بين حركة الأصالة وحركة التجديد يرسم معالم عصر النهضة الذي يتحرك فيه الآن هذا التيار الضخم من العاملين في حقل النهضة.
التنمية:
وهناك مصطلح آخرمقارب للنهضة. ففي كثير من الأحيان يتكلم الناس عن التنمية ولا يتحدثون عن النهضة، وهذا المفهوم -مفهوم التنمية أو الـ Development- الذي ينتشر والذي يستخدم، يشكل جزئية من جزئيات النهضة، وليس ذات النهضة وذلك إذا أردنا النظر للصورة بشكل أعم. فمن المفهوم الأوروبي أيضاً جاءت كلمة Development "التنمية" مع حركة التعليم واستيراد المجتمعات الإسلامية لكثير من المفاهيم الواردة من التراث الأوروبي.
يقول عبد الحق الشكيري عن كلمة التنمية : "في المفهوم الغربي يقصد بها: تنشيط الاقتصاد الوطني، وتحويله من حالة الركود والثبات إلى حالة الحركة والديناميكية، عن طريق زيادة مقدرة الاقتصاد الوطني لتحقيق زيادة سنوية ملموسة في إجمالي الناتج الوطني، مع تغيير في هياكل الإنتاج ووسائله، ومستوى العمالة، وتزايد الاعتماد على القطاع الصناعي والحرفي . ولهذا اعتبرت الزيادة السنوية في إجمال الناتج الوطني، ومتوسط دخل الفرد من المؤشرات الأساسية للتنمية....." *1.
من خلال رؤيتنا لمفهوم التنمية في الفكر الأوروبي، ومن خلال النظر إلى هذا المفهوم عند عدد
كبير من مستخدميه، فإنه مفهوم ضيق يتعلق بالجانب الاقتصادي ومفرداته. على أن عبد الحق الشكيري يحاول أن يطرح مفهوماً أعم وهو أقرب إلى مفهوم النهضة والحضارة فيقول: (.. إن جوهر عملية التنمية -يقصد في التصور الإسلامي- هو تغيير حضارة، يتناول أبنية المجتمع كافة، ويشمل جوانبه المادية والمعنوية. إن أي نظرية للتنمية لابد أن تنبثق من واقع وظروف هذه المجتمعات..).2
مما سبق يتبين لنا أن مفهوم النهضة هو مفهوم الحراك الاجتماعي لعصر ما نحو الفاعلية الحضارية، وأن مفهوم التنمية في الفكر الأوروبي هو مفهوم يقتصر على الجانب الاقتصادي ومؤشراته، ونستنتج أن السعي نحو الحضارة يشملهما أي يشمل عملية الحراك النهضوي، ويشمل عملية التنمية الاقتصادية من أجل إحداث فعل حضاري.
الحضارة:(6/141)
ما ذكرناه سابقاً يقودنا إلى موضوع الحضارة التي نسعى إليها، والحضارة كلمة عامة يقصد بها حالة مزدوجة من العطاء المادي في البناء العمراني، والتنمية والاستقرار والإسهام في التراث الإنساني، وزيادة نمائه، ويضيف إليها البعض في بعض الدراسات بأن الأمر فيه متسع للقول أن هذا هو معنى المدنية، وأنه يلزم لوضع مفهوم "حضارة" أن يكون داخل هذا البناء مفهوم أخلاقي ديني، ولا نرى في ذلك تلازماً صرفاً، إلا إذا اعتبرنا أن أي مفهوم فلسفي داخلٌ في هذا المعنى. فإذا قلنا أن الحضارة الصينية قامت على الكونفوشيوسية؛ فنقصد في هذا السياق معنيين معنى الاستقرار والبناء والتنمية والإسهام الحضاري، ومعنى داخلي وهو أن تكون هناك قيم سائدة هي الكونفوشيوسية، وفي هذا المعنى
يمكن إدراك مفهوم الحضارة الواسع.
إذاً المجتمعات تسعى في طريقها للحضارة لجانبين:
* جانب استقرار وتنمية،
* وجانب آخر: أن يكون لها منظومة قيمية، وأن تسهم في الحضارة البشرية.
وحركة النهضة هي حركة لإحداث تحولات تقود إلى الوضع الحضاري المطلوب. ومن هنا تتضح بعض المعاني الغامضة في أقصى ما يمكن أن نشرحه في هذين الجانبين الهامين.
سؤال هام:
إذا عدنا إلى الحديث عن قضية النهضة فإنه يُطرح سؤال هام يقول: في أي سياق تأتي قضية النهضة؟؟
وللإجابة على هذا السؤال نعرض النموذج التالي:
1097م
1924م
انطلاق المشروع الإسلامي
وقيام الدولة
الحملات الصليبية
إسقاط الخلافة
622م
إذا نظرنا إلى القرن السابع الميلادي 622م ونظرنا إلى القرن الحادي عشر الميلادي 1097م ثم نظرنا إلى القرن العشرين 1924م لوجدنا ثلاثة محطات كبيرة وهامة في تاريخ العالم الإسلامي.
فالمحطة الأولى الهامة في تاريخ العالم الإسلامي 622م شهدت انطلاقة المشروع الإسلامي وتحوله من شكل التنظيم إلى شكل الدولة المعاصرة - إن جاز تعبير الدولة المعاصرة - حيث نقصد بذلك
وجود مجتمع لديه قيادة ولديه دستور ولديه جهاز الشورى ولديه جهازه الدفاعي أو جيشه الذي يتحرك بإمرته. هذا الشكل الذي كانت بذوره موجودة يمكن أن نطلق عليه بشكل أو بآخر بذور الدولة الحديثة. إذا نظرنا إلى هذه المحطة الهامة في تاريخ البشرية حيث بزغ ما يمكن أن نطلق عليه النظام العالمي الجديد. وقدم المسلمون فيه نموذجاً جديداً لمفهوم الإنسانية، ومفهوم الحرب، ومفهوم السلم، ومفهوم العدالة، ومفهوم تعايش الأديان، ومفهوم الدستور، وغير ذلك. ثم إذا انتقلنا إلى القرن الحادي عشر حيث بدأ الهجوم الأوروبي الضخم في شكل الحملات الصليبية على العالم الإسلامي 1097م، الأمر الذي استنزف موارد العالم الإسلامي بشكل متصل لمدة ثلاثة قرون. ثم تواصل هذا الهجوم على الأطراف - بعد أن كان يستهدف القلب - وتم إنجاز المشروع الغربي بإسقاط الخلافة الإسلامية سنة
1924م وهي المحطة الثالثة الهامة التي يجب تذكرها والتي أدت إلى هزة كبيرة في العالم الإسلامي نتيجة لثلاثة أمور .
الأول: انكشاف حالة التخلف في العالم الإسلامي .
الثاني: سقوط العالم الإسلامي تحت أيدي حركة الهيمنة والاستكبار أو ما أطلق عليه الاستعمار.
الثالث: تمزيق العالم الإسلامي إلى وحدات صغيرة لا يجمعها جامع.
وبالتالي تولدت ثلاثة عناوين كبيرة تحرك تحتها العالم الإسلامي بعدها .
* العنوان الأول عنوان النهضة والتقدم في مقابل عنوان التخلف .
* وعنوان التحرير في مقابل معادلة وعنوان الاستعمار والاحتلال.
* وعنوان الوحدة في مقابل عنوان التمزيق.
وقد شمل ذلك جميع ألوان الطيف السياسي في المجتمعات الإسلامية، حيث كانت العناوين متشابهة فنرى مثلاً عناوين "الوحدة الحرية التقدم"، هي نفس العناوين التي نتحدث عنها في "الوحدة والنهضة والتحرير"، وقد تحدث عن هذه العناوين القوميون، وتحدث عنها الإسلاميون على وجه سواء، ولكن المنطلقات كانت مختلفة؛ فكان منطلق الإسلاميون التواصل مع الماضي واستجلاب الصالح منه، ثم تعزيز الهوية من خلاله، والانطلاق لمواجهة المستقبل بحركة التجديد في جميع المجالات. بينما قررت قطاعات ليست باليسيرة في التيار القومي القطيعة مع الماضي بشكل أو بآخر واعتباره تراثاً وليس عقيدة، واستبعاده من معادلة السياسية، وإبقائه في زاوية ضيقة وهي مجال الاجتماع، ولكن وعلى كل حال ظلت العناوين الثلاثة الرئيسية وهي "الوحدة والنهضة والتحرير" هي محاور الاهتمام.
إذاً موضوع النهضة يأتي في سياق تاريخي طويل ممتد بدأ من قيام الدولة الإسلامي ووضعها لنموذج الدولة ونموذج جديد للحضارة البشرية، ومروراً ببداية الهجوم العالم الغربي الكبير منذ القرن الحادي عشر على العالم الإسلامي، وانتهاء بنجاح المشروع الغربي في تفتيت العالم الإسلامي، والسيطرة على مقدراته، وفرض التخلف عليه وإدامته، ثم حركة الإحياء الإسلامي، والنهضة الإسلامية التي بدأت مع هذا الزلزال الكبير الذي بدأ سنة 1900م أو الذي تجلى سنة 1924م - في عبارة أصح – حين أعلن عن سقوط الخلافة الإسلامية.
المحطات الهامة في التاريخ
المحطة ... السمات ... النتائج
سنة 622م
انطلاقة المشروع الإسلامي
...
* تحول المشروع إلى نظام الدولة.
* تكون مجتمع
* قيادة
* دستور
* جهاز شورى
* جهاز دفاعي
... دولة حديثة
مفاهيم جديدة عن:
* الإنسانية
* الحرب والسلم
* العدالة
* تعايش الأديان
* الدستور......
سنة 1097 م
القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية.
...
* استهداف القلب
* ثم هجوم عل الأطراف
... استنزاف موارد العالم الإسلامي
لثلاثة قرون.
سنة 1924م
إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية.
...
* انكشاف حالة التخلف
* الاستعمار والاحتلال.
* التمزق
... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.
إلى هنا نكون قد أجبنا على التساؤل حول كلمة مشروع، وكلمة النهضة والتنمية، والحضارة ومعانيها، ثم تطرقنا إلى قضية السياق الذي تأتي فيه عملية النهضة، وفكرة النهضة للعالم الإسلامي.
والآن نبدأ في تناول بعض الأمور التي قد تكون صعبة في البداية، ولكنها في غاية الأهمية لتنظيم الخارطة الذهنية للقارئ.
المصطلحات الأربعة:
سنبدأ ببعض المصطلحات التي يصعب تجاوزها لضرورتها في ترتيب الخارطة العقلية للعاملين، ولشيوع بعضها في كثير من الكتابات وفي التناول اليومي لكثير من المثقفين. ويجب أن نلفت النظر إلى أن هذه المصطلحات تعددت تعريفاتها وتنوعت، وما سنذكره هنا من تعريف لكل مصطلح هو ما اخترناه لسيستمر معنا طوال البحث. ونذكر أربعة مصطلحات هامة نرى أنها تشتمل على بعض التعقيد للوهلة الأولى:
الأول: مصطلح ما وراء الأيدلوجيا أو الميتا أيديولوجي
الثاني: مصطلح الأيديولوجيا
الثالث: مصطلح البارادايم
الرابع: مصطلح الاستراتيجية.
هذه المصطلحات تتداخل في أذهان كثير من الناس، وتشكل حاجزاً دون التواصل بين العاملين في مجال النهضة بل والمتحاورين في كثير من الأحيان، ولذلك رأينا ضرورة فك الاشتباك بين هذه المصطلحات الأربعة وتوضحيها بقدر ما يتسع له المقام في هذا البحث.
ما وراء الأيديولوجيا:
مفهوم ما وراء الأيديولوجيا يمكن أن نقول عنه أنه مجموع النصوص المرجعية، سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة، وبصفتها نصوصاً مرجعية فعادة ما يحتكم إليها في الحديث.(6/142)
ولكل إنسان مراجعه الأساسية، ففي الفكر الإسلامي نجد خلفنا تراثاً يتمثل في المصدرين الخالدين؛ الكتاب والسنة، ثم في الكثير من أعمال الفقهاء والمفكرين والمفسرين والمحدثين وغيرهم. وفي التراث الغربي هناك هوبز ومونتسكيو وجان جاك رسو وغيرهم. كما نجد ماركس، ولينين، وإنجليز في هذا السياق الكبير الذي يمثله التراث. هذه كلها عبارة عن الكتابات المرجعية التي يستند إليها العاملون في مجال الأيديولوجيا، كل حسب تراثه ومعتقداته.
وبالنسبة للمسلمين تشكل النصوص مرجعية ووعاءً كبيراً ينطلق منه الجميع في الفهم وبناء الصورة الذهنية للإسلام، وعن الممكن وغير الممكن في نطاقه وفي نطاق أسواره. هذه النصوص المرجعية هي التي تشكل هذا البناء الذي يطلق عليه ما وراء الأيديولوجيا أو الميتا أيديولوجي. يقول أندرو هيود في كتاب Foundation of Politics أو "أسس السياسة" ".. إن الأيديولوجيا العليا أو خلفية الأيديولوجيا هي التي تضع الأساس التي تقف عليه الحوارات الأيديولوجيا.. فإذا شئنا قلنا أن قاعدة كل الحوارات الأيديولوجية بعد ذلك أو البناء الثاني الذي سنتحدث عنه هو النصوص والمرجعيات التي يستند إليها المتحاورون..".
الأيديولوجيا:
أما الأيديولوجيا وهي الطابق الثاني في هذا السياق فهي كما يقول أندرو هيود ".. عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى، توفر أساساً لعمل سياسي منظم سواء كان الهدف منه حفظ أو تشذيب أو هدم نظام توزيع القوة القائم..".
إذاً يمكن أيضاً - كما يقول هيود. - أن ينظر للأيديولوجيات على أنها "توفر تصوراً للنظام في شكل رؤية عالمية، وتوفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغيير السياسي. وهي في مستوى الجوهر اقتراب من الفلسفة السياسية. وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي".
نعود فنقول أن الأيديولوجيا عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى -ليست أفكاراً متناثرة بعيدة بعضها عن بعض- أي أنها أفكار تأتي في نسق ووفق عمليات ربط معينة، وهذه الأفكار عندما تجمع ويربط بينها تستخدم لعمل سياسي منظم. ونحن نعرف أن العمل السياسي في جوهره إما أن يقوم لحفظ نظام موجود، أو يقوم لتشذيب النظام وتعديله، أو لتغييره وإحلال شيء آخر مكانه. أما قول هيود في نظام توزيع القوى فهو يتوافق مع كون النظام السياسي في حقيقته هو نظام توزيع قوة. حيث تتوزع القوى بين رئيس الجمهورية أو رئيس الدولة وبين مجلس الشورى وبين المجالس المنتخبة أو غير المنتخبة وبين القضاء وبين الجهاز التنفيذي وهو الحكومة، فمن هذه الأبنية المتنوعة الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي والجهاز والقضائي، تتوزع القوى فيما بينها، إما بما يسمى توازن القوى أو باضطراب
القوى حسب النظام السياسي التي تتمثل فيه ولكن في الأخير هو توزيع للقوى بين الأطراف المختلفة داخل المنظومة السياسية.
لكن هناك أبعاد أخرى للأيديولوجيا - كما يقول هيود - ذلك أنها تشكل رؤية عالمية. فالليبرالية لا تعتبر نفسها بنت الولايات المتحدة الأمريكية أو بنت فرنسا أو المنظومة الأوروبية، بل ترى أنه يجب أن تهيمن على العالم. وهذا ما تصرح به كل الوثائق الرسمية التي تصدر من جميع الجهات
الأوروبية فهي منظومة تسعى للهيمنة، وبمعنى أخر أنها تعتبر نفسها منظومة معيارية. ولا تقتصر على بلد ما بل هي منظومة عالمية.
إن الأيديولوجيا في جوهرها هي منظومة قيمية لا تقتصر على مكان معين، بل يرى أهلها أنها صالحة للعالم كله. قس على ذلك المنظومة الشيوعية قبل سقوطها، وكيف كانت تنظر لنفسها كمنظومة عالمية. وكذلك المنظومة الإسلامية في منظورها العالمي. فالأيديولوجيا بشكل أو بآخر لها منظور عالمي.
كذلك من خصائص الأيديولوجيا؛ أنها توفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغير السياسي، وما الذي يجب تغييره. فهي تقدم تصوراً لشكل الدولة الذي يجب أن يكون. ففي الدولة الليبرالية الغربية أو في المنظور الليبرالي الغربي هناك شكل للدولة ترى أنه صالح أن يكون لكل الدول، وفي المنظومة الشيوعية مثل ذلك وفي المنظومة الإسلامية أيضاً تجد ذلك. أما قول هيود أن الأيديولوجيا "في مستوى الجوهر هي اقتراب من مستوى الفلسفة السياسية وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي" هو أن الأيديولوجيا لا تتوقف عند التصورات بل هي تقوم بالحشد وجذب الناس حول الفكرة ومحاولة تحقيقها على أرض الواقع.
بذلك يكون قد تكون عندنا طابقين: الطابق الأول "ما وراء الأيديولوجيا"، وهو مكون من النصوص المرجعية سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة. والطابق الثاني "الأيديولوجيا" حيث تربط هذه الأفكار وتطرح في عملية الاحتشاد حولها ومحاولة بعثها على أرض الواقع في شكل نظام.
البارادايم:
المفهوم الثالث وهو البارادايم ويقصد به: المنظور الشامل. ففي مرحلة تاريخية معينة، تسود بعض النظريات وتجد قبولاً والتفافاً من كثير من الناس حولها. وتصبح طريقة في التفكير وينطلق الإنسان في هذا السياق، ويتحدث مثلاً عن التنمية في فترة من الفترات، فيجد أمامه مجموعة تفسيرات للتنمية، كنظرية آدم سميث، أو تحليل ريكاردو، أو تحليل ماركس أو يجد نظرية الدفعة القوية أو نظرية النمو غير المتوازن. فالمقصود أن طريقة تفكيره تتأثر بمثل هذه المناظير الشاملة العامة ويطرح أفكاره من خلالها.
فالبارادايم عبارة عن مجموع المنظور الشامل المنتشر في فترة زمنية معينة، والذي يؤثر على أفكار الناس ويجعلهم ينطلقون منه في الحديث عن الأشياء، وذلك يشمل تصورات كثيرة جداً، حول السياسية والاقتصاد والتخطيط وغير ذلك من الأعمال.
وخطورة البارادايم أنه في كثير من الأحيان يغلق آفاق العقل على رؤية أحادية للواقع – منظار ذو لون محدد – تمنع رؤية الحقيقة الواضحة.
الاستراتيجية:
يخلط الناس بين هذه المفاهيم السابقة وبين ما يطلق عليه الاستراتيجية أو الخطة الاستراتيجية، فالخطة الاستراتيجية إذا أردنا التدقيق والتحقيق والتعرف على معناها دون اللجوء إلى المصطلحات المعقدة؛ فهي عبارة عن دراسة لعدد من الأشياء في واقع معين في مكان معين:
* دراسة الذات.
* دراسة الطرف الآخر المواجه.
* دراسة الأرض أو المجال الذي يتم الصراع فيه.
* دراسة الظروف المحيطة بالصراع.
* تحديد البدائل والوسائل التي يمكن بها تحقيق النصر.
* المفاضلة بين هذه البدائل.
* اختيار البديل الأمثل للوصول إلى الأهداف في ظل المعرفة الشاملة بالذات وبالآخر وبالأرض التي يتم عليها الصراع وبالمجال والظروف المحيطة بالصراع.
فالفارق بين الأيديولوجيا وما وراء الأيديولوجيا والبارادايم -وهو المستوى النظري الحاكم -وبين المستوى التخطيطي الذي يطلق عليه الاستراتيجية، هو عندما تنزل من وضع الدراسة والتحليل إلى وضع التشكل في وثيقة، أو في تصور فكري أو في شكل رؤية وفي شكل مهمة وفي شكل قيم وفي شكل مجالات عمل وفي شكل مراحل وفي شكل أهداف عامة.
هذا المستوى أيضاً يختلف عن المستوى الأخير، وهو مستوى الخطط التنفيذية، عندما تنتقل هذه الخطط الاستراتيجية العامة إلى منفذين سواء كانوا إدارات أو أقسام أو فروع وتصل إلى الخطط التفصيلية جداً على مستوى التنفيذ.(6/143)
حين نخلط بين هذه المستويات في الحديث ولا يتبين القارئ عن أي مستوى نتحدث، فإننا نقع في خطأ فادح. فحين نتكلم عن الأيديولوجيا والتصورات العامة ينطلق إنسان ليتساءل عن الخطة التنفيذية، أو يسأل عن الاستراتيجية!! عندها يصبح الاتصال بين الأطراف مرتبكا،ً فيجب تحديد مستوى الحديث حتى يمكن أن نتبين أن المستوى ينتهي عند نقطة معينة، ويبدأ المستوى التالي عند النقطة التي تليه.
ترتيب المفاهيم الأربعة:
الخطة التنفيذية
ما وراء الأيديولوجيا
الأيديولوجيا
البارادايم
الاستراتيجية
إذا أجرينا فك الاشتباك بين هذه الأدوار المختلفة، سنصورها كالتالي: بداية ما وراء الأيديولوجيا، وتقف عليها الأيديولوجيا، ثم يقف عليها البارادايم -إن صح التعبير- ثم تأتي قضية الاستراتيجية لتجعل الموضوع دقيقا متعلقاً بمكان وزمان وظرف محدد، ثم تأتي الخطط التنفيذية لنقل الموضوع إلى واقع الحياة العملية.
مقولة: "حسبنا كتاب الله وسنة رسوله e"
بقي أن نشير إلى معضلٍ كبير يواجه كثيراً من العاملين في الساحة الإسلامية عند الحديث عن موضوع النهضة، وهو قول القائل" حسبنا كتاب الله وسنة رسوله e" وهو قول صحيح، ومهم أن نتبين معناه قبل أن نسارع إلى الاختلاف حوله.
فعندما نتحدث عن فلسفة التاريخ، وعن النهضة وعن التنمية وعن العمل السياسي، فنحن نلجأ في كثير من الأحيان إلى أصحاب الفن والعلماء في هذه المجالات المتخصصة للاستشهاد بهم والحديث عنهم. وقول القائل هنا يعني أننا قادرون على الاستغناء عن كل ذلك بالرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة، وفي ذلك خلط كبير وظلم كبير للدين وللإسلام. ولبيان ذلك نقول قاعدة عامة هي أن العلم علمان: علم في الكتاب، وعلم أشار إليه الكتاب. فإن كتاب الله عز وجل فصل في العبادات وفيما هو من شأن الدين المحض، ولكنه عندما تعامل مع الخبرة الإنسانية قال "فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون"1. ولكل مجال من المجالات أهل الذكر فيه والخبراء فيه. وبالتالي هو مما أشار إليه القرآن ويدخل في ذلك العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية وكل ما يترتب على الخبرة الإنسانية إنما هو داخل في الكتاب الكريم وفي سنة رسوله r وفي العلم الذي أشار إليه الكتاب.
فإذا أدرك القارئ الفاضل هذه العبارة البسيطة أن العلم علمان علم بالكتاب وعلم أشار إليه الكتاب، زال اللبس والغموض حول هذا المعنى العام، أما إن أراد القائل أن أي اجتهاد بشري يخالف كتاب الله وسنة رسوله r فهو مرفوض، فهذا صحيح فعلمنا بكتاب الله وسنة رسوله يضع لنا موازين
عامة للقبول والرفض. أما إن كان يقصد أننا بقراءة الكتاب والسنة نستغني عن العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية فهو خطأ فادح وأمر بيِّن خطأه لا شك.
مواصفات القادة:
هناك تساؤل يقول: لماذا يجب أن يدرس القادة مشروع النهضة؟
كثيرٌ من الناس يملك زمام الأمور في المجتمعات الإسلامية وليس له تصور واضح عن مشروع النهضة، ما أدى إلى خلل كبير. وانظر إلى النموذج الذي طرحه جيمس كلاوسنتس 10 والذي يصف فيه القائد بأنه يتمتع بثلاثة أمور:
أولها: الرؤية Visionوهي تصور عما ينبغي أن يكون، مبني على كل ما ذكرناه في موضوعات ما وراء الأيديولوجيا والأيديولوجيا والبارادايم وكل هذه المعاني الكبيرة التي تقود إلى تصور ورؤية واضحة للمستقبل، وما يمكن أن يتحقق فيه في ظل معرفة الإمكانيات والممكنات.
ثانيها: الالتزام Commitment فالرؤية التي لا تعمل في فراغ، تحتاج إلى هذا الالتزام بها وبتحقيقها في أرض الواقع. فالالتزام والانضباط وتسخير الأوقات والجهود لتحقيق الرؤية، هي العنصر الثاني القيادي الهام.
ثالثها: المهارات القيادية أو المهارات الإدارية أو ما يطلق عليه Managerial Skills، وإدارة الناس وتوجيههم وحثهم واستقطابهم للقيام بالأعمال المنوطة بهم، وهو عمل كبير لا يتقنه إلا القادة البارعون. فالقائد لا يستطيع أن يقوم بمهامه بمعزل عن الناس، إنما يحقق أهدافه وأهداف مؤسسته من خلال استقطاب أكبر عدد من الناس لتنفيذ هذه الأعمال وللقيام بها. وكلما ازدادت قدرته على ذلك ازدادت إمكانية الفعل لديه وإمكانية التأثير. وانظر إلى هذه الدائرة التي تتكامل:
رؤية
التزام
مهارات
رؤية قوية وتصور واضح، فمجال عالم الفكر عند القائد من أهم المجالات الضخمة التي تفرقه عن المدير الذي قد يمتلك المهارات الإدارية ليسخر الناس للقيام بالأعمال التي يقومون بها، فهو لا يغادر الواقع الذي يعيش فيه إلى النظر للمستقبل، بينما القادة يمتلكون رؤية يدفعون المؤسسات والمجتمعات إليها ويقودونهم بها.
مستلزمات نجاح المشروع:
إن الكثير من الناس لا يدركون أن نجاح المشروع النهضوي مرتبط بمجموعة قضايا.
أولاً: الإحاطة بالمبدأ، والإيمان به والتقدير له11
* والإحاطة بالمبدأ هو وجود تصور شامل، وخارطة كاملة للمبدأ الذي ندعو إليه في ذهن العامل في مجال النهضة لمفهومها ومجالاتها.
* والإيمان به يطلق على وجود إيمان أو تصديق جازم بالفكرة وصلاحيتها، والمراد هنا الإيمان بأن هذه النهضة قابلة التحقق وأنها حق لهذه الأمة.
* وقضية تقدير الفكرة لا تأتي إلا بمقارنتها بغيرها، والإيمان بعلوها وسموها على غيرها، فكلما كانت الفكرة أكبر قيمة لدى معتنقها كلما كان الإنسان معطياً لها ما يوافق ثمنها وقيمتها.
هذه العناصر أمر تحتاجه أي فكرة ، فما بالك إذا كانت هذه الفكرة النهضوية هي
الإسلام. تستند إليه وتنطلق منه، وتسعى لتعزيز وجوده في عالم الإنسان وفي البشرية. كم يكون حجم العطاء وأهمية الإحاطة بالمبدأ والتقدير له حينها؟.
ثانياً: يلزمنا بعد ذلك معرفة المسار والخطوط العريضة التي تتحرك فيها عملية النهضة، فبدون معرفة المسار والخطوط العريضة، يصعب الحراك، وكثير من العاملين في الساحة الإسلامية لا يعرف المسار الذي تتحرك فيه النهضات، ولا يعرف مستلزمات هذا الحراك، وبالتالي تتقاطع الخطوط وتضطرب الصفوف وتضيع الجهود.
ثالثاً: موضوع التطوير المستمر، ففكرة النهضة ومشروعها ليس عملاً جامداً استاتيكياً لا حياة فيه؛ بل هو تفاعل مستمر مع العقل البشري يحتاج إلى تطوير مستمر. وفي كل فترة من الفترات يحتاج الخطاب الإسلامي النهضوي إلى تجديد في منطقه ومفرداته وفي مناطق تركيزه، بسبب تغير الظروف والأحوال والاهتمامات. كما يحتاج إلى معالجة جوانب القصور والانغلاق فيه، إذ لا يمكن أن يدعي مدعي من البشر أنه يمتلك فكرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فذلك أمر مستحيل ولذلك فعملية التطوير المستمرة ضرورية، يقول المولى عز وجل "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"12 فإن كان عمل فرد ما حسنٌ اليوم أو الأحسن اليوم، فيجب أن يأتي فرد آخر بأحسن منه.
وهكذا تستمر عملية التطوير المستمرContinuous Improvement من داخل المفهوم الإسلامي من خلال هذا المعنى الهام والعظيم "أيكم أحسن عملا". ذلك هو الهدف الرئيسي، وكلما كان هناك عملٌ حسن، كلما كان هناك عمل أحسن منه، ثم يأتي من يعمل أحسن من ذلك. وهكذا
تتطور الحياة وتتقدم.(6/144)
رابعاً: توسيع دائرة الشورى والمناصحة، ويعتقد الكثيرون أن دائرة التنظيمات والأحزاب المنغلقة كافية لتطوير المشروع الإسلامي، وبما أن المشروع الإسلامي كبير الحجم، ضخم التكاليف، فإنه لا يمكن إلا أن تقوم به الأمة مجتمعة بجهودها وجماعاتها ومنظماتها وحكوماتها وأحزابها وأفرادها، وبالتالي يجب أن تتسع دائرة الشورى والمناصحة لتشمل جميع المعنيين بأمر النهضة في المجتمعات الإسلامية دون إقصاء ودون حجر ودون تضييق، بسبب المذاهب والطوائف والجماعات والأحزاب والتصورات. فالإسلام أكبر من كل ذلك وهمه أشمل وأهم وأعظم.
خلاصة:
خلاصة الأمر في قول الله تبارك وتعالى في سورة العصر "والعصر * إن الإنسان لفي خسر*إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر*" فالمشروع الإسلامي يحتاج كأي فكرة إلى الإيمان به، إيماناً جازماً قاطعاً لا يحتمل شكاً ولا تأويلاً أنه الحق من الله سبحانه وتعالى، وأن العمل له واجب. وهذا الإيمان لا يتأتى إلا بإدراك الفكرة وعظمتها وسموها وشمولها. فمعرفة الفكرة والإيمان بها هو الشرط الأول لها.
المسألة الثانية تحرى أفضل الأعمال التي تقود إلى نجاح الفكرة، فإن الأعمال تتفاضل وتختلف درجاتها، فإذا ضيع الضروري واستعيض عنه بالحاجي أو عوض عن الحاجي بالتحسيني13 فإن في ذلك خللاً كبيراً. فصلاح الأعمال شرط لنجاح الأفكار وبالتالي يستقيم عند الإنسان النظر والعمل.
أما المسألة الثالثة التواصي بالحق. فالتواصي بالحق لا يكون إلا في مجموع من الناس حيث يتبادلون الآراء ووجهات النظر. وذلك معنى الشورى الشاملة التي يحتاج فيها المرء إلى من يعينه، ولا تقتصر على حزب أو طائفة من الطوائف، ولا على جماعة من الجماعات، كما ذكرنا سابقاُ.
أما قولنا تواصوا بالصبر فإن هذا المشروع النهضوي الضخم يحتاج كأي فكرة إلى صبر وأي صبر، وإلى تحمل وأي تحمل، فإن نجاح الأفكار العظيمة لا يتأتى بمجرد الآمال، إنما بالعمل الشاق المرير الذي تكرهه النفوس.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
أطوار حركة النهضة
صحوة
يقظة
نهضة
حضارة
حماس
رشد
حماس
رشد
إن حركة النهضة تمر بسلسلة من العمليات. تبدأ من طور الصحوة واليقظة، وتتجلى في شكل النهضة التي تولد بعدها أشكال العمران أو الحالة الحضارية في تجلياتها المادية.
الصحوة:
* وهي أولى مراحل انقشاع سحب التبلد الذهني. وسنستخدم هذا المصطلح هنا لوصف المرحلة الأولى في البعث الحضاري.
* من أعراضها الإيجابية: الإحساس بالذات والهوية.
* من أعراضها السلبية: عدم تمتع أشكالها التنفيذية الانطلاقية بالرشد الكامل، فهي في جزء منها قد تبدو فوضوية غير منضبطة.
فالصحوة هي إرهاصات لحالة جديدة تعتري مجتمعاً ما، واضحة أحياناً ومشوشة أحياناً أخرى. ولكنها صرخات الجنين الأولى وحركة من صحا من نومه فجأة، ولكنه لم يستيقظ بعد ويتنبه لمحيطه الخارجي بشكل سليم، فربما اصطدم بمقعد أو دولاب دون أن يقصد أو يريد. ولكن هذه الأخطار تزيده صحواً وتنقله للاستيقاظ الكامل. وقد جاءت مرحلة الصحوة للأمة بعد مرحلة سبات عميق وركود مميت مكَّن أقدام المستكبرين من أن تدوس أرضها، وأن تخترق سهام الأفكار الغازية فضاءها العقلي .. فانطلقت عمليات البعث الفكري الأولى بدءاً خجولاً في شكل دفاعي؛ لتطور نفسها بعد ذلك في شكل هجومي، ولكنها ظلت حركة عقلية للنخب والمثقفين، وليست زاداً للأمة بعمومها. فقيض الله من رجالات الأمة من نزلوا بهذه الأفكار لجماهير الأمة فبينوا عظمتها وسموها على غيرها، وكشفوا للأمة نقاط ضعف غيرها من الأفكار. ونجحت جهودهم في حشد الجماهير حول الإسلام, فتراجعت أمامهم جميع الأفكار وانزوت وانحصرت، ولولا سطوة السلطان ما بقى منها شيء.
والصحوة في جوهرها تيار عاطفي ضخم. تيار مؤمن بالإسلام ومبادئه, ولكنه قليل الخبرة، ضحل المعرفة بتفصيلات واقعه. تيار يفتقد الخبرة والصبر ليكتشف مناهج التغيير وطرائقه. تيار يتعجل قطف الثمار ولا يحسن فن ترقب الفرص. وفي خضم هذه العجلة دفعت الأمة وطلائعها الشابة الدم والدمع والعرض في مقابل القليل من النتائج. تضحيات كبيرة وثمرات قليلة. إنها مرحلة تعلمت الأمة فيها عقم واقعها وعظمة فكرتها، ولكنها لا تمتلك المناهج وخطط التعامل مع مشكلة الزمان والمكان، ولا تمتلك ما تحتاجه من تعدد الوسائل وطرق العمل وما يلزم لذلك من سعة الفكر والقدرة على الابتكار. وهي مرحلة على ما بها من حركة عشوائية أو شبه عشوائية وما بها من عثرات طبيعية في مسارات الأمم والشعوب - مرت بها فرنسا ومرت بها اليابان ومرت بها بريطانيا وغيرهم كثير - إلا أنها ظاهرة إيجابية تدل على أن الأمة قد أفاقت. إنها مرحلة تطول أو تقصر ولكنها موجودة لا محالة. إنها بشارة – رغم ما بها من آلام ومخاض – تقول أن الأمة قررت أن تهجر السكون.
أما اليقظة:
* فهي حالة تالية تنقشع فيها بقايا الخِمار العقلي، ويعرف فيها المرء مكانه ووضعه بالنسبة لما يحيط به من أشياء وبشر، فتتضح الرؤية، ويكيف حركته ليسير بين عالم الموجودات المادية حوله وينظم علاقته بعالم البشر المحيط به.
* أعراضها الإيجابية: الرشد والوعي والعمل المخطط المدروس، في ظل رؤية تجمع الجهود العملية التي كانت تبدو متباينة أو متضاربة في مرحلة الصحوة.
وميلاد مرحلة اليقظة من مرحلة الصحوة أمر طبيعي فلو كانت مرحلة الصحوة بطبعها طور (أولي الأيدي) أو التنفيذيين فمرحلة اليقظة تضيف إلى التنفيذ دور (ذوي الأبصار)، لتتكامل معادلة (أولي الأيدي والأبصار) التي أشار إليها القرآن14, إن العقول هنا تبدأ في التفكير في كل مسلمات المرحلة السابقة وطرق عملها. إنها مرحلة يطبعها الانتقال من طور المبادئ والعواطف والشعارات إلى إعمال العقل وإطلاق طاقاته الخلاقة. إنها مرحلة تتكثف فيها الجهود لفك الأغلال عن العقل. إنها مرحلة تبدع المناهج والتصورات اختراعات وأساليب جديدة، وتنقل الأمة من مرحلة الانتظار إلى مرحلة المشاركة الفعلية حتى تتجلى ثمرتها بعدها في مرحلة النهضة.
وأما النهضة: فهي حالة تالية عندما ينظم عالم الأفكار15 ويستيقظ عالم المشاعر16 ويندفع الإنسان فيها متحرراً من قيود الخوف ليمارس دوره في جميع المجالات.
* أعراضها الإيجابية: استشعار الإنسان لذة العمل والاكتشاف والقوة، فهي حالة تتخلل كل أشكال الحياة، وحالة تعطي للوقت قيمته في حياة الأمة، وتعطي للتفوق والإبداع تقديرهما. إنها مرحلة تدفق الشلال – الذي كان يسمى بالصحوة – ليصوغ كل مجالات الحياة - العلمية والتطبيقية - صياغة جديدة.
في مرحلة النهضة يعم نور البحث والنظر وتولد الإبداعات التي تؤسس لنشوء عالم الأشياء الذي يزود الحق بالقوة فيسيران معاً.
وأخيراً تأتي الحضارة:
وهي حالة من بناء النموذج المنشود في عالم الواقع متمثلاً في نموذج فكري متقدم، وعالم علاقات وسلوك17 متقدم، وعالم من الإنتاج المادي الصناعي والمعماري والفني متقدم18.
مشروع اليقظة
مما سبق يتبين أن مرحلة الصحوة قد استوفت أهدافها، وآتت أكلها في شكل تيار جارف من الطاقات التي تبغي نهضة أمتها. والحاجة الآن ملحة إلى الانتقال إلى مرحلة اليقظة، لاستثمار هذه الطاقات المباركة وفق رؤية استراتيجية لتندفع الجهود كلها في مسار النهضة.(6/145)
إن مرحلة الصحوة - كما ذكرنا - تمثلت في حماس جارف وقلة رشد وجهود قد تبدو متضاربة أحياناً، ومرحلة اليقظة تتطلب زيادة مساحة النظر والبحث لاستخدام وسائل جديدة وفق رؤية وشراكة استراتيجية تجمع كل الطامحين للنهضة.
أهداف مرحلة اليقظة:
نقل الأمة من طور الصحوة العاطفي(الحماس مع قلة الرشد وضبابية الرؤية) إلى مرحلة اليقظة الراشدة العاقلة حيث يتم تنظيم الجهود العملية وفق رؤية استراتيجية تجمع كل الطاقات.
العاملون في المشروع:
يضم المشروع كل جهد نافع لأي تيار أو حزب أو مؤسسة أو حكومة أو أفراد مستقلين.
احتياجات مرحلة اليقظة:
في اعتقادنا أن هذه المرحلة تحتاج إلى ثلاثة عوامل:
1. التحضير الفكري الشامل والمتواصل للأمة تحضيراً ينتشلها من اليأس، ويبعث فيها الأمل ويجيب على تساؤلاتها أو شكوكها، ويوضح الرؤية، ويرسم الطريق، ويفتح لها مسارات عمل جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة.
2. توصيل هذا المشروع إلى النخب المؤثرة الحاكمة بأحسن الوسائل، وأفضل السبل، بحيث تقتنع بإمكانية عودة الحياة الحضارية، والدخول في التنافس البشري حول الأولوية، منطلقين من قواعد المشروع الإسلامي الذي أطلقه المصطفى e بأمر من ربه جل وعلا.
3. إيجاد مشاريع عمل مشتركة بين كل تيارات الأمة - الراغبة في النهضة - لتؤدي إلى النتيجة الحتمية في نهضة مجتمعاتنا.
سياسات مرحلة اليقظة:
1. البعد عن الارتجال أو الاكتفاء باستثارة العواطف وفقط. حيث أن المرحلة يجب أن تسير في كل حركاتها على أدق قواعد البحث العلمي.
2. الانطلاق من القواسم المشتركة للعاملين من أجل نهضة الأمة.
3. عدم رفع لافتة لمدرسة مذهبية أو حزبية بعينها.
4. عدم إقصاء أي جهد نافع يصب في نهضة الأمة. حيث أن هذا المشروع لا يستغني عن النخب المؤثرة والقيادات الرشيدة الفاضلة من كل التيارات والأحزاب والجماعات وكل المخلصين من الحكام والمحكومين، بالإضافة إلى الدعاة والأفراد المستقلين.
لقد آن الأوان أن يرى هذا المشروع النور (مرحلة اليقظة) بشكل منظم، فمقدماته لم تنقطع من أعمال رجالات الإسلام ومفكري الأمة , آن أوانه وإلا ذهبت جهود الصحوة وتضحياتها هدراً وتساقطت ثمارها وجفت وزالت لغفلة الزرّاع عن ميعاد الحصاد.
إن هذا المشروع يهدف إلى تنظيم الخارطة المعرفية ويهدف إلى اجتثاث الأفكار القاتلة التي تعوق تيار الصحوة من التدفق والوصول إلى هدفه باحتباسه رهيناً لتصورات قاصرة ورؤى تجاوزها الزمن.
إلى هنا ينتهي الفصل التمهيدي وننتقل بعده إلى مشاهد الكتاب إن شاء الله.
المشهد الأول -العلم قبل القول والعمل
ولم يعد يكفي في الجواب عن ذلك:
1- كلام مرتجل،
2- أو خطابة تثير المشاعر،
3- أو عبارات تؤثر في العواطف،
4- بل صار واجباً على أهل الدعوة أن يصوروها للناس تصويراً منطقياً دقيقاً واضحاً،
5- مبنياً على أدق قواعد البحث العلمي،
6- وأن يرسموا أمام الناس الطرق العملية المنتجة التي أعدوها لتحقيق ما يريدون،
7- ولتذليل ما سيصادفون من عقبات لابد من وجودها في الطريق.
( رسالة دعوتنا في طور جديد )
المشهد الراهن
لا شك أن حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة قد لاقت قبولاً واسعاً بين المسلمين وبين الشباب المسلم. في عملية احتشاد كبيرة وضخمة في الظاهر. هذا الاحتشاد الكمي الضخم في الساحة الإسلامية قد شهدناه بالفعل في مناطق عديدة من العالم. وهذه الكتلة البشرية الضخمة - من حيث الكم - نشهدها في الشوارع، وفي الجامعات، وعند صناديق الاقتراع في كثير من الأحيان عندما تتاح الفرصة للناس أن يعبروا عن آرائهم.
هذا التيار الضخم الذي استطاع أن يستقطب الكثير من الناس يقوده الإيمان التقليدي. سواءً بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية. ونقصد بالإيمان التقليدي هذه العاطفة وهذا الإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب.
هذا المشهد الرائع الذي نرى فيه جموع المسلمين الغفيرة تنقاد بإيمانها نحو تحقيق مشروعها وحلمها الضخم تشوبه بعض الشوائب أو الدخن. فهذه الجموع تعاني من اضطراب شديد حول تحديد أهدافها وتدرجها وتتابعها، وحول مراحل السير، وحول الوسائل وطبيعتها، وغيرها من الأمور المتعلقة بحركة المشروع وتطوره. مما أدى إلى كثرة التساؤلات التي لا تجد من يجيب عليها، وحتى إذا وجدت الإجابات فلا تجد من ينشرها ويوصلها للجماهير المتعطشة إليها.
فإذا تخيلت معنا هذا المشهد الذي يصور ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي وقد ازدحمت بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والإيمان القوي، وهم يسيرون أحياناً ويجلسون أحياناً أخرى، تارةً يتفقون وتارةً يتخبطون وتارة يتوهون في ساحة الفعل
الواسعة المترامية الأطراف في العالم كله. إنه مشهد يسرك للوهلة الأولى حيث ترى كثرة الجموع والمخلصين، ولكن ما أن ترى تحركاتهم وإشاراتهم وتلويحاتهم وسكونهم وشرودهم وتخبطهم وطريقة سيرهم حتى يصيبك الحزن والذعر من الفوضى العارمة التي تسود هذا المشهد.
رفع الواقع:
ليراجع كل منا نفسه، ثم لينظر إلى العاملين والمتحمسين والمؤمنين بالمشروع الإسلامي المحيطين به - أياً كان انتماؤهم - وليعرض هذه التساؤلات على نفسه أولاً ثم عليهم بعدها. ومن الإجابات يمكننا أن نرفع الواقع المحيط بنا:
1. هل الإيمان بالمشروع النهضوي متجذر يحدوه الأمل واليقين أم متلعثم يسوده الشك والتردد؟
2. هل الفكرة واضحة في خطوطها العريضة ومقنعة أم أنها ضبابية ومبهمة؟
3. هل الأسباب والدوافع لتبنيها واضحة صلبة أم هشة رخوة؟
4. ما درجة إلحاح الفكرة بمعيار الوقت والجهد المبذولين فيها؟
5. ما هو هدف المشروع النهضوي الذي تتحرك له الأمة؟
6. ما هي ضمانات نجاح المشروع؟
7. ما هي الإمكانات المتاحة؟
8. ما هي المهارات اللازمة لنجاح المشروع؟
9. ما هي العوائق في وجه المشروع؟
10. ما هي الأخطار المتوقعة؟
11. ما هي النتائج الملموسة والفوائد المتوقعة إذا نجح المشروع؟
12. ما هي وسائل تنفيذ المشروع؟
13. ما هي مراحل السير في المشروع؟
14. ما هي السياسات المتبعة في تنفيذ المشروع؟
15. ما هي تكلفة المشروع؟ (المال والبشر وغيرها من الموارد)
إذا وجدت إجابات هذه الأسئلة الخمسة عشر حاضرة لديك ولدى المحيطين بك من العاملين فهذا يعني سلامة الموقف وصحة الحالة. أما إذا كان العكس فالوضع جزء من المشهد السابق.
نقطة البدء:
إن مشروع النهضة المعاصر في شقه الإسلامي - والذي لقي القبول على مستوى واسع فيما عُرِف بظاهرة الصحوة- يحتاج إلى الكثير من النظر والتجويد، حتى يؤتيَ ثماره، ويحقق النصاب الذي يحدث به التحول الاجتماعي المطلوب في مجتمعات المسلمين.
فقول الله عز وجل: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"19 يجب أن يُلحظ فيه أن السنن الاجتماعية في التغيير تتعلق بالأقوام والمجتمعات، وليست في جوهرها تحول يحدث لفرد أو اثنين أو عشرة أو عشرين.. إنه لابد من تشكُّل نسبة اجتماعية معينة تصل إلى الدرجة الحرجة20. أي تحول نوعي وكمي كافٍ لإحداث التغيير في المجتمعات، كما نرى في الثورات الاجتماعية الكبرى كالثورة الفرنسية والبلشفية وغيرها.
إذاً هذا التحول لا يحدث تلقائياً.. وقد أشار الرسول r إلى هذا الأمر في الحديث الذي رواه أبو داوود فقال: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال :"بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور(6/146)
أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن".. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
"فالصحابة رضوان الله عليهم في محاولة تفسير هذه الظاهرة - عملية التغيير السلبية – فكأنهم يرجعون هذه المسألة إلى عالم الكم. ولكن النبي r يرد القضية إلى مسارها الحقيقي بوعي سنني عميق بعيداً عن عالم الكم قائلا: "بل أنتم كثير".. ينظر فيرى تحول الواقع الإسلامي من خلال تحول رصيد ما بالنفوس"21 وإن صح التعبير إلى النوع كبديل عن الكم.
إن من الواضح أن الاحتشاد الكمي كبير جداً في الساحة الإسلامية، أما الاحتشاد النوعي فهو قليل جداً، للأسباب التي سنحاول أن نعالج بعضها في هذا السياق الذي نتحدث عنه.
ولا يعني ذلك زهداً في الكم، ولكن يعني أن الكم النوعي داخل هذا المجموع هو الذي يوظف الجهود ويقود عملية التحول حتى تؤتي ثمارها. "ويجب أن يتوافر في أفراد الكتلة الحرجة الإصرار والمثابرة والبعد عن الروتين الحكومي، فالكتلة الحرجة تدربوا على مخاطبة الرأي العام وكيفية التأثير على الآخرين، وهم يملكون خبرات ومهارات يجب استعمالها بدون الروتين الحكومي، ويجب أن يعتبر كل فرد منهم مسئولاً عن هذه المؤسسة .. مسئولاً عن توضيح الحقائق والرد على المغالطات. إن هذه القوة الضاربة تستطيع أن تحدث تأثيراً كبيراً في الرأي العام وتشكله..."22
المطلب الأول:
إن أول المطالب العقلية والشرعية تقول أن العلم مقدم على القول والعمل. فالعلم أولاً، وبعده يأتي القول والعمل. والعلم هنا علم حقيقي وليس علم متوهم. علم حقيقي بالموضوع الذي يتم الحديث عنه. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. ونحن هنا نتحدث عن النهضة، وقد أشرنا في التمهيد إلى أن النهضة هي عبارة عن نشاط عقلي فكري في المقام الأول، يحدث في مجتمع من المجتمعات، يقود إلى الانطلاق في مجالات العمل في كل مناحي الحياة، واكتشاف آفاقها، في السياسية والاقتصاد والاجتماع والعلوم التطبيقية وغير ذلك.
هذا الحراك المستمر النشط الذي يفتح أبواباً جديدة، ويعيد اكتشاف العالم مرة أخرى، ويوفر مساحات جديدة للنظر في الحياة، يطلق عليه النهضة.
ولكي تشهد مجتمعاتنا مثل هذا التحول الضخم تحتاج إلى عاملين:
العامل الأول: وهو بناء كتلة حرجة كمية وكيفية تستطع أن تحرك عجلة التغيير.
والعامل الثاني: أننا نحتاج إلى رفع كثير من القيود التي تعوق عملية التحول والوصول إلى هذه الكتلة.
عاملا تحقيق النهضة
بناء كتلة حرجة
كمية وكيفية
رفع القيود المعيقة لعملية التحول والوصول لتلك الكتلة
لذا فإن هذا العمل الضخم هو عمل مزدوج يقوم على بناء الكتلة وفك القيود التي تحول دون نمائها وتطورها.
إذا تبين لنا هذا النموذج البسيط الذي نتحدث عنه، وقررنا أن الكتلة البشرية الحالية الموجودة من ناحية الكم ليست بالقليلة. سنجد أن الكتلة النوعية التي تحول الكتلة الكمية إلى قوة حقيقة فاعلة، وتستثمرها، هي المُعوَّل عليها – حقيقةً - في إحداث التغيير بعد الله سبحانه وتعالى واستمداد عونه.
الفهم.. الفهم
نقول أن تيار الصحوة الإسلامية قد استقطب كثيراً من الناس. ولكنه فرط لعقود مديدة في اكتساب الكم النوعي الذي يحسم الرهان في نهاية المطاف. والذي يقوم باستثمار الحدث لصالح اندفاعة جديدة وتقدم جديد للمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
إذاً الإيمان التقليدي - سواء بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية ونقصد به هذه العاطفة والإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب - من غير وعي لمستلزمات تحقيق النتائج لهذا الصواب أمر في غاية الخطورة يهدد كل هذه الجهود العملاقة بالخطر.
وبذلك يكون أول واجباتنا أن نُكوِّن داخل هذا البناء الضخم كماً أكبر من العقول قبل أن نعتني بالكم الكبير من الأرقام والزيادة الكمية - إن صح التعبير - البشرية.
يقول الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"23، فالعلماء هم أعلم وأكثر فهماً ووعياً لفضل الله ونعمته؛ لاطلاعهم على دقائق الأمور وآثار الكون من خلال البحث والنظر.
وهكذا نستطيع أن نقول أن قضية العلم مقدمة على القول والعمل. وقدمنا سابقاً أن العلم
لا يقصد به فقط العلم بالكتاب والسنة؛ إنما العلم بما أشار إليه الكتاب والسنة من هذا الكون الواسع الفسيح، في العلوم التطبيقية، وفي التجربة الإنسانية عامة، "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"24. هذا النظر الواسع في الكون، هذا البحث الاستنطاقي للتجربة البشرية مطلوب بشدة في هذه المرحلة التاريخية من حياة الأمة ومن تقدمها.
وسنتناول هنا نموذجين اثنين يوضحان مكان العلم من القول والعمل، وكيف أنه يسبقهما.
النموذج الأول:
دورة حياة اتخاذ القرارات
لو تساءلنا: كيف تتشكل عملية اتخاذ القرارات في الواقع في مشروع النهضة الإسلامي بشكل عام؟سنجد أن عملية اتخاذ القرارات تتشكل في ستة مستويات. يمثلها هذا النموذج. وليس هذا النموذج منطبقاً فقط على الحالة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية؛ بل هو نموذج عام ينطبق عليها وعلى غيرها. وهذه المستويات الست هي:
المستوى الأول: النصوص المرجعية والتراث الثقافي:
لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية مرجعية نصوصية تراثية وثقافية. فإذا نظرنا إلى الحالة الإسلامية نجد أن المرجعية التي تستند إليها هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وذلك لتتعرف على أحكام الإسلام وتعاليمه في العقائد والتصورات والعبادات والتشريعات والأخلاق والآداب وشتى مجالات الحياة.. وكمعيار لبيان الصواب والخطأ.. يقابله في الفكر الغربي تراث كبير شكلته المسيحية كديانة، ثم أفكار مفكري عصر النهضة. من أمثال توماس هوبز، جان جاك روسو وغيرهم كآباء مؤسسين للفكر الغربي في السياسة والاقتصاد والاجتماع حيث تعتبر نصوصهم – وفقاً لتصوراتهم - بمثابة النصوص "المقدسة" في الديانات السماوية، مع الفارق الواضح.
فلكل مجتمع مستوى تراثياً نصوصياً يحتكم إليه ويرجع إليه للنظر في الحاضر والمستقبل ويمثل مصفاة أولى Filter في عملية اتخاذ القرار.
مستوى المرجعية
نصوص مقدسة
تراث ثقافي
المستوى الثاني: مستوى علوم العصر وقناعاته
فعلى مستوى علوم العصر وقناعاته سنجد أن لكل عصر مفاهيم تطرح نفسها في الساحة، وتحتاج إلى مناقشة وتطوير، وتفرض نفسها بصيغة أو بأخرى على كل أعمال هذا العصر.
فمثلاً في الفترة الإسلامية الأولى سنجد أن كل المفاهيم والمصطلحات والمناقشات كانت متأثرة بالكتاب والسنة، وبالتراث العربي الذي دخل في تكوين هذه العقلية العربية في الفترات المبكرة منها بحكم الواقع. فهناك الشعر والأدب واللغة، وكلها تشكل العقل من حيث ندري أو لا ندري، وجاءت نصوص الكتاب والسنة المقدسة على هذا التراث لتزيل منه الفاسد وتقوم فيه ما يجب أن يقوم.
إذاً على مستوى النصوص المرجعية في فترة من فترات الأمة كان الكتاب والسنة مع ما هو موجود من التراث العربي القائم يمثل المرجعية والقناعات، ثم وجدنا المسلمين يتقدمون إلى حضارات أخرى. فتدخل الفلسفة والمنطق إلى ساحة العالم الإسلامي وتحدث صراعات وتحولات كبيرة جداً على مستوى الفكر، ويصبح هناك منظاراً جديداً للنظر لنصوص الكتاب والسنة. وتظهر المدارس الفلسفية المتنوعة في العالم الإسلامي. وهكذا في كل عصر سنجد أمامنا مثل هذه التحولات.(6/147)
وإذا جئنا في العصور الحديثة وجدنا أن بروز الشيوعية أثرى الحياة بنظرات وكتابات جديدة جداً وأثَّرت هذه اللغة - على الأقل في بعدها الاشتراكي الاجتماعي - حتى على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. وكذلك الرأسمالية أثَّرت على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. ثم جاءت اكتشافات العصر لتضيف أبعاداً، وتتطور العلوم الإنسانية لتضيف أبعاداً أخرى.
وهكذا تستمر عملية المدخلات على المستوى الثاني من علوم العصر وتطوره، وتؤثر - إن صح التعبير – كمصفاة ثانية Filter للنظر إلى الواقع واستشراف المستقبل من خلال النصوص السابقة.
وبذلك يكون لدينا مستوىً ثانٍ يجب تصوره في هذا البناء الكلي، وهو مؤثر وهام في كل عصر من العصور.
المستوى الثالث: أعمال المفكرين في كل عصر:
الآن يأتي دور قادة النهضات ليستوقفوا التراث ويستفيدوا من علوم العصر ومدخلاته ويكوِنوا ما يسمى بالأيديولوجيا. وهي عبارة عن الأفكار المنظمة المترابطة التي يجتمع حولها الناس، تفسر لهم الواقع، ترسم لهم خط العمل في المستقبل - طريق التغيير السياسي بالذات - وتبشرهم بغد أفضل25.
هذا التعريف للأيديولوجيا ينقلنا لمستوى ثالث، وهو أعمال المفكرين في هذا العصر التي تستلهم من النصوص المرجعية والتراث الثقافي (المستوى الأول)، وتستلهم من علوم العصر وقناعاته (المستوى الثاني) لتخرج بمنظومة فكرية (الأيديولوجيا) تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترشدهم إلى طريق التغيير. ومن هذا المستوى تُستقى كثير من التصورات حول ما الذي يجب عمله لاستنهاض الأمة. وتمثل هذه الأيديولوجيا المصفاة الثالثة Filter في عملية اتخاذ القرارات.
النصوص المرجعية والتراث الثقافي
علوم العصر وقناعاته
أعمال المفكرين في كل عصر
الأيديولوجيا
+
مصفاة
يستلهم منها القادة
وإذا استعرضنا مسار المشروع الإسلامي ابتداءً من محمد بن عبد الوهاب، إلى السنوسية، وإلى خير الدين بربروسا، وإلى جمال الدين الأفغاني، وإلى محمد عبده ومدرسته، والكواكبي ثم محمد رشيد رضا، ثم حسن البنا في فترة لاحقة، ثم بعد ذلك حزب التحرير للنبهاني. سنجد أمامنا عشرات التصورات حول طرائق العمل والأيديولوجيا المناسبة للانطلاق للمستقبل. كل هذا يضعنا أمام منظومة للمستوى الثالث.
المستوى الرابع: تصور الحل وبداية التخطيط الاستراتيجي:
نأتي إلى أن كل حركة نهضة إنما تعمل في مكان وزمان محدد، هذا المكان وهذا الزمان له ظروفه ومعطياته ومدخلاته. فالواقع في إفريقيا غير الواقع في آسيا غير الواقع في أوروبا غير الواقع في أستراليا. ثم إذا نظرنا إلى المناطق الأصغر للدويلات التي تنتشر في هذه القارات سنجد أن كل دولة لها ظروفها ومعطياتها. وحركة النهضة عندما تنطلق، تنطلق من منطقة ما - على الأقل من ناحية المفكر والمؤسس - فيتشكل بذلك مستوى رابع يضع تصورات الحل الخاص بهذه المنطقة. ويبدأ التخطيط لواقع محدد وظرف محدد. هذا المستوى من التخطيط والذي يطلق عليه التخطيط الاستراتيجي يضع تصورات وأفكار وحلول في مدى زمني منظور يمتد إلى عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة، لكنه تخطيط ينظر لظرف وزمان ومكان محدد. هذا المستوى الرابع – التخطيط الاستراتيجي – لا يزال محصوراً في عالم التصورات والأفكار قبل الدخول في عالم التنفيذ.
المستوى الخامس: الخطط القصيرة المدى:
ثم يأتي تخطيط على مستوى أدنى من ذلك. وهو المستوى الخامس والذي يتكلم عن خطط قصيرة المدى: ماذا نفعل على مدى سنة من الزمن؟
وهنا لابد أن تكون المستهدفات محددة، وأن يكون التحرك أكثر دقة، وتأتي التفصيلات على هذا المستوى المحدد من الأفكار.
المستوى السادس: الخبرات العملية:
نستطيع أن نقول أنه ينتج عن ذلك مستوى سادس وهو الخبرات العملية المتولدة عن الاحتكاك بالواقع. هذا الاحتكاك بالواقع يولد مراجعات لمستوى النصوص و العلوم و الفكر و التخطيط الاستراتيجي و الخطط القصيرة الأمد، وتعود الدورة مرة أخرى لتستمر كدورة حية كاملة لتغيير الواقع والتعامل معه.
وبذلك يكون أمامنا ستة مستويات تتولد عنها القرارات المحركة للنهضة.
1) النصوص المرجعية والتراث الثقافي
2) علوم العصر وقناعاته
3) أعمال مفكري العصر
4) تصور الحل وبداية التخطيط البعيد المدى
(التخطيط الاستراتيجي)
5) خطط قصيرة المدى
6) خبرات من الاحتكاك تدعو للمراجعة
دورة حياة اتخاذ وتشكل القرارات المتعلقة بالحراك النهضوي
النموذج الأول
النموذج الثاني:
احتياجات قادة المشروع الإسلامي:
إذا فهمنا النموذج السابق فهماً جيداً، وحاولنا أن ننتقل لفلسفة النهضة أو لمشروع النهضة في عصرنا الحديث، وتساءلنا:
* ما الذي يجب على صناع القرار في مشروع النهضة أن يفعلوه؟
* وما الذي يجب أن يزود به ويعد له هؤلاء الصفوة المختارة من معارف وعلوم تضمن لعملية الانتشار والتوسع والقبول بين جماهير الناس أن تحقق أهدافها من خلال نوعية القيادة التي ننتجها؟
* ما الذي تحتاجه هذه القيادة لإنجاز المشروع الإسلامي؟
وللإجابة على هذه التساؤلات ننتقل إلى النموذج الثاني والذي يتكون من خمسة مستويات:
المستوى الأول: تصور واضح على مستوى الفلسفة والبواعث:
إن أول قضية رئيسة يحتاج إليها العامل في مشروع النهضة – والذي يعرِّفه برغوث عبد العزيز في كتابه "المنهج النبوي والتغيير الحضاري" بأنه (المبلِّغ الذي يحمل هم الدعوة الحضارية التي تنبثق في أصولها ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي) - أن يكون لديه تصور على مستوى الفلسفة والبواعث. ويدخل في جملة ذلك تصورٌ متكاملٌ للإسلام ، غير ممزقٍ ولا مجزأ. تصور واحد يجمع الإسلام في رؤية أو في إدراك واضح لأبعاده المختلفة. ولعل محاولة سعيد حوى في كتاب "الإسلام" تقدم نموذجاً لوضع صورة متكاملة للإسلام - وإن لم تكن الأمثل - إلا أن حسب المرء أن يقدم ما يستطيع في لحظته
التاريخية وزمنه. ويمكن إضافة الكثير على ما كتبه الأستاذ سعيد حوى عليه رحمة الله. إلا أن هذه المحاولة
تعتبر محاولة متميزة وإن كنا نقول أنه ينقصها الكثير والكثير من العمل.
ويدخل في هذه الفلسفة تصور واضح عن موضوع البحث، وهو النهضات. ودراسة الخبرات الإنسانية المتعلقة بالنهضات، واستكشاف القوانين الفاعلة واستخلاصها بحيث تكون هي المنارات الكبرى والأساسية التي يدور حولها بعد ذلك التخطيط والتنفيذ.
ويدخل في ذلك أيضاً وبدون شك كل ما يمكن أن يوسع مساحة الإدراك العقلي. كمدخل واضح لعلم السياسية والاقتصاد والجيوبوليتك وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ والتفاوض السياسي والتخطيط الاستراتيجي. كل هذه العلوم تجعل القاعدة العقلية للفاعل النهضوي أكثر قدرة على التعامل مع قضايا الواقع. وكلما انتقص شيء من هذه العلوم كلما كانت الأحكام على الأشياء لاحقاً أضعف، وأحياناً تعرض المشروع النهضوي للخطر الشديد. فالحكم على الشيء - كما أسلفنا - فرع عن تصوره.
إذاً يجب على من يعمل في مجال النهضة أن يكون لديه تصور جيد لمستوى النصوص ومستوى علوم العصر ومستوى قوانين النهضة، وبالتالي يستطيع أن يُكون بدايات جيدة، وقاعدة صلبة قوية يضع عليها وتنطلق منها بقية المستويات.
مستوى الفلسفة والبواعث
تصور للإسلام متكامل
تصور عن النهضات
تصور لعلوم العصر
القوانين الفاعلة واستخلاصها
الخبرات الإنسانية المتعلقة بالنهضة
المستوى الثاني: تصور واضح على مستوى الأهداف:(6/148)
لقد تحدثنا عن أهمية الصورة الواضحة على مستوى الفلسفة والتصور الذهني العام. ومن المهم أن تكون الأهداف أيضاً واضحةً وبشكل جلي، خاصةً لهذه الكتلة الحرجة النوعية داخل البناء الإسلامي العام.
وقد شهدنا في السنوات الماضية الكثير من الاضطراب حول مستوى الأهداف، وتدرجها وتتابعها والنظر إليها. فمعظم الأهداف التي نادت بها الحركات والمؤسسات الفاعلة في الساحة الإسلامية لم تتحقق26.. وبدون منظومة أهداف عامة - يستطيع أن يهضمها العامل في ساحة النهضة -
لا يمكن أن ننجز شيئاً؛ لأن مستويات الأهداف تتضارب وتتشعب، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك الهام والأهم منها.
المستوى الثالث: تصور واضح على مستوى المراحل:
ثم لا بد للعاملين في مجال النهضة أن يدركوا مراحل السير. وفي مراحل السير أيضاً يأتي ما نطلق عليه الغطاء النظري للمرحلة. فكل مرحلة من مراحل العمل تحتاج إلى غطاء نظري يقوم به قادة النهضة وشراحها. إذ أن جماهير العاملين تحتاج إلى ملاءة كبيرة تفسر المرحلة، وتدفع بالجهود، حتى تؤتي المرحلة ثمارها. أما إذا تحرك الناس في فراغ، فإن هذا الفراغ يخلق الاضطرابات والنزاعات والتشتت، وهو ما نشهده في كثير من الأحيان في ساحة الفعل النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
أهمية تفسير وتنظير المرحلة (الغطاء النظري)
إعطاء الأمل
تفسير الظواهر
تحديد ما يجب عمله
إذاً تصور مراحل السير في غاية الأهمية. وبالتالي لابد من تزويد العاملين في مشروع النهضة بمراحل السير بشكل واضح ومميز.
المستوى الرابع: تصور واضح على مستوى الوسائل:
وهناك أمر رابع في غاية الأهمية، وهو تصور الوسائل. وتصور الوسائل يأتي من العلم الحقيقي بعملية التغيير، وما تحتاج من وسائل، وكيف تمت عمليات التغيير عبر التاريخ. أما أن يضغط
الواقع في اتجاه معين لتقييد الوسائل في ذهن العاملين في مشروع النهضة، فذلك أمر خطير، لأنه يجافي العلم، ويجافي المنطق.
ولا يميز الكثيرون بين مستوى اختيار وسيلة محددة بسبب ظرف معين وإقصاء أخرى لأسباب موضوعية في فترة محددة، وبين الحديث عن حرمة هذه ومنع تلك، وتغيير تلك الوسيلة ورفض وسيلة أخرى.
يجب النظر لوسائل التحول الاجتماعي كلها، وتدريسها، وبيان إيجابياتها وسلبياتها، وتحت أي شروط تفعل، وتحت أي شروط يصبح ضررها كبير، وبالتالي تتكون العقلية العلمية التي نحتاجها في الصفوة المختارة داخل حركة النهضة الإسلامية.
المستوى الخامس: تصور واضح للواقع وقضاياه:
ثم لابد من تصور واضح للواقع وقضاياه. فإن عدم إدارك قضايا الواقع واتخاذ موقف حيالها ضعف شديد وخطر جسيم.
الأمر الآخر الخطير أن توجد الإجابات على تساؤلات العاملين ولا نجد من يستطيع أن ينشرها، ويوصلها للجماهير المستهدفة، وهم طلائع النهضة، والعاملين في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية.
كما نحتاج أيضاً إلى تصور للواقع وقضاياه، وإجابات عليها. فلا يمكن أن تكون قضية الحرية والعدالة والمساواة والعلاقات الدولية والقضايا الأخرى مغيبة من عقول الشباب، ومن عقول العاملين في الساحة الإسلامية، ومتروكة لمن ليس له باع في العلم. وقليلو العلم في الساحة كثر.
إذاً نحن نحتاج إلى قول واضح غير مشتت في الدين، في الاجتماع، في السياسة، في الاقتصاد، في العلاقات الدولية، وما إلى ذلك. وأن يصل هذا الأمر مقنعاً إلى العاملين في الساحة الإسلامية. ولا يكون الهدف منه أن تكون هناك نسبة مائة بالمائة مقتنعة به؛ إنما أن يكون هذا هو الأعم والأغلب والأكثر انتشاراً والأكثر قبولاً؛ لأن ساحة الفعل عند الحركة إذا اضطربت لا يمكن جمع شتاتها.
المستوى السادس: الخبرات العملية المتولدة من الاحتكاك:
ثم لابد من أمر أخير. إن الممارسة والاحتكاك بالواقع تولد خبرات. وهذه الخبرات - للأسف الشديد وفي كثير من المجتمعات وربما كظاهرة تراثية - عندما تتعلق بدراسة مفاصل حساسة للفشل في مراحل معينة، يتم تجنبها، والهروب منها، لعدم إثارة العواطف والنزاعات، وعدم التشهير بالأفراد والأشخاص وما إلى ذلك. وتحرم الأمة من خبرات كبيرة كان يجب أن توظف لصالح عدم تكرار هذه الأخطاء في المستقبل، لأن عملية استكمال دورة الحياة لمشروع النهضة تستلزم هذه المراجعات المستمرة لمناطق الفشل بالذات قبل مناطق النجاح، بحيث لا يكرر الفشل. وتكرر نفس الأسباب دون أن تستفيد الأمة منها عبرةً ووعياً.
إذاً يحتاج قادة مشروع النهضة الإسلامي - في النموذج الثاني الذي نتحدث عنه - إلى قراءة في النصوص والفلسفة والبواعث، وإلى تصور دقيق لقوانين النهضة، ويحتاجون لأهداف واضحة، ويحتاجون إلى غطاء يفسر مراحل السير، ويحتاجون إلى تصور للوسائل، ويحتاجون إلى تصور لقضايا الواقع، ويحتاجون إلى قراءة جيدة لسلبياتنا وإيجابياتنا؛ حتى يزيدوا من الإيجابيات ويتفادواْ السلبيات في مستقبل الأيام.
الخبرات العملية
تصور للواقع وقضاياه وإجابات الأسئلة
تصور واضح للوسائل
تصور واضح للمراحل (ومعرفة غطاء المرحلة)
تصور على مستوى الفلسفة والبواعث (الإسلام الشامل)
تصور واضح على مستوى الأهداف
النموذج الثانياحتياجات قادة النهضة
هذه القضايا كلها تحتاج إلى العلم قبل القول والعمل. وكثير من العاملين ممن يطمحون لقيادة عملية النهضة - ونتيجة البطالة الفكرية أو نتيجة القصور في الساحة النهضوية العامة الموجودة في المجتمعات الإسلامية والأمران الموجودان – يعانون من كسل شديد في العلم والتعلم.
كما يوجد قصور شديد من جانب أدوات النشر والإعلام - بمن فيهما من المفكرين - في التأكيد على أهمية العلم قبل القول والعمل.
ونتيجة لكسل العاملين وقصور أجهزة الإعلام تزدحم ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والعلم القليل، ثم يتصدون لشؤون العامة، ولقضايا الأمة، فيسيئون من حيث أرادوا الإحسان.
هذا الخلط بين الكم العاطفي وبين النوعية التي يرتكز عليها البناء في أي مجتمع من المجتمعات خلط خطير، وإذا استمر يهدد هذه الجهود الضخمة وهذه الصحوة الإسلامية بالخطر الكبير.
المشهد المستقبلي:
إنه المشهد نفسه.. الذي يضم الكثير من العاملين الأفاضل الأخيار، ذوي العواطف الجياشة، والإيمان القوي. إلا أنك لا ترى فيه هذه الفوضى العارمة، ولا هذا الاضطراب المخيف.
إنك تلحظ في هذا المشهد كماً أكبر من العقول التي تقود هذه الجموع الضخمة المتعاطفة والمتحمسة. تراهم يجيبون على تساؤلات الجموع بثبات وثقة.. يصيغون الأفكار.. يتخذون القرارات.. يمدون جماهير العاملين باحتياجاتهم المشروعة، من معرفة بالأهداف والمراحل والوسائل وغيرها.
إنها جموع على قلب رجل واحد.. يتحركون معاً.. ويسكنون معاً.. ويهرولون معاً.. ويقفون معاً.. حتى إذا اختلفوا فهم يجيدون فن الاختلاف.
نحو التنفيذ:
للوصول إلى هذا المشهد الجميل المبهج لا نحتاج إلا لمطلب واحد، ألا وهو العلم قبل القول والعمل. ونقصد به نشر العلم النافع والمتعلق بقضية النهضة بين تلك الجموع الغفيرة. وحث هذه الجموع على التعلم والتخلي عن البطالة العقلية. فإذا ما انتشر العلم كثرت الكتلة النوعية المبتغاة. ولتحقيق ذلك:
* لابد أن يحرص العاملون في المشروع الإسلامي لنهضة الأمة – أفراداً كانوا أو جماعات – على امتلاك أدوات القادة ومنها:
* أدوات العلوم الشرعية.
* أدوات العلوم الإنسانية.
* أدوات العلوم الإدارية.
ويمكن الرجوع في ذلك إلى سلسلة أدوات القادة.(6/149)
o لابد أن يحرص قادة المشروع على توضيح البواعث والأهداف والمراحل والوسائل وظروف الواقع والمراجعات والخبرات للعاملين في المشروع، مع مراعاة أدق قواعد البحث العلمي، وبعيداً عن الارتجال.
+ لابد أن يحرص قادة النهضة والعاملون على دراسة تجاربهم السابقة، وتجارب غيرهم من العاملين، والوقوف على نقاط القوة والضعف فيها، وإلا تكررت الأخطاء.
o لابد أن يحرص العاملون - أفراداً كانوا أو جماعات - على تكوين رؤية وتصور واضح عن الواقع وقضاياه، من خلال الاتصال المباشر بالوسائل الإعلامية المختلفة، والقراءة المستمرة لتحليلات مفكري العصر.
o لابد أن يتم التواصل والتفاعل بين قادة وطلاب النهضة من جهة وبين مفكري الأمة وعلمائها وإعلامييها من جهة أخرى.
تذكر أن
* النهضة هي نشاط عقلي فكري، يقود إلى الانطلاق في شتى مناحي الحياة.
* أول مطالب النهضة "علم حقيقي".
* العلم مقدم على القول والعمل.
* الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
* الكتلة الحرجة هي الكتلة الكمية والنوعية الكافية لإحداث التحول والتغيير في المجتمعات.
* النهضة بحاجة إلى كتلة كمية ضخمة، وكتلة نوعية مزودة بأدوات القيادة.
* النهضة تحتاج إلى كم أكبر من العقول لقيادة الجموع الضخمة المتعاطفة.
* اتخاذ القرار يحتاج إلى: علم بالنصوص، ومفاهيم العصر، وآراء مفكري العصر، والتخطيط الاستراتيجي، والتخطيط قصير المدى، والخبرات المولدة للمراجعة والتقويم.
* ليست كل فكرة أيديولوجيا، ولكن الأيديولوجيا هي المنظومة الفكرية التي تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترسم لهم طريق التغيير.
* احتياجات طلاب النهضة: علم بالبواعث، وبالأهداف، وبالمراحل، وبالوسائل، وبالواقع، وبالخبرات.
* القادة الذين لا يجيبون على أسئلة الواقع يسمحون بتفجير الأوضاع من حولهم، ثم يستنفذون كامل طاقاتهم في إخمادها.
المشهد الثاني -البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية
المشهد الراهن
إنه مشهد يصف النفس الطموحة المتحمسة يلجمها ويوقف اندفاعها غياب النموذج الواضح لبواعث النهضة الإسلامية
تعج ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بالكثير من الحركات والتجمعات؛ بل والأفراد الذين يعملون لإحداث نهضة إسلامية حقيقية في مجتمعاتهم. هذه الجموع الضخمة من العاملين في المشروع لابد وأن لديهم بواعث27 دفعتهم دفعاً نحو المشاركة الفعَّالة في إحداث التغيير.
وتعاني الكثرة الغالبة من المشاركين في المشروع الإسلامي من عدم القدرة على تحديد هذه البواعث أو توضيحها وشرحها للآخرين. فهي بالنسبة لهم كائن هلامي ضخم يستشعرون وجوده؛ بل هم على يقين كامل وثقة تامة من وجوده، إلا أنهم لا يستطيعون تحديد شكله أو أبعاده. ولا يستطيعون وصفه أو رسمه أو تحديده.
وهكذا هي البواعث.. يستشعرها العاملون، ويتيقنون بوجودها بين أضلعهم، إلا أنهم لا يستطيعون شرحها وتوصيفها بشكل دقيق وعلمي لجماهير الأمة ليلحقوا بركبهم. فاختلجت صدورهم، وتلجلجت الكلمات على ألسنتهم، وفقدوا الثقة في أنفسهم، فتخلف الكثير عنهم.
رفع الواقع
ما هي البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية التي يتفق عليها الجميع؟؟
ليراجع العاملون في كل مكان أنفسهم. وليحاولوا أن يشرحوا لأنفسهم أو لمن حولهم بواعث النهضة الإسلامية. فإذا تمكنوا من شرحها وتبسيطها وتوضيحها فبها ونعمت.. وإن لم يستطيعوا فليبدءوا معنا في تحديد هذه البواعث الكبرى الأساسية المشتركة بين جميع العاملين في الساحة الإسلامية والتي يجتمعون عليها ويلتفون حولها.
وتعين هذه المحاولة على رفع الواقع المحيط وتحديد مواطن الخلل.
نقطة البدء
كيف انطلقت فكرة النهضة في مجتمعاتنا الإسلامية؟؟
نستعرض في هذا المشهد البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وقد أشرنا في المشهد الأول إلى قضية هامة، مفادها أن المستوى الأول للفكر الإنساني وكيفية تشكيله هو مستوى المادة الخام للنصوص المرجعية، سواءً كانت مقدسة أو تراثية (مستوى النصوص المرجعية والتراث الثقافي).
ثم قلنا إن المستوى الثاني من الأفكار هو ما يطرحه العقل من مدخلات وتصورات تواكب ثقافة العصر وعلومه (مستوى ثقافة العصر وقناعاته).
وسنحاول من خلال استعراض هذا المشهد بناء لبنة جديدة في تفكير طلاب النهضة من خلال تناول البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وذلك من خلال محاولة الرد على هذا السؤال: ما هي المحركات الأولى التي أطلقت فكرة النهضة في المجتمعات الإسلامية؟
الباعث الأول
نموذج الإسلام
أول بواعث النهضة هو مبدأ شمول الإسلام
إن رؤية الصورة الكلية للإسلام وبيان معنى شمول الإسلام هو من الضروريات والواجبات وليس من التحسينيات
يوضح هذا النموذج مبدأ شمول الإسلام. وعلى الرغم من أن كثيراً من المسلمين لا يدركون بصورة واضحة معنىً واضحاً لشمول الإسلام، إلا أنه يندر أن يوجد مسلم لا يقول بأن الإسلام يحتوى على كل شيء فالله تبارك وتعالى يقول: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"28، ويقول: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين"29. ففي الوعي العام للمسلم يحتوي الكتاب والسنة - المرجعية الإسلامية الأولى - على منظومة مهيمنة على الحياة، وإن لم تتضح معالم هذه المنظومة لدى العامة.
وبما أننا نهتم بتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في مشروع نهضة الأمة، فإن رؤية الصورة الكلية للإسلام، وبيان معنى هذا المفهوم المجمع عليه - ألا وهو مفهوم شمول الإسلام - نعتقد بأنه من الضروريات ومن الواجبات، وليس من التحسينيات أو من نوافل القول.
الطابق الأول في البناء الإسلامي
ويتكون الإسلام من بناء قاعدته العقيدة الإسلامية، والتي تقوم على التوحيد الخالص لله عز وجل - ربوبيةً وألوهيةً وأسماءً وصفات - ومن هذه الوحدانية المطلقة التي يؤمن بها الإنسان المؤمن، ومن التصديق الجازم بأن رسول الله r نقل عن ربه عز وجل هذا المنهاج لتكوين الأمة ولبناء مجتمع إنساني جديد، يقوم الطابق الأول من البناء الإسلامي.
العقيدة
الطابق الثاني
أما في الطابق الثاني للبناء الإسلامي فتوجد العبادات لتعزيز البناء
تمثل الطوابق الثلاثة الأولى الحماية الداخلية للمجتمع من الذوبان التام في الحضارات والمنظومات الأخرى
الإسلامي. تذكيراً بالعقيدة، ونقلاً للإسلام من دائرة الفكرة إلى دائر العمل، من خلال التذكير اليومي للمسلم، والتذكير الأسبوعي، والتذكير الشهري، والتذكير السنوي بأنه صاحب منهاج وطريق حياة. ولن نستفيض في هذا الشرح عن وظيفة كل عبادة من العبادات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام،
وما يندرج تحت هذا النوع من العبادات من مسميات وأسماء ومعان تنفع المؤمن.
العقيدة
العبادة
الطابق الثالث
ننطلق إلى الطابق الثالث في بناء الإسلام، وهو طابق الأخلاق والتزكية. وله منظومة كاملة يقوم عليها.
العقيدة
العبادة
السلوك
قمة البناء
ثم إذا نظرنا إلى قمة الهرم في الإسلام سنجد مفهوم الجهاد. ورغم الخلاف القائم بين من يتحدثون عن جهاد الدفع وجهاد الطلب، فإننا نتحدث في هذا السياق عن المعنى العام الذي يستوعبه مفهوم الجهاد، وهو أن يكون للمجتمع المسلم جيش يحمي حدود دولته، ويصونها من الاختراق الخارجي.
يمثل الجهاد الحماية الخارجية للدولة الإسلامية، بينما يمثل نظام الحسبة وديوان المظالم الحماية الداخلية للدولة الإسلامية(6/150)
ثم يأتي في المرتبة التالية بعدها نظام كان يطلق عليه ديوان المظالم، والذي يطلق عليه في عصرنا هذا المحكمة الدستورية العليا. وهذا النظام يقوم على حماية الفرد العادي ومؤسسات الدولة من جور ذوي الجاه والسلطان.
ثم يأتي نظام ثالث وهو نظام الحسبة ليقوم بحماية المجتمع الإسلامي من الداخل، والاهتمام بصورته النقية الناصعة، ليكون مثالاً ونموذجاً لبقية المجتمعات.
العقيدة
العبادة
السلوك
الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا
الجهاد: ذروة سنام الإسلام
أعمدة البناء
إذاً في قمة البناء الجهاد وديوان المظالم ونظام الحسبة. وفي قاعدة البناء العقيدة والعبادة والأخلاق. وبالإضافة إلى ذلك لم يترك الإسلام فرعاً من فروع الحياة – كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام
للإسلام بناء كامل ومنظومة قيمية كاملة.. تضعف ممارستها أحياناً وتقوى أحياناً.. لكنها تظل نظاماً كاملاً للحياة يسترشد به ويقاس به الصواب من الخطأ
والصحة والقانون وغير ذلك - إلا وأدلى بدلوه فيه، فيضع له بعض الضوابط، وينظم فيه بعض القواعد حتى يضبط الحركة فيه. هذه الفروع تمثل أعمدة البناء التي تربط بين قاعدته وقمته.
العقيدة
العبادة
السلوك
الإعلامي
التعليمي
السياسي
الاقتصادي
الاجتماعي
الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا
الجهاد: ذروة سنام الإسلام
من هذا البناء المتكامل نشأ في وعي المسلمين أن هناك منظومة إسلامية قيمية كاملة - لها كينونتها، ولها شخصيتها، ولها تجلياتها في أرض الواقع - تمت ممارستها عبر القرون. وتضعف هذه الممارسة أحياناً، وتقوى أحياناً، ولكنها في وعي المسلم تمثل نظاماً كاملاً للحياة يُستهدى به، ويُسترشد به، ويُقاس به الصواب من الخطأ.
في ظل هذا الوعي بالذات، ينشأ وعي بالآخر المغاير. فحيث وجد وعي بالذات وتصور لها، فكل ما هو خلاف الذات وخارجها له تصور آخر ووضع آخر. وتلك معضلة كبيرة تقف أمام عمليات الهيمنة على المجتمعات
هذا النموذج هو الباعث الأول لنهضة المجتمعات الإسلامية
الإسلامية، فهي مجتمعات لها منظومتها القوية التي لا تسمح لها بالذوبان في المنظومات المغايرة. وهي بذلك تختلف عن مجتمعات أخرى منظومتها القيمية هشة، ويمكن استيعابها داخل منظومة الحضارة الغربية.
فإذا اتضحت هذه الصورة للإسلام الشامل وتم الاتفاق عليها، كانت أحد باعثين كبيرين في حصانة المجتمعات الإسلامية، وقدرتها على التترس حول هويتها في أوقات الأزمات من خلال شرائح معينة في المجتمع.
شريعة
عقيدة
العقيدة
العبادة
السلوك
الإعلامي
التعليمي
السياسي
الاقتصادي
الاجتماعي
الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا
الجهاد: ذروة سنام الإسلام
نظم ومعاملات
نموذج الإسلام
أخلاق
الباعث الثاني
التحديات الكبرى: تخلف يقابله نهضة..
استعمار يقابله تحرر.. فرقة تقابلها وحدة
التحديات الكبرى
إن كل تحدٍ يتعرض له الإنسان لابد وأن يواجهه بسلسلة من الاستجابات التي يرجو من خلالها دفع هذا التحدي عنه، وهذا قانون بشري جامع في المدافعة عندما يحيق بالمجتمع ضرر أو تتهدد مصالحه.
فإذا جئنا لهذا القرن الذي انقضى، سنجد أن هناك ثلاثة أمراض أو قضايا كبيرة شكلت حزمة من التحديات في وجه المجتمع الإسلامي وقد كانت تحتاج إلى إجابات مكافئة.
أما التحدي الأول الذي اكتشفه المجتمع الإسلامي لدى دخول نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م فكان حالة التخلف التي يعيشها هذا المجتمع، والذي كان مشدوداً إلى نموذجه الخاص، ولا يعتقد بوجود نموذج منافس له. فانكشف له في تلك اللحظة التاريخية الصعبة من حياة الأمة أن المجتمع الإسلامي في حالة تخلف بالنسبة للآخر الغربي المقابل.
ثم مع دخول المستعمر برزت معضلة أخرى أو تحدٍ آخر، وهي معضلة الاستكبار والهيمنة واستغلال موارد البلاد والتحكم في شؤونها. وتلك قضية أخرى كانت تحتاج إلى ما يقابلها.
ثم وجد المسلمون - الذين كانوا يمثلون مجتمعاً واحداً تحت دولة الخلافة الإسلامية العثمانية والتي كانت بمثابة الكيان السياسي الوحيد المعبر عن المجتمعات الإسلامية – وجدوا أنفسهم متجزئين. وحدثت عملية تفتيت كبيرة وضخمة للمجتمعات الإسلامية، وأُنشئت دويلات صغيرة في كل أنحاء العالم الإسلامي.
قضايا وحلول
هذه التحديات أو القضايا الثلاث: التخلف، والاستعمار، والتفتيت، نشأ في مقابلها ثلاثة حلول، أصبحت هي الشعارات العامة لحركة المجتمعات الإسلامية بعد ذلك، وهي: النهضة في مقابل التخلف، والتحرير في مقابل الاستعمار، والوحدة في مقابل التمزق والتفتيت.
إنه خلاف حول المرجعية وليس حول القضايا.. المنظومة الإسلامية أم المنظومة الشرقية أم المنظومة الغربية
ولم يكن الخلاف الذي نشأ في المجتمعات الإسلامية – فيما بعد - حول موضوع النهضة أو التحرير أو الوحدة؛ بل حول المرجعية أو المنظومة التي تُنفذ من خلالها هذه الشعارات أو الحلول. هل هي المنظومة الثقافية الإسلامية، أم يجب استجلاب المنظومة الشيوعية أو المنظومة الرأسمالية للتحول؟ وما زال هذا الصراع في المجتمعات الإسلامية على أشده حول هذه المرجعية. هل يقوم بناء النهضة والتحرير والوحدة على أرضية الإسلام أم يقوم على أرضية المنظومة الغربية بعد أن سقطت المنظومة الشرقية؟
وبغض النظر عن هذا الخلاف القائم، فستظل هذه القضايا الثلاث - التخلف الذي تقابله فكرة النهضة، والاستعمار الذي تقابله فكرة التحرير، والتفتيت الذي تقابله فكرة الوحدة – هي محور الصراع إلى يومنا هذا، وحتى يشاء الله.
أمراض الأمة
و قضاياها الكبرى
التخلف
الاستعمار
التفتيت
النهضة
التحرير
الوحدة
من أين نبدأ؟
التخلف هي حالة من القابلية للاستعمار.. وهما يمثلان وجهان لعملة واحدة
وتُثار في الأذهان الكثير من التساؤلات حول السبب الأصيل في نكسات أمتنا وانكساراتها. هل هو الاستعمار أم التخلف أم الفرقة والتمزق؟ ولماذا نلقي بتبعات أعمالنا على الآخر دائماً ونكيل إليه الاتهامات حول هزائمنا ونكساتنا؟
وتستخدم هذه الذريعة أو هذا المنطق في إسكات كل صوت يشير إلى الاستعمار كسبب أصيل في مشكلة العالم الإسلامي.
أما التخلف فهو ظاهرة تسبق الاستعمار. وسنتناول هذه الظاهرة وأسباب ظهورها في مجتمعاتنا الإسلامية - بشيء من التفصيل - في مشهد لاحق.
وظاهرة الاستعمار والتي كانت الوجه الآخر لظاهرة التخلف - بمعنى أن المجتمعات المتخلفة تشكل فراغاً يغري كل القوى التي تمتلك القدرات على أن تهيمن على هذه المجتمعات وتستفيد من ثرواتها - هذا الاستعمار والاستكبار والرغبة في الهيمنة - والتي هي جوهر الاستعمار - كرست التخلف وكانت شرطاً لاستمراره. فكلما أراد مجتمع من المجتمعات الإسلامية أن ينطلق من عقال التخلف أعادته آليات الاستعمار إلى نقطة الصفر مرة أخرى. فما نشتكي منه حالة تخلف تؤدي حالة الاستعمار إلى ديمومته واستمراره.
أما قضية الوحدة فأمرها يحتاج إلى تفكير مليٍّ بعد أن فُتِّتَ العالم الإسلامي هذا التفتيت الكبير، وسنتناولها في كتاب آخر إن شاء الله. لكن حسبنا في هذا السياق أن نشير إلى منظومة ثالثة نريد من طلاب النهضة أن يتذكروها، ألا وهي نظرية الاستعمار.
نظرية الاستعمار
خطوات أوروبا الأولى نحو الاستعمار تمثلت في النهضة الأوروبية ثم في العلمانية
النقطة الأولى: النهضة الأوروبية(6/151)
إذا تخيل العاملون للنهضة شلالاً من الأحداث، يبدأ من نقطة هي النهضة الأوروبية من بداية القرن الخامس عشر الميلادي- أي حدوث التحول العلمي المعرفي العقلي في المجتمعات الأوروبية، والتحول الاقتصادي الرأسمالي في المجتمعات الغربية، والتحول الاجتماعي الذي سنتحدث عن مظاهره اللاحقة بعد ذلك، والانطلاق من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الليبرالية ثم الديمقراطية بعدها - هذه النهضة والتي تمثلت في هذه التحولات الكبيرة في المجتمعات الأوروبية يمكن أن تكون نقطة البداية في هذا الشلال.
النهضة الأوروبية
تحول علمي معرفي عقلي
تحول اقتصادي رأسمالي
تحول اجتماعي
النقطة الثانية: العلمانية
ثم لننطلق مع شلال الأحداث إلى المرحلة الثانية، فيتجلى أثر هذه العوامل التي ذكرناها في:
1. بروز ظاهرة روح الفردية في المجتمعات الأوروبية.
2. بروز ظاهرة الإلحاد بنسب مختلفة. حيث لم يبق من الكنيسة في الداخل إلا الرمز، إلى جانب دورها الخارجي في ترويج الحالة الاستعمارية. أما في المجتمعات الأوروبية فالغالب الأعم من المجتمع ملحد بشكل من الأشكال.
كان من الممكن أن تكون العلمانية نموذجاً أوروبياً محلياً. ولكنها كأي أيديولوجيا لا تقبل البقاء في مساحة من الأرض؛ بل تعد نفسها نموذجاً عالمياً لابد من تطبيقه في كل أنحاء العالم
3. بروز ظاهرة الربا. فالمجتمعات الأوروبية مجتمعات ربوية بشكل لا مثيل له.
4. بروز ظاهرة الإباحية - أي أنماط العلاقات غير الشرعية والشاذة بين الرجل والمرأة؛ بل بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة - في هذه المجتمعات. والتي هي في أساسها تمرد على ظاهرة الزواج وظاهرة الأسرة، إلى أنماط جديدة من ألوان المعاشرة الجنسية والاستمتاع بالغرائز الجسدية.
شكلت هذه الظواهر الأربع قناعات لدى قادة المجتمع الأوروبي قادتْهُ إلى التوصل إلى ضرورة نزع الدين من ثلاث مناطق: المدرسة والمحكمة ونظام الحكم. وتكرس في أوروبا مبدأ العلمانية على هذه الأسس. أن المدارس يجب أن تُجنب الظاهرة الدينية، وأن المحاكم يجب أن تُنفذ فيها قوانين وضعية لا علاقة لها بالأديان، وأن نظام الحكم هو نظام بشري، يضعه البشر، ولا يجب أن يتدخل فيه أي نص سماوي.
كان هذا تشكيلاً للحياة الأوروبية، وكان يمكن أن يكون نموذجاً محلياً، ولكنه كأي أيديولوجيا لا تقبل البقاء في مساحة من الأرض، بل تعد نفسها نموذجاً عالمياً لابد من نقله إلى كل أنحاء العالم.
روح الفردية
الإلحاد
الربا
الإباحية
الحكم
المدرسة
المحكمة
الحكم
المدرسة
المحكمة
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
Liberalism is an unfinished project
لقد أيقن المشروع الغربي في تحركه أنه يحتاج إلى مبرر أخلاقي، فكانت مهمة الرجل الأبيض وتحرير الشعوب ونقل الحضارة ونشر الديمقراطية هي مبرر عمليات الاستعمار
النقطة الثالثة: تشكل الأيديولوجيا
أما النقطة الثالثة من الشلال فهي تحول هذه المنظومة الفكرية القيمية إلى أيديولوجيا تسعى للهيمنة على مستوى العالم. وتقرر أن بقية المنظومات ما هي إلا منظومات ثانوية، يجب أن تتوارى في مقابل هذا المشروع الضخم - كما يقول بعض الكتاب الغربيين في مراحل لاحقة (Liberalism is an unfinished project) فهو مشروع لم ينتهي إلى الآن ويجب أن يستمر حتى يُنجز على مساحة العالم بالكامل.
النقطة الرابعة: إنشاء الدول الرديفة
لإيجاد هذا المشروع الذي يحتوى هذه الأيديولوجيا، أو يقف على هذه الأيديولوجيا الليبرالية بالمعنى الغربي - وخاصة في شقها المتعلق بنزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - والذي يستند إلى ذراع أكبر، وهي القضية الاقتصادية، واستغلال موارد الدول الأخرى -تحرك المشروع الغربي. ولكنه أيقن في تحركه وانتشاره بأن أي عملية استعمار تحتاج إلى مبرر خلقي. فاتُخذت تكأة الرجل الأبيض30، وقضية تحرير المجتمعات الأخرى كمنطق للتحرك. وهنا لعبت الدبلوماسية والعسكر - وبعد ذلك المدارس والجامعات والإعلام - دوراً ضخماً في تكريس النموذج وتحريكه من بلد إلى آخر. فتمكن المشروع الغربي من فرض سيطرته على الدول الناشئة والتي بدأت تتبلور فيما بعد حركة التحرير وثورة هذه المجتمعات ضد ظاهرة الاستعمار. ثم تم إغراء من لم يقع تحت هذه السيطرة بقضية الاستدانة لتنمية بلادهم. ومع وجود الفراغ العلمي والقصور الإداري والفساد المالي،
الدول الرديفة هي الذراع الأيمن القوي الذي يستند عليه المشروع الغربي في أمتنا
كانت المحصلة الأكيدة أن تبدد هذه الأموال، ولا يحسن استخدامها، وأن تقع هذه الدول في شراك مصيدة الديون، والتي لم تخرج منها حتى بعد استقلالها. وإلى اليوم تقع كثير من دول العالم في أمريكا الجنوبية وفي العالم العربي وفي العالم الإسلامي وفي آسيا تحت مصيدة الديون التي تتراكم شيئاً فشيئاً، وتؤدي إلى المرحلة الأخرى، وهي العجز عن السداد. ثم يتدخل صندوق النقد الدولي والقوى الاستعمارية لتفرض سيطرتها على اقتصاد هذه الدول. وتصبح هي المسيطرة على الاقتصاد. فتكون بذلك مرحلة أخرى من الشلال قد بدأت، وهي المطالبة بتطوير هذه البلاد – والمقصود به نزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - لإقامة الدولة الرديف المؤيدة والمساندة للمشروع الغربي، والمعارضة والنابذة لهوية الأمة. وبالتالي تصبح هذه الأنظمة، وهذه الدول بمثابة الذراع الأيمن القوي الذي يرتكز عليه المشروع الغربي في أمتنا، والذي يبطش بأعداء هذا المشروع.
أصبح العالم مقسماً إلى منظومتين. استعمارية تمثلها دول الشمال، ومُستغلة محرومة تمثلها دول الجنوب
وهكذا يتم تأمين انتشار وتطبيق النموذج الغربي وضمان استمرار تدفق المصالح إليه – بأيدينا وبأموالنا - مع حرمان هذه الدول من المعرفة الحقيقية، والقدرة على النهوض الاقتصادي المستقل فيما بعد.
النقطة الخامسة: انتشار المشروع وانتقاله
وهكذا يصبح عندنا حلقة مفرغة من تعزيز الحالة الاستعمارية ثم دعم ودفع المشروع مرة ثانية في دول أخرى. وهكذا أصبحت هناك منظومة عالمية تتكون في القلب من النظام الاستعماري أو الدول التي تقع في القلب وتمثلها الآن - كما يقال - دول الشمال، ومنظومة تقع في دائرة الاستغلال والحرمان من المعرفة العلمية الحقيقية العميقة وتمثلها دول الجنوب. ومن هذه الجدلية الكبيرة تبرز ظاهرة الصراع الموجودة الآن في العالم،
الانتشار والانتقال إلى دول أخرى
النهضة الأوروبية
العلمانية
أيديولوجيا تسعى للهيمنة
إنشاء الدول الرديفة
الحرية والعدالة والتعاون هي صمام أمان العالم
إن القضايا الثلاث الرئيسة التي تحتاجها البشرية هي: الحرية والعدالة والتعاون. فإذا افتقدت الأمم الحرية والعدالة، وغاب التعاون - الذي لا يتحقق إلا بهما - تنشأ الاضطرابات والصراعات، وتنشأ إشكاليات لا حصر لها ولا يمكن وقفها، لأن تلك سنة الله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"31. ولا يتم هذا التدافع إلا بطغيان بعض القوى على قوى أخرى والأمر لله من قبل ومن بعد.
الخلاصة
بواعث النهضة الحقيقية لهذه الأمة تتمثل في مبدأ شمول الإسلام، والتحديات الكبرى(6/152)
أشرنا في هذا المشهد إلى باعثين كبيرين هما: مبدأ شمول الإسلام الذي يشكل المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، والظاهرة المستجدة على هذه المجتمعات والتي مثلتها ظاهرة التخلف والاستعمار ثم التفتيت، وأدت إلى نشوء حركة ضخمة لها وجهان: الوجه الأول حركة وطنية أو قومية تريد أن تدافع وتغالب المستعمر لتخرج من التخلف إلى النهضة، ومن الاستعمار إلى التحرير، ومن التفتيت إلى الوحدة، ولكن على أسس عرقية أو على أسس وطنية. أما الوجه الآخر الذي برز في المجتمعات الإسلامية ومثل ضمير الأمة فهو المناداة بنفس المطالب - النهضة والتحرير والوحدة - ولكن على قاعدة الإسلام، وعلى قاعدة المنظومة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة وتكونت في اللاوعي عند هذه الجموع الضخمة من المسلمين.
من بواعث النهضة
مبدأ شمول الإسلام
التحديات الكبرى
التخلف
التفتت
الاستعمار
المشهد المستقبلي
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد اتضحت في عقولهم بواعثهم نحو النهضة والتغيير. فانطلقوا يجوبون الآفاق. يبينونها للجاهلين، ويشرحونها للغافلين. ويمدون بها أيديهم نحو الغارقين والتائهين. في ثقة وقوة وثبات. فانطلقت الأمة - كل الأمة - يحدوها الأمل نحو غد أفضل مشرق.
نحو التنفيذ
نموذجان إذا حفظتهما وأتقنتهما، انطلقت نحو الجماهير في قوة وثبات وثقة.
ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد لطلاب النهضة أن يحفظوا ويفهموا ويستوعبوا النموذجين المذكورين. وهما:
نموذج الإسلام: الذي يمثل الباعث الأول للنهضة، والذي يعجز الكثيرون عن شرحه وتبسيطه في كلمات معدودات؛ بل ويغفلون جوانب فيه ويركزون على جوانب أخرى. إما ناسين أو متناسين. ولعلاج هذه المشكلة ليس على طلاب النهضة سوى استيعاب وحفظ الشكل أو النموذج الشارح لمبدأ شمول الإسلام.
نموذج التحديات الكبرى: والتي تمثل في مجموعها الباعث الثاني للنهضة. والتي لا يستطيع الكثيرون سردها أو ترتيبها في أذهانهم أو في حديثهم. وننصح الرواد بحفظ النموذج الموضح للتحديات الكبرى وما قابلها من استجابات أو شعارات.
تذكر أن
* للنهضة باعثان أساسيان هما: مبدأ شمول الإسلام، والتحديات والقضايا الكبرى التي تواجه الأمة.
* التحديات التي تواجه الأمة هي: التخلف والاستعمار والتفتت.
* النهضة تقابل التخلف، والتحرير يقابل الاستعمار، والوحدة تقابل التفتت.
* أجمع العاملون في الساحة على وجوب مدافعة هذه التحديات الثلاثة، ولكن اختلفت المرجعية وقاعدة الانطلاق ما بين إسلامية وقومية ووطنية واشتراكية وغيرها.
* المحطات الكبرى للمشروع الغربي هي: النهضة الأوروبية، ثم العلمانية، ثم تبلور الأيديولوجيا، ثم إقامة الدول الرديفة، ثم الانتشار والتنقل بين الدول المختلفة لبسط السيطرة والهيمنة.
* مطالب الأمم ثلاثة هي: الحرية والعدالة والتعاون.
المشهد الثالث -قضية التخلف
المشهد الراهن
إنه مشهد يصف حالة التخلف التي وصلت إليها الأمة.. يصف أنماط التفكير السائدة لدى الصفوة.. حيرة وإعراض عن التعلم وتقليد وانسياق
عندما نرفع أستار التعصب والتحزب والعاطفة عن هذا المشهد - وهي أستار تحول دون رؤية المشهد على حقيقته - سنجد أمامنا جموعاً - في غالبها - قد أجدبت أفكارها وأقفرت. وسنجد إقبال أبناء الصحوة الإسلامية - وهم الطليعة المنوط بها قيادة عملية التقدم والنهضة والتغيير - على القراءة والعلم والتعلم ضعيفاً. وإقبالهم على قراءة التاريخ، والتجارب الإنسانية بعمومها نادراً ومحدوداً، ويكاد يقتصر على نموذج أو نموذجين مبتورين لإسم أو إسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر. كما أن استخدامهم وتفعيلهم لأدوات العلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان نادر، وإقبالهم على فتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى قليل.
وفي وسط المشهد سنجد جموعاً تدور حول نفسها. اجتمعت على اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده، وبدلاً من فتح آفاق للمستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر.
وبجوار هذه الجموع الدائرة سنجد أناساً قد وقفوا لا يريدون أن يبرحوا أماكنهم. يحملون شعارات ويرفعون رايات كُتب عليها: "نحن أعداء ما نجهل" ويصيحون قائلين: هذا طريق أو محاولة جديدة لا نعرفها، فلماذا نسلكها ونجربها أو حتى نستمع إليها؟؟!! فبدلاً من أن يقول قائلهم: لم لا نحاول؟ نجده يصرخ ويقول: لم نحاول؟؟!!
وفي أطراف المشهد سنجد مجموعة من المقلدين. لا يتساءلون وإنما يقلدون فِعل الأقدمين وأعمالهم دون تفكير في جدواها في لحظتها الراهنة.
وخلفهم سنجد آخرين يعتمدون الظنون والأوهام دون مطالبة قادتهم بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل
يصور المشهد منظومة فكرية سائدة في ساحة النهضة الإسلامية. يشعل أوارها - بحسن نية - كثير من المؤسسات الخيرية والأحزاب والجماعات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية
ويفترضون أن الخطأ غير وارد ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. كما أنهم يعتقدون أن قياداتهم ومفكريهم يعرفون كل شيء، وما عليهم سوى اتباعهم والسير على منهاجهم.
وسنجد آخرين يعانون من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. فلا يشيرون إلى إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة، مع عدم استعدادهم لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك أخطاء ذلك الماضي، وذلك استناداً إلى أن عليهم بذل الجهد وليس عليهم إدراك النتائج. ولأن مراجعة الماضي هو فتح لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع هذه التجمعات المأمولة ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات.
كما ستجد غالبية هذه الجموع لا تركز على ما يُقال، وإنما على من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول.
كما أن البعض يعاني من التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها.
نحن أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في كثير منها إلى تغيير شامل. كرستها - عن حسن نية - كثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية وغيرها، وهي من إفرازات البيئة ذاتها التي ولدت فيها تلك المؤسسات أو الأحزاب.
رفع الواقع
أجب على هذه الأسئلة بصراحة ووضوح. وارسم لنفسك من تلك الإجابات خارطة تتعرف بها على نواحي التميز والقصور عندك.. وبذلك تكون قد وضعت قدميك على أول الطريق
اعرض هذه الأسئلة على نفسك أولاً وأجب عليها بصراحة وصدق. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. وحينها ستدرك البون الشاسع بين محاولاتنا - نحن المؤمنين المخلصين - المتخلفة للنهوض بالأمة وبين ممارسات الآخر - المبنية على أدق قواعد البحث العلمي - لاستنزاف الأمة وتركيعها.
1. كم كتاباً تقرأ في العام؟
2. ما هي نوعية الكتب التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)
3. هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى التاريخ الإسلامي وسِيَر الصحابة والتابعين؟
4. كم كتاباً قرأت حول قضية النهضات والتغيير في الأمم؟
5. كم كتاباً قرأت في العلوم الإدارية أو الإنسانية32؟(6/153)
6. هل تجيد استخدام القلم والورقة لتوضيح أو تلخيص أفكارك؟
7. هل تجيد استخدام الكومبيوتر والإنترنت؟
8. عند اطلاعك على إنجازات الماضي القريب أو البعيد.. هل تكتفي بالإعجاب به أم تأخذ منه العبر والدروس؟
9. هل تكتفي بتقليد الآخرين في أعمالهم وأفكارهم أم أنك تبحث دائماً عن الإبداع والتطوير؟
10. هل جلست يوماً إلى قائدك تطالبه بتوضيح الطريق لك بالدليل والبرهان؟
تَعرَّف على قدرتك الحقيقية على الفعل أو التوجيه للفعل أو ابتكاره من خلال إجابتك على هذه الأسئلة
11. هل تُقدِمُ على المحاولات الجديدة والجريئة أم أنك أسير التكرار؟
12. هل تعتقد أن قادة الأمة ومفكريها يعلمون كل شيء وأنهم يخططون لكل شيء؟
13. هل تعتقد أنهم أدرى منك بالواقع والمستقبل وما عليك سوى اتباعهم لتصل إلى ما تريد؟
14. هل حدثك أحد عن إنجازات الحاضر أو الإنجازات المستقبلية المرتقبة؟
15. هل تركز على الفكرة أم على قائلها؟
16. هل تسطح الأمور وتبسطها أم تبالغ وتهول فيها؟
بإجابتك على هذه الأسئلة بصراحة وصدق ووضوح تتعرف على نفسك وعلى من حولك. تعرف كيف تفكر ويفكرون. كيف تتخذون القرارات. تتعرفون على حقيقة الخلفيات أو الأسس التي تبنون عليها تصوراتكم وأهدافكم ووسائلكم.
والآن بإمكانك أن تتوقع النتائج المترتبة على محاولاتنا المرتبكة للنهوض بالأمة في مواجهة الممارسات المدروسة والمعدة بعناية فائقة من أعدائنا لوقف تقدم الأمة.
نقطة البدء
ما هي التحولات الكبرى التي قادت الأمة إلى التخلف؟؟
نستعرض في هذا المشهد حالة التخلف التي كنا قد أشرنا إليها في المشهد السابق. ولعل حالة التخلف حالةٌ يطول شرحها والحديث عنها. ولكننا سنتناول أمراً واحداً ذا أهمية قصوى في هذا السياق، ألا وهو التحولات الأولى التي تقود إلى التخلف.
وفي تناولنا للتحولات الكبرى المؤدية إلى التخلف سنستعرض فكرة العوالم الثلاثة عند مالك بن نبي33، ثم سنستعرض أنماط التفكير التي جاء الإسلام ليحاربها، ثم بعدها نستعرض ما حدث في مجتمعاتنا بعد ذلك وماهية الحاضر الذي نعيشه ويعيشه العاملون في تيار النهضة في الجانب الفكري الذي أفرز ارتباكات الواقع والممارسة.
ما هو التخلف؟
لم يستطع العلم المعاصر أن يخلق أية نظرية موحدة عن التخلف
لابد أولاً أن نحدد معنى التقدم لنقارن به تخلفنا أو تأخرنا
إن عدداً من الباحثين ممن يعكفون على مسائل البلدان النامية يميلون إلى تفسير مظاهر التخلف بأسباب تقنية واقتصادية محضة. فهم يركزون في مفاهيمهم على هذا المعيار أو ذاك، ويوجزون كل تعقيدات التخلف في مقولات اقتصادية كمية. فهم يحددون معايير ودلائل مختلفة من أجل تمييز التخلف، لكن معاييرهم ودلائلهم بصورة عامة ذات طابع كمي.
أما العلم المعاصر فلم يستطع أن يخلق أية نظرية موحدة عن التخلف ولم يتمكن من إبراز العوامل الرئيسة ذات العلاقة بمصدر هذه الظاهرة ولا البرهان على علاقة سببية فيما يتعلق بظهور التخلف.
وهنا لابد أن نميز بين (التأخر) و(التخلف) و(النمو المتدني). فاليونان متأخرة عن الولايات المتحدة من حيث مستوى تطورها الاقتصادي، لكنه ليس لدينا على ما يبدو أي سبب لتصنيفها بين البلدان المتخلفة، واليونان ليست متقدمة كثيراً على الأرجنتين بناء على المعيار الكمي نفسه. لكننا عندما نأخذ في اعتبارنا مفهومي التخلف والتطور على أنمها مقولتان كيفيتان، فإننا نميل لتصنيف الأرجنتين بين فئة البلدان المتخلفة.
وهكذا فإنه يجب علينا أولاً تحديد معنى التخلف وتحديد معايير التخلف. هل المقصود هو التخلف عما بلغه الغرب؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فسؤالنا في أي الجوانب تخلفنا؟ ثم ينبغي تكرار السؤال: تخلف بالمقارنة بماذا؟
ولتحديد التخلف يجب علينا أولاً أن نقوم بتحديد التقدم.. ما هو الذي نعتبره تقدماً؟!. وبعد أن نقوم بتحديد ما نعتبره تقدماً يمكننا أن نشرع في محاولة تقرير ما إذا كنا متأخرين أو غير متأخرين على ضوء رؤيتنا نحن للتقدم الذي نحدده لأنفسنا.
وينبغي أن نعلم إن التخلف نابع من أسباب متداخلة التأثير، منها الاستبداد السياسي الداخلي والسيطرة الأجنبية والفقر الاقتصادي وإغلاق
تقاس مجتمعات اليوم بأربعة معايير.. سياسي واقتصادي واجتماعي وصناعي
باب الاجتهاد أو عدم استعماله34 والروح اليائسة المتفشية.
وخلاصة القول أن التخلف معنى لا يتضح إلا عند المقارنة وتحديد مجال هذه المقارنة كماً وكيفاً. وتقاس مجتمعات اليوم تحت النموذج الليبرالي المفروض بالمعايير التالية:
السياسي: بالتوافق مع النظام المعياري العالمي للديمقراطية وحقوق الإنسان.
الاقتصادي: بالناتج القومي. وتجاوز الاقتصاد الأحادي والريعي إلى الاستغلال الجيد للموارد. ودخل الفرد.
الاجتماعي: بمدى تجانس النسيج الاجتماعي ودرجة التراضي فيه.
الصناعي: القدرات التصنيعية وما يتعلق بها من التكنولوجيا بمعناها الشامل (البحث والتصنيع والاستخدام).
وعلى حركة النهضة أن تحسم أمرها في تحديد معاييرها الموضوعية وأن تبني حركتها على أساس هذه المعايير.
معايير قياس المجتمعات المعاصرة
سياسي
اقتصادي
اجتماعي
صناعي
الديمقراطية
حقوق الإنسان
الناتج القومي
استغلال الموارد
دخل الفرد
التجانس
درجة التراضي
البحث
التصنيع
الاستخدام
البعد التاريخي التراكمي
يعيش الإنسان في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار.. وعالم الأشخاص.. وعالم العلاقات
هل نبدأ التغيير بإصلاح عالم الأفكار أم عالم الأشخاص أم عالم العلاقات؟؟!!
ليست حالة التخلف وليدة يوم وليلة، ولكنها موغلة في القدم منذ بدايات الدولة الإسلامية. أما التحول إليها بقوة فكان مع اكتشاف أوروبا لطريق رأس الرجاء الصالح. والذي أدى لدخول العالم الإسلامي في نفق مظلم لانقطاع شريان الحياة التجاري من قلب العالم الإسلامي ليمر بالطريق الجديد. فاستطاعت أوروبا الوصول إلى الموانئ الهندية والصينية وبالتالي حصار العالم الإسلامي من الأطراف بعد أن فشلت في اختراقه من العمق من خلال الحروب الصليبية.
وجعل انقطاع الوفرة المالية التجارية وتزايد الاستقطاعات العسكرية في قرون مليئة بالحروب عجلة الحياة العلمية تدور في اتجاه سالب خلال القرن السادس عشر. ومن المعلوم أن الإنفاق على التعليم والصحة هو أول ما يتأثر بالركود الاقتصادي،. أما عن السبب الذي منع العالم الإسلامي من التكيف السريع مع الحالة الجديدة مواجهة عملية التغير الدولي فيرجع إلى عوامل التحلل في الكيان الإسلامي35 والتي سنستعرضها من خلال هذا الشكل التوضيحي:
عوامل التحلل في الكيان الإسلامي
المعضلة الجغرافية
المعضلة الإثنية
المعضلة السياسية
معضلة التعصب
المعضلة الاقتصادية
إهمال العلوم التطبيقية
ضعف الدافع العقدي
عدم متابعة تطور الأمم الأخرى
تكوين النخب حول السلطان
أزمة المدينة العربية
حكم من لا يعرف الإسلام
حول الخلافة
في الفقه
في العقائد
العوالم الثلاثة
يعيش الإنسان في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار.. وعالم الأشخاص.. وعالم العلاقات
هل نبدأ التغيير بإصلاح عالم الأفكار أم عالم الأشخاص أم عالم العلاقات؟؟!!
لقد قدم مالك بن نبي في كتاباته تصوراً يتمثل في ثلاثيته المشهورة بقوله: "أن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. فلكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها".(6/154)
ويقصد بعالم الأفكار مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ36 والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما. ويدخل في هذا العالم أيضاً كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس.
أما عالم الأشخاص فيقصد به مجموعة العلاقات والنظم والاتصالات والقوانين التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم.
أما عالم الأشياء فهو كل ما ينتجه هذا المجتمع من مبانٍ وشوارع وزراعة وصناعة، وغير ذلك من المنتجات والخدمات المحسوسة والملموسة.
فإذا نظرنا إلى حاضر العالم الإسلامي سنجد اضطراباً وضعفاً شديدين في تلك العوالم الثلاث. فعالم الأفكار أصبح قفراً مجدباً. بينما اختل عالم الأشخاص والعلاقات، ودليل ذلك ما نشهده في انتشار الاختلالات الاجتماعية وانعدام العدالة أو ضعفها والطغيان، وما إلى ذلك من صور الاختلال في العلاقات البشرية. أما عالم الأشياء التي ننتجها فهو ضعيف جداً ولا يكاد يذكر مقارنةً بما تنتجه البشرية جمعاء.
من أين يبدأ الإصلاح؟
وهنا يأتي السؤال الهام، وهو من أين يجب أن يبدأ الإصلاح؟ وبأي هذه العوالم الثلاثة يجب علينا أن نبدأ؟ هل لابد أن نبدأ بإصلاح عالم الأفكار أولاً؟ أم أنه لابد من البدء بإصلاح عالم العلاقات بين الناس؟ ولماذا لا يكون البدء بإصلاح عالم الأشياء هو أول الطريق نحو النهضة؟!
وللإجابة على هذا التساؤل سنبسط كلام مالك بن نبي حول حله
عندما يكون عالم الأفكار نامياً ومتطوراً يستطيع أن يخلق عالم الأشياء حوله، بينما عالم الأشياء المتطور إذا لم يقابله عالم أفكار متطور يمكن أن يُدَمر
للمشكلة من خلال هذا الحوار الذي تخيله، واستعرض فيه حيرة المفكرين بين هذه الثلاثة عوالم، بين قائل بأن الفكرة أولاً، وبين من قال أن عالم الأشياء أولاً.. ثم يستطرد في عرض الحل الذي توصل إليه بعد طول تفكير. وتعتمد فكرة هذا الحل على إيقاف بعض العوامل عن العمل وتحريك بعضها، ليمكن بذلك اكتشاف العامل المؤثر على بقية العوامل.
حاول أن تتخيل معنا قوماً من الأمازون أو من الأدغال الأفريقية، بعالمهم الفكري المتواضع وبدائيتهم وقد تم نقلهم إلى ألمانيا، بينما نقل الشعب الألماني إلى أفريقيا أو إلى الأمازون، ماذا كان سيحدث حينها؟ الأمر سيبدو واضحاً جلياً، وهو أن الألمان في هذه الحالة سيعمِّرون المناطق الأمازونية أو الأفريقية ويصلحونها، بينما ستُدَمَّرُ ألمانيا ببنائها وحضارتها وشوارعها على يد القبائل البدائية ..
أما الشاهد من هذه القصة فهو أن عالم الأفكار عندما يكون نامياً ومتطوراً ويحتوي على أفكار، يستطيع أن يخلق عالم الأشياء حوله. والعكس ليس بصحيح. فعالم الأشياء المتطور إذا لم يقابله عالم أفكار متطور يمكن أن يدمر تحت مطارق التخلف الفكري. والأمر بَيِّنٌ وواضحٌ وجليّ. فعالم الأفكار يمثل المنطقة التي تتم فيها التحولات الكبرى أولاً. هذا عند التجريد، أما في الواقع الحي فالعوالم الثلاثة تتفاعل بشكل دائري لا يتوقف. وهذا الشرح السابق هو محاولة لإيجاد أول الخيط.
العوالم الثلاثة
عالم الأفكار
عالم الأشياء
عالم الأشخاص
إن عالم الأفكار يترتب عليه عالم العلاقات، ويترتب عليهما عالم الأشياء
مثال آخر:
تخيل أن شخصاً كانت كل معلوماته عن الزهور، فإن عالم علاقاته سيكون بتجار الزهور، وبعاشقي اقتنائها، وبالتالي سيكون عالم أشياؤه هو إنتاج وزراعة كل متعلقات الزهور.
إذا قرر هذا الشخص أن يغير من عالم أشيائه، وأن يكون له تأثير في مجتمعه، فقرر دراسة الإعلام، وتغير عالم أفكاره، ثم ترتب على ذلك تغير عالم العلاقات، فصارت كل علاقاته بالمخرجين، والمصورين، والمنتجين، وغيرهم من أهل هذا المجال، وبالتالي سيتطور عالم الأشياء من تجارة الزهور إلى صناعة السينما والمسرح وغيرها من وسائل التأثير.
إن عالم الأفكار إذا تغير فإن عالم العلاقات يتغير معه، ومن ثم عالم الأشياء.
المنطق يقول:
إنك إذا قررت أن تعمل في وظيفة ما فإن أول ما تطلبه أن تتعرف وتفهم طبيعة العمل ومن ثم تبدأ بعالم الأفكار، ثم تتعرف على من ستتعامل معهم (عالم العلاقات)، ثم تبدأ في الإنتاج (عالم الأشياء). وكلما تمكنت من فهم العمل الذي ستقوم به، وكانت شبكة العلاقات متينة، كلما كان عالم الأشياء رائعاً.
إن من يعتزم خوض أي مشروع فإنه يقوم بدراسته أولاً (عالم الأفكار)، ثم يحدد علاقاته تبعاً لطبيعة المشروع - فعالم علاقات تاجر الأخشاب يختلف عن عالم علاقات تاجر اللحم - ومن ثم يختلف عالم أشيائهما.
إن عالم الأفكار يترتب عليه عالم العلاقات، ويترتب عليهما عالم الأشياء.
من أين بدأ الإسلام
نزل الوحي على أمة تعاني من اختلال العوالم الثلاثة
وقد نزل القرآن الكريم على أمة تعاني من اختلال جميع العوالم. اختلال في عالم الأفكار37، وفي عالم العلاقات38، وفي عالم الأشياء39.
فإذا نظرنا إلى الإسلام ثم إلى نوعية العقلية التي سادت في المنطقة العربية قبل الوحي لوجدنا هذا الاختلال واضحاً. فسنجد أن عالم أفكارها كان يعاني من ثلاثة اختلالات كبرى. أولها اختلال قيمي مفاهيمي. فلقد كانت مجموعة الأفكار التي طرحتها الحالة الجاهلية - من قبيل قولهم "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا"40، وقولهم "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"41 – دليل أساس على أكبر الآفات في وجه التقدم. فلقد تجمدت وتبلدت عقولهم، وتوقفت عن إنتاج الأفكار، واكتفت بما أنتجته عقول الآباء والأجداد والسابقين. ثم هي بعد ذلك لا تفعل شيئاً سوى أن تستكمل مسيرة الحياة، فتسير إلى الأمام
بمجمل ما هو موروث من أفكار وأقوال ومعتقدات. فمن أين يأتي التقدم
عانت الجاهلية في عالم أفكارها من ثلاثة اختلالات كبرى: أولها قيمي مفاهيمي وثانيها إعراض عن التعلم والعلم وثالثها هو الاعتماد على الظن
والتطور إذا كان الإنسان قد أوقف عقله وجمده ومنعه من التفكير؟ بل وربما أغلق الأقدمون عقولهم كذلك على فكرة أول شخص بدأ بوضع ما يراه. فأهل الجاهلية لا يريدون إرهاق عقولهم في البحث عن الحقيقة. فجاء الإسلام ليقابل هذه النمطية المتكلفة في التفكير وهذا الأداء المتخلف في الفعل، فكان رد القرآن عليهم "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"42 و "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون"43، وغيرها من المواجهات القرآنية التي أُريدَ بها تصحيح العقل وتنظيم المنهج العلمي في البحث والتفكير بإنكار حالة الانحباس الماضوي.
وواكب هذا الاختلال القيمي المفاهيمي إعراض شديد عن التعلم والعلم. فيصف القرآن حالتهم بقوله: "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً"44، فهو إعراض كامل عن تلقي أي معلومات، وعن الاستفادة من ملكات السمع والبصر والنظر والعقل. هذه المنظومة المختلة جاء الإسلام ليعالجها. فقدم لنا نموذجاً راقياً لما يمكن أن نسميه بالثورة الفكرية التي أحدثها الإسلام. فكانت أول قضية يثيرها القران الكريم بشكل كبير قوله تعالى: "اقرأ.. الذي علم بالقلم.."45، وقوله: "والقلم وما يسطرون"46، وقوله: "أفلا يبصرون... أفلا يسمعون... أفلا يعقلون...".
ثم يأتي الخلل الثالث في العقلية الجاهلية، ألا وهو الاعتماد على الظن. فكان قولهم "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"47، فكان رد القرآن عليهم "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا
لا يمكن أن تبنى الأمم أو تقام الحضارات في ظل عالم أفكار متخلف(6/155)
يظنون"48. ويواجه القرآن هذه الحالة فيقول: "وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين"49. ويقول: "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"50.
إن هذا الخلل الفكري المتمثل في اختلال العقل والإعراض الشديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن واجهه القرآن مواجهة عنيفة وقوية، لأن هذه الملكات المعطلة، وهذا التصور القاصر هو أمر في غاية الخطورة ولا يمكن أن تبنى الأمم والحضارات عليه. فالأمم التي تمتنع عن القراءة ولا تستخدم القلم، هي أمم حظها ضعيف من التقدم. والعكس صحيح، فلقد أشار جودت سعيد في كتابه "اقرأ وربك الأكرم" في معرض تفسيره للنص القرآني في سورة العلق (.. أن الذين ينالون كرم الرب وغناه هم القراء أو أكثر الناس قراءة في العالم.. فاليونان كانوا أكثر الناس قراءة وكتابة أيام حضارتهم.. وهم الذين نالوا كرم الرب وكرامته بين العالم، فقد سيطروا على أكبر رقعة في العالم.. والمسلمون.. انطلقوا من كلمة (اقرأ).. إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس.. لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم.. وإذا نظرنا حولنا في هذا العصر الذي نعيش فيه نجد أن الذين يتمتعون بخيرات العالم وينالون من الكرم والكرامة هم قراء هذا العصر..) وينطبق هذا الأمر كذلك على كل من عطل السمع والبصر واكتفى بمقولات السابقين وجهدهم. ورغم هذا التوجيه القرآني "اقرأ" فلا زالت تنتشر مثل هذه الظاهرة اليوم بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ ناهيك عن بقية المجتمع. فحجم الإقبال على القراءة وعلى العلم والتعلم في هذه المجتمعات أو في هذه النهضات قليل، وحجم استخدام أدوات العلم قليل، وحجم تجاوز مقولات السابقين قليل، وهو أمر يهدد جهود هذه
إن عملية تقدم وتغيير المجتمعات الإسلامية مرهونة بالتحول الضخم الذي لابد وأن يطرأ على المسارات المتعلقة بالقراءة واستخدام القلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان وفتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى
الصحوة المباركة. إذ أن عملية التقدم وتغيير هذه المجتمعات مرهون بالتحول الضخم الذي لابد وأن يطرأ على هذه المسارات المتعلقة بالقراءة واستخدام القلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان وفتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى. وكل هذه المسارات سنجد أن الكثيرين ممن يقومون على شأن هذه الصحوة إما أنهم لا يحسنونها، أو لا يدركون خطورة القصور فيها؛ بل سنجد ظاهرة أخرى خطيرة، وهي ظاهرة اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده بدلاً من فتح آفاق المستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر. ولترجع إلى موضوعاتنا وإنتاجاتنا المتعلقة بالنهضة لتكتشف ظاهرة خطيرة، ألا وهي الامتناع عن قراءة التاريخ، وقراءة التجارب الإنسانية، والاقتصار على نموذج أو نموذجين مبتورين لاسم أو اسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر هذه المقتطفات المبتورة، مما يؤدي إلى أضرار كثيرة.
إننا أمام ظاهرة كبيرة ومنتشرة. نشأت بذورها وترعرعت في الجاهلية، وعلاجها اليوم متوفر في الإسلام. فلقد أعلى القرآن من شأن القراءة والعلم وأدوات التعلم. فقال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق... اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم"51، "ن والقلم وما يسطرون"52، "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب"53، "شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط"54، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تحث على التعلم. كما أعلى المولى جل وعلا من
توجه آيات القرآن رسالة واحدة مفادها استخدم عقلك ودع التقليد واتباع الأقدمين، واطلب البرهان والدليل ولا تعتمد على الظنون
شأن العقل وذم إهماله، فقال تعالى: "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون"55، "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"56. ثم دلنا القران على أهمية طلب البرهان والدليل، فقال تعالى: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"57، وذم قضية الظن التي لا تقوم على البحث والنظر فقال: "إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون"58، "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً"59، "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون"60. فالظن تصور لا يستند إلى دليل وهو ضد العلم، ونقصد بذلك الظن الذي لا يقوم على البحث العلمي.
وهكذا توجه كل هذه الآيات رسالة واحدة كبيرة مفادها أن استخدم عقلك ودع التقليد واتباع الأقدمين61، واطلب البرهان والدليل ولا تعتمد على الظنون.
إن القرآن في خطابه إنما يخاطب أصحاب العقول وذوي الألباب، لا أصحاب البطالة الفكرية.
مشاكل عالم أفكار الجاهلية
اختلال قيمي ومفاهيمي
الاعتماد على الظن
إعراض عن العلم والتعلم
عالمنا المعاصر
أربعة عشر نمطاً من أنماط التفكير تشل حركة الصحوة المعاصرة
وإذا استرسلنا في عالم أفكارنا المعاصر قليلاً سنتناول أربعة عشر نمطاً من أنماط التفكير أو من الأفكار القاتلة التي تشل حركة الصحوة اليوم:
1. الخلط بين المبدأ والمنهج.
2. سوء تعريف التربية.
3. التفكير النمطي.
4. الميل للمجاراة (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان).
5. نقل العادة.
6. مقاومة التغير.
7. عدم التوازن بين التنافس والتعاون.
8. الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان.
9. الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية.
10. عدم التركيز على القول بل على القائل.
11. التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها.
12. الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم.
13. عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء.
14. تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها.
أولاً: الخلط بين المبدأ والمنهج
وهذا الخلط أو عدم الإدراك هو أول هذه المخاطر التي تشل صحوة اليوم. (ولقد كان من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن تضمن وحيه إلى الناس نمطين من المفاهيم لا يستغني عنهما العقل البشري:
مفاهيم تتعلق بالمبدأ: فصلت نظام القيم في الإسلام، وبينت مضامين الرسالة. وتجسيدات تلك الرسالة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع.. فهي مفاهيم تتعلق بـ"ماذا"؟ لا بـ"كيف"؟
ومفاهيم تتعلق بالمنهج: بينت طرائق التطبيق ومناهج التغيير.. فهي تتعلق
تضمن الوحي نمطين من المفاهيم: الأولى تتعلق بالمبدأ والثانية تتعلق بالمنهج
أبو محجن الثقفي لم يمنعه شرب الخمر من نصرة الإسلام
بـ"كيف"؟ لا بـ"ماذا"؟)62
فكثير من العاملين في ساحة الفعل النهضوي إذا حدثتهم عن تجديد الوسائل والطرائق والمناهج ردوا عليك بثبات المبادئ وأهمية الإصرار عليها. وهكذا تُشل حركة الصحوة لاعتماد الكثير من أبنائها الوسائل والطرائق كمبادئ وثوابت.
ثانياً: سوء تعريف التربية
فهناك فكرة تسيطر على كثير من قادة الصحوة الإسلامية مفادها أن عملية التغيير والتحول القائمة على التدافع والتصارع لا يمكن أن تتم قبل أن تستكمل جموع العاملين تزكية نفوسها وتربيتها روحياً وإيمانياً.(6/156)
ورغم أن هذه المقولة أو الفكرة قد أصابت كبد الحقيقة في بعض جوانبها إلا أنها ليست صحيحة بالكلية. (فالصحابي الجليل أبو محجن الثقفي كان مولعاً بالشراب، مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص حبسه فيه. فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين ألح على أم ولد لسعد – وكان سعد قد أوثقه إلى سارية عندها – أن تفك وثاقه ليقاتل مع المسلمين، وتعهد لها أن يرجع في وثاقه بعد المعركة. فحمل على المشركين حملة صادقة حتى قال سعد: "لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي")63. وهكذا نجد هذا الصحابي الذي صحب رسول الله r وجاهد في سبيل الله يرتكب كبيرة من الكبائر. فهو لم يستكمل التربية بعد، ورغم ذلك لم يمنعه قادة الإسلام من الخروج في الجيش للجهاد الذي هو من أشق العبادات على النفس بحجة نقص التربية أو الإيمان، بل لقد شهد له سعد بن أبي وقاص بالكفاءة، ولم يقل "أخشى من أن نؤتى من قبل أبي محجن" لأن لكل إنسان نقاط قوة ونقاط ضعف، وأبو محجن كانت نقطة قوته في كفاءته وحبه للجهاد، ونقطة ضعفه في حبه الخمر، غير أن الجهاد
إن تزكية النفس لا تكون إلا بالاستجابة لواجب الوقت الذي يريده الله منا
من شروط النجاح أن تتلازم حالتي العمل والتربية معاً
يمحو الخطايا فهو خير معين لصاحب الخطيئة على تركها.
إن تزكية النفس لا تكون إلا بالامتثال لواجب الوقت الذي يريده الله منا، ولم نسمع أن رسول الله e منع صحابياً عن الجهاد لذنب أو كبيرة، بل كان الرسول e يمنع من لم يجاهد في غزوة تبوك من أن يلحق به في غزوة أخرى "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين"64،
لقد ترتب على هذا التفكير انتشار مقولات مثل: "نفتقد العلم الشرعي" أو "نفتقد الإيمانيات". ورغم إقرارنا بأهمية هذه الجوانب وكونها شرطاً لتحقق موعود الله لنا بوراثة الأرض إلا أننا نرى أنها لا يجب
أن تقف عائقاً وحائلاً بين الشباب وبين الانطلاق الفعال في الساحة الإسلامية ومحاولة التغيير والنهوض.
إن شرط النجاح أن تتلازم حالتي العمل والتربية. أما أن تمضي السنوات تلو السنوات، ولا يسأل أحد نفسه عن إنتاجيته الحقيقية في مجتمعه ودوره في عملية استنهاض المجتمع بحجة أنه يربي نفسه ومن معه فهو مؤشر خطير يشير إلى تخلف الحالة الإسلامية. فكثير من التجمعات والهيئات الإسلامية تنكفئ على نفسها وتتجه إلى داخلها بحجة تربية الصف الداخلي وذلك عن طريق بعض الممارسات الضيقة، بينما تبتعد عن مجالات الحياة وعن الانتشار الحقيقي في المجتمعات والمناطق المؤثرة بحجة الحفاظ على تماسك الصف الداخلي والابتعاد بالعاملين عن مواضع الفتنة. فتجد الفرد العامل المخلص لا يكتب ولا يناظر ولا يحاضر ولا يحمل عبء أي مشروع حقيقي سوى حضور بعض المناشط الداخلية التي لا يعول عليها كثيراً في استنهاض المجتمعات.
كم تكون الكارثة عندما تتخذ القرارات الهامة في ساحة المشروع بناءً على هذا التفكير النمطي؟؟!!
لا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة
ثالثاً: التفكير النمطي65
فكثير من العاملين توقف واكتفى بمجموعة من المعارف دون البحث عن معارف جديدة، ومن ثم عدم الاستعداد للتفكير في قضية جديدة. وهذا الصنف من الناس عدو ما يجهل ولا تختلف طريقة تفكيره عن طريقة تفكير السابقين – مع الفارق الكبير طبعاً – عندما رفضوا التفكير في القضية الجديدة المعروضة عليهم، ألا وهي قضية البعث. فقديماً قال المشركون: "وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد"66، بينما هو يقول: هذا طريق أو محاولة جديدة لا أعرفها، فلماذا أسلكها وأجربها أو حتى أستمع لها. فإذا وُجدت هذه النمطية من التفكير التي لا تريد أن تزيد على ما تعلمته في مرحلة من مراحل حياتها؛ بل وتتكلس عند
فكرة أو فكرتين، أو نموذج أو نموذجين ثم لا تريد أن تتعلم المزيد، ثم وبسبب التقادم في ساحات الفعل – المشروعية التاريخية - تتصدر للمهام وهي لا تحتوي في منظومتها الفكرية على ما يؤهلها للاستجابة لمتطلبات الوقت والعصر، ولا لمعرفة ما يدور حولها، فكم تكون الكارثة عندما تتخذ القرارات الهامة في مجالات الحياة بناءً على هذا النمط من التفكير؟!!
ولا نعني بذلك أن العمر السني هو الفيصل، بل مواكبة الحياة وجِدَّة التفكير وسعته وقدرته على استيعاب ما يدور هو الفيصل. فكم من صغير السن شاخ وهو صبي، وكم من كبير السن ظل متجدداً إلى لحظة وفاته.
رابعاً: الميل للمجاراة67 (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان)
لا يوجد مفتاح واحد لجميع الأبواب.. بل لابد من تغيير شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه من باب لآخر
والمقصود به تقليد الآباء والأجداد دون التفكير في مدى صواب أو خطأ ما فعلوه. ومدى حتمية اتباع منهاجهم والنسج على أسلوب تفكيرهم. فلقد قال المشركون: "قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون"!68 فيرد الله تبارك وتعالى عليهم في موضع آخر بقوله: "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"69.
ولا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة. فهذا الإنسان الذي لا يتساءل وحسبه أن يجد الأقدمون قد اعتمدوا حلاً واختاروه فيعتمده ويختاره بدوره دون أن ينظر فيه، هذا الإنسان بطريقة تفكيره هذه لا يمكن أن يقود نهضة ولا تغييراً أو حتى مجموعة من المتحمسين المخلصين. هذا الاتباع والتقليد دون النظر وتقليب الأمور والأفكار يؤدي أيضاً إلى تكلس الحياة وتوقفها عند نقطة ما تمثل رؤية شخص يُبجَل أو يُعظَم لسبب أو لآخر، ثم بعد ذلك يتوقف التفكير تماماً ويصبح الأمر اجتراراً لكل ما جرى وما قيل.
وقد لا تكون المجاراة في التصورات فحسب؛ فقد يكرر جيل تلو جيل أعمالاً بعينها، دون أن يفكر في جدواها في لحظته الراهنة، فتصبح في نظره حلاً لكل العصور أو مفتاحاً لكل الأبواب. ولكن لعلها كانت مجدية في فترة ما ولم تعد كذلك. فللمكان حكمه، وللزمان والظرف والعوائد أحكامها وتأثيراتها. وكل من أهملها فقد ضيق واسعاً.
ونعود لنؤكد في هذا السياق بان الأماكن تتعدد وتختلف. كما يتغير الزمن والظرف المحيط حتى في نفس المكان. ولا يقف القادة المبدعون عاجزين أمام هذه التحولات. فهم سرعان ما يحدثون التغييرات اللازمة للاستجابة للزمان والمكان. وهم حين يغيرون يدركون أن عدد المحاولات
عندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية
للوصول لإجابة سؤال المرحلة والشكل المطلوب لمواجهتها قد لايتم اكتشافه من محاولة أو محاولتين.. فهم مشغولون – إن صح التعبير – بصناعة المفتاح الملائم لفتح الباب الذي يقف أمامهم. فهم يغيرون باستمرار في شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه.(6/157)
إن المشكلة التي يواجهها العقل الإداري أحياناً تكمن في تقديس مفتاح بعينه، واعتقاد أنه صالح لكل زمان ومكان ولكل باب.. بينما كل دارس للتجارب التاريخية يعلم أن هناك عدداً من المفاتيح لا حصر له تم إبداعه من قبل القادة لمواجهة الظروف المختلفة التي أحاطت بهم.. فتنسيق الأنشطة الإنسانية للوصول إلى الهدف هو إبداع متجدد. وإيجاد أفضل أداة فعالة مسألة تحتاج إلى الكثير من التفكير والتطوير والتغيير، حتى يمكن تحقيق الأهداف والوصول للنتائج. والجمود عند شكل واحد وأسلوب واحد وخطة واحدة مهما تغيرت الظروف وحتى لو تأكدت الحركة من عقم الوسيلة عن بلوغ الهدف هو انتحار أو تقصير لا عذر لأحد فيه.
خامساً: نقل العادة
فعندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية.
ومن العبارات القاتلة التي تلخص هذه العقبة قول بعضهم: "لقد كنا دائماً نفعل هذا بنجاح" أو "كنا دائماً نحل المشكلة بهذه الطريقة".
سادساً: مقاومة التغير
فهناك نزعة عامة لمقاومة الأفكار الجديدة والحفاظ على الوضع الراهن بوسائل عديدة، خوفاً من انعكاساتها على العاملين واستقرارهم – أفراداً كانوا أو جماعات. ولذلك تستخدم بعض العبارات القاتلة للرد على الأفكار الجديدة. مثل قول بعضهم: "لن تنجح هذه الطريقة في حل المشكلة" أو "هذه الفكرة سوف تكلف كثيراً جداً" أو "لم يسبق أن فعلنا
التوازن بين التنافس والتعاون شرط من شروط الإبداع والإنتاج
هذا من قبل" أو "لماذا نلجأ للجديد؟ ألن تكون معه مشاكل؟"70
ونقصد بالطبع التسرع في سرد تلك العبارات قبل دراسة الفكرة دراسة جيدة أو محاولة البناء عليها. أما أن يقرر قادة العمل أن وسيلة ما لن تنجح أو أنها سوف تكلفهم كثيراً بعد مدارسة الفكرة وتقليبها فهذا فعل محمود ولا شك.
سابعاً: عدم التوازن بين التنافس والتعاون
وهناك حاجة ماسة وملحة للمزج بين روح التنافس وروح التعاون بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وغيرها، وذلك لتحقيق إنجازات قيمة. فكثير من التنظيمات يصل التنافس المفرط بينها إلى حد الاقتتال بالألسن والأيدي. كما يصل التعاون المفرط أحياناً إلى وضع الكثير من القيود والاعتبارات عند التحرك. مما يكون سبباً في فقدان الاتصال بالمشكلة الحقيقية أو التقدم في حلها. ولذلك فإن التوازن بينهما شرط من شروط
الإبداع والإنتاج.
ثامناً: الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان
وهذا النمط من التفكير يبتلى به من اعتمد الاتباع بغير علم، وافترض استحالة أن يخطئ من سبقه أو أن تكون رؤية السابقين قاصرة أو غير واضحة. لذلك ذم الله أيضاً هذا الأسلوب وذم من يتبع الأقدمين بغير علم، فقال تعالى: "ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"71. وبعض العاملين في الصحوة اليوم يتبعون ظنوناً وأوهاماً دون أن يتثبتوا من مدى صحة ظنونهم وأوهامهم هذه، ودون مطالبة قادتهم
إنهم يقضون حياتهم بين الحرمين.. يشيدون المساجد ويطعمون الطعام وينحرون وينفقون من قبيل إرضاء الضمائر
بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل ويفترضون أن الخطأ غير وارد وأنهم لا يحتاجون إلى الدليل أو البرهان، ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. هذا النمط القاتل من التفكير القائم على الانسياق التام وراء فكرة ما على اعتبار أن شخصاً أو قائداً فكر فيها – دون مطالبته بالدليل والبرهان - واجهه القرآن. فأرشدنا ربنا تبارك وتعالى
إلى كيفية قبول أي فكرة فيقول: "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا "72، ويقول في موضع آخر: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"73.
تاسعاً: الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية
وهذه مشكلة كبيرة تواجه الفكر والمشروع الإسلامي النهضوي المعاصر. فكثير من المسلمين أقصى وغاية مناهم والغالب على تفكيرهم أن يرووا ظمأهم بعبادة معينة أو ممارسة معينة في جزئية من جزئيات الإسلام، ثم لا ينظرون إلى الصورة الكبرى واحتياجات الإسلام الملحة والضرورية. وجل ما يتحدثون عنه من قضايا - وإن كانت هامة – فغالباً ما تكون في آخر سلم الأولويات المعاصرة.
إن من أراد للإسلام أن ينهض يجب أن يسير على خطين: إصلاح نفسه، والعمل لتغيير الواقع الذي يحيط به، والمشاركة في عظائم الأمور التي تدور حوله.
دور الأفراد في إحداث النهضة
إصلاح النفس
العمل لتغيير الواقع
زيادة الإيمان لا تكون إلا بالعمل الجاد للإسلام
ولكن ما يحدث في واقع الإسلام أن بعض المسلمين يهربون من الخط الثاني – خط التبعات والمسئوليات والكفاح والبذل – إلى الخط الأول ليرضوا ضمائرهم، فيقضون حياتهم بين الحرمين، ويشيدون المساجد، ويطعمون الطعام، وينحرون تقرباً وزلفى إلى الله. كل ذلك على أهميته وعظيم أجره إلا أن الله تبارك وتعالى حذر من الاكتفاء به وحصر الإسلام فيه، فقال تعالى: "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله. لا يستوون عند الله. والله لا يهدي القوم الظالمين"74. ولقد قرظ الشاعر هؤلاء القوم – وصدق - فقال:
أيفيد الشرع ذكرٌ في مساجد كالقصور
أيرد البغي وعظ دون جيش في الظهير؟؟!!
فالاهتمام بالخط الأول دون الثاني هو من قبيل إرضاء الضمائر وليس هذا ما خلقنا من أجله، وليس هو دين الله في تمامه وكماله.
وصنف آخر من المسلمين يغرق في الخط الأول بحجة تنمية الذات وتنمية الروح والقلب. ويوسوس له الشيطان أنه ليس كفءً لخدمة الإسلام والعمل له والبذل في سبيله ما دام يُذنب ويقع في الأخطاء والآثام. وهو بذلك يدخل في هذه الدائرة المغلقة، فلا يخرج منها ليفكر في أحوال الأمة وآلام المجتمعات. ولو تأمل قليلاً لوجد أن زيادة الإيمان لا تكون إلا بالعمل الجاد للإسلام، الذي يحيي في نفس الإنسان كل المعاني الإيمانية، ويدفعه دفعاً نحو العبادة والصالحات، ليتزود أكثر، وينطلق لأداء مهامه.
أما الصنف الثالث من المسلمين، والمنوط به النهوض بالأمة وتحقيق آمالها وأحلامها، هذا الصنف الذي يحاول جاهداً أن يسير على الخطين ما استطاع فهو يعاني من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. هذا الصنف المخلص لا يجد من يحدثه عن إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة. وقادته وموجهوه لا يحدثونه إلا عن إنجازات الماضي،
النفوس بطبعها تواقة إلى من يشير إلى المستقبل ويمتلك رؤية واضحة، وتعرض عمن يكثر الحديث عن الماضي
والحديث عن إنجازات الماضي فحسب يضعف الهمم العالية، ويولد بلادة في التفكير، والاعتماد - كل الاعتماد - على الآخرين في تحقيق الإنجازات.
ولقد كان رسول الله r حريصاً أن يظل طموح أصحابه وجنده وأتباعه في القمة دائماً، فوعد سراقة بن مالك - في رحلة الهجرة - بسواري كسرى، وهو المطارد المطرود من بلده وقومه. فهو يبشر سراقة بالإنجاز المستقبلي المرتقب وهو انتشار الإسلام في ربوع العالم، وليس هذا فحسب؛ بل وسيتم هذا الإنجاز في حياة سراقة، ولاشك أن هذا طموح ما بعده طموح.
لقد كان بإمكان الرسول r أن يحدث سراقة عن إنجازات الماضي، عن بيعتي العقبة، وهجرتي الحبشة، ودخول الإسلام المدينة وانتشاره بين أهلها، وعن خروجه من بلده رغم كيد قومه بنجاح ومهارة، إلا أنه لم يحدثه عن كل ذلك؛ بل حدثه عن إنجاز مستقبلي مرتقب لتطمح نفسه وتعلو همته.(6/158)
أما الآن فإذا سأل سائل عن إنجازات الصحوة الإسلامية فلن تجد إلا من يحدثك بحديث الماضي، بالرغم من وجود الإنجازات التي لم يحسن عرضها. والنفوس بطبعها تواقة إلى من يشير إلى المستقبل ويمتلك رؤية واضحة له، ومعرضة عمن يكثر من الدفاع عن الماضي مهما كان عظيماً.
أصناف الناس
الهاربين من العمل
العاملون المجتهدون
الغارقين في إصلاح النفس
على العقل المسلم أن ينظر إلى الحق من حيث هو حق وليس لقائله
إذا تكرست ظاهرة الاصطفائية في الاستماع وكرس الإنسان جهده للنظر للقائل بدلاً من النظر للفكرة والتصور فلن يكون هناك انتفاع بهذه الأفكار المتدفقة في العالم
عاشراً: عدم التركيز على القول بل على القائل
من آفات التفكير التي يعاني منها العاملون في تيار الصحوة عدم التركيز على ما يُقال، وإنما التركيز من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول. وهذا يتمثل في ظاهرتين:
الأولى: عدم قبول الفرد للكلام إلا من شخصية تنتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته. وكل فكرة أو قول يصدر عنها فهو مقبول. بينما لو طرح أي قائل أو عالم أو عامل لا ينتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته فكرةً أو رأياً؛ بل ربما كان أكثر حنكة وأقوم سبيلاً لرفضه دون بحث أو نظر. وصدق المولى حين قال: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"75. فالكثيرون لا يحللون ولا يدرسون ما يُقال وما يطرح عليهم من أفكار، بل هم أسرى لشخصيات بعينها. إذا قالت فقولها صواب، ومن خالفها فهو جاهل لا علم له ولا وعي.
والثانية: هي رفض الكلام أو الفكرة التي تُعرض. فبدلاً من أن يتم تهذيب أو نقد أو تطوير الفكرة ينصرف التركيز على صاحبها. ويصبح الحديث عن ذاته، وتترك الفكرة وتنسى. كما اتهم النبي r بالسحر والجنون "وقالوا معلم مجنون"76. فالكفار لم يناقشوا الفكرة، بل ركزوا على شخصية القائل. وقد تزداد الأمور سوءاً وذلك بالنيل من صاحب الفكرة، ونيته وولائه وتربيته، وتتم رسم صورة له في أذهان الناس بحيث يبدو وكأنه لص أو منحرف ما كان يرجو الإصلاح، فإذا ما ذكر اسمه تُذكر الصفات التي أُلصقت به ولا تُذكر فكرته، تماماً كما حدث مع الطفيل بن عمرو الدوسي الذي نصحه المشركون بأن يسد أذنه حتى لا يسمع كلام محمد بن عبد الله r. فلما رآه الطفيل لم يذكر أفكار وقول الرسول r، بل تذكر تحذيرات المشركين فأسرع بسد أذنه، ولولا أنه كان عاقلاً لبيباً حكيماً لما أقبل على
الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تصور قدراتهم يؤدي إلى تجفيف منابع التفكير في قطاعات وشرائح كبيرة
الاستماع لقول وفكرة الرسول r.
فعلى العقل المسلم أن يتجاوز هذه الآفة لينظر للحق من حيث هو حق وليس لقائله. فإذا تكرست ظاهرة الاصطفائية في الاستماع وكرس الإنسان جهده للنظر للقائل بدلاً من النظر للفكرة والتصور فلن يكون هناك انتفاع بهذه الأفكار المتدفقة في العالم، والتي يمكن أن تشكل أحياناً قفزات كبيرة وواسعة إلى الأمام.
حادي عشر: التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها
بعض الناس عندما يسمع أي فكرة أو تصور لا يرهق عقله في التعرف على دقائقها وعلى جوانب الفائدة فيها أو إمكانية تطويرها والبناء عليها، وإنما يصبح همه وشغله الشاغل أن ينقد هذه الفكرة بفكرة أخرى مضادة، فيبدأ بالبحث عن العيوب في الفكرة التي أمامه دون أن ينتبه للجانب الإيجابي فيها.
ما الذي يضير العاملين والقادة لو قلبوا الأفكار المعروضة عليهم ذات اليمين وذات الشمال؟ فما كان فيها من خير يتم التركيز عليه وتنميته، وما كان فيها من خطأ تتم مراجعته وتصويبه أو إسقاطه وإلغاؤه.
ثاني عشر: الاعتقاد بمعرفة القيادات لكل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم
ومن الأخطار التي تحدق بالفكر الإسلامي في هذه المرحلة الاعتقاد بأن القيادات والمفكرين يعرفون كل شيء، وما على الأفراد إلا الاتباع. هذا التواكل الذي يتربى عليه الأفراد يجفف منابع الأفكار، ليكتشف المرء بعد مرور السنين أن اعتقاده بمعرفة القادة وقدراتهم ليس في محله، فيكون قد عطل عقله وضيع أوقاته ولم يُفِد الإسلامَ من قدراته وملكاته.
إن تعليق النظر والعقل على شخص لا نعلم – على وجه اليقين – نصيبه من العلم وقدراته وملكاته أمر في غاية الخطورة. ويؤدي إلى تجفيف
لم يكن التفكير حكراً على أبي بكر وعمر وصفوة الصحابة، بل كان منهجاً تربوياً نبوياً راقياً
منابع التفكير في قطاعات وشرائح كبيرة، لو أعملت عقولها لربما أنتجت
خيراً من قياداتها وممن ينظرون في أحوالها.
يجب تربية الأفراد على أنهم ليسو كماً مهملاً، وأن قياداتهم لا يشترط أن تحيط علماً بكل شيء، وأن هذه القيادات تحتاج إلى آراء وأفكار العاملين، وأن قرارات وأفكار وتصورات القادة تحتاج إلى مزيد من التفكير والنظر، وأن كل فكرة تطرح إما أن تبين جانباً من القصور أو تبين طريقاً خطأً يمكن إسقاطه بعد مناقشته، أو طريقاً للبناء يمكن استثماره. ولا ينظر للشخص بمكانته.
وليس هذا في حالة عدم التأكد من خبرة وعلم القائد فقط، بل حتى إن وجدت الثقة والتقدير للقيادة فهذا لا يعني إلغاء دور التفكير والبحث عن سبل العمل المنتجة، فهذا المصطفى r يتقدم له الحباب بن المنذر ليوضح له أن الموقع الذي اختاره رسول الله r في بداية غزوة بدر معسكراً للمسلمين لا يصلح، فينزل القائد r على رأي صاحبه، وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يشير على رسول الله r القائد بفكرة الخندق فيمضيها القائد r ويأمر بالتخندق. كل هذه المعطيات تدل على أن هذه الكتلة البشرية كانت تفكر وتنظر، ولا تُسلٍّم - حتى مع وجود المصطفى r - بأن القيادة تملك حلول كل المشاكل، وأن بيدها مفاتيح كل شيء، وأن المستوى القيادي يعلم كل شيء، فتتعطل بذلك العقول، وتضيع الطاقات، التي هي ثروة هذه الأمة. وهذه هي غزوة الأحزاب لا تحسم لصالح المسلمين إلا بتدخل شخصية لم تسلم إلا في أجواء الغزوة، نعيم بن مسعود الذي جاء للرسول e - بعد أن أسلم – ويطلب من النبي e أن يساهم معهم فلا يطلب النبي منه سوى أن يخذل عن المسلمين، وبالفعل يأتي بفكرة إبداعية – ليست من إبداع الرسول القائد – وتحسم المعركة لصالح المسلمين. لم يكن التفكير حكراً على أبي بكر وعمر وصفوة الصحابة، إنه منهج تربوي نبوي في منتهى الرقي لفن التعامل وإدارة الصراع.
عادةً ما تدفع الحركة ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات، دون أن يتنبه أحد إلى بساطة الحل، وإلى أن الثمن المدفوع في هذا الخطأ هو مقابل الحصول على فرصة في المستقبل
توماس أديسون: "لقد عرفت ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح"
وهذا سيدنا موسى يأخذ الأمر من الله عز وجل- الذي يعلم السر وأخفى – بالذهاب إلى فرعون، فيفكر ويقترح "رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون"77. لقد سجل الله لنا هذا الموقف حتى لا تقدس القيادات وإن كانت على أعلى مستوى، لأن التفكير عبادة وحق لكل مسلم، فكيف بسيدنا موسى يقترح في خطة العمل وهو يتعامل مع رب العالمين؟؟!!
ثالث عشر: عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء(6/159)
ومن أشد ما تعاني منه عقولنا عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء، وذلك استناداً إلى أن الإنسان عليه بذل الجهد وليس عليه إدراك النتائج. والخلط بين قدرية النتائج وحدوثها بقدر الله ومشيئته وقتما يشاء وبين المراجعة والنظر في الخطة والتصور ومجال الأخطاء خطأ فادح لا يغتفر. فالله تبارك وتعالى أجاب المسلمين لما تعجبوا من هزيمتهم في غزوة أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم.."78، أي راجعوا سلسلة القرارات والأعمال التي قمتم بها وستدركون مواضع الخلل والقصور. هذا البحث المستمر عن التحسين والتجويد والتطوير تقوم به كل المجتمعات. أما في مجتمعاتنا -
فلسبب أو لآخر - يعتبر النظر إلى الماضي والنظر في أخطائه سبةً أو فتحاً لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع المجتمعات والقوى الحية ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات، دون أن يتنبه أحد إلى بساطة الحل، وإلى أن الثمن المدفوع في هذا الخطأ هو مقابل الحصول على فرصة في
نحن أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى تغيير شامل
المستقبل. قد يستغرب القارئ هذا القول، ولكن استمع إلى إجابة توماس أديسون عندما سأله أحد الصحفيين عن حقيقة الإشاعة القائلة بأنه أجرى ألف تجربة فاشلة، فكان رده: "لقد عرفت ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح". فهو لم يحاول إخفاء تجاربه الفاشلة؛ بل اعتبرها نجاحاً مهد له الطريق نحو المستقبل. ويقول روبرت شولر: "أفضل أن أغير رأيي وأنجح على أن أستمر على نفس الطريقة وأفشل"79، أما تيس روز فيقول: "إن أي اعتذار لا يصاحبه تغيير يعتبر إهانة"80، بينما يقول ونستون تشرشل: "لا يكفي أن نقوم بعمل ما نستطيع، بل علينا أن نقوم بعمل ما هو مطلوب"81. وفي المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية توجد ملفات كاملة للأخطاء والتجارب الفاشلة التي مرت بها، بحيث يتم الاستفادة منها.
رابع عشر: تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها
ومما يؤدي إلى التخلف التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها. فبعض المسلمين لديه حلول جاهزة وبسيطة لكل المشاكل. وقسم آخر يهول من الأمور ويضخمها بحيث يتعذر معها فعل شيء، ودائماً ما يكون حديثه عاطفياً ارتجالياً، ويشير من حين لآخر إلى القائد المنقذ الذي سيحرر العالم. وكلا الصنفين يؤدي إلى قتل الإبداع والمبادرة بالأفكار الجديدة.
إننا أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في بعض أجزائها إلى تغيير شامل. وكثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية وغيرها تقوم - من حيث لا تدري أو من حيث تدري - بتكريس هذه الظواهر وتربية النشء والعاملين عليها. فهي من جانب تتحدث عن
النهضة، ومن جانب آخر تربي على كل ما يؤدي إلى وقف تيار النهضة. إن عملية البحث عن الفكرة النيرة وقدح العقول في المجتمعات الإسلامية وتغيير أنماط التفكير التي سبق ذكر بعضها هنا هي مقدمة ضرورية لانطلاقة النهضة الإسلامية.
التفكير النمطي
الميل للمجاراة
نقل العادة
مقاومة التغير
عدم التوازن بين التنافس والتعاون
الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان
الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية
عدم التركيز على القول بل على القائل
التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها
الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تقدير قدراتهم
عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدراك الأخطاء
تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها
المنظومة الفكرية التي نحتاج إلى تغييرها تغييراً شاملاً
الخلط بين المبدأ والمنهج
حتمية استكمال التربية
عالم الأفكار المطلوب
بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج
إن أمتنا لا زالت تتعامل مع الوقت على أنه شيء غير محوري في قضية النهضة
أشرنا من قبل إلى تعريف مالك بن نبي لعالم الأفكار. وعلمنا أنه يشمل كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس وقد استعرضنا مجموعة الأفكار القاتلة المنتشرة بين أبناء الصحوة الإسلامية خاصةً وبين جماهير الأمة والمجتمعات عامة.
وقبل أن نترك هذا المشهد لابد أن نستعرض مجموعة من القيم والأفكار الهامة التي تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. وسنشير هنا إلى ستة أفكار أو قيم هامة:
أولاً: قيمة الوقت
يقول مالك بن نبي: "وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء، فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا، ووقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباءً".82
ويقول: "وسيثبت هذا عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى، ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة."83
إن أمتنا لا زالت تتعامل مع الوقت على أنه شيء غير محوري في قضية النهضة، وسادت أفكار قاتلة تقول بأن حركة النهضة يمكن أن تتم في مئات السنين، وذلك لتبرير السير البطيء جداً في طريق النهضة، وتم استدعاء - في غير محله – لبعض القصص مثل قصة سيدنا نوح للتدليل على أن مئات السنين ليست مقياساً في عمر الأمم.
التجربة النبوية والصين واليابان وألمانيا كلها مشاريع نهضوية أنجزت في وقت قياسي
ورغم أن سيدنا نوح قارب الألف عام في دعوته، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون السقف الزمني لمشروع النهضة مفتوحاً لهذا الحد، فحتى سيدنا نوح شهد النصر (الطوفان) في عصره، وهذه كانت أعمار الأمم، أي أن جيله شهد بداية الدعوة كما شاهد انتصارها في نهاية المطاف، فلقد كانت أعمار الأجيال كلها طويلة.
وها هو المشروع النبوي ينجز في وقت قياسي وينجح النبي e في وضع لبنة قوية للمشروع في ثلاثة وعشرين عاماً، قس ذلك على الأمم الناهضة مثل الصين واليابان وألمانيا. ويعقب مالك بن نبي على تجربة ألمانيا - عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حطمت الحرب كل جهازها الإنتاجي – بقوله: "يمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والزمن"84
إن تيار النهضة بحاجة أن يدرك قيمة الوقت، وأن كل تأخر فإنه يعني مزيد من التخلف، خاصة إن كان المتربصون بالمشروع يتحركون ليل نهار.
ثانياً: مفهوم الإيمان:
فالإيمان إذا ما ذكر في مجتمعاتنا قفزت إلى أذهاننا قضايا الوحدانية والنبوة واليوم الآخر. وآخرون – وهم كُثُر – يستحضرون قصص العباد والنساك والزهاد. ولا شك أن الإيمان يشمل كل هذا، ولكن ليس هذا كل الإيمان.
إن مفهوم الإيمان مفهوم إيجابي يدفع إلى الحركة والفعل. فأول ما يشير إليه مفهوم الإيمان هو:
1. التحرر من الخوف:
فأهل الجاهلية كانوا يخافون من القوى الغيبية ومن قوى الطبيعة المختلفة. فكانوا يتعبدون إلى بعضها تزلفاً ظناً منهم بأنها تمنع عنهم ضراً أو
إن خلاصة مفهوم الإيمان هي التحرر من الخوف القلبي والحيرة العقلية(6/160)
تجلب إليهم خيراً. فلما آمن الناس بربهم وعلموا حقيقة هذه القوى الغيبية والطبيعية وأمنوا جانبها انطلقوا يجوبون أصقاع الأرض آمنين بأن النفع والضر من عند الله وحده.
2. وضوح القضايا الكبرى:
فالإنسان - وبخاصة الفلاسفة – عانى من حيرة شديدة حول قضايا الغيب: كالبعث والحساب وبدء الخلق والحكمة من الخلق وغيرها. فجاء الإسلام ووضح أصول الوحدانية والنبوة والحساب.
3. القدرة على التركيز على الكون المسخر والإحسان فيه:
فبعد أن أمن الإنسان جانب القوى الغيبية والطبيعية فاطمأن قلبه، وزالت حيرة عقله بتعرفه على الأمور الغيبية التي طالما بحث فيها. انطلق يستثمر قدراته في إعمار هذا الكون المسخر له بلا خوف أو حيرة. وبالتالي أصبح لهذا الإنسان هدفاً ومنهاجاً ينطلق به وإليه.
إن خلاصة مفهوم الإيمان هي التحرر. التحرر من الخوف القلبي، والحيرة العقلية.
وهنا يأتي السؤال: ما الذي نقصده بهذا الكلام؟ وما الذي نريد الإشارة إليه؟
نريد بشرحنا هذا لمفهوم الإيمان أن يعرف قادة وطلاب النهضة ما هو الجزء المنوط بهم. فالإيمان حرر قلوبهم وعقولهم لينطلقوا ويركزوا على استعمار الأرض وخلافتها وإعمار هذا الكون المسخر لهم. أما أن يظل الكثيرون محبوسين داخل دائرة قضايا القوى الغيبية كالجآن والشياطين وغيرها أو داخل دائرة قضايا الإيمان فيثيرون قضايا الفرق والنحل وشبهاتهم وافتراءاتهم فهؤلاء يعودون إلى السجن أو القيد الذي حررهم الإيمان منه. فيركزون ويجتهدون حيث تكفي المعلومة البسيطة، ويضيعون ويهملون حيث يجب التركيز والإتقان والإبداع.
إن قضايا الغيب والإيمان تكفيها المعرفة القلبية والعقلية
العمل الصالح هو كل عمل ينهض بالأمة
وبالنظر إلى الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية في أوروبا سنجد أن هذه الأمم قد اتخذت المسيحية ظِهْريّا، وكفرت بخرافاتها وأساطيرها وانطلقت في الكون المسخر تُعمِّر وتستعمر. فحررت عقولها وقلوبها أولاً ثم ركزت على الكون. وهذا ما فعله الإيمان بالضبط.
ولا نقصد بهذا المثال أن ننبذ ديننا، ولكن نقصد أن قضايا الغيب والإيمان تكفيها المعرفة القلبية والعقلية، ويكفينا منهج السلف الصالح من صحابة رسول الله r وتابعيهم. فإنهم لم يكثروا الجدال في هذه القضايا وإنما انطلقوا يجوبون الأرض، ففتحوا نصف العالم القديم في أقل من ثلاثين عاماً؛ بل لم يكونوا يعرفون تلك المصطلحات التي شاعت في علوم الكلام وغيرها من القضايا التي أثيرت فيما بعد.
مفهوم الإيمان
التحرر من الخوف
وضوح القضايا الكبرى
التركيز على الكون المسخر
ثالثاً: فلسفة العمل الصالح
وأول ما يتبادر إلى أذهان العقلية المسلمة بالعمل الصالح العمل التعبدي والخيري. كالصلاة والإنفاق وعمارة بيوت الله وإطعام الطعام. وكل هذا يدخل في باب العمل الصالح. ولكن العمل الصالح في حقيقته هو كل عمل ينهض بالأمة. فهناك فارق كبير بين المخترع المبتكر المسلم والمعتمر الذي يذهب إلى بيت الله الحرام كل سنة أو سنتين. وإلى هذا المعنى أشار العالم التابعي الجليل عبد الله بن المبارك حينما بعث إلى الفُضَيْل بن عياض - والملقب بعابد الحرمين – برسالة فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب
إن مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" تؤدي إلى إيقاف عجلة الحياة
ففي ذلك العصر كان قتال الروم هو العمل الصالح الذي به تنهض الأمة وتتقدم. فكان بذلك الجهاد خير من ملازمة المسجد الحرام والصلاة فيه على عظم أجره ومثوبته.
والله تبارك وتعالى قال في كتابه: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"85 ولم يقل أيكم يعمل عملاً حسناً. فالله يريدنا أن نقوم
بأحسن الأعمال. فالأعمال الحسنة كثيرة، ولكن ما هو أفضلها وأحسنها في هذا الوقت؟ وهو ما يطلق عليه العلماء "واجب الوقت".
ولقد كان النبي r يحشد المجتمع بأسره ويحفزه. يقول الرسول r:
1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق".86
2. "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا"87.
الحديثان السابقان يمثلان سلسلة الدعم المادي والتجهيز المعنوي للمرابط.
3. "ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا".88
وهذا الحديث يمثل سلسلة العمل الاجتماعي والتعليمي لكل المجتمع الذي يقف خلف المرابط.
قارن هذا الحشد النبوي بما فعلته ألمانيا عندما بنت نفسها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. لقد كان ما حدث لها دافعاً لتطوير قدراتها العسكرية، وتنظيماتها في مختلف الميادين في الحقبة النازية. وما قدرتها على البناء ثانية بعد الحرب العالمية الثانية إلا ثمرة لعالم الأفكار المنظم، والقيم السائدة والمتبقية – حتى بعد فشل ألمانيا في الحرب الثانية.
وتخيل معي الفكرة ثلاثية الجوانب، فإن عملية تنظيم الدفاع عن الوطن تحتاج إلى:
جيش منظم: مثقف مجهز مدرب قطعاً بما يكافئ ويفوق الأعداء المحتملين.
سورة العصر أجملت عناصر النجاح الستة
الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي
ولكن ما شكل المجتمع الذي يقف خلف هذا الجيش؟؟
عمل علمي: إنه مجتمع منظم ومثقف ومجهز ومدرب، كذلك ففكرة تجهيز الجيش ليست بإعطائه السلاح وفقط، ولكنها تبدأ من إعداد الطفل في الروضة، وتصل إلى البحث العلمي في المعهد والجامعة، وتمتد لتشمل المصنع الذي يحول البحوث إلى معدات وأجهزة تحرك عجلة الاقتصاد وتوفر للجيش أفضل السلاح، في تدفق لا ينقطع، وتنتهي بخطوط الإمداد وجودتها وما يسمى باللوجستيك. فهل يمكن أن ينجح مجتمع بدون كل ذلك؟!
عمل اجتماعي: إنه الضلع الثالث في المعادلة، وهو العمل الاجتماعي بكل أشكاله، ليضمن الأمن الاجتماعي لكل من على الثغور المختلفة
ترى هل تبين لك امتداد العمل الصالح وشبكته الواسعة؟؟ فأين ذلك ممن قصر العمل الصالح على مبلغ من المال يدفعه لعاجز أو في رحلة عمرة، ثم هو في غير ذلك مسيء ومقصر.
إن نجاح المجتمعات مرهون بصواب الفكرة عن العمل الصالح.
من هنا نعلم أن الحرص على القيام بأحسن الأعمال، وجعل ذلك الأمر ميداناً للتنافس بين العاملين؛ بل حتى أن تنافس نفسك وتحاول أن تتفوق عليها، هذا الحرص هو الضمان الوحيد لاستمرار عجلة الحياة. أما مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" فهي تؤدي إلى إيقاف عجلة الحياة.
جيش منظم
عمل علمي
عمل اجتماعي
رابعاً: قيمة العمل في فريق
وهي قيمة تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. فمجتمعاتنا قائمة على العمل الفردي والإنجاز الفردي. بينما قيمة أو كلمة الفريق تعني عدة أشياء.
سورة العصر أجملت عناصر النجاح الستة
الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي
فهي تعني التعاون والتواصل وجودة وسرعة الإنتاج، وهي الأشياء التي يفتقدها العمل الفردي.
وللعمل في فريق مستلزماته كالتعاون والتناصح - الذي إذا ما افتقد الفريق روحه يصبح متنافراً، بينما روح التناصح تدعو للتعاون والتكامل، وتجنب الأخطاء التي قد تعتري العمل – وتنوع المهارات والتركيز على نقاط القوة عند كل فرد.
خامساً: رعاية الحقوق
فرعاية حق الله تكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ورعاية حق النفس يكون بحفظها عن كل ما يهلكها. ورعاية حق الناس يكون بإنصافهم
حتى لو اختلفنا معهم في عقائدهم وتصوراتهم. وقد كان جوهر انتصار المسلمين الأوائل هو قدرتهم على الإنصاف.(6/161)
إن رعاية هذه الحقوق الثلاث ضمانة من ضمانات النجاح، والجور عليها هو أول الطريق نحو الفشل المحقق.
سادساً: الصبر
والشائع في مجتمعاتنا أن الصبر يكون على المصائب. بينما الصبر في حقيقته هو وقف النفس على المشقة، ومنه الصبر على أداء الأعمال حتى تنجز. فالصبر يكون على الدراسة وعلى الدعوة إلى الله وعلى البحث العلمي وعلى التفكير للأمة وعلى إقبال الدنيا وإعراضها.
مما سبق ندرك أن هناك ستة قيم هامة لابد من غرسها في عالم أفكارنا. ويمكن إيجازها في سورة العصر. فالله تبارك وتعالى يفتتح السورة بالقسم بالعصر في إشارة إلى قيمة الوقت. ثم يقرر حقيقة خسران الإنسان إلا من أدرك مفهوم الإيمان (آمنوا) ومفهوم العمل الصالح (عملوا الصالحات) وأدركوا قيمتي العمل في فريق ورعاية الحقوق (تواصوا بالحق) وقيمة الصبر (تواصوا بالصبر).
أثر الأفكار القاتلة:
العودة إلى الكتاب والسنة أول ما تبدأ به هو تغيير عالم الأفكار
إذا انتشرت داخل العقل ما يطلق عليه مالك بن نبي، الأفكار القاتلة، في الدين، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الفن؛ فهذه الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي، ولذلك سنجد - كما يقول نور الدين حاطوم في النهضة الأوروبية ويمكن الرجوع إلى ذلك في كتاب الذاكرة التاريخية - بأن حركة الإحياء في الغرب لم تبدأ بالنظر للمستقبل، إنما بدأت بتنقية التراث، ومحاولة استجلاب أحسن ما فيه من أفكار وإحيائها، فذهبوا إلى التراث الوثني؛ اليوناني والروماني على حساب المسيحية، وبدءوا يستلهمون منه فكرة المنطق، وفكرة البحث العلمي، والأفكار الأخرى التي رأوها نافعة، ثم أعادوا
هذا النافع بإحيائه، وبدءوا في النظر للمستقبل1.
إذاً كما يقول نور الدين حاطوم، لم تكن حركة النهضة كما تبدو حركة تنظر إلى المستقبل، بقدر ما كانت حركة رجعية، تنظر إلى الماضي، لكن هذه النظرة إلى الماضي كانت نظرة إيجابية، تستلهم من الماضي أحسن ما فيه،
وتؤسس عليه المستقبل المنشود،
إن العودة إلى الكتاب والسنة مطلب حقيقي، وأول هذه العودة يجب أن يكون بما بدأت به الدعوة من تغيير عالم الأفكار، والذي يتمثل في نظرة الإنسان للإله والكون والغيب والعالم المحيط به، وأيضاً تغيير أنماط التفكير التي تعيق أي حركة نهضوية حضارية من أسلوب التفكير المعوق.
المشهد المستقبلي
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد تخلصت من الأفكار والمقولات القاتلة للإبداع والإنتاج. فانطلقت تفكر وتبدع في شتى مجالات الحياة.. تصنعها وتصوغها لتحقق نهضة الأمة التي ترنو إليها وتشتاق لها جماهير الأمة.
نحو التنفيذ
فليتكاتف القادة والمربون لإعادة تنظيم العقول المسلمة
ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد أن تحرص المؤسسات العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية والجهات المعنية بالعملية التربوية وغيرها على تغيير أنماط التفكير الشائعة لدى أفرادها، وإعادة النظر في طرق تربية النشء، والأفكار التي يتم تنشئتهم عليها.
وحتى يتم ذلك فمن الممكن الاستعانة بالسلسلة الكاملة للمناهج والأدوات التي ترسم وتنظم الخارطة الذهنية في العقول المسلمة.
تذكر أن
* الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.
* التغيير والإصلاح يبدأ من عالم الأفكار أولاً.
* القرآن نزل على أمة يميزها اختلال جميع العوالم.
* عالم أفكار الجاهلية كان يعاني من اختلال قيمي ومفاهيمي وإعراض شديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن.
* عالم أفكارنا المعاصر يعاني من مجموعة من أنماط التفكير التي تهدد حركة الصحوة بالشلل والجمود.، وهي: الخلط بين المبدأ والمنهج / سوء تعريف التربية / التفكير النمطي / الميل للمجاراة / نقل العادة / مقاومة التغير / عدم التوازن بين التنافس والتعاون / الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان / الأفكار ليست طموحة ولا تناسب الهمم العالية / عدم التركيز على القول بل على القائل / التحفز للرد على الفكرة / الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء / عدم الاستعداد لنقد الذات وتدارك الأخطاء / المبالغة في تسطيح أو تهويل الأمور.
* النفوس تواقة لمن يحدثها عن المستقبل، لا من يحدثها عن أمجاد الماضي ولو كان عظيماً.
المشهد الرابع -أهمية دراسة التاريخ
المشهد الراهن
إنه مشهد يصور الحالة العقلية لقادة وطلاب النهضة وموقفهم من التجارب التاريخية
سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. وينكفئون إلى ممارسات ضيقة إذا ما احتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع. إنهم لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال.
وسنرى في المشهد أيضاً بعض القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي دون وعي بما قُدِم لهم من جهد. وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها.
وهناك الكثيرون الذين لا يحفظون من التجارب والنماذج التاريخية الناجحة سوى سيرة رسول الله r وسيرة عمر بن عبد العزيز والناصر صلاح الدين الأيوبي. ويعقب هذه التجارب فراغ معرفي كامل.
وسنجد في الساحة كثيراً من العاملين في مشروع النهضة الذين لا يريدون تحمل أي نوع من المخاطر، وإنما يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً. فهم محجمون عن أي مبادرة أو فعل حقيقي لاعتقادهم بوجوب تحمل غيرهم التكاليف، أما هم فلم يحن دورهم بعد. فلصعوبة الأوضاع ووطأتها الشديدة فإقدامهم غير وارد، وصبرهم طويل، ولا يدري هؤلاء أن "الغُنْم بالغُرْم" وأن كل العظماء تحملوا وأقدموا حين أحجم الآخرون، وعم المثل القائل: "ما فاز باللذة إلا الجسور". وهكذا تتم حراسة فكرة الإحجام عن العمل بمجموعة مقولات عن الحكمة والروية، فأين هي تلك الحكمة؟؟!!
رفع الواقع
تقوم معادلة النصر على "أولي الأيدي والأبصار"
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.
17. كم كتاباً في التاريخ تقرأ في العام؟
18. ما هي نوعية الكتب التاريخية التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)
19. هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى بعضاً من التاريخ الإسلامي وبعضاً من سِيَر الصحابة والتابعين؟
20. كيف تقرأ كتب التاريخ أو التجارب التاريخية؟ وما هي الجوانب التي تركز عليها؟
21. ما هي أهمية دراسة التاريخ؟
بمثل هذه الأسئلة تعرف نموك العقلي في صناعة النهضة، ووعيك في مرحلة اليقظة. فإن لم تكن من المجدين في النظر فيقيناً ليس عندك إلحاح السؤال الضروري لبناء الوعي. ومهما علت عاطفتك فهي وحدها لا تكفي، لأن معادلة النصر تقوم على "أولي الأيدي والأبصار". أي من يمتلكون القدرة التنفيذية مع الرؤية وبعد النظر.
نقطة البدء(6/162)
إن إطلاق القوى الكامنة داخل هذه الجموع الملتفة حول الإسلام يحتاج إلى قادة.. فكيف نعدهم؟؟!!
استعرضنا في المشهد السابق قضية التخلف. ومما لاشك فيه أن انتشال الأمة من هذا التخلف الذي يحجب خيوط الفجر – الذي بدت تباشيره - عن عيوننا يحتاج إلى قادة.
إن إطلاق الطاقة الكامنة داخل هذه الجموع الملتفة حول الإسلام يحتاج إلى قادة.. فكيف نعد هؤلاء القادة ونجهزهم لتحمل هذه المسئوليات؟؟
نعتقد أن ما يحتاجه القادة كثير، ولكننا سنركز في هذا المشهد على موضوع واحد، وهو أهمية وجود قاعدة تاريخية صلبة لدى قادة المستقبل.
العاملون ودراسة التاريخ
ليس التاريخ هو الماضي، ولكنه قاعدة الحاضر وانعكاس كليهما على المستقبل
من لم يكن له نصيب وافر من تجربة البشرية فهو يبدأ من الطفولة البشرية.. أي من الصفر
يعتقد الكثيرون أن دراسة التاريخ90 هي دراسة الماضي. ولكن التاريخ ليس هو الماضي. إنه قاعدة الحاضر. كما أنه انعكاس كليهما على المستقبل. فمن لم يكن له تاريخ أو نصيب وافر من تجربة البشرية فهو في عناء كبير، وفي جهل فاضح. لأنه يبدأ من الطفولة البشرية. أي أنه يبدأ من الصفر.
والنظر إلى التاريخ عمل عقلي يحتاج إلى جهد من القادة. إلا أن العطالة العقلية - التي أشرنا إليها من قبل – والسائدة في مجتمعاتنا جعلت كثيراً من العاملين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. ولكن عندما يحتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع، ينكفئ الكثيرون إلى ممارسات ضيقة، ويبتعدون عن هذا المجال الشاق. وكما أن الأمة بحاجة إلى الإيمان والإخلاص والعبادة والصلاة، فهي بحاجة لعقل راجح يوجه حركتها، ولعمل دءوب يجيب على أسئلة الواقع وعلى تناقضاته.
وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام وهو أن كثيراً من العاملين في ساحة المشروع الإسلامي لنهضة الأمة لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال. وكلا الطرفين ذميم.
طرق تفكير القادة
نعود مرةً أخرى لموضوع إعداد القادة عقلياً في مجال التاريخ، لننقل ما قاله جون بيريه في كتابه "الذكاء والقيم المعنوية في الحرب". فهو يقول: ".. ويحدد القائد بفكره ثلاثة مواقف ويتبع ثلاث طرق في التفكير: الأولى طريق المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات..".
يتبع القائد ثلاث طرق للتفكير: طريقة المنظر.. وطريقة الطبيب.. وطريقة رجل الأعمال
إذا اكتفى العاملون بالتنظير وإعداد التصورات دون الدخول في المخاطر المحسوبة أصيبوا بالشلل التحليلي
وتثير هذه المقولة الكثير من التساؤلات حول قادة المشروع المعاصرين ورصيدهم من العلم بالتجارب التاريخية، وحول مدى قدرتهم على استخلاص القواعد العامة. كما أنها تثير سؤالاً آخر حول كم القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي. وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها، إذ أنهم يكررون تجاربهم السابقة دون وعي بمتطلبات الحاضر والمستقبل.
وهكذا فلابد من إعداد القائد ليلعب دور المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات. فهذه هي أول الوظائف الفكرية التي يجب تدريب وإعداد القائد عليها.
ثم يتبع جون بيريه بقوله: ".. إن القائد له طريق الطبيب، الذي يحلل ويناقش، ويوازن المعطيات في حالة خاصة محددة..".
ففي كل يوم تُستجد ظروف، وتُطرح قضايا، وتُثار أسئلة، وتُواجه وقائع جديدة، ويحتاج القائد لمواجهتها أن يحلل حالة خاصة في وضع خاص وتحت ظروف خاصة، فلابد أن يمتلك هذه القدرة على المناقشة والتحليل والموازنة. وتدريب القادة على اتباع هذه الطريقة يحتاج إلى الكثير من العمل.
أما الأمر الثالث والهام عند جون بيريه فيتضح في قوله: ".. وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ..".
إذ أن طريق التنظير والقراءة وإعداد التصورات، وطريق التحليل والمناقشة وعمل الموازنات إذا توقف عند هذا الحد يصاب الإنسان بالشلل التحليلي91. فلابد من استكمال هذين العنصرين بعنصر ثالث وهو عنصر
كثير من العاملين يريدون نجاحاً بارداً ميسوراً دون الدخول في معادلة المخاطر المحسوبة
المبادرة وقبول تحمل المخاطر المحسوبة calculated risk)).
إن كثيراً من العاملين في مشروع النهضة اليوم لا يريدون تحمل مثل هذا النوع من المخاطر، ولكنهم يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً، وهو ما يخالف أي قراءة تاريخية، ولننظر في تجارب الأنبياء والمرسلين قبل النظر في تجارب غيرهم من القادة والمصلحين، فهل أدت تجربة من هذه التجارب إلى عالم مثالي سواءً في مرحلة ما قبل التمكين أو في أثناء مرحلة الصراع والتدافع أو حتى بعد التمكين دون تحمل المخاطر والآلام؟ أم أن كل هذه الرسالات وتلك الحركات كانت لها مصاعبها التي واجهتها خلال هذه المراحل والأطوار المختلفة؟ فالعالم المثالي - الذي ينشده بعض العاملين بشروط كاملة لا ضرر فيها ولا مخاطرة - غير وارد في أحوال البشر والمجتمعات.
فلابد للقائد من طريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ ويقتنص الفرص ويتحمل هذا الجزء من المخاطر المحسوبة.
إذاً يحتاج قادة المشروع إلى اتباع طريق المنظِّر، وطريق الطبيب الذي يحلل حالة خاصة لمريض بعينه ويناقش ويوازن، وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ. فإذا ما توافرت هذه المواصفات الثلاث لدى قيادة المشروع النهضوي نكون قد حظينا بالقيادة المطلوبة والتي نسعى إليها.
طرق تفكير القادة
طريقة المُنظِّرْ
طريقة الطبيب
طريقة رجل الأعمال
أهمية دراسة النماذج التاريخية
تعطي التجارب التاريخية سعة كبيرة في العقل
إننا نبني جزءاً من التفكير الاستراتيجي لدى القائد عندما نزوده بخارطة تاريخية يتعامل بها مع الواقع، فالتفكير الاستراتيجي كما يقول كنيتش أوميه في كتابه "فن التفكير الاستراتيجي": "التفكير الاستراتيجي يبدأ أولاً بفهم واضح لكل عنصر من عناصر الوضع القائم، ثم ينطلق مستخدماً أقصى القدرات العقلية لإعادة ترتيب العناصر بأفضل طريقة تحقق الميزة التنافسية".
وأقصى القدرات العقلية في تصورنا هي هذا البناء الذي تكمن في أحد أهم مدخلاته قضية التجارب التاريخية وتنوعها. إذ أنها تعطي سعةً كبيرةً في العقل بالإضافة لعناصر أخرى في التفكير القيادي التي يجب أن يدرسها أي إنسان يعتني بالشأن العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
عقل القائد
وقدراته
التجارب التاريخية
عقل راجح
تصورات وإجابات
حوادث متفرقة
سياسية
اقتصادية
اجتماعية
فكرية
روحية
علمية
أخلاقية
مدخلات
مخرجات
البحث والنظر
تلعب النماذج التاريخية دوراً كبيراً في تشكيل العقلية الاستراتيجية للقائد
وهكذا فإن النماذج التاريخية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذه العقلية الاستراتيجية. ولكن ما الذي يدرسه القائد في التاريخ وكيف يدرس؟؟(6/163)
يستهدف علم التاريخ جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها. ولا نقصد بذلك أن يتحول القادة إلى أكاديميين، ولكن عندما تأتي قضية التفسير يأتي دور القائد في جزئه التنظيري التصوري الذي يشارك فيه في بناء التصورات، فهو يقوم بمقارنة وربط الجزئيات بالكليات من خلال اطلاعه على حقول واسعة من التجربة البشرية مع القدرة على
لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها
تشكيل المعلومات في نسق ثم استنتاج الخلاصات. فغاية القائد أن يفهم القوانين العامة، وأن يفهم النواميس الكونية، وأن يفهم سنة الله في خلقه لأنه يتعامل مع السنن. وانظر إلى قول البنا في مؤتمره الخامس: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض". هذه القدرات المتنوعة للقائد في فهم القوانين ثم الاستفادة منها في التعامل مع قوانين أخرى هي المحصلة الكبرى لدراسة التاريخ. وبالتالي فلابد لمعاهد تخريج قادة النهضة من العناية بدراسة النماذج التاريخية الناجحة والفاشلة في قضايا التغيير والتمكين.
دور القادة
مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات
الاطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة
تشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج
إذا كانت الذاكرة التاريخية لا تحوي سوى نموذجاً أو اثنين فحصيلة القائد ضعيفة
النماذج الشائعة في عقول طلاب النهضة
يحلو للبعض عندما نتحدث عن التاريخ أن يذكر سرداً للسيرة النبوية المطهرة المشرفة، أو أن يقفز إلى فترة عمر بن عبد العزيز أو صلاح الدين الأيوبي. لكن كم بين هذه الفترات من تجارب ثرية سالبة وموجبة يمكن البناء عليها واستخلاص النتائج منها؟!. وإذا كانت الذاكرة لا تحتوي إلا نموذجاً أو نموذجين – هذا إذا افترضنا حسن القراءة لهذه النماذج - فعندها تصبح حصيلة هذا القائد ضئيلة وضعيفة، وبالتالي يصبح حكمه على الأمور ومقارباته شديدة البعد عن الواقع وعما هو مطلوب.
التاريخ: أداة استخراج النماذج.. أداة للإقناع.. أداة لرفع الروح المعنوية
التاريخ كأداة من أدوات القادة
لذا فلابد لقادة النهضة من دراسة النماذج التاريخية. فالتاريخ ليس علماً للمتعة؛ بل هو أداة هامة لعدد من الأشياء:
- هو أداة من أدوات استخراج النماذج والمقاربات من واقع القائد والمستقبل المتوقع.
- وهو أداة للإقناع. فعندما تتحاور مع شخص ما ثم تستلهم التاريخ لتدلل على ما تقول، فأنت تتكلم عن شيء حقيقي، لا عن أوهام أو ظنون.
- وهو أداة لرفع الروح المعنوية. وانظر مثلاً في هذا الجانب إلى الطريقة التي يتبعها الغرب في رفع الروح المعنوية عند أتباعه باستخدام التاريخ.
استخدام التاريخ كأداة
لاستخراج النماذج والمقاربات
للإقناع
لرفع الروح المعنوية
كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟
التاريخ أداة لاستخراج النماذج:
إن نظرة واحدة على عمليات التحرك لتغيير الواقع في التاريخ تضعنا أمام نماذج لا حصر لها من الممكنات. فما هي قراءاتنا حول المشاكل التي واجهها قادة التغيير والحلول التي جربوها؟؟
ماذا نقرأ مثلاً في: تجارب الأنبياء غير المحاربين وتجارب الأنبياء المحاربين؟ وكم عدد المحاولات التي جربها الرسول r للانتقال من شريحة البدء إلى إيجاد شريحة التغيير؟؟ وما هي دلالات هذه المحاولات المتنوعة؟؟ وما هي الاستجابات المختلفة لقضايا الواقع وما دلالتها؟؟ وما هي العبرة من تحركات العلويين ومآلات تجاربهم؟ وما هي العبرة من تحرك العباسيين ونجاحاتهم؟؟ وما هي العبرة من تحركات ومآلات الخوارج وغيرهم؟؟ وهكذا...
كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟
وماذا نقرأ في: التجربة الألمانية والفرنسية والبريطانية والروسية والصينية؟ وما هي تجارب الثوار في أمريكا الجنوبية وما العبرة منها؟؟ وهكذا...
إن تنوع الوسائل والنماذج تعطي سعة لا حصر لها سواء على مستوى الاستراتيجية، أو على مستوى التكتيك.. فكل تجربة تغيير أو احتشاد للنهضة في مجتمع ما هي إلا خبرة مضافة ودرس يحتاج إلى تعلم. وتدريب القادة على القراءة والربط والمقاربات وعمل النماذج هو أول أولويات طلاب النهضة.
كيف رفع المؤرخون الغربيون من الروح المعنوية لشعوبهم؟؟
التاريخ أداة لرفع الروح المعنوية
تقول زيغرد هونيكه في كتابها المشهور "شمس الله تشرق على الغرب": "من يتصفح مائة كتاب تاريخ لا يجد اسماً لذلك الشعب (العرب) في ثمانية وتسعين منها. وحتى اليوم فإن تاريخ العالم لا يبدأ بالنسبة للإنسان الغربي وتلميذ المدرسة إلا بمصر القديمة وبابل بدءاً خاطفاً سريعاً!! ثم يتوسع ويتشعب في بلاد الإغريق وروما!! ثم ماراً مروراً سريعاً ببيزنطة!! منتقلاً إلى القرون الوسطى المسيحية لينتهي منها آخر الأمر بالعصور الحديثة".
والسؤال الآن:
لماذا المرور السريع في سرد الحضارات القديمة؟؟!!
ولماذا التشعب والتوسع في سرد حضارات بلاد الإغريق وروما؟؟!!
ولماذا تم اختزال فترة العصور الوسطى ثم التوسع في العصور الحديثة؟؟!!
ويمكن إجمال الأسباب التي دعت المؤرخين الأوروبيين إلى تناول وعرض التاريخ بهذه الطريقة فيما يلي:
* أن تقزيم دور الحضارات المشرقية في زاوية صغيرة من كتاب التاريخ – عند صناعة العقل الأوروبي - يجعل فترة روما والإغريق تأخذ بعداً أكبر. وبالتالي تُهمَّش أدوار الحضارات الأخرى، فيصبح التاريخ البشري كله قبل روما وقبل اليونان – في العقل الأوروبي -هو فترة قليلة في الوجدان.
تضخيم المؤرخين لفترة اليونان والإغريق يغرس في الشعور أن إنجازاتهما هي أم التراث الإنساني. وهذا من قبيل البعث النفسي لشعوبهم
* أن التضخيم لفترة اليونان والرومان وإنجازاتها يغرس في الشعور والعقول أن إنجازات الإغريق والرومان هي أم التراث الإنساني. وهذا من قبيل البعث النفسي للشعوب الأوروبية.
* أن تقزيم واختزال وتهميش فترة العصور الوسطى (عصور الظلام في العقل الأوروبي) وبيزنطة - وهي تقرب من عشرة قرون سادت فيها الحضارة الإسلامية وحضارات أخرى – رغم أنها الأطول في التاريخ الأوروبي يشعر القارئ والطالب الأوروبي أن أوروبا كانت باستمرار مهد الحضارة. وأن الذكاء الأوروبي هو أمر ممتد منذ القدم وحتى زوال الكون.
* الانتقال المباشر إلى عصر النهضة والعصور الحديثة والإشادة بهما لأنهما يمثلان العصر الأوروبي المجيد.
* ثم يتم التوسع في التاريخ الأوروبي المعاصر الذي يمثل قمة البعث النفسي والعظمة والمجد الأوروبييْن.
وبذلك أسقط المؤرخون الأوروبيون الحضارات القديمة بضربة فنية، وأسقطوا الحضارة الإسلامية التي امتدت عشرة قرون متواصلة بضربة فنية أخرى، وجعلوا تاريخ العالم يبدو خطاً غير منقطع للتاريخ الأوروبي، فيعيدون بذلك تشكيل عقلية الطالب الأوروبي لاستقبال هذه المعلومة، وعندها لا يتبقى في عقليته إلا عظمة اليونان والرومان، واتصال ذلك بعظمة أوروبا الحالية و يسقط ما بينها من فجوات أو تساؤلات.
فإذا نظر الطالب إلى هذه الحضارة الممتدة العظيمة، رآها في القمة دائماً وعلى مر العصور، فهي لابد أن تسود وأن تهيمن. بينما العالم الآخر - في عينيه - لابد وأن يكون مهيَمناً عليه.
وهكذا فإن استخدام التاريخ بهذه الطريقة هو استخدام في مجال الصراع، وليس استخداماً محايداً للتاريخ92.
إن استخدام التاريخ بهذه الطريقة الغربية ليس استخداماً محايداً وإنما هو في صميم مجال الصراع(6/164)
لكل أمة تاريخان: كبير يرفع الروح المعنوية، وصغير يخفض الروح المعنوية
التاريخ أداة لخفض الروح المعنوية
وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام، وهو أن التاريخ إذا كان يستخدم كأداة لرفع الروح المعنوية - لو كان المقصود بناء أمة – فهو يستخدم أيضاً لتشويه الأمم وخفض روحها المعنوية – لو كان المقصود هدم أمة. فلو كان المراد هو بناء الأمة يتم استعراض تاريخ الإنجازات في الفتوحات والتقدم والتوسع الحضاري والتاريخ العلمي وتاريخ الإنجازات التطبيقية في مجالات العلوم وغيرها وهو ما يسمى بالتاريخ الكبير. أما إذا كان المراد تشويه سمعة أمة أخرى فيتم استعراض تاريخ القصور والصراعات التي كانت على الحكم, وأحوال الملوك ورجال ونساء البلاط وهو ما يسمى بالتاريخ الصغير، ويتم تجاهل التاريخ الكبير تماماً.
إذاًَ هناك تاريخ كبير يرفع من معنويات أي أمة، وهناك تاريخ صغير يمكن أن يحط من قدر أي أمة. فإذا افترضنا أن التاريخ ليس أداة محايدة تُذكر فيها كل الإيجابيات والسلبيات - وذلك لا يحصل في الغالب - إنما يستخدم التاريخ في كثير من الأحيان كتاريخ وظيفي؛ بمعنى أنه يستخدم لتعزيز قوة ومنعة أمة ما وحصانتها وإحساسها بهويتها، فإذا وجدت في مجتمعاتنا من يشتغلون بالتاريخ الصغير وينسون تاريخ الفتوحات وتاريخ العظماء والمبدعين في الأمة فاعلم أنهم يعملون لصالح مشروع آخر. هذه حقيقة لا يجادل فيها إلا من لا يعرف نوعية الدراسات التاريخية التي تقدم، وكيف يقدم التاريخ وكيف يستخدم.
التاريخ الكبير
التاريخ الصغير
لرفع الروح المعنوية
لخفض الروح المعنوية
أنواع التاريخ
ما هي المساحة المطلوب دراستها في الحد الأدنى؟؟
يحتاج المسلم إلى خارطة معرفية جيدة تضم التجارب التاريخية الإسلامية وغير الإسلامية.. السالبة والموجبة
ما يجب أن يدرسه طلاب النهضة
نعود لنقرر أننا يجب أن نحدد المساحة التي يحتاجها قائد النهضة من التاريخ. فمما لاشك فيه أنه لا يوجد الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يقرأ كل شيء، فما الذي سننتقيه من التجارب لتتم دراسته؟ وكيف ندرب طلاب النهضة على الدراسة المنهجية لهذه التجارب؟
إن الحد الأدنى الذي يحتاجه القائد هو دراسة شيء من نهضات الأمم في الشرق وفي الغرب. وليبدأ بتاريخ أمته. فليبدأ بدراسة السيرة النبوية ودراسة التاريخ الإسلامي. وهذه الدراسة تلعب دوراً كبيراً في تأطير الفكر الإسلامي النهضوي.
ثم ليدرس تاريخ الصين، وتاريخ الثورة الفرنسية قبل وأثناء وبعد قيامها، وتاريخ بريطانيا، وتاريخ اليابان، وتاريخ ماليزيا، وربما يحتاج الإنسان أن يقرأ تاريخ قارة أمريكا الجنوبية إذ أن كثيراً من المسلمين يعتقدون أن ظاهرة الهيمنة وظاهرة الاحتقار وظاهرة الأذى تقع على المسلمين وحدهم، وينسون أن شعوباً مسيحية ممتدة في أمريكا الجنوبية تعاني مما يعاني منه المسلمون. وفي ذلك توسيع للآفاق، في نظرة إنسانية شاملة، تبحث عن العدل والإنصاف، وليس عن الاستعلاء لسبب أو لآخر، لقول الله سبحانه وتعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"93، وقوله: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"94. إن قضية الاستعلاء والاستكبار تشمل البشرية، وإن التحرير يجب ألا ينصب على تحرير المسلمين وحدهم، بل على تحرير البشرية من الظلم، وبعدها للبشرية أن تختار، وللناس أن يختاروا عقائدهم وأديانهم كما يشاءون، ولكن على قاعدة سواء من العدل تشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم.
لابد من الدراسة المتأنية العميقة لتجارب ما قبل الدولة وما بعد الدولة
إذاً يحتاج الإنسان إلى خارطة معرفية جيدة على الأقل في هذه المساحات التي تحدثنا عنها. كما أننا نحتاج إلى دراسة الفرق الإسلامية دراسة متمعنة في معطياتها العامة، وفي أثر الواقع عليها، وفي قيادتها، وفي إدارتها، وفي اختيار شرائحها، وفي الخطاب الذي تترست به، وفي التمويل، وفي التأمينات، وفي السياسات، وفي أطروحاتها الشرعية، وفي التوقيت، وفي الصبر والحكمة والأناة فيها، وفي الاستراتيجية والتكتيك، وفي الإشكاليات التي واجهتها، سواء كانت هذه التجارب ناجحة أو فاشلة. إن دراسة بهذا المعنى الذي ذكرناه تثري عقلية القائد وتضع له نماذج كثيرة ومتعددة يستطيع أن يلجأ إليها.
وحسبك أن تقرأ في التجارب الناجحة التجربة العباسية قبل التمكين، لترى عظم الثروة التي قد تتاح عند دراسة التجارب التاريخية بشكل مختلف وبطريقة مختلفة.
ويلزم القائد أن تكون له خارطة مبسطة لا تزيد عن صفحة واحدة لتاريخ أمته بحيث يستطيع أن ينسب كل المعلومات الأخرى التي ترد إليه إلى هذه الخارطة الصغيرة الموجودة في ذهنه. وسوف نتحدث عن هذه الخارطة التاريخية في كتاب منفصل بإذن الله.
كيفية تناول التجارب التاريخية
السؤال الذي يتلو ذلك: ما هي نوعية الدراسات التي يجب أن نضعها في القضية التاريخية ونقترحها على القادة؟
عند دراسة أي تجربة من التجارب التاريخية التي وصلت إلى التمكين يجب دراسة ما فعلته هذه الحركة أو الدولة أو التنظيم أو غيرها في فترة ما قبل التمكين. فتدرس المعطيات العامة فيها، ودرجة المرونة عند قيادتها في اختيار البدائل، وعدم الانغلاق على بديل واحد، وأثر الواقع واختيارها للموقع، واختيارها للقيادة وتأمينها، ونوعية الإدارة التي نظمتها، وكيف اختارت شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة ما بعد التمكين؟ وكيف
لابد من الدراسة المتأنية العميقة لتجارب ما قبل الدولة وما بعد الدولة
لابد من دراسة فترة الاضطراب الأولى التي تحدث في أعقاب التمكين، ونشأة وعوامل الاستقرار المؤدي إلى التوازن
صاغت خطابها قبل وأثناء وبعد التمكين؟ وما هي نوع التأمينات التي حصنت بها حركتها وهي تتحرك في كل مرحلة من المراحل؟ ثم ما هي السياسات العامة التي اتبعتها؟ وكيف تعاملت مع قضية الشرعية؟ وكيف اختارت توقيتات التحركات؟ وما درجة الحكمة والصبر والأناة لدى قادتها؟ وما هي الاستراتيجية والتكتيك في عملها؟ ثم ما هي الإشكاليات التي واجهتها وكيف تغلبت عليها؟
ويتوقف كثير من العاملين عند هذه المرحلة، ويهملون دراسة الدولة بعد قيامها. فكثير من طلاب النهضة يعتقدون أن الدولة التي تواجه صعوبات بعد التمكين لم تعد إعداداً جيداً لمرحلة التمكين، وهذا خطأ فادح،
إذ أن كل حركة تصل إلى التمكين لابد أن تواجه بإشكاليات تهدد وجودها ابتداءً. حدث هذا في حركات التمكين التي قادها الأنبياء، وفي حركات التمكين التي قادها المصلحون، بل وحتى في حركات التمكين التي قادها غير المسلمين في عصرنا هذا وفي كل عصر.
إن الدولة عندما تنشأ تواجه بالعديد من المشاكل التي تهدد وجودها، ثم هي تتعامل بتوازنات الدولة حتى تستطيع أن تحقق استقراراً ما فتنتقل من تهديد الوجود إلى إيجاد الاستقرار وتأمينه الاستقرار للانطلاق إلى مرحلة النهضة والتنمية.
لابد أن يدرس طلاب النهضة فترة الاضطراب الأولى التي تحدث في أعقاب التمكين، ثم كيف ينشأ الاستقرار، وما عوامل الاستقرار التي أدت إلى إحداث التوازن؟ ثم كيف انتقلت أي دولة لعملية التنمية أو تراجعت من التنمية إلى منحدرات تهديد الوجود؟.
تهديد وجود
تهديد استقرار
تهديد تنميةالمراحل التي تمر بها الدول
إن دراسة هذا الخط الحي المتحرك في أي دولة من الدول هام جداً بالإضافة إلى دراسة أسباب الهبوط أوالانكسار إن حدث.
يشهد التاريخ والواقع باستحالة قيام أو استلام نموذج مثالي دون حدوث فترات اضطراب وانشقاق(6/165)
أما أن يكتفي بعض قادة المشروع بمشاهدة التجارب ليحكموا على هذه أنها تنقصها التربية، وعلى تلك أنها لم توفر قاعدة صلبة، ثم لا تُعرَّفُ هذه القاعدة الصلبة تعريفاً واضحاً ولا تحدد هذه التربية وكيف يحكم عليها؛ فإن هذا أمر خطير يؤدي إلى مجموعة أمور:
الأمر الأول: أننا لا نستفيد من تجارب البشرية.
الأمر الثاني: النظرة الطوباوية95 (المثالية) التي تتوقع وجود مغنم من دون مغرم.
الأمر الثالث: إشاعة البطالة الفكرية، وعدم إعمال العقل للتحول وإجراء اللازم للاستفادة من هذه التجارب والاقتباس منها.
وللتغلب على هذه القضية الخطيرة يجب التفكير في كيفية الاستفادة من التجارب الأخرى وتطويرها والبناء عليها وتجنب عثراتها بدلاً من الاكتفاء بموقع الناقد الذي يعتقد أن هناك نموذجاً مثالياً سيحدث في مكان ما، وذلك لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، والتاريخ شاهد على ذلك والواقع أيضاً يشهد.
إذا تمكنا من فعل ذلك نكون قد وضعنا أيدينا على منطقة هامة في تشكيل العقل القيادي وتنظيمه وترتيبه، بحيث يستطيع التعامل مع الواقع، ويستطيع أن يستشرف المستقبل وفي يده أدوات ونماذج جديدة. وكلما زادت هذه النماذج والأدوات، كلما كانت القدرة على إصدار أحكام أكثر علمية وأكثر نضجاً أمراً شائعاً داخل هذه المجتمعات الإسلامية المراد نهضتها على جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة.
أما القادة المستقبليين للأمة فيجب ألا يُتركوا للأعداء ليبنوا لهم تصوراتهم ويقزموا أدوارهم ويحولوهم إلى أدوات لخدمة مشاريعهم المركزية. فهم جزء من أمل الأمة في التحول والنهضة.
يشهد التاريخ والواقع باستحالة قيام أو استلام نموذج مثالي دون حدوث فترات اضطراب وانشقاق
إن انتشار ثقافة النماذج التاريخية وقوانين النهضة أساس في صناعة قادة الغد. ويجب ألا يقتصر على شريحة دون شريحة أو فئة دون فئة.. فحينما تصبح هذه النماذج والقوانين ثقافة مجتمع يمكن التعويل عليه، خاصةً في ظروفنا التي نشاهدها ونعلمها كأمة.
قراءة المسار التاريخي:
هل تسير تجارب النهضة في خط مستقيم صاعد أم في خط متعرج؟؟
إن دراسة نهضة أي مجتمع تشير إلى أن تقدم أي مجتمع لا يتم بشكل مستقيم، بل بشكل متعرج، ولكن المحصلة النهائية هي خط مستقيم عندما تزال الانكسارات.
وهذا معنى مهم لقادة النهضة عند الحكم على أي تجربة، فالمقياس العام ليس عدم وجود انكسارات وتراجعات، ولكن بقراءة الخط العام وتقدمه. فتجربة ماوتسي تونج في الصين تكللت بنجاح مذهل في المحصلة، ولكن دراسة التفصيلات تظهر أن العملية كانت كالسير في طريق مليء بالحفر و النتوءات. فمن ركز على الحفر والنتوءات ولم يستطع أن يرى الخط العام فلاشك أنه أخطأ القراءة.
إن نهضة أي مجتمع لا تمر في مسار مستقيم وإنما لابد أن تواجهها سلسلة من الانكسارات
المشهد المستقبلي
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية دراسة التاريخ والتجارب البشرية. فعكفت على استخلاص النتائج، وطرائق التغيير الناجحة والفاشلة، فتعرفت على مقومات النجاح وأسباب الفشل. فسارت في طريقها على هدى وبصيرة.
نحو التنفيذ
من أهم خطواتنا نحو النهضة دراسة التاريخ وإعادة عرضه واستخدامه في عملية البعث النفسي للأمة
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
* على قادة وطلاب النهضة دراسة التجربة النبوية والعباسية والفرنسية والأمريكية والبريطانية والصينية واليابانية دراسة نوعية.
* على قادة وطلاب النهضة دراسة التجارب المتعلقة بالإنسانية المضطهدة، مثل قارة أمريكا الجنوبية، ليستعدوا لحمل مشاعل تحرير البشرية ..كل البشرية مسلمها وكافرها، وليتمكنوا من لغة الخطاب الحضاري.
* على قادة وطلاب النهضة دراسة الخط الحي المتحرك للدول: الوجود والاستقرار والتنمية.
* على مفكري الأمة وعلمائها أخذ خطوات جادة نحو إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي لجموع العاملين وجماهير الأمة وقادتها.
* على الجهات التثقيفية والمؤسسات الإعلامية أن تستخدم التاريخ كأداة لرفع الروح المعنوية، وأن تعرض تجارب الأمم التي أرادت النهوض وتسلط الضوء على النقاط المفصلية في حركات النهضة.
تذكر أن
* التاريخ ليس هو الماضي، ولكنه قاعدة الحاضر، وانعكاس الاثنين على المستقبل.
* القائد يتبع ثلاث طرق في التفكير: طريق المنظر والطبيب ورجل الأعمال.
* دراسة التجارب التاريخية هي جزء من بناء الفكر الاستراتيجي للقادة.
* التاريخ يستهدف جمع المعلومة وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها.
* دور القائد هو مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات، والإطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة، وتشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج.
* التاريخ هو أداة لاستخراج النماذج والمقاربات، وأداة للإقناع، وأداة لرفع الروح المعنوية.
* العالم الأوروبي أعاد عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للشعوب والجماهير الأوروبية.
* يعد إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للأمة الإسلامية من أهم واجبات العاملين في مشروع النهضة اليوم.
* التاريخ نوعان: تاريخ كبير يرفع الروح المعنوية، وتاريخ صغير لخفض الروح المعنوية للشعوب.
* التجربة النبوية، والتجارب الصينية واليابانية والفرنسية والبريطانية والعباسية تعد من أهم التجارب التي يجب على القادة دراستها. وهي ليست الوحيدة بل مقترح أولي.
* دراسة التجارب التاريخية لابد أن تكون دراسة نوعية استقرائية، لا دراسة قصصية للمتعة والتسلية.
* المراحل التي تمر بها الدول هي مراحل تهديد الوجود ثم تهديد الاستقرار ثم تهديد التنمية. ولكل مرحلة فلسفة عمل وتوازنات مختلفة. وقراءة طرق وأنماط الأداء في كل مرحلة تعطي رؤية مختلفة لأنواع الأداء وفنونه.
المشهد الخامس -أهمية رفع الواقع
المشهد الراهن
إنه مشهد يصور الحالة الإسلامية البسيطة التي تفتقد الثقافة الإحصائية
سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، بينما ثقافتهم الإحصائية ومعرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة جداً. كما أن الكثيرون يعتقدون أن هذه الثقافة الإحصائية ثقافة دخيلة على الإسلام.
وسنجد الكثير من التجمعات والهيئات والحركات المساهمة في المشروع النهضوي لهذه الأمة تفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل تفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. بل وحتى مراكز البحث ذات الصلة بهذا النشاط الإحصائي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات - حتى ولو كانت غير دقيقة - للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.
وهكذا أضحت الساحة الإسلامية ميداناً للأنشطة والأعمال الكثيرة التي لا يدرك العاملون نتائجها وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا.
رفع الواقع
ترى هل تحكم على الواقع من خلال انطباعاتك أم من خلال لغة الأرقام؟؟(6/166)
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.
22. هل أنت مدرب على التعامل مع الإحصاءات والأرقام؟
23. هل تقرأ الإصدارات التي تصدرها مراكز البحوث والدراسات؟
24. كم إصداراً قرأت حتى الآن؟
25. كم عدد المرات التي قمت فيها ببناء خارطة لأنشطتك وأعمالك بناء على المعلومات الواردة في هذه النشرات والإصدارات؟
26. هل قمت بعمل إحصاء كمي أو وصفي بغرض جمع معلومات معينة في الساحة التي تعمل فيها؟ كم مرة؟
27. هل تستخدم مؤشرات قياس معينة لمعرفة مدى تقدم أو تأخر أنشطتك؟
28. ما هي القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب على قادة وطلاب النهضة مواجهتها والتعامل معها؟
بمثل هذه الأسئلة تعرف هل تمتلك ثقافة إحصائية تمكنك من رفع الواقع المحيط والبناء على المعلومات المتوفرة أم أنك تمارس الفعل بشكل عفوي دون بحث أو نظر.
نقطة البدء
تنطلق النهضات من حقائق الواقع المحيط بعد رصده وتكميمه
استعرضنا في المشهد السابق أهمية دراسة التاريخ، والتجارب التي لابد من دراستها، وطريقة تناول ودراسة هذه التجارب. أما في استعراضنا لهذا المشهد فسنتناول أهمية رفع الواقع، وأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية، وأهمية الاتصال بمراكز البحوث والدراسات ودعمها.
إن تقدم المجتمعات ونهضاتها لا تُبنى على الأوهام ولا على الأحلام أو التوقعات العشوائية، ولكنها تنطلق من حقائق الواقع المحيط بعد رصده وتكميمه وتوصيفه توصيفاً دقيقاً مبنياً على أدق قواعد البحث العلمي.
مستلزمات عملية التغيير
تستلزم عملية التغيير تحديد الواقع وتحديد الهدف المطلوب وقياس نتائج التدخل
في محاولات استنهاض الأمة تلعب المعلومات دوراً كبيراً وحيوياً
تُعرَّفُ عملية التغيير بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. هذا الانتقال من حال إلى آخر يستلزم ثلاثة أمور:
أولاً: يستلزم أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.
ثانياً: يستلزم أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.
ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.
ونضرب لذلك مثالاً بالمدرس الذي يُدرِّس لطلابه مادة الكيمياء. فالحالة التي ينطلق منها المدرس هي علمه بأن هناك حالة أولية من الجهل – لدى طلابه – بمادة أو علم الكيمياء الذي يتناوله. وانطلاقاً من علمه بهذه الحالة من الجهل يتدخل عن طريق القيام بأنشطة مختلفة لنقل الخبرة التعليمية. ثم يستخدم طريقة ما لقياس النتائج (ويقصد بالنتائج تغير الحالة الأولية التي كان عليها الطلاب من الجهل إلى الاستيعاب والفهم نتيجة لتدخله). فإذا لم تتحقق النتائج يقوم المدرس بإعادة تدريس الخبرة التعليمية وإيجاد وسائل أخرى لعرض المعلومة.
وبالمثل، فبالرجوع إلى مشروع النهضة سنجد أن هناك مجالات كثيرة يتم التدخل فيها لمحاولة استنهاض الأمة واستثمار قدراتها وخيراتها في سبيل إيجاد مكان لها على الخريطة العالمية. وتلعب المعلومات دوراً كبيراً وحيوياً في محاولات الاستنهاض والاستثمار. فمما لا شك فيه أن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم والمعلومات المتداولة في مختلف المجالات وعلى شتى الأصعدة هي معلومات مادية محددة يمكن قياسها؛ بمعنى آخر يمكن تكميم هذا الواقع وهذه المعلومات؛ أي معالجتها كمياً.
فحين يتحدث الإحصائيون مثلاً عن عدد المهتمين بالشأن الإسلامي على صفحات المجلات والجرائد أو في الفضائيات أو في غيرها من وسائل الإعلام فهذا واقع أو معلومة يمكن تكميمها وقياسها – معالجتها ومعاملتها كمياً - ويستطيع المهتمون بهذا الواقع أو هذه المعلومة أن يحددوا
تراجع أو تقدم هذه الظاهرة في أي مرحلة من المراحل لعمل التدخلات اللازمة أو لإيجاد البدائل المناسبة.
مستلزمات عملية التغيير
تحديد الحالة الأولية
قياس النتائج
تحديد الحالة المطلوبة
مسلمة هامة: الواقع متغير
الواقع متغير.. فالمعلومة التي نحصل عليها اليوم ونعتبرها كنزاُ دفيناً ستكون في الغد بلا ثمن أو فائدة
ولكن ينبغي على طلاب النهضة عند التعامل مع الواقع أن يعلموا أنهم يتعاملون مع واقع متغير. فالمعلومة التي نحصل عليها اليوم ونعتبرها كنزاً دفيناً ستكون في الغد بلا ثمن أو فائدة. فلا يمكن أن تكون هي نفسها وفي ذاتها المعلومة الموجودة في الغد، فالواقع متغير ولابد من متابعته.
إذاً هذا الحراك النهضوي الضخم الذي تقوم به دول وشعوب ومؤسسات وأفراد وأحزاب وتجمعات وجماعات يتعرض للخطر إذا لم يحدد ويقاس ويتابع. لذا فلابد من تحديد هذا الحراك بشكل يمكن قياسه، ولابد من متابعته لمعرفة ما يطرأ عليه.
لماذا رفع الواقع؟
إن هدفنا الأساسي من الإشارة إلى رفع الواقع هو أن تتقدم الحالة الإسلامية من الحالة البسيطة التي يعمل فيها العاملون دون أن يدركوا نتائج أعمالهم وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تَدَخُلهم يُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا، إلى الحالة المتقدمة الواعية التي يدرك فيها كل عامل طبيعة مشاركته في مشروع النهضة، ونتيجة عمله وتدخله وأثرهما على المشروع
لابد من الثقافة الإحصائية لننتقل من الحالة الإسلامية البسيطة إلى الحالة المتقدمة
الإسلامي سواء بالسلب أو بالإيجاب.
وحتى تتحقق هذه النقلة الكبيرة، وهذا التطور المرجو في المشروع الإسلامي فلابد من تحقيق الآتي:
أولاً: لابد من تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة. ثم ترتيب القضايا والملفات الفرعية داخل كل ملف منها.
ثانياً: لابد من وجود نظام يضمن المتابعة. فتوافر المعلومات وانتظام عملية المتابعة يؤدي إلى معرفة الموقف القائم، بل وإحداث التدخل الضروري في التوقيت والظرف المناسب.
ثالثاً: لابد من معرفة نتائج التدخل، ثم إعادة الكرة مرة ثانية بعملية تدخل أخرى لإحداث نقلة أخرى، وهكذا.
مطالب تطوير الحالة الإسلامية
تحليل الواقع
إلى ملفات كبيرة
معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل
انتظام عملية المتابعة
وتوافر المعلومات
تكمن التحديات أمام تطوير الحالة الإسلامية في مراكز البحث والدراسات وفي عقلية كثير من المسلمين
التحديات الكبرى أمام تطوير الحالة الإسلامية
ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من الصعوبات التي تقف حائلاً بين العاملين وبين تنفيذ مثل هذا المشروع. بعض هذه الصعوبات متعلق بالموارد، وبعضها متعلق بالمكان، والبعض الآخر متعلق بالزمان، ولا تقف الصعوبات عند هذا الحد؛ بل تتعداها إلى الكثير من مراكز البحث التي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات – حتى ولو كانت غير دقيقة -
ينبغي التركيز على تدريب كوادر تيار النهضة على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها
ليست الثقافة الإحصائية دخيلة على الإسلام.. بل كان أول من طبقها في الساحة الإسلامية هو رسول الله r
للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.(6/167)
ومن الأسباب - التي أدت إلى هذه الفجوة بين مراكز البحث وبين القادة والعاملين – ما هو متعلق بهذه المراكز من حيث تجويد منتجاتها وتمويلها عن طريق ضخ الأموال فيها وإيجاد المتخصصين والكوادر المناسبة لها، وذلك أمر ميسور لو تم توعية المستثمرين وقادة الدول بأهمية هذه المراكز البحثية ودورها الفعَّال في مشروع الأمة. ولكن وصول هذه المعلومات إلى المستفيدين الحقيقيين - وهم النشطاء من العاملين في ساحة التغيير - أمر آخر تكتنفه صعوبات متعلقة بعقلية كثير من العاملين في الساحة النهضوية، إذ أن كثيراً منهم لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، كما أن معرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة. ولذلك ينبغي أن يتم التركيز على تدريب هذه الكوادر على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها؛ بل وتدريبهم على إقامة المراكز الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة. عندها فقط يمكن أن تصبح حركة الصحوة في العالم الإسلامي حركة علمية قائمة على المعرفة الحقيقية.
الإسلام ورفع الواقع
ويعتقد كثير من الناس أن هذا أمر جديد ودخيل على الإسلام، ولكنه في الحقيقة أمر أصيل في ديننا. فالمصطفى e طلب من المسلمين - لدى دخوله المدينة - أن يحصوا له من بها من المسلمين. وهو ما يمثل تعداداً رقمياً مبكراً للمسلمين، ثم طلب منهم بعد ذلك أن يحصوا له من يستطيع القراءة والكتابة، وبعد أن اكتملت واتضحت الرؤية لرسول الله e وحدد الحالة الأولية - بعد اطلاعه على الأرقام المطلوبة والتي كان مجملها أن كم
استخدم رسول الله r طريقتي الإحصاء الكمي والاستقراء الإحصائي في صدر الإسلام
ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات.. لذا فإن التحول إلى المعلوماتية أمر في غاية الأهمية للانتقال من حالة الصحوة إلى حالة اليقظة
المسلمين الذين يحسنون القراءة والكتابة في قاعدة الإسلام الأولى وهي المدينة عدد غير كافٍ - كان تدخله e لتغيير هذا الواقع عقب أول غزوة من غزواته عندما جعل من شروط إطلاق أسرى بدر أن يعلم كل أسير عشرة أفراد من مسلمي المدينة القراءة والكتابة.
فنحن أمام عملية إحصاء كمي أعقبها عملية تدخل لمحاولة إيجاد حل للواقع الذي رأى الرسول e أنه لابد من تغييره. فكانت نتيجة هذا التدخل هي إيجاد قاعدة معرفية – تقرأ وتكتب - داخل المجتمع الإسلامي.
ولم يستخدم الرسول e طريقة الإحصاء الكمي فقط؛ بل إنه استخدم أيضاً ما يطلق عليه في العلوم الحديثة الاستقراء الإحصائي. وقد كان ذلك في بدايات غزوة بدر، عندما سأل رسول الله e أحد الأسرى من المشركين عن عدد جيش قريش، ولما كان الأسير لا يعرف يقيناً عدد الجيش سأله رسول الله e عن عدد الإبل التي ينحرونها كل يوم وعندما علم عدد الإبل استطاع أن يحدد – على وجه التقريب – عدد الجيش المهاجم. وبذلك يكون الرسول e قد استخدم المعلومة المتوسطة – وهي عدد الإبل - لاستشراف معلومة غائبة – وهي عدد المهاجمين.
وهكذا نرى أن الاستقراء الإحصائي موجود في التراث الإسلامي منذ البدايات المبكرة للرسالة الإسلامية. فما بالنا اليوم ونحن في عصر الثورة المعلوماتية نفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل نفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. وبذلك يكون التحول إلى المعلوماتية أمر في غاية الأهمية للانتقال من حالة الصحوة إلى حالة اليقظة.
نحن إذاً أمام قضيتين أو معضلتين كبيرتين: أولهما معضلة متعلقة بمراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، والمعضلة الثانية تتمثل في عقلية المستفيدين التي قد تجد المعلومة ولا تستفيد منها، كما أنها ليست مدربة على اتخاذ القرار بناء على المعلومات المتوفرة.
التحديات الكبرى أمام التطوير
مراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين
عقلية المستفيدين ونصيبهم من التدريب والإعداد
فلتكن البداية من مشروع قائد أو منطقة مهمة.. تشحذ الطاقات.. وتدرب الكوادر.. وتوفر المعلومات والإحصائيات.. لتستخدم بعد ذلك في المشاريع الثانية
المشروع القائد
ويعتقد كثير من الناس أن التخطيط في حالة غياب معلومات شاملة هو عملية مستحيلة، ونرجع في ذلك إلى كتاب عبد العزيز العجمي والآخرين سنة 1983 في مقدمة التنمية والتخطيط حيث يقول: ".. أن كثيراً من الدول تعمل على إيجاد مشروع قائد، مشروع يطلق بقية الطاقات، ويوفر الإحصائيات عن منطقة مهمة من مناطق العمل، وبعد ذلك يخلق هذا المشروع المشاريع الثانية من الاعتماد على النمطية والإحصائية.. ". وكذلك يمكن اعتماد مثل ذلك في المشروع الإسلامي النهضوي الضخم. فتكون البداية من مشروع قائد أو منطقة مهمة، تشحذ الطاقات، وتدرب الكوادر، وتوفر المعلومات والإحصائيات التي تستخدم بعد ذلك في المشاريع الثانية.
الملفات الكبرى في المشروع الإسلامي
يشمل الملف السياسي قضيتين أساسيتين هما: الاستعمار بكل تجلياته والفرقة والحزبية والتشتت
هناك فرق واضح بين الأحزاب كجزء من التعددية السياسية وبين الحزبية الممقوتة القائمة على التعصب
ويحتاج قادة وطلاب النهضة المعاصرون أن ينظموا في عقولهم الخارطة الكبيرة للملفات الأساسية ابتداءً من غير تفصيلات، ثم يُدخِلوا بعد ذلك تفصيلات وعناوين بسيطة يرون أن هذه الملفات تحتوي عليها. ومن كبرى هذه الملفات في عالمنا الإسلامي:
أولاً: الملف السياسي:
يشمل الملف السياسي في مجتمعاتنا اليوم قضيتين أساسيتين، القضية الأولى هي قضية الاستعمار أو الهيمنة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية. والقضية الثانية هي حالة التشتت وعدم الرغبة في التعاون والحزبية والفرقة، فالحكومات في جانب والأحزاب في جانب والمنظمات في جانب والتجمعات في جانب والمستقلين في جانب. ولابد من إيجاد قاسم مشترك بين المخلصين في كل هذه المناحي لإيجاد قاعدة من التعاون العام لاستنهاض هذه المجتمعات.
وهناك فرق واضح بين الأحزاب كجزء من التعددية السياسية التي تتيح للجميع أن يصلوا لأهدافهم من أجل خدمة أمتهم بالطريقة التي يؤمنون بها، وتُمَكِّن شرائح المجتمع من التعبير عن رغباتها ومعتقداتها بطريقة منظمة وفعالة، وبين الحزبية التي يتعصب فيها كل فرد لحزبه بينما ينظر بتعالٍ للآخرين.
وإذا كانت الحرية والمساواة والعمل بروح الفريق الواحد في خدمة المجتمع محمودة – وهي ما عليه الأحزاب – فإن الحزبية مذمومة تشيع الأحقاد والبغضاء بين الناس.
أما الأيديولوجيات على اختلافها وتنوعها فإسقاطها بالكامل على أرض الواقع أمر مستحيل وغير ممكن عملياً؛ بل ويؤدي إلى الاضطراب والاقتتال بين معتنقيها. ولكن تبقى الكلمة السواء التي يمكن أن يلتف ويتكاتف حولها الجميع، لتشكل قاسماً إنسانياً مشتركاً لكل الموجودين في ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وتبقى الأيديولوجيات
أساس المجتمعات هي عملية التعايش والتراضي
لمعتنقيها يبشرون بها ويدعون إليها. فإذا ما اختارت الجماهير أحد الأيديولوجيات وصوتت لها أمكن لمعتنقيها أن يطبقوا شيئاً من أفكارها برضا الناس وبقدر ما تسمح به المجتمعات. لتبقى عملية التراضي والتعايش هي الأساس في هذه المجتمعات.
خلاصة القول أن الملف السياسي عندنا يحتوي على قضيتين كبيرتين هما الاستعمار وتجلياته الأخرى والحزبية وما يتفرع عنها من شقاق وصراع.
الملف السياسي(6/168)
الاستعمار وتجلياته
الحزبية وآثارها
يشمل الملف الاقتصادي قضيتين هما: الربا وسيطرة الشركات الأجنبية
ثانياً: الملف الاقتصادي:
يشمل الملف الاقتصادي قضيتين كبيرتين هما:ظاهرة الربا، وسيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاديات الوطنية.
و قضايا كثيرة أخرى متفرعة يشملها الملف الاقتصادي كالفقر والبطالة . ولكننا نكتفي بوضع العناوين الأساسية الكبرى التي تمس العالم الإسلامي كله. أما الملفات الأخرى الخاصة ببعض المناطق دون غيرها فلا نخصها بالذكر. إذ أن الملف الاقتصادي ملف ضخم ويشمل الكثير من الملفات الثانوية والخاصة بمناطق معينة.
الملف الاقتصادي
ظاهرة الربا
سيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاد
يشهد الملف الفكري فوضى في عالم الأفكار وعقليات مسلمة غير مرتبة ولا منظمة
ثالثاً: الملف الفكري:
الملف الفكري هو ملف شائك. يشبه حقول الألغام. فما تكاد تخطو خطوة حتى تفاجأ بانفجار هنا ودمار هناك. فعالم الأفكار في العالم الإسلامي يعاني من فوضى رهيبة ومنتشرة في كافة المستويات، والعقلية المسلمة غير منظمة ولا مرتبة. مما يؤدي إلى بروز مجموعات تعتقد باستمرار أنها الفرقة الناجية وأن أجندتها (الدينية والزمنية) يجب أن تكون هي الأجندة المرجعية للجميع، وأن استنتاجاتها هي حقائق غير قابلة للجدل، وأن ما عند الآخرين هو خطأ مطلق وما عندها هو صواب مطلق، وبالتالي هي ليست مستعدة للحديث مع الآخرين أو للتفاهم معهم حول القواسم المشتركة؛ بل هي مستنفرة للاعتراض، فخطابها ناقد معترض باستمرار. أولوياتها في فوضى، تستوي عندها القضايا العقدية كالجنة والنار بالقضايا الملحة التي يعاني منها المجتمع. هذا الاختلاط والفوضى في الأفكار السلبية والاصطراع الذي تولده على أرض الواقع أمر خطير لابد من تنظيمه. فلابد أن تنظم العلاقة بين عالم الاعتقاد وعالم الأيديولوجيا من جهة وبين عالم الواقع وعالم التعايش وعالم الرحمة وعالم البناء وعالم التنمية - الذي يجب أن يوجد على أرض الواقع ولا يمكن أن يوجد إلا في وجود صيغ للتعايش توقف:
1. حالة الاستعلاء للبعض على الآخرين باحتكار الصواب.
2. وحالة الاستعداء وهو خطاب السباب والانتقاص من المخالف. لأن فشل مشروع التسوية الداخلية يؤدي إلى مشكلة ثالثة حتمية وهي:
3. حالة الاستدعاء: وهي طلب الأجنبي كحكم وأداة ضبط.
الملف الفكري
فوضى في الأفكار وتدفقها
عقلية غير منظمة لفرز الأفكار والاستفادة من الصالح منها
أكثر ما يهدد العالم الإسلامي في الملف الاجتماعي الإباحية والتقليد
رابعاً: الملف الاجتماعي:
أكثر ما يهدد العالم الإسلامي الآن في الملف الاجتماعي الإباحية والتقليد. فالعالم يهوي بسرعة فائقة وجنونية نحو هاوية الإباحية، والتي تبدأ من انفصال العلاقات الزوجية وتحولها إلى علاقات خارج الزوجية مروراً بالمظاهر الخارجية كالعُريْ لتنتهي بالزواج المثلي والعلاقات المثلية بين الرجال والرجال، وبين النساء والنساء، بل قد تمتد بعلاقات بين الأطفال أو بعلاقات بالحيوانات في المستقبل تحت اسم الحرية.
إذاً هناك عالم متوحش من الإباحية يمد أطرافه في المجتمعات الحضارية أو المدنية – التي تدعي الحضارة والمدنية - وهو يغزو المجتمعات الإسلامية بشكل من الأشكال. وكرد فعل لهذه الأفكار الغازية نشأت الأفكار النقيضة بدعوى سد الذرائع، فنشأ عالم التجمد وحُرِم الإنسان من كل الحريات وأُغلِقَت الأبواب أمام كل أنواع الحقوق التي وفرها الدين والإسلام لكل إنسان بحجة عدم الوصول إلى الإباحية. وكلا الطرفين ذميم.
أما التقليد فيقصد به اعتبار الآخر في مركز الأستاذية. ومركز الأستاذية هذا يقتضي أن يقلد التلميذ أستاذه في كل شيء. وصدق رسول الله e في قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن"96.
الملف الاجتماعي
الإباحية
التقليد
يعاني الملف التعليمي من فوضى شديدة وخلطاً بين التجديد والانفلات من الدين
يشمل الملف المعنوي ظاهرة اليأس والاستسلام والإحساس بعدم جدوى كل محاولات التغيير والنهضة
خامساً: الملف القانوني:
يشهد الملف القانوني صراعاً شديداً حول قضايا المرأة وحقوق الأقليات وغيرها من القضايا الكثير والكثير.
إلا أننا يجب أن نكون حذرين ونحن نتعامل مع الملف القانوني لأن بعض القضايا يجب ألا نتوقف أمامها وبعضها جائر وينتهك أبجديات الأمة ودينها وإسلامها. لذا يجب أن نكون منتبهين لجملة العوامل التي تتحرك أمامنا في الملف القانوني.
سادساً: الملف التعليمي:
أما الملف التعليمي فهو يشهد فوضى واضطراباً كبيرين. فهناك محاولات للتجديد ولكن الكثير من هذه المحاولات يريد الانفلات من الإسلام تحت دعوى التجديد والمعاصرة. وهذا أدى إلى تراجع اللغة العربية بسرعة، ما يبشر بأنها ستكون في المستقبل لغة ثانية في مجتمعاتنا، وسيكون الطفل العربي أقدر على قراءة وفهم كتاب باللغة الإنجليزية من أن يقرأ كتاباً باللغة العربية.
إن حجم الاستثمارات التي يجب أن توضع في تطوير اللغة العربية، وفي عملية الترجمة للكتب الأجنبية بحيث تصل للقارئ العربي في وقتها يجب أن يتضاعف مرات ومرات. ويجب أن لا نستكثر ذلك على اللغة العربية إذا كنا نريد مشروعاً حضارياً واستنهاض أمة واستبقاء هويتها. كما يجب تطوير كل البنية التعليمية من الفلسفة والأهداف إلى قضايا التنفيذ والإدارة. وهو مطلب مُلِح إذا أردنا دخول السباق الحضاري.
سابعاً: الملف المعنوي:
وهو يشمل ظاهرة اليأس والاستسلام والإحساس بعدم جدوى كل محاولات التغيير والنهضة. ويتولى كِبر محاولة التيئيس هذه تيار كبير وإعلام ضخم. ولابد لتيار النهضة أن يتصدى لتيار التيئيس. وأن يعيَ أن هذا الطريق - وإن كان صعباً أو مليئاً بالعقبات، وإن كان فيه تقدم وتأخر -
لابد أن يبلغ مداه، وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وليظهرن على الدين كله ولو كره المشركون كما بشرنا بذلك ربنا عز وجل ونبينا e.
الملفات الكبرى
السياسي
الاقتصادي
الاجتماعي
الفكري
القانوني
التعليمي
المعنوي
إن الجهد المنوط بقادة النهضة من أجل إعداد وتدريب الكوادر على ثقافة المعلومات والإحصاء جهد شاق.. إذا قاموا به تصبح الأرقام لها معنى وتصبح لنا حياة جديدة معتمدة على المعلوماتية
وهكذا فإنه عندما يتم تحديد الملفات الكبرى ثم تحديد القضايا الفرعية في كل ملف، يمكن تكميم الظاهرة، ثم اختيار أهم المؤثرات التي يمكن أن نتابع بها عملية التقدم في هذه الملفات. ثم يجب ألا يتوقف البحث عند هذه النقطة؛ بل يجب أن تنشر هذه المعلومات في كتاب ربع سنوي أو سنوي أو كل سنتين.
ولكن ماذا تعني هذه الأبحاث للعامل في مركز من المراكز الحضارية، أو في مسجد من المساجد؟ ماذا تعني لتلميذ المدرسة وللمدرس؟ ماذا تعني لكل نقاط الفعل في المجتمعات الإسلامية إذا لم توجد عقلية تستطيع أن تستفيد من هذه المادة وتستطيع أن تطور آليات عمل متعلقة بهذه الأرقام؟(6/169)
إن الجهد المنوط بقادة النهضة من أجل إعداد وتدريب الكوادر على ثقافة المعلومات والإحصاء جهد شاق ومضنٍ. وإذا لم يقوموا به يصبح عندنا المزيد من الأوراق التي تنشر ولا تجد المستقبلين ولا المستفيدين، لأن الفعل لا ينتهي إلى حلقاتها المطلوبة من جمع المادة إلى تنظيمها، إلى ترتيبها إلى وحدات، إلى توصيلها إلى المستفيدين، إلى تعامل المستفيدين معها، إلى تحولها إلى مشاريع في التخطيط، إلى متابعتها بحيث تكتمل دورة التخطيط كاملة وتصبح الأرقام لها معنى وتصبح لنا حياة جديدة معتمدة على المعلوماتية.
جمع المادة
ترتيبها إلى وحدات
توصيلها إلى المستفيدين
تعامل المستفيدين معها
تحويلها إلى مشاريع
التخطيط للمشاريع
البدء في الفعل
المتابعة
تنظيمها
دورة حياة الفعل
المشهد المستقبلي
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية. فغدوا قادرين على رفع الواقع، وتحديد القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب عليهم التعامل معها.
نحو التنفيذ
من أهم خطواتنا نحو النهضة توجيه الاستثمارات نحو البحث وتدريب طلاب النهضة واستيعاب خارطة الملفات الكبرى
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
* لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على توعية المستثمرين وقادة الأمة بأهمية المراكز البحثية، وتوجيه الأموال والطاقات لها.
* لابد أن يوجه المفكرون والمصلحون والمربون طاقاتهم نحو ترتيب وتنظيم عقلية طلاب النهضة، والارتفاع بثقافتهم من الثقافة الخطابية المعهودة والثقافة الصحفية البسيطة إلى الثقافة المعلوماتية.
* لابد من تدريب طلاب النهضة على الحس الخبري وكيفية الحصول على المعلومة وتوثيقها.
* لابد من تدريب طلاب النهضة على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها.
* لابد من تدريب طلاب النهضة على إقامة المراكز البحثية الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة.
* لابد أن يحرص طلاب النهضة على استيعاب وحفظ خارطة الملفات الكبرى في مشروعهم النهضوي الجامع.
تذكر أن
* عملية التغيير تُعرَّفُ بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.
* التغيير يستلزم ثلاثة أمور: تحديد الحالة الأولية التي ننطلق منها ثم تحديد الحالة المطلوبة ثم قياس نتائج تدخلاتنا لتغييرها.
* مشروع النهضة يتعامل مع واقع متغير، فلابد من تحديده وقياسه ثم متابعته.
* رفع الواقع ينقل تيار النهضة من طور الصحوة إلى طور اليقظة.
* الانتقال لمرحلة اليقظة يتطلب تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة، مع انتظام المتابعة وتوافر المعلومات، ثم معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل عدة مرات.
* التحديان الكبيران أمام عملية تطوير الحالة الإسلامية هما: مراكز البحث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، وعقلية المستفيدين أنفسهم وضعف تدريبهم.
* الملفات الكبرى في المشروع الإسلامي هي: الملف السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي والقانوني والتعليمي والمعنوي.
* كل ملف من هذه الملفات الكبرى يحتوي على عدة ملفات فرعية لابد من التعامل معها.
* عملية رفع الواقع هي عملية لها جذورها القوية في التراث الإسلامي، وليست أمراً دخيلاً علينا.
المشهد السادس -دلائل النهضة الأربعة
المشهد الراهن
إنه مشهد يصور حالتيْ اليأس والخمول اللتيْن تسودان المجتمعات الإسلامية
سنلاحظ في هذا المشهد الجديد انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.
وسنسمع الكثير من العبارات والمقولات التي تشير إلى هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا؟!!" وتستطيع أن تلمح في ثنايا هذه العبارات وفي صوت قائلها صوت اليأس.
وستجد الكثيرين من أبناء الأمة ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والتي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة وغيرها. وهذا الانسحاب أدى إلى هذا الخمول المميت الذي يسود ساحة الفعل الإسلامي.
رفع الواقع
تعرف على نفسك وعلى من حولك من خلال هذه الأسئلة
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم.
1. هل تعتقد حقاً في إمكانية نهوض الأمة من كبوتها وخروجها من هذا الواقع الأليم الذي تعيشه؟
2. ما هي دلالات هذه الإمكانية؟
3. ما هي مظاهر اليأس في مجتمعاتنا الإسلامية؟
4. كيف يمكن التغلب على ظاهرة اليأس الجاثم على صدور المجتمعات الإسلامية؟
نقطة البدء
نتيجة لثقل الملفات التي تواجهها أمتنا انتشرت ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية
أشرنا في المشهد السابق إلى الملفات الكبرى التي تواجه أمتنا. ولمسنا ثقل هذه الملفات وضخامتها وتعقيداتها المركبة.هذا الإحساس بثقل التركة أو التبعة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا أدى إلى انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.
وسنحاول في هذا المشهد الرد على التساؤلات المثارة حول إمكانية الخروج من هذا الواقع الصعب الجاثم فوق صدر الأمة، وهل هذا النفق المظلم يمكن الخروج منه؟ وهل هذا الواقع الصعب يمكن أن يزول ليله؟ وهل هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين - والذي أدى إلى هذا الخمول المميت - هل يمكن إخراج الناس من غياهبه؟
ثم سنستعرض بعض الأدوية الناجعة لعلاج هذه الظاهرة القاتلة لحركات النهضة والتنمية في المجتمعات.
ظاهرة اليأس وطرق التعبير عنها
من أبرز مظاهر اليأس الانسحاب من ساحة الفعل الإسلامي والبحث عن الخلاص الفردي
إن ظاهرة اليأس هي ظاهرة شائعة. وطرق التعبير عنها متفاوتة. فقد يُعبَرُ عنها بالتعبير المباشر مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا!!"(6/170)
كل هذه العبارات المباشرة والمعبرة عن اليأس تقابلها - عند جموع العاملين في الحقل الإسلامي - عبارات لا تقل عنها في مستوى اليأس، ولكنهم – أي العاملين - يستخدمون طرق التعبير غير المباشرة مثل قولهم: "سننتصر إن شاء الله عز وجل، والإسلام قادم!!"، إلا أنك تلمح في ثنايا هذا الصوت صوت يائس. فقولهم "إن شاء الله" هنا هي على التعليق لا على التحقيق97. فلقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحث الجند على الجهاد ويقول لهم: سننتصر على التتار. فانبرى له بعض من حوله وقالوا له: قل إن شاء الله. فقال: أقول إن شاء الله على التحقيق لا على التعليق. فمثل هذه العبارات والآيات والأحاديث التي تتحدث عن الأمل، وطريقة عرضها، وما يتبعها من سكون وبطالة تكون دلالة يأس لا دلالة أمل. فعندما نلحظ جموع المسلمين يستشهدون بقول الله عز وجل "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"98 على الأمل الراسخ في قلوبهم، ثم تجدهم عقب انتهائهم من ذكر الآية ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والذي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة على ما في كل هذه السلوكيات من الخير. هذا الاستشهاد بالآية الكريمة الذي لا يجاريه عمل في الواقع أو مشاريع محمولة على أكتاف هؤلاء الرجال - تدل على هذه الحرقة وعلى
إنه شكل جديد من التصوف. سنيٌ في مظهره ولا يتحرك خارج الإطار المشروع. ولكنه يهرب من المعركة الحقيقية
هذا الشعور بالأمل في انتصار الأمة وتحركها – وإنما يجاريه سعى للخلاص الفردي هو حديث باطنه وجوهره يأس، وظاهره أمل.
إنه شكل جديد من التصوف. سنيٌ في مظهره ولا يتحرك خارج الإطار المشروع. ولكنه عندما يكتفي بهذه المساحة الضئيلة من الفعل فإنه بذلك يخرج؛ بل ويهرب من المعركة الحقيقية. معركة أن يحمل جزءاً من الهم الإسلامي صَغُرَ أو كَبُرْ، إما ليقوم به مباشرة أو ليعين غيره على القيام به. وعندئذٍ تكون حلق العلم وحلق التربية الروحية هي الزاد المعين على ممارسة الفعل الحقيقي، ولا تكون ساحة للهروب من المعركة الحقيقية والفعل الجاد اللازم لانتشال الأمة الإسلامية من رقدتها وسباتها.
وفي مثل هذه اللحظات الصعبة من تاريخ أي أمة والتي يجسدها القرآن بقول الله عز وجل: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"99، "وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"100 يأتي في مثل هذه اللحظة فعل قادة النهضة وخطابهم الذي يفعل فعل السحر في قلوب الناس فينتشلهم من مثل هذه الوهدات.
طرق التعبير عن اليأس
التعبير غير المباشر
التعبير المباشر
أربعة مداخل للتعامل مع اليأس
حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد
ويمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات. وحتى نتمكن من تحرير عقول وقلوب مجتمعاتنا من هذا السجن الكبير فلابد من هدم جدرانه الأربعة التي تطبق علينا. وسنستخدم لذلك أربعة معاول:
المعول الأول: هو علم الاجتماع. ويوضح لنا هذا العلم قضية هامة. مفادها أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. هكذا يخبرنا علماء الاجتماع.
ويُعرف العلماء علم الاجتماع بأنه علم دراسة الظواهر الاجتماعية التي تنشأ عن وجود الإنسان في المجتمع1. فنتيجة لوجود الإنسان داخل هذا الإطار الاجتماعي يتقولب ذهنه وتتشكل مقولاته. فهو لا يفكر مسبقاً في أن يتصرف بشكل اجتماعي، إنما يتم ذلك تلقائياً. فهو يردد ما يقال، ويشترك فيما يحدث، ويتفاعل بما يدور حوله. فعندما ينشأ القالب الفكري اليائس بتأثير هذا الضغط الاجتماعي وتكرار المقولات والسلوكيات اليائسة، ينشأ عندنا نوع جديد من التفكير الجمعي اليائس. وهنا يأتي دور قادة النهضة، ألا وهو كسر هذا القالب الفكري اليائس2.
ومدخل علم الاجتماع يعين قادة النهضة على تفكيك وهدم الجدار الأول - من الجدران الأربعة الكبيرة التي تحيط باليائسين - المتمثل في القوالب الفكرية اليائسة.
إن كثيراً مما كان يعتقد الناس أنه غير ممكن في فترة تاريخية محددة وغير قابل للتحقيق، أصبح في فترة لاحقة ممكناً ومنطقياً
إن كثيراً مما كان يعتقد الناس - في فكرهم الجمعي - أنه غير ممكن في فترة تاريخية محددة وغير قابل للتحقيق، أصبح في فترة لاحقة ممكناً ومنطقياً، وغيره يعدو جنوناً ورجعية وتخلفاً.
فلو حاولت أن تتخيل مشهداً مسرحياً يجسد مجموعة من الناس وهي تنظر إلى عباس بن فرناس - وهو يكتب كتاباته وأفكاره حول عملية طيران الإنسان – نظرات استنكار ودهشة وإشفاق عليه مما أصاب عقله، ثم طويت عدداً من القرون لتنتقل بسرعة إلى أوروبا في مشهد آخر يجسد الفرمان الذي أصدرته الكنيسة والقائل بأن الله قد خلق الزعانف للأسماك كي تسبح في البحر، وخلق الأجنحة للطيور كي تطير في الهواء، وخلق للإنسان قدمين كي يسير على الأرض. ولو شاء له أن يطير لخلق له جناحين، وعلى ذلك فكل من يقول بإمكانية الطيران أو يفكر في ذلك فهو مخالف للكتاب المقدس ولمشيئة الرب. وهو داخل في دائرة الكفر والهرطقة.
لو انتقلت بهذين المشهدين إلى عالمنا المعاصر ووقتنا الراهن. وناديت بمثل هذا الفكر الذي ساد في لحظة تاريخية معينة، فكيف سيتقبل أبناء هذا العصر هذه الأفكار؟؟!! لا شك أنهم لن يحملوا هذه الدعوة محمل الجد، ولن يعيروها اهتمامهم، لأنهم يرونها خارج نطاق العقل والمنطق. وتلك حقيقة لا تحتاج إلى التدليل أو البرهان. وإن شئت فلتراجع تاريخ الشعوب والأمم في لحظة تاريخية معينة، لترى كيف اعتقد الناس في تلك اللحظة التاريخية أن هذه الأمة لا يمكن أن تحقق آمالها، وفي لحظة أخرى نرى هذه الأمة قد بلغت شأناً عجيباً، ما يجعل الناس يعتقدون أنها لم تكن في حالة ضعف في يوم من الأيام1.
إن الحديث عن المعطيات التي أُتيحت لرواد النهضة، والحالة المعنوية العامة والسائدة في المجتمع والتي ورثوها تعطي مؤشراً حقيقياً لكل الرواد بأن كل النهضات إنما انطلقت من حالة تخلف ومعطيات لا نقول صعبة؛ بل صفرية
إن علم الاجتماع يدلنا على ظاهرة اجتماعية متكررة. ففي لحظة معينة وتحت ضغط واقع ما، يعتقد الناس في عدم إمكانية الفعل، وفي لحظة تاريخية أخرى يصبح عكس هذا التفكير جنوناً.
فكيف يهدم علم الاجتماع جدار اليأس؟
نقول أنه تحت ضغط واقع اليأس اليوم في مجتمعاتنا، يعتقد الكثيرون أن انتقالنا إلى حالة اجتماعية أخرى وإلى مفاهيم فكرية أخرى أمر محال، ولكن علم الاجتماع يخبرنا بعكس ذلك، فأحلامنا في النهضة والتقدم والتحول والتغير ستكون حقيقة بإذن الله تعالى، على سبيل التحقيق لا على سبيل التعليق. فإن أحلام الأمس هي حقائق اليوم، وأحلام اليوم هي حقائق الغد.
المعول الثاني: هو علم التاريخ. وهو العلم المنوط به هدم الجدار الثاني المحيط بفكرة اليائسين. ولا نحتاج لهدم هذا الجدار أن ندرس التاريخ كله، ولكن يكفينا منه ظاهرة واحدة كفيلة بتحطيم ونسف هذا الجدار، وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها اسم "قانون المعطيات الصفرية".
وحتى نفهم هذا القانون أو هذه الظاهرة علينا استعراض الأسئلة التالي:
* ما هي أوضاع الجزيرة العربية يوم أن نزل الوحي والتي انطلقت منها الدعوة الإسلامية؟
* ما هي أوضاع فرنسا قبل الثورة والتي انطلقت منها نحو ثورتها ثم نحو فرنسا المعاصرة؟
* ما هي أوضاع اليابان التي انطلقت منها لنهضتها المعاصرة؟
* ما هي أوضاع الصين التي انطلقت منها الثورة الماوية؟(6/171)
إن الحديث عن المعطيات التي أُتيحت لرواد النهضة، والحالة المعنوية العامة السائدة في المجتمع والتي ورثوها تعطي مؤشراً حقيقياً لكل
إذا قارنت بين المعطيات المتوفرة للمصطفى e وبين طبيعة المهمة المكلف بها، ستجد أن إمكانية تنفيذ هذه المهمة هو من باب المستحيل
الرواد بأن كل النهضات إنما انطلقت من حالة تخلف ومعطيات لا نقول صعبة؛ بل صفرية.
التجربة النبوية والمعطيات الصفرية
ولنضرب مثالاً بالجزيرة العربية. فعندما نزل الوحي بالقرآن الكريم على رجل لا يملك سوى قليل من التمر وشيء من الماء، في مكانٍ موحشٍ هو ذلك الغار النائي في قمة الجبل، نزل هذا الوحي بتكليف هائل وشاق. فما هو هذا التكليف؟ ومن هو المكلف؟ وبم كُلِف؟
تمثل هذا التكليف وهذه المهمة الشاقة في قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"1. أما المكلف فهو رجل في عقده الرابع، ولك أن تتأمل واقع البيئة التي كان يعيش فيها، وواقع القوم الذين كان يحيى بين أظهرهم. أما طبيعة التكليف فهو تبليغ دعوة الإسلام إلى العالمين – كل العالمين – إنساً كانوا أو جناً، أينما كانوا، في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها.
فإذا قارنت بين المعطيات المتوفرة للمصطفى e وبين طبيعة المهمة المكلف بها، ستجد أن إمكانية تنفيذ هذه المهمة هو من باب المستحيل. فلو تأملنا واقع البيئة الوحشية التي كان يعيش فيها الرسول e، ولو قدرنا ما يحتاجه e لتنفيذ هذه المهمة من كثافة بشرية كمية، وكثافة بشرية نوعية، ثم لو فكرنا في الكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد مثل الصين، والكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد فارس أو مملكة الروم، سنجد أن الأمر لا يعدو كونه حلماً غير قابل للتنفيذ. وحتى لو توافرت الكثافة الكمية المناسبة فهل يمتلك القيادة النوعية المعدة والجاهزة والقادرة والمهيأة للقيام بهذا الدور الكبير؟! وحتى لو افترضنا توفر هذين العنصرين في مكة في تلك اللحظة – وهو ما لم يحدث – فكيف استقبل أهل مكة؛ بل أقرب الأقربين إلى رسول الله e هذه الفكرة؟؟ وكم كانت درجة مقاومة المحيط
لقد كانت المعطيات المتاحة للمصطفى e في هذه اللحظة التاريخية معطيات صفرية. ولم تكن مبشرة بتلك النتائج التي تحققت بعد أربعين سنة من الفعل الحضاري للمسلمين
الحيوي لرسول الله e لهذه الفكرة؟؟ لو تتبعنا سيرة النبي e سنجد أنه بعد ثلاثة عشرة سنة من العمل الجاد في مكة لم تنجح الفكرة في استقطاب سوى ثمانين أو بضعاً وثمانين شخصاً في مكة، بينهم النساء والرجال والشيوخ والأطفال والعبيد والأحرار.هذا الخليط من البشر الذي لا يزيد عن بضع وثمانين نفراً، هل يمكن أن يتحمل مهمةً بهذه الضخامة؟؟!
ثم إذا افترضنا أن هذه المنطقة من العالم – التي تتألف من قبائل
بدوية رعوية، تنتقل من مكان إلى آخر، لا يسلم فيها بيت من حالة ثأر، تقتتل لعشرات السنين حول ناقة أو سباق خيل، يقوم اقتصادها على السلب والنهب والغارات والغزو، غير مدربة على العمل المنظم الكبير – إذا افترضنا أنه قد تم استيعابها داخل المشروع النهضوي الإسلامي فما هي قدرتها على مواجهة الإمبراطوريتين العظيمتين الروم والفرس.
ثم هذه المنطقة التي تم استيعابها ما هي قدراتها العلمية والمعرفية التي تؤهلها لإدارة عملية الإحياء الحضاري للمجتمعات التي سيقومون بغزوها؟؟ فمن السهل أن تغزو أمة وأن تنتصر عليها عسكرياً، أما أن تنتصر عليها حضارياً فهذا شأن آخر. وإليك نموذج التتار المنتصرين، ما الذي خلفوه وراءهم؟؟!!
إن مشروعاً مثل مشروع المصطفى e، لم يكن مشروع غزو للنهب والسلب؛ بل لقد كان مشروع توسع حضاري، كي تستقر اللغة ويستقر الدين في هذه المجتمعات. فما هي إمكانية هؤلاء العرب الذين لم يكونوا يعرفون القراءة الكتابة وليس لهم سابق معرفة بالأداء الحضاري كي يتغلبوا على فلسفات وثقافات واتجاهات منتشرة في هذه المجتمعات الجديدة؟؟!!
لقد كانت المعطيات المتاحة للمصطفى e في هذه اللحظة التاريخية معطيات صفرية. ولم تكن مبشرة بتلك النتائج التي تحققت بعد أربعين سنة من الفعل الحضاري للمسلمين.
المعطيات الصفرية كانت هي بداية أي أمة أرادت النهوض مسلمة كانت أو كافرة
فإذا كانت تجربة الرسول e مؤيدة بالوحي من السماء فلننظر في غيرها من التجارب التاريخية لغير المسلمين. والذين قاموا من أجل إصلاح مجتمعاتهم، ولم يكن لعامل الدين أي دور في تحركاتهم.
التجربة الصينية والمعطيات الصفرية
إذا استعرضنا أوضاع الصين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سنجد أمامنا دولة شاسعة مترامية الأطراف. تعاني من الكثافة السكانية الهائلة، حيث بلغ عدد سكانها تسعمائة مليون نسمة في ذلك الوقت، معظمهم من الفلاحين. تعاني على المستوى الصحي من المجاعات والأمراض المتوطنة كمرض الرمد الحبيبي، وترتفع بين سكانها نسبة العمى ارتفاعاً مخيفاً. هذا بالإضافة إلى مائة مليون مدمن. أما على المستوى الثقافي فقد كانت تعاني من الجهل والتخلف التكنولوجي وانبهار الطبقة المثقفة بالغرب وثقافته. وعلى المستوى الاقتصادي عانت الصين من القيود الاقتصادية الشديدة الوطأة الناتجة عن المعاهدات غير المتكافئة مع الغرب، بالإضافة إلى تخريب اليابان للاقتصاد الصيني. أما على المستوى الاجتماعي فقد كان نسيجها الاجتماعي مهترئاً ومهدداً بالتفكك. والصراع في داخلها على أشده نتيجة تعدد العرقيات. أما على المستوى السياسي، فعلى الصعيد الداخلي كانت تعاني من الصراع الداخلي بين العرقيات المتنازعة التي تريد الاستقلال وترفض التوحد وتعادي الدولة المركزية. بينما على الصعيد الخارجي احتلت بريطانيا أجزاءً من الصين لتصبح مستعمرات بريطانية – كمستعمرة هونج كونج – ثم يشن الغرب عليها حرب الأفيون في عام 1840م لينتج عنها مائة مليون مدمن. وفي عام 1860م يحرق الإنجليز والفرنسيون قصر الصيف. ثم تحتل اليابان الصين عام 1895م، وبعدها تغزو منشوريا.
ثم ينبري شاب يُدعى ماوتسي تونج - وهو من الطبقة المتوسطة، فلم يكن سليل أسرة حاكمة، أو في قمة الهرم السياسي أو هرم القوة، بل
إذا نظرت إلى المعطيات الصفرية الأولى في الحالة الصينية، ثم قارنت النتائج بها، ستجد هذه الحقيقة البارزة، وستجد هذا التاريخ شاهد على إمكانية الفعل التاريخي
كان طالباً في كلية الفلسفة في السنة الثانية – ويعزم على إعادة تنظيم الشعب الصيني وتعليمه من جديد؛ بل والوصول به إلى قمة التعلم. ويعزم على الانتصار على قوى التفكك والتحلل في مجتمعه، ومواجهة الحكومة المركزية، والقضاء عليها، واستعادة ممتلكات بلاده، وتحريرها من الاستعمارين البريطاني والياباني، والحصول على أنواع التكنولوجيا النووية وأنواع القوة التي تحتاجها الصين للحماية من الغزو الخارجي. كما يقرر أن يزيل المرض من الصين، وأن يقضي على مشكلة الأفيون!!! لقد قرر بناء صين موحدة وقوية ومتقدمة!!!
إذا كان هذا هو الأمل والحلم الكبير، وكان هذا الشاب الصيني البسيط هو صاحب هذا الحلم وهذا الأمل، وكانت تلك هي الأوضاع والمعطيات التي يمكن أن يتحرك من خلالها. فما هي إمكانية النجاح؟؟!!(6/172)
لقد تحرك ماوتسي تونج، وتحركت معه هذه الفئة من الناس، ومروا بآلام المخاوف كلها: تجارب فاشلة؛ مآسي عظيمة عانى منها الشعب الصيني؛ خسائر عظيمة؛ ولكن انطلق مشروع كبير في الصين، واستمر هذا المشروع يزحف يوماً بعد يوم. فهل تحقق الحلم؟ وإلى أين وصلت الصين اليوم؟ وما هو موقعها الدولي؟ وكم يبلغ ميزانها التجاري في التعامل مع الأمم المتحدة؟ وإلى من يميل؟ وكم نسبة النمو في الصين الآن؟ وما هو موقف هونج كونج و تايون منها؟ وكيف ينظر العالم اليوم لمستقبل الصين؟
إذا نظرت إلى المعطيات الصفرية الأولى، ثم قارنت النتائج بها، ستجد هذه الحقيقة البارزة، وستجد هذا التاريخ شاهد على إمكانية الفعل التاريخي.
شواهد تاريخية أخرى
والأمثلة والشواهد التاريخية على صدق هذه الظاهرة وصحة هذا القانون كثيرة وبينة. فدولة مثل اليابان كيف كانت أوضاعها عقب الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت باستسلامها وإذلالها؟ كيف كانت أحوالها بعد
إن قانون المعطيات الصفرية هو مدخل كبير للتبشير بالأمل ونشر ثقافة "إمكانية الفعل" في المجتمعات الإسلامية، في هذه المرحلة التاريخية الهامة
أن أُمطرت بقنبلتين نوويتين قتلت وجرحت وشوهت وشردت وهجرت الملايين؟ ثم أين هي اليابان الآن؟
وأين كانت ألمانيا التي كانت مكونة من ثلاث مائة دويلة وحدها بسمارك ثم انهزمت في الحرب العالمية الأولى؟ وكيف أعادت بناء نفسها بعد أن فُتت وهُدمت واقتُطعت أجزاء من أراضيها وانهارت معنويات جماهيرها بعد تلك الهزيمة؟ وكيف اعتلت قمة العالم لتواجه دوله الكبرى في
حرب ضروس؟ ثم كيف كانت أحوالها عندما فُتت وقُسمت وأذلها الحلفاء المنتصرون؟ لقد دُمرت ألمانيا بالكامل في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى قَل رجالها الذين هم قوام نهضتها، وانتشر الدمار والخراب في أرجائها، وفُرِضَت عليها شروط قاسية. أين وصلت ألمانيا الآن؟
وأين كانت الهند؟ تلك الأمة الكبيرة، المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وكيف كان نسيجها الاجتماعي؟ وكيف واجهت تلك الأوضاع والمعطيات المتمثلة في الاستعمار والجهل والفقر وتفسخ النسيج الاجتماعي؟ وكيف أصبحت اليوم قوة نووية تكنولوجية عالمية؟
إن هذه الظاهرة أو هذا القانون التاريخي هو قادر على هدم الجدار الثاني من جدران اليأس؛ بل وهو مدخل كبير للتبشير بالأمل ونشر ثقافة "إمكانية الفعل" في المجتمعات الإسلامية، في هذه المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ هذه المجتمعات.
المعول الثالث: وهو المنطق1. وهو الأداة التي يتم بها هدم الجدار الثالث من جدران اليأس.فالمنطق يخبرنا بأن من استعد للعمل والبذل ونشط فيهما، وأخلص نيته لله عز وجل - استجابةً لأمره تبارك وتعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"2 – فهو فائز، فلو انقضت حياته قبل
من معاول هدم اليأس ما بشرنا به ربنا تبارك وتعالى ونينا e من مبشرات بنصرة دينه وأوليائه
أن تحين فرصة تحقيق الآمال؛ فلا شك أنه سيكون من الفائزين برضوان الله في الآخرة، ثم إنه قد استمتع بحياته لأنه عاش لقضية ما وجاهد في سبيلها. أما إذا حانت الفرصة وتحققت الآمال، فقد فاز بالفرحتين: فرحة النصر والتمكين في الدنيا "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"1، وفرحة الفوز برضوان الله في الآخرة لبذله وإخلاصه.
أما مصير من لم يستعد فهو الحسرة والندامة في الدنيا والآخرة. حسرة على ضياع الفرصة التي جاءته إلا أنه لم يقم بعمل مكافئ لها ولم يستعد لاقتناصها، وأما إذا لم تحن الفرصة ولقي الله ربه من غير عمل ومن غير استجابة لأمره عز وجل، فهو في حسرة من سخط ربه عليه.
فالمنطق يقول إن العمل في كل الأحوال هو سفينة الخلاص. وهو سفينة نوح. سفينة النجاة .
المعول الرابع: وهو المبشرات. ونقصد بها ما بشرنا به ربنا جل في علاه، ونبينا e من آيات وأحاديث تبشر هذه الأمة بالغلبة والنصر والتمكين.
فعندما ترزأ الأمة دهراً من الزمان وتئن تحت وطأة هذا الواقع الثقيل الأليم، تلهج الألسنة وترتفع الأصوات متسائلة (هل من مخرج؟؟). وهذا ما حدث مع خباب بن الأرت عندما ذهب إلى الرسول e وقد أعجزته الحيلة أمام سطوة وقوة أهل مكة، فما كان منه إلا أن قال لقائده e: "ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟". فعندما تزداد وطأة الواقع وضغطه يبدأ الناس في السؤال عن المخرج. وهنا تأتي المبشرات لتهدم جدار اليأس الأخير.
فمن هذه المبشرات الحوار الذي يستعرضه القرآن الكريم بين فرعون وملئه وموسى ومن معه، يقول تعالى:
باستخدام هذه المعاول الأربعة – الاجتماع والتاريخ
والمنطق والمبشرات - تنطلق النفس البشرية من إسارها، وتحطم أغلالها وقيودها، فتهب للعمل، مستعينة بالمشيئة على التحقيق لا على التعليق
"وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟!
قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"1.
ومن المبشرات قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"2. وقوله: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون"3. وكتاب الله مليء بمثل هذه المبشرات التي تبعث الأمل في النفوس.
ومن المبشرات في سنة رسول الله e قوله: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار"4، وقوله: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها"5، وغيرها كثير من الأحاديث التي تبشر الأمة بالنهضة والتقدم.
إذاً باستخدام هذه المعاول الأربعة – الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات - تنطلق النفس البشرية من إسارها، وتحطم أغلالها وقيودها،
الخروج من دائرة اليأس هي الخطوة الأولى نحو الخروج من الواقع
وتهدم سجنها الذي حبست فيه حيناً من الدهر. فتنطلق للعمل، مستعينة بالمشيئة على التحقيق لا على التعليق.
فامتلاك قادة وطلاب النهضة لهذه الأدوات الأربع يمكنهم من هدم جدران اليأس المحيطة بالفرد المسلم اليوم. والخروج من دائرة اليأس هي الخطوة الأولى نحو الخروج من هذا الواقع.
التاريخ
الاجتماع
المنطق
المبشراتسجن اليأس
المشهد المستقبلي
إنه مشهد ترى فيه ظاهرة اليأس وقد اختفت من مجتمعاتنا أو كادت. وترى جموع العاملين وقد فطنت إلى معاول وأدوات هدم اليأس. فانطلقت بين جماهير الأمة تزرع في قلوبها الأمل وتنتزع اليأس انتزاعاً من صدور طالما أثخنها اليأس بالجراح.
نحو التنفيذ
لابد من إعادة عرض تجارب الأمم والمخترعين وتجديد الإيمان بموعود الله بالنصر والتمكين
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
* لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على نشر ثقافة الأمل بين جماهير الأمة من خلال الإسهاب في الكتابة عن دلالات النهضة الأربع وشرحها.
* لابد من إعادة عرض التجربة النبوية والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.
* لابد من الاهتمام بعرض تجارب الأمم التي نهضت والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.
* لابد من الاهتمام بعرض تجارب المخترعين وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى ما كان يظنه الناس جنوناً.(6/173)
* لابد من تعزيز الجانب الروحي وتجديد الإيمان بموعود الله ونبيه e للأمة بالنصر والغلبة والتمكين.
تذكر أن
* من مظاهر اليأس البحث عن الخلاص الفردي والانسحاب من ساحة الفعل الإسلامي أو ما يطلق عليه التصوف السلبي على أساس أن التصوف السني الصحيح كان قمة في العمل والعطاء.
* للتعبير عن اليأس طريقان: طريق التعبير المباشر وغير المباشر.
* يمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات.
* يتطلب هدم اليأس أربعة معاول: الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات ثم تراكم الإنجازات الملموسة..
* يمثل قانون المعطيات الصفرية أداة رئيسة لهدم اليأس.
* التجربة النبوية والصينية واليابانية والألمانية كلها شاهدة على صحة ظاهرة المعطيات الصفرية.
الخاتمة
وفي نهاية هذه الدراسة نحب أن نؤكد على أن بوادر الانتقال من طور الصحوة إلى طور اليقظة باتت تلوح في الأفق. وأن تيار الصحوة في عمومه في حاجة إلى من يمد يده ليقطف ثمار هذه المرحلة وينطلق بها إلى المرحلة التالية (مرحلة اليقظة).
وكما أشرنا من قبل فإن مرحلة الصحوة هي التي أيقظت القلوب وهيجت العواطف والحماسة، وبذرت بذور الإسلام في نفوس جماهير الأمة. وقد آن الأوان لننتقل من طور الخطاب العاطفي الحماسي إلى طور الخطاب العقلي الدقيق، المبني على أدق قواعد البحث العلمي.
وحتى ننتقل إلى طور اليقظة، ونحقق النهضة المنشودة لهذه الأمة فإننا بحاجة إلى التعرف على القوانين والسنن الحاكمة لنهضات الأمم. وهو ما سنتناوله في كتاب منفصل بإذن الله تعالى، حيث سنتناول قوانين النهضة وطرق التعامل معها واستخدامها بالشرح والتحليل.
ونحب أن نوجه الشكر والتحية لكل من ساهم بجهده أو وقته أو ماله أو نفسه في مرحلة ما قبل الصحوة من المفكرين والعلماء ثم في طور الصحوة المباركة والتي امتدت طيلة القرن المنصرم وإلى اليوم، منذ أن أشعل فتيلها الرجال المخلصون في الأمة وحتى تفرعها وتشكلها في شكل تيارات وجماعات ومؤسسات مباركة، أثرت اجتهاداتها وجهودها المرحلة، والتقت رغباتها على إكمال مسيرة الصحوة. والسير بها إلى نهايتها.
وأخيراً نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا هذا العمل البسيط، وأن يجعله في ميزان حسناتنا. وأن ينفع به كاتبه وقارئه. كما نسأل الله أن يكون هذا الكتاب خطوة حقيقية نحو تطوير الفعل النهضوي على الساحة الإسلامية، وأن يكون منطلقاً للجموع التي تبحث عن ساحة حقيقية للفعل والتقدم والنهضة.
ملحق النماذجأطوار حركة النهضة
صحوة
يقظة
نهضة
حضارة
حماس
رشد
حماس
رشد
المحطات الكبرى في التاريخ الإسلامي
1097م
1924م
انطلاق المشروع الإسلامي
وقيام الدولة
الحملات الصليبية
إسقاط الخلافة
622م
المحطات الهامة في التاريخ
المحطة ... السمات ... النتائج
سنة 622م
انطلاقة المشروع الإسلامي
...
* تحول المشروع إلى نظام الدولة.
* تكون مجتمع
* قيادة
* دستور
* جهاز شورى
* جهاز دفاعي
... دولة حديثة
مفاهيم جديدة عن:
* الإنسانية
* الحرب والسلم
* العدالة
* تعايش الأديان
* الدستور......
سنة 1097 م
القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية.
...
* استهداف القلب
* ثم هجوم عل الأطراف
... استنزاف موارد العالم الإسلامي
لثلاثة قرون.
سنة 1924م
إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية.
...
* انكشاف حالة التخلف
* الاستعمار والاحتلال.
* التمزق
... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.
ترتيب المفاهيم الأربعة:
الخطة التنفيذية
ما وراء الأيديولوجيا
الأيديولوجيا
البارادايم
الاستراتيجية
رؤية
التزام
مهارات
مواصفات القائد
عاملان لتحقيق النهضة
عاملا تحقيق النهضة
بناء كتلة حرجة
كمية وكيفية
رفع القيود المعيقة لعملية التحول والوصول لتلك الكتلة
دورة حياة اتخاذ القرارات
1) النصوص المرجعية والتراث الثقافي
2) علوم العصر وقناعاته
3) أعمال مفكري العصر
4) تصور الحل وبداية التخطيط البعيد المدى
(التخطيط الاستراتيجي)
5) خطط قصيرة المدى
6) خبرات من الاحتكاك تدعو للمراجعة
دورة حياة اتخاذ وتشكل القرارات المتعلقة بالحراك النهضوي
احتياجات قادة المشروع الإسلامي:
الخبرات العملية
تصور للواقع وقضاياه وإجابات الأسئلة
تصور واضح للوسائل
تصور واضح للمراحل (ومعرفة غطاء المرحلة)
تصور على مستوى الفلسفة والبواعث (الإسلام الشامل)
تصور واضح على مستوى الأهداف
احتياجات قادة النهضة
نموذج الإسلام
شريعة
عقيدة
العقيدة
العبادة
السلوك
الإعلامي
التعليمي
السياسي
الاقتصادي
الاجتماعي
الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ديوان المظالم: المحكمة الدستورية العليا
الجهاد: ذروة سنام الإسلام
نظم ومعاملات
أخلاق
التحديات الكبرى
أمراض الأمة
و قضاياها الكبرى
التخلف
الاستعمار
التفتيت
النهضة
التحرير
الوحدة
نموذج العلمانية
روح الفردية
الإلحاد
الربا
الإباحية
الحكم
المدرسة
المحكمة
الحكم
المدرسة
المحكمة
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
العلمانية
نظرية الاستعمار
الانتشار والانتقال إلى دول أخرى
النهضة الأوروبية
العلمانية
أيديولوجيا تسعى للهيمنة
إنشاء الدول الرديفة
بواعث النهضة
من بواعث النهضة
مبدأ شمول الإسلام
التحديات الكبرى
التخلف
التفتت
الاستعمار
المعايير المعاصرة لقياس التخلف
معايير قياس المجتمعات المعاصرة
سياسي
اقتصادي
اجتماعي
صناعي
الديمقراطية
حقوق الإنسان
الناتج القومي
استغلال الموارد
دخل الفرد
التجانس
درجة التراضي
البحث
التصنيع
الاستخدام
عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية
عوامل التحلل في الكيان الإسلامي
المعضلة الجغرافية
المعضلة الإثنية
المعضلة السياسية
معضلة التعصب
المعضلة الاقتصادية
إهمال العلوم التطبيقية
ضعف الدافع العقدي
عدم متابعة تطور الأمم الأخرى
تكوين النخب حول السلطان
أزمة المدينة العربية
حكم من لا يعرف الإسلام
حول الخلافة
في الفقه
في العقائد
العوالم الثلاثة
العوالم الثلاثة
عالم الأفكار
عالم الأشياء
عالم الأشخاص
عالم أفكار الجاهلية
مشاكل عالم أفكار الجاهلية
اختلال قيمي ومفاهيمي
الاعتماد على الظن
إعراض عن العلم والتعلم
عالم أفكارنا المعاصر
التفكير النمطي
الميل للمجاراة
نقل العادة
مقاومة التغير
عدم التوازن بين التنافس والتعاون
الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان
الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية
عدم التركيز على القول بل على القائل
التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها
الاعتقاد بمعرفة القادة لكل شيء والمبالغة في تقدير قدراتهم
عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدراك الأخطاء
تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها
المنظومة الفكرية التي نحتاج إلى تغييرها تغييراً شاملاً
الخلط بين المبدأ والمنهج
حتمية استكمال التربية
مفتاح واحد لكل الأبواب
طريقة تفكير القائد
طرق تفكير القادة
طريقة المُنظِّرْ
طريقة الطبيب
طريقة رجل الأعمال
أهمية دراسة النماذج التاريخية
عقل القائد
وقدراته
التجارب التاريخية
عقل راجح
تصورات وإجابات
حوادث متفرقة
سياسية
اقتصادية
اجتماعية
فكرية
روحية
علمية
أخلاقية
مدخلات
مخرجات
البحث والنظر
دور القائد
دور القادة
مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات
الاطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة
تشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج
استخدام أداة التاريخ
استخدام التاريخ كأداة
لاستخراج النماذج والمقاربات
للإقناع(6/174)
لرفع الروح المعنوية
التاريخ الكبير
التاريخ الصغير
لرفع الروح المعنوية
لخفض الروح المعنوية
أنواع التاريخ
مستلزمات عملية التغيير
مستلزمات عملية التغيير
تحديد الحالة الأولية
قياس النتائج
تحديد الحالة المطلوبة
مطالب تطوير الحالة الإسلامية
مطالب تطوير الحالة الإسلامية
تحليل الواقع
إلى ملفات كبيرة
معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل
انتظام عملية المتابعة
وتوافر المعلومات
التحديات الكبرى أمام التطوير
التحديات الكبرى أمام التطوير
مراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين
عقلية المستفيدين ونصيبهم من التدريب والإعداد
ملفات الواقع الكبرى
الملفات الكبرى
السياسي
الاقتصادي
الاجتماعي
الفكري
القانوني
التعليمي
المعنوي
الملف السياسي
الاستعمار وتجلياته
الحزبية وآثارها
الملف الفكري
فوضى في الأفكار
عقلية غير منظمة
الملف الاقتصادي
ظاهرة الربا
سيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاد
الملف الاجتماعي
الإباحية
التقليد
دورة حياة الفعل
جمع المادة
ترتيبها إلى وحدات
توصيلها إلى المستفيدين
تعامل المستفيدين معها
تحويلها إلى مشاريع
التخطيط للمشاريع
البدء في الفعل
المتابعة
تنظيمها
دورة حياة الفعل
دلائل النهضة
التاريخ
الاجتماع
المنطق
المبشراتسجن اليأس
الفهرس
==============
فلسطين ألم وأمل
الحمد لله وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد:
إن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل واحد من الغيورين على الأمة ومستقبلها اليوم هو فلسطين إلى متى؟ إلى متى هذه الجراح ؟ إلى متى هذه الأحزان ؟ إلى متى هذا الهوان ؟ وماذا علي أن أفعل ؟ وهنا بيت القصيد ماذا علي أن أفعل ؟ لاشك أن الحديث عن فلسطين حديث مكرّر .
واشعر عندما أتحدث عن فلسطين الحبيبة وأنا الذي أفردتها في ثلاث وعشرين خطبة أشعر كلما تحدثت عنها أنني أعزف لحنا جنائزيا سمعه الحاضرون أكثر من عشرة آلاف مرة ،سمعوه بآلات مختلفة وبطرق متعددة وفي أوقات ليست معينة ومع ذلك فالأمة في مكانها لاتتقدّم خطوة واحدة بل إنها تتراجع خطوات للخلف(على المستوى الرسمي طبعا أما على المستوى الشعبي فقد أحرزت الأمة خلال السنوات القليلة الماضية نصرا عجزت عنه الحكومات خمسين سنة)
صحيح أن قضيتنا ليس لها في التاريخ ولا في الفقه مثيل، ولقد حرص الفقه دائما في سمو لا يبارى على درء الحدود بالشبهات، على ألا يظلم بريئا ولو أفلت بسببه مائة فاجر. لكنه لم يتناول قضايا من تلك التي تواجهنا الآن.إنها الفتنة التي تموج كموج البحر كما قال سيدنا عمر رضى الله عنه وإنها الفتنة التي تدع الحليم حيران كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن مع ذلك فالطريق واضح لمن أراد السير (أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين) هذا هو الطريق معبّد واضح
هذا الطريق و ما سواه وساوس *** ترضي الجبان وتصنع الاعذارا
عظمت عليهم في الجهاد مطالب *** فاسترخصوها خطبة وشعارا
وهناك نقاط لابد أن يزداد وعي الأمة بها
أولا: لابد من الجهاد في سبيل الله إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة، وجعله فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى قال تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) وقال تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) وقال عزوجل (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير *الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) وقال جل من قائل (وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) وقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه الإمام أحمد و قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال، أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)).الترمذي وابوداود وابن ماجه وروى أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: ((جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى)) ثبت في الصحيحين وسنن النسائي والترمذي ومسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه: عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.(6/175)
إذن لابد من الجهاد في سبيل الله عزوجل كي تبقى هذه الأمة موجودة على مسرح الحياة, ومن أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر، غياب فريضة الجهاد في سبيل الله تعالى لفتح البلاد وقلُوب العباد والإثخان في أهل الكفر والإلحاد والعناد.وهانحن نحصد النتائج اليوم إذلالا لايشبهه إذلال وإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ وغَربه، ولا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم جرح آخر هنا أو هناك وهاهي الأمم قد تداعت علينا من كل حدب وصوب يريدون أن ينهشوا لحم هذه الأمة كالذئاب تجتمع على الفريسة فصدق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم(( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال لابل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله الرهبة منكم من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يارسول الله ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)) هذا هو السبب ،هذا هو المرض الذي نعاني منه وهو الذي أوصلنا إلى هذه الأعراض التي نعاني منها، تسلط الأعداء علينا ليس هو المرض إنما هو أعراض المرض أما المرض الحقيقي فهو الذي شخّصه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله حب الدنيا وكراهية الموت وحتى نتخلص من هذا المرض ومن هذا الذل لابد لنا من العودة إلى كتاب ربنا وإلى سنة نبينا ولابد لنا من الإصلاح مابيننا وبين الله عزوجل، لابد لوشائج الألفة أن تعود مرة أخرى إلى حياتنا، لابد لنا من إيقاظ مشاعر الجهاد وحب الشهادة في نفوسنا لابد لنا من محاولة الجهاد في ميدان من الميادين المتاحة وماأكثرها فالجهاد يكون بالنفس ويكون بالمال ويكون بالكلمة ويكون بالمقاطعة ويكون بالدعاء ويكون بالإعداد المعنوي ليوم اللقاء وهاهم شباب الصحوة والجهاد يملؤون الميادين والثغور في فلسطين وأفغانستان وأندونيسيا والشيشان ترى الواحد منهم يمني نفسه ويؤمّل صاحبه في النصر والتمكين، ويشدّ على يديه مبايعاً على الصبر والثبات، فلا يهولهم جَلل المُصاب، ولا يسوؤهم الوصف بالعنف والإرهاب، ولا يزعزع عزائمهم سفك الدماء وتطاير الأشلاء، ما دام ذلك في سبيل الله، ابتغاءَ مَرضاته، ورَجاء جنته
ولستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شِلوٍ مُمَزّعِ
وإذا كان الحقّ تعالى قد: (اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه، بين رصاصة يستقبلها في صدرِه مقبلاٍ غير مدبر، أو حزام ينسف به الأعداء وإن قطع النياط ومزّق الأشلاء، ما دام طعم الشهادة واحداً .روى النسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)).
ثانيا: لابديل عن قتل اليهود ولو بعد ألف عام : اليهود هم القوم المغضوب عليهم الملعونون على لسان الرسل والأنبياء، قوم تفنن آباؤهم وأجدادهم في قتل الأنبياء والمرسلين وعرفوا على مر التاريخ بالإفساد والتخريب ونقض العهود، وصفهم ربهم تعالى وذكر بعض افتراءاتهم قائلاً في محكم كتابه: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )واليهود وراء كل مصيبة في هذا العالم لقد تقاتل زعماء الشيوعية والنازية وغدر بعضهم ببعض وزجّوا بشعوبهم في حروب دموية كلفتهم ويلات لا تحصى، ثم اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم ليسوا سوى دمى تحركها وتسيطر عليها أصابع اليهود.واليهود هم الذين جرّوا الولايات المتحدة لحرب ألمانيا في عهد رئيسها ويلسون الذي وقع فريسة لأطماع المرابين اليهود. واليهود كانوا هم وراء الحرب العالمية الأولى والثانية قال هرتزل أبو الصهيونية: "نحن اليهود حينما نَغرق نتحول إلى عناصر ثورية مخرّبة، وحينما ننهض تنهض معنا قوتنا الرهيبة لجمع مال العالم في بنك اليهود". (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يبدؤون الحروب بالدعاية التي يوجهونها من بلد لآخر، وقبل الحرب يتاجرون بالسلاح والذخيرة ويثرون من وراء تلك التجارة، وأثناء الحرب نفسها يثرون من القروض التي يقدمونها للطرفين المتحاربين، وبعد الحرب يضعون أيديهم على جميع مصادر الثروة في البلاد". واليهود كانوا هم وراء الحروب الصليبية واليهود هم الذين أشعلوا الثورة الإنجليزية وهم الذين أشعلوا الثورة الفرنسية وذلك بعد أن قُدّمت دراسة يهودية عن الفوائد المادية الكثيرة التي حصلوا عليها نتيجة لإقامتهم الثورة الإنجليزية ومشت الثورة في الطريق المرسوم لها وتتابعت لصالح اليهودية العالمية وزُوِّرت الحقائق التاريخية، وسميت هذه الثورة اليهودية في حقيقتها بالثورة الفرنسية الكبرى. ووقعت فرنسا تحت تأثير اليهود بعد الثورة الفرنسية وصار اليهود يسيطرون على جوانب الحياة كلها في فرنسا ووصلوا إلى أعلى مراتب السلطة, هؤلاء هم اليهود داء مرير وشر مستطير لذلك نحن لايمكن أن نتصور أن يقوم بيننا وبينهم سلام أبدا ولايمكن أن تتهادن حضارتنا مع حضارتهم فحضارتنا ربانية إسلامية إيمانية نورانية وحضارتهم هي حضارة العجل والخنزير حضارة القتل والمسخ والتدمير ليس لهم عندنا أرض وليس لهم عندنا وطن وليس لهم عندناإلا السيف ومن قال إن اليهود أبناء عمومتنا ولن نتخلى عن السلام فنسأل الله عزوجل أن يحشره معهم .
ثالثا: النصر للإسلام والتمكين لهذا الدين: يجب أن يعلم المسلم أنه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، تشهد بذلك نصوص القرآن الكريم القطعية والأحاديث النبوية المتواترة، مما يبعث الأمل في نفس كل مسلم ويجعله واثقاً بوعد ربه مطمئناً بأنه على الحق مهما بلغت الأحوال والظروف قال تعالى( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقال تعالى( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر))، وأخبر صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) أخرجه مسلم.(6/176)
إن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((بشّر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين)) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي أما اليهود الأنذال، هؤلاء الذين أذاقوا المسلمين الأذى فإن لهم موعداً مع هذه الأمة المحمدية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: ((أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ،وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام أما من تخلى عن العمل معتمداً على هذا الوعد الكريم منتظراً انتصار الإسلام وعزة المسلمين دون أن يبذل ويشارك هو في السعي إلى نصرة الدين فقدأخطأوجانبه الصواب وإن وعيد الله تعالى قريب، استمعوا إلى هذه الآيات وتأملوا فيها(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ )
رابعا : ثلاث رسائل نوجهها لجهات مختلفة:
الرسالة الأولى للأمة : لماذا نطيل الكلام.. القضية واضحة (قاتلوا الذين كفروا كافة كما يقاتلونكم كافة).. انتهت القضية!!.قاومي ياأمة، ياأمة الصديق وخالد والقعقاع وصلاح الدين ياأمة الرشيد والمعتصم ونور الدين ياأمة الخنساء وأم نضال فرحات وآيات الأخرس ياأمة القسام وخطاب وباسييف ياخير أمة أخرجت للناس قاومي لاتستسلمي فالنصر للمؤمنين (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
الرسالة الثانية إلى كل من وسّدت إليهم أزمّة الأمور في هذه الأمة : يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) رواه مسلم.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى))إن حكام إسرائيل يقولون : إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس، ياهل ترىماذا أنتم قائلون؟ ونذكركم بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) ونقول لهم أيضا يقول عليه الصلاة والسلام ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه)). ونقول لهم كونوا مع أمتكم في السرّ والعلن أو أو.... نرجوكم إرحلوا عنا!!!!!!!!!!!!!!!
الرسالة الثالثة إلى شهداء فلسطين: سامحونا نحن الذين سكتنا دهرا نحن الذين عبرنا الكلمات كلّها كي لا نقول شيئا .. كي لا نقف في الصفوف الأمامية خوفا من موتٍ يرافق خطانا .. سامحونا أيها الطالعون من الصمت .. الصارخون بالشهادة أيها الغاضبون / الثائرون / كيف استطعتم زلزلة تاريخنا المكتظ بالغموض و بالصواعق? ..
كيف ملأتم فراغاتنا باليقين ؟ كيف استطعتم استدراجنا إلى هذا المدى المفتوح على دمكم لنعرف حدود خياناتنا الطويلة، و ما اقترفناه في حقكم من الذنوب و من الآثام ، كيف؟
سامحونا أيها الأطفال الأبطال الشهداء/الأبرار سامحونا لن يكفي الدهر كي يغسل خطايانا لن تكفنا اللغة كي نعتذر لكم واحدا واحداً يا أحبابنا الموتى / الأحياء سامحونا هانحن .. عجزنا عن العودة إلى نقطة الصفر لأننا لم نكن إلا الصفر المكرر في معادلة انتم أبطالها يا أهل الثورة و النخوة في زمن الدعارة و الخيانة سامحونا .. سامحونا .. سامحونا ..
محمود الدالاتي
============
رسالة إلى المعلم المسلم
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
* أيها المعلم المسلم .
* يا مربي الأجيال ، وصانع الرجال .
* يا من شرفك الله بمهنة الأنبياء و الرسل عليهم السلام .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد:
فأكتب إليك هذه الرسالة من وراء اثنين وعشرين عاماَ قضيتها في مهنة التعليم ؛شاعرا َبكثير من الاعتزاز والفخر لانتمائي إلى مهنة هي أشرف المهن ، وصناعة هي أكرم الصناعات ، لاسيما وأنها رسالة الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم الله تعالى إلى أقوامهم معلمين ومُبشرين ومُنذرين يدعونهم إلى الصراط المستقيم ، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ، قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ( سورة الأنعام : الآية رقم 48 ) . فيا أخي المعلم في أي مرحلةٍ من المراحل ، وفي أي مادةٍ من المواد العلمية أو الأدبية أو غيرها ؛ أكتب لك هذه الرسالة مُذكراً وناصحاً ، ومؤملاً أن تنال رضاك ، وأن تحوز إعجابك ، وأن تكون عوناً لنا جميعاً على بذل المزيد من الجهد والسعي لما فيه الخير والصلاح . وفيها أقول :
* يا من أعَّزهُ الله بالإسلام ، تَذَكَّر أن المعلم المسلم يحمل أشرف رسالة ، ويؤدي أعظم أمانة ، وأن جمال رسالته مستمد من شرفها وبخاصة أن قدوته في ذلك أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن أجلُ وأشرفُ من المعلم في مهنته ؟ الموظف أم البائع ؟ المهندس أم الصانع ؟ الطبيب أم المزارع ؟(6/177)
إن كل أولئك و غيرهم من أبناء المجتمع إنما هم صنائع المعلم ، به قاموا ، وبه كانوا ، لذا فهو يسعَدُ إذ يرى أبناءه وقد كانوا من أولئك المهندسين والأطباء والفنيين والخبراء .....الخ . الذين تنهض بهم الأمم ، وتقوم بهم المجتمعات ، وينتشر على أيديهم الخير ويعم الصلاح . وصدق الله جل في عُلاه وهو يقول : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } ( سورة إبراهيم : الآية رقم 24 ) .
* يا من تخاف الله تعالى وترجوا رحمته ، اتق الله في عملك وراقبه سبحانه ؛ فإنه يراك في كل وقتٍ وحين . واحرص على أدائه واجبك بالشكل الذي يرضاه جل في عُلاه ، وتذكر ما روي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " ( رواه أبو يعلى في مسنده برقم 4386 ، المجلد السابع ، ص 349 ) .
ولا تنس - بارك الله فيك - أن حُسن تعاملك وتجاوبك مع مُديريك وزملائك ، أو جلوسك في مكتبك ، أو فصلك ، أو معملك ، وقضاءَك لحاجة طلابك أو إجابتك عن استفساراتهم يُعد عبادةً تُثاب عليها متى صلُحت نيتك واحتسبتها عند الله سبحانه .
* يا من يتيه فخراً على أقرانه من العاملين في القطاعات و الميادين الأخرى ؛ يكفيك أن أسمى ما تعتز به تلك المودة والمحبة ، وذلك الاحترام والتقدير والوفاء الذي تحظى به أينما اتجهت ، وحيثما حللت من طلاب الأمس الذين أصبحوا رجال اليوم . وتذكر أن من يجلسون أمامك - الآن - على مقاعد الدراسة هم رجال الغد المشرق وبُناة المستقبل الزاهر - إن شاء الله - . واعلم أن هؤلاء الطلاب أوسمةً على صدرك ، ولئن كان البعض يعتزُ بوسامٍ واحدٍ يحمله بعد عملٍ جليلٍ طويل ؛ فإن المعلم يحمل كل يومٍ وساماً ، ولئن كانت أوسمة الآخرين تُعلقُ على صدورهم فإن أوسمة المعلم تعيش في قلبه ، ويجسدها وجدانه وهو يرى مكانته في نفوس الآخرين اعترافاً بفضله وإجلالاً لقدره ، كما قال الشاعر :
يا صانع الأجيال ما كانت لنا *** من غير صُنعك راية بيضاءُ
لولاك ما كان الخطيب مفوهاً *** ولما تغنى في الهوى الشعراءُ
* يا من يعيش حياة التعليم ويستغرق فيها بعقله وقلبه ، ولا يرضى عنها بديلاً ، لا تكن شمعةً تُحرق نفسها لتضيء الدرب للآخرين ؛ بل كن سراجاً يُضيء الدروب للآخرين ولا ينسى نفسه من الخير والعطاء . وخيرُ سبيلٍ لتحقيق ذلك أن يكون شعارك في حياتك قوله تعالى : } وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { ( سورة فُصلت : الآية رقم 33 ) . وأن تبذل كل ما في وسعِك لتكون قدوةً حسنةً لأبنائك الطلاب في التزامك ، وموضوعيتك ، وسمّتِك ، وعدلِك ، وإنصافِك ، وفي تعاملك مع من حولك على أُسسٍ قويمةٍ من التقوى والصلاح والأخلاق الفاضلة . ولله در الشاعر إذ يقول :
إني أرى التدريس أشرف مهنةٍ *** تبعاته من أثقل التَبِعاتِ
فليتق الله المدرسُ دائماً *** فيمن يُدَرِّسُه من الفلذات
* يا من تعلم أن الله يراك في كل وقتٍ وحين ، تَذَكَّر أن التربية فن وعلم ورسالة عظمى لمن وفقه الله لأدائها ، لا سيما وأنها تعتمد على رؤية المعلم لطلابه وتحسسه لمشكلاتهم ، وحسن تقديره لظروفهم ومراعاته لأحوالهم . وحافظ على مواعيد الحضور والانصراف ، وإياك أن تتأخر أو تتغيب عن طلابك بغير عذر يجبرك على ذلك فكل راع ٍ مسؤول عن رعيته ، وكل معلمٍ مسؤول عن مهامه وواجباته ؛ التي إن أحسن أداءها جوزي خيراً إن شاء الله تعالى ، وإن قصَّر حوسب وعوقب - والعياذ بالله من ذلك - . وعليك أن تضع نصب عينيك تقوى الله جل جلاله في كل وقتٍ وحين ، والشعور بمراقبته سبحانه وتعالى . وما أجمل قول الشاعر :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يَغفلُ ساعة *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
* يا من ترجوا رحمة الله تعالى وتخشى عقابه ، الحذر من الانشغال بأي عملٍ مهما كان مهماً متى حان وقت الصلاة ، وعليك - بارك الله فيك - أن تُعوِّد نفسك على إجابة النداء مبكراً ، وأداء الفريضة في وقتها حتى يكون عملك - بإذن الله تعالى - عوناً لك على الطاعة . وتذكَّر أنه لا خير في عملٍ يؤخر المسلم عن أداء الفريضة ، أو يمنعه من إجابة داعي الله جل في عُلاه . فإذا ما فرغت من ذلك فإياك وإضاعة الوقت فيما لا فائدة منه ولا نفع فيه ، و عُد مباشرةً إلى فصلك أو مكتبك أو معملك حتى لا يتعطل سير العمل أو يضيع وقته .
* يا من تقتدي بمعلم البشرية وأُستاذ الإنسانية ، كُن سهلاً ليناً ، حبيباً لطيفاً في تعاملك مع من حولك من المديرين والموجهين والمرشدين والوكلاء وأولياء الأمور والمستخدمين والعمال والطلاب ، وعليك بمساعدة من تستطيع منهم ومد يد العون له في حدود ما تسمح به الأنظمة والتعليمات ، ودونما ضررٍ أو ضِرار ، وتذكّر أن من يَسَّر على مسلم ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، وأن من رفق بمسلم رفق الله به في الدنيا والآخرة ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا :
" اللهم ! من وَلِيَ من أمر أُمتي شيئاً فشقَّ عليهم ، فاشقق عليه . ومن وَلِيَ من أمر أُمتي شيئًا فرَفَق بهم ، فارفق به " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 4722 ، ص 819 - 820 ) .
* يا من تفتخر بدينك الإسلامي الحنيف ، وتعتز بانتمائك لأمة الإسلام ، حافظ على هويتك المُتميزة وشخصيتك المُستقلة ، التي لا ترضى معها أن تتخلى أو تتنازل عن شيءٍ من المظاهر مهما كان ذلك يسيراً في نظرك ؛ كأن تُحافظ على تحية الإسلام عند الالتقاء بالزملاء والطلاب ، وأن تبدأ الدرس بحمد الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، والمحافظة على كتابة البسملة في أعلى السبورة ، وترديد دعاء ختام المجلس عند نهاية الدرس ، والمحافظة على المظهر الجميل والسمت الحسن ، ومراعاة سنن الفطرة ، ونحو ذلك من الآداب النبوية والأخلاق الإسلامية التي تُميز شخصية المعلم المسلم ، وتحفظ هويته ، وتُعلي منزلته في أي زمانٍ ومكان .
* يا من تبتغي بقولك وعملك ما عند الله تعالى من الخير العميم والثواب العظيم ، لا تتردد في استخدام أُسلوب الثواب والمكافأة ، واحرص على توظيف أسلوب الثناء المُباشر على طلابك إذا رأيت فيهم أو لمست منهم بادرةً حسنةً ، أو سلوكاً طيباً . وما أحسن أن تُشجعهم على ذلك ببعض الهدايا المناسبة والجوائز الملائمة التي تعود عليهم بالنفع والفائدة في الدنيا والآخرة كأن تقوم بتوزيع بعض الأشرطة الإسلامية المختارة ، أو الكُتيبات ذات الموضوعات النافعة ، أو المطويات المُختصرة ، أو نحو ذلك من الهدايا والمكافآت التي تُسهم في حثهم على الجد والاجتهاد ومضاعفة الجهد في الدرس والتحصيل ، وتدفعهم إلى تحقيق الأهداف النبيلة والغايات السامية ، وتغرس في أنفسهم المحبة والمودة لكلٍ من حولهم من الكائنات والمكونات .
* يا من تقوم بإعداد أجيال الأُمة ، وتربية رجال المستقبل ليقوموا بوظائف البلاد وينهضوا بحضارة الأمة ، ويحملوا رسالتها ، تَذَكَّر أنك الأساس والمرتكز وحجر الزاوية في بناء الأمة الحضاري ؛ فتحمل المسؤولية كاملة ، وكن أهلاً لأداء هذه الرسالة العظيمة التي جسد أبعادها قول الشاعر :
أعلمت أشرف أو أجل من الذي *** يبني وينشىءُ أنفساَ وعقولاَ(6/178)
وقول الآخر :
إن المعلم في عيني وفي نظري *** نورٌ به يهتدي من كان حيراناَ
لولا " المعلم " ما كانت حضارتنا *** تزداد شأواً وتسمو في الدُنا شانا
وهذا يفرض عليك أن تكون مُلماً بكل جديدٍ ومُفيدٍ في مجال تخصصك ، وأن تكون مُتمكناً من مادتك العلمية التي تقوم بتدريسها لطلابك ، وأن تكون حريصاً على الاطلاع والتجديد والتطوير المستمر لمعلوماتك ومهاراتك وقدراتك وخبراتك حتى تتمكن من مواكبة تطورات العصر وتغيراته المتلاحقة .
* يا من يُجهد نفسه ويُضحي بوقته ، ويبذُل الكثير لأداء رسالته ، ويجد في أثناء ذلك كثيراً من المتاعب والعقبات ، لا تنس أنك مأجورٌ ومشكورٌ ـ إن شاء الله ـ على ذلك كله متى أخلصت النية لله سبحانه ، وصبرت واحتسبت ذلك عند الله تعالى . فليس هناك عملٌ بلا تعب ، ولا نجاح بلا سهر ، وما أجمل قول الشاعر الذي صوُّر حال مهنة التدريس بقوله :
ما أحسن التدريس لولا الابتلا *** بمُشاكسٍ أو أحمقٍ أو عاتي
أو ذي غباءٍ ليس يفهم درسه *** ولديه نثر القول كالأبيات
* وختاماً ، أُهديك أخي المعلم عظيم شُكري ، ووافر تحيتي ، وخالص دعائي بالتوفيق والسداد ، والهداية والرشاد في مسيرتك المُباركة ، ومشوارك الطويل لأداء هذه الرسالة العظيمة التي جعلتك محط الأنظار ، ومحل العناية والاهتمام في هذا الزمان وكل زمان . وصلى الله على محمدٍ المختار وآله الأطهار ، وسلَّم تسليماً كثيراً .
***********
للتواصل :
الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أُستاذ التربية الإسلامية
ومدير مركز البحوث التربوية بكلية المعلمين في أبها
ورئيس هيئة التحرير لحولية كلية المعلمين في أبها
أبها _ ص . ب : ( 249 )
E-Mail : abo_arrad @ hotmail.com
رقم هاتف الجوال [ 0504509749]
أو هاتف وفاكس [ 072285565]
=============
دعوة إلى العودة
القرآن الكريم هو الكتاب المنزل على رسوله محمد"صلى الله عليه وسلم "المنقول بالتواتر..المتعبد بتلاوته..أخرج الله به الإنسان من الظلمات إلى النور ومن الشقاء والتعاسة إلى النقاء والسعادة ومن الشرك إلى التوحيد إنه سر وجودنا وبقائنا..يوم حكمناه سرنا العالم ..عليه قامت حضارتنا..وعلى هداه انطلقت قوافلنا مبرره ظلم الجاهلية .
إن الإنسانية أحوج ما تكون إلى القرآن في هذا الوقت تتعطش أن تراه واقعاً ملموساً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعلى جميع الضروب والأصعدة. إذ به نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا.. فكيف يرضى به بديلاً وينحاد عنه سبيلاً.. لقد كان هذا الكتاب دعامة لحياتنا يوم أن اتخذناه منهجاً ولما أن تركناه وراءنا ظهرياً نردده دون فهم آل أمرنا إلى ما نراه ونعرفه.. إنها دعوة إلى العودة إلى هذا المنبع الصافي والمورد الزلال هيا نعمر القلوب بهداه وننير الدروب بضيائه..(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) الإسراء:9
م / رياض بن ناصر الفريجي
رمضان 1420هـ
=============
العِلْمُ وَالثَّقَافَةُ بَيْنَ الفَهْمِ الحَقِيقِيِّ وَالتَّضْلِيلِ المُتَعَمَّدِ
عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ[1]
عندما يتحدث الدعاة والمصلحون عن جزئية في الدين تدعو إلى عدم التشبه بغيرنا من أهل الملل والنحل وأنه لا بد لنا من المحافظة على ثقافتنا وهويتنا بين الأمم فيُتهمون من قبل العلمانيين المسيطرين على شئون البلاد بأنهم ضد الإبداع والعلم والتواصل الحضارى بين الأمم، وأنهم رجعيون وسلفيون وأصوليون ..إلى آخر ما في معجمهم من الاتهامات والأباطيل.
والحق أن هذا فهم غير حقيقي للعلم والثقافة، فالعلم شيء والثقافة شيء آخر، كلاهما يختلف عن صاحبه.
والمستغربون من أمتنا المقلدون للغرب يحلو لهم خلط الأوراق والعبث بعقول شباب الأمة عبر وسائل الإعلام، ويصورون للعامة أن العلم والثقافة وجهان لعملة واحدة، وبما أن الغرب متقدمٌ في كل المجالات والصناعات والتكنولوجيا؛ فلا بد أن نُقلدهم؛ حتى نلحق بركب الحضارة، ولا بد من مسايرة العلم والثقافة التي تتطلب منا أن نكون على خطٍ موازٍ للغرب المتقدم.
والحق أنها شبهة جدير بنا أن نعرض لها ولكن بشيء من الإيجاز يقتضيه المقام، وهذا أوان الشروع في ضحضها.
أيها الأخوة الكرام: العلم شىءٌ والثقافة شىءٌ آخر؛ "فالعلم عالمى لا تختص به أمة، دون أمة ولا تحتكره قارة دون قارة، فيكون غيرها عالة عليها فيه؛ إنه مشاع كالهواء الذى نتنفسه، والعلم تراث إنسانى ما من أمة إلا ولها فيه جهاد وجهود ويد وأيد، وكل درجة ارتقاها العلم في أى عصر من العصور على يد أمة من الأمم في بلد من البلاد؛ إنما كان بفضل درجة أخرى قبلها، كان العلم قد وصل إليها في عصر آخر قبل ذلك العصر، وعلى يد أمة أخرى من الأمم في بلد غير ذلك البلد الذى وصل العلم فيه إلى الدرجة التي تلى تلك الدرجة.
والعلم هو مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل البشري في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن، والمحررة باجتيازات متكررة، فلا تختلف بتفاوت الأذواق ولا تتغير بتطور المصالح، فإن جدول الضرب مثلًا من المعارف الإنسانية العريقة في القدم، وسيبقى حاجة من الحاجات الأولية لطلاب علم الحساب في كل بلد وفي كل زمن، ولولا ما كان معروفًا قبل العرب والمسلمين من علم الحساب لما توصل العرب والمسلمون إلى إتحاف الإنسانية بالحقائق الأولية من قواعد علم الجبر والمقابلة، ولولا علم الجبر والمقابلة الذى توصل علماؤنا إليه قبل مئات السنين لما تقدمت في العصور الأخيرة العلوم الرياضية الأخرى التي توصلت بها الأعمال الهندسية إلى ما وصلت إليه الآن من التقدم، فالعلوم الرياضية والحقائق الهندسية من العلم العالمى المشاع بين البشر، والذى اشتركت عقول البشر في صياغته وتقدمه وارتقائه منذ العصور العريقة في القدم، ولا غضاضة على أمة في أن تطلب العلم به حيث تجده وكذا الطب وعلوم الطبيعة والفلك وكل ما تمس إليه حاجة الأمم في قوتها وأسباب عزتها وتوفير حاجتها، والمسلمون على الخصوص يُوجب عليهم دينهم أن يتعلموا ما تدعو حاجتهم في مرافقهم إلى تعلمه من العلوم التي إن لم يحترفوها تولاها عنهم الأغيار المشركون، وكان جهلهم بها من أسباب ضعفهم.
هذا النوع من المعارف الإنسانية هو العلم وهو واحد في كل أمة، وهو اليوم سبيل القوة في الحرب والسلم وهو الذي ينبغي للمسلمين أن يكون فيهم دائمًا العدد الكافي من العاملين به، ليتولوا مرافق بلادهم بأنفسهم ويحققوا أسباب قوتهم الصناعية والحربية والاقتصادية بأيديهم، وإذا لم يتحقق ذلك إلا بإرسال البعثات إلى البلاد التي تفوقت فيه، فعليهم أن يوالوا إرسالها إلى أن يتوافر عندهم من أبنائهم رجالٌ أكفاء لسد هذه الحاجة على قدرها.(6/179)
أما الثقافة فشيء آخر، فالثقافة في كل أمةٍ لها لون خاص، مستمدة من مألوفها ومن ذوقها ومن مواريثها الدينية والأدبية والعلمية ومن ظروفها الجغرافية وحاجتها الاجتماعية وتصوراتها عن الكون والحياة الإنسانية، وثمَّ عوامل أخرى تتحكم في ثقافة كل أمة، ولذا؛ نرى الثقافة الفرنسية مثلًا تختلف عن الثقافة الألمانية، بل نرى الثقافة البريطانية تختلف عن الثقافة الأمريكية مع اتحادهما في اللغة والأدب، والصينيون واليابانيون يشتركون في الكثير من المقومات، وكانوا بين الحربين العالميتين في حاجة إلى عنصر قوى يستعينون به لمقاومة الاستعمار المحيط بهم من كل جانب، ومع ذلك فإن اختلاف الثقافتين حال دون هذه الأهداف المشتركة، بل أنشب الحرب بينهما سنين طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وفي خلالها.
ولو لم تكن الثقافة من الفوارق الجوهرية بين الأمم، لكان من المعقول أن تتعاون الصين واليابان وتتحد وجهتهما، ولتكونت منهما حينئذ قوة رهيبة لعلها تكتسح الأمم، وذلك ما كان يُنذر به إمبراطور ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى، ويُسميه الخطر الأصفر.
إن تاريخ الأمة من عناصر ثقافتها، وآداب الأمة من صميم ثقافتها، وأخلاق الأمة في كل عصر من عصورها حلقة من سلسلة الأخلاق التي هي من ميراث الماضى، وقد يكون في ميراث الأمة من أخلاق ماضيها الكثير من الخير والكثير مما ينافيه، فعليها أن تُصلح بخيرها ما ينافيه من الأخلاق التي تحتاج إلى إصلاح، فإذا حاولت الأمة أن تتنكر لتراثها الأخلاقى بتطعيمه بأخلاق أجنبية عنها، أضاعت نفسها وفقدت أصالتها وصارت تنافي الأصالة ويحتقرها الأُصلاء من أصحاب تلك الأخلاق الأجنبية"[2].
وسأضرب لكم مثالًا من واقع حياة الأمم وتجارب الشعوب؛ اليابان وتركيا أرادت كل واحدة من هاتين الدولتين في مطلع القرن العشرين أن تكون في مصاف الدول المتقدمة وأن تلحق بركب الحضارة، فماذا فعلت كل واحدة من هاتيك الدولتين؟!.
قامت اليابان بنقل التقنيات الحديثة والصناعات والمصانع وتحديث نظم المعلومات إلى آخر ما هنالك من أسباب التقدم العلمى من أوروبا وغيرها من البلاد المتقدمة، وتركت كل ما يؤثر على عقيدتها وسلوكها، وما هو مخالف لمنهج حياتها وأساليب معايشها فتقدموا وسادوا العالم، والدليل على ذلك ما نراه من تهافت الناس على المنتج اليابانى وتهافت أساتذة الجامعات على شرح أساليب الإدارة والصناعة اليابانية.
وعلى العكس من ذلك قامت البائسة تركيا على يد الرجل الصنم[3] بنقل عادات الغرب من لباس وطعام وشراب ولغة ودعارة؛ ظنًا منها أن هذا هو التقدم، وأن الدين هو أفيون الشعوب، وأن الدين يؤخر البلاد والعباد، وتركوا أسباب التقدم الحقيقى وهى الأخذ بكل ما هو جديد في الصناعات والتكنولوجيا ونظم المعلومات مع الثبات كل الثبات على دين محمد صلى الله عليه وسلم، فغرقوا في الوحل والفوضى الاقتصادية فها هى تعج بالأزمات الاقتصادية، وتكاد تكفر لتدخل الاتحاد الأوربى فيأبون عليها، وصدق الله إذ يقول: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة120].
"إن القول الفصل -أيها الإخوة الكرام- بين العلم والثقافة؛ هو أن العلم عالمى والثقافة قومية وملية، والعلم لا لون له، والثقافة ذات ألون، وكذب من قال: إن في الدنيا ثقافة عالمية ولا يمكن أن تكون فيها ثقافة عالمية، فعلى الأمة الإسلامية أن تتمسك بثقافتها، وأن تبعث فيها أسباب الحيوية بوصل ما بين ماضيها وآتيها خاصةً أننا لا نكون مسلمين بارتياد المساجد فقط، ولا تصحيح العقيدة فقط، بل إن إسلامنا يتناول البيت والشارع والمدرسة والجامعة والتعاملات والأخلاق والعقائد والعبادات، وسنن الإسلام وأحكامه مصدر كريم من مصادر ثقافتنا فلا يكفي أن نعرف كيف نصلي؟! بل يجب أن نعرف كيف نكون أفرادًا مسلمين في مجتمع إسلامى؟ وأن نعرف كيف نكون رعايا مسلمين لدولة إسلامية؟ أما المعارف التي لها لون خاص لأقوام غير أقوامنا ولها لون مِلّي لملل غير ملتنا، فذلك ما يُسمى ثقافة، ونحن في غنى عنها بثقافتنا التي يجب أن نستمدها من مألوفنا ومن ذوقنا ومن مواريثنا الدينية والأدبية وضروراتنا الجغرافية وحاجاتنا الاجتماعية، ولهذه الثقافة مثلٌ في تاريخنا وتراجم أسلافنا، فيجب أن نعرفها بمعرفتهم، وأن ندرسها بدراسة تراجمهم، وأن نحيا بالتخلق بأخلاق أهلها واتخاذهم قدوة لنا وأسوة"[4].
أيها الكرام الأخيار كل ما أدعو إليه هو التحذير من تقليد الغرب فيما نهى عنه ديننا وحذرنا منه[5]، وتشتد خطورة التقليد عندما يكون في أمر هم أولى به منا، ونحن أحوج إلى غيره منهم، فتقليدهم في الفن والغناء والرقص والنحت والتصوير واللعب بالكرة ....إلخ هم أولى به منا؛ لأنه قد تم لهم البناء، وتقليدهم في الصناعات والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة نحن أحوج إليه منهم؛ لأننا أمة حديثة الوعى تريد أن تلحق بركب الحضارة المادية واستجلاب بعض أسباب القوة[6].
إن الانصراف إلى الفن شغل الذين تمَّ لهم البناء، أما الذين لم يبدأوا بالبناء بعد، أو بدأوا متأخرين، فمن أكبر الجرائم صرفهم عن الاهتمام في تقوية البناء، إلى الاهتمام بالرسم والغناء، وعن الاختراع إلى رقص الإيقاع، وعن صنع الحياة إلى رسم الحياة؛ فإنه لم تهزم أمة أخرى بالفن، ولكنما هزمتها بالقوة، ومن التضليل أن يعتبر الفن من وسائل القوة.
وعلى سبيل المثال إسرائيل لا تُعِدُّ لغزونا فرقًا من الراقصات والمغنيِّات والرسَّامين، ولكنها تُعِدُّ فرقًا من الفدائيين، وأساطيل في الجو والبحر، وقذائف للهلاك والتدمير، فهل يفهم هذا "المنحلُّون" و "الببغاوات" و "المتآمرون" و"الكسالى" و "الوجوديون" و "المستغربون" و "المفتونون"؟.
ألا فليعلموا إنه إذا كان الفن يصقل المواهب وينمِّي الشعور بالجمال، فإن الأمة المحاطة بالأعداء، في حاجة إلى ما يفتل السواعد، ويلهب الإيمان، ويقوي الأخلاق، ويفتح العقول، ويدفع عن الأمة خطر الإبادة أو الاحتلال.
ولقد رأيت في التاريخ القديم والحديث أمثلة لأمم متعادية تسعى كل واحدة منها لاستجلاب أسباب القوة سعيًا حثيثًا كما كان بين الفرس والروم قديمًا، وكما يحدث الآن بين كوريا الجنوبية والشمالية، وكما بين الهند وباكستان في هذا العصر ومن قبلهما ألمانيا الغربية والشرقية.
ولم أر في التاريخ أبدًا مثل ما يحدث بيننا وبين وإسرائيل؛ إحداهما تسعى لامتلاك القوة بكل ما تصل إليه من طاقات وقدرات والأخرى تسعى للسلام المزعوم، خلافًا لقول ربنا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال60].
"أيها العقلاء أنا أخاطب فيكم العقل والفهم، سلوا التاريخ: هل أفل نجمنا إلا يوم أن سطعت نجوم المغنِّيين وقويت دولة الراقصات في سماء حضارتنا؟! هل من الحكمة أن يعمل أعداؤنا بما في قرآننا ونُعرض نحن عن قول ربنا!.
أي عاقل مخلص يودُّ أن يكون لنا نجوم في التمثيل والتلفزيون، ونجوم في الرسم والغناء، قبل أن يكون لنا أبطال في الحروب، وعلماء في المختبرات، ومخترعون في الصناعات، وأقوياء في الإيمان والأخلاق؟
أليس من دواعي الأسى، أن تكون لإسرائيل صواريخها، ومعاملها النووية، ويكون لنا تلفزيون، وفرق للرقص والتمثيل، وليس لنا صواريخ، ولا مفاعلات ذرية؟!.(6/180)
أيها العقلاء هل يشفي المريض المدنف باقة من الزهر، أم حقنة من البنسلين؟ وهل يكفي الجائع لحن مطرب، أم رغيف مشبع؟ وهل يسعد الفقير أن تزيَّن له جدرانه بالرسوم، أم أن تهيئ له ما يحتاجه من أثاث؟ وهل يخاف العدو إذا كنت تحسن الرقص، أم إذا كنت تحسن صناعة الموت؟
أيها الحُكام أيها الزعماء خذوا من أمتنا مائة مصوِّر، وأعطوها طيارًا واحدًا، وخذوا منها ألف مغنٍ وأعطوها مخترعًا واحدًا، وخذوا منها كل العابثين واللاهين وأعطوها مُجدًّا واحدًا.
هاتوا لنا جميع الرسامين، والممثلين والمغنين والراقصات والراقصين، ثم احشدوهم جميعًا وانظروا هل يردون عنا خطر قنبلة ذرية، أو صاروخًا موجهًا؟.
نحن في حاجة إلى مخترعين ومخترعات، أشد من حاجتنا إلى فنَّانين وفنَّانات، ومع ذلك فكل الجوائز وكل الفرص وكل الأنوار تسلَّط على هؤلاء، ويحرم منها أولئك، وما رأيت يومًا جائزة خصصت لشاب مكتشف أو مخترع، وأرى كل يوم عشرات الجوائز للشباب المتفوِّقين بالرسم والتصوير والموسيقى والغناء، فهل هذا دليل على جدِّنا في الانضمام إلى ركب الحضارة، والخلاص من أعدائنا المتربِّصين؟ أم نحن قوم غافلون أو مخدوعون أو مضللون؟
أيها العابثون المراهقون، أيها الفنَّانون والمغنُّون والراقصون والراقصات، ستكونون أول من ينهزم في معارك البطولات، وستكونون أول من يفرّ منها إذا لم تحيوا قلوبكم بالإيمان، وتفتحوا عقولكم بالعلم، وتسموا بنفوسكم بالأخلاق، قبل أن تنمُّوَ أذواقكم بالفن، وترضوا شهواتكم بالرقص والغناء"[7].
أيها الأخوة الكرام الأطهار نحن في مفترق الطرق ومن النصح للأمة أن نتعاون على معرفة الطريق الذى نسلكه إلى مرحلتنا الجديدة وهو الطريق الذى يجمع بين تعلم كل ما عند غيرنا من العلوم العالمية التي لا لون لها، والاحتفاظ بكل ما يحفظ علينا إسلامنا من الثقافة التي نحن أغنى أمم الأرض بها، ما علينا إلا أن نستأنف دراستها وإحياءها، والعمل بها؛ ويومئذ تكون العزة والرفعة للمؤمنين.
أما اليوم فالمسلمون قد ذلوا وضعفوا وأخطأهم النصر والتوفيق، وأبطأ عليهم الارتقاء والتقدم والتميز على غيرهم، حيث تجاهلوا معالمهم وسايروا أهل الحضارات والملل والأهواء في طرقهم وأنظمتهم وتقاليدهم ومظاهرهم وأذواقهم وأساليب تفكيرهم.
وإن أرادوا أن ينالوا العزة والقوة وينالوا الفوز والظفر ويقودوا حركة التقدم في الأرض؛ فعليهم أن يعرفوا دينهم ويتمسكوا به، وينهلوا من علوم غيرهم وينقلوا الحضارة النافعة.
فالعاقل يأخذ ما ينفعه من الحضارات الأخرى وبما يتفق مع دينه وعقيدته ولا يخالف المنهج الربانى الذى وهبه له ربه، أما أن نتبع الغرب في كل شيء فهذا يأباه العاقل ويرفضه الأريب، والحضارة الغربية ليست كتلة واحدة، إما أن تؤخذ كلها أو تترك، لا بل فيها النافع للناس والضار بهم -وهذا شأن كل حضارة، إلا حضارة الإسلام- إذًا لا بد من منهج الانتقاء.
تلكُم هى بعض المعالم الحقيقية للتفرقة بين العلم والثقافة نبُثها فى أمتنا للحفاظ على هويتها وثقافتها بين الأمم.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
----------------------------------------
[1] للتواصل والتعليقات . adrrem@yahoo.com
[2] منهج الثقافة الإسلامية للشيخ محب الدين الخطيب بتصرف.
[3] أعنى كمال أتاتورك، الذى يُقال إنه من يهود الدونمة.
[4] منهج الثقافة الإسلامية للشيخ محب الدين الخطيب بتصرف.
[5] راجع مقالتنا السابقة (مخالفة أصحاب الجحيم اليهود والنصارى والمشركين).
[6] قلت: (بعض أسباب القوة) حتى لا يُتوهم أن السبب الرئيس لعجز الأمة هو تأخرها التقني والعسكري وتفرقها فحسب.
[7] هكذا علمتني الحياة للدكتور مصطفى السباعي بتصرف.
===============
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
الدكتور بسام البطوش
البحث منقول بتصرف يسير من كتاب
" الفكر الاجتماعي في مصر "
للدكتور بسام البطوش
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحثٌ موجز مُيسر يبين للقارئ بداية تسلل الفكر الليبرالي العلماني إلى البلاد الإسلامية ، ويكشف أبرز الشخصيات التي اعتنقته ، وساهمت في نشره ، وهو يقتصر على البلاد المصرية بسبب أنها البوابة التي تنتقل منها الأفكار والتجارب الغربية إلى بقية دول العالم الإسلامي ؛ كما في التمثيل ، والمسرح ، والصحافة .. الخ . وهذا المبحث منقول بتصرف يسير من كتاب الدكتور بسام البطوش " الفكر الاجتماعي في مصر " ( ص 93-184) ؛ أنقله هنا ليعرف من خلاله القارئ كيفية التسلل الليبرالي ، وسيكتشف عند قراءته أن الأساليب التي استخدمها أتباع الغرب من الليبراليين المصريين هي نفسها ما يستخدمه الآن أشباههم في بلاد أخرى ؛ ومنها " المملكة العربية السعودية " حرسها الله ، وأدام عليها نعمة الإيمان والأمن ، والله الهادي .
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
1-مفهوم الليبرالية:
مصطلح الليبرالية مذهب ينادي بالحرية الكاملة، وفي ميادين الحياة المختلفة، لاتقيدها أحكام الدين . والليبرالية كغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية تعدّ نمطاً فكرياً عاماً، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم، تشكلت عبر قرون عدة، منذ القرن السابع عشر(1).
وقد ساهم عدد كبير من المفكرين في صياغة الفلسفة الليبرالية كان من أبرزهم، جون لوك (1632-1704م)، وآدم سميث (1723-1790م) وجيرمي بنثام (1748-1832م)، وجون ستيوارت مل (1806-1873م)، وجان فرانسوا فولتير (1694-1778م)، وجان جاك روسو (1712-1778م) وأليكسيس دي توكفيل (1805-1859م) وغيرهم.
وفكرة الليبرالية الأساسية في الاقتصاد هي الحرية الاقتصادية، بمعنى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو أن يكون تدخلاً محدوداً وعلى أضيق نطاق، فواجبات الدولة محدودة، يجب أن لا تتجاوزها(2).
والطبيعة - كما يقولون - تحترم الحرية، فمن الطبيعي أن يتمتع الإنسان بحريته الكاملة في النشاط الاقتصادي، وفقاً لما سُمي "المذهب الطبيعي"؛ فسعادة البشر وفق هذا المذهب تتحقق من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الذاتية. وتم التعبير عن هذا المضمون بشعار "دعه يعمل، دعه يمر" وقد نظر آدم سميث بوضوح لهذه الفكرة في كتابه "ثروة الأمم" الصادر (1776م).
كما تصدى دافيد ريكاردو لشرحها في كتابه "الاقتصاد السياسي" الصادر (1817م) (3).
وتعود جذورالليبرالية - أيضًا - إلى أفكار جون لوك، الذي يؤكد على فكرة "القانون الطبيعي"، ووفقاً لهذه الفكرة فإن للأفراد بحكم كونهم بشراً حقوقاً طبيعية غير قابلة للتصرف فيها، كحرية الفكر وحرية التعبير، والاجتماع، والملكية(4).
وقد شكلت هذه الفكرة إلهاماً للثورات الكبرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كالثورة الإنجليزية (1688م)، والأمريكية (1773م)، والفرنسية (1789م)، وما نتج عنها من نظم سياسية ليبرالية تبلورت معالمها في القرن التاسع عشر بوضوح أكبر(5).
وتعد أفكار المدرسة النفعية، وعلى وجه الخصوص أفكار جيرمي بنتام (1748-1832م) مصدرًا رئيسًا للفكر الليبرالي، وقد عبر عنها بوضوح في كتابه "نبذة عن الحكم" الصادر (1776م)، والفكرة النفعية ترسي قواعد القانون والدولة والحرية على أساس نفعي؛ فالحياة يسودها "سيدان" هما الألم واللذة؛ فهما وحدهما اللذان يحددان ما يتعين فعله أو عدم فعله، فليترك الفرد حراً في تقرير مصلحته بداع من أنانيته، وسعياً وراء اللذة، واجتناباً للألم.(6/181)
والمحصلة هي حياة اجتماعية أكثر سعادة(6)، وفقاً لمبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد"، كمبدأ أخلاقي جديد للتمييز بين الخير والشر(7).
وتؤمن الليبرالية بجملة قيم أسياسية، تأتي "الحرية" في مقدمتها، حتى أنها اكتسبت اسمها من هذه القيمة، وحتى أن البعض رأى "أن الموقف الليبرالي هو التعبير الطبيعي عن الإيمان بالحرية(8)؛ فالهدف الأساس للمذهب الليبرالي هو ضمان الحرية أو التحرر، وغياب القيود والموانع المعيقة لحركة الإنسان ونشاطه، على أساس أنها تتعلق بممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية(9).
وآمن المذهب الليبرالي بقيمة هامة وأساسية بالنسبة لبنائه الفكري، وهي الفردية، فالفرد -هنا- هو الأساس، وواجب الدولة والمجتمع حماية استقلاله، وتسهيل سعيه لتحقيق ذاته، وإتاحة المجال أمامه للاختيار الحر(10).
وأعلت الليبرالية كثيراً من قيمة الملكية كأحد الحقوق الطبيعية للفرد، يتوجب صونها من كل تعدٍ أو جور(11)، وتحدثت الليبرالية عن المساواة بأشكالها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الحراك الاجتماعي(12).
أما فيما يتعلق بالصلة بين الليبرالية والديمقراطية، فإنه يمكن القول بأن الليبرالية تمثل الفلسفة الاجتماعية أو منهج التفكير أو النسق الفكري العام.
في حين أن الديمقراطية أنسب ما تكون لوصف نظام الحكم أو طريقة ممارسة السلطة السياسية. وقد بدأت الليبرالية أرستقراطية ثم أصبحت ذات صيغة شعبية بفعل كفاح الشعوب تعترف للجميع بالحقوق نفسها(13).
2-منافذ الفكر الليبرالي إلى مصر:
أ-الحملة الفرنسية على مصر 1789-1801م:
شكلت الحملة الفرنسية على مصر صدمة ثقافية وفكرية لمصر، وفتحت عيون المصريين على عالم جديد، وساهمت في تعريفهم بالفارق الحضاري الذي يفصلهم عن أوروبا.
فقد رافق نابليون في حملته هذه جمع من العلماء في تخصصات مختلفة. كما أدخل معه مطبعتين إحداهما عربية والأخرى فرنسية، وأنشأ الدواوين، وأنشأ مرصداً ومتحفاً ومختبراً ومسرحاً ومجمعاً علمياً. غير أن قصر الفترة التي مكثها الفرنسيون في مصر، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع لهم كما يشتهون، إلى جانب عدم الاندماج الفاعل بينهم وبين الشعب المصري. كل ذلك قلل من حجم الاستفادة المصرية من ثمرات التقدم الأوروبي التي جلبتها الحملة معها(14).
وقد دار جدل واسع بين الباحثين حول تقويم أثر الحملة الفرنسية التنويري، ومحصلة هذا الجدل كانت حول حجم ومدى التحولات الناجمة عن الحملة، لا حول وجودها من عدمه(15).
وفي كل الأحوال لابد من الحذر من الانسياق خلف مقولات تخدم الادعاءات حول دور تنويري للاحتلال الأجنبي.
ب-الخبراء الأجانب في مصر، والبعثات العلمية إلى أوروبا:
وتوثقت صلات مصر بأوروبا في عهد محمد علي، إذ اعتمد في تجربته الرائدة في بناء دولة مصرية حديثة على عدد من الخبراء الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين.
كما اعتمد سياسة إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فكانت هذه البعثات من العوامل الهامة في الانفتاح على الغرب وثقافته.
وقد بدأت حركة الابتعاث عام 1813م، بإرسال مجموعة من الطلبة المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن، وتعلم الهندسة، ومنذ العام 1826م، بدأت حركة الابتعاث إلى فرنسا، وخلال الفترة 1813-1847م، تم إيفاد 339 مبعوثاً إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين(16).
وبعد عودتهم عملوا في حقول التعليم والجيش والأعمال الهندسية والطب والترجمة. وكان دورهم واضحاً في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية(17).
ج-حركة الترجمة:
وشكلت حركة الترجمة أحد أهم منافذ الفكر الأوروبي إلى مصر، وقد بدأت في عهد محمد علي الذي أولاها رعاية خاصة، اقتناعاً منه بضرورتها للإطلاع على منجزات العلم الأوروبي، وكان تركيزه منصباً على الكتب العلمية، واعتمد في البداية على عدد من المترجمين الأوروبيين، ثم على الطلبة المصريين العائدين من البعثات العلمية.
ثم أنشأ دار الألسن عام 1835م لإعداد المترجمين، وتوسّعت حركة الترجمة لتشمل ميادين ثقافية وعلمية مختلفة، كالعلوم الرياضية، والعلوم الطبية، والطبيعية، والمواد الاجتماعية، والأدبية، والقوانين الفرنسية(18).
وبرز في ميدان الترجمة إضافة إلى رفاعه الطهطاوي (1801-1873م)، كل من أحمد عثمان (1829-1898م) الذي قدّم إلى المكتبة العربية عدة ترجمات لكتابات أدبية فرنسية، وأحمد فتحي زغلول(19) (1863-1914م)، وقد اهتم بترجمة كتابات سياسية واجتماعية أوروبية ذات توجهات ليبرالية واضحة، لا شك أنها قد أسهمت في تعريف المصريين بالفكر الليبرالي الغربي.
وكان يقدم لها بمقدمة يوضح فيها تعاطفه مع المبادئ والأفكار الليبرالية المبثوثة فيها، ويدعو القراء للإفادة منها، وكان من أبرزها "أصول الشرائع" لبنتام ونشرت الترجمة عام 1892م، وكتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"(20) لصاحبه إدمون ديمولان ونشرت الترجمة عام 1899م، وكتاب "روح الاجتماع" لجوستاف لوبون ونُشرت الترجمة عام 1909م، وكتاب "سر تطور الأمم" لجوستاف لوبون أيضاً، ونُشرت الترجمة عام 1913م. وكتاب روسو "العقد الاجتماعي"(21).
وتواصلت حركة الترجمة في مصر لتشكل نافذة تطل منها مصر ومعها العالم العربي على الغرب وثقافته وتياراته الفكرية على تنوعها(22)، واتخذت مكانة هامة في نظر دعاة الليبرالية كمرحلة لابد منها لخلق بيئة ثقافية وفكرية مناسبة تمهد لولوج مرحلة التأليف تالياً.
وقد دافع أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسين هيكل، وغير واحد من رموز التيار الليبرالي، عن أن هذا العصر عصر ترجمة لا عصر تأليف بالنسبة لمصر(23).
د-الطباعة والصحافة:
ولا شك أن تطور الطباعة(24) في مصر كان حجر الزاوية في النشاط الثقافي وخاصة في ميدان الترجمة والنشر، وفي ميدان هام آخر هو ميدان الصحافة.
أما فيما يتعلق بالصحافة، فقد عرفت مصر نشاطاً صحفياً مميزاً منذ صدور "الوقائع المصرية" 1828م، فقد صدر عدد كبير من الصحف والمجلات طوال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وصولاً إلى فترة الدراسة(25).
ولا شك أن بعض الصحف والمجلات أدت دوراً بارزاً في التعريف بالفكر الأوروبي، كان في مقدمتها مجلة "المقتطف"(26)، ومجلة "الهلال"(27)، ومجلة "الجامعة العثمانية"(28).
ساهمت هذه المجلات في التعريف بالمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية، وسائر ضروب الثقافة الغربية(29)، وعدّها إسماعيل مظهر صاحبة الفضل الأكبر في تطور الفكر العلمي في مصر، بل وعدّها نقطة التحول الأساسية في الفكر المصري الحديث(30).
وتبرز جريدة "الجريدة" الصادرة عام 1907م، بوصفها حاملة لراية الدعوة للفكر الليبرالي. وهي لسان حال حزب الأمة ذي التوجهات الليبرالية المعروفة، وترأس تحريرها أحمد لطفي السيد "فيلسوف" التيار الليبرالي المصري ومنظّره. وعلى صفحاتها برزت أسماء عدد من أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، ومحمود عزمي، ومحمد عبدالقادر المازني، والشيخ مصطفى عبدالرازق(31).
ثم حملت الراية جريدة "السفور" الصادرة عام 1915م، وقد شكّلت حلقة وصل بين "الجريدة، و"السياسة" الصادرة عام 1922م لسان حال لحزب الأحرار الدستوريين، ورصيفتها "السياسة الأسبوعية" الصادرة عام 1926م، وتولى رئاسة تحريرها د. محمد حسنين هيكل.
3-أبرز مفكري التيار الليبرالي في مصر:(6/182)
ساهمت جهود مشتركة وعبر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في تهيئة البيئة المناسبة لتشكيل تيار فكري يتبنى الدعوة للفكر الليبرالي، وتوطينه في البيئة الفكرية المصرية.
- وتبرز جهود الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي(32) (1801-1873م)، ذات أهمية في المساهمة في تعريف القارئ المصري على اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في فرنسا، فقد نشر عدداً من الكتب، كان من أبرزها "تخليص الأبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريز" عام 1834م، قدّم فيه فكرة عن الحياة في باريس، وعن الثقافة والعادات والتقاليد والقيم الفرنسية، واعتبره البعض بمثابة حجر الأساس في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري، خلال القرن التاسع عشر(33)، كما أصدر في أواخر حياته كتاباً هاماً يمثل النضوج الفكري للطهطاوي، وهو "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" عام 1869، كما ترجم الدستور الفرنسي الذي سماه الشرطة الصادر عام 1814م، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو، وغيرها من الكتب، التي تبشر بالقيم والمبادئ الليبرالية(34).
كما قدم لقرائه فكرة عن الدولة العلمانية، ومفهوم الدستور والقانون، وأنماط الحياة الاجتماعية، ومكانة المرأة في المجتمع الفرنسي، وأبدى إعجاباً بالمبادئ الدستورية، ومبادئ حقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الغربي، والرابطة الوطنية والتسامح الديني، فقد اجتهد في تقريب صورة الغرب الأوروبي للعقل المصري، ومما لا شك فيه أنه قد شق الطريق أمام بروز التيار الليبرالي في الفكر المصري الحديث(35)، فقد عده بعضهم مؤسس الليبرالية المصرية(36).
- وقد واصل علي مبارك(37) (1823-1893م) متابعة جهود الطهطاوي في حقول الترجمة والتعليم.
وقد ساهم في بروز ما عُرف بالتعليم العلماني أو المدني الحديث الموازي للتعليم الديني الأزهري(38)، وقد أسهم في تعريف المصريين على جوانب جديدة من الحياة في الغرب في روايته "علم الدين"(39)، التي كتبها حوالي سنة 1858م.
- وبعيداً عن التصنيفات القطعية في تحديد الهوية الفكرية لهذا المفكر أو ذاك، فإن جمال الدين الأفغاني(40) (1839-1897م) قام بدور ليبرالي هام خلال فترة مكوثه في القاهرة (1871-1879).
ولا شك أنه ساهم في تهيئة المناخ الفكري الملائم للأفكار التحررية، فقد تبنى الدعوة إلى الحرية، والأفكار الدستورية، والإفادة من منجزات الغرب والتواصل معه، ومكافحة الاستعمار والاستبداد والظلم(41).
وتشكل من حوله جيل من التلامذة والمعجبين(42)، قادوا الحركة الفكرية في مصر، وتزعموا مايسمونه حركة الإصلاح هم وتلامذتهم من بعدهم.
- والشيخ محمد عبده(43) (1849-1905م) يأتي في مقدمة تلامذة الأفغاني وتأتي أهميته في سياق الحديث عن الفكر الليبرالي في مصر، من كونه يمثل مدرسة عصرانية تدعو – كما تزعم - إلى التوفيق بين الإسلام وبين حركة المدنية الحديثة(44)، فكان دوره حاسماً في حركة الثقافة المنفتحة على الغرب وعلومه، ، وهو رائد المنهج العصراني(45) .
لكنه لا يحبذ – مؤقتًا - ترك المجال للاتجاهات العلمانية الصرفة لتسود كل شيء(46).
لكن غالب تلامذته اتجهوا نحو ليبرالية علمانية وفق تطور تدريجي في أعقاب وفاة شيخهم(47)، وشرعت هذه الفئة في نشر مبادئ مجتمع علماني يدعي احترام الإسلام، لكن دون أن يجعله أساساً للحياة الاجتماعية(48) !!
- وقبل مواصلة الحديث عن تلامذة محمد عبده الذين ساروا في الخط الليبرالي، لابد من الإشارة إلى الدور الهام الذي قام به عبدالرحمن الكواكبي(49) (1848-1902م) في صياغة الفكر العربي الحديث، وإسهامه بالذات في محاربة الاستبداد، وكشف مخاطره وعواقبه، واعتباره السبب الرئيس المسؤول عن واقع التخلف الذي تعانيه الأمة.
وقد دافع عن الحرية، والعدالة والمساواة، من منظورمنفتح على التجربة الإنسانية، ولا شك أن هذه الأفكار تشكل جذراً أساسياً في دعم الفكر التحرري الليبرالي.
- ويُعد قاسم أمين(50) أحد أبرز تلامذة محمد عبده الذين جنحوا تدريجياً في مجاراة تيار التغريب، وإن كان اسمه قد اقترن بالدعوة إلى "تحرير المرأة"، فإن جهده الفكري قد اعتبر أحد الروافد الهامة التي صبت في التيار الليبرالي العام.
- ويأتي أحمد لطفي السيد(51) (1872-1963م) لينطلق بعيداً بالفكر الليبرالي في مصر عن النهج التوفيقي لمحمد عبده.
فقد استبعد الإسلام كتشريع وكمرجعية من مشروعه الفكري، وأخذ به كجانب خُلقي وكمرحلة تاريخية من مراحل تكوين الشخصية المصرية(52)، وأبدى إعجاباً شديداً بالفلسفة اليونانية، فعمد إلى ترجمة بعض مؤلفات أرسطو الذي كان من فرط إعجابه به يدعوه "سيدنا أرسطو رضي الله عنه"(53) !!
واعتبره جيل من الشباب المثقف، أستاذاً لهم، فأسموه "أستاذ الجيل"، ذاك الجيل الذي تتلمذ على يديه في "الجريدة" وفي "الجامعة المصرية"(54)، وتلقفوا أفكاره الليبرالية بكثير من الإعجاب والمتابعة(55).
ويكفي أن نعرف أن لطفي السيد هو الذي اشتق التسمية المناسبة برأيه للدلالة على "الليبرالية"، فأطلق عليها اسم "مذهب الحريين" وفضلها على تسميتها بمذهب "الحرية" أو مذهب "الأحرار"، وكان يسميه مذهب "اللبراليزم" أي مذهب أهل السماح. ونادى بجعل هذا المذهب أساساً للنظام السياسي والاجتماعي، ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والحكومة(56).
كما اقترح تسمية حزب الأحرار الدستوريين عند تأسيسه باسم حزب "الحريين الدستوريين"(57).
وإذا كان الإمام محمد عبده يدعم نهجه الإصلاحي التوفيقي بـ"الفكرة" و "الموقف"، من خلال العمل في المؤسسات، فإن لطفي السيد ومعه جيل جديد من الليبراليين مارسوا تعزيز النهج التحديثي الليبرالي، عبر "الفكرة" بالجهد الفكري والثقافي، وعبر "الموقف" بالمشاركة في أجهزة الدولة، كتولي الوزارة، ورئاسة الجامعة وغيرها من مؤسسات التوجيه.
- ويظهر د. منصور فهمي (1886-1958م) (58)؛ كأحد أبرز رموز التيار الليبرالي. تلقى تعليمه العالي في باريس، وناقش في عام 1913م أطروحة الدكتوراه بعنوان "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها"، وهي أول رسالة قدمها مصري في علم الاجتماع.
وقد أشرف عليها المستشرق اليهودي ليفي بريل(59) (1857-1939م)، وتضمنت نقداً لاذعاً لأحوال المرأة في المجتمع الإسلامي، بل ولموقف الإسلام من المرأة، ونهج فيها منهج النقد التاريخي، المتحرر من الالتزام بقدسية الوحي، ومفسراً نصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وسلوك الرسول عليه السلام وفقاً لمناهج المستشرقين.
وعندما عاد إلى مصر، عمل مدرساً في الجامعة المصرية، لكنه أُخرج منها عندما نشرت الصحف مقتطفات من أطروحته التي كتبها بالفرنسية، ولم يحاول إطلاقاً إعادة نشرها بالعربية، وكان عضواً في "جماعة السفور"، وفي الحزب الديمقراطي المصري، وأحد أبرز كتّاب "السياسة".
لكن منصور فهمي أعاد النظر في كثير من قناعاته الفكرية، فعاد ليبدي تفهماً لحقائق الإسلام بعيداً عن المفاهيم الاستشراقية التي خيمت على فكره في بواكير الشباب، وراح يعبر عن هذا الموقف منذ نهاية عقد العشرينيات، عبر مقالاته الصحفية، ونشاطه الفكري العام(60).(6/183)
- ولا يمكن استكمال صورة الفكر الليبرالي في مصر دون التوقف مطولاً مع تجربة د. محمد حسين هيكل(61) (1888-1956م)، فقد تتلمذ في السياسة والفكر على لطفي السيد، وفي باريس انفتح على الثقافة الأوروبية بكل تجلياتها، وأبدى إعجاباً بها وحماساً كبيراً نحوها(62)، وساهم في صياغة الفكر الليبرالي في مصر عبر ترجماته المتعددة في الأدب الفرنسي خاصة لأناتول فرانس(63)، وعبر مؤلفاته، وكان من أهمها "جان جاك روسو: حياته وأدبه" (1921-1923م). وإن كان جهده الفكري والثقافي الأبرز في رئاسة تحرير "السياسة"، أبرز منابر الفكر الليبرالي في مصر خلال هذه المرحلة(64).
وإذا كان د. هيكل من أجرأ من عبّر عن أفكاره التحديثية الليبرالية، فإنه أيضاً تمتع بقدر عالٍ من الجرأة في التعبير عن مراجعات فكرية عميقة وجذرية إلى حد ما، في مرحلة العودة إلى الإسلام أو إلى "التوفيقية"(65) في عقد الثلاثينيات، لقد استفزته الهجمة التبشرية على مصر(66)، فتصدى لها(67).
وبدأت المقالات الإسلامية تجد سبيلها للنشر على صفحات "السياسة"(68)، وانطلق يؤلف في الدراسات الإسلامية، فأصدر "حياة محمد" (1932-1935م)، و"في منزل الوحي" 1936م، كما عبر بصراحة عن خيبة أمل عميقة بالحضارة الغربية، وبسياسات الغرب، وبفرص نجاح الثقافة الغربية في البيئة المصرية والعربية(69).
- ويعد د. طه حسين (1889-1973م) (70)، من أبرز دعاة الليبرالية والتحديث في هذه المرحلة، فبعد أن درس في الأزهر (1902-1908م)، غادره إلى الجامعة المصرية، فغادر بذلك ثقافة الأزهر ليتجه في طريق الثقافة الغربية المسيطرة في الجامعة المصرية، ولما انتقل للدراسة في باريس تعمّق التوجه نحو الغرب الثقافي في وجدان طه حسين وعقله.
أبدى اهتماماً بالفكر الاجتماعي منذ أن أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة السوربون عام 1918م، بعنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" بإشراف عالم الاجتماع اليهودي إميل دور كهايم(71) (1858-1917م)، كما أبدى اهتماماً بالفلسفة اليونانية، والفلسفة والفكر الأوروبيين الحديثين. وارتبط بصداقة فكرية وسياسية حميمة مع أحمد لطفي السيد، كما ارتبط بحزب الأحرار الدستوريين، ثم تحول في مطلع الثلاثينيات نحو الوفد(72).
سخّر طه حسين كل جهوده الفكرية والأدبية والأكاديمية والسياسية، لخدمة الفكر الليبرالي الغربي الذي آمن به، ووقف حياته للدعوة للمفاهيم والقيم الليبرالية، وانخرط طويلاً في معركة "القديم والجديد"(73).
وكثيراً ما لجأ إلى الاستفزاز والإثارة، عندما كان يعمد إلى مصادمة الناس في معتقداتهم الدينية، كما فعل في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وظلت تطارده تهمة تقديم "دراسات إلحادية" لطلبته في الجامعة، وتسببت في إخراجه من الجامعة عام 1931م(74)، لكنه ساهم في الحملة على النشاط التبشيري في مصر(75).
وأصدر في ديسمبر 1033م كتابه على "هامش السيرة"، وقد أتى متزامناً مع دراسات هيكل في السيرة.
لكن طه حسين لم يظهر شيئاً من المراجعة الفكرية كهيكل، ويصرح بأن هذه الدراسة تأتي في إطار تقديم الدراسات الأدبية الترفيهية، التي تقرّب صورة الأدب العربي القديم للشباب، وتقدم ترفيهاً للنفوس المتعبة؛ فيقول:
"وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخبر، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش"(76).
كما أنه نشر في الفترة نفسها كتابة "من بعيد" وهو عبارة عن مجموعة مقالات كتبها خلال أعوام (1923-1930م)، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1935م، وهو لا يشير إلى أي تحول فكري عن الخط السابق.
ثم أصدر كتابه الأخطر وهو "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1937م، وهو أوضح تعبير عن مشروع طه حسين الفكري القائم على التغريب، والعلمانية الصرفة(77).
- أما عباس محمود العقاد (1889-1964م) (78)، فقد أسهم بجهد فكري معتبر في دعم الفكر الليبرالي، وفي الدفاع عن توجهات الوفد الفكرية والسياسية، فقد بقي طيلة الفترة (1923-1935م)، يكتب المقال الافتتاحي في الصحافة الوفدية.
فقد آمن العقاد بالديمقراطية الليبرالية، ودافع عن الحرية، وتصدى في هذه المرحلة للفكر الاشتراكي وللشيوعية، ودافع بحرارة عن موقف الوفد الرافض لفكرة الخلافة، ولعقد مؤتمر الخلافة، ولتطلعات الملك فؤاد في هذا الشأن.
كما دافع بقوة عن التوجهات العلمانية للوفد، لكنه اختلف مع الوفد وخرج عليه شعوراً منه بأنه الوفد يساوم على مبادئ الديمقراطية الليبرالية(79)، كما أنه لم يكن من دعاة التغريب.
- ولعله ليس من الممكن ونحن نتحدث عن رموز التيار الليبرالي في مصر تجاهل إسماعيل مظهر (1891-19629) (80)، وهو صاحب فكرة إنشاء "حزب الفلاح" عام 1929م. وهو برنامج ليبرالي بمسوح اجتماعية أو اشتراكية مبهمة، يهدف إلى حل مشاكل الفلاح المصري، تقدم بهذه الفكرة للنحاس باشا "زعيم الأمة"، زعيم الوفد للنهوض بها وتنفيذها، لكن الوفد تجاهل الفكرة(81).
4-أبرز الأحزاب الليبرالية في مصر:
يمكن القول بأن مصر عرفت ثلاثة أحزاب ليبرالية خلال فترة الدراسة، هي الحزب الديمقراطي المصري (1919-1922م)، وقد أُشير في الفصل الأول إلى هذا الحزب وجذوره وكيف انتهى إلى الانخراط في حزب الأحرار الدستوريين.
أما الحزبان الآخران فهما حزب الأحرار الدستوريين (1922-1953م)، وحزب الوفد، وكنا قد تحدثنا عن دورهما في العملية السياسية في مصر أثناء فترة ما بين الحربين، وهنا نلقي ضوءاً على هويتهما الفكرية.
انتهج الحزبان الأيديولوجية الليبرالية نفسها، واختلفا في الشكل دون المضمون، وهو اختلاف قائم على صراعات شخصية، وعلى صراع سياسي، وتنافس حزبي ليس أكثر.
وكان الحزبان قد انطلقا من جذر فكري واحد هو مدرسة محمد عبده. ثم تبلورت الاتجاهات الليبرالية لديهما بمرور الوقت طيلة العقدين الأولين من القرن العشرين، في إطار حزب الأمة، ومدرسة "الجريدة"، ثم في "جماعة السفور" و"الحزب الديمقراطي المصري" وفي "الوفد المصري".
وتعمق الاتجاه العلماني في وجدان هؤلاء وخطابهم، في مطلع العشرينيات، بزيادة حدة الموجة العلمانية التغريبية التي اجتاحت مناحي الحياة المختلفة، وراحت تطيح بكثير مما تعارف عليه المجتمع من قيم وأفكار.
وقد استظلت هذه الموجة بغطاء الهيمنة الاستعمارية، التي فرضت نفسها على مصر والمنطقة من حولها(82)، كما استوحت الليبرالية المصرية الكثير من النموذج التغريبي الجاري على قدم وساق –آنذاك- في تركيا(83).
لقد نظر الليبراليون في مصر بانبهار وإعجاب إلى التجربة العلمانية في تركيا، وظهر جدل فكري هام بين التيارات المختلفة تعقيباً على ما يجري في تركيا.(6/184)
وظهر في الصحافة المصرية آلاف المقالات والتحقيقات حول التجربة الكمالية إعجاباً وتأييداً، أو انتقاداً وتحذيراً، لكن التيار الليبرالي أبدى إعجاباً شديداً بهذه التجربة(84).
وراح الليبراليون يثيرون في مصر نفس القضايا التي كانت تُثار في تركيا، كالخلافة، وتغريب التعليم، والتشريع والثقافة والأدب، والأزياء، والحروف اللاتينية والمطالبة بإلغاء الوقف، وإلغاء الإفتاء، والأخذ بالزواج المدني(85).
- وظهر حزب الأحرار الدستوريين كحزب للصفوة الاجتماعية والثقافية وكمدافع عن مبادئ الحرية والدستورية –كما يوحي بذلك اسمه-وكمؤمن بمبادئ العلمانية الشاملة، واعتبرت "السياسة" لسان حاله منبراً للفكر الليبرالي.
ويمكن تحديد ملامح الرؤية الفكرية للحزب بقراءة العناوين البارزة لقانون الحزب الصادر عند تأسيسه في الثلاثين من تشرين أول 1922م، حيث وضع الحزب لنفسه مبادئ يسعى لتحقيقها، وهي تتعلق بتأييد النظام الدستوري، وتطوير الحياة النيابية، والحكم المحلي، والدفاع عن حقوق الفرد وحريته، ومحاربة الأمية ونشر التعليم، وتطوير اقتصاد البلاد، وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأهلي، وتوزيع الضرائب توزيعاً عادلاً وحماية الصناعة المصرية، وترقية الزراعة وإصلاح وسائل الري والصرف والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان للأفراد (ولا يحدد من هم؟ هل هم الأغنياء أم الفقراء؟)، وتنظيم العلاقات في المصانع والمتاجر بين العمال وأرباب العمل على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين.
والمقصود هنا التحذير من تفشي الاشتراكية(86)؟
لكن البون كان شاسعاً بين الفكر والممارسة، كما اتضح من دوره في العملية السياسية، وقد عبر عدد من المفكرين عن الرؤية الفكرية للحزب، كان في مقدمتهم أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسنين هيكل، ود. طه حسين، ود. محمود عزمي(87)، ود. منصور فهمي، وناصرهم الشيخان، مصطفى عبدالرازق وعلي عبدالرازق، ونفر من المفكرين والكتاب(88).
- أما حزب الوفد فقد آمن بالوطنية العلمانية، واستندت أيديولوجية إلى جملة مبادئ أساسية في تحقيق الاستقلال، وصون الوحدة الوطنية، والحكم الدستوري الذي يصون الحريات الفردية والعامة(89)، وحرص الوفد على المحافظة على صفته التمثيلية العامة للشعب، وعلى صورته كحزب جماهيري، مدافع عن الدستور وعن الشعب. ويمكن القول أنه في هذا المجال تفوق على خصمه السياسي الأبرز حزب الأحرار الدستوريين(90).
ومع حرصه على النهج العلماني الخالص في شؤون الحكم والسياسة، فإنه لم يلجأ إلى مصادمة الناس في عقائدهم الدينية، وما تعارفوا عليه من قيم وأنماط سلوك.
وفي نهاية فترة الدراسة، نجد الخطاب الوفدي يتطرف لجهة العلمانية في مواجهة صعود الاتجاه الإسلامي، في الوقت الذي كان فيه منظّرو حزب الأحرار الدستوريين يميلون نحو الاعتدال النسبي(91)، واقترن ذلك بهجوم كاسح على الفكر الاشتراكي، ومنظمات اليسار المختلفة.
وهكذا يتطرف الوفد علمانياً وليبرالياً ليتصدى للتيار الإسلامي المتنامي وللفكر الاشتراكي محدود الانتشار(92).
وقد دافع لفيف من ألمع كتّاب المرحلة، عن هذه الرؤية الفكرية للوفد، كأحمد أمين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وعبدالقادر المازني، ثم التحق بهم طه حسين بعد اختلافه مع الأحرار الدستوريين عام 1932م(93).
أما سعد زغلول (1857-1927م) فقد كان زعيماً سياسياً ورجل دولة، أكثر منه مفكراً .
البحث في أسباب التخلف وأسس التقدم :
انشغل الفكر العربي الحديث كثيراً في البحث في أسباب تخلّف المجتمع العربي، وأسس تقدمه ونهوضه، منذ الطهطاوي، والأفغاني وعبده، والكواكبي وغيرهم، وتعددت الاجتهادات والرؤى في الإجابة على السؤال الكبير؛ "لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا؟" (94).
وبذلت جهود كبيرة في الإجابة على هذا السؤال، ويرى د. علي محافظة "أن المفكرين العرب في عصر النهضة انقسموا إلى فريقين في تحليلهم أسباب تخلف أمتهم، فريق السلفيين الذين أرجعوا هذه التخلف إلى ابتعاد المسلمين عن الدين القويم، وفريق الليبراليين الذين حاولوا الغوص في تراث الماضي وأوضاع الحاضر، وتحري التطورات السياسية والقيم الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى هذا التخلف"(95).
وإذا كان من الصعب الإضافة إلى الجهود السابقة التي استعرضت وحلّلت مواقف المفكرين العرب في عصر النهضة من هذه المسألة(96)، فإن المهم هنا هو التركيز على أبرز ما قدّمه التيار الليبرالي من معالجات في هذه المسألة وخلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
مع ضرورة الإشارة إلى أن رؤية الليبراليين المصريين لأسباب التخلف، تظهر بشكل أوضح من خلال عرض رؤيتهم لأسس التقدم وتحليلها.
كما تظهر أيضاً في معالجتهم لمسائل الحرية والعلمانية ودور الدين في المجتمع، وسلطة العقل والعلم، والعلاقة مع الغرب، وقضية المرأة، والعدالة الاجتماعية، والآفات والأمراض الاجتماعية، ولكننا سنعرض هنا لرؤيتهم لأسس التقدم وعلى النحو الآتي:
1-الدعوة إلى الحرية:
كان من الطبيعي أن يهتم الليبراليون بالدعوة إلى الحرية، والإعلاء من أهمية هذه القيمة، والدفاع عنها، واعتبار غيابها والاعتداء عليها أحد أركان التخلف، واعتبار التمسك بها أسّ التقدم والنهوض(97)، ليس من الغريب كل هذا ، فهي جوهر فكرهم، بل واتخذوا منها اسماً عليهم.
وهذا أحمد لطفي السيد يجعل فقدان الحرية أسباب التخلف، كما أن الاستبداد أصل الرذائل، معيداً جميع ما تعانيه مصر من "سوء الحال" إلى "نقص الحرية" مؤكداً "فنحن المصريين أحوج ما تكون لتوسيع ميدان العمل لحرية الفرد، حتى يسترجع ما فقد من الصفات الضرورية للرقي المدني"(98). وإذا كان السيد هو فيلسوف التيار الليبرالي المصري ولديه هذا الإيمان بقداسة الحرية الفردية، فمن المنتظر أن يعبر تلامذته عن إيمانهم بالحرية الفردية واحترامها، والدافع عن الحريات العامة والدستور والحكومة النيابية، وسلطة الأمة، والحد من سلطة الدولة(99).
اهتم الليبراليون بالدفاع عن الحرية الفكرية(100)، فهذا مصطفى عبدالرازق يؤكد بأن الدين "قد كفل للإنسان أمرين عظيمين طالما حُرم منهما، وهما استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر "كما أكد" أن الذين يخدمون الحرية الفكرية، هم خُدّام الحق وأنصاره"، جاء هذا في إطار دفاعه عن السياسة وما يُنشر فيها من مقالات، قادت البعض إلى اعتبارها ترويجاً للإلحاد، في حين اعتبرها هو دفاعاً عن حرية الفكر، وهذا ما لا يخالف الدين برأيه(101).
لكن د. محمود عزمي أحد أبرز الكتّاب الليبراليين في الصحافة المصرية آنذاك وهو يدافع عن حرية الرأي والعقيدة، راح يؤكد على صفحات الهلال "أن الدستور المصري قد أطلق حرية الاعتقاد، وكفل الجهر به وأباح الإلحاد لمن يشاء"(102) !!
مما يعني أن الدستور قد كفل حرية الرأي والتعبير والاعتقاد؛ فلا يجوز مخالفته.(6/185)
ودافع علي عبدالرازق عن التفكير الحر، وحرية التعبير، مبيناً أن المعضلة في مصر ليست في إنتاج الفكر، ولكن في توفر الشجاعة لدى المفكرين للتعبير الحر عن أفكارهم، مؤكداً أن نظام الحياة الاجتماعية في مصر "من أكبر العوائق، دون أن يصل المصريون إلى التفكير الحر، في أي نوع من أنواع الحياة،"، كما أن من أكبر أسباب عيوب الشخصية المصرية "فقدان الحرية، حرية التفكير وحرية العمل"، فهو يعتقد "أن ظلم الحرية في مصر واضطهادها، وحدهما أساس ما في الخُلق المصري من ضعف وانحلال، وأنه لا سبيل لإصلاح الخلق المصري إلا أن يعيش المصريون أحراراً.
وهو يطالب بالإصلاح السياسي المفضي إلى الإصلاح الخلقي "إذ أن الحكومة الحرة العادلة هي التي تربي حرية الفكر، وهي التي تربي الخلق المصري، وهي التي تنهض بالأمة المصرية"(103).
- وإذا كان إسماعيل مظهر يعتقد بأن الشعب اليوناني القديم هو أرقى شعب أقلّته الأرض من حيث النضوج الفكري، وأن "الإنسان لم يرتق منذ العصر اليوناني الأول حتى اليوم في الكفاءات العقلية" فإنه يُرجع كل هذا التفوق الذي أسبغه على اليونان وحضارتهم، إلى "بروز الذاتية الفردية واستقلالها فكراً وعملاً وبعدها عن التأثر بحياة الجماهير، لذلك فإنه لا يطمئن لمستقبل الإنسان "إلا إذا تبدلت جماعات المدنية الحديثة في نظامها الحاضر السائدة فيه روح الجماهير بنظام يكفل حرية الفرد وينمي كفاياته ومواهبه"(104).
- أما العقاد، فيرى بأن حرية الفكر هي حرية التعبير عن "الشخصية الإنسانية" بكل ما تشمل من حس وإدارك وخلق ومزاج ومجهود، وهي –عنده- تساوي حرية الحياة، "فسيان أن تمنع الإنسان أن يحيا، وأن تمنعه أن يفكر ويستوفي جوانب الشخصية التي تبلغ تمام مظاهرها في التمييز والتفكير، وهو يعتقد بأن حماية الحرية الفكرية هي حماية من غوائل الذل والنفاق والغباء(105).
لكن العقاد وهو ينادي بحرية الفكر كان قد طالب فيما مضى بتوضيح مفهوم حرية الفكر "إننا نريد أن نكون أحراراً في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون. فمن تلك الحرية التي نريدها أن نعرف حدود حرية الفكر نفسها. وهو يرفض أن تكون "حرية الفكر" مجرد مجاراة لكل جديد، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود لا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين" ويأتي كلامه هذا في سياق تعليقه على كتاب سلامة موسى "حرية الفكر"، وكأنه به يعرّض بنهج سلامة موسى القائم على الدعوة لكل "صرعة فكرية تظهر في الغرب بحجة حرية الفكر؛ فيقول العقاد: "ولسنا أحراراً حين تدور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج وكل خاطرة تعنّ في الأذهان"(106).
- ومن المؤكد أن التيار الليبرالي يؤيد فكرة الديمقراطية، والنظام النيابي الديمقراطي، ويجعلها محور النظام السياسي الذي يرتجيه، فهذا د. هيكل يعتقد بأن الديمقراطية ملائمة للمزاج المصري، وأنها أفضل أنظمة الحكم بالنسبة للبيئة المصرية، وذلك –في نظره- لأنها تدعو إلى ما دعت إليه تعاليم الإسلام "من حقوق الأفراد في حرية الفكر وفي التعليم وفي السعي والعمل" كما أن "طبيعة هذه البلاد تتفق مع هذه التعاليم وتعاون عليها" وعليه "فلا مفر من أن تكون ثقافتنا الثقافة الديمقراطية"(107).
- والديمقراطية عند طه حسين، هي "التي يتحقق فيها التوازن على نحو ما بين الفرد والجماعة، والتي ترعى حقوق الفرد، وما بين الشخصية الفردية، والشخصية الجماعية"(108)، وتصدى على عبدالرازق للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام(109).
- لكن الفكرة الديمقراطية النيابية، لم تكن بمعزل عن النقد في الفكر الليبرالي المصري، ففي ظل الاعتداء على أصول قواعد النظام الديمقراطي النيابي، من قبل حزب الأحرار الدستوريين، نجد أحد أبرز كتابه، وهو د. محمود عزمي، يطعن في هذا النظام وكأنه يبرر اعتداء الحزب عليه، فهو بالرغم من إقراره بأن الديمقراطية هي النظام الأصلح للحكم، فإنه يعتقد بأن الديمقراطية الحقة هي "حكم الأمة بالأمة"، لا حكمها بطائفة معينة من أبنائها، مهما كان عددهم، ولأن حزب الأحرار كان يشكك في وعي الناخبين الذين يمنحون الوفد الأغلبية المطلقة في كل انتخابات نيابية نزيهة، نجد د. عزمي ينادي بفكرة "الأرستقراطية العقلية" بحيث يكون وزن أصوات الناخبين متفاوت بمقدار ثقافتهم، وبمقدار ما يملكون من "أملاك مادية منتجة"، وهذا –في نظره- يخلّص النظام السياسي من أرستقراطية المال والجاه الموروث وحده(110)، فتكون بذلك أرستقراطية مبنية على الثقافة والمال. وهكذا فالمطلوب هو الديمقراطية الأرستقراطية في مواجهة ما تعانيه مصر من الديمقراطية الشعبية الوفدية، على حد رأي الأحرار الدستوريين.
أما إميل زيدان، رئيس تحرير "الهلال" فيطالب بإعادة النظر في الديمقراطية "فميراث الثورة الفرنسية قد أصبح رثاً، وكلمات الحرية والإخاء والمساواة قد بُليت، بل كادت تصبح جوفاء لا يتفق وقعها ونغمات هذا الزمان الصاخب العنيف"، ويرى أن النظام الدستوري المصري المقتبس عن الغرب، لم يعد ملائماً "لبيئتنا وعقليتنا وأحوالنا الخاصة"، فما هو المطلوب؟ المطلوب عند زيدان، هو أن تتجه مصر في نظامها الدستوري "يساراً"، نحو تغليب نزعة الحكم لمصلحة سواد المحكومين لا لمصلحة طائفة منهم(111)، إذاً المطلوب هو الديمقراطية الاجتماعية، التي تراعي مصالح الفئات المسحوقة.
- أما الموقف الليبرالي من الحرية الاقتصادية فسيظهر حين الحديث عن العدالة الاجتماعية.
2-الدعوة إلى العلمانية والعقلانية:
وفي تحليلهم لأسباب تخلف المجتمع المصري، يعبر الليبراليون من طرف خفي أحياناً، أو بصراحة ووضوح عن اعتقادهم بأن الدين أو على الأقل أسلوب فهمه وتطبيقه، كان من الأسباب الهامة التي تقف وراء هذا التخلف!!
وفي وجدانهم الكثير من الإعجاب بالتجربة الأوروبية، في الفصل بين الدين والحياة، ويتطلعون إلى تقليد هذه التجربة، كما تستفزهم التجربة العلمانية في تركيا، وتشغفهم إعجاباً وإلهاماً(112).
ولعل المعركة الفكرية التي شهدتها مصر، بعد إلغاء الخلافة العثمانية في آذار عام 1924م، وما أثير من مواقف واجتهادات حول إحياء الخلافة، والدعوة لعقد مؤتمر الخلافة، وصدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق عام 1925م(113)، هي في الحقيقة تعبير عن طبيعة نظرة هذا الطرف أو ذاك، للعلاقة بين الدين والحياة، ولدرجة سلطة الدين على الدولة والمجتمع والفرد.
إن جوهر الفكرة التي دافع عنها علي عبدالرازق في كتابه، هي الفصل بين الدين والدولة، وأن الإسلام دين لا دولة، وأن نظام الخلافة لا صلة له بالإسلام، وهذا تنظير للعلمانية، وتوطين لها في البيئة الإسلامية، ومن خلال تأصيل إسلامي مزعوم، لكنه صادف رأياً عاماً رافضاً وساخطاً، نظراً لطبيعة الظرف التاريخي الذي جاء فيه الكتاب.
أما التيار الليبرالي فقد رحّب بالكتاب ودافع رموزه عن الكاتب والكتاب بحرارة، على اعتبار أن القضية تمس حرية التفكير والتعبير، وإن كان سعد زغلول قد تحفّظ على آراء الكاتب بل عارضه فيما ذهب إليه من آراء(114).
لكن هذا لا يعني أن "الوفد" قد تخلّى عن "ليبراليته"، وأصبح من دعاة "الخلافة الإسلامية"، فقد كان كما هو متوقع ضد فكرة المؤتمر، وضد سعي فؤاد للخلافة، وضد إضفاء أية صبغة "دينية" إسلامية على نظام الحكم في مصر، ومع المحافظة على طابعه الدستوري الليبرالي.(6/186)
وقد كتب عدد كبير من الوفدين في تأييد أفكار الكتاب، وفي مساندة حرية الرأي والتعبير، ونادى أحمد حافظ عوض رئيس تحرير "كوكب الشرق" الوفدية بتآزر الأحرار أمام الأفكار الرجعية، التي تمسّ الدستور وما كفله من الحريات العامة.
وكتب بعضهم في جريدة السياسة يثنون على موقفها من القضية(115)، لكن حزب الأحرار الدستوريين ومفكريه وصحافته وقفوا موقفاً أكثر حماساً في الدفاع عن الكاتب والفكرة(116)، وعن قضية حرية الرأي، وقد تسبب هذا الموقف في أزمة وزارية أدت إلى خروج وزراء الحزب من وزارة زيور الثانية(117).
وعمدت "السياسة" في دفاعها عن الآراء الواردة في الكتاب، إلى ربطها بآراء الأستاذ محمد عبده، حول الخلافة، لإظهارها كامتداد طبيعي لأفكار الأستاذ (118)، وبرز رئيس تحريرها د. هيكل في مقدمة المنافحين عن آراء علي عبدالرازق وحريته في التعبير عنها، وكتب عدداً من المقالات في هذا الصدد، وسانده كل من طه حسين، ومنصور فهمي، ومحمود عزمي، وعبد القادر المازني، وجوهر دفاعهم تركز على مسألة حرية إبداء الرأي والتعبير عنه(119).
لربما يمكننا القول بأن قضية كتاب علي عبدالرازق، كشفت الكثير من توجهات التيار الليبرالي حول دور الدين في الحياة، وحول موقفهم من علمانية الدولة والمجتمع، وهذه التوجهات ظل رموز هذا التيار يعبرون عنها، بدرجات متفاوتة من الصراحة والحدة.
- وقبل أن تخمد نيران هذه المعركة، نشبت معركة فكرية جديدة، بطلها هذه المرة د. طه حسين، فقد أصدر في العام 1926م كتاب المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"(120).
إن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف إصدار هذا الكتاب، تتمثل في سعيه إلى ترسيخ المنهج العلماني في الفكر والبحث والسياسة والاجتماع، فقد حاول طه حسين تطبيق منهج الشك الديكارتي، على الموروث الحضاري برمته، وهو يدعو إلى الإطاحة بكل المقدسات، وإخضاع كل شيء لهذا المنهج، وحتى النص القرآني فقد شكك في صحة قصة إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل وبنائهما الكعبة المشرفة(121)، إذ يقول: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودها التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها"(122).
لقد انقسم التيار الليبرالي على نفسه، في هذه القضية أيضاً، كما حدث في القضية السابقة، فقد وقف حزب الأحرار الدستوريين وصحافته ورموزه الفكرية، إلى جانب المؤلف وحريته في البحث والتفكير والتعبير.
أما حزب الوفد فقد وقف رسمياً ضد الأفكار الواردة في الكتاب، ورفض المسّ بمعتقدات المصريين ومقدساتهم تحت أية حجة أو ذريعة، واحتفت صحافة الوفد بمحاكمة طه حسين ومصادرة كتابه وإخراجه من الجامعة(123)، واتهمت المدافعين عن الكاتب والكتاب بالإلحاد(124).
دافع د. طه حسين عن الرؤية الفكرية التي وقفت خلف الكتابين، "الإسلام وأصول الحكم" و"في الشعر الجاهلي" وأبدى إصراراً على مساندة تلك الرؤية، وعدم التراجع عنها، وجعل ما أثير حول الكتابين مظهراً من مظاهر الصراع بين الدين والعلم، مؤكداً انتفاء الأمل في تفاهمهما، ومؤمِّلاً في أن ينصرف كل منهما إلى ميدانه الخاص به تاركاً المماحكة بالآخر، ومؤملاً خروج "السياسة" من إطار الخصومة بين الدين والعلم، متهماً السياسة بسعيها إلى استغلال هذا الصراع، وتوجيهه لخدمة غاياتها.
وقدّم طه حسين مرافعة طويلة لإسناد ما ذهب إليه من أبدية الصراع بين الدين والعلم(125)، ودافع عن علمانية الدولة الحديثة، وأنها دولة وطنية لا شأن لها بالدين، وهذا ما يجب أن تحرص عليه الدولة المصرية لتكون "حديثة"، ومن هنا فهو يعترض على ما نص عليه الدستور المصري 1923م، من أن الإسلام دين الدولة الرسمي، واعتبره نصاً غير ضروري، وغير ذي فائدة أو غرض، وأنه أصبح "مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم ترَ فيه على نفسها مضاضة أو خطراً، وإنما نقول أنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد، ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه" !! وهو يقصد الخلاف بين فريقين "أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين"(126).
وفي هذا السياق نادى بضرورة تحجيم دور الأزهر في الحياة السياسية، والنظر إليه كمعهد من معاهد التعليم، لا أكثر ولا أقل.. (127)
ويجتهد الليبراليون في ترسيخ النهج العلماني، ومحاربة "التفكير الديني" -بزعمهم- واتهام الفكر الإسلامي بأنه فكر غيبي لا يصلح لهذه الحياة !!
فهذا إسماعيل مظهر، يرى بأن الإنجاز الأهم في سبيل تحقيق التقدم هو "نقض العقلية الغيبية"، ويسميها أيضاً "العقلية الشرقية"، فهي سبب التخلف، ذلك أنها "لا تلائم مزاج هذه الحياة"، كما أنها "لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا"، وهي "تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل مطالب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي بها الغد، وإغفال محض لمواعظ الماضي وعظاته"(128).
ولم يفتأ ينادي بالمصريين أن يتخلصوا من "الأسلوب الغيبي" في التفكير، وأن ينتقلوا إلى "الأسلوب اليقيني"، بل إن مصر –برأيه- خطت في سبيل الخروج من ظلمات الأسلوب الغيبي إلى وضح الأسلوب اليقيني، وهذه الخطوة "سوف تقودنا سعياً إلى ميدان يتصادم فيها الأسلوبان تصادماً يثير في جو الفكر عجاجة ينكشف غبارها عن الأسلوب الغيبي وقد تحطّمت جوانبه واندكت قوائمه، وتترك الأسلوب اليقيني قائماً بهامة الجبار القوي الأصلاب مشرقاً على الشرق، وقد هبّ من رقاد القرون ليسير في الدرب الذي مهدت سبله للأنام نواميس النشوء والارتقاء"(129).
ووقف إسماعيل مظهر حياته للترويج للنظرية التطور الدارونية، منذ أن أصدر كتابه "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء" كما سخّر مجلة "العصور"، للدعوة للفكر الإلحادي، وتقديمه للقارئ في إطار الدافع عن حرية الفكر والعقيدة وحرية الرأي والتعبير.
وحدد إسماعيل مظهر وجهة "العصور" في افتتاحية العدد الأول، بأنها مكرّسة للدفاع عن الفكر الحر، متحررة من جميع الآراء والنظريات المسبقة، التي طالما قيّدت الكتّاب ومنعتهم عن قول الحقيقة بحرية، وأن هدفها النهائي التنديد بأنماط الفكر الدينية والتقليدية(130).
ويؤكد د. طه حسين على ضرورة اقتباس "العقلية" ويعني بها طريقة التفكير عند الغرب(131)، والإعلاء من شأن العقل وسلطته، في مواجهة أية سلطة أخرى، والنظر إلى كل الأمور نظرة عقلية.
وقد أكد د. هيكل على هذا المضمون بتأكيده أن "العقل والعلم"، هما السبيل لتحقيق السعادة التي تنشدها الإنسانية عموماً، ولذلك فإن كل الشؤون الروحية والأخلاقية والاجتماعية يجب أن تخضع لسلطة العقل والعلم، واعتبارها المرجعية الحاكمة لكل تصرفاتنا(132)، مبعداً أي دور للدين في صياغة هذه المرجعية.(6/187)
ويتفق محمد زكي عبدالقادر مع هذه الدعوة، فينبّه إلى "أن نهضتنا ينقصها الروح العلمي، وما دامت كذلك فهي نهضة عرجاء فقدت الجانب المنتج، وبقيت لها المظاهر التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً"، ويشير إلى أوروبا –رمز الإلهام- واحترامها للعلم والعلماء، إذ نجد أن "الروح العلمي متغلغلاً عميقاً لا بين طبقة معينة أو في بيئة خاصة، ولكن بين جميع الطبقات، وفي كل البيئات" وهذا –عنده- يقف وراء "نهضة حقّة تقوم على دعائم ثابتة"(133).
أما إسماعيل مظهر داعية نظرية التطور؛ فإنه يدعو إلى جعل العلم أساساً للنهضة، لأن "العلم حر مطلق من القيود، لا يؤمن إلا بعد شك، فإذا آمن كان إيمانه راسخاً وطيداً، هذا خلق العلم، وهذا هو الخلق الذي يغرسه الإيمان الثابت بكل ما ينزل من العقل منزلة الاحترام والتقديس".
كما أنه مؤمن بأن "من شأن العلم أن ينظم العقل وينظم الشهوات وينظم المطامع. ذلك بأن العلم يقوم على حقيقة أساسية هي تنظيم الصلات القائمة بين الحقائق تنظيماً يحدد لكل حقيقة منها موضعها الخاص الذي تشغله في نظام الأشياء" وهو يتخذ من شعار "العلم" سبيلاً للدعوة لاتخاذ نظرية التطور منهجاً للإصلاح الاجتماعي، إذ يقول "على أن الشرق إن أراد أن يخطو إلى الأمام خطوات واسعة إلى الأمام في سبيل الارتقاء الحقيقي وأن يضرب في معارج التطور الثابت نحو حالات أسعد وأفضل، فإن من واجبه أن يجعل السياسة تابعة للعلم الاجتماعي، القائم على حقائق العلم الطبيعي" وتوضيح ذلك، قوله: "فلا بد إذن من أن نربط بين السياسة وبين العلم، وأن نحكم الصلة بين السياسة وبين منهج اجتماعي نتخذه إماماً تأتمّ به السياسة في الإصلاح المدني" ولمزيد من التوضيح "فإن الجماعات الإنسانية باعتبارها كائنات حية من ناحية، وباعتبارها كائنات ذات نظام اجتماعي من ناحية أخرى، قد تصدق عليها حقائق علوم الأحياء مطبقة عليها تطبيقاً خاصاً، كما تصدق على بقية الأحياء الأخرى.
ولا أخال أن مفكراً متزن التقدير يُنكر أن اتخاذ أسباب العلم وسيلة للإصلاح الاجتماعي، هو السبيل التي تؤدي بأمم الشرق إلى وضع قواعد ثابتة تنتحيها في التدرج نحو مثلها العليا.
والمحصل أن الإصلاح الاجتماعي في أمم الشرق، ينبغي أن يُعهد به إلى علماء اتصلوا بعلوم الأحياء وعلوم الاجتماع"(134).
لكن د.هيكل وضمن سياق المراجعات الفكرية الذي اختطه لنفسه منذ نهاية العشرينيات، يعود إلى الاعتذار عن الأسلوب الإقصائي الذي انتهجه حيال دور الدين في صياغة المجتمع المنشود، إذ يصرح "أشعر اليوم بأن ما تخيَّلته في زمن من الأزمان عن العلم التجريبي واقتداره المطلق على حل كل ألغاز الكون، والحلول بذلك في نفس الجماعات، محل الإيمان ، ليس يبلغ من نفسي إلى مكان العقيدة واليقين، بمقدار ما كان يبلغ في صدر شبابي "لذلك فهو يدعو إلى إعادة الاعتبار إلى الإيمان، وإلى "الجانب الروحي" في تكوين الفرد والجماعة، ويطالب بوجوب "أن نبحث الإيمان على أنه واقعة اجتماعية لا حياة للجماعات بدونها"، فالمطلوب إذاً هو التوفيق بين "العقل والروح"، لكن ما هو دور الروح في هذه التوفيقية؟ دور الدين هو تحقيق الراحة النفسية للإنسان من أعباء الحياة وهمومها ليس أكثر، "لابد إذاً من مَثَل أعلى تؤمن به الجماعة وتجد من تطلعها إليه وهيامها به ما يُنسيها ما في الحياة من هم وبأساء"(135).
وهذا ما عبّر عنه في وقت لاحق أحمد أمين، وهو يكشف "أكاذيب المدنية الحديثة"، مؤكداً أن أخطرها كان الفصل بين "الجانب المادي، و"الجانب الروحي" ولذلك لابد من إقامة التوازن بينهما(136).
وتحدّث د. هيكل عن ما يُعانيه الغرب من أزمة روحية، وقلق نفسي، جراء شيوع المادية وثقافة الإلحاد، وتعاطف مع مشكلة الفراغ الروحي لدى الغرب، وتمنى لها نهاية سريعة، ولعل الشرق بميراثه الروحي العظيم يُسهم في ذلك(137).
3-الدعوة إلى التغريب:
آمن الليبراليون المصريون بضرورة أتباع نهج الحداثة الغربية، كسبيل لصنع التقدم، وتحقيق النهضة المنشودة، وقد أجمع هؤلاء على اعتبار النموذج الغربي نموذجاً جديراً بالمحاكاة(138).
والحقيقة أن الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، تقبّل فكرة "أوروبا النموذج"، واعتبر الغرب مصدر الخطر ومصدر الإلهام معاً، يثير الإعجاب كما يثير الغضب، ويثير الكره كما يثير الحب(139).
فالإجماع منعقد على ضرورة الإفادة من تجربة الغرب الحضارية، وأن ليس هناك ما يمنع من الاقتباس عنها، فعلومها هي في الأصل علوم إسلامية(140)، وهي بضاعتنا رُدّت إلينا، فالغرب أفاد من حضارتنا، ولا ضير من أن نفيد من حضارته، وحضارته لا تخصه وحده، بل هي جزء من الإرث البشري أو أحد نتاجاته(141).
عبّر طه حسين في فترة مبكرة عن إيمانه بضرورة الاقتباس عن أوروبا بحكم الضرورة والحاجة للمنافع المتحققة عن ذلك. ولكن هذا الاقتباس، يجب أن يتفاوت قلّة وكثرة، يُحبّذه في النظم السياسية الدستورية، وفي المنهج العلمي الغربي، لكنه لا يحبذه "في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء، وألا نقتبس من أدب الغرب وفنه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكّن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور، وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال"(142)، لكن طه حسين سوف يتخلى عن هذا الموقف المعتدل.
إذ إنه ينادي –بما نادى به الخديوي إسماعيل- بجعل مصر جزءاً من أوروبا، وتبرير الدعوة إلى التغريب هو "الاضطرار" لننال إكبار الأمم لنا !!
ولنظفر باستقلالنا عن انجلترا وفرنسا، وشرط ذلك أن نعيش عيشتهما ليطمئنا إلى ما نطلب من استقلال، ونحن مضطرون لذلك للتخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش عيشة الأجانب ليطمئنوا إلى إلغاء الامتيازات ! ونحن مضطرون لاتخاذ أسباب الحياة الحديثة أيضاً(143).
وقد تبنى د. منصور فهمي الدفاع عن "مشخِّصات الشرق" ويقصد بها عناصر هويته، وقيمه وعاداته وتقاليده، وينادي بالصمود في مواجهة الاجتياح الثقافي الغربي، ويحذر "الشرقيين" من أن يطغى سيل الغرب "على ما لهم من بعض مشخصات، لا تعطل في شيء سير الترقي والتقدم"(144).
وينادي د. منصور فهمي بضرورة الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية، وهو لا يتفق مع نزعة أولئك "الذين يريدون أن تكون الإنسانية كتلة متشابهة في أساليبها وتفكيراتها وعواطفها"(145).
وهذا تحذير مبكر من مخاطر "العولمة الثقافية، التي تستهدف سحق كل الخصوصيات الثقافية للشعوب لصالح سيادة الثقافة الغربية.
ويوضح مصطفى عبدالرازق رؤيته لمفهوم الاقتباس وغاياته، معلناً أن دعوته للاقتباس لا تستهدف جعل مصر قطعة من أوروبا، بل أن تظل مصر قطعة من إفريقية، متصلة بآسيا على أن تزاحم الغرب بالمناكب، في كل ما وصل إليه الغرب من علم ومدنية ورقي، ويريد من مصر "أن تقتبس أصول المدنية الغربية وتتشربها تشرباً، لا أن تلبسها ثوباً معاراً"، وأن تحافظ على "جوهر مشخصاتها"، وهي عنده اللغة والدين شريطة "أن يخضعا لسنة الله، في هذا العالم، وسنة الله في هذا العالم أن يتحرك كل شيء وأن يتطور"(146)!!
ويرفض د. منصور فهمي اقتباس "مظاهر المدنية التي ليست وليدة العقل والعلم"(147)، ويؤكد على رفض ما ينادي به التغريبيون باتخاذ "الغرب إماماً يأتمون به في كل أمر، ويصطنعوا كل مظاهر حضارته من غير تحفظ"(148).(6/188)
ود. منصور فهمي يعالج مسألة في غاية الأهمية، عندما يرفض الانغلاق، وينادي بالاقتباس الواعي، وفي نفس الوقت يرفض اتخاذ "الغرب إماماً"، وملخص موقفه هو التأكيد على أهمية معرفة ماذا نأخذ؟ وماذا ندع؟ من حضارة الغرب، لكنه يشكك في مقدرتنا على الاختيار في عملية التفاعل الحضاري، فهي –عنده- عملية معقدة، تخضع لمحدودية الإرادة البشرية، وتحتكم لأثر البيئة وعدد من العوامل النفسية والاجتماعية، فهي ذات "أثر لا يُقاوم في تكييف الحضارات واصطناعها وفي تصوير الثقافات"، ولذلك كله "لا قدرة لشعب أن يكون كشعب آخر في كل حضارته، وكل ثقافته"(149).
لكن الساحة الليبرالية عرفت أصواتاً متطرفة، تدعو إلى رفض الانتقاء في عملية التواصل الحضاري مع الغرب، بل وإلى رفض فكرة التوفيق بين ما لدينا وما عندهم، فهذا محمود عزمي يقول: "أنا من الذين ينادون بملء فيهم بضرورة الأخذ من المدنية العصرية، وهي الحضارة الغالبة وبأن الخير كل الخير في شخوص الكتلة الشرقية المتكلمة لغة عربية(150)، إلى شواطئ البحر المتوسط الشمالية الغربية، وبأن كل نظرة إلى رمال التيه والبادية إنما تكون نكوصاً على الأعقاب في ميدان الجهاد، الذي يسير فيه العالم سيراً هائل السرعة إلى الأمام"(151) !!
هذه الدعوة إلى القطيعة مع الذات، والفناء في الآخر، يتبناها "عميد الأدب العربي ! " في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1937م، فقد حدد هوية مصر الثقافية على أنها جزء من ثقافة البحر المتوسط، وأنها جزء من "الغرب الثقافي"، وليست من "الشرق الثقافي"(152)، وأن العقل المصري جزء من أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم(153).
والخلاصة –عنده- "إنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها"(154).
وهذا "التغريب" يجري تسويقه من قبل د. طه حسين، بالقول أنه وسيلة وليس غاية، وسيلة للنهوض ولتحقيق الحرية والاستقلال، باتباع الوسائل التي أوصلت الغربيين لتحقيق الاستقلال والكرامة(155)، كما يجري تسويقه بتلميع حضارة الغرب، والتأكيد على تفوقها "ودليل ذلك أنها ترتقي"(156)، كما يسعى إلى بث الطمأنينة في النفوس المتخوفة من مخاطر الاغتراب الثقافي والاقتلاع من الجذور، فيشير إلى "التجربة اليابانية". وعليه فلا خوف على "الشخصية المصرية" إذ لم يكن على الشخصية اليابانية خطر من الحضارة الحديثة"(157).
إذاً ما هو المطلوب؟ المطلوب "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرّها، وما يحب منها وما يكره وما يُحمد وما يُعاب"(158) فالمطلوب هو التبعية على أساس الندّية!!، لكنه لا يوضح لنا كيف تكون التبعية طريقاً للندية؟ أو كيف تؤسس الندية على ركام التبعية؟ مع أنه يقول صراحة: "نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً"(159).
وكان قد جرى "تسويق" التغريب، بأنه يعفينا من الصدام الحضاري مع الغرب، يقول أحدهم على صفحات "المقتطف"؛ "نحن من الذين يعتقدون أن الحضارة الغربية خير الحضارات التي يتعين علينا اقتباسها، كما أننا من الذين ينظرون إلى الأمر الواقع فيرون أنها هي الحضارة السائدة في العالم، ونحن من الذين يعتقدون أن طريق نجاتنا في مسالمة هذه الحضارة وتكييف حضارتنا عليها تكييفاً لا يناقضها بل يماشيها.. ذلك أن التاريخ يقص علينا قصص اصطدام الشرق بالغرب منذ العصور الأولى حتى الساعة ، فما قص إلا حديث اصطدام كانت نهايته انهزام الشرق أمام الغرب، فالعاقل من اعتبر وعرف أن يتلمس طريقاً غير طريق جربه فقاده إلى مواطن الخطر"(160)!! وبعيداً عن سعيه للتبرير التاريخي للتغريب، فإن الدعوة إلى تجنب الصدام الحضاري هي دعوة ليست إلى الحوار الحضاري الذي لا يرفضه عاقل، لكنها دعوة إلى حوار التبعية وليس الندّية.
وفي عقد الثلاثينيات ظهرت في مصر موجة من المراجعات الفكرية في صفوف التيار الليبرالي، طالت عدداً من أبرز رموزه، كان من مظاهرها توجيه نقد لاذع لحضارة الغرب ولحركة التغريب.
وفي طليعة "المراجعين" هؤلاء كان د. هيكل، الذي عبّر عن قناعته بأن الغرب غير مخلص لقضية "الحرية"، وأن قضيته هي "الاستعمار"، ويشير إلى سياسات التعليم التي اتبعتها بريطانيا في مصر كمؤشر على حقيقة نوايا الغرب، فلم تهدف إلى شيء سوى تخريج مواطنين مطواعين، كما أنها وقفت حائلاً دون سرعة انتشار العلم الصحيح.
ويشير إلى أن أوروبا لم تتخلّص من التعصّب الديني ؛ فهي ما زالت تذكر الحروب الصليبية، وهي تحمي الجماعات التبشيرية، كما يعجب لتعزز الروح الصليبية في الغرب، "وأن الأمر لم يقف عند الكنيسة بل تعداها إلى كتّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا.. في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق"(161).
ويعيب د. هيكل على الغرب ماديّته، كما يعيب على الشرقيين تقليده في هذه المادية(162)، وقد عبّر العقاد، ود. منصور فهمي عن قناعات مماثلة(163).
- وقد شارك توفيق الحكيم في التعبير عن خيبة أمل مثيلة، بفشل التغريب في مصر، ففي روايته "يوميات نائب في الأرياف" الصادرة عام 1937م، تعبير عن ضرورة إعادة النظر في جدوى التغريب، ومدى صلاحيته لتحضير الجماهير الريفية في قرى مصر، وتساؤل عن مدى صلاحية "تشريع بونابرت" للتطبيق في أرياف مصر، فهو يقف موقف النقد العنيف.. وربما السخرية من هذه القوانين، التي يسعى الآخرون لتطبيقها في مصر ؛ حيث يسكن في القاهرة طبقة (علمانية) ومثالية تحاول الأخذ بحضارة الغرب بينما يسكن في مصر الريف طبقات "واقعية" وفلاحين تحاول الارتباط أكثر بالتراث(164)، لكن "البوح" أو "الاعترافات" التي قدمها د. هيكل في عام 1936م. تختصر الكثير من الكلام في تصوير درجة خيبة الأمل التي جناها دعاة التغريب، إذ يقول:
"وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جميعاً هدىً ونبراساً، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلاً لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن، وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذراً لنهضة جديدة، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويُثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو"(165).
والدكتور هيكل ضمن سلسلة اعتذاراته الروحية والفكرية، كان قد حلل ظاهرة عزوف الشباب المسلم المتعلم عن الدين، فيعيد السبب إلى ظاهرة الطعن فيمن يسميهم المصلحين والعلماء المسلمين الذين حاولوا النهوض بالأمة!! والرد على مزاعم الغرب وتخرصاته ضد الإسلام، فكان مصير أولئك العلماء وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده أن "اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام !!(6/189)
ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين، شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود، لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرعون كتب الغرب يتلمّسون فيها الحقيقة، اقتناعاً منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصاً منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالاً يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية"(166).
قضية المرأة:
انشغل الفكر الليبرالي في مصر بقضية المرأة، كأحد المحاور الرئيسية في مشروعه من أجل التنوير والنهضة والتقدم، والمرجعية الفكرية هي الثقافة الأوروبية، أما النموذج فهي المرأة الأوروبية. وهناك محاولة للإفادة من جهود السابقين والبناء عليها(167)، خاصة جهود قاسم أمين(168).
لقد أبدى الليبراليون طوال فترة الدراسة احتراماً وإجلالاً لجهود قاسم أمين، ليس كمدافع عن المرأة فقط، بل كمصلح اجتماعي وقف حياته للدفاع عن "حرية الفكر ، وحرية المرأة !! " بإسهامه في تأسيس الجماعة 1908م، وفي دفاعه عن قضية المرأة(169).
وتابع الليبراليون السير على خطى قاسم أمين في موقفهم من قضية المرأة، وساهمت الصحافة الليبرالية في دعم قضية المرأة(170)، وفي دعم الحركة النسائية، وفي تثقيف المرأة بما ينبغي أن تطالب به من حقوق، وبما ينبغي أن تفعله لتحصيل هذه الحقوق، وفقاً للمرجعية الأوروبية، واقتفاء لنموذج المرأة الأوروبية(171).
واهتمت الصحافة بنشر المقالات والصور التي تخدم فكرة وجوب تقليد المرأة المصرية للمرأة الغربية في السلوك، والعادات، والأزياء، ومسابقات الجمال، والرياضة النسائية، وتولّت الصحافة النسائية جانباً هاماً من هذا الجهد.
وبرزت الحركة النسائية، وتعاظم دورها في المطالبة بحقوق المرأة المصرية، ووضعت قضية المرأة المصرية في إطار قضية المرأة في العالم، وحاولت الحركة النسائية المصرية أن تصبح جزءاً من الحركة النسائية العالمية، وتتبنى المفاهيم والمعايير الأوروبية في معالجة قضايا المرأة، وإن كان هذا التبني يجري بأسلوب تدريجي بطيء(172).
وبرزت في هذا المجال أسماء نسائية شهيرة مثل، ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وصفية زغلول، وهدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ومنيرة ثابت، وميّ زيادة، ونبوية موسى، ولبيبة أحمد (انضمت فيما بعد لجماعة الإخوان المسلمين) (173).
ويحرص الليبراليون في هذه المرحلة على مراقبة الحركة النسائية في تركيا، ومتابعة التجربة التركية في هذا الميدان إعجاباً وتقديراً وتطلعاً للتقليد(174).
1-الدعوة إلى "السفور" ومقاومة "الحجاب":
شغلت الدعوة إلى السفور وخلّع الحجاب، الجزء الأكبر من اهتمام التيار الليبرالي بقضية المرأة، منذ كتب الطهطاوي بكثير من التسامح عن السفور والاختلاط، الذي تتمتع به المرأة الباريسية، وباعتبار السفور والاختلاط ليس نقيضاً لعفة النساء(175).
- وقد أبرز علي مبارك في روايته "علم الدين" هذه المسألة بأسلوب حواري بين المستشرق المدافع عن السفور وبين الشيخ الأزهري المدافع عن الحجاب، ويرى د. محمد عمارة "أن صورة المرأة الأوروبية المتحررة كما عرضها، كانت مشرقة، بقدر ما كانت "حجج" الشيخ علم الدين باعثة على النفور!" (176).
- وتابعه قاسم أمين في اعتبار التربية وليس الحجاب هي التي يُعوّل عليها في الأخلاق والعفة، إذ أن "العفَّة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم"(177)، ومع ذلك فهو لم يتجاوز – مؤقتًا - المطالبة بكشف الوجه واليدين(178)، مع إبطال ارتداء النساء النقاب أو البرقع !
وقد أطنب في تعداد مساوئ "الحجاب" ، وشرح أضراره(179)، مؤكداً أنه لا يمنع الفساد(180)، وأنه من بقايا "هيئتنا الاجتماعية الماضية"، ولأنه ضار فلا يمكن أن يكون شرعياً(181)، كما عده منافياً للحرية الإنسانية، لأنه يعيق المرأة عن ممارسة حقوقها(182)، ونادى بالاختلاط دون خلوة(183).
هذه هي القاعدة التي تأسس عليها الخطاب الليبرالي في مسألة السفور والحجاب، ووقف عندها إلى حين(184).
وظل "الخطاب السفوري" –إن جاز التعبير- يتطور بشكل تدريجي لجهة التغريب، وتبني المعايير الأوروبية في هذا الميدان. لقد قدّم "عبدالحميد حمدي" رئيس تحرير مجلة "السفور"، رؤية جماعة السفور، أو أيديولوجيا السفور بحسب ما تفهمه فئة هامة في التيار الليبرالي، ولم يخرج فيها عن الحديث عن احترام أحكام الدين !! وأن المطلوب إنما هو الانتفاع "بأحكام الدين الخالصة في تحرير المرأة من ربقة العادات الفاسدة" !!
إذاً المطلوب هو إعادة نظر وإعادة تفسير وصولاً إلى فهم جديد لأحكام الدين، كما يُقدّم رؤيته لمفهوم "السفور" اجتماعياً، فهو يعني "ظهور المرأة في مكانتها اللائقة في الحياة باعتبارها مخلوقة لها حقوق طبيعية يجب أن تحصل عليها ولها وظيفة كبيرة يجب أن تؤديها"(185).
ويجري التركيز في "الخطاب السفوري" على إبراز مثالب الحجاب، وفضائل السفور، ودعوة النساء للثورة على الحجاب ، فهو يولد سوء الظن بين الرجل والمرأة(186)، وهو يجني على الأدب والفن، لأن الشاعر والفنان "لا يجد الكائن الجميل الذي يصوّره، أو هو لا يشعر به في الناحية الاجتماعية"(187)، وهناك دعوة يوجهها علي عبدالرازق إلى المبادرة العملية، ومن خلال الممارسة للتخلص من الحجاب، "فلقد علّمتنا التجربة في مصر أن السفور كبعض مسائل الحياة الأخرى، إنما يكون حلّه عن طريق العمل لا من طريق البحث والجدل"، فهو يدعو إلى العمل وعدم الاكتفاء بالجدل، "إننا قد أصبحنا نعتقد أن من الواجب علينا أن نحول بين الجدل وخصوصاً الديني، وبين شؤون الحياة الاجتماعية العملية، بقدر ما يجب أن نحول بين حركة النهوض في الشرق، وبين كل ما يعوق ذلك النهوض"، وهو يعتقد بأن مصر اجتازت طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، لكن المشكلة –في نظره- التي تواجه المصريين اليوم "إنما هي الوسيلة التي يتدرجون بها إلى السفور الفعلي، تدرجاً لا يكون فيه منافرة بين ذوق الحجاب القديم، وذوق السفور الجديد"(188) !!
وإذا كان "الخطاب السفوري" يقدم صورة منفّرة للحجاب ولوضع المرأة "المحجبة"؛ فإنه أفرد صفحات واسعة من الصحافة الليبرالية، لتعريف المرأة المصرية بأنماط جديدة من السفور التغريبي، في الأزياء، والسلوك ، والعادات(189).
وفي هذه البيئة الفكرية تنامت الدعوة إلى تحطيم كل الحواجز والحجب أمام الاندماج الكامل للمرأة في الحياة الاجتماعية، لكننا لا نعدم أصواتاً تنادي برأي أخف في هذه المسألة(190).
وهناك من ينادي بضرورة الاستفادة من تجربة الاختلاط في الغرب، ويزعم أنها لم تهدد الأخلاق العامة، بل إنها زادت في متانة أخلاق الشباب، وقلّلت من النظر إلى المرأة بوصفها جسداً !! ومن باب "موضوعة الجنس" فقط، بل إن الفصل بين الجنسين هو ادعى إلى إثارة الشهوات، وفيه الكثير من سوء الظن بأخلاق المرأة والرجل(191) !!(6/190)
ويخرج د. محمود عزمي على الناس ليعلن أن "الاختلاط الصريح" بين الجنسين له من الأهمية ما لتحقيق "التعادل الفكري" بين الرجال والنساء من أهمية، لذلك فإنه لا إمكانية "لإصلاح صحيح للجماعة الشرقية إلا إذا توافر فيها هذان العاملان توافراً شاملاً جريئاً"(192)!!
لقد أصبح "السفور" مجرد وسيلة للوصول إلى نشوء المجتمع المختلط "الذي يُقرّب مسافة الخلف بين الجنسين، ويُقيم علاقات بين الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري والعاطفي"، لذلك يأسف البعض على "أننا لم نخطُ بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا"(193).
من الواضح أن الخطاب الليبرالي في هذه المسألة قد تابع قاسم أمين في أفكاره، فضمّ أصواتاً "توفيقية"، لكنه بدأ يعرف أصواتاً تنادي بالاختلاط الصريح والكامل.
ويظهر أن البعض بدأ يعوّل على "الموقف" العملي وليس مجرد "التنظير" الفكري للمسألة، والمناخ العام أصبح في صالح السلوك السفوري، واستمر الهجوم على الحجاب والحجب، كما جرى الربط بين السفور، والتقدم، واعتبار الحجاب سلوكاً متخلفاً يتنافى مع التقدم والمدينة، ويعطّل قدرات المرأة، وفي موازاة ذلك هناك جهود إعلامية كبيرة لإشاعة ثقافة السفور على الطريقة الغربية الخالصة.
2-الدعوة إلى التعليم والعمل والحقوق السياسية للمرأة:
لم تكن مسألة حق المرأة في التعليم موطن جدل كبير في الفكر العربي الحديث، فقد كان هناك شبه إجماع على حقها في التعليم من حيث المبدأ، أما الخلاف الذي ظهر فهو حول المستوى والنوعية، وجاء هذا الاختلاف مرتبطاً بطبيعة الموقف من مشاركة المرأة في الحياة العامة، ودرجات هذه المشاركة ونوعيتها.
لقد دافع الطهطاوي عن حقها في التعليم، وخصص كتاباً للدعوة لتعليم البنات والبنين(194)، وتابعه علي مبارك "أبو التعليم" في مصر، بالتأكيد على إيمانه بقدرات المرأة العقلية والفكرية، هذا من الناحية الفكرية المجردة.
أما من الناحية العملية فقد عبّر عن هذه الرؤية من خلال الممارسة عندما تولى نظارة المعارف(195).
أما قاسم أمين فقد تدّرج في موقفه من مسألة تعليم المرأة، ففي "تحرير المرأة" طالب بحقها في الحصول على "التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم"(196)، مؤكداً على أنه ليس ممن يطلبون "المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل"(197)، إذاً هو يكتفي الآن بالتعليم الابتدائي، لذلك نجده يطوّر موقفه هذا في كتابه "المرأة الجديدة" ليطالب بالمساواة التامة في التعليم، فيقول: "لا نجد من الصواب أن تنقص تربية المراة عن تربية الرجل" سواءً التربية الجسمية أو الأدبية أو العقلية(198)، بل وينادي بمنحها الحق في التعليم المستمر عبر الانخراط في الحياة العامة(199).
لقد بلغ قاسم أمين الذروة في مطالبه، فلم يدع لمن يأتون بعده شيئاً يطالبون به في مستوى التعليم المنشود للمرأة، فبقي التيار الليبرالي يؤكد على فكرة المساواة التامة في التعليم بين المرأة والرجل، وراح يمارس تأكيد هذه الرؤية عبر الفكر والممارسة.
ومن المعلوم درجة ما تمتع به الليبراليون من قدرة على صنع القرار، وتنفيذه عبر وجودهم القوي في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وقد عوّل الليبراليون كثيراً على التربية والتعليم كوسيلة للنهوض بالمرأة، فهذا صوت نسائي عبر مجلة "السفور" يؤكد أن "التعويل ينصب على التربية والتعليم أولاً، إذ هي الوسيلة الفعّالة للنهوض بالمرأة وتصحيح أحوالها"(200)، والحركة النسائية المصرية أكّدت عبر مسيرتها على مطلب التعليم، فبرنامج الاتحاد النسائي يطالب بـ"مساواة الجنسين في التعليم"، ويطالب بـ"فتح أبواب التعليم العالي للفتيات، والإكثار من المدارس الثانوية للبنات"(201).
لكن التيار الليبرالي وفقاً لمرجعيته الفكرية، ورؤيته لدور المرأة في المجتمع، تبنى الدعوة للتعليم المختلط، واجتهد رموزه في الترويج له، وإبراز فضائله وإيجابياته.
والأصوات الليبرالية المعتدلة، تنأى بنفسها عن حملة الترويج للاختلاط الكامل في جميع مراحل التعليم، وفي مقدمة هؤلاء يبرز د. منصور فهمي، الذي يخلص إلى تأييد وجهة النظر القائلة بتخصيص بعض أنواع التعليم للإناث، وبعضها الآخر للذكور، بما يتوافق مع طبيعة كل جنس واحتياجاته، ورفض ما كان يروّج له البعض من أن الاختلاط يضعف الميول الجنسية لدى الجنسين، فيقول: "إن ضرر الإفراط في عزل الجنسين لا يبرر الإفراط في نقيضه من المبالغة في جمع الجنسين في جميع أدوار التعليم، وكما أن الإفراط في العزل والتضييق في وسائل الخُلطة قد يترتب عنهما انحراف، فقد يترتب كذلك أسلوب من الانحراف عند الغلو في توفير الخُلطة"، ومن هنا فهو لا يمانع في أن يكون التعليم الأولي مختلطاً، لكنه يعارض الاختلاط في التعليم الابتدائي العالي والثانوي، ويبرر ذلك بطبيعة المرحلة العمرية، وما ينجم عن الاختلاط بين الجنسين خلالها من أضرار خُلُقية ونفسية وعلمية، وهو لا يمانع في الاختلاط في التعليم العالي في المعاهد والجامعات معتمداً على مشاهداته في أوروبا وفي مصر، إذ أن "الطالب أو الطالبة في دور العلم العالية يقدرون ما يترتب على كل عمل من أعمالهم من التبعات الخلقية ويعلمون طريق الخير وطريق الشر، ويفهمون معنى الفضيلة، ومعنى الرذيلة، ولهم من حُسن تربيتهم فيما مضى، ومن سلطانهم على أنفسهم، وحسن أخلاقهم، ما يُزيل أي سوء للخلطة ويجرّ إلى خيرها"(202) !!
لكن التيار الليبرالي ظل مؤمناً بأهمية الاختلاط ومحاسنه(203)، وتبنى بعض المحسوبين عليه، الدعوة إلى المفاهيم الغربية في ميدان التربية والتعليم تبنياً كاملاً غير منقوص، فهذا د. أمير بُقْطر(204) يدافع عن الاختلاط الكامل وفي جميع المراحل الدراسية، ويهوّن من المخاطر المفترضة، ويتمنى أن تسير مصر في هذا، كما سارت أوروبا "إننا في حركتنا الأخيرة، وما اقتبسناه من أساليب المدنية الغربية نقطع عين المراحل التي قطعها سوانا، واحدة واحدة، ونواجه عين العقبات، واحدة واحدة"(205)، ويطالب بالانفتاح على التجارب الحديثة في مجال التربية والتعليم في أوروبا وأمريكا، ويعرض نماذج من التعليم في الغرب، تؤكد على محاسن التعليم المختلط وثبوت انعدام مخاطره حتى في بعض الحالات التي طبق فيها الاختلاط حتى في الأقسام الداخلية، وفي غرف النوم من سن الثانية إلى سن الثامنة عشرة(206)!!
ولما كان التيار الليبرالي قد اعتنى بالحديث عن حق المرأة في التعليم، فإنه بتطور الحياة، وانتشار التعليم، وتزايد أعداد الخريجات، بدأ الحديث عن حق المرأة في العمل، يأخذ بعداً أوضح في الخطاب الليبرالي.
هذا ولم يكن الالتفات إلى حق المرأة في العمل وليد هذه المرحلة، بل كان الطهطاوي(207)، وقاسم أمين(208) وغيرهم كثير من المفكرين قد أشاروا لهذه المسألة، من باب إقرار مبدأ حقها في العمل خارج المنزل.
وإذا كان العقاد يؤكد على ضرورة إعفاء المرأة من العمل خارج المنزل، وأن هذا حق من حقوقها على المجتمع، لتتفرغ لمهمتها الأساسية، وهي تربية الجيل القادم، فإنه يستند في ذلك إلى أن الرجل أقدر من المرأة على تحمّل أعباء الحياة ومشاقها، فهو أقوى منها جسداً وعقلاً(209).(6/191)
والعقاد يعتقد بأن من الظلم للمرأة مساواتها التامة بالرجل، لأن ذلك يحملها ما لا طاقة لها به، وما لا ترجوه في قرارة نفسها، مؤكداً عدم رضاه عما ترفعه "الحركة النسائية" من شعارات المطالبة بالمساواة وحقوق الانتخاب، ويوضح موقفه بالقول: "نعم هذه هي الحقيقة التي أؤمن بها ولا يغرني فيها أن المراة اليوم أوفر علماً وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة تعبث بالحياء وتحطم قيود العرف والدين لما وجدت أنثى تجسر على النداء بالحرية ويطيب لها هذا النداء"(210).
ومسألة قدرات المرأة والمفاضلة بين الرجل والمرأة في القدرات العقلية والجسدية، أخذت حيزاً كبيراً من الجدل الذي دار بين مؤيدي عمل المرأة ومعارضيه(211)، ليفضِ ذلك إلى اختلاف في مواقف هذه الأطراف في تحديد العمل الملائم لطبيعة المرأة، ولعل د. منصور فهمي يوضّح جانباً من هذا الجدل "الطبيعة (!) وحدها هي أعدل حكم في الأمر، ولا تعبأ بقول أحد ولا تخضع لنزعات أحد، ولكنها تسير كل جنس بل وكل فرد في سبيله اللائق لوجوده على أحسن حال تضعه فيه قدرته في الكفاح الحيوي والحياة الاجتماعية"(212).
أما توفيق الحكيم فيرى "أن أكبر جناية يجنيها الرجل في مصر الآن على مصر وأبناء مصر هي الحدّ من حرية المرأة المصرية ، والعمل على وضعها في داخل قفص من حديد، بحجة تكريسها لحياة البيت وتربية الأولاد، إذاً ما من شيء ألزم لهذه المهمة السامية من الحرية نفسها، إذا أردنا أن لا تُنشئ المرأة جيلاً من العبيد الأذلاء مفقودي الهمة والشخصية"(213).
وفي سياق اهتمام الليبراليين بالدفاع عن حق المرأة في التعليم والعمل يأتي الحديث عن حقوقها السياسية، وعملها في المناصب السياسية، لكن الشعور العام لديهم كان بأن البيئة المصرية لم تصبح مواتية بما فيه الكفاية لجعلها مسألة محورية في الخطاب الليبرالي في قضية المرأة(214).
لقد تولت الصحافة الليبرالية مهمة الدفاع عن الحقوق السياسية للمرأة، والتثقيف في هذا المجال، ونشر الوعي حول هذه الحقوق، والإشادة بالتجارب العالمية في هذا المجال(215).
وعندما انشغلت مصر بصياغة الدستور الصادر عام 1923م، ظهرت أصوات القوى الليبرالية تطالب بمنح المرأة الحق في الانتخاب والترشيح أسوة بالرجل، لكن الدستور لم ينص على هذا الحق(216).
ومن هنا فقد أصبح من مهام الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي المطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب أسوة بالرجل(217).
وكتبت قيادات الحركة النسائية كثيراً في الصحافة للمطالبة بهذا الحق(218)، كما أن أكثر الأصوات ليبرالية بقي في دائرة المناداة بإشراكها جدياً في الشؤون الاجتماعية العامة، وإذا دعت الحال، في المسائل الاقتصادية والتشريعية والسياسية(219).
ومن الملاحظ أن مسألة الحقوق السياسية للمرأة لم تكن مسألة ملحة في هذه المرحلة، ولم تأخذ حيزاً كبيراً في الخطاب الليبرالي، إداركاً من الليبراليين وغيرهم بأن المرأة المصرية لم تتهيأ بعد لممارسة هذه الحقوق، في الوقت الذي ما زال فيه أكثر من 90% من النساء المصريات يعانين من مشكلة أمية الحرف.
3-الدعوة إلى مدنية الأحوال الشخصية:
وفقاً للمرجعية الفكرية التي يؤمن بها هذا التيار، ونزولاً عند منهجه في التقليد لكل ما هو غربي، فمن الطبيعي أن تصدر عنه أصوات منفصلة عن الواقع لتطالب بتطبيق النظام المدني في مسائل الأحوال الشخصية، كالزواج والطلاق والميراث، بمعنى العدول عن أحكام الشريعة في هذه المسائل إلى الالتزام بالقوانين الغربية، وتحرير شؤون الزواج من هيمنة الشرع ومحاكمه ورجاله.
وهذه الدعوة لم يعرفها الفكر المصري إلا في هذه المرحلة التي ندرسها، فلم يتحدث أي من مفكري القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، عن هذه الخطوة التغريبية المتطرفة(220).
كان د. محمود عزمي من أوائل الذين نادوا بفكرة الزواج المدني في مصر، وبما في ذلك منع التعدد، ومنع الطلاق، وإباحة زواج المسلمة بغير المسلم، وأن لا يكون الدين عائقاً أمام الرغبة في الزواج بين رجل وامرأة، ففي عام 1918م وخلال المداولات لتأسيس الحزب الديمقراطي المصري، طالب بتوحيد التشريعات المصرية، وبما يشمل قانون الأحوال الشخصية "بمعنى أن يكون للمصريين كلهم أحكام زواج وطلاق واحدة.. وبمعنى أنه إذا رغبت مسلمة ولتكن إحدى أخواتنا مثلاً أن تتزوج من قبطي.. فلا يكون هناك مانع ولا اعتراض"(221)!!
وحبّذت الصحافة الليبرالية فكرة "القانون المدني" المراعي للحرية التامة، الذي هو اتجاه الثقافة الحاضرة في أوروبا ونحو الحرية، ويذكر "محرر الهلال" مقولة يتبناها –في الدعوة إلى الإباحية المبطنة- لكاتبة أمريكية مشهورة "إلين كي" تقول: "إن الحب بلا زواج لا يخالف الآداب، ولكن الزواج بلا حب هو الذي يُخالف الآداب"(222).
وتبدي القوى الليبرالية إعجاباً بتطبيق تركيا لقانون الزواج المدني اعتباراً من الرابع من تشرين أول 1926م، وتنشر "السياسة" نصوص القانون المدني التركي، وتعلّق عليه مبدية إعجابها بما حققه من مساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وتعده انقلاباً كبيراً إذا أحسنت المرأة التركية الاستفادة من الحقوق التي تضمّنها لها(223)، وتحدث ليبراليون عن "ألشريعة الكمالية" التي حرّرت المرأة التركية(224)، بل إن "السياسة الأسبوعية" جعلت من تطبيق القانون المدني في الأحوال الشخصية معياراً للتمييز بين دول متقدمة وأخرى متخلفة، أو بين شرق وغرب(225)، واقترح بعضهم إعطاء المواطن حرية الاحتكام إلى القانون المدني للأحوال الشخصية أو الذهاب إلى المحاكم الدينية، وأن يُنزع أمر الزواج من قبضة رجال الدين على كل الأحوال(226).
وتكتب إحدى المجلات المعبّرة عن آراء التيار الليبرالي، منادية بالزواج المدني، وبأن يحتفظ كل من الزوجين بديانته، على أن يترك للأولاد اختيار الديانة التي تروق لكل منهم عند بلوغهم سن الرشد، "وعلى هذا تجمع بين الأولاد صلات الدم والوطنية والتربية المشتركة، ويعتبر الدين من المسائل الوجدانية البحتة التي تربط بين الإنسان والله سبحانه وتعالى"(227).
وهذا الجنوح الخيالي المفرط في الانفصال عن الواقع المصري يقود الكاتب الذي لا يجرؤ على ذكر اسمه، إلى القول بأنه "إذا كان في هذا الحل ما يخالف التقليد الإسلامي، فما هو بأول مخالفة احتملتها سماحة الإسلام ومرونته الاجتماعية، كما احتملتها أديان أخرى لا ترضى عن الزواج المختلط، وهي أهون ألف مرة من احتمال التصريح الرسمي بالمواخير والحانات والربا في بلاد إسلامية، والزواج المدني على كل حال قانون اجتماعي لا غنى عنه في أية أمة عصرية"(228)!!
وعندما كان العمل جارياً لإعداد قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1929م، طالب الاتحاد النسائي المصري في مذكرة مقدمة لرئيس الوزراء وزير الحقّانية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب بتاريخ الحادي والعشرين من تشرين ثاني 1926م بصون المرأة من الظلم الواقع عليها من تعدد الزوجات بدون مبرر، ومن الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري، وهكذا فالاتحاد لا يطالب بالمنع ولكن يرمي إلى مزيد من القيود في شؤون التعدد والطلاق(229).
وحشد التيار الليبرالي كل ما لديه من قوى للدفع باتجاه تضمين قانون الأحوال الشخصية الجديد ما يمنع تعدد الزوجات.(6/192)
وراحت الصحافة الليبرالية تخوض حرباً إعلامية لصنع رأي عام مؤيد لهذا المطلب، فهذه "السياسة الأسبوعية" تستعين بآراء اللورد كرومر، فتعود لنشر مقتطفات من كتابه "مصر الحديثة" للتدليل على عدم ملاءمة "التعدد" لروح العصر، ولتنفير المصريين منه، على اعتبار أن اللورد رأى بأن ما يحتاجه الرجل المصري من "احترام الذات" لن يتحقق إلا إذا "صار مثل الأوروبي متزوجاً من امرأة واحدة"(230)، وظل التيار الليبرالي يدعو إلى تقييد أو منع تعدد الزوجات(231).
وكما في مسألة "تعدد الزوجات" فإن الصوت الغالب في التيار الليبرالي ظل يتابع قاسم أمين في موقفه الداعي لحصر الطلاق بموافقة القاضي أو المأذون، ومنح المرأة الحق في تطليق نفسها(232)، فقد تبنى التيار الليبرالي هذه الرؤية، وجعلها الاتحاد النسائي المصري جزءاً من برنامجه الصادر عام 1923م(233).
وعبّرت الصحافة الليبرالية عن مساندتها لهذه الرؤية، وقدَّمت جريدة "كوكب الشرق" الوفدية جهداً واضحاً في هذا الإطار(234).
لكن التيار الليبرالي لم يخلُ من الأصوات المتطرفة أكثر التي عرفنا مناداتها بالقانون المدني للأحوال الشخصية، والتي طالبت بمنع الطلاق نهائياً(235).
وعلى صعيد متصل فإن التيار الليبرالي كان يسعى لمواجهة المشكلات المتعلقة بمسائل الزواج، وفقاً لمرجعيته الخاصة به، فعندما يواجه المجتمع المصري ما سُمي "أزمة الزواج" الناجمة عن إقبال الشباب المصري على الزواج من الأجنبيات، فإن الليبراليين يقدّمون الحل وفقاً لمرجعيتهم، وهو ضرورة إباحة الاختلاط ليحصل التعارف ثم الحب ثم الزواج بين المصري والمصرية، فالمشكل "إنما يرجع إلى عدم اختلاط الجنسين اختلاطاً يهيئ للطرفين منهما فرص التعارف، وفرصة التواد والحب"(236)!!
أما بخصوص مساواة المرأة مع الرجل في الميراث، فإن الحديث حولها كان يأتي في إطار مدنية الأحوال الشخصية، ولما تصدّى سلامة موسى –وهو من أبرز دعاة التغريب في مصر وأكثرهم تطرفاً- للمناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، سارعت بعض الأوساط الليبرالية للترحيب بهذه الدعوة، وكانت السياسة الأسبوعية أول صحيفة تروج لها(237).
لكن التيار الليبرالي لم يُجمع حول هذه الفكرة بل وجدت الفكرة من يقاومها ويقلل من شأنها(238).
فقد انتقد د. منصور فهمي ما لجأ إليه سلامة موسى من تضخيم للمسألة وجعلها أساس التقدم وبناء الحضارة، وطالب بوضع المسألة في مكانها، وإعطائها حجمها الصحيح، مؤكداً أنه لا بد من الانتباه إلى اختلاف أنظمة الثوريث في العالم، رافضاً هذه الدعوة، ومعترضاً على اتخاذ نظام التوريث الغربي معياراً للعدالة(239).
كما رفضت هدى شعراوي تبني هذه الدعوة من قبل الاتحاد النسائي، عندما اقترح عليها سلامة موسى جعلها أحد مطالب الحركة النسائية، وعلّلت موقفها هذا بقولها: "ولست أعتقد مثله أن على الحركة النسائية في مصر، بسبب من تأثرها بالحركة النسائية في أوروبا، أن تتابعها في كل مظهر من مظاهر تطورها، فلكل بلد تشريعه وتقاليده الخاصة به، وما قد يلائم هذا البلد لا يلائم بالضرورة بلداناً أخرى(240)، وتشير إلى مسألة هامة، لم يتوقف الكثيرون عندها في خضم الالتفات للجدل النظري فقط، وهي أن المشكلة الحقيقية – كما تزعم - ليست في مقدار ما منحه الشرع للمرأة من حق في الميراث، بل إن المشكلة تكمن في عدم التزام المجتمع في منحها هذا الحق الشرعي(241)!!
العدالة الاجتماعية(242)
انشغل التيار الليبرالي بالمفاوضات مع الإنجليز، ومقارعة القصر، والصراع الحزبي، كما اهتم بالتركيز على الحريات السياسية لخدمة الأغراض الحزبية، فأهمل الاشتغال بمعالجة الهموم الاجتماعية الحقيقية، كالفقر والبطالة ومشاكل الفلاحين والعمال والفئات الفقيرة أو المسحوقة، وعدّها الليبراليون هموماً مؤجلة لحين تحقيق الإصلاح السياسي(243).
وتوقف التيار الليبرالي المصري عند المفهوم الكلاسيكي الليبرالية، الذي يحصر دور الدولة في أضيق نطاق، ويؤمن بمبادئ الاقتصاد الحر القائم على إطلاق حرية السوق والمنافسة، والعمل، والملكية الخاصة، واحترام الاختلافات الفطرية بين الناس، فكل فرد يأخذ فرصته لكن وفقاً للإمكانيات المختلفة عند الأفراد، من مهارة وبراعة وحُسن توقّع، أو بُعد نظر، وبذلك فإن الليبرالية الكلاسيكية تُبرز عدم المساواة وتؤمن بضرورتها، ولا تسعى إلى إزالتها بل للتخفيف –في أحسن الأحوال- من نتائجها وانعكاساتها(244).
ولم تأبه الليبرالية المصرية بما طرأ على الليبرالية الغربية من تحولات بالاتجاه نحو ليبرالية الرفاه، أو الليبرالية الاجتماعية(245).
ولم تقدم برامج الأحزاب الليبرالية أية معالجات جادة لتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية، لمجتمع يئن تحت وطأت مشكلات اجتماعية واقتصادية معقدة.
فالحزب الديمقراطي المصري يتحدث عن تعليم ابتدائي إجباري مجاني، وعن ترقية للطبقات العاملة، وإغاثة غير القادرين على العمل(246)، أما حزب الوفد فلم يُقدم أي برنامج محدد، على اعتبار أنه ليس مجرد حزب، بل هو ممثل الأمة كلها، لكنه كان يقف موقفاً رافضاً للاشتراكية.
كما أنه رفض أي حديث عن توزيع الثروة أو الإصلاح الزراعي، كما كان موقفه من مشاكل العمال ليبرالياً إلى أبعد الحدود، برغم ما أبداه من رغبة في السيطرة على الحركة العمالية، لإقصاء الشيوعيين والإسلاميين عن هذه الساحة، كما رفض فكرة تأسيس حزب للفلاحين أو للعمال(247).
لكن الوفد –وتحت ضغط الواقع- أخذ يُبدي اهتماماً بالشؤون الاجتماعية منذ مؤتمره العام الأول الذي انعقد في يناير (كانون ثاني) 1935م، فقد قُدّمت فيه مجموعة أوراق ذات مضامين اجتماعية تؤشّر على اهتمامات اجتماعية واضحة، وعرف الوفد نمواً للتيار الاجتماعي في داخله، ليتبلور بعد الحرب العالمية الثانية ما سُمي "الطليعة الوفدية"، وهي تحاول إضفاء مسوح اشتراكية على البرنامج الاجتماعي للوفد(248).
وتحدث برنامج حزب الأحرار الدستوريين الصادر في تشرين أول 1922م، عن دعم الحزب للتعليم الأولي الإجباري والمجاني، وتحسين الحالة الصحية، والضرائب العادلة، وترقية الزراعة، والسعي إلى تخلي الحكومة عما تحت يدها من الأطيان، ودعم التعاون، وتنظيم العلاقات بين العمال وأصحاب العمل "على قاعدة العدل اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة من تحكم أحد الفريقين"(249).
آمن الليبراليون بأن التفاوت الاجتماعي أمر طبيعي ومن طبائع الحياة، ولا يمكن إلغاؤه، فهو الأصل، وهو مفيد لانتظام الحياة البشرية، واهتمت الصحافة الليبرالية بالترويج لهذه الفكرة في سياق مواجهة الفكر الاشتراكي، وفي كثير من الأحيان تعمد إلى نشر هذه الأفكار (بدون توقيع)، لكونها تصادم مشاعر عامة المصريين الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة، ويتطلعون إلى شيء من العدل والإنصاف، فهذه "الهلال" تنشر مقالاً (بدون توقيع) يقول كاتبه: "وفي الواقع إن التفاوت بين أفراد الناس وطبقاتهم، قد فرض عليهم فرضاً، وهو لخيرهم ومصلحتهم بوجه الإجمال، وإن لم يكن في مصلحة بعض الأفراد"(250)، ويخلص إلى التبشير بفشل الفكرة الاشتراكية المنادية بالمساواة، ويؤكد "أن ضمان المساواة بين طبقات البشر ضرب من المحال، فضلاً عن كونه لا يتفق مع مصلحة الاجتماع"(251).(6/193)
وتعود "الهلال" عبر كاتبها المجهول للتأكيد على نفس المعاني، ولتبرير شريعة الغاب في الحياة الاجتماعية، أو لما أسماه البعض "الليبرالية المتوحشة"، وبأبشع صورها، منطلقاً من نظرية "تنازع البقاء"، وأن البقاء للإصلاح "وأن الأفراد غير متساوين في صلاحهم للبقاء، لأن بعضهم ضعفاء غير نافعين للاجتماع –وهؤلاء يجب أن ينقرضوا ويُفسحوا في المجال لغيرهم !! - والبعض أقوياء نافعون فيجب أن نطلق لهم الحرية، ليفتكوا بمن هم أضعف منهم من أفراد نوعهم أو من أفراد أي نوع آخر"(252).
لكن د. محمد حسين هيكل تصدى لهذه الأفكار، بتركيزه على رفض "المادية" المستقاة من حضارة الغرب، التي أسماها "حضارة المال والاستعمار في سبيل المال"، لذلك فلا يمكن أن يُرتجى منها أن تعاون على تحقيق البر والرحمة، أو أن تخفف من ويلات من تقسو الأقدار عليهم، بل هي على العكس ترى هؤلاء الذين قست عليهم الأقدار غير صالحين للبقاء، وتقضي عليهم لذلك بأن يفنوا تحت عبء أرزائهم وهمومهم"(253)، وهو يعرّض بدعاة الدارونية، وأفكارها التي استغلت لتبرير "الليبرالية المتوحشة"(254)، أو الرأسمالية في أبشع صورها، والبديل هو حضارة الإسلام، وما يدعو إليه الإسلام من البر والتقوى، وما يفرضه على الناس من الزكاة والصدقة، وما يوصي باليتيم والبائس، والمحروم(255).
واهتمت الصحافة الليبرالية بالتنبيه إلى ظاهرة الفقر التي تجتاح مصر، وإلى مخاطرها. وقدمت رؤيتها للعلاج ضمن المفاهيم الليبرالية(256)، التي تتحدث عن ضرورة تطوير الفقير لقدراته، وتغيير قيمه وسلوكه، مع التأكيد على أن مصر فقيرة بقدراتها.
وأن المشكلة ليست في سوء توزيع الثروة، بل هي في قلّة الإنتاج. "إن الداء ليس في التوزيع، بل إنه نشأ عن النقص الأساسي في الاقتصاد الوطني"(257).
وفي المسائل المتصلة بالعمل والعمال، كان الفكر الليبرالي يؤمن بأن العمل هو سلعة لها ثمن يحدده صاحب العمل، بحسب التعاقد بينه وبين العامل، ووفقاً لقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين"(258)، وبطبيعة الحال فإن الموقف الليبرالي ميَّال بطبعه لجانب صاحب رأس المال(259)، أما التعاطف مع العامل فينحصر في الاعتراف بحقه بتوفر شروط العمل الصحية، ومنحه الأجر المناسب، وساعات العمل المناسبة(260).
أما تدخل الدولة في حل هذه المشكلات، ومنها –مثلاً- مشكلة البطالة، فهذا مرفوض وفقاً للمنطق الليبرالي !! فنجد أحمد لطفي السيد، يرفض تدخل الدولة بالتشريع لحل أزمة البطالة بين المتعلمين، ويقول: "وأنا لا أنظر بعين الارتياح إلى تدخل الحكومة إذ أنني أرى أن التشريع فيما لا تقضي به الضرورة القصوى تُشتم منه رائحة الاشتراكية، ويكون من الخير أن يترك ميدان الأعمال العامة بين المتعلمين لتختار الحياة الاجتماعية الأصلح منهم بعد التنافس"(261).
وإيماناً منه بأن مذهب "اللبراليزم" الذي يؤمن به "يحدُّ حرية الحكومة لا في التشريع فحسب بل في المداخلة في الأعمال العامة، هذا المذهب قد يقتضي مثاله الأعلى أن تقتصر الحكومة على مرافق ثلاثة من مرافق البلاد:
1. الدفاع عن البلاد في الخارج بالجيش.
2. القيام على الأمن العام بالشرطة.
3. وإقامة العدل بين الناس بالقضاء.
وما عدا ذلك من مرافق الدولة كالتعليم العام، والصحة العامة والأشغال "العمومية"، كل ذلك ينبغي أن يكون من عمل الأفراد والشركات والجمعيات الحرة. " وكنت أعتبر ولا أزال، أن تدخل الحكومة فيه، سببه الضرورة ، أي عدم وجود من يقوم به"(262).
وعندما طالب أحدهم على صفحات "الأهرام" بضرورة أن تتصدى الحكومة للقيام بواجباتها، فتلتزم بتوفير عمل لكل فرد، باعتبار أنه شكل من أشكال التضامن، وأن عليها أن توزع كمية العمل الموجودة فعلاً على جميع الأفراد، فلا يُحرم بعضهم من العمل لكي يظفر آخرون بنصيب الأسد، وأنه من واجبها أن تنشئ وظائف جديدة تمنح مرتباتها من المال المتوفر بعد تخفيض المرتبات الكبيرة، وإلزام أصحاب الأعمال بزيادة عدد عمالهم. نجد "الأهرام" تعلّق على هذه الاقتراحات للتخفيف من مشكلة البطالة، بالقول: "إن تقرير هذه القواعد معناه قلب المبادئ الاقتصادية كما وضعها آدم سميث.. ومن تابعهم من علماء المدرسة الكلاسيكية في القرن الثامن عشر ، وأساسها الحرية الاقتصادية والمنافسة التي لا يحدها حدّ.. وقد أعطت نظرية الحرية الاقتصادية العالم نهضة عظيمة ورخاء مادياً كبيراً، ولكن بينما منحتنا نظرية الحرية الاقتصادية هذا كله –وهو فضل عظيم لا ينبغي أن نجحده- اقتضتنا تضحيات كبيرة كان بعضها هؤلاء العمال كانت التضحية ضرورية في سبيل تقدم البشرية، تحمّلها الضعيف، وتلك هي السنة الخالدة.. ولكن ينبغي ألا نبالغ في الغض من النشاط الفردي وتقييد حريته فكل تدخل من الدولة مكروه، ولذلك يجب أن يقتصر بقدر الإمكان على ما يكفل منع الشرور الواضحة وتخليص الحضارة التي نعيشها من القسوة التي تُفسد جمالها وتجعلها تبدو وكأن لا قلب لها"(263).
وعندما طرح البعض –ومنهم أحمد لطفي السيد رئيس الجماعة آنذاك- تقليص التعليم العالي لحل أزمة البطالة(264)، وأيد البعض هذا الاقتراح من باب أن التعليم العالي يُفسد الفلاح، ويفصله عن العمل في الأرض(265)، نجد أن د. طه حسين، يعترض على هذا الاقتراح، ويؤكد أنه "لن تعالج البطالة بإكراه الشعب على الجهل، وإنما تُعالج بفتح أبواب التعليم على مصاريعها، وبالإسراع في ذلك حتى يرشد الشعب"(266)، وفي المقابل نادى بضرورة تعميم التعليم الأولي من سن السابعة إلى الثامنة عشرة، على اعتبار أن ذلك يأتي في إطار حق المصريين جميعاً في الحصول على التعليم العام(267)، وساندته ميّ زيادة في موقفه هذا، ورفضت تقليص التعليم الجامعي، وطالبت بإطلاقه أمام الجميع(268).
وانتقد محمد زكي عبدالقادر الطبقية في مصر، والضرائب الموجهة لمصلحة الأغنياء، متهماً بأن سياسة الضرائب والتسويات تنتهي إلى تركيز الثروة في طبقة معينة، كما أن سياسات التوظيف تنتهي إلى تركيز الجاه والنفوذ في الطبقة نفسها(269).
أما فيما يخص الفلاح ومشاكله، فقد تكلف الليبراليون التعاطف مع معاناته من الفقر والمرض والجهل(270)، وقدموا حديثاً عاطفياً عن الفلاح وأهميته، ودوره في الإنتاج، وعن ضرورة تهيئة أسباب الحياة الإنسانية له(271)، ولم يكن هذا الاهتمام بعيداً عن الغرض السياسي، فعندما يكون الحزب خارج السلطة، تبدي صحافته اهتماماً مفاجئاً ومبالغاً فيه بهموم الفقراء والفلاحين والعمال، ومعاناة الشعب، لمجرد إحراج الحزب الجالس في مقاعد الوزارة(272) !!
ولم تكن المصالح الشخصية بعيدة عن الوقوف وراء تسليط الأضواء على هذه القضية، أو إهمال تلك والتعتيم عليها، وهناك اتهام دائم للفلاح بسوء التدبير وعدم القدرة على ضبط نفقاته، وهذا –في نظرهم- هو سبب فقره، وعجزه عن سداد ديونه(273).
وهناك إصرار على عدم الاستماع لأي صوت يتحدث عن تحديد الملكية العقارية، ففي العُرف الليبرالي لا مجال لهذه الفكرة في بلاد ديمقراطية تحترم حرية الفرد، ومجال نشاطه وتفكيره، وثمرات جدّه كمصر!! (274).(6/194)
وتحدثت أصوات ليبرالية عن تحسين أحوال الفلاح بتيسير أسباب المعيشة العامة (رفع مستوى معيشته)، وإصلاح نظام الضرائب ليصبح تصاعدياً، بزيادتها على الأغنياء، وتخفيفها على الفقراء، وتوفير الأمن في الريف والحد من الجرائم، وجرى تبرير الدعوة إلى توفير الأمن، لأن ذلك سيسمح للفلاح ببناء بيت ذي نوافذ، ولأن يأمن على ما لديه من دواب فلا ينام وإياها في نفس المكان لحمايتها، ولأهل القرية ببناء منازل متباعدة! والدعوة إلى العناية بالصحة العامة، وفرض التعليم الإجباري ومحاربة الأمية، وتطوير الصناعة المصرية ودعمها(275).
إن هذا البرنامج الواقعي للإصلاح في الريف، يشير إلى حجم معاناة الفلاح، وحقيقة ما يعانيه من مشكلات، كانت النخب الفكرية والسياسية تحلّق عالياً وبعيداً عنها.
والدكتور هيكل في "حديث اليوم" الذي يفتتح به أعداد "السياسة" يحذر من مغبة تسرب الشيوعية إلى الريف وبين الفلاحين "أكثر طوائف هذه الأمة سكينة وأبعدهم عن هذه الأفكار الشيوعية التي لم تعرف لها منبتاً في غير البلاد الصناعية.. فلو أن بيئة تأبى الشيوعية بطبعها فتلك هي البيئة المصرية، وحياتنا الاقتصادية القائم أساسها إلى اليوم على الملكية الزراعية، لا يمكن أن تقبل هذه المبادئ الضارة.. فليست طوائفنا العاملة في الأرياف، متأثرة بالهوس الاجتماعي الذي تتأثر به بعض بيئات العمال في أوروبا، وهي في إيمانها بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، ترى في هؤلاء الدعاة الشيوعيين أكثر من ثائر على الدين، وعلى الحكومة، وأكثر من مخادعين يريدون من دعوتهم تسخير هذه الطوائف الآمنة الوادعة لمصالحهم الخاصة، وهي على أتم الاستعداد لأن تعاون الحكومة في تعقب هؤلاء الخوارج الذين يريدون أن يفسدوا نظاماً قائماً على الحق والشرع"(276) !!
وهذه الرؤية تأتي متوافقة مع الخطاب الليبرالي الرافض للشيوعية والمفاهيم الاشتراكية عموماً، وهو خطاب يتنكر لمعاناة الفلاح، كما أنه برغم علمانيته المفرطة نجده يتوسل بالمفاهيم الدينية حول الرزق المقدّر، لاستثارة الفلاحين المتدينين "الوادعين" ضد دعاة الاشتراكية "الخوارج"، ولإخماد أية بوادر شكوى ضد هذه الأوضاع المقدَّرة!
الأخلاق والآفات الاجتماعية :
يؤمن الليبراليون بأن المجتمع مكلّف بحماية الحقوق الفردية، ولا ينبغي له الاعتداء عليها، ولهذا فهم ينفرون من كل ما يضع قيداً على حرية الفرد، ويرفضون فرض أية غايات أو أهداف خارجية على الفرد، ويرون لزوم تركه حراً يفعل ما يشاء، وأن من حقه على المجتمع أن يعيش حراً مستقلاً ساعياً وراء غاياته التي يختارها بمحض حريته وإرادته.
وهذا يأتي –طبعاً- في إطار امتناع الفرد عن فعل كل ما من شأنه أن يشكل إضراراً، أو تدخلاً غير مشروع في حرية الآخرين للسعي من أجل تحقيق غاياتهم الخاصة(277).
وهكذا فإن الليبرالية تكفل الحرية الشخصية، والحريات العامة والاجتماعية، والمعيار في الحكم على الفعل والسلوك هو معيار علماني لا صلة له بالدين.
والليبراليون المصريون جعلوا من التقليد للنموذج الغربي معياراً، أو هدفاً، وفي أحسن الأحوال وسيلة للنهوض، ولذلك فهم ينظرون بعيون غربية للواقع المصري، ويعالجون مسائل الأخلاق وفقاً للمعايير الأوروبية.
ومن هنا جاءت دعوة بعض الرموز الليبرالية إلى علمانية الأخلاق، وعلمانية التربية والتعليم كأحد أدوات المجتمع للتوجيه الخلقي، وتسخير التربية والتعليم وأجهزة التوجيه لتعزيز اتجاهات الحياة الحديثة –على حد رأي د. طه حسين- وإنقاذ الأطفال والصبيان من أن "يُصاغوا صيغة قديمة، ويُكوّنوا تكويناً قديماً"(278).
أما المهمة الأساسية للعملية التربوية التعليمية، فهي تعليم الفضائل المدنية، وخلق الأوضاع، التي يمكن للحاكم الديمقراطي أن ينمو في ظلها(279)، ومحاصرة "الثقافة الأزهرية" لصالح "الثقافة الحديثة"(280).
وفي هذا الإطار تأتي المناداة بعلمانية الأخلاق وتغريبها، فلا تقتصر على المعنى الروحي الديني، كالتقوى والصدق والأمانة والعفة.." بل تمتد لتشمل بعض "الصفات السامية النبيلة" كالدقة، المثابرة، الصبر، الاحتمال، الإقدام، الشجاعة، قوة الابتكار، التعاون، خدمة الغير، مراعاة شعور الآخرين، الإعجاب بكل حسن وجميل، الذوق السليم، الإتقان، المرونة.." (281).
وفي إطار التثقيف بالمفاهيم الأخلاقية الغربية، تعرض "السياسة" لقضية "تطور الحياء" وتنشر ترجمة لمقال بعنوان "تطور الحياء وعلاقة الحياء بالأزياء" لكاتب فرنسي، مفاده أن مفهوم الحياء مفهوم متغيّر، مع تطور الزمن، وأن الأزياء لا علاقة لها بالحياء، فهي ليست من الخلق الشخصي بل من الخلال الاجتماعية، لذلك "فمن المبالغة في التشاؤم إذن أن يعتبر البعض الخروج في الملبس خطراً اجتماعياً أخلاقياً.. ففي وسعنا أن نتوقع أنه لن يمضي سوى قليل حتى يصبح الحياء على النقيض مما كان عليه بالأمس؛ أعني أن الثياب وليس العراء هي التي قد تؤذي الشعور"(282) !!
وفي مجال تنمية "الشخصية"، وبناء الاتجاهات عبر الحوار لدى الجيل الجديد، يعرض د. أمير بُقْطر، جملة مواضيع للحوار مع الشباب، من خلال الإجابة على عدد من الأسئلة، منتقاة بعناية، وتسعى إلى نهاية منطقية مبتغاة تؤكد على القيم والاتجاهات وأنماط السلوك الليبرالية الغربية وتعزيزها(283).
والليبراليون عندما يتصدون لمعالجة الآفات الاجتماعية، فهم ينطلقون في مواقفهم من المرجعية الفكرية، التي يؤمنون بها، ويحتكمون للمعايير الغربية في الحكم على الأشياء.
فعندما كان المصلحون يطالبون بإلغاء البغاء الرسمي. كان الليبراليون يرفضون هذه الدعوة !! فقد عدّها د. محمد حسين هيكل، بمثابة دعوة إلى "إلغاء الرقابة الصحية" ليس إلا، ونفى قدرة أي قانون على إلغاء البغاء من الوجود، وإلا لاستطاعت الشريعة الإسلامية تحقيق ذلك(284)، ولجأ إلى التهكم والتشكيك والتجريح في رده على دعوة الشيخ محمود أبو العيون لإلغاء البغاء، وكل ذلك دفاعاً منه عن حكومة عدلي يكن، فكان الدافع السياسي كالعادة يتدخل في أسلوب معالجة المثقف أو المفكر للقضية أية قضية.
لكن "السياسة" عادت بعد عقد من الزمان وفي إحدى افتتاحياتها(285)، التي عادة ما يكتبها د. هيكل رئيس التحرير، إلى الشكوى من "حي البغاء" في القاهرة وما يحويه من جرائم، وطالب بإلغائه أو ترحيله على الأقل، فهو يُسيء إلى صورة مصر، ويُساهم في زيادة الجرائم، وينشر الرذيلة فيما حوله من شوارع وأحياء.
والمنهج الذي يحكم الموقف، هو منهج علماني، يحترم الحرية الشخصية حتى في مجال "حرية الرذيلة"، لكن على أن لا تشكل اعتداءً على حرية الآخرين !!
وعندما يتصدى الليبراليون لمعالجة بعض الآفات الاجتماعية، فلا تجد نهجاً واضحاً، أو معياراً منطقياً، أو اتساقاً في الرؤية، بل تجد نوعاً من التضارب.
هذه جريدة "السياسة" لسان حال الأحرار الدستوريين، تحمل على وزارة أحمد زيور لسماحها بافتتاح "كازينو" للقمار في حلوان، وتقول في افتتاحيتها "ما بالك ومصر دولة يقرر دستورها أن الإسلام دينها، وينص القرآن (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)، فهل تُقر حكومة إسلامية في بلاد مسلمة رجساً من عمل الشيطان(286).
لكن "السياسة" وهي تستشهد بالآية الكريمة التي تقرن القمار بالخمر، لا تتورع عن نشر دعاية للخمور في الصفحة السابقة(287)!!
ولا يخلو عدد من أعدادها من دعاية لأحد أنواع الخمور(288).(6/195)
واهتمت الصحافة الليبرالية في أغلب الأحيان بالتثقيف التغريبي للشباب في العادات والسلوك والأزياء، بالتركيز على استثارة الغرائز، عبر الصورة والقصة والتعليق، وبالتركيز على إبراز نموذج الحياة الغربية كمثال يجب أن يُحتذى، وأن فيه كل السعادة والعصرية والحرية(289).
وفي المجمل، فإن التيار الليبرالي لم يولِ المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القول بأنه كان يعاني من اللامبالاة الأخلاقية، والنظر إلى أن الأخلاق مجرد شأن خاص، تكفله الحرية الشخصية.
واللامبالاة هذه امتدت لتطال التفكير بالصالح العام الذي بدا متوارياً عن الخطاب الليبرالي، في سياق الادعاء بالمحافظة على القيم الليبرالية وفي طليعتها الحرية الفردية.
=============
طهارة السلاح
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
هذا الدين هذب رغبة الانتقام في نفوس المسلمين بما يحفظ كرامتهم وكرامة غيرهم، دين آمن بطهارة السلاح ودعا لها، ديننا هذا أثار إعجاب الكثير من العظماء...
لم يكن مستغربا أن أقف مؤخرا عند فتوى صدرت من لجنة حاخامات مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة،الفتوى التي تعيد مجددا على مسامع جنودها ما سمعوه في خنادق التدريب من أن"التوراة" تبيح وتأمر بقتل نساء العدو وأطفالهم، وبالتالي فهم مأمورون بقتل الأطفال والنساء في لبنان وفلسطين.
ولكن ما كان محل استغرابي هو ظهور ساسة هذا الكيان بتصريحات إعلامية لا تنم بأي صلة للواقع.. تصريحات تؤكد للمجتمع الدولي أن جيشهم الصهيوني لا يستهدف المدنيين اللبنانيين، وما حدث مؤخرا على الأرض اللبنانية من مجزرة "مروحين" وغيرها.. ما هو إلا افتراء ووهم ويشمل هذا الإنكار بطبيعة الحال ما شاهده العالم من أجساد لأطفال ونساء ومدنيين تفحمت، ومدن تهدمت بفعل القصف الصهيوني.
على أية حال وإحقاقا للحق كان من الواجب أن أقر أن لجنة حاخامات مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة كانت محقة في قولها إن مصدر هذه الفتوى نصوص توراتية، فالتوراة وغيرها من أسفار العهد القديم مليئة بتعاليم بالغة في القسوة والعنف، فهي لا تكتفي بإجازة قتل النساء والأطفال بل تأمرهم بذلك، وتتعدى ذلك للأمر بقتل الأطفال الرضع، بل وحتى الدواب،هذه النصوص تقنن ما جرم في الدساتير الدينية والإنسانية، وتتناقض مع تعاليمها كل القوانين الدولية، فعلى سبيل المثال جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول ما يلي:(فالآن اذهب واضرب عماليق - العرب - وحرموا كل مالهم، ولا تعف عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والصبيان والرضع والبقر والغنم والإبل والحمير)هذا التوجه الوحشي تكفل الحاخام "كابليوك" بتفسيره بما يلي: (وسيأتي اليوم الذي يطلب منا جميعا الانطلاق في هذه الحرب المقدسة لإبادة العمالقة - العرب -، في هذه الحرب لن يكون هناك رأفة، فواجب القتل والإبادة يشمل حتى الرضع فالعماليق يحاربون شعب الله).
وفي كتيب أصدره الكولونيل "أفيدان زيميل"،أحد الكهنة الرئيسيين للقوات العسكرية نجد:(ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو بل إنها مأمورة ... بقتل حتى المدنيين الطيبين...) فقتل المدنيين ليس جائزاً فقط، بل واجب عند هؤلاء الشرفاء، كما كتب الحاخام "إسرائيل هيس" مقالا بعنوان "الإبادة الجماعية في التوراة" قال فيه (إن العرب هم سلالة العمالقة الذين قالت التوراة إنه على اليهود إبادتهم كليا).. عبث بحياة اللبنانيين والفلسطينيين، ودمار لبنان، لم يكن الدافع لها فقط نصرة الأسرى الصهاينة،بل دمار لبنان وإبادة أهلها واحتلال المزيد من الأراضي العربية بدعوى أن الحدود الآمنة لإسرائيل لا بد أن تتسع.. دعاوى نعرفها كعرب مسبقا.
هؤلاء يعتقدون يقينا أن كل أرض تداس بأقدامهم تعد من الأرض الموعودين بها، واستهانة بعضنا بما يرد في نصوصهم من تعاليم من السذاجة بمكان، فالعقيدة هي التي تحرك صاحبها - أياً كان- نحو هدف معين، وهؤلاء يتحركون لما هو أكثر بكثير من الأرض التي تقع تحت احتلالهم، فقد ورد في"التوراة"ما يؤكد هذه التطلعات، ومن ذلك قولها:(في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام- إبراهيم عليه السلام - عهدا قال: لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات..) كما جاء فيها:(الرب إلهنا كلمنا من جبل حوريب - سيناء - وقال أقمتم ما فيه الكفاية في هذا الجبل، فتحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يجاوره من صحراء البرية وما يليها من الجبال والسهول، إلى الجنوب وساحل البحر، إلى أرض الكنعانيين ولبنان وحتى النهر الكبير نهر الفرات) وفيها أيضا(كل موضع تدوسه أخماص أقدامكم يكون لكم من البرية جنوبا إلى لبنان شمالا، ومن نهر الفرات شرقا إلى البحر غربا)، بل إن "التلمود" كعادته دوما يحاول ترسيخ هذه العقيدة في نفوس مريديه، فقد شبه الصهيونية الموعودة بجلد الغزال الذي يمتلك من المرونة ما يجعله قابلا للتمدد والاتساع: (أرض إسرائيل لا تسمى جميلة كالغزال دون سبب، بل لأنها تمتد كجلد الغزال) تمتد لتعتدي وتدمر وتبيد ثم تحتل الأراضي العربية.
ولا أستطيع إنهاء زيارتي لكم اليوم دون التوقف معكم عند نصوص نبوية تأمر الجيوش الإسلامية بما يناقض التعاليم الصهيونية الوحشية التي تأمر بقتل الأطفال والنساء وتعد ذلك واجبا، فالنصوص الإسلامية تأمر الجيوش الإسلامية بآداب إنسانية في تعاملهم مع أعدائهم حتى في ساحات الحرب، ولنتأمل معا قوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيل الله: (انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) دين يحرم الاعتداء حتى على الحيوان، دين يحرم علينا التعامل بالمثل مع هؤلاء، دين يفرض علينا معاملة الأسرى بإنسانية، فقد قال عليه الصلاة والسلام:(استوصوا بالأسرى خيرا) هذا الدين هذب رغبة الانتقام في نفوس المسلمين بما يحفظ كرامتهم وكرامة غيرهم، دين آمن بطهارة السلاح ودعا لها، ديننا هذا أثار إعجاب الكثير من العظماء، ويحضرني موقف الزعيم الفرنسي "ديجول" منه ومن أهله،فقد قال:(أعتقد أن اتصالنا بالمجتمعات العربية والإسلامية التي حافظت على تلك الروح الإنسانية التي فقدناها،سينقذنا من مغبات حضارتنا وسيكون مفيدا لنا جدا، ولهذا فإنني أحرص على تحسين علاقات فرنسا وتوثيقها بالعالم العربي والإسلامي).
=============
صورٌ من سماحة الإسلام
أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر
وكلية التربية للبنات بالقصيم
بسم الله الرحمن الرحيم
من الجوانب المضيئة في حضارتنا الإسلامية ومن الصفحات المشرقة في سجل تاريخنا الإسلامي الزاخر بالمآثر والمفاخر والتي نعتز بها : جانب التسامح مع غير المسلمين والإحسان إليهم : هذا الجانب الذي يشهد بأن الإسلام دين الرحمة والإحسان والعدالة والإنصاف .
هذه المبادئ السامية والشمائل الكريمة التي كانت عاملا من عوامل انتصار الإسلام .
* ومن أعظم صور هذا التسامح دعوته إلى الإيمان بجميع الأنبياء دون تفريق بين نبي ونبي فكلهم جاءوا بدعوة واحدة ورسالة واحدة وهدف واحد .
قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِل إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} }(6/196)
وحول هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي).1.
* ودعا الإسلام إلى التعاون بين الناس جميعا ، فوجه الدعوة إلى المسلمين الخاصة وإلى سائر الناس عامة قال تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}}
* كما أرشد الإسلام إلى أن الاختلاف بين أهل الأديان لا يمنع من حسن التعامل معهم وتبادل المنافع المادية بينهم قال تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {5} .
* وهذا نبينا e يتعامل مع أهل الكتاب : فعَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَىَ مِنْ يَهُودِيّ طَعاماً إِلىَ أَجلٍ، وَرَهَنَهُ درْعاً لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.2
* وشرع الإسلام الجهاد لنشر الحرية وترسيخ العدالة وتحرير الناس من قيود الطغيان ، ، وانتشالهم من ظلمات الجهل وغياهب الضلال ؛ فشرع الجهاد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } 3 .
* شرع الجهاد رحمة بالضعفاء ونصرة للمظلومين وعدالة للمغلوبين وهداية للحائرين وإذا كنا قد سمعنا أوشاهدنا جرائم أعداء الإسلام في حق الشعوب المسلمة قديما وحديثا فإننا نجد في المقابل صورا رائعة من سماحة المسلمين حين ملكوا وقادوا :
ملكنا فكان العفو منا شجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبا هذا التفاوت بيننا فكل إناء بما فيه ينضح
صور من سماحة الإسلام وإحسانه في حالة الحرب
* نهى الإسلام عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة وأهل الصوامع والبيع الذين لا اعتداء من ناحيتهم ولا خطر من بقائهم فكان رسولنا e إذا أرسل جيشا أو سرية يوصيهم بالإحسان والتسامح والرحمة بالنساء والضعفاء .
ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول اللّه e إذا أمّرَ أميراً على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً .. " الحديث 4
وهكذا كان الخلفاء الراشدون y من بعده e فهذا أبو بكرt وقد وبعث أوصى جيش أسامة فقال: (يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها) الخ ما ذكره رضي الله عنه 5 .
* أمر الإسلام بالوفاء بالعهود التي أخذها المؤمنون على أنفسهم أو على غيرهم وعدم الإخلال بها قال تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91}سورة النحل }وقال سبحانه {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً {34}سورة الإسراء}.
فالوفاء بالعهود من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}} .
من هنا فيحرم قتل الذمي بغير حق 6
دعا الإسلام إلى الجنوح للسلام إذا طلبه الكفار قال تعالى في سورة الأنفال {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61}} ، والمقصود بالسلم هنا السلام العادل المنصف الذي يحفظ للمسلمين عزتهم وكرامتهم ويضمن لهم حقوقهم ، فهو سلام من منطق القوة سلام العزة والكرامة ، وليس سلام الضعفاء الأذلاء المقهورين فالإسلام لايرضى لأتباعه إلا القوة والعزة والأمن والكرامة ؛ لذلك فلا عبرة بالسلام المزعوم المبني على ضعف واستسلام وأكاذيب وأوهام وقبول للمساومات وتقديم للتنازلات قال تعالى {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139}} 7 وقال جل وعلا { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ {35} 8
صور من تسامح الرسول e
* لما قدم الرسول e المدينة غرس فيها بذور التسامح بين المسلمين وغيرهم فأقام معاهدة مع اليهود تنص على السماحة والعفو والتعاون علىالخير والمصلحة المشتركة وحافظ الرسول e على هذا الميثاق - ميثاق التعايش السلمي - لكن اليهود سران ما نقضوه .
* ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم الرسول e في المسجد ولما حان وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد فكانوا يصلون في جانب منه ، ولما حاوروا الرسول e حاورهم بسعة صدر ورحابة فكر وجادلهم بالتي هي أحسن ومع أنه أقام الحجة عليهم إلا ،ه لم يكرههم على الدخول في الإسلام بل ترك لهم الحرية في الاختيار ، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران . 9
* ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي كثيرا بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين ويدعو إلى مراعاة حقوقهم وإنصافهم والإحسان إليهم وينهى عن إيذائهم :
* وروى أبو داود في السنن عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن آبائهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة".10
* عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما). 11
وإذا أجار أحد من المسلمين مشركا في دار الإسلام فيجب معاونته على ذلك ويحرم خفر ذمته ففي الصحيحين عن أبي مرة مولى أم هانىء بنت أبي طالب أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: (من هذه). فقلت: أنا أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: (مرحبا بأم هانىء). فلما فرغ من غسله. قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء). قالت أم هانىء: وذاك ضحى.12(6/197)
* وروى أبو داود في السنن عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ " . 13
* ومن المواقف الدالة على سماحته صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين هذا الموقف مع يهودي يدعى زيد بن سعنة أراد أن يختبر حلمه صلى الله عليه وسلم :
قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما قال فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة قال فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت يا محمد ألا تقضيني حقي فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب لمطل قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لصربت بسيفي رأسك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي عام تبوك رحمه الله 14
* ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما هم أعرابي بقتله حين رآه نائما تحت ظل شجرة وقد علق سيفه عليه فعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه غزا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل نجد فلما قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا ، ولم يعاقبه وجلس. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية قال جابر: كنا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء رجل من المشركين وسيف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معلق بالشجرة فاخترطه فقال: تخافني؟ قال : لا فقال: فمن يمنعك مني؟ قال اللَّه ، فسقط السيف من يده فأخذ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه؟ قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. 15
* ومن النماذج الدالة على سماحة الصحابة رضي الله عنهم :
* ما رواه الإمام الترمذي في السنن عن مُجاهدٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرو ذُبحتْ لهُ شاةٌ في أهلهِ فلمَّا جاءَ قال أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟ أهديتُمْ لجارنا اليهوديِّ؟ سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم يقول: (ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ) . 16
* وحين مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشيخ من أهل الذمة يقف على الأبواب يسأل الناس قال : ما أنصفناك أن كنا أخذنا المال في شبيبتك وضيعناك في شيبك ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه 17
* وحين اشتكت إليه امرأة قبطية من عمرو بن العاص الذي ضم بيتها إلى المسجد أرسل إليه عمرو وسأله عن ذلك فقال إن المسجد ضاق بالمسلمين ولم أجد بدا من ضم البيوت المحيطة بالمسجد وعرضت على هذه المرأة ثمنا باهظا فأبت أن تأخذه فادخرته لها في بيت المال وانتزعت ملكيتها مراعاة للمصلحة العامة لكن الفاروق عمر أمره بأن يهدم هذا الجزء الذي للمسجد ويعيد بناءه كما كان لصاحبته . 18
* وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يصالح أهل الحيرة ويكتب في كتاب الصالح " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين " . 19
* ومن الصفحات المضيئة في تاريخنا الإسلامي ما ورد أن الصحابة y لما دخلوا حمص وفرضوا على أهلها الجزية فجاءهم أمر من أبي عبيدة بن الجراح بمغادرة حمص للانضمام إلى جيش المسلمين حيث مواجهة الروم في اليرموك أعادوا إلى أهل حمص ما أخذوه ؛ وقالوا إنا أخذناه في مقابل الدفاع عنكم أم وقد خرجنا فقد أصبحنا غير قادرين على حمايتكم فلزم رد ما أخذناه منكم فعجب لذلك أهل حمص أشد العجب وتمنوا لهم النصر على عدوهم .
* وإن المقارن بين سماحة المسلمين حين يكتب لهم النصر والتمكين وبين ما سجله التاريخ من وحشية في الحروب الصليبية وخلال فترات الكشوف الجغرافية والاستعمار الذي حل بكثير من بلاد الإسلام حقبة من الزمن يتجلى له الفارق بين دين الحق دين التسامح والعفو وبين أتباع الأديان المحرفة . 20
شهادت منصفة
لقد شهد العديد من الساسة والمؤرخين والمفكرين ورجال الدين من غير المسلمين شهادات منصفة صادقة وفيما نذكر بعضا منها :
* يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم ، الأمر الذي فقدته المسيحية ، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة ، والدين والعلم ، والعقل والمادة" 21
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : "لا إكراه في الدين ، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين" 22
* ويقول غوستاف لوبون في " مجلة التمدن الإسلامي" : : " إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وبين روح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وإنهم مع حملهم السيف فقد تركوا الناس أحرارا في تمسكهم بدينهم " .
* "كل ما جاء في الإسلام يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه المسيحيين" .
* ويقول المستشرق بول دي ركلا : "يكفي الإسلام فخراً أنه لا يقر مطلقاً قاعدة (لا سلام خارج الكنيسة) التي يتبجح بها كثير من الناس ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور" .
* يقول المستشرق بارتلمي سانت هيلر :
" إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام ، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى"(6/198)
* ويقول العلامة الكونت هنري دي كاستري : "درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام ، فخرجت بحقيقة مشرقة هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة ، وهذا إحساس لم يُؤثر عن غير المسلمين .. فلا نعرف في الإسلام مجامع دينية ، ولا أحباراً يحترفون السير وراء الجيوش الغازية لإكراه الشعوب على الإيمان".
* ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول : إن تسامح المسلم ليس من ضعف ، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه ، وتمسكه بعقيدته" .
* ويقول المستشرق لين بول : "في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين) ، وكانت هذه المفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين ، وربما لم يعرفها حتى الآن " .
* ويقول الفيلسوف جورج برناردشو : "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته ! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً ، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة ، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور ، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً ، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة " .
* ويقول توماس أرنولد في كتابه الدعوة الإسلامية : لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح " . 23
* ويقول شاعر فرنسا (لامارتين) : "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معاً ، دون أن يُعرِّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير … وهو الدين الوحيد الذي تخلو عباداته من الصور ، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر " 24
================
حينما تتوحد رؤية السياسي ورؤية الفقيه
طارق حسن السقا
سقطت بغداد على يد المغول سنة 656هـ . وبعدها بعامين تقريبا سقطت دمشق . يومها أصيبت دولة الخلافة الإسلامية في مقتل بسقوط هاتين المدينتين . جاءت قوات الجيش المغولي إلى بلادنا وفي مقدمة أهدافها محو الإسلام من على خريطة الوجود . وكان من كثرة الأساطير والأقاويل التي نسجت حول قوة هذا الجيش أن دب الرعب ، وسيطر الخوف على قلوب المسلمين في كل مكان . حتى أنهم كانوا يعتقدون أن المغول ما هم إلا بلاء سلطه الله عليهم . وأنهم جنس غير الأجناس البشرية المعروفة . بل هم جنس مستحيل أن يقهر أو يهزم أو يكسر .
بعد سقوط بغداد ودمشق لم يكن للمسلمين في جميع بقاع الأرض - بعد الله سبحانه وتعالى - إلا مصر كما يجمع المؤرخون . فلو سقطت مصر فلن تقوم للمسلمين قائمة. بل سيصبح المسلمون تاريخ وذكريات . وفي الوقت نفسه كانت كل التوقعات تشير إلى أن مصر هي المحطة القادمة لهولاكو .
وما أن علم القادة المصريون بقرار الزحف إلا وعقدوا اجتماعا طارئا في قلعة الجبل . حضر هذا الاجتماع عدد من العلماء والأمراء والحكماء . وكان من بين أبرز الحاضرين : سلطان العلماء العز بن عبد السلام ، وحاكم مصر " الصغير " على بن عز الدين أيبك ، والقائد العسكري المغوار سيف الدين قطز . وناقش المجتمعون الأمر وكانت الخيارات المطروحة : -
1 - إما طلب الصلح وهذا سيترتب عليه الذله والخضوع .
2 - وإما طلب الهدنة وهذا سيترتب عليه المهانة والانكسار .
3 - أو إعلان حالة الجهاد فإما النصر وإما الشهادة .
وبعد شورى ونقاش استمع السياسي لرؤية الفقيه . وصغى الفقيه لرؤية السياسي . وجاء القرار : إعلان حالة الجهاد ضد جيوش المغول بالرغم من فارق العدد والعدة والعتاد المادي بين الطرفين . ولكن العلماء قاموا بدورهم فحشدوا الطاقات ، ووحدوا الجهود ، ورفعوا المعنويات والهمم . واشترط سلطان العلماء العز بن عبد السلام أن يبدأ الكبراء والأمراء بأنفسهم وأن يبيع كل واحد منهم ما عنده من ذهب، ومجوهرات، ونفائس ليكونوا قدوة إلى غيرهم .
وبالفعل أعلنت حالة الطوارئ ، وجاء اليوم الموعود . وخرج الجيش المصري ليلاقي الجيش الباغي المتكبر عند قرية صغيرة شمال فلسطين ( عين جالوت ) بقيادة المغوار قطز الذي خرج متسلحا بإيمانه بالله ، وبثقته في العلماء والحكماء . وقبل كل ذلك ثقته في شعبه الذي خرج مؤمنا بعدالة القضية التي يحارب من أجلها . فلقد تحرك المصريون خلف قطز لا من أجل قطز ، ولا من أجل مغانم وعدهم إياها ، ولا من أجل ألقاب ، ولا رفعا لشعارات جوفاء ، أو سعيا وراء أوهام أو أحلام . إنما خرجوا وتحركوا لثقتهم في علمائهم ورغبة منهم في أن تبقى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى . من أجل أن تبقى راية لا إله إلا الله عالية خفاقة . وفي سبيل ذلك تهون الحياة بمباهجها وملذاتها إن كان في الحياة مباهج أو ملذات .
ودارت المعركة . وتفوق الجيش المصري . وكر الجيش المغولي .وفر الجيش المصري . ولما رأى السلطان قطز كفة الصراع تميل لصالح المغول صاح صيحته الخالدة : واإسلاماه .... واإسلاماه . وسرعان ما اتزنت الأمور . واستطاع الجيش المصري أن يلقن المغول درسا سجله التاريخ . انتصارا أرى أنه أغلى انتصار في تاريخ حضارتنا الإسلامية " بعد بدر " لأنه لو هزم المسلمون في هذه الموقعة لضاع الإسلام . ولكن..........
إن الأمة التي بها شباب صالح ، وعلماء أتقياء لا يمكن اقتلاعها من جذورها مهما كانت المؤامرات . أما الدولة التي ليس بها شباب صالح ولا علماء أتقياء يسهل اقتلاعها من خريطة الجغرافيا والتاريخ سهولة اقتلاع الشعرة من العجين .
إن السياسيين عندما تلم بهم الخطوب ، وتدر كهم المخاطر . فعليهم إن يتسلحوا بالأفكار الكبيرة والعقول الكبيرة . عليهم أن يقفوا على أبواب العلماء والفقهاء والحكماء . وليس اللجوء إلى محترفي الخداع والنفاق والأكل على كل الموائد
==============
جودة الهدف والمضمون في البرامج الترفيهية *
أحمد بن عبد المحسن العساف
مع كثرةِ البرامج الترفيهية المقدَّمة للجماهير تبرزُ أهميةُ العنايةِ بجودةِ البرنامج الترفيهي من حيثُ أهدافُه ومضامينُه لمَنْ يحملونَ رسالةً سامية للمجتمع والأفراد؛ وسوفَ نتحدثُ في هذه الورقة عن جودةِ الهدف والمضمون في البرامج الترفيهية التي يقوم عليها الصالحون حتى تكونَ متميزةً عن غيرها.
إنَّ خلاصةَ معنى الترفيه هي إدخالُ السرورِ على النفس والترويحُ عنها وتجديدُ نشاطِها وبعثُ حيويتها، وكلُّ لعبٍ ترتبت عليه فوائدٌ ومصالح تفوقُ مفاسِدَه فهو جد.
أهدافُ الترفيه: ( مختصرة من كتاب: قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية - مادون رشيد).
• الترويحُ والاستجمام.
• صرفُ شيءٍ من الطاقة.
• التخلصُ من بعضِ الصفات السلبية ( خاصة مع الصغار والشباب ).
• الإعدادُ للحياةِ المستقبلية ( للصغار والشبابِ غالباً).
• التنفيسُ والتهدئة.
• التوازن ( للكبار غالباً).
وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الجودةَ تتضمنُ عدَّةَ مَعانٍ مثل:
o التحسينِ المستمر.
o العملِ الجماعي.
o المراجعةِ المصاحبةِ للعمل.
o الاستجابةِ لطلباتِ وحاجاتِ المستفيدين.(6/199)
o خفضِ التكاليف وتقليلِ الوقت اللازم لانجاز المهمات ويكونُ ذلكَ بأداءِ العملِ الصحيحِ بطريقةٍ صحيحةٍ من المرة الأولى.
ونبدأُ بالحديثِ عن جودةِ البرامج الترفيهية من حيث الأهدافُ لأنه أساسٌ لما بعده؛ وينتظمُ تحتَ سِلكِ هذه المفردة عدَّةُ أمورٍ منها:
1. أهميةُ البُعدِ التعبدي: لأن الترويحَ والاستجمامَ عبادةٌ إذا أُريدَ منهما حملُ النفسِ والآخرين على الطاعاتِ والجدية أو نقل المستفيد من الضلالة إلى الهدى.
2. العنايةُ بالجانب التربوي: تكونُ برامجنا ذاتَ رسالةٍ تربويةٍ عامة لكلِّ مَنْ يشارك فيها؛ والتوفيقُ والهداية من الله.قال جلَّ شأنه :" لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب.. " الآية111 من سورة يوسف.
3. الحذرُ من الحيادية: والحيادُ يكادُ أن يكونَ معدوماً خاصةً في زمن المواجهة المعلنة.
4. صناعةُ النموذج: ليستفيدَ منه المصلحون - حيثما كانوا - أو من خطوطه العريضة.
5. الظفرُ بالمرجعيةِ الترفيهية والترويحية.
6. تغييرُ مفهومِ الترفيه على المستوى الاجتماعي والثقافي وتصحيحه.
7. اكتفاءُ المشاركين بهذا البرنامج واستغناؤهم عن البرامج المحرَّمة والمضيِّعة للأوقات.
8. التدريبُ وتخريج القادة والمخططين للبرامج السياحية والترفيهية واكتشاف المواهب والقدرات.
9. الاحترافيةُ في العمل والأداءِ والفوزُ بشريحةٍ كبيرة ومتنوعةٍ من السوق.
10. التركيزُ على فئاتٍ معينة والتخصصُ بشؤونها الترفيهية.
11. استهدافُ المصايفِ والمناطقِ التي يؤمُها الناس.
وبعدَ العنايةِ بالهدفِ وجودتِه لا يصعبُ على العقولِ المبُتكرة المستنيرة بِهَدْي الله أنْ تحوزَ الجودةَ بالمضمونِ من خلال:
1. تعظيمِ حُرماتِ الله: كالتوقف للأذان والصلاة ومنع الاختلاط.
2. تعزيزِ القيمِ في أثناءِ البرامج الترفيهية.
3. تنويعِ البرامج بما يخدمُ الشرائحَ المستهدفة.
4. التجديد والإبداع.
5. الإسهامِ في بناءِ السماتِ الشخصية للمستفيدين مثل: تحمُّل المسؤولية- الانضباط-احترام الآخرين-تصحيح الأخطاء وغيرها.
6. حمايةِ المروءة " وقد نصَّ الفقهاءُ في بابِ الشهادةِ على سقوطِ شهادة المضَّحِك والساخر والمستهزئ وكثيرِ الدعابة ". ص 35 التمثيل: حقيقته، تاريخه، حكمه للشيخ بكر أبو زيد.
7. الحذرِ من السهر الطويل وإضاعةِ الأوقات.
8. ربطِ أفرادِ المجتمع بالناصحين والمخلصين كمستضافين مثلاً أو توزيع إنتاجهم الدعوي والعلمي.
9. تقديمِ مُنتجٍ ترفيهيٍ ماتعٍ وخالٍ من المحاذيرِ الشرعية.
10. أنْ تكونَ الألعابُ من رَحمِ حضارتنا؛ وإذا كانت مستوردةً فلا بدَّ من إعادةِ بنائِها بما يتوافقُ مع أركانِ ثقافتنا ديناً ولغة وتاريخاً.( ينظر: كتابي لعب العرب وخيال الظل وكلاهما لأحمد تيمور).
11. ضبطِ جوانبِ الأمنِ والسلامةِ في البرامج الترفيهية من خلال:
{ معرفةِ حدودِ المهارة والقدرة.
{ توافرِ المعدات والأجهزة المناسبة والجاهزة للأداء.
{ استخدامِ الملابس الملائمة.
{ مراعاةِ لوازم الوقت والأحوال الجوية.
{ مشاركةِ الفرق الإسعافية.
{ تدريبِ التنفيذيين على الإسعافات الأولية.
{ توضيحِ خطورة بعض الألعاب؛ مع أنَّ الأصل اجتنابها.
{ مشاركةِ فنيين خبراءَ في الأجهزة ومنقذين ومدربي سباحةٍ وغوصٍ وتسلُّق. (يغرق 5000 شخص سنوياً في أمريكا و550 شخصاً في المملكة المتحدة ).
وأخيراً أشيرُ إلى أهميةِ الالتفات إلى ما يلي:
1- إتقانِ صناعةِ التسويق خصوصاً مع وجود بيئة تنافسية غير شريفة امتزج العهر فيها مع السحر متفلِّتةً من أيِّ قَيْدٍ أو فضيلة .
2- تعلُّمِ صياغة الصورة الذهنية وإدارة الانطباعِ وفنونِ نشر الأفكار الجميلة البنَّاءة التي تنفعُ الناسَ والبلاد في الدين والدنيا؛ حيثُ أنَّ البرامجَ الترفيهيةَ مدخلٌ مناسب لبث الخير في الناس ونشر الفضيلة والدفاع عن الحق.
3- توثيقِ العمل والاحتفاظ بسجل خططه ونتائج مراجعته إضافةً إلى مجريات أحداثه بالصور الحية التي لا حرج فيها شرعاً أو نظاماً.
4- بناءِ شراكةٍ متينة مع الجهات الحكومية الأمنية والاحتسابية والإعلامية والسياحية والصحية والثقافية وغيرها. وكذلك مع القطاع الخاص والجهات الخيرية بما يعزز جودة الهدف والمضمون ولا يناقضهما.
5- مأسسةِ العمل حتى لا يرتبطَ بأشخاصٍ وأعيان.
6- التفكيرِ في بناء مدنٍ ترفيهية دائمة. أنشأ والت ديزني منتزه ديزني لاند في أنهايم بكاليفورنيا عام 1955 ( قبل 53 عاماً ).
7- إنتاجِ برامجَ ترفيهيةٍ وترويحية للأسر والقنوات الفضائية.
8- بحثِ إمكانية الاستثمار في الترفيه والترويح.
9- تبادلِ الخبرات والتجارِب داخلياً وخارجياً.
10- اتخاذِ مواقعَ على الشبكةِ العالمية للتواصل مع المختصين والجمهور.
11- صرفِ جهدٍ مناسب للألعابِ الحركية والرياضة المرغَّبِ فيها كالرماية والسباحةِ وركوبِ الخيل.
وفي الختام فهذه أفكارٌ عاجلة تحتاجُ لتمحيصٍ ودراسةٍ وربطٍ مع باقي أوراق هذا الملتقى؛ سائلاً المولى القدير لكم وللمنظمين التوفيق والمثوبة وحُسن العاقبة.
* ورقةُ عملٍ بعنوان:"جودةُ الملتقياتِ الترفيهيةِ من حيث الهدفُ والمضمون " مقدمةٌ لملتقى مديري البرامج الترفيهية والسياحية تحت رعاية شركة عطاء للتدريب والاستشارات والتنمية البشرية في الرياض خلال الفترة من 8-9 ربيع الآخر 1428.
أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض
الخميس 02 من شهر ربيع الآخر عام 1428
ahm_assaf@yahoo.com
===============
الشيء من معدنه لا يُستغرب
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
عنصرية مقننة حصل عليها الكيان الصهيوني، أو ظن أنه كذلك!
هذا ما طالعنا به قانون أمريكي جديد نصّب الولايات المتحدة الأمريكية قاضي القضاة.. قانون من الحكمة أن يظل حبيس الورق إن لم يملك موقعه الشجاعة الكافية لسحبه، و من ثم الاعتذار للعالم الذي أساء بتطاوله عليه، و للأمم التي لا تمتّ له بصله وتتباهى بعدم تبعيتها لهذا أو ذاك، ولمنظمة الأمم المتحدة الذي تجاهلها واستخف بها، وبقراراتها وباستقلاليتها، والتي لا شك يسعى لفرض عقوباته عليها هي الأخرى، إذا ما تجرأت وأصدرت إدانة ولو مبطنة على جرائم الكيان الصهيوني ضد الإنسان الفلسطيني..!!
إن محاولة تمرير هذا القانون على أرض الواقع فيه خطورة لا على شعوبنا العربية ولا على شعوب العالم؛ فهذه الشعوب قادرة بعون الله على رفض ومقاومة هذا الاستفزاز.. بطريقة حضارية أشك في فهم الإدارة الأمريكية لأبجديتها.
إن الخطورة في حقيقة الأمر تنطلق من وعلى الوحدة الوطنية الأمريكية.. خطورة لا أعتقد أن الرئيس بوش أخذها بالحسبان؛ فما يهم إدارته لا يعدو ربح الحرب الانتخابية ضد خصمه جون كيري، وفي سبيل هذه الغاية يهون مستقبل أمريكا واتحادها! فلم لا والغاية تبرر الوسيلة؟!(6/200)
إن الشعب الأمريكي متعدد الأقليات والأديان، وشعب هذه خصائصه لا أعتقد أنه سيقبل هذا القانون بارتياح ولا سياسة تنتهج هذا التحيز من إدارته؛ وعليه فالحرب الأهلية قائمة لا محالة.. حرب ستنتهي لفرض استقلال ولاياتها عن هذا الاتحاد ولو على مدى بعيد نسبياًً، هذا ما يظهر لي -والله أعلم-؛ فأغلبية الشعب الأمريكي مسيحي الديانة، ثم تأتي الديانة الإسلامية في المرتبة الثانية من تعداد السكان، لتحل اليهودية في المرتبة الثالثة، ومع ذلك فالابن المدلل للإدارات الأمريكية السابقة والحالية بشكل خاص لا يعدو القلة القليلة من مواطني الأرض الأمريكية، وبالتالي القلة القليلة من دافعي الضرائب، وبالتالي القلة القليلة للسكان.. والتي هي بالمفهوم الغربي، لا قيمة لها؛ فالإنسان الأمريكي يؤمن بالديمقراطية التي تتطلع دوما للأغلبية، وقانون كهذا لا يتناسب جملة وتفصيلاً مع المفهوم الأمريكي للعدالة؛ إذ إنه تغاضى عن حقوق الأغلبية وركز جل اهتمامه على الأقلية المزدوجة الانتماء..
إنه مما لا شك فيه أن انتماء هذه الجالية الأول للصهيونية ثم يأتي انتماؤها لأمريكا الأرض الحاضنة لتطلعات الصهيونية الاحتلالية.. تطلعات أعلن عنها ساستها بكل صراحة: (شارون) غني عن التعريف، ولا حاجة لنا هنا للحديث عن جرائمه، و لنسمع معاً (عيزرا وايزمن) الرئيس الأسبق للصهيونية الذي أعلن إيمانه التام بالإرهاب الصهيوني بقوله: "إن اللجوء إلى العنف والإرهاب، والتعاون مع الشر أمر لا بد منه لإقامة الوطن القومي لليهود". أما (بيغن) فقد قال بدوره ما يؤكد معاداته للجنس العربي: "أنتم الإسرائيليون يجب ألا تأخذكم شفقة.. أو رحمة عندما تقتلون عدوكم، عليكم أن تدمروا حضارة العرب، التي ستشيد على أنقاضها حضارتنا اليهودية"! ومن مقولاته: "لا يمكن أن نشتري السلام مع أعدائنا العرب؛ فالسلام الذي يمكن أن يُشترى هو فقط سلام القبور"! أما (نتنياهو) فمن أقواله التي يعتز والتي حرص على أن يوردها في كتابة (حرب الإرهاب) قوله: "إن الإسلام هو عدو إسرائيل، وعلى إسرائيل أن تتهيأ جيداً لمحاربة الإسلام.."! وقوله: "لا يمكن أن يقوم السلام، إلا إذا زالت إحدى الديانتين اليهودية أو الإسلام"! وخلال حكمه هدّد حلفاءه الأميركيين، بحرق واشنطن والبيت الأبيض الأميركي، إذا لم تخضع الإدارة الأميركية لشروطه في السلام مع الفلسطينيين!.
وبعد هذا التهديد المعلن بحرق واشنطن والبيت الأبيض إذا لم تخضع الإدارة الأمريكية لشروط سيدها الصهيوني، يأتي الوجيه الأمريكي (لاري سمرز) رئيس جامعة (هارفورد) ووزير الخزانة السابق في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي( بيل كلنتون) ليشير في خطاب له إلى توازي مفهومي معاداة السامية، ومعاداة الصهيونية.. معتبراً إن أي رفض لإسرائيل هو في حد ذاته معاداة للسامية!
أقترح أن يُعدّل القانون ليكون ( قانون مراقبة انتقاد اليهود للعرب والمسلمين) لعله يتماشى مع واقع الصهيونية، فإن كانت الإدارة الأمريكية راضية بتطاولها عليها؛ فنحن المسلمين والعرب نأبى الضيم سواء كان واقعاً علينا أو على غيرنا..
=============
هل تريد أن تكون سعيدا؟
عفوا...... هل تريد أن تكون بائساً؟..
إذن عليك بالنمط الغربي.. قلده في كل شيء، واجر وراءه، وعظم أولياءه، وادع إليه..
حينها وأثناءها وبعدها، وربما قبلها بقليل:
سترى البؤس بأم عينيك.. سترى الضيق والقلق، والكبت والضجر.. سيكون صدرك ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء.. ستختلط أخلاقك وقيمك، وستتبخر أوصافك الحميدة، وستفقد صحتك الجميلة، وتشيخ قبل أوانك، وتموت قبل أن تقضي آمالك...
طبعا إن كنت عاقلا فأنت لا تريد أن تكون كذلك.. وليس ثمة عاقل متيقظ يريد أن يكون كذلك...
لكن كثيرا يركضون نحو البؤس، وهم يشعرون، وهؤلاء ليسوا بعقلاء..
أو لا يشعرون، وهؤلاء في غفلة ...
قطعا ستقول: أين دليلك على ما تقول؟..
سأقول لك: ليس دليلي قولي، بل قولهم.. سآتيك باعترافهم.. هم..
وإذا جاءتك الشهادة من أهلها، فلن تكون مزورة ولا كاذبة..
أليس كذلك؟..
إذن، تابع معي هذا الكتاب:
-------------
"الإنسان ذلك المجهول"...
كتاب كتبه الطبيب الدكتور الفرنسي ألكسيس كارل الذي عاش في الفترة ما بين 1873م ـ 1944م، عمل في معهد روكفلر للأبحاث العلمية بنيويورك، ومنح جائزة نوبل لأبحاثه الطبية الفذة.
وكتابه " الإنسان ذلك المجهول" أشهر كتبه، وقد استقبل بحماسة بالغة عندما نشر لأول مرة، وأعيد طبعه عدة مرات، لأنه يشتمل على كثير من تجاربه عن الإنسان والحياة من وجهة نظر علمية بحتة..
هذا الكتاب يحكي تعاسة الإنسان الغربي الناشيء في أحضان الحضارة الصناعية المادية، ويقر بعجزه عن تحقيق:
السعادة الدائمة.. والبقاء بلا ذبول وضعف.. والحياة الأبدية..
كما يبين فيه عنصرية الكاتب، وتفضيله للرجل الأبيض الغربي على سائر البشر في الأرض.
هذا الكتاب وثيقة هامة كتبها رجل خبير بجسم الإنسان وما فيه من عمليات، خبير بحياة الغرب وما فيها من تعقيدات خطيرة انعكست آثارها على خلق ونفسية الإنسان الغربي..
لقد لمس مكمن الداء في حياة الغرب، وشهد بأن أمة الغرب تدمر نفسها بنفسها بما تنتجه من وسائل ظاهرها الراحة والمتعة والأمن، لكن باطنها المرض والكد والتعب والذبول والخوف..
ويكمن أهمية هذا الكتاب مع عرض ما فيه، أن تلك الوسائل المادية المخترعة في الغرب والتي كانت سببا لشقاء الإنسان الغربي وصلت إلينا بقضها وقضيضها وتغلغلت فينا، فبدأت حياتنا تنقلب وتصبح كحياة الغرب، ومعنى هذا أننا بدأنا وصرنا نسير في نفس الطريق الذي سار فيه الغرب..
فهل سنرث شقاءهم؟..
كثير من فقهاء الإسلام وأهل العلم حذروا منذ القديم من المبالغة في اتخاذ وسائل المتعة الزائدة، بل في القرآن والسنة التحذير من المبالغة الكبيرة في الاهتمام بأمور وشئون الدنيا، كقوله تعالى:
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..
(الدنيا ملعونة معلون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم ومتعلم) ..
وقد كان من الدعاء النبوي المشهور:
( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) ..
وهو كلام متين محكم.. لكن كثيرا من المسلمين لم يفقهوه حقا كما ينبغي، وأقبلوا على الدنيا إقبال الظمآن على الماء، وغرهم وفتنهم ما في الغرب من حضارة مادية، ظانين أنها تخلصهم من عناء الدنيا..
وقد نجد أنفسنا مضطرين لذكر تجارب واعترافات ألمع رجال الغرب وتقييمهم للحضارة المادية، ردا على من فتن بها من إخوتنا وأخواتنا..
قد لا يكون المؤمن محتاجا لمثل ذلك، لأن يقينه بكلام الله تعالى كاف لأن يجزم بخراب وفساد كل ما يخالف الدين المنزل، وإذا أخبر بأن الدنيا غرور وملعونة، فهي كذلك، مهما جاءت متزينة، وإذا احتاج إلى سماع كلام واعترافات الكفار فهو من باب: { ليطمئن قلبي }، فقط لا غير..
لكن هنالك جمع من إخوتنا وأخواتنا لا يأتيهم اليقين ولا يزول عنهم الشك في بطلان الحضارة المادية وفتنتها إلا بالوقوف على كلام أهلها وسماع إقرارهم بلعنة الدنيا وخطر المبالغة بها.. وهذا من ضعف إيمانهم بالله تعالى..
ولهؤلاء، ولكي يزداد المؤمنون إيمانا ننقل جملا مما اعترف به هذا الدكتور الخبير في شئون الإنسان النفسية والبدنية، وبين فيها خطورة الإغراق في متاع الدنيا.. يقول:(6/201)
" قبل أن أبدأ كتابة هذا الكتاب، كنت أدرك صعوبة هذا العمل، بل استحالته تقريبا، ولكنني شرعت فيه لأنني كنت أعلم أن شخصا ما لا بد سيؤديه، لأن الناس لا يستطيعون أن يتبعوا الحضارة العصرية في مجراها الحالي لأنهم آخذون في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد..
إنهم لم يدركوا أن أجسامهم ومشاعرهم تتعرض للقوانين الطبيعية وهي قوانين أكثر غموضا، وإن كانت تتساوى في الصلابة مع قوانين الدنيا، كذلك فهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم، ومن ثم يجب أن يتعلموا العلاقات الضرورية للعالم الدنيوي، ولأترابهم أبناء آدم، وذاتهم الداخلية، وتلك التي تتصل بأنسجتهم وعقولهم..
فإن الإنسان يعلو كل شيء في الدنيا، فإذا انحط وتدهور، فإن جمال الحضارة، بل حتى عظمة الدنيا المادية لن تلبث أن تزول وتتلاشى..
لهذه الأسباب كتبت هذا الكتاب...
من الواجب أن يحول اهتمام البشرية من الآلات وعالم الجماد إلى جسم الإنسان وروحه...
إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا..
(((( فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف، وكثيرون منا يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث))))...
ولهؤلاء كتب هذا الكتاب، كذلك كتب لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا لا فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية، بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري، فهذا الكتاب إذن كتب لكل شخص يتولى تنشئة الأطفال وإعداد الفرد أو قيادته".. 11-12
==============================
بعد أن بين سبب تأليف الكتاب، شرع في بيان تعقيد الإنسان وأنه لا زال مجهولا، وأن أسئلة كثيرة تدور حوله لا جواب عليها، قال:
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جواب جوانب معينة فقط في أنفسنا.. إننا لا نفهم الإنسان ككل..
فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة على أسئلة كثيرة مثل:
كيف تتحد جزيئات المواد الكيماوية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟..
كيف تقرر الجينس الموجودة في نواة البويضة الملقحة صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟..
كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟..." إلخ ص18
أسئلة كثيرة طرحها لعلميات تجري في جسم الإنسان: كيف تحدث؟.. لم يجد إجابة عليها...
وأسئلة كثيرة طرحها تتعلق بسعادة الإنسان وشقائه، كيف يمكن ضبطها؟..
لم يجد إجابة عليها، لأنه ربما كان يعيش إلحادا حقيقيا، يدل على ذلك بعض كلماته وألفاظه في الكتاب.. وانظر: 64،129،171،233،297
والمسلم يملك الجواب بإيمانه، فكل ما في الجسد من عمليات بمشيئة الله تعالى وأمره، وكنهها وحقيقتها متعلقة بالروح، فإذا عدمت الروح عدمت تلك العلميات، وحركة الإنسان ذاته جزء من تلك العلميات وناتج عنها..
وليس الغرض أن نبحث عن تلك الأمور، وليس من اختصاصنا أن نتوصل إلى كنهها وحقيقتها، بل ولا فائدة من ذلك، إذ الغرض من الخلق ليس هو البحث عن ذلك، إنما الغرض هو القيام بالأوامر الإلهية:
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}..
لكن الغرب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومن غرضه أن يتوصل إلى حقيقة الحياة وكيف تجري في الإنسان ليتوصل من ذلك إلى شيء أخطر وأكبر وهو محاولة بث الروح في الأموات وإعادة الحياة إليهم، بل وصناعة البشر بأيدي البشر..
لكن الروح كان العائق أمام طموحاتهم، فمهما صنعوا وأبدعوا إلا أنهم لا يملكون بث الروح والحياة في مخلوقاتهم أبدا..
إن الرجل الغربي بلغ من تشبثه بالحياة أن بذل الجهد والمال وحطم الأخلاق ليحول بين نفسه وبين الموت، أو على الأقل بين نفسه وبين الشيخوخة والكبر والهزال، لكنه أسقط في يده، وخاب مسعاه، فلم يستطع أن يحقق تقدما في الحفاظ على شباب الإنسان وموفور قوته وصحته، فضلا أن يمنع وقوع الموت..
وهنا أجد الفرصة مناسبة لأذكر مثلا حيا على ذلك:
"زراعة الأعضاء"..
وهي فكرة غربية بحتة، أصلها محاولة مد عمر الإنسان وإعطائه أكبر قدر من القدرة على التمتع والسلامة من الأمراض..
الفقهاء لدينا اختلفوا في المسألة، بين محرم ومبيح..
فأما المبيح فنظر من حيث إن التداوي جائز، وهذا من التداوي، ومن الضرورة..
وأما المحرم فنظر من حيث إن المتبرع بالعضو هو في الأصل لا يملك الحق في التبرع بشيء من جسده، لأن التبرع لا يكون إلا عن ملكية، وهو في الحقيقة لا يملك جسده، بل هو أمانة عنده..
وليس مبحثنا تقرير أحد القولين، إنما الغرض بيان أن فكرة زراعة الأعضاء وكذا الاستنساخ ما هي إلا أفكار مصدرها والدافع إليها التشبث بالدنيا، ولو كان على حساب الآخرين، أي الإنسان الغربي يريد أن يسخر كل شيء لبقائه حيا حتى بني البشر، فلا مانع لديه أن يسخر العلم والمال بل والأخلاق من أجل أن يعيش، لا بأس أن يستولي على أعضاء البشر ونفوسهم كي يتمتع هو بالحياة، وذلك الكلام ليس من فراغ، بل الحقائق والأخبار تؤكد هذا كل يوم..
إذا كان الغرب يستجيز لنفسه اختطاف الأطفال وقتلهم وإجهاض الأجنة لاستخراج مواد تافهة من أجسادهم مثل مواد التجميل، فهل يتورع عن قتل الإنسان من أجل أن يحصل على أعضائه؟..
المشكلة أن نفس الفكرة انتقلت إلى المسلمين الذين تشبهوا بالكفار في التشبث بالدنيا وكأنهم خالدون فيها، واجتهدوا في البحث عن فتاوى تؤيد هذا الفعل، وقد وجدوا من يفتي بذلك..
وإن كان هناك من لا شك دافعه إنساني، نظر إلى حالة المريض وحاجته إلى الصحة والحياة، ولم ينظر إلى حالة المتبرع، وكيف أنه سيتضرر بالتبرع، مهما قيل إنه لن يتضرر?..
فما خلق الله شيئا في بدن الإنسان إلا لوظيفة، وإزالته لا شك أنه إضرار إن لم يكن كليا فهو جزئي، وكذا لم ينظر إلى حقيقة أمر الشرع بالوجوب على الحفاظ على البدن، وأنه أمانة، لا يحق لصاحبه أن يتصرف فيه، بل هو مؤاخذ إذا أساء في ذلك:
فمن قتل نفسه فهو في النار، كما صح الأثر ..
وقد جعل الشرع دية العينين والأذنين والأنف والذكر كدية النفس..
وحرمة المسلم حيا كحرمته ميتا، كما في الأثر .. فلا فرق بين كونه حيا أو ميتا في مثل هذا..
لكن كل هذا ألغي تماما ونظر إلى جانب واحد وهو صحة المريض وبقائه حيا، وهدمت لأجل ذلك وحطمت القيم والأوامر الإلهية..
ومن المستفيد؟..
إنما هي فئة معينة هم الأغنياء الذين يملكون ثمن الزراعة..
ومن مصدر تلك الأعضاء؟..
هم الفقراء الذين لا يملكون شيئا، فيضطر أحدهم لبيع عضو من أعضائه، لينعم بمال يقيم به حياته البائسة، صار فقره وبالا عليه، فلم يعد يملك دفعه إلا ببيع شيء جسده..
هو امتهان كبير للإنسان، نراه اليوم ونسمع به في الدول الفقيرة كالهند وغيرها، منتهى البشاعة والخسة واحتقار الإنسان أن يغدو بدنه سلعة يتاجر بها، استغلالا لحاجته..
إذا كان للغرب المبرر ليعمل على تحقيق فكرة زراعة الأعضاء، وهو نظرة الاستعلاء على الغير والتشبث بالحياة، فإن المسلمين لم يكن لهم الحق في ذلك ودينهم يأمرهم بالرحمة بالآخرين، وأن يحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ويحذرهم من زخرف الدنيا، ويبشرهم بأن الآخرة خير من الدنيا وما فيها..
لكن داء الغرب: الاستعلاء والكبر، وحب الدنيا..(6/202)
سرى في المسلمين بسبب قلة التدين والإعجاب والفتنة بالحضارة، حتى صار هم الإنسان المسلم أن يحيا الحياة ليتمتع بأكبر قدر من المتع الكثيرة التي أنتجتها الحضارة، ولو كان على حساب الآخرين..
================================
لقد كانت هذه الفكرة ( زراعة الأعضاء ) ناتجة من الغرب، الذي لا يحفل بالإنسان، يقتله من أجل أن يعيش، ولا مانع من أن ينتهك جسده، ليبيعه من أجل أن يعيش، يقول الدكتور كارل مترجما عن شعوره وشعور كل الغربيين تجاه الآخرين:
" والجنس الأبيض، منشيء الحضارة، هو أصلب الأجناس كلها" ص14
"الأجناس الوضيعة تسكن عادة البلاد التي يكون ضوءها قويا ومتوسط درجة حرارتها مرتفعة". ص245.. وانظر130،179،242،328،335،341.
لكن لماذا كان الجنس الأوربي مفضلا على سائر الأجناس، يعلل ذلك بأمرين:
الأول:
أصل الذات وتكوين الجهاز العصبي، فيقول:
" وتدين الأجناس البيضاء بنجاحها إلى كمال جهازها العصبي، إذ على الرغم من أن جهازها العصبي رقيق للغاية وسريع الاهتياج فإن في الإمكان السيطرة عليه، وترجع سيادة الأجناس البيضاء إلى الصفات الاستثنائية لأنسجتها وإحساساتها".. ص131
الثاني:
البيئة..... يقول:
"ولقد ثبت أن الإنسان المتحضر يفسد في الطقس الاستوائي، وعلى العكس من ذلك فإنه ينجح في الجو البارد، وآية ذلك أنه يحتاج إلى طريقة في الحياة تشتمل على نضال مستمر، وبذل الجهد العقلي والعضلي، واتباع نظام فسيولوجي وأدبي، كذا بعض الاحتياجات الخاصة، فمثل هذه الأحوال تعود الجسم على الإجهاد والأحزان، إنها تحميه من المرض وبخاصة الأمراض العصبية، كما أنها تدفع الإنسان دفعا لا يقاوم ليتغلب على العالم الخارجي".. ص132.
إنه مأخوذ ومغرم ومفتون، فتن بالحضارة المادية التي أنتجها الغرب، ففضلهم على سائر البشر، ونسي الحضارات التي شهدها العالم على أيدي غيرهم خاصة المسلمين الذين نشؤوا في البلاد الحارة صيفا والباردة شتاء، يومها كانت أوربا في قمة التخلف، كانوا يعيشون في القرون الوسطى، وكانت تسمى بالعصور المظلمة، من سماها كذلك؟..
هم سموها، إذن هم يعترفون بتخلفهم وعيشهم في الظلام يوم كان المسلمون يعيشون في النور والتقدم والحضارة، وحضارتهم لم تكن إلا حسنة من حسنات المسلمين عليهم، لما علموهم طرق العلم والبحث في وقت كانوا أجهل الجاهلين بها، فكيف انقلبوا بين شمس وضحاها أرقى الأجناس البشرية؟..
إنه بمقتضى تعليله يجب أن يكون الجنس الأوربي راقيا منذ بدء الخليقة ووجودها على الأرض...
لكن التاريخ يشهد أنهم لم يكونوا كذلك في كل التاريخ، بل مرت عليهم أطوار وقرون تمتد إلى ألفي عام وأكثر كانوا فيها همجا لا يفقهون شيئا، وهذا ينقض دعوى الدكتور من أصله..
فما حكاه من سبب لتفوق ورقي الجنس الأوربي موجود فيه باستمرار دون انقطاع، فالجهاز العصبي لم يتغير، والبيئة لم تتغير، ومع ذلك عاش في تخلف..
إذن على الرغم من بحوث هذا الدكتور وقدرته وشهرته إلا أن التعصب أعماه عن الحقيقة، وفضل بغير برهان صحيح..
هذا ومن المعلوم أن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وله فائدة، ما خلق الهواء البارد والحار إلا لحكمة وفائدة، والعدل الأخذ من كل شيء بالمقدار المناسب، فمقتضى العقل أن يكون المتعرض للهواء البارد على الدوام ناقص كنقص المتعرض للهواء الحار على الدوام، وإنما الكمال في المتعرض لهذا تارة وهذا تارة...
وعلى ذلك فالذي يعيش في بيئة تجمع بين البرودة والحرارة، كجزيرة العرب، أكمل من الذي يعيش في بيئة منفردة بأحد الطقسين...
إذ سيناله أوصاف ومزايا كل طقس، فالبرودة تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير، والحرارة تزرع فيه العاطفة والحركة... بخلاف من ينفرد بالطقس البارد فإنها تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير دون العاطفة، والعكس فيمن يعيش في طقس حار، وبما أن الإنسان لا يكمل حتى يجمع بين العقل والعاطفة، فالكامل والأرقى هو من عاش في بيئة تجمع بينهما، وهذا أمر شهد به المفكرون وجزم به ابن خلدون في مقدمته (1)، بل ونصوص السنة تشهد بذلك حين فضلت العرب (2) ، وهم ساكنوا الجزيرة على غيرهم من سائر البشر..
إذن هذه الحقائق تثبت عكس ما زعمه الدكتور..
في الحلقة القادمة نتكلم عن وصفه لحياة الغرب في ظل الحضارة المادية...
======================
الكتاب أصله وضع لبيان أخطاء الحضارة المادية، وكيف أنها أنشئت دون اعتبار لوضع الإنسان...
لقد أمعن المؤلف في إظهار سوءاتها.. ومع أنها جلبت كثيرا من الراحة والمتعة للإنسان إلا أن المؤلف متشائم جدا من ذلك التطور..
ويبين بالدراسة والبحث أن كثيرا منها ما هي إلا أدوات تعمل على تدمير قوى الإنسان العقلية والروحية والبدنية..
وليؤكد ما ذهب إليه يقارن بين حياة الزراعة وحياة الصناعة..
حياة الزراعة التي كان الإنسان يقوم فيها بأعماله بنفسه، بيديه وساعديه وقدميه.. يتعب ويواجه مصاعب الحياة وتقلبات الأجواء والفصول، ويعيش حياة البساطة والهم الدائم..
وحياة الصناعة التي صار الإنسان فيها معتمدا على الآلة وحدها في كل شيء، فقل تعبه وجهده وهمه وكفاحه..
إنه يؤكد أن حياة الزراعة، حياة الكفاح والكدح أجدى وأحسن للإنسان من حياة الصناعة، حياة الراحة والدعة والسكون..
يقول في بيان انقلاب حياة الناس في أوربا:
" من الواضح أن بني الإنسان رجعوا مسرورين بالحضارة العصرية، فقد هجروا الريف وتجمعوا في المدن والمصانع.. واستخدموا في لهفة طريقة الحياة ونظم العمل والتفكير التي استحدثها العهد الجديد، ونفضوا عنهم عاداتهم القديمة بلا تردد، لأن هذه العادات كانت تقتضيهم بذل مجهود كبير.. إذ إن العمل في المكتب أو المصنع أقل عناء من العمل في المزرعة..
ومع ذلك، فحتى حياة الريف قد هانت وسهلت بسبب الفنون الحديثة، فالمنازل العصرية تجعل الحياة سهلة لكل إنسان، إذ إنها بما يتوفر فيها من دواعي الراحة والدفء وجمال الإضاءة، توفر للقاطنين فيها شعورا من الرضاء والارتياح.. كما أن الأدوات العصرية أتاحت للسيدات راحة لم يكن ينعمن بها فيما مضى، فأصبح العمل الذي كان يستلزم بذل جهد شاق كل يوم يؤدى في وقت قصير وبلا جهد تقريبا…
وفضلا عن ذلك فقد أطلقهم العلم العصري من القيود الأدبية التي كان يفرضها عليهم النظام الديني البحت.. وهكذا حررتهم الحياة العصرية من القيود الثقيلة التي كانوا يعانون منها الأمرين، كما أنها تحفزهم على العمل للفوز بالثراء بأية وسيلة مستطاعة بشرط ألا تؤدي بهم هذه الوسيلة إلى السجن..". ص31-32.
وبعد أن بين مكتسبات الحضارة من حيث الحالة المادية والتعليم والراحة والصحة والمتع.. شرع يبين في تكرار مستمر الآثار السلبية للحضارة التي أنشأت لمجرد التطور والتقدم دون النظر في ملاءمتها للإنسان.. يقول:
" إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا".. ص37.
وينتقد بشدة موقف العلماء والأثرياء، الذين كانوا السبب في إنشائها.. العلماء بعلمهم، والأثرياء بأموالهم… يحملهم السبب في انحطاط الإنسان في الغرب.. فقد خدموا التطور والبحث والإنتاج دون النظر إلى الإنسان، وهل تلائم وضعه، وتحسن إليه.. أم أنها لا تلائمه، وتسيء إليه؟.. يقول:(6/203)
" من الواضح أن العلم لا يتبع أية خطة، وإنما يتطور اعتباطا".. ويقول:
" رجال العلم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، وإنما تقودهم الصدفة والتفكير الحاذق… وكل منهم يعتبر عالما منفصلا تحكمه قوانينه الخاصة.. وبالجملة إن الاكتشافات تتطور دون إدراك سابق لنتائجها".. ص37
ويمضي في بيان كيف أن رواد الحضارة ومنشئيها من أصحاب المال إنما أردوا خدمة أغراضهم الخاصة فقط، يقول:
" لقد أُهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالا تاما عند تنظيم الحياة الصناعية.. إذ إن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ..
((الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف))..
حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال..
وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم، لقد بنيت المدن الكبرى دون اهتمام بأمرنا…
إن المدينة العصرية تتكون من مبان هائلة، بينما تمتليء شوراعها الضيقة برائحة البترول وذرات الفحم والغازات السامة، كما تمزق أعصابهم ضوضاء سيارات الأجرة والنقل والأتوبيس، وتحتشد بصفة دائمة جماهير غفيرة من الناس.. وهكذا يتضح أن من خططوا هذه المدن لم يقيموا وزنا لخير سكانها.
تتأثر حياتنا بالإعلانات التجارية إلى حد كبير، وهذا اللون من الدعاية يهدف إلى تحقيق مصلحة المعلنين أكثر من مصلحة المستهلكين، مثال ذلك، لقد أوهمت الدعاية الجمهور أن الخبز الأبيض أفضل من الخبر الأسمر، وهكذا ينخل الدقيق مرة بعد مرة بدقة ليجرد من عناصره الغذائية النافعة..
ومعالجة الدقيق على هذا النحو يجعل في الإمكان الاحتفاظ به فترات أطول، كما يسهل صناعة الخبز، وبذلك يستطيع أصحاب المطاحن والمخابز أن يحصلوا على نقود أكثر، بينما يُطعم المستهلكون بخبز أردأ، وهم يعتقدون أنه خبز ممتاز..
ومن ثم فإن سكان البلاد التي يتخذون من الخبز غذاء أساسيا آخذون في الانحطاط والتدهور..
إن مبالغ ضخمة تنفق في الدعاية، ونتيجة لذلك أصبحت كميات كبيرة من المنتجات الغذائية والطبية، التي لا فائدة منها على الأقل، وغالبا ما تكون ضارة، أصبحت هذه المنتجات ضرورية لبني الإنسان المتحضرين…
إن التعليم الذي تنشره المدارس والجامعات يتكون بصفة رئيسية من تدريب الذاكرة والعضلات، ومباديء إجتماعية معينة، كذا عبادة الرياضة.. فهل مثل هذه النظم ملائمة حقا للإنسان العصري، الذي يحتاج قبل كل شيء إلى التوازن العقلي وقوة الأعصاب وأصالة الحكم والشجاعة البدنية والأدبية وقوة الاحتمال؟.
لماذا يتصرف علماء الصحة كما لو أن بني الإنسان معرضون فقط للأمراض المعدية، في حين أنهم معرضون أيضا لهجمات الاضطرابات العصبية والعقلية، وكذا ضعف العقل؟…
وهكذا يبدو أن البيئة التي نجح العلم والتكنولوجيا في إيجادها للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت اعتباطا وكيفما اتفق دون أي اعتبار لذاته الحقيقية" ص38-40.
إن الآثار السلبية قد نالت جميع قوى الإنسان العقلية والبدنية والروحية.. هكذا يقرر الدكتور كارل..
_________________________
(1) مقدمة ابن خلدون ص82-87، المقدمة الثالثة والرابعة..
(2) من ذلك: ( أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم....).. رواه أحمد.. فهذا يدل على فضل العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم..
ومن ذلك: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).. رواه مسلم، مختصر مسلم 1523.
أبو سارة
=============
" بئس بيت مطبخه أكبر من مكتبته "
نور الجندلي
أرفعُ هذه العبارة شعاراً عالياً ، أتجرّأ بها على كلّ ثقافةٍ حديثة ، وأجابهُ بها خضار الصّين ، وبهارات الهند ، وحلويات الشّام بكلّ عناد ؛ تلك الألوان الساحرة من الطعام ، والتي احتلّت المكانة الكبرى في القلوب ، في كل بيت على السّواء ، بغضّ النظر عن ثقافة أهله ، أو مستواهم العلمي . وهي تتصدّر بقوّة أحاديث المجالس ، فترجح كفّتها في ميزان اهتمامات الناس ، لتطغى على أخبار وقضايا الأمة الإسلاميّة بأسرها ، وتغدو القضيّة الأسمى التي يطمحون لها ، والحديث الأمتع الذي يصغون إليه باهتمام ..
أصبحت العلاقات الزوجيّة تعاني التخمة ، مذ سمعت النساء بالحكمة العظيمة " الطريق إلى قلب الرّجل معدته " ولما أصبحت ميزة الزوجة المثالية أن تكون ذات نفس متميز في الطهي .. دون التفات إلى عقلها وحكمتها ، والطريقة التي تتبعها في تربية أطفالها .
التّرف يزداد ، والأطفالُ يزدادون سمنة ، وأمراض السّكر تنتشرُ مثل النار في الهشيم . ولا بأس في كلّ هذا فثقافتنا أساسها علوم المطبخ لتطغى على كلّ علوم .
في زمان مضى .. كانوا يحمّلون المرأة إلى بيت زوجها وصايا كثيرة ، منها الطاعة والحب والاحترام ، وكانت تحمل في قلبها أولاً كتاب الله ، إما حافظة ، أو طالبة تتعلمه ، وتتفقه أسراره بين يدي زوجها ، فترتقي الأسرة ، ويتكامل البناء بأفراد ينطلقون إلى الحياة علماء أو دعاة مصلحين ..
وفي زماننا ، تتصدر كتب الطبخ المكان الرئيس في كل مكتبة ، ويكفي أن ترمق تلك الكتب من بعيد لتدرك مدى اهتمام تلك المرأة وخبرتها ووعيها ، وحرصها على بيتها .
ولك أن تناقش أطفالها ويناقشوك في ثقافة ( الديجيتال ) المعلّبة أو ( البلاي ستيشن ) ، ولكن .. احذر من الاقتراب إلى ثقافتك ، ثقافة أمتك الإسلامية ، فهي بعيدة كل البعد عن مسار التفكير أو الاهتمام.
ثورة الطعام والمطبخ قد احتّلت جزءً لا يستهانُ به من حياتنا ..
أصبحت المطابخ أكثر اتساعاً في رقعتها عن ذي قبل ، واتصلت بها ملحقات أخرى ، تدفع عليها المبالغ الباهظة ، لتكوّن الأسرة الراقية !
وأصبح مد العلم والكتب ينحسر ..
الرائي والحاسوب تصدرا في وجودهما حياتنا ، فمحيت كل معالم قديمة للعلم الأصيل ، وأصبحت الكتب فن قديم لا يتداوله إلا أناس مازالوا يحملون أفكاراً من عصورٍ بالية !
كلّ شيء حولنا أصبح جميلاً معداً لراحتنا ، سهل المنال ..
لكن قلوبنا تزداد فقراً ، وعقولنا تزداد جهلاً ..!
يُرعبني التفكيرُ بالمستقبل ، وما سيؤول إليه الحال بعد أعوام !
هل سنودُ إلى زمن الجاهلية بثوبٍ حديث ؟ نرطنُ بكلمات أعجميّة لنتظاهر بالثقافة ، ونتفاخرُ بموسوعات الرشاقة والطبخ التي تحشو عقولنا بترهات .
ونتناسى تاريخنا ، وإرثاُ عظيماً ينتظرنا في طيات الكتب المنسية .
سنفتخرُ حقاً بوضع أطفالنا ، ومستواهم في المدارس الأجنبيّة ، وسنسعدُ كلما تملصنا من حضارتنا السوية ..
لن نشعر لحظتها بقسوة قلوبنا ، ولن نبكِ موت الضمير في شعوبنا ، ولن نلتفت أبداً إلى ماضينا .. لأنّ سكان الحفر المظلمة لن يلحظوا يوماً جمال التحليق فوق القمم .
أخيراً هي ليست ثورة على الطعام ، ولا تصفية لحساب قديم بيننا ، إنما هي دعوة لتدارك التقصير ، وإصلاح الخلل في سائر الحياة ككل ، ولطرق أبواب العلم النافع من جديد ، وهي دعوة للتشبث بالجذور ، والتنبه من الغفلة ..
فليكن همنا ملء وعاء العقل بما يثري وينفع ، فـ " ما ملأ امرئ وعاء شراً من بطنه " .
===========
تبدل الأحوال ! (1)
هل خلت أجدادك الغر الميامينا *** وهم غضاب وفي الأرماس يبكونا
بنوا لنا المجد فازدانت مرابعنا *** وحققوا في مغانيها أمانينا
دعوا إلى الحق أهل الأرض واحتملوا *** كل الصعاب ليعلوا الحق والدينا(6/204)
وأسعدوا بالهدى من دربهم سلكوا *** وأتحفوهم به عزا وتمكينا
وأدبوا برماح النصر من وقفوا *** للصد عن دينهم كيدا وتوهينا
فرفرفت راية الإسلام عالية *** في الأرض تهدي من استهدى وتهدينا
وأصبح الشرق حتى الصين يتبعن *** والغرب يعلم ما أسدت أيادينا
وكانت السحب أنّى أمطرت وغدت *** خراجها من جميع الأرض يأتينا
وسل إذا شئت في الأقطار أندلسا *** تنبئك عن مجدنا فيها وماضينا
هناك كان لنا علم ومعرفة *** ونجدة قد درى عنها أعادينا
هناك كان ملوك الأرض قد قعدوا *** ليأخذوا العلم منا بين أيدينا
كانوا إذا أُمرُوا لبوا أوامرنا *** وإن نهينا يكفوا عن مناهينا
وكان تاجرنا يغدو إلى بلد *** فيها من الكفر ما يرضي الشياطينا
فيصطفيه كبار القوم قدوتهم *** ويهرعون إلى الإسلام راضينا
وهذه الأرض "2" لا زالت منائرها *** تروي الحقائق قرآنا وتأذينا
فسل فطاني وسل آتشي وسل ملقا *** وسل مراوي وسيبو"3 " عن مساعينا
وسل بخارى ودلهي عن محامدنا *** وسل فينا التي ذاقت مواضينا
ماذا دهانا بني الإسلام فانقلبت *** أحوالنا ما الذي هز الموازينا
غدا الأذلون في التاريخ قادتنا *** وآمرينا بما يشقي وناهينا
غزوا ديارا لنا كانت محصنة *** ودنسوا المسجد الأقصى وسادونا
وأخرجوا أهلها من دورهم فغدوا *** مثل اليتامى بلا مأوى يعيشونا
وكم منازلَ قد دكوا وكم قتلوا *** من أنفس وكم اقتادوا مساجينا
وكم نساء تنادت أين معتصم *** يذود عنا أعادينا ويحمينا
فلم يجدن سوى التصفيق يطلقه *** مخنثون وأهات المغنينا
وكم شيوخ عظام سادة علما *** كانوا أعزاء قد أضحوا مهانينا
وكم صغار رأوا آباءهم ضعفوا *** ولم يروا نجدة ترجى لهم فينا
ولم يروا ملجأ إلا مساجدهم *** فيمموا نحوها واستلبثوا حينا
وأنصتوا فإذا الداعي يقول لهم *** الله أكبر من كل المعادينا
وأمهم قارئ الأنفال منتقلا *** إلى براءة تفسيرا وتبيينا
وهاهم اليوم قد جادوا بأنفسهم *** وحققوا بيعة الأطفال ماضينا
سلاحهم ضد قوات العدا حجر *** مبشر أنه يوما سيدعونا
وكم أذاقهم حزب اليهود أذًى *** وفتنة وهمُ صُبرا يلاقونا
ولا صريخ لهم من أمة بعدت *** عن الصراط الذي قد كان يعلينا
فأصبحت هملا ذلت لقادتها *** وهم لأعدائها بئس الأذلينا
وشعب الأفغان قد أبدى بطولته *** مجاهدا في سبيل الله يفدينا
أهان جيشا عظيم العد مدخرا *** من عدة الحرب ما يُفني الملايينا
ولم يزل صامدا ضد العدا وهمُ *** شرق وغرب وأذناب لهم فينا
وكل شعب لنا في الأرض ممتحن *** بفرقة وشتات في أهالينا
ويعظم الخطب أن يسعى لفرقتنا *** من يدعي أنه بالعلم يهدينا
كل له في الملا حزب يؤيده *** إذا أطعناه في ظلم يوالينا
وإن عصيناه كنا في شريعته *** على الضلالة لم يفتأ يعادينا
وعالَم الأرض يشكو من تأخرنا *** عن هديه بالهدى الباقي بأيدينا
وكم بلاد أفادت من حضارتنا *** ولم تزل آية التحضير تبكينا
ضاعت وصارت مغانيها تناشدها *** عودوا إلينا بوحي الله فاهدونا
وذي الجزائر "2 "يشكو اليوم ساكنها *** الكفر في دارنا يا قوم يغوينا
جاءت جحافله تسعى لردتنا *** بالمال والطب والتعليم يغرينا
في كل ريع ترى الصلبان عالية *** على منائرنا تحكي تحدينا
وأصبح الآمرَ الناهيْ لأمتنا *** من ليس منا ولكن من ذرا رينا
يعطي الولاء لمن يبغي مضرتنا *** وينصر الكفر مختارا ويخزينا
ويهدم الحق بالتعليم متبعا *** نهجا تأسس في دار المضلينا
وينفث السم بالإعلام يقتلنا *** عقيدة وسلوكا في مآوينا
فكان ذلك توهينا لأمتنا *** دينا ودنيا وتثبيتا لباغينا
يا أمتي استيقظي فالنوم طال بنا *** والذل أجناده حلت بوادينا
والعز فارقنا والوحي يرشدنا *** إلى معالم تهدينا وتحيينا
-----------------------------
"1 " من سلسلة في المشارق والمغارب .
"2 ، 2 " إندونيسيا التي أنشئت فيها القصيدة .
"3" بلدان في تايلاند وإندونيسيا وماليزيا والفليبين للإسلام فيها تاريخ
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية؟
صخرة الخلاص
في البدء قالت.. "كيركبا تريك" المستشارة في إدارة الرئيس "ريغان" وممثلة أمريكا في الأمم المتحدة، تؤكد أن الديمقراطية مجرد لعبة لتحقيق مصالح الغرب، وأن قيم الغرب وسياساته خاضعة للعبة المعايير المزدوجة.. تقول :
( إنه ينبغي علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قبلنا تصارع أعداءها من أجل البقاء، وإن الإصلاحات المقترحة بعد ذلك لا بد أن يكون منها إحداث التغيير، وليس إقامة ديمقراطية).
تساؤل عقلي مشروع يطوف في أذهان بعض الإسلاميين والعلمانيين العرب: لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة؟
وجواب هذا التساؤل معلق على جواب تساؤل آخر: فهل يوجد أصلاً ليبرالية عربية حقيقية؟!
هنا جوهر المشكلة لأن بعض الإسلاميين وخصومهم يخلطون بين العلمانية وبين الليبرالية، فلا يلزم من كون الإنسان علمانياً أن يكون ليبرالياً، إذ العلمانية موقف أيديولوجي فكري من الدين أو النص أو المقدس، فالعلماني قد يكون ديكتاتورياً -وهذا الغالب- وقد يتحالف مع الشيطان، ومع الديكتاتور، ومع أي جهة كانت، ما دامت تساعده في إدارة رحى معركته ضد الدين أو ضد المتدينين.
لذا فلا وجود موضوعي لليبرالية عربية، ولا أدل على ذلك من غياب ممارسة حقيقية للتسامح واحترام المخالف، وغياب أي مشروع إصلاحي مدني حقيقي، ينفع المواطن العربي في عالمنا العربي المتألم!
إن سلوك العلماني العربي جعل "الليبرالية" كلمة مكروهة مشوهة تحتقرها الجماهير الصارخة بآلامها، لأنها تشاهد بأم أعينها خيانة النخب العلمانية العربية لهمومها وآمالها، ولا تجد من هذه النخب إلا تحالفاً وتبريراً للدكتاتور، مع أن هذه النخب المتخمة بالعلمنة تصيح صباح مساء قائلة: قدسوا الحرية كي لا يدوسكم الطغاة!
وهم كل يوم بل كل لحظة يدوسون هموم الشعوب، ويتحالفون مع الشيطان الأصغر والأكبر، كي يتمكنوا من أغراضهم الخاصة، ونزواتهم الشخصية.
العقلاء -يا سادة- مع اختلافهم وتباين توجهاتهم فإنهم قد يحترمون من يخالفهم إذا رأوه صادقاً مع نفسه ومبادئه. إن الليبرالي الذي يؤمن بمبادئه ويمارسها حقيقة، ويدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، ويتسامح مع خصومه، ويتقبلهم، يضع له خصومه حساباً لأنهم يعلمون أنه مؤمن حقيقة بقضيته.
ومن يتأمل الصحابي الكريم "عمرو بن العاص" الذي يقول عن الروم.. ما ورد في صحيح مسلم ما قد يبيّن بعض طباع هؤلاء الناس، مع إنصافهم وعدم غمط حقهم. فقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند "عمرو بن العاص" رضي الله عنه :
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال له عمرو : أبصر ما تقول . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً :
إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
و أوشكهم كرة بعد فرة .
وخيرهم لمسكين و يتيم وضعيف .
وخامسة حسنة وجميلة : و أمنعهم من ظلم الملوك).(6/205)
فتأملوا كلام هذا الصحابي العظيم رضي الله عنه، وكيف أنصفهم وشهد لهم بما هم أهله، مع كفرهم وعداوتهم، وتأملوا في المقابل المثقف العلماني العربي فستجدونه -في أكثر الأحيان- متسلطاً دكتاتوراً محارباً للدين في أصوله وتفاصيله، لا يهمه مسكين أو يتيم، بل سليط اللسان بذيء الألفاظ، إذا خاصم فجر، عنده كل القابلية لأن يطعن في أعراض خصومه بالبهتان، تجده يمارس أشد أنواع الإقصاء، فهو دغمائي، سادي -كما يعبرون- ليس عنده أي قابلية لأن يتسامح.
وما أجمل ما صوره النصراني العلماني ( رفيق حبيب ) لهذه النخبة حينما قال:
(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب ، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة ، إن وكلاء الغرب يشكون من عدم إتاحة الفرصة كاملة لحرية البحث ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا قيود على البحث العلمي ، والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من الخطورة ، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعديا على كل مقدسات الأمة ولذلك فانه يواجه من مجموع الأمة ومن هنا يشكو وكلاء الغرب بسبب إن حرية البحث العلمي مقيدة والحقيقة أن التعدي على مقدسات الأمة مقيد ) .
العلماني يريد أن يمارس حريته -عبثه- مع المقدس لأنه يرى أن لا مقدس إلا هو، الدين لا قداسة له، هو متغير ومتحول، وغير ثابت، لكن الديكتاتور عند العلماني العربي ثابت غير متحول، ولذا فهو يلعق حذاء الدكتاتور ويسبح بحمده، يغرد بسرد إنجازاته، إنه يعبده ويتخذه آلهة، ولا ينبس بكليمة صغيرة من أجل ضمير الشعب المطحون تحت قهر الفقر والذل!
العلماني العربي قوي شجاع حينما يتكلم عن الله سبحانه، وعن دينه، يدعي بطولة رخيصة، فإذا ثارت الجماهير المؤمنة صارخة متألمة من أجل ربها وحبيبها نبيها ودينها، صاح العلماني العربي: أين الحرية؟ أين التسامح؟ أين قبول الرأي الأخر؟!
يا له من شجاع وجريء على دين الله، ويا له من جبان ورعديد ومنافق حينما يتحدث عن الديكتاتور!
إن الجماهير مقتت من يطنطن بالحرية وتراه لا يمارس حريته إلا حينما يتحدث عن الله ودينه، لكنه لا يتحدث بهذه الحرية حينما سرقت اللقمة الصغيرة من أفواه ملايين الشعوب، ولم يتحدث عن الأيتام، عن الفساد، عن مشاريع حقيقية ينتفع بها الإنسان.
إن ما تروجه العلمانية الغربية والأمريكية، والتي تتشدق بالحرية والديمقراطية هذه الأيام وقبلها هي أبعد ما تكون عن تطبيقها وممارستها في العالم العربي والإسلام، لأنها تعتقد أننا غير قابلين لمثل هذه القيم، ومهما تشدقوا فثقوا أن ديمقراطيتهم لا تباع ولا تستبدل، إن الديمقراطية مجرد فزاعة للأنظمة وللحكومات، وجزرة للشعوب اللاهثة.
ولذا نتفهم وجهة نظر الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي "أوليفيه روا" حينما يتحدث عن خيارات الغرب تجاه الحرية والديمقراطية في العالم العربي البائس؛ حينما تتعرض مصالحه للخطر، فهنا يضحي بقيمه وتعاليمه المقدسة، في سبيل الحفاظ على مصالحه.. يقول:
(عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة).
وقد أكد هذه الحقيقة ودون مواربة أو خجل ( أدوارد ما نسفليد - وجاك سنايدر ) عندما تحدثا عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة ضربهما.. يقولان :
( في كلتا الحالتين، كان لا بد من انتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة " فاشية " نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها).
ولذا يقرر الغرب أنه من الخطأ الاستراتيجي دعم أعظم القيم الغربية "الديمقراطية و الحرية" قيمةً في بلدان تتقاطع مصالحها مع تلك القيم، وهذه الحقيقة يقررها المفكر الغربي "روبرت كانمان" في كتاب ألفه لهذا الغرض اسماه ب " الديمقراطية والمعايير المزدوجة " ومما قاله في هذا الكتاب:
( إن الجميع - في الغرب - يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية بجميع صورها في العالم الإسلامي ).
وإذا كان العلماني العربي يدرك ذلك سياسياً، فهو لا يجد غضاضة في وضع يده في يد أعداء دينه ووطنه، والصياح دائماً بالحرية التي تعني له: أنه يجب أن يلعن الدين ويشتم الله بدون أن يضايقه أحد، وهو يعلم أن الغرب لن ُيصدر أقدس قيمه "الحرية" لحفنة من البشر يراهم دون قيمة البشر !
وحينما نتجه للمرأة وما أدراك ما المرأة؟! تجده يتحدث عن المرأة.. عفواً .. ليست المرأة الإنسان، ليست المرأة الأم.. ليست المرأة اليتيمة.. ليست المرأة الفقيرة.. إنه يتحدث عن المرأة الصغيرة الجميلة، إنه يريد أن لا يتعطل نصف المجتمع في البيوت لصناعة الجيل القادم رجلاً ونساءً، إنه يريد أن يعمل نصف المجتمع قريباً منه وتحت ناظريه، ليخلو البيت !
ألم يقل كبيرهم العلماني المشهور "بوعلي ياسين" :
( الرجل المثقف -العلماني- في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له ، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة .. إنه يريدها غرّة، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات ).
إن الليبرالي الغربي -المؤمن بكرامة أمته- قدم نفسه وحياته قبل كلماته في الصحف المستأجرة، مات هو يخدم قضيته، ضحى من أجلها، مات وهو صارخ بها، لأنه يعتقد أن الكرامة ملك للإنسان في بلاده يجب الحصول عليها، وهي حريته وليبراليته، ولذا وقف ضد الدكتاتور، ومات تحت جنازير دباباته، وقتل برصاصه، لكنه عاد وفي كل مرة حتى بناء حلمه على أرض الحقيقة.
في أمريكا حينما ضربت في صباح عجيب، في ضحى 11 سبتمبر، توحدت العقول والقلوب، وتوحد اليمين مع اليسار، وتوحدت الديمقراطية مع الجمهورية، وتوحد الشمال مع الجنوب، وتوحد العلماني والليبرالي مع الزعيم الراديكالي الأصولي الإنجليكاني!
لقد تناسوا كل خلافاتهم وتوحدوا في وجه العدو الخارجي، لقد قرر زعيمهم "بوش" الإنجليكاني الجديد أن يتحفظ على بعض حقوق الليبرالية في وقت الأزمة، فأقروا له وأخبتوا، طاعة وحباً كرامة، لقد صارت أمريكا -يا سادة- كقطعة معدنٍ صلبة في زمن الضربة.
لكن -ويا أسفي على لكن- تجد العكس عندنا، دهمنا العدو بخيله ورجله، بصحفه وقنواته، سدد سهامه للنيل من بلادنا وشعبنا وقيادتنا وتقسيم وطننا، طعن في عقيدتنا، وتهجم على عقولنا، وسخر من كرامتنا، وداس على عزتنا.. فماذا فعلنا؟
شُتت الجهود، وتفرقنا، وتمزقنا، وصار العلماني يرحب بالفاتح الجديد ويرحب به، ويهدد من خلاله قائلاً: [ غيروا بأنفسكم أحسن من يجيكم من يغيركم بالعصى] !
لقد ابتزوا في الفتنة، وشطروا البلاد، وجعلوا منبر الكلمة منبراً للطعن في ضمير الأمة، وتشتيت كلمتها، وطعن في علمائها، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور، واستأجروا كل مريض وصاحب سوابق، لقد مزقوا عقل الوطن وضميره وانتماءه.(6/206)
ثم خرجت خارجة من شباب الوطن تضرب بره وفاجره، ولا تتحاشى مؤمنه، كفرت بطاعة الإمام، وقتل أهل الإسلام والأوثان، فبكى الوطن، واشتكى الدين إلى الله، وسكبت العبرات على عقول تاهت ووجوهٍ شاهت.
قفز الليبرالي في منبر الكلمة وفرح بهذا الخنجر الذي طعن خاصرة الوطن والإيمان، فاستثمره لصالحه، وظفه لخدمت أجندته الخاصة، فمال على كل ما هو إسلامي فعاث به ضرباً باليمين وضرباً بالشمال.. وإلى الله المشتكى.
فبدل أن تتوحد الجهود وتتراص الأقدام، وتجتمع القلوب في أزمنة الفتنة، صارت فتنة فوق فتنة!!
فكان العلماني العربي مفلساً ليس عنده أدنى ذرة لأن يضحي لأجل مبدأ، أو دين، أو وطن، بل عنده كل الاستعداد لأن يضع نفسه ويده مع أعداء أمته ودينه ووطنه، عنده استعداد للدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائم الأمريكان في كل مكان، وتحويل فضيحة سجن أبوغريب إلى حديثة الزهور، مع أن الليبرالي الأمريكي لا يزال صارخاً يدين جرائم بلاده!
مفارقة غريبة.. قد يفسرها فهم كثير من العلمانيين أن الحرية هي الجنس، أو المزيد من الجنس، والفوضوية، وعدم المسؤولية، والعبث بأي شيء.
لهذا السبب كره الناس هؤلاء، ورفضوهم .. وهكذ1 فشلوا، وسوف يفشلون دائماً.
لقد أعجبني ما قاله الدكتور ( برهان غليون ) أستاذ كبير في جامعة السوربون، علماني يساري التوجه، ولكنه منصف وباحث جاد وحيادي :
( ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها.
إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية ، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة ، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود ) .
ثم يعتب الدكتور غليون على النخب العلمانية في معاونتها للطغاة في القضاء على المتدينين، بحجة العمل للديمقراطية وتنظيف الساحة منهم، وأن الحكام في الجزائر قتلوا مالا يقل عن (30) ألف إسلامي بحجة تنظيف الساحة منهم !!!
يقول الدكتور غليون بالحرف الواحد :
( من هم الإسلاميون ، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا ؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا ؟؟ ) .
وأخيراً ... هل يفهم العلماني العربي ما يقوله "صاموئيل هنتنغتون" الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية :
( إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلت إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).
=============
أصداءُ كَلِمَة
نور الجندلي
الكلمة الطّيّبة .. ذلكَ المولودُ الجميلُ الذي يولدُ في لحظةِ صفاء ؛ فتحتفي بهِ كلُّ القلوب ، وتستبشرُ لمرآه كلُّ العقول ، فتُعلن الأفراح داخلَ الأرواح ، ويسودُ البشرُ كيانَ كلِّ من تلقّاها ..!
هي ذلكَ البلسم الشّافي من أصعبِ الأدواءِ وأكثرها تعقيداً ، فمن تألّم قلبهُ واستهُ كلمة ، وجبرتهُ برقّةٍ ؛ فعادَ سليماً مستبشراً . ومن أرّقتهُ الهمومُ بجبروتها ، والحياةُ بسطوتها ؛ أحيتهُ كلمة ذات همّة ، فتناسى الألمَ بشتّى معانيهِ ، وانقلبَ يشقُّ الأرضَ بهمّتهِ ، يعمرُها بعزيمة ، ويبنيها بإيمانٍ تردّد من أصداء كلمة .
والمحزونُ تواسيهِ كلمة تصبّره ، تعدهُ الحُسنى وزيادة ، تكفكفُ دمعهُ وتغرسُ في قلبه بسمة . فإن رأيتهُ فهو الصّابرُ ، وإن حادثتهُ فحديثُ القانعِ المتصبّر ، فما يزالُ يترنّمُ بكلماتِ الرّضا ، لعلّ الخالق تعالى عنهُ يرضى .
مفتاحُ المعرفةِ كلمة ، ولعلّ ( اقرأ ) كانت منبع حضارتنا الإسلاميّة على مرّ عصور ، كلّ من يمرُّ على ( اقرأ ) يحملُ تلكَ الأمانة ، فما يزالُ ينهلُ علماً ، تارةً به متعبداً ، وتارةً به عاملاً ومعلماً . حتّى عمرت الأرض علماً وحضارةً ورقيّاً .
وطريقُ القلوب كلمة ..!
تراها متألّمةً شاحبةً مسودّة ، فتأتيها الكلمةُ الطّيبة فتغسلها ، وتنقّيها ، وتعملُ فيها تطهيراً حتى تشفّ ، فتضيء بداخلها قناديلاً ما تزالُ تشعُّ . زيتها المضيء كلمة !
ونورُ العقول كلمة طيّبة ..
إذا استعبدها الجهلُ واستعمرها بجنوده من كلماتٍ لا أصل لها ، أقحمت نفسها إقحاماً في اللغة ، واستباحت لنفسها وظيفةَ غير شرعيّة ، فراحت تسرقُ وتنهبُ من لُبّ العقول ، وتشيعُ فساداً ، وتدمّرُ حياة ، فتفرضُ سطوتها ، وتملي أوامرها بعنجهيّة ، فلا ينقادُ إليها إلا الضّعفاء ، ولا يصغي إليها إلا الجهلاء . فيالحسرة من أغوتهُ كلمة ، فغدا من جنود إبليس وأتباعه مسيّراً في ظلمات يحسبها نوراً ..
ولو سمح لأنوار الكلمة الطّيبة أن تتسلّل إلى داخله ، لحاربت مدّ الشّر ، ولبصّرتهُ بالخير ، وعرّفته بالشّر ، ولقادتهُ إلى مواكب المؤمنين ، فغدا عارفاً طريقهُ ، متبصّراً سبيله على هدى من ربّه .
يقولون .. إنَّ الكلمة سلاحُ الضّعفاء .
وأقولُ .. إنَّ الكلمة ينبوعُ الحكمة ، ومفتاحُ العلوم ، وهي ذلك الجسرُ السّحريُّ الذي يعبرُ بنا إلى حيثُ نريد ، متى نريد ! شريطة أن نحسن التّحكم بأنغام الحروف ، وقطرات الحبر وهي تنسكبُ بجمالٍ على الرّق ، فندرك أيّ رسالة حمّلناها لها ، وأيُّ نورٍ قلدناها إيّاه .
فكيف نستهينُ بكلمة ؟ وقد تبني لنا في الجنّة قصوراً ، أو تغرسُ بساتين نخيل ، أو ترتقي بنا نحو فردوسٍ تهفو نفوسنا إليه !
الكلمة توأمٌ للصّحة والشّباب والعلم والمال .. ادّخارٌ لا يبلى ، ونعيم لا ينقطع .
فلنتصدّق بكلمة حبّ على أولئكَ الذين ما خفقت قلوبهم يوماً بمعناه ، ولننشر حروفنا في أصقاع الأرض دعاةً مصلحين رُوّاد كلمة ، ولننشر سلاماً منبعهُ أثيرُ كلمة ..
وليكن نصب أعيننا دائماً .. أنَّ الحروف مثلُ قطر الغمام لها أساس نقيّ ، نحنُ من نوجهها إمّا إلى قيعان أو إلى جنّة وارفة .
-============
الهجمة الشرسة على التعليم (1)
د.علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
تتعرض أمة الإسلام في هذه الأوقات إلى أشرس هجمة في تاريخها الحديث ، وهي - أي هذه الهجمة - أخطر من كثير من سابقها ذلك أن صراع الحق والباطل دائم لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها في سنة من سن الله عز وجل الماضية .(6/207)
ولئن كانت الأمة قد تعرضت في فترات ماضية إلى الاستعمار والاحتلال العسكري ، ثم بعد ذلك تعرضت إلى الغزو والتخريب الفكري ؛ فإن مايحلّ بالأمة اليوم تجتمع فيه كل شرور الحملات الماضية وكل مخاطر الهجمات السابقة ؛ فإن كان ما سبق حفياً فإنه اليوم ظاهراً ولئن كان ما سبق متدرجاً فإنه اليوم شاملٌ ، ولئن كان ماسبق يأتي بشيء من التهاون ؛ فإنه يأتي اليوم قاهراً ، وذلك في نواحي شتاء لعل وقفتنا اليوم تتناول جانباً من أخطر هذه الجوانب وأعظمها ضرراً وفتكاً في الأمة ، وأكثرها تأثيراً في مستقبلها ، وتلكم هي الهجمة على التعليم الإسلامي .
ولعلنا نحتاج إلى وقفات كثيرة في هذه القضية المهمة الحساسة ، فالتعليم عقيدة وديانة وهوية وثقافة وتاريخ وأصالة .. إنه ليس مجرد معلومات تحفظ أو تجارب تؤدي أو مدارس تقام ، أو جامعات تشاد ! إنه فكر يصاب إنه روحُ تصبغ .. إنه هوية تظهر .. إنه تاريخٌ يستعاد وتمتد جسوره ما بين الماضي والحاضر ، بل وتتجاوز ذلك إلى المستقبل .
إن التعليم في كل أمة هو أساس بنائها وقاعدة حضارتها بل وهو أعظم أسباب قوتها ونحن نرى أهمية ذلك بكل ما نراه بواقع الحياة إن كل أمة لا تصوغ مناهجها إلا وفق عقائدها يوم كانت الشيوعية الحمراء ، كان ألف بائها : " لا إله والحياة مادة " ، واليوم في الحضارة المادية العمياء إلهها " الدولار والمال "كما هو معلوم في حياة الناس ..كل أمة تتغلب على أمة أول أمرٍ تسعى إلى تغييره وتجديده هو التعليم لتصوغ الأجيال وفق مرادها ، ولتصبغ الأمة باريتها وشعاراتها .
واليوم تنكشف الهجمة العدائية ضد الإسلام مستهدفة التعليم الإسلامي بشكل مكثف وواضح في دعايات جوفا أن هذا التعليم يفرّخ الإرهاب بمفاهيمه المختلة المخلوطة الجائرة ، التي لا تزن الأمور بميزان عدل .
ولنا حديث قد يطول في هذا الأمر عن التعليم الديني وغير الديني عند اليهود في دولة المسخ الإسرائيلية ؛ فإن أولئك القوم في أصول كتبهم التي قد حرّفوها وبدّلوها ، وبالتالي أنشأ هذا التعليم كل صور العدوان التي نراها ، إن هذا التعليم وتلك الثقافة والعقيدة المنحرفة الزائغة هي التي نراها في الظلم الباغي ، و البطش الجائر ، والجبروت الذي لا يراعي حقوق إنسانية ، ولا أعراف دولية ، ولا قوانين أممية ، ولا غير ذلك مما يقال أو يبدع !
ولعلنا نقف عند هذا التعليم نؤكد على خطورته في كل الجوانب التي يتناولها .. إن الذي يقولونه في قضية التعليم الإسلامي والديني كذبٌ مردود عليه بواقع كثير من صور هذه الحياة التي نحياها قد مسخ التعليم - وللأسف - الشديد في كثير من الديار الإسلامية ، بل في بعض البلاد العربية والإسلامية لا يكاد يتخرج الطالب من مراحلها الثانوية بل والجامعية وهو لا يكاد يحسن قراءة قصار السور ، ولا يعرف سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نزراً يسيراً لا يغنيه شيئاً وكذلك عنده من الفلسفات والأضاليل والأباطيل ما شوش على عقله كل صور الإسلام .. فما الذي نتج بعد ذلك ؟ وما الذي أخرجته هذه المناهج الممسوخة ؟ هل أخرجت أمة قوية متماسكة ؟ هل أخرجت أخلاقاً فاضلة ؟ هل أخرجت عقولاً واعية ؟ هل أخرجت قيماً حضارية كما يزعمونها ؟
أم أننا قد رأينا صور من المجتمعات الإسلامية وقد انسلخت من هويتها وضيعت دينها وأصبحت دليلاً تابعاً للحضارة المادية الغربية الإباحية المعاصرة ، فلا يكاد المرء حين يزور بعض البلاد يفرق بينها وبين بلاد الكفر خمورُ مباحة ، وسفورُ جائرُ وإباحية تكاد تكون أختاً للكفر والعياذ بالله . وماذا بعد ذلك في كل هذه الصور التي غيروها وحرفوها ؟
من أراد الله به خيراً ومن كانوا يحرصون على دينهم ومن كانوا على عقائدهم لم بجرفهم تلك المناهج ليست القضية في المناهج - وإن كان أثرها عظيم - لكنها في قضية الثبات والاستمساك بالحق ..
ومَثلٌ شاهدُ في الشيوعية التي امتدت سبعين عاماً ،لم تكن تسمح بأحرف من حروف القرآن إن يقرأ أو يتلو - فضلاً عن تعليم ديني - فعن ماذا أسفر الأمر وانتهى ؟ تحطمت الشيوعية وخرج من ركامها ومن تحت أنقاضها ومن الأقبية فتيةٌ صغارٌ ، وشبابٌ يحفظون القرآن ويرددونه ، ويقرأون الكتب الإسلامية ، وقد كانوا في ضلال الشيوعية يوزعون القرآن بين العشرة والعشرين ،كلٌ يأخذ منه جزء يقرؤنه في ظلم الليل في بلاد كانت مهداً ومقراً للحضارة الإسلامية والخلافة الإسلامية ، وكانت أول معقل تهدمت فيها هذه الخلافة في العصر الحديث كان في عهد ذلك الطاغية أتاتورك ممنوع أن يؤذّن حتى باللغة العربية وأن تدرّس العلوم الإسلامية ، وأن تتلى آيات القرآنية فكانوا يستيقظون بعد منتصف الليل في الأقبية على يحفظون القرآن أضواء الشموع ، وخرجت أجيال إلى اليوم هي من نتائج تلك الفترات العصيبة .
إن دين الأمة عزيز عليها ، وإن عقيدتها أعظم عندها من أن تقهر بكل الوسائل المادية والفكرية ؛ لأنها مغروسة في أعماق القلوب وأغوار النفوس .. إنها تجري مع الدماء في العروق .. إنها النَفَس الذي يتردد ، ولذلك لا نخشى من هذه الحملات شيئاً ما دامت عقيدتنا في قلوبنا ، وما دمنا نعلم أن نجاتنا في آخرتنا ، وفلاحنا في دنيانا مرتبط بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
إن هذه القضية التي يزعمونها والشبهات التي يرددنها كاذبة ! بدليل إن من يصفونهم بالإرهاب وُجِد منهم من هم أبناء جلدتهم ، فهل تعلّم هؤلاء في مدارس المملكة أو تخرجوا من الأزهر أو تلقنوا القرآن في هذه المدارس التي يزعمون أنها إرهابية ؟ من أين جاء أولئك ؟
إن القضية الاعتقادية والعلمي قضية لا تعالج بمثل ذلك ، وإذا رأينا الحق ؛ فإن التعليم الإسلامي المعتدل الذي يعلم القرآن والسنة لا يخرج إلا خيراً ، إن الوسيطة والاعتدال ثمرة حقيقية نافعة من ثمار التعليم الإسلامي والمنهج الرباني ، وإن الخوف والخشية من الله التي يبذرها ويغرسها المنهج التعليمي الإسلامي هي التي تمنع أصحابها من أن يخالفوا أمر الله وأن يجوروا أو يظلموا حتى مع أعدائهم لقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
وهي - أي هذه المناهج التعليمية - التي تخرج المبادئ الإنسانية والحقيقة الخلقية الفاضلة ، وذلك هو الذي نعرفه في واقع حياتنا ومجتمعنا أن التعليم الإسلامي أصيل في منهجنا أول آية من كتاب ربنا قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .
منهج التعليم في الوجود كله مضبوط بهذه الآية ، إنه علم وتعليم لكنه باسم الله وعلى منهج الله ، وللغايات التي رسمها منهج الله .. إنه تعليم يرد الخير للبشرية .. إنها قراءة على منهج رباني لا يحيد به المرء والمتعلم والأمة كلها إلى هذا الظلم الذي نراه والحضارة الطاغية الباغية التي نرى صورتها .. إنه منهج يعلمنا أول علم وأشرفه وأعظمه علم الإيمان بالله والاعتقاد الحق به ، وأن هذا العلم هو القاعدة التي ضوئها نعرف الحياة وعلومها وما فيها من خبايا في أرضها ، أو فيها من أمور في سمائها وفضائها :{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } .
أول علم هو علم التوحيد وعلم الإيمان وعلم المعرفة الحقيقية الصافية ، التي لا وجود لها اليوم إلا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .(6/208)
إن التوراة المحرفة والإنجيل المزيف اليوم تقرأ فيه كفراً بواحاً لا يليق أن يوصف به شذاذ ومفسدون من البشر فضلا عن أن ينسب إلى الله - عز وجل - أو أن ينسب إلى رسله وأنبيائه المطهرين والقرآن يعلمنا أن أساس العلم ومبدأه إنما هو من تعليم الله لقوله تعالى : { الرحمن علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } .. { وعلم آدم الأسماء كلها } .
إن تعليمنا رباني .. إن معرفتنا إلهية .. إن أصول علمنا مبدأه من معرفتنا الحقة بالله وقرآننا قد جاء بكل جوانب الإشارات العلمية في هذه الحياة ، في كل جوانبها وتخصصاتها ومجالاتها المختلفة ، وبيان أن كل ذلك إنما هو قليل في علم الله - عز وجل - لقوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } .. { وفوق كل ذي علم عليم }
علم الله المحيط الشامل الذي أخبرنا الحق به في قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب أن ذلك على الله يسير } .. { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } .
يوم تستقر هذه المبادئ والحقائق لا يكون هذا الطغيان العلمي الذي استخدم اليوم لا فساد الحياة الإنسانية سوى كان في المجالات العسكرية المدمرة الباغية ، أو كان في المجالات العلمية التي تعدت الحدود الأخلاقية والإنسانية لتبعث بالحياة نفسها ، ولتمسخ حقيقة الإنسان ، بل وجاءت الحضارة بصناعتها وبهرجها لتفسد هذا الكون والحياة فيه بما هو معروف في القضايا الكبرى التي تتعلق بالبيئة والحرارة وغيرها في الأرض ، إن طغيان الإنسان بهذا العلم التقني المتقدم بعيداً عن منهج الله - عز وجل - هو الآفة الحقيقية ، وهو الإرهاب المدمر وهو الخطر الذي حال حياة البشرية اليوم إلى أعظم وأدق وأكثر الظروف حساسية في حياة هذه الكرة الأرضية .
إن أولئك القوم الذين يتزعمون تلك الحضارة ، ويظنون أنهم يحملون النور للناس ظلماتهم بعضها فوق بعض في قلوبهم مرسومة على وجوهم وظاهرة في أقوالهم وحياة شاخصة في وقائع ممارساتها في حياتهم الاجتماعية قد صاروا أدنى وأحقر من البهائم في إباحيتهم وشذوذهم وأمراضهم التي ابتلاهم الله عز وجل بها في حياتهم الأمنية ، في كل لحظة من لحظاتهم ، وثانية من ثانيات أوقاتهم جرائم لا تعد ولا تحصى ، أي حضارة يريدون أن يشيعوها في العالم ؟ وأي تعليم يريدون أن يقتبس منهم ؟
إن تعليم المادة إرث حضاري إنساني تشترك فيه الحضارة كلها ، ويأخذه كل جاد من كل ملة ودين ، فالواجب على المسلمين أن يستبقوا إليه ، وأن يأخذوه وأن يضبطوه بضوابط الإيمان ، وأن يسلكوه على منهج الإسلام ، وأن يجعلوه وفق القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية في هذا الدين العظيم ، الذي أكرمنا الله سبحانه وتعالى به ، والقرآن يعلمنا والمنهج في هذا طويل { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } .. القرآن يعلمنا حقيقة الدنيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يكشف لنا ذلك .
إن علمنا الحقيقي من القرآن يجعلنا نعرف الأمور معرفة حقيقية ويبصرنا بحقائقها ؛ حتى لا تكون الوسائل غايات أن من الناس من يعيش ليأكل ومن الناس من يأكل ليعيش وفرق ما بينهما عظيم .
إن الحياة المادية والحضارة الغربية اليوم قد ألّهت المادة حتى جعلتها هي الإله الأكبر المعبود ، وهي العبادة بالتعلق وبالاهتمام بالعناية بالحرص بالخوف عليها والرجاء فيها كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم :( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ) .
سماه عبداً ؛ لأنه بذلك متعلق ، وبه منشغل ولتحصيله مجتهد فهذه عبادتهم هل يريدون أو هل يريد المسلمون أو هل يريد المتصدرون في قضايا التعليم أن نسير في هذا النهج فنصبح دنيويون لا دينين ، ونصبح ممن يعبدون الشهوات والملذات فننغمس فيها إلى آذاننا ، فلا نكاد نرى نوراً وإشراقاً وحياة قلب ولا روح تلك هي الصورة التي يجلّيها الواقع في حياة تلك الأمم ، ونحن قد أكرمنا الله - سبحانه وتعالى - بغير ذلك وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبي الدرداء عند الترمذي وغيره : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة ) .
إننا في هذا الدين العظيم ليس هناك تعارض بين علماً ديني أو دنيوي .. إننا نأخذ علوم الدنيا باسم الله ، ونسيّرها على منهج الله ، ونبتغي بها الغاية العظمى من رضى الله عز وجل .
وإن تعليم ديننا إنما ينوّر لنا جوانب هذه الحياة ، وإنما يحثنا لنخرج خيراتها ، ولنتعلم في كل شؤونها وأحوالها ولنقود البشرية كلها إلى ما فيه خير الدنيا ونجاة الآخرة بإذن الله عز وجل ، وانظروا إلى تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأجر والمثوبة في العلم الذي يتعلق بحياة القلوب بالقرآن الكريم لقوله : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق - وهما موضعان في المدينة - فيأتي بناقتين كوماوين - والناقة الكوماء هي الناقة العظيمة السنام - في غير أثم ولا قطيعة رحم ؟ فقالوا يارسول الله : كلنا يحب ذلك, قال صلى الله عليه وسلم:أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم, أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع, ومن أعدادهن من الإبل .
ثم انظروا إلى تراث أمتنا أن أمتنا العظيمة التي تلقت التعليم والهدي والمنهج الرباني والتعليمي عن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضع من منهج القرآن ومن تطبيقه العملي الأسس الصحيحة للتعليم والتربية وللتعليم التطبيقي والمهني في كل جوانبه وليس هذا موضوع حديثنا وقد يتوالى لنا فيه أحاديث أخرى ، لكننا نرى كيف تعلم الصحابة ؟وكيف علموا من بعدهم كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزن بنا العشر من آيات حتى نعلم بما فيها من العلم والعمل فتعلمنا العلم والعمل معاً كما روى ذلك أبو عبدالرحمن السلمي يذكر فيه عليُ وعثمانُ رضي الله عنهم أجمعين .
ونحن نعرف أيضاً أن هذا التعليم كان سارياً في بيوت المسلمين في مساجدهم وفي معادهم كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا السورة من القرآن ، ربطاً بالأمة وبأصولها وبتاريخها وبأصول دينها . وقد سجل علماؤنا من الكتب في مناهج التعليم وطرائقه الكثير والكثير مما هو إلى يوم الناس هذا نبراس في هذه المناهج كتبوا في آداب المعلمين وفي آداب طلبة العلم ، وفي كل جانب من جوانبه ليس هذا في رسالة بن خلدون ، ولا في ما كتبه الغزالي ، ولا في غيره من كتب كثيرة لا يحصيها العاد والحاصي .
وقد قامت منارات التعليم في العالم في العالم الإسلامي وسبقت إلى كل النظم النظامية اليوم ، بل وافقتنا الغرب بذلك ولنا عنه حديثا المنصفون منهم يؤكدون أن كل حضارة اليوم أسسها مؤخوذة من العلوم والحضارة التي أقامتها أمة الإسلام يوم كانت مرتبطة بالقرآن وسائرة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنسأل الله عز وجل أن يعيد أمتنا إلى دينها .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم وأوصي نفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .(6/209)
وإن من تقوى الله عز وجل الحرص على التعليم الإسلامي تلقيناً لأبنائنا ، وحرصاً على ثبوته ووضوحه في مناهجنا ، ولقد تعرضت الأمة - كما قلت - في قضية التعليم إلى الهجوم سافر قديم ، وإلى مسخ وتشويه عظيم حتى أن بعض كبريات الجوامع والجامعات الإسلامية في أكثر أو في كثير من الدول الإسلامية العربية العريقة قد تعرضت من قبل إلى هذا المسخ فحرفت المناهج وطورت والحقيقة إنها دمرت .
وقريباً سمعنا كذلك عن تطورات في بعض البلاد الأخرى من معاهدها أغلقت أو مناهج خفضت ماذا يريدون .. يريدون - كما يقولون - تجفيف منابع الإرهاب الذي يريدون به أن يلوي أعناق الأمة ، وأن يحنوا ظهورها ، وأن يركبوا على ظهور الأمة ؛ ليقودها قيادة الأذلاء الأتباع كما قد نرى في صور كثيرة واضحة .
ولعلنا ونحن نقول ذلك نرى أن الحملة تتوجه أكثر وبشكل أظهر إلى هذه البلاد التي تضم الحرمين الشريفين ، التي هي فيها مهد الإسلام ومهبط الوحي والرسالة ، وتنكشف الحملة أكثر من أي وقت مضى ، دون أن يكون هذا التكثيف مختصاً بغيرها ، لماذا ؟ لأن هذه البلاد قد عصمها الله - عز وجل - من كثير مما حلَّ بغيرها ، فليس هناك ما يريدون تحقيقه مما تحقق في بعض البلاد الأخرى .. إنهم في غيظاً للتعليم المنفصل غير المختلط الذي يريدون أن يقولوا أنه من أسباب الإرهاب ، وكل شيء عندهم اليوم يربطونه بهذه القضية حتى صارت كلماتها موضعاً للضحاك والطرف والنوادر.
ويريدون أن يتكلموا عن الجامعات الإسلامية وأنها تدرس العداء للآخرين ويكثفون حملة شنيعة لماذا ؟ لأن هناك مزايا كثيرة ولأن هناك فوائد عظيمة ، ولأن هناك - بحمد الله عز وجل - معاقل حصينة يستهدفونها لينالوا من الأمة في صميمها وفي قلبها وفي موطن مهبط وحيها وقيام دولتها الأولى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إننا في وقفات عاجلة نذكر بعض ما هو - والحمد لله عز وجل - مثبت في السياسة التعليمية في هذه البلاد ؛ لنرى ما الذي يريدونه وما الذي يهدفون له ؟
من أهداف التعليم في السياسة التعليمية :
أولاً : تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام
وذلك بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة واستقامة الأعمال والتصرفات وأحكامها العامة والشاملة ، إن هذه المبادئ التي تصد وتمنع من استيراد الأفكار والنظم المخالفة للإسلام هي المستهدفة في حقيقة الأمر .
ثانياً : تزويد الفرد بالأفكار والمشاعر والقدرات الأزمة لحمل رسالة الإسلام
إنهم يريدون أن نتخلى عن رسالة الإسلام ومن الأسس أيضاً تحقيق الخلق القرآني في المسلم والتأكيد على الضوابط الخلقية ، وبيان الانسجام التام بين العلم والدين في شريعة الإسلام ؛ فإن الإسلام دين ودنيا والفكر الإسلامي يفي بمطالب الحياة البشرية في أرقى صورها في كل عصر .
هذا الوضوح المنهجي الفكري الذي يوضع كقاعدة للتعليم هو الذي يراد أن ينسخ وأن يغير وأن يشوه ، وهذا كما قال الله عز وجل: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } .
ثالثاً : تكوين الفكر الإسلامي المنهجي لدى الأفراد
ليصدروا عن تصور إسلامي موحد فيما يتعلق بالكون والإنسان والحياة .
وكثير من غير ذلك هذه النعم التي من الله بها هذه المناهج قد نحتاج لتطويرها ، لكن للأفضل من وجهه نظرها ومن خلال علمائنا وذوي الرأي فينا ، ومن اختصاصي التربية والتعليم ، لكننا لن نغير أو نطول وفق أهواء تحالفنا في عقائدنا وتنازعنا في حضارتنا وتحابنا في واقعنا ؛ فإن هذا لا يكون بحال من الأحوال إلا صورة من صور الاستسلام والضعف والهوان ، وذلك - بحمد لله - مالم يكن ولن يكون - بإذن الله - مادام فينا عروقٌ تنبض ، وإيمانٌ في قلوبنا يخفق ، وتصورٌ إسلاميٌ واضحٌ مَنَّ الله سبحانه وتعالى به علينا .
وإن حقيقة الهجمة على التعليم هي مسخ للهوية وأضعاف لوحدة الأمة ، وتكريس لتبعيتها لأعدائها ، فقضية خطيرة وأهدافه عظيمة الضرر كبيرة الأثر ، خاصة وأنها تتعلق بالأجيال والمستقبلية ؛ فإننا نعلم أن التعليم ينضم اليوم سائر الأبناء والصغار في المجتمعات كلها ؛ فإن هذه الأجيال إذا مسخت في فكرها وروحها وفي تاريخها وهويتها ؛ فإن ذلك يجعلها لقمة صائغة لأعدائها ، وذلك ما ينبغي أن نفطن له وإن نحرص عن الذبَ عنه والذود عن حياض الإسلام وعن أمتعتنا ، وعن هذه البلاد التي أكرمها الله بالحرمين الشريفين ، وجعل كل سياساتها المعتمدة المعتبرة محررة وفق هذا المنهج الإسلامي ، الذي نسأل الله عز وجل أن يبقي نعمته علينا ، وإن يزيدنا منه ، وأن يجعلنا جميعاً قادة وشعباً متآزرين عليه ، متواحدين لنصرته ، مدافعين عنه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .
المصدر : موقع إسلاميات
===========
الرأسمالية ليست نهاية التاريخ
د. عمر فوزي نجاري
النظرة المادية البحتة للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي (( فرنسيس فوكوياما )) عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني ( نهاية التاريخ ) , وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناء عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل.
وراح الرأسماليون يزدادون ثراء , والفقراء يزدادون فقراً , وأخذت المنافسة غير المتكافئة بين الحيتان والأسماك الصغيرة , تطحن الناس والمجتمعات طحناً , مدمرة البنى الاجتماعية والتماسك الاجتماعي , وأخذت الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة تزداد فقراً , وباتت معها الطبقة الوسطى في تضاؤل مستمر .
( أوناسيس ) و ( جونتر الرابع ) اسمان لامعان , دخلا موسوعة غينيس من أوسع أبوابها , وقد جمع بينهما في باب واحد , كونهما من أصحاب الملايين , ممن خلقوا وعاشوا على وجه البسيطة , مثلهما كمثل أي مخلوق يمشي على قدمين , أو على أربع , أو قد يقطع المسافات زحفاً على بطنه .. وقد تودد لهما خلق كثير ممن اعتاد شرب الذل وركوب الهوان , ساعين وراء الفتات , وراء كل ما هو زائل لا يدوم .
أمّا ( أوناسيس ) وهو من بني البشر , فقد مات منذ ثلث قرن , وقد أكلت دابة الأرض منسأته , وما عادت تنفعه ملايينه أو بلايينه , وأمّا ( غونتر الرابع ) فلا هو من بني البشر , ولا ممن يملك الحجر أو الشجر , وإنّما هو كلب إيطالي ورث عن صاحبته الكونتيسة ( كاراوتا لبيثاتي ) ملايين الدولارات بعد أن أوصت له بثروتها الطائلة ؟!.
وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم , لينطبق عليهم قول شاعرنا الحكيم وصاحب البصيرة النافذة أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولم تصل البشرية إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم ميزات العصر الأمريكي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها .(6/210)
إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم , وما عاد من فارق يميزهم عن ( جونتر الرابع ) أو عن القطة الإيطالية المليونيرة ( كيتي ).
المال في حضارتنا ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان , فالمال إذا ما أخذ بغير حق أذل أعناق الرجال وغير المباديء وأفسد الأمور , وقد تم التأكيد والتشديد على تجنب أكل أموال الناس بالباطل والتحايل ( ومن أساليبها الرشوة والتهرب من سداد الدين , وعمليات النصب والاحتيال , وأكل أموال اليتامى , وعدم إعطاء الأجير أجره …وغيرها كثير ). مع التشديد وعدم التساهل حول ألاّ يدخل مال إلاّ من حلال.
إنّ العودة إلى مناهل تراثنا وحضارتنا أمر لا بد منه للوقوف في وجه حضارة الانحلال الأخلاقي المستشرية , ونظرة حضارتنا إلى المال قد أوضحها لنا أمير المؤمنين الخليفة الراشد ( عمر بن الخطاب ) موضحاً بذلك إحدى أهم الأسس التي بني عليها الاقتصاد الإسلامي , بقوله : (( إنّي لا أجد هذا المال يصلحه إلاّ خلال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطى بالحق , ويمنع من الباطل )).
قديماً قالت العرب : ( عند جهينة الخبر اليقين ) وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح .
==============
حضارتنا تتحدّث
د.عبد المعطي الدالاتي
(( يقول العلامة محمد الغزالي :(( مَن لم يُسهره العلم أياماً , أسهره الجهل أعواماً !..
فإلى متى نظل ننامُ في النور , ويستقيظ الأنامُ في الظلام ؟!! )) .
كان لي في كلّ وادْ *** نارُ جمرٍ , لا رمادْ
وصروحٌ شامخاتٌ *** ومناراتٌ تُشادْ
كان يأتي البدرُ ناري *** في عَشِيّاتِ الحصادْ
كان لي وجهٌ تولّى *** نحو من خلقَ العبادْ
كان لي فِكرٌ وشعرٌ *** زانَهُ : (( بانتْ سُعادْ ))
كان لي جُندٌ تسامَوا *** للمعالي بالجهادْ
كان هارون الرّشيدُ *** حاكماً كلّ البلادْ
قال يوماً للغمامِ *** (( سرْ: لنا يُجبى الحصادْ ))
كنتُ في الأرواحِ وعياً *** وضياءً في الفؤادْ
كنتُ للأشواق دمعاً *** يُستقى منه المدادْ
كنت نوراً للحيارى *** يُرتجى في كلّ نادْ
كنتُ طهراً, كنت فجراً *** هل تُرى الذكرى تُعادْ ؟!
يا شبابي فلْتهبّوا *** طالَ واللهِ الرّقادْ
إنما الأمجادُ تُبنى *** في جهادٍ واجتهادْ
* * *
" من ديوان " عطر السماء"
==============
قضاة زينوا ساحات القضاء
دأب الغرب العلماني على توجيه الانتقادات للمنهج الإسلامي فيما يتعلق بسجل حقوق الإنسان بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى ونسى هذا المشفق على حقوق الإنسان ماضيه الاستعماري الذي قام على قهر الشعوب الضعيفة وسلب خيراتها كما نسى حاضره الذي يقدم النفعية والمصلحة الشخصية على النزعة الإنسانية حتى صارت كلمة حقوق الإنسان شعاراً أجوفا مفرغاً من محتواه العملي ، بل نسى الغرب روعة الإسلام في تحقيق المساواة بين أبنائه أمام الله وأمام القانون ، فلقد ازدان تاريخ القضاء في الإسلام ببدائع من مواقف قضاة العدل وزها بروائع من انصياع خاصة المسلمين وعامتهم لشرع الله ونزولهم عند أحكامه فكان له في العدل السبق والتفرد بين حضارات الدنيا بأسرها.
خطورة منصب القضاء(6/211)
لما كان العدل دعامة الأمم الراشدة حرص الإسلام على تأكيد أهمية دور القضاء وخطورة موقعه في الأمة الإسلامية قال تعالى ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) النساء 58 وقال صلى الله عليه وسلم ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) (1) لكن بريق منصب القضاء وعلو قدره جعل النفوس الضعيفة تهفوا إليه لتحوز الشرف والمكانة في الدنيا متغافلة عن عبء القيام بحقه من واجبات العدل فكان في المنصب هلاكها يوم القيامة، فحرص المرء على الشرف بطلب الولايات أشد إهلاكا له من حرصه على المال فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال وضرره أعظم والزهد فيه أصعب فإن المال يبذل في طلب الرياسة وطلب الشرف بالولاية خطر جدا وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها قال تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )القصص 83 وقل من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق بل يوكل إلى نفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ( يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ) (2) وقال صلى الله عليه وسلم ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (3) وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه أن رجلين قالا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أمرنا فقال ( إنا لا نولى هذا من سأله ولا من حرص عليه )(4) من أجل هذا هاب الصالحون منصب القضاء وتبعاته وحرصوا على دفعه عن أنفسهم ، ويروى لنا تاريخ الإسلام في ذلك مواقف مضيئة نذكر منها ما روى من أن عثمان بن عفان عرض على ابن عمر رضي الله عنه القضاء فأبى ولما ألح عليه لقبوله مذكرا إياه بأن أباه كان يقضى قال عبد الله: إن أبى كان يقضى فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل وإني لا أجد من أسأل ، وروى أن الوليد أراد أن يولى يزيد بن مرثد القضاء فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيف خبز وعرقا ( أي عظم عليه لحم ) وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ( أي حاسر الرأس ) ولا نعل ولا خف وجعل يمشى في الأسواق ويأكل فقيل للوليد إن يزيد قد اختلط ( أي خرف ) وأخبر بما فعل فتركه الوليد ، وسأل بعضهم وكيعا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فقال: كان أول من دعا به أنا فقال لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وسموك فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة فقال : هارون اللهم غفرا خذ عهدك أيها الرجل وامض فقلت : يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقا إنه لينبغي أن لا يقبل منى ولئن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولى القضاء كذابا ، فقال : اخرج فخرجت ، ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا ، فقال له هارون : أتدرى لما دعوتك ؟ قال لا قال: إن أهل بلدك طلبوا منى قاضيا وإنهم سموك لي فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض فقال له ابن إدريس : وأنا وددت أنى لم أكن رأيتك فخرج ، ثم دخل حفص فقبل عهده . وجمع عدي بن أرطاة بين إياس بن معاوية والقاسم بن محمد وقال إن أمير المؤمنين أمرني أن أولى أحدكما قضاء البصرة فماذا تريان؟ فقال كل منهما عن صاحبه: أنه أولى منه بهذا المنصب وذكر من فضله وعلمه وفقهه ما شاء الله أن يذكر فقال عدي لن تخرجا من مجلسي هذا حتى تحسما هذا الأمر فقال له إياس : أيها الأمير سل عنى وعن القاسم فقيهى العراق الحسن البصري ومحمد بن سيرين فهما أقدر الناس على التمييز بيننا وكان القاسم يزورهما ويزورانه وإياس لا تربطه بهما رابطة فعلم القاسم أن إياسا أراد أن يورطه وأن الأمير إذا استشارهما أشار به دون صاحبه فما كان منه إلا أن التفت إلى الأمير وقال: لا تسأل أحدا عنى ولا عنه - أيها الأمير – فو الله الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفقه منى في دين الله وأعلم بالقضاء فإن كنت كاذبا في قسمى هذا فما يحل لك أن توليني القضاء وأنا أقترف الكذب وإن كنت صادقا فلا يجوز لك أن تعدل عن الفاضل إلى المفضول فالتفت إياس إلى الأمير وقال أيها الأمير إنك جئت برجل ودعوته إلى القضاء فأوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة لا يلبث أن يستغفر الله منها وينجو بنفسه مما يخاف فقال له عدي : إن من يفهم مثل فهمك هذا لجدير بالقضاء حري به ، ثم ولاة قضاء البصرة.
مواقف في العدل ناصعة أشبه بالأساطير
منصب القضاء في الإسلام من أعلى المراتب لقوله تعالى ( والله يقضى بالحق ) غافر 20 فكان القاضي نائب عن الله في حكمه وفتواه يقول الإمام الغزالى ( إنه أفضل من الجهاد لأن طباع البشر مجبولة على التظالم وقل من ينصف من نفسه والإمام مشغول بما هو أهم منه فوجب من يقوم به فإن امتنع الصالحون له منه أثموا وأجبر الإمام أحدهم ) ولقد جاءت دوحة الإسلام برجال وقضاة أفذاذ قوالين بالحق أمارين بالمعروف لا يعصون الخالق في طاعة المخلوق وهؤلاء هم الذين تحتاج الأمة إلى أمثالهم إذ الأمة لا تحتاج إلى شيء من الأخلاق احتياجها إلى العدل والمساواة وعدم الإغضاء على تعدى حدود الله رهبة من السلطان ... هؤلاء الذين تحيا بهم الأمم وتشرق بهم الأيام وتعلو بهم قداسة الحق فتطيب بهم الأيام (5)
فمن مواقفهم الناصعة مع ذوى السلطان ما روى أن عليا بن أبى طالب كرم الله وجهه افتقد درعا له كانت أثيرة عنده ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة فلما رآها عرفها وقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا وفي مكان كذا فقال الذمي: بل هذه درعي وفي يدي يا أمير المؤمنين وبيني وبينك قاضى المسلمين فقال على أنصفت فهلم إليه ، فلما صارا عند شريح القاضي في مجلس القضاء قال شريح لعلى رضي الله عنه : لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين ولكن لابد لك من شاهدين فقال على: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي فقال شريح ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز فقال على يا سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) (6) فقال شريح بلى يا أمير المؤمنين غير أنى لا أجيز شهادة الولد لوالده ، عند ذلك التفت على إلى الذمي وقال خذها فليس عندي شاهد غيرهما فقال الذمي ولكنى أشهد بأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين ثم أردف قائلا يا لله أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه وقاضيه يقضى لي عليه أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .(6/212)
ويذكر السيوطى في تاريخ الخلفاء أن الخليفة أبو جعفر المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله قاضى البصرة كتابا فيه (أنظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد ) فكتب إليه سوار (إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أعطها لغيره إلا ببينة ) فكتب إليه المنصور ( والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد ) فكتب إليه سوار ( والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق ) فلما وصل كتابة إلى المنصور قال: ملأتها والله عدلا فصار قضاتي تردني إلى الحق
ومنهم القاضي المنذر بن سعيد البلوطى الذي ولى القضاء بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر وناهيك من عدل أظهر ومن فضل أشهر ومن جور قبض ومن حق رفع ومن باطل خفض كان مهيبا صليبا غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم ، استعفي مرارا من القضاء فما أعفي ، ويروى أن الناصر أراد أن يبنى قصراً لإحدى نسائه وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي فطلب شراءه فقالوا إنه لا يباع إلا بإذن القاضي نسأله بيعه فقال القاضي لا إلا بإحدى ثلاث حاجة الأيتام أو وهن البناء أو غبطة الثمن فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي فأباه وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء وعز ذلك على الخليفة وقال له ما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت بقول الله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) الكهف 79 لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام وبقيت للأيتام الأرض فالآن اشترها بما تراه لها من الثمن قال الخليفة أنا أولى أن أنقاد إلى الحق فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا.
ومواقف العدل حتى مع الأبناء فلذات الأكباد ومما يروى في ذلك أن ابن شريح القاضي قال له يوما يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فيها فإن كان الحق لي قاضيتهم وإن كان لهم صالحتهم ثم قص عليه قصته فقال له شريح انطلق فقاضهم فمضى إلى خصومه ودعاهم إلى المقاضاة فاستجابوا له ولما مثلوا بين يدي شريح قضى لهم على ولده فلما رجع شريح وابنه إلى البيت قال الولد لأبيه فضحتني يا أبت والله لو لم أستشرك من قبل لما لمتك فقال شريح: يا بنى والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض من أمثالهم ولكن الله عز وجل أعز علي منك ، لقد خشيت أن أخبرك بأن الحق لهم فتصالحهم صلحا يفوت عليهم بعض حقهم فقلت لك ما قلت
وقد كفل ولد لشريح رجلا فقبل كفالته فما كان من الرجل إلا أن فر هاربا من يد القضاء فسجن شريح ولده بالرجل الفار وكان ينقل له طعامه بيده كل يوم إلى السجن.
( إن لنا نحن أبناء هذه الحضارة دين على الشعوب التي حررتها حضارتنا يجب أن نسترده لا بالتفاخر الكاذب ولا بالأماني والأباطيل بل بمعرفتنا لقدر أنفسنا وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا واستحقاقنا لأن نكون الأمة الوسط التي تشهد على الناس وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة ولعلنا فاعلون إن شاء الله) (7).
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
---------------------
الهوامش والمصادر
(1) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ــ كتاب آداب القضاة برقم 5284
(2) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام برقم 6613
(3) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام عن أبي هريرة برقم 6615
(4) رواه البخاري ــ كتاب الأحكام برقم 6616
(5) من يظلهم الله د/ سيد العفانى، مكتبة معاذ بن جبل
(6) رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري ــ كتاب المناقب برقم 3701
(7) من روائع حضارتنا د/ مصطفي السباعي، دار السلام
ــ تاريخ الخلفاء / السيوطي
- شرح حديث (ما ذئبان جائعان) صـ17-19، ابن رجب - دار الفتح
ـ صور من حياة التابعين د/ رأفت الباشا دار الأدب الإسلامي
- صلاح الأمة د/ سيد العفانى مؤسسة الرسالة
- إيقاظ أول الهمم العالية عبد العزيز السلمان دار الإيما
================
بناء ثقافتنا والحفاظ عليها
دكتور عثمان قدري مكانسي
الثقافة : - لغة : من ثقف : بكسر العين وضمها- صار فطناً حاذقاً . وثقّف الشيء : أقام المعوجّ منه وسوّاه .
- واصطلاحاً :العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها .( المعجم الوسيط )
- وقال أهل الخبرة : الأخذ من كل فن بطرف ، ومن فنٍّ بكل أطرافه .
- وهي الحضارة المبنية على الفهم والعمل ، فلا بد منهما مجتمعَين .
- وهي المكوّنات الرئيسة لحياتنا في مجتمعنا العربي والإسلامي من دين وعادات أصيلة ، وشمائل .. وما شابه ذلك .
هل كان للعرب ثقافة : إن المتابع لحياة العرب قديماً يجد أنهم أهل ثقافة واضحة المعالم ، بارزة السمات . ومن الأدلة على ذلك :
- قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ولن تكون الأخلاق إلا في قوم عرفوا بالفهم ، والذوق ، والحضارة التي أهّلتهم قبل غيرهم أن يكونوا حضَنَة الإسلام وناشريه . ومن البدهي أنه حين تُكلف أمة من الأمم بحمل أعظم دين إلى البشرية جمعاء أن يكونوا خير من يؤدي الأمانة ، وأقدر على ذلك بما يتسمون به من سمات تؤهلهم لذلك الشرف العظيم .
- التقسيمات الحيوية التي كانوا يعيشونها ، فهم قبائل ذات أصول تتفرع إلى عشائر وأفخاذ ثم إلى أسر مترابطة يجمعها الولاء إلى مفاهيم - كالشهامة والمروءة ونصرة الضعيف والشرف والصدق و.. و...- تُحكم هذا الرباط وتقوّيه ، وهذه الصفات أقرها الإسلام وعمل على ترسيخها وتمين عراها .
- أسواق العرب الدورية التي كانوا يَؤُمّونها ، ويتبايعون فيها وينشرون قصائدهم فيها ، ويتبارى فيها خطباؤهم وشعراؤهم ورجالاتهم على تأصيل الحكمة والتفاخر بشمائلهم . من هذه الأسواق " سوق عكاظ " شرقيّ مكة ، و" سوق ذي المِجَنّة " قرب مكة كذلك ، و" سوق ذي المجاز " قرب ينبع ..
- الإعلام القوي الذي ملأ الآفاق - وأقصد الشعر - فهو كما قال الفاروق رضي الله عنه : " الشعر ديوان العرب " حفِظ الأنسابَ وأصّلَ الشمائل ، ودعا إلى المكارم ودوّنَ أيام العرب وحياتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية والفكريّة .
- وفخرت القبائل بشعرائها وخطبائها ، وعلّقت النفيس من شعرهم على باب الكعبة لنفاستها ، والمعلوم أنّ العِلق: النفيسُ . فالمعلّقات : النفيس من الشعر .
الدين يحفظ ثقافتنا : قال الفاروق عمر رضي الله عنه : " نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلّنا الله "
- فالقرآن كان سبب اهتمام المسلمين بالعلوم التي تخدمه كالنحو ، وفقه اللغة ،والفلك ، والجغرافيا ، والتاريخ ، والتفسير ، والفقه و.. و.. و.. له الفضل في انتشار اللغة العربية ورسوخها في عالم الحضارة والثقافة .
- ولولا القرآن الذي حفظ اللغة العربية لاندثرت كما اندثرت كثير من اللغات ، أو تغيرت كما تغيرت أمهات اللغات ، فاللغة الإنجليزية مثلاُ يتغير معظم مفرداتها وكثير من تراكيبها النحوية كل مئتي سنة - كما يؤكد دارسوها - . أو صارت لهجاتها لغات أصيلة كما حصل للغة اللاتينية حيث ظهرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية و..
- وقد حاول المستشرقون أن يكتب كل قطر عربي ثقافته بلهجته فظهر أول كتاب باللهجة المصرية القاهرية عام ألف وتسع مئة ، وحاول بعض نصارى لبنان أن يقلدوا أتاتورك في كتابة شعرهم اللبناني باللهجة اللبنانية والحروف اللاتينية ، مثالهم الشاعر اللبناني سعيد عقل ، فماتت المحاولات في مهدها ..(6/213)
- ولم يفلح - ولن يفلح هؤلاء- ما دام القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار ، ويقرؤه الكبير والصغير ، ويفهم معانيه العربي والمسلم غير العربي . وترى المسلم غير العربي يتلهف لقراءة القرآن والتنغم به ، وقد لمست هذا باطّراد حين زرت الباكستان وتركيا وأمريكا ..
- وقد تنبّه العرب والمسلمون إلى أن من لا ماضي له لا حاضر له فتمسّكوا بأساس ذاك الماضي ومحرّك هذا الحاضر .
كيف نحافظ على ثقافتنا : لا شك أنه من البدهي أن يحافظ المسلم ابتداء على لغة القرآن وثقافة الأمة الخالدة بالحفاظ على مكوّناتها الفطرية ودوافعها الحيوية ، وأن يحافظ العربي بأطيافه كلها على لغته لأنها حضارته ومنبع ثقافته ومرتكز وجوده . وذلك بالتزامه بأمور عدة أذكر منها :
- الحديث بالعربية المبسطة ما أمكن في الأسرة ومع الأصدقاء والمجتمع ، فالأمة الحية الناهضة تهتم بباعث نهضتها وباني ثقافتها
- القراءة المستمرة للكتب التي يهتم مؤلفوها باللغة الفصيحة والتعبيرات السليمة " كالمسرحيات الهادفة والقصص المفيدة ، وكتب التفسير المناسبة للمستوى والأحاديث الشريفة ....
- الالتزام الديني الواعي ، وهذا بدوره يدفع إلى الاهتمام بالثقافة العربية ، فنحن نجد الملتزمين بالإسلام من غير العرب حريصين على اللغة العربية لأنها اللغة المقدسة، لغة القرآن الكريم والحديث الشريف ، ونحن أصحاب اللغة وناشرو الدين أولى من غيرنا بهذا الاهتمام والعناية .
- الاعتزاز بالماضي ، فهو ركيزة الحاضر والمستقبل . ويتجلى الاعتزاز بالماضي بمايلي :
1- بدراسته بتفهم وإمعان ، واستنباط العظة والعبرة ومكامن القوة فيه لتوظيفها في بناء الحياة الصحيحة ،ومعرفة أسباب الضعف ودواعيه لتلافيها
2- الانتماء للماضي والانتساب إليه ، فمن سار على خطا أجداده وتأسى بهم ملك الدنيا ودانت له .
3- تعريف الأمة به ، وتقريبه إليهم ليستلهموه في بناء ثقافتهم وحضارتهم .
- استشعار روح العزة وقوة الذات أمام الهجوم الثقافي الغربي .. وهذا يكون ببناء الشباب على أنهم بناة المستقبل وأبناء السلف الصالح الذين سادوا العالم ، فمن أراد أن يكون مثلهم سار على طريقتهم .
والأمر يسير جداً حين نجتهد في بناء نهضتنا ، والحفاظ على حضارتنا وثقافتنا .
والأمل كبير في شباب الأمة وبناة المستقبل أن يكونوا على قدر المسؤولية في بناء الثقافة الإسلامية وإيصال ثقافتنا إلى الآخرين .
================
اعترافات متأخرة
المشاهير وغيرهم يعترفون
تأليف
محمد بن عبد العزيز المسند
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه الأتقياء الشرفاء .
أما بعد ...
فهذه بعض الاعترافات المتأخرة لعدد من المشاهير ممن عرفتهم الجماهير ، وصفقت لهم ردحاً طويلاً من الزمن ، واحتلت صورهم وأسماؤهم مساحات واسعة في كثير من الصحف والمجالات العربية والعالمية .. .
ولغيرهم من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأعمال ، أضعها بين يدي أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بإذن الله ليأخذوا منها العبرة والعظة ، وقد علّقت عليها بعض التعليقات الموجزة ، سائلاً المولى عز وجل أن يتقبل مني هذا العمل وسائر الأعمال والله الموفق
المؤلف .
الإهداء
إلى الذين بهرتهم الأضواء وخدعتهم الأهواء وغرتهم المظاهر الجوفاء .
إلى الذين يبحثون عن الشهرة بأي ثمن ويسعون للوصول إلى قمة المجد الزائف والثراء .
إلى الذين يبحثون عن السعادة وغاية أملهم أن يكونوا سعداء .
إلى المغترّين بالغرب مع ما وصلوا إليه من التحلل والتفسخ والشقاء .
إلى المخدوعين بما يدعو إليه أدعياء تحرير المرأة وما يثيرونه من الشكوك والشبهات .
إلى كل فتاة ترفض الزواج بحجة الدراسة والعمل ونيل مزيد من الشهادات .
إلى هؤلاء وغيرهم ، أهدي هذه الاعترافات راجياً أن ينتفعوا بما فيها من العبر والعظات .
والله الموفق .
1. اعترافات حول الحضارة الغربية والإسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم
ما أكثرهم أولئك المغترين بالحضارة الغربية ، وإن شئت فسمها (الحظيرة) ..نعم .. إنها حظيرة كبيرة مليئة بالحيوانات الناطقة التي هي في صورة إنسان كما قال تعالى : (( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)) (الفرقان: من الآية44) . وإن وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي ، فإن الأمم إنما تقاس بأخلاقها وآدابها ،لا بتقدمها المادي وصناعتها ، وقديماً قال الشاعر العربي :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وصدق والله .. فها هي ذي الحضارة المزعومة التي هي بلا أخلاق ولا قيم ها هي بدأت تحتضر ، وتوشك على الذهاب والأفول ، وقد صرح بذلك كبار فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ...وإليك بعض أقوالهم :
يقول " أليكس كاريل " وهو عالم كبير من علماء هذا القرن :
إن الحضارة العصرية (الغربية) تجد نفسها (اليوم) في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية ، إن أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس ، وأوهامهم ونظرياتهم ، ورغباتهم ، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا " 1
يقول الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة :
إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها" 2
وأخيراً يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر ( برتراندرسل) : ( لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض) نعم انتهى ذلك العصر ، والمستقبل بإذن الله لهذا الدين .. المستقبل للإسلام . 3
والآن أترككم مع هذه الاعترافات لبعض فلاسفة الغرب ومفكريهم ليتحدثوا بكل صراحة عن حضارتهم المعاصرة :
((حضارتنا الغربية في حالة احتضار))
هذا الاعتراف للبروفيسور ( سيمون جارجي ) رئيس مركز الدراسات الشرقية بجامعة جنيف ... يقول في اعترافه :
( أنا من الذين يعيشون نوعاً من الوجل والخوف على ما وصلت إليه حضارتنا الغربية المادية ، إننا نعيش أزمة ضمير ووجدان خانقة ، وإنني من المعتقدين أن حضارتنا الغربية بمفهومها القديم والتقليدي هي الآن في حالة احتضار، وإنها تعيش الآن نوعاً من موجة التحول الذي لا نعلم ماذا سينتج عنه ... نحن الآن نشاهد حضارة تنازع وتوشك على الموت - وستموت بلا شك - وهي تموت ، ولا بد أن ينشأ عنها حضارة جديدة ، أما إذا تساءلنا عن السبب ، فهناك أسباب متعددة منها بالأخص أن الغرب قد فقد المرتكزات الروحية الثقافية الدينية التي كان يرتكز عليها ، فلم يعد هناك شيء يركن إليه.. فالديانة النصرانية فقدت مقوماتها ، والتوق إلى الروحانيات انتهى واضمحل من النفوس ، فأصبح في الغرب نوع من الفراغ ، ونوع من الضياع الشامل تكتوي به الآن الأجيال الشابة ، وأكبر برهان على ذلك أن هناك إقبالاً شديداً بين شباب الغرب على دراسة ما نسميه عندنا في الجامعات بـ (تاريخ الديانات) ...
نحن نعيش الآن في نفق مظلم ، ولا نزال ننتظر النور الذي سيهدينا 4 انتهى كلامه .
ولا شك أن الإٍسلام هو النور الذي سيهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، قال الله تعالى : (( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الشورى: من الآية52) ولكن متى يكون ذلك ؟ الله وحده هو الذي يعلم .
(( نحن معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا))(6/214)
هذا الاعتراف للدكتور الألماني الغربي (هاينزا سلنجر ) مدير شركة ألمانية ، وعضوُ في مجلس الإدارة المنتدب بشركة (مان) الألمانية ، الذي وقف أمام جمع من رجال الاقتصاد السعوديين قائلاً في صراحة ووضوح :
( إنني أحييكم ليس فقط باسم شركات " مان " ولكن باسم الشعب الألماني الصديق لشعبكم ، الذي يحمل للعرب والعروبة كل مشاعر الحب والوفاء والتقدير .
إنكم تأتون من بلاد بعيدة .. من بلاد الشمس المشرقة، من بلاد المعرفة ، ومصدر الحضارات القديمة .. من بلاد شرفها الرب بنزول القرآن فيها ، بلادكم المقدسة مهبط الديانات السماوية السمحة 5 حيث يُحكم بشريعة الله ، نحن الألمان ننظر إليكم بكل إجلال واحترام ، وأعلن على الملأ أننا نحن الألمان معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا ...
إن الانحلال والفساد بدأ ينخر في عظامنا يوم حدنا عن طريق الدين ، وها هي أوروبا تنحدر أخلاقياً إلى الحضيض . ...
إنكم في المملكة العربية السعودية في نظري ونظر الكثيرين من أمثالي تمثلون أمل العالم أجمع في العودة إلى الفضيلة والدين ومعرفة الطريق إلى الرب ، إنني لا أخاف ، وأعلنها مدوية : إننا معكم بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا ، ولا نخشى تهديداً ولا وعيداً .
أنتم تعلمون جيداً أننا عندما كنا ضدكم كانت هناك قوة فوق قوتنا تحرك إرادتنا ضدكم ، ولكنها حكومات تحرك حكومات والشعب الألماني الصديق للعرب والمسلمين لم يتأثر بكل هذه الضغوط والدعايات ، ويحمل في قلبه لكم كل حب وتقدير ، ونقدر بإجلال واحترام كفاحكم في جميع المجالات، وننظر بإعجاب سياسة حكوماتكم الحكيمة المتعلقة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، ونؤمن أن قيادة العالم الروحي تبدأ من المملكة العربية السعودية حيث الحرمين الشريفين، وإني أقرأ كثيراً وبتمعن وإعجاب قرآنكم الكريم السمح ، وأشعر بتعاطفي معكم ، وإني في مكاني هذا ، ومن موقفي الرسمي في الشركة ، أشعر بالغبطة لوجودكم بيننا ، وأشعر أن الله معنا ، وأرسلكم إلينا لا لننتفع ماداً فقط ، بل أرجو مخلصاً أن نستفيد منكم خلقياً ودينياً 6
" كنت نصرانياً "
هذا الاعتراف لرجل كان نصرانياً فأسلم واعتنق الدين الحق، بعد تفكير عميق، وصراع نفسي حاد، دام عدة سنوات، يقول في اعترافه :
[" عشت منتسباً إلى النصرانية عشرين عاماً تقريباً، ولمَّا تبينت حقيقة موقفي في هذه الحياة وأبصرت طريقي، ( واعتنقت الإسلام )، شعرت بارتياح تام، وهدأت نفسي إلى حد لا أعرف له وصفاً، وصلتُ إلى النهاية الحقيقية، وبلغتُ قمة ما كنت أطلبه وأرجوه، وكأن الإسلام بالذات كان غايتي وهدفي منذ بداية الرحلة، كل ذلك حيث في غضون دقائق عقيب إسلامي، أدركت مبلغ الضياع الذي كنت فيه، وإهدار ما مضى من العمر في ظلمات أو سبات عميق، فانفلق الصبح، وأفقتُ من الوهم إلى الحقيقة، أحسستُ بأن كل شيء في نفسي قد بدأ يتغير ويتبلور ويتضح.
كان موقفاً مذهلاً حقاً لا يوصف، وكانت تجربة يستحيل أن يحس بها غير الذي ذاق حلاوتها، وأحسّ بالفارق الحقيقي الهائل بين شعوره الآني في تلك اللحظات، وبين شعوره في لحظات سبقت ذلك .
فلو قلت إنني كنت كالعجماء وعقلت فجأة، فأصبحت آدمياً عاقلاً، أو قلت إنني كنت في ظلمة حقيقية ( أعمى )، فأبصرت فجأة، ورأيت كل شيء حولي على حقيقته، أو قلت بأن كل ما مضى من حياتي كان وهماً وحلماً فأفقت منه، لو قلت كل ذلك لما وفيت الموقف حقه، من التعبير والوصف، لقد أحسست بإنسانيتي وبوجودي، وأبصرت نفسي "] ثم يضيف :
[" لم أكن أتوقع أن يُحدِث قراري الأخير باعتناق الإسلام، كل هذه التغييرات في نفسي ومشاعري في غضون دقائق قليلة، وتلاشت الهواجس والمخاوف التي كانت تجول في رأسي، أصبح لدي من الشجاعة ما يكفي لمواجهة كل الاحتمالات، فقد تضاءلت أمام عيني كل القوى الأرضية ، وكنت واثقاً من أن ما أفعلهُ هو الصواب، وهو ما يريده مني خالق الكون العظيم، فأي قوى تخيفني بعد ذلك: "
هذا ما قاله الأستاذ (واصف الراعي)،بعد رحلةٍ طويلةٍ انتهت باعتناقه للإٍسلام، نُهديه إلى جميع النصارى وغيرهم، وندعوهم إلى البحث عن الحقيقة بعيداً عن الهوى والتعصب، والتقليد الأعمى، قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85)
وقال سبحانه:(( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ))
(آل عمران: 70)
وقال سبحانه: (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) (النساء:171)
والآيات في ذلك كثيرة لمن أراد معرفة الحق، والله الهادي إلى سواء السبيل .
أبناء قومي يدخلون في دين محمد
هذا الاعتراف للكاتب الايرلندي الشهير ( جورج برناردشو ) الذي أطلقه ليكون نبوءة تكاد تتحقق في زمننا هذا وفي الأزمان المقبلة إن شاء الله عز وجل ولو كره العلمانيون .
يقول برنارد شو :
" لقد وضعت دائماً دين محمد موضع الاعتبار السامي بسبب حيويته العظيمة ، فهو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه حائز على أهلية العيش لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جذاباً لكل زمان ومكان ، لقد صور " أكليروس القرون الوسطى " الإسلام بأحلك الألوان إما بسبب الجهل وإما بسبب التعصب "
ثم يضيف قائلاً :
" لقد درست محمداً باعتباره رجلاً عظيماً فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح ، بل يجب أن يدعى " منقذ البشرية " وإنني لأعتقد أن رجلاً مثله لو تولى حكم العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة اللذين هو في أشد الحاجة إليهما ، وفي الوقت الحاضر دخل كثير من أبناء قومي من أهل أوروبا في دين محمد حتى ليمكن أن يقال إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ ، لقد بدأت أوروبا الآن تعشق الإسلام ، ولن يمضي القرن الحادي والعشرون حتى تكون أوروبا كله قد بدأت تستعين به في حل مشاكلها " .
هكذا تنبأ برناردشو ، ويبدو أن النبوءة بدأت تتحقق فقد ذكرت صحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية أن الإسلام ينتشر بسرعة فائقة وبصورة لافتة للنظر ، وأضافت أن مدن نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو وديترويت أصبحت مراكز كبرى للدين الإسلامي .
كما نشرت مجلة " تايم " تحقيقاً بعنوان : ( الأمريكيون يولون وجوههم خمس مرات نحو مكة ) قالت فيه : " إن المسلمين في أمريكا أصبح صوتهم مسموعاً ، وأصبحت لهم كلمة أكثر من أي وقت مضى بعد أن كان اللوبي الصهيوني له اليد العليا ، وكان الأمريكيون منذ أكثر من عشرين عاماً ينظرون إلى الإسلام على أنه من الديانات المتخلفة ، ولكن بعد دخول عدد كبير من المسلمين المهاجرين إلى الإسلام سواء من السود أو البيض ، بدأ الأمريكيون يغيّرون نظرتهم إلى الإسلام والمسلمين في أمريكا " 7
وصدق الله إذ يقول : (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (الصف:9)
اعترافات حول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(6/215)
يقول ( كارلايل ) أحد مشاهير فلاسفة القرن التاسع عشر :
" إن أجدر الأقوال بالإنصات والقبول هي أقوال محمد لأن أقواله وحدها التي تمثل الحقيقة " 8
وقال عميد كلية الحقوق بجامعة فينا الأستاذ " شبول " في مؤتمر الحقوقيين المنعقد في سنة 1927 م :
" إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد r إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي9 بتشريع سنكون نحن الأوروبيون أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفى عام " 10
هذا القول نسوقه إلى الذين يدّعون أنهم مسلمون ، ويحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر ، وفيهم يقول تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)) (النساء:60- 60 )
(2)
اعترافات حول ما يسمى بـ ( تحرير المرأة ) وعملها والاختلاط والمساواة بين الجنسين .
" أدركت خطر دعوتي وأحمد الله أن خذلها "
هذا الاعتراف لقاسم أمين ... وهو أول من دعا في مصر إلى " تحرير المرأة " .. تحريرها من عبوديتها لله إلى عبوديتها للشيطان والنفس الأمارة بالسوء ، كما قال ابن القيم رحمه الله :
(هربوا من الرق الذي خُلقوا له فبُلُوا برقّ النفس والشيطان
وبعد سبع سنوات من إعلانه لدعوته ونشرها بين الناس ، تنصّل من آرائه ورجع عن دعوته ، واعترف قائلاً : " لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في ( تحرير نسائهم ) وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب ، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم ، ولكن ... أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس ، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن ، وما ذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات ، فرأيت من فساد أخلاق الرجال ـ بل أسفّ ـ ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي ، واستنفر الناس إلى معارضتي ، رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاءة ، ثم ما وجدت زحاماً في طريق فمرت به امرأة إلا وتناولتها الأيدي والألسن جميعاً ، " إلى آخر ما ذكره .. وكان ذلك قبل وفاته بعامين ، وقد نشر هذا الاعتراف في جريدة الطاهر ( أكتوبر ، 1906 م )11 ، فما ذا يقول أدعياء تحرير المرأة اليوم ؟؟ ؟
ومن طريف ما يروى في ذلك ، أن المؤرخ الإسلامي ( رفيق العظم ) أراد أن يثبت لقاسم أمين فشله في دعوته بطريق عملي ، فطرق منزله يوماً فلما رآه الخادم أسرع وأخبر قاسم أمين الذي خرج لاستقباله ، فقال رفيق العظم : أنا في هذه المرة جئت لزيارة حرمكم لأتحدث معها في بعض المسائل الاجتماعية .... وعند ما استنكر قاسم أمين طلبه، أجابه رفيق العظم متعجباً : كيف تدعو لشيء وتمنع أهلك منه ؟!! إذاً فأنت تدعو الأمة إلى غير ما تريد لنفسك ! فقال قاسم : إن زوجتي تلقت تربيتها و ( عاداتها ) عن والديها ، وهي لم تألف ما أدعو إليه ، فضحك رفيق العظم وقال : كلنا هكذا ،والخير في ذلك ، وتهذيب المرأة لا يتوقف على لقائها بالرجل ، وقد أردت أن أبرهن لك على أن ما تدعو إليه يمجّه الناس جميعاً حتى أهل بيتك " 12
ونحن نقول لأدعياء تحرير المرأة اليوم ما قاله رفيق العظم رحمه الله : هل ترضون لنسائكم وبناتكم ما تدعون إليه وترضونه لنساء العالمين من التبرج والسفور والانحلال ومخالطة الرجال ؟ أجيبوا إن كنتم صادقين ..
أريد أن أرجع إلى أنوثتي
هذا الاعتراف للكاتبة المشهورة ( غنيمة المرزوق ) رئيسة تحرير مجلة ( أسرتي ) تتحدث لبنات جنسها بصراحة فتقول : " عيب أنتِ بنت " كلمة سمعناها كثيراً في طفولتنا .. وردّدتها ( أغلب العجائز ) آنذاك .
كنا نرى ( الولد ) يحظى بكل أنواع المتعة من مأكل وملبس ولعب وسيارات .. الخ.. كان قلبنا يحترق.. نريد أن نلعب بـ ( الفريج ) ولكن ( الحكارةِ ) لنا بالمرصاد وكلمة عيب .. عيب . كان كل شيء عيباً ، ولا نعرف ما معنى ( عيب ) وببراءة الطفولة سألت جدتي ( كيف أصبح رجلاً ) ؟ .. فردت بدهاء ( حِبّي كوعكِ ) 13 والكوع هو العظم الذي يفصل الذراع عن الزند 14 حاولنا مراراً مع بنات الفريج دون جدوى كبرنا وكبرت آمالنا وتطلعاتنا ، نلنا كل شيء ، نهلنا من العلم والمعرفة ما يفوق الوصف .. .. أصبحنا كالرجال تماماً .. نقود السيارة ، نسافر إلى الخارج . نلبس ( البنطلون ) !! .. ارتدينا الماكسي الشبيه بالدشداشة ، والحجاب الشبيه بـ ( الغترة ) ... أصبح لنا رصيد في البنك ... أصبح لنا رجل يحمينا ويعطينا كل شيء دون ( قرقة ) أو ( نجرة ) .... وصلنا إلى المناصب القيادية و ( اختلطنا ) بالرجال ، ورأينا الرجل الذي أخافنا في طفولتنا ، أصبحنا نحن النساء : رجالاً وبدأت تعتري أجسادنا الأمراض ، وأصبنا كما يصاب الرجل نتيجة تحمل المسؤولية بـ ( السكر وتصلب الشرايين ) .. .. بدأ الشيب يغزو الشعر الأسود ... وبدأ الشعر الكثيف الذي ( كأنه ليل أرخى سدوله ) بالسقوط .. وبدأت ( الصلعة ) تظهر نتيجة التفكير والتأمل و ( الذكاء ) !!
الرجل كما هو .. والمرأة غدت رجلاً تشرف على منزلها وتربي أطفالها و تأمر خدمها .... وتقف مع المقاولين وتقابل الرجال في العمل .. الخ وكثرت هذه الأيام ظاهرة ( العقم عند النساء ) ، وعن سؤال وُجه لاخصائي كبير في الهرمونات قال :
إن هناك تزايداً في (هرمونات الذكورة ) عند النساء في الكويت وقد يكون سببها البيئة !! هذه حقيقة ذكرها طبيب عريق في مجال ( العقم ) وبعد أن نلنا كل شيء .. وأثلجت صدورنا انتصاراتنا النسائية على الرجال في الكويت أقول لكم بصراحتي المعهودة : ( ما أجمل الأنوثة ) ،وما أجمل المرأة .. المرأة التي تحتمي بالرجل ، ويشعرها الرجل بقوته ، ويحرمها من ( السفر لوحدها ) ،ويطلب منها أن تجلس في بيتها .. تربي أطفالها وتشرف على مملكتها وهو ( السيد ) القوي ..
نعم ... أقولها بعد تجربة .. أريد أن أرجع إلى ( أنوثتي ) التي فقدتها أثناء اندفاعي في الحياة والعمل ....
إن الذكاء ( نقمة ) في بعض الأحيان ، وأغلب الأمراض الحديثة نتيجة ذلك ، وما أجمل الوضع الطبيعي لكل شيء لقد انفتح المجال أمامنا بشكل ( أتعبنا جميعاً ) ... والآن .. لو تيسر لنا فعلاً وبالآلات الحديثة ( حبة الكوع ) فلن أفعل هذا العمل إطلاقاً .. ولن أخبركم بالسر ، ولكن سأحتفظ به لنفسي ) 15
هذا ما قالته تلك الكاتبة المشهورة ، وهو كلام رائع جميل من امرأة مجربة ، تدرك ما تقول ، فيا ليت نساءنا وبناتنا يدركن ذلك جيداً ، ويعرفن قدر أنفسهن وما خلقن من أجله ، وإلا فإن أنوثتهن في خطر .
امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة
هذا الاعتراف للصحفية الأمريكية " هيلسيان ستانسبري " ، وهي صحفية متجولة ، تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية ، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ، وعملت في الإذاعة والتلفزيون والصحافة أكثر من عشرين سنة ، وزارت جميع بلاد العالم ، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها .(6/216)
زارت القاهرة ، وأمضت فيها عدة أسابيع ، زارت خلالها المدارس والجامعات ، ومعسكرات الشباب ، والمؤسسات الاجتماعية ، ومراكز الأحداث والمرأة والأطفال ، وبعض الأسر في مختلف الأحياء ، وذلك في رحلة دراسية ، لبحث مشاكل الشباب والأسرة في المجتمع ... وفي ختام زيارتها سجلت هذا الاعتراف حيث قالت :
" إن المجتمع العربي ( المسلم ) كامل وسليم ، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول ،وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي ، فعندكم أخلاق موروثة ، تحتم تقييد المرأة ، وتحتم احترام الأب والأم ، وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا ولذلك فإن القيود التي يفرضها مجتمعكم على الفتاة ، هذه القيود صالحة ونافعة ، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأميركا ... امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أميركا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً مقعداً ، مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة .. وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملؤون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية ، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا قد جعلت منهم عصابات أحداث ، وعصابات للمخدرات والرقيق .. إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي قد هدد الأسرة ، وزلزل القيم والأخلاق .. " انتهى كلامها ، وهو كلام واضح من امرأة مجربة نسوقه إلى دعاة الاختلاط وإلى فتياتنا المخدوعات في كل قطر من أقطارنا الإسلامية ، فهل من مدّكر .
" قروية ساذجة في حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية "
هذا الاعتراف لأستاذة مصرية اسمها " عزيزة عباس عصفور " تعليقاً على قرار أصدره وزير العدل المصري بتعيين بعض النساء حقوقيات – في نيابات الأحداث فقالت :
" لو كانت الخطوة التي خطاها وزير العدل بتعيين ( الحقوقيات ) في نيابات الأحداث كسباً للمرأة لكنت أول من تدعو الله أن يبارك للمرأة فيها ، أما وإني ممن خرجتهن كلية الحقوق في الأفواج الأولى ، وزاولتُ المحاماة أكثر من عشر سنين ، وبلوت فيها حلاوتها ومرارتها معاً ، فإنني أعلن بصراحة أن النيابة والمحاماة معاً تنافيان مع طبيعة المرأة وتتعارضان مع مصلحتهما ، وأعلن إشفاقي على البقية الباقية من فتياتنا المثقفات اللاتي مازلن بخير أن يجربن هذه التجربة المريرة المضنية ، وأهيب بهن أن ينجون بأنفسهن من عاقبة لا يدركن مرارتها إلا بعد أن يقعن فيها ، ويهدمن بأيديهن صرح سعادتهن ، لقد تحطمت أعصابنا – نحن المحاميات – من إرهاق المهنة وعنائها ، ومن محاربتنا للطبيعة وتنكبنا طريق الواقع ، بالله ما ذا تكون العاقبة إذا خضعت النائبة لطبيعتها واستجابت لحقها في الحياة فتزوجت ورزقت أطفالاً ، فاقتلعتها من بينهم طبيعة التحقيقات والانتقالات والمعاينات ،وتركت زوجها قعيد الدار يربي الأولاد ، ويرضع الصغار ،وهي في الخارج تدور في كل مكان كأنها رجل الشارع يهجر بيته آناء الليل وأطراف النهار ، وماذا تصنع إذا عنيت فلا بلاد نائية عن أهلها ، وليس بها مكان للسكن غير استراحة الموظفين ، هل تبيت ليلتها مع زملائها من الرجال ؟ إن الدين والأخلاق والعرف الحميد تحتم أن تعيش المرأة بعيدة عن مواطن الفتنة والإغراء والزلل ، واختلاطها على هذه الصورة يعرضها لخطر محقق وضرر مؤكد ، ويضع سيرتها في ألسن الناس تلوكها بالمذمة والمسبة والعار .. إن رسالة المرأة في الحياة لها جلالها وقدسيتها التي تعادلها حقوق تمنحها ولا امتيازات تعطاها وإن كثرت " ثم تقول :
" ولقروية ساذجة في حجرها طفل أفضل للأمة وأنفع للبلاد من ألف نائبة وألف محامية ، وحكمة الله فيكن أن تكنّ أمهات " 16
" لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك "
في مقابلة صحفية أجرتها إحدى المجلات العربية مع " نادية أوبيربيه " وهي امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت :
" وجدت المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، واعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان بسعادة تفوق سعادتنا ، وربما كان الأمر مختلفاً بالنسبة للمرأة العاملة التي تقع عليها أعباء كثيرة بالإضافة إلى أعباء البيت " .
وتوجه نصحها للمرأة المسلمة فتقول :
" لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك ، لأن عائلاتها هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى " 17
إن بقاء المرأة في بيتها ، واهتمامها برعاية زوجها وأولادها هو سر نجاحها وسعادتها، واستقرار الأسرة وتماسكها لا سيما وأن الإسلام أمر المرأة بطاعة زوجها في المعروف كما أمر الرجل بإكرام المرأة واحترامها والعطف عليها فقال عليه الصلاة والسلام : " استوصوا بالنساء خيراً " 18
بل إن بقاء المرأة في بيتها ، هو سر نجاح الأمم وتفوقها كما شهد بذلك العقلاء من الفلاسفة والمفكرين . ... وخروجها وتبرجها واختلاطها بالرجال من أكبر الأسباب المؤدية إلى انهيار الأمم وسقوط الحضارات ، ومن الأمثلة على الحضارة الرومانية .
جاء في دائرة معارف القرن التاسع عشر : " كان النساء عند الرومانيين مُحِبّات للعمل مثل محبة الرجال له ، وكن يشتغلن في بيوتهن ، أما الأزواج والآباء فكانوا يقتحمون غمرات الحروب، وكان أهم أعمال النساء بعد تدبير المنزل، الغَزْل وشغل الصوف ، ثم دعاهم بعد ذلك داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن معهم مجالس الأنس والطرب ، فخرجن كخروج الفؤاد من بين الأصابع ، فتمكن الرجل لمحض حظ نفسه من إفساد أخلاقهن وتدنيس طهارتهن وهتك حيائهن حتى صرن يحضرن المراقص ، و يغنّين في المنتديات ، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تعيين رجال السياسة وخلعهم ، فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحال حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري " 19
وهكذا سائر الحضارات التي انهارت وسقطت وها هي ذي الحضارة الغربية اليوم كما صرّح بذلك عقلاؤها تعيش في النزع وتعاني من سكرات الموت .. وما ذلك إلا للسبب نفسه .. فهل من معتبر بذلك ؟ ...
" بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك "
" فابيان " عارضة الأزياء المشهورة فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها ، تركت العطور والفراء ودنيا الأزياء وجاءت إلى الحدود الأفغانية لتعيش ما تبقّى من عمرها وسط الأسر المسلمة ...
تعترف " فابيان " فتقول :
" لولا فضل الله علىّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان ، كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ .. "
ثم تضيف :
" كان الطريق أمامي سهلاً ، أو هكذا بدا لي – فسرعان ما عرفت طعم الشهرة ، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها ، ولكن كان الثمن غالياً ، فكان يجب أولاً أن تجرد من إنسانيتي ، وكان شرط النجاح والتألق أن أفقد حساسيتي وشعوري ، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت بداخله ، وأفقد ذكائي ، ولا أحاول أن أفهم أي شيء غير حركات جسدي ، وإيقاعات الموسيقى ، كما كان عليّ أن أحرم من جميع المأكولات اللذيذة ، وأعيش على الفيتامينات الكيمائية ، والمقويات والمنشطات ، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر ، لا أكره ، ولا أحب ، ولا أرفض أي شيء .... " ثم تعترف وتقول :(6/217)
" إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول ، فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل ... لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس ، فكنت جماداً يتحرك ويبتسم ولكنه لا يشعر ، ولم أكن وحدي المطالبة بذلك ، فكلما تألقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم القاسي البارد ، أما إذا خالفت أيّاً من تعاليم الأزياء فتعرّض نسفها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي والجسماني أيضاً " ثم تضيف :
" عشت أتجول في العالم عارضةً لأحدث خطوط الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل ولا حياء "
وتنفعل " فابيان " وهي تقول : " لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ إلا من الهواء والقسوة ، بينما كنت أشعر بمهانة النظرات واحتقارهم لي شخصياً ، واحترامهم لما أرتديه " 20
هذا ما قالته " فابيان " عارضة الأزياء الفرنسية الشابة بعد إسلامها وفرارها من ذلك الجحيم الذي لا يطاق ، وهو كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق ..
" أنا أنثى .. أعتز بأنوثتي .. أنا امرأة "
هذا الاعتراف للأديبة الكويتية " ليلى العثمان " حيث كتبت تقول :
" سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى بـ (حرية المرأة ) تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها .. على حساب كرامتها ، وعلى حساب بيتها وأولادها . .. سأقول: إنني لن أحمّل نفسي – كما تفعل كثيرات – مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل .. نعم أنا امرأة "
ثم تقول :
" هل يعني هذا أن أنظر إلى البيت – الذي هو جنة المرأة – على أنه السجن المؤبد ، وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يشد على عنقي ، وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبّل قدمي خشية أن تسبقه خطوتي ؟؟؟ لا أنا أنثى وأعتز بأنوثتي .. وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله .. وأنا ربة بيت .. ولا بأس بعد ذلك أن أكون عاملة أخدم خارج البيت نطاق الأسرة .. ولكن – ويا رب أشهد بيتي أولاً ..ثم بيتي ... ثم بيتي .. ثم العالم الآخر " 21
إن دعوى مساواة المرأة بالرجل في كل شيء دعوى مرفوضة شرعاً وعقلاً ، أما شرعاً فإن الله جعل شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين ، وجعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين ،وكذلك جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل ، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم (( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)) (آل عمران: من الآية36)
أما عقلاً فإن ذلك أمر محسوس فالمرأة يصيبها ما لا يصيب الرجل من الحمل والولادة والحيض والنفاس ، وهذا وحده كافٍ في منع المساواة بين الجنسين .
بل إن العلم الحديث أثبت نقص عقل المرأة واختلافها كلياً عن الرجل ، ففي السنوات الأخيرة عُقِدَت حلقةُ بحث في المركز الطبي بجامعة كاليفورنيا ، عُرضَت خلالها مجموعة من نتائج الدراسات التي امتدت على مدَى ما يقرب من عشر سنوات ومن بين هذه الدراسات بحث قدمته الطبيبة ( اليانور ماكوني ) تناولت فيه الاختلافات العقلية بين الرجل والمرأة ، معتمدة على الإحصاءات التي سُجلت في هذا الصدد خلال الأربعين سنة الأخيرة ،، وكان من أبرز النتائج التي توصلت إليها ( اليانور ) أن الرجال أكثر إنتاجاً وابتكاراً من النساء ، حتى في المجالات الأدبية،،، وتأكدت تلك الفوارق أيضاً من خلال اختبارات الذكاء التي تجري على الجنسين عند الالتحاق بالجامعات .. حيث ثبت أن نسبة الذكاء في الصبيان كانت أعلى منها في البنات 22 وأرجع الباحثون السبب في ذلك إلى وجود نقص في الصفات التحليلية للعقل عند الإناث ، وكانت " اليانور " قد توصلت إلى مثل هذه النتائج بعد إجراء مجموعة من الاختبارات المختلفة التي تبرز الملكات العقلية من حيث الاستقلال في التفكير ، ومدى الاعتماد على الغير ، وتحليل المشكلات المتنوعة ، ومدى القدرة على التركيز .
وتقول د : اليانور ماكوبي: " إن الفتيات يختلفن عن الصبيان في طريقة صقل تفكيرهن .. فيصرن أكثر ميلاً إلى النظرة العامة الشاملة ، وأقل ميلاً للنواحي التحليلية .. " 23
وهناك باحثة أخرى تشاطر الطبيبة اليانور رأيها في هذه المسألة ، وهي الباحثة " ماريا مان " التي تقول :
" إن النساء مصابات باضطراب عقلي يجعل الأنوثة مثلاً أعلى لديهن كضمان للسعادة فهن مطالبات بأن يكن نحيلات القوام ، أنيقات ، مرحات ، عذبات الحديث ، وذوات جاذبية جنسية ، ويعرفن كيف يتفنن في طهو الطعام ، وتربية الأبناء ، ومعاونة الزوج ... " 24
هذه شهادة امرأتين – إحداهما طبيبة والأخرى باحثة على بنات جنسهما شهدتا بأن المرأة لديها نقص في الصفات التحليلية للعقل ، وهذا ما أخبر به نبينا محمد r حين قال :
(( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُّب الرجل الحازم من إحداكن... )) متفق عليه
ونحن لسنا بحاجة إلى شهادة أحد من الناس بعد قول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .. . ولكن بعض النفوس المريضة لا تطمئن إلا لمثل هذا الأقوال ، ولو كانت مخالفة لكلام الله وكلام رسوله r فأنا أذكرها هنا حتى لا يبقى لمعتذر عذر .. والله تعالى أعلى وأعلم
أفيقي أُخيََّة
بما أن الحديث عن دعوى تحرير المرأة فقد رأيت أن أضيف هذه القصيدة من الشعر الحر للشاعر الأديب إبراهيم أبو عباة وفقه الله .. وهي قصيدة رائعة ، تحمل معاني عظيمة يقول فيها
تعالت هتافاتهم ..
حرروها .. تعالت هتافاتهم ...
أطلقوها ...
دعوها تمارس حق الحياة ...
تميط اللثام ...
وتلقي الحجاب ...
تحطم كل القديم ....
تثور على كل شيء قديم ...
تعالت شعارات أهل الفساد ....
لكي يخدعوها ...
فباسم التقدم ..
واسم التحرر ...
واسم التمدن ...
قالوا دعوها ...
دعوها تمارس ما تشتهي ...
دعوها تعاشر من تشتهي ...
دعوها تطالبكم بالحقوق ....
دعوها دعوها ولا تمنعوها ...
أفيقي أخية
وقولي دعوني ...
دعوني فإني ...
أريد حيائي ...
أريد إبائي ...
دعوني ... دعوني ...
فإني أبيّة ..
أنا لست ألعوبة في يديكم ..
تريدون أن تعبثوا بشبابي ..
فألقي حجابي ...
وأخرج ألقى قطيع الذئاب ...
وبعض الكلاب ...
فتنهشني فأكون ضحية ...
تريدونني أن أكون مطية ...
أريد السعادة في منزلي ...
لأحفظ نفسي ..
لأسعد زوجي ..
لأرعى بناتي ..
وأرعى بَنِيَّة ...
أفيقي أُخيَّة ...
يريدون هدم صروح الفضلية ...
يريدون قتل المعاني الجميلة ..
يريدون قتل المعاني الجميلة ..
يريدون وأدكِ والنفس حية ..
أنا لست أقبل هذا الهراء ..
وهذا العداء ..
فهيا اخرسوا أيها الأدعياء ...
فأنتم دعاة الهوى والرذيلة ...
لقد جرّب الغرب ما تدّعون ...
فهاهم لما زرعوا يحصدون ...
حصاد الهشيم ...
ترى البنت تخرج من بيتها ...
قبيل البلوغ ..
فترجع تحمل في بطنها ..
نتاج اللقاح .....
فتجهضه .... لتعيد اللقاء ..
وحيناً تدعه يلاقي الحياة ....
فتلقيه في ملجأ أو حضانة ...
فيبحث عن أمه وأبيه ..
لكي يطعموه .....
لكي يرحموه .. .
لكي يمنحوه الحنان الكبير ....
لكي يرضعوه ..
ولكنه لا يرى ما يريد ...
فينشأ يحمل حقداً دفيناً ...
لكل الوجود ...
فيخرج للكون دون قيود ....
ليقتل هذا ...
و يسلب هذا ..
ويغصب تلك بغير حدود ...
أفيقي أخية ..
أهذي الحقوق كما تزعمون ..
فأفٍّ لكم ولما تدعون ..
أنا لست أقبل هذا الهراء ..
فهيا اخرسوا أيها الأدعياء ...
أنا لست أقبل غير تعاليم ديني ...
ففيها النجاة ...
وفيها الحياة ...
وفيها السعادة حتى الممات ...
أفيقي أخية .. أفيفي أخيه ...(6/218)