5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة ، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم .
6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.
ثالثاً: مراحل التطبيع
المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م ( اللقاءات السرية ) :
كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني ، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن ، وبعضها قبل حرب 1967م ، وما كشفه كتاب ( تواطؤ عبر الأردن ) ، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن : عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين ، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي ، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 - 1976م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر و الكيان الصهيوني .
المرحلة الثانية : مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م ( كسر الحاجز النفسي ):
زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977م ، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي ، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979م ، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة ، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً .
المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...( الهرولة السريعة ) :
جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية .
المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م ( التهدئة التكتيكية ) :
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق ، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني ، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان ، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني ، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى ):
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق ، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.
المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق ( الهرولة الجماعية ) :
يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، و هو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى ، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توفر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي .
رابعاً :نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني :
أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر و الكيان الصهيوني 1979م)
" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:
1- يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي .
2- يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.
3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض. (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية ).(5/230)
ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن ) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م ، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله تعالى : ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ )) (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن .
ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن و الكيان الصهيوني 1994 م )
لا يخفى إهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة ، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي :
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
خامساً: من وسائل التطبيع
من أخطر وسائل التطبيع ، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:-
1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م ، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني .
2- إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:
* الطعن في الإسلام وإدعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق ، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية ...الخ .
* القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.
* الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات ، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.
3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام ، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية ، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ – تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – وإلغاء ذاكرة الأمة .
4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية ، تفتقد المرجعية العلمية ، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة .
5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.
6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالارهاب.
7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة ( عزمي بشارة ) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.
فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة ، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد ، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية ، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل ، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة ، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية ، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام ، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً .
سادساً : من فعاليات التطبيع(5/231)
ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي ، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية و الصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:
- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.
- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.
ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م ، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش ( مارس 1994م )، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة" ، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب .
وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:
- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).
- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).
- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.
- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.
من آثار التطبيع :-
أولاً: فلسطين
1 - الجانب السياسي :
من أبرز المبادئ اليهودية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين العمل على عدم تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية مستقلة ، لأن إقامتها يعني وجود منافس حول الشرعية المرتبطة بالأرض التي يعيش عليها اليهود ، وأخطر من ذلك سياسة استيعاب الشعب الفلسطيني عن طريق :
- استيعاب الفرد معنوياً وحضارياً سواء بإيجاد الاحترام والانتماء العربي أو بإيجاد الإعجاب بالحضارة اليهودية .
- تشجيع زواج العربي باليهودية وخاصة الشرقية مع مخالفة ذلك لمبادئ النقاء اليهودي ولكن ذلك قد يؤدي في الأمد البعيد إلى إضعاف العنصر الفلسطيني .
- الاستئصال العضوي وله وسائل متعددة كالقتل أو الطرد أو التشجيع على الهجرة الدائمة .
وإذا نظرنا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية ، فإنها تجد نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والإستخباراتي خصوصاً ، مما يضرها وهذا بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما تقلل مساحة الوجود للفصائل الفلسطينية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل لهذه الفصائل 2 - الجانب الاجتماعي :-
سعى اليهود للتقليل من تكاثر المسلمين في فلسطين (عام 1948م ) خاصة وبقية الأراضي المحتلة بوسائل متعددة كنشر الأمراض الجنسية وترويج مواد استهلاكية وأدوية تؤدي إلى العقم ، وقد صرح وزير الصحة الفلسطيني السابق عبد العزيز شاهين عن اكتشاف ما يقارب العشرين طناَ من علكة لبان تسبب العقم كانت توزع داخل فلسطين المحتلة .
3 - الجانب الاقتصادي :
منذ العام 1967م بدأ اليهود باستخدام العملة اليهودية في المناطق المحتلة وتحويل أفرع البنوك العربية إلى بنوك يهودية وفتح باب التبادل التجاري بين المناطق المحتلة و الكيان الصهيوني وتشجيع زراعة المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الكيان الصهيوني للاستهلاك المحلي أو قيامه بتصديرها إلى أوربا وتنشيط إدماج العمالة العربية في قوة العمل اليهودية لتوثيق الامتزاج الاقتصادي ولكن بشروط قاسية حيث يعمل العربي ساعات أكثر من اليهودي ويأخذ أجراً يماثل نصف أجر العامل اليهودي الذي يؤدي العمل نفسه ، إضافة إلى تعرض بعض العمال العرب إلى اعتداءات عنصرية من رجال الشرطة أو رجال سلاح الحدود اليهود بل وحتى من العمال اليهود ،ومع استمرار مسلسل الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية تزايد عدد الأسر الفقيرة إما بسبب مقتل عائلها أو اعتقاله ، وكان من نتيجة ذلك سيطرة اقتصادية يهودية شبه كاملة على الضفة وقطاع غزة ، بلغ فيه حجم التعامل الاقتصادي مع اليهود 83% وحقق اليهود من ورائها سوقاً يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الأفريقية ، وبعد بدء مسلسل المفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني ظهر منذ البداية الاهتمام الأميركي ـ الصهيوني بالمضمون الاقتصادي للعملية السلمية، حيث تم التركيز بشكل خاص على ضرورة البدء بإقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد بادرت مدرسة جون كيندي في جامعة هارفارد إلى دعوة اقتصاديين أكاديميين من فلسطين والأردن والكيان الصهيوني ليعملوا تحت أشراف اقتصاديين أميركيين على تحديد مستقبل التعاون الاقتصادي بين بلدانهم وعقد ذلك المؤتمر قبل توقيع اتفاق أوسلو، وتم بعد ذلك اعتماد الكثير من توصياته في الاتفاقية الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير التي وقعت في باريس العام 1994 م .(5/232)
وقد كان الفلسطينيون قد وعدوا عند توقيع اتفاقية أوسلو بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولكن الواقع الحالي يشهد بما يعانيه ساكني مسرى الأنبياء من فقر وحاجة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير .
ثانياً : مصر
1 - الجانب السياسي :
تم عزل مصر عن محيطها العربي فلم يكن لها دور في أحداث عظام وقعت بعد توقيعها لاتفاقية ( كامب ديفيد) كتدمير المفاعل النووي العراقي وقمع اليهود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشراسة ودعمهم لإثيوبيا ولحركة التمرد في جنوب السودان وغيرها من الأحداث ، أما على الصعيد الداخلي فقد كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس (الإسرائيلية)، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري (الإسرائيلي) بالسفارة، والتي كشفت في أوائل أغسطس 1985م ، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية (الإسرائيلية)، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى (إسرائيل) عبر الحقيبة الدبلوماسية، وكذلك قام ضباط "الموساد" بالسفارة (الإسرائيلية) بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى (إسرائيل) ، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.
وهناك قضية (الإسرائيليين) الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلماَ للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها.( المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م ) .
2 -الجانب الثقافي
نشر المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م ، بحثاً بعنوان مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والإستراتيجية الصهيونية ، وهذه مقاطع من البحث :-
]ضمن الإطار التطبيعي أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة ، ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية ، وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 م "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع، ونظراً لكونه الأخطر في ميدان إستراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلية) ، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني حيث ركّز المركز جهوده خلال فترة ماضية للحصول على معلومات عن طلبة كليات العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، فاختير عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت المجهر، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة كتب فيها:
بناء على تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات، ونودّ أن ننبهكم أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أحدث ما توصل إليه العلم ، فأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدها جهاز لتحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة، و الثاني جهاز لإنتاج سماد يعيد خصوبة الأرض، ويحول الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، لطالب في كلية الزراعة ، وهو الوحيد الذي قابل السفير الإسرائيلي في اليوم التالي ليعرض اختراعه ، فعرض عليه السفر ، وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافأة لكل يوم يقضيه في الكيان الصهيوني ، إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في البنك الأمريكي المصري .
والمؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً تطبيعية في جسد المجتمع المصري لا حصر لها، وسوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي:
1- الجامعة الأمريكية في القاهرة .
2- المركز الثقافي الأمريكي في مصر .
3- مؤسسة فورد : يرى باحثون منصفون أنها من أخطر مؤسسات التغريب العالمي الأمريكية ، وقد انفردت بتمويل ( أبحاث ودراسات الشرق الأوسط ) وعبر هذه المؤسسة تقوم ( وكالة التنمية الأمريكية: ( aid بتخصيص حوالي مائة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم .
4- مؤسّسة راند الأمريكية وهي مؤسسة دراسات وأبحاث تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية.
5- معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد "ام-أي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).
6- الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.
7- مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية).
8- "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، ويتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي , كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة، وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها هذا المركز:
-بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".
-دراسة ليوناردو بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".
-دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".
ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري وتمثّل ذلك في عشرات الأبحاث المموّلة ومنها :
دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة.. إلخ.(5/233)
9- هيئة المعونة الأمريكية: استطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل)، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعونة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» [
وقد أوردت صحيفة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م تحت عنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وبينت الصحيفة أيضا : أن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس محبة الحضارة الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية ، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.
3 -الجانب الاجتماعي :
* ازدياد أعداد المصابين بمرض السرطان بسبب الكثير مما يتم استيراده من الكيان الصهيوني .
* انتشار المخدرات بشكل كبير بين فئات المجتمع كلها .
* السماح بدخول اليهوديات بأعداد كبيرة بزعم تنشيط السياحة فقمن بنشر الأمراض واقترنت الكثير منهن بشباب مصريين حتى بلغ عدد الزيجات أكثر من عشرين ألفا زواجاً مختلطاً.
* ظهور جماعات منحرفة من الشباب تحمل عقائد باطلة كمن يتسمون بعبدة الشيطان .
4- الجانب الاقتصادي :
يعد هذا الجانب من أبرز الجوانب التي يحرص عليها اليهود لأهميته ، وقد وقعوا مع مصر على اتفاقية الكويز :( QIZ: qualifying industrial zones) في 12/2004 م، لإقامة المناطق الصناعية ( في طور التأهيل ) ، وهذه الاتفاقية هي تطبيق للقسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا والكيان الصهيوني المبرمة عام 1985 م ، وهي ليست اتفاقية مستقلة بين حكومتين من الناحية الفعلية فقد وافق الكونجرس الأمريكي على إعطاء الرئيس الأمريكي الإذن بالسماح لمصر والأردن بتصدير منتجاتهما إلى أمريكا دون دفع رسوم جمركية بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي بنسبة 7,11 % كحد أدنى ، وهي تشمل كل الصناعات والسلع ، وقد تم في مصر استبعاد أهم المناطق الصناعية التي تنتج الملابس الجاهزة كمدينة المحلة الكبرى ( قلعة النسيج في مصر ) ومدينة 6 أكتوبر والتي يوجد فيها أكثر من 200 مصنع وغيرها من الأماكن فلا تشملها الاتفاقية ، ويتضح من هذا الاستبعاد مراعاة مصالح خاصة لبعض رجال الأعمال ، واتفاقية الكويز تناقض اتفاقية التجارة الدولية ( الجات ) والتي تؤكد على عدم وضع شروط تفصيلية لبعض الدول دون البعض الآخر ، وكذلك هي مخالفة للقانون والدستور المصري لأنها حفظت في مجلس الشعب دون عرضها للنقاش، بل لم تنشر إلى الآن ؟
ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الاتفاقية أنها لم تحدد الحد الأقصى للمكونات الإسرائيلية الداخلة في المنتجات ، وهي ستساهم في زيادة الكساد للمصانع المصرية وستمكن اليهود من اختراق منظومة المعلومات الخاصة بالصناعة المصرية وستدخل غالب الأرباح الناتجة منها للخزينة اليهودية وستتسبب في هروب رؤؤس الأموال العربية وستقضي على حلم السوق العربية المشتركة ، وكذلك فإنها ستمكن بقية الدول العربية من إظهار التطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وما سيتبع ذلك من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني ، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر.
ومن أبرز المستجدات في الجانب الاقتصادي ، قيام شركة (EMG) الصهيونية – المصرية المشتركة بالتوقيع على صفقة لشراء الغاز الطبيعي مع وزير البترول المصري ( سامح فهمي ) وشركتين حكوميتين تعملان في مجال الغاز في مصر حيث سيتم سنوياً شراء 7 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري ولمدة عشرين عاما بقيمة 5,2 مليار دولار تقريبا ثم بيعه بعد ذلك إلى شركة الكهرباء ( الإسرائيلية ) ، وذكرت مصادر رسمية في مجال الطاقة بالكيان الصهيوني : إن كمية الغاز المتبقية سيتم بيعها لتركيا واليونان ودول أوربية أخرى ، وقالت تلك المصادر : إن نسبة الغاز التي ستنقل لشركة الكهرباء الإسرائيلية تصل إلى1,7 مليون متر مكعب في العام الواحد وتقوم شركة(EMG) حالياً بإجراء مفاوضات مع شركات( إسرائيلية ) أخرى لبيع كميات من الغاز المصري لها ، والشركة يمتلك رجل الأعمال الإسرائيلي ( يوسي ميمان ) نسبة 25% ويمتلك رجل الأعمال المصري (حسين سالم ) نسبة 65% أما الحكومة المصرية فتمتلك 10% فقط من أسهم الشركة .
وكذلك نقل موقع ( مفكرة الإسلام) على شبكة الانترنت الخبر التالي : كشف موقع صهيوني أن الرئيس المصري ( حسني مبارك ) أبلغ ( شيمون بيريز ) نائب رئيس الحكومة ( الإسرائيلية ) بموافقته على إقامة منطقة زراعية مشتركة على الحدود المصرية- الصهيونية وذكر موقع ( القناة السابعة ) العبري الإخباري أن ( بيريز ) أجرى اتصالاً هاتفياً برئيس مجلس مدينة ( رامات هناجف ) بصحراء النقب وأبلغه موافقة الرئيس مبارك على مشروع مشترك لتطوير المنطقة الحدودية بين مصر و( إسرائيل ) وإقامة مشروع زراعي على مستوى عالٍ يندرج ضمن مشاريع التعاون الإقليمي المشتركة ، وقال ( موشيه برائيل ) مراسل الموقع : إن الرئيس مبارك وافق كذلك على مشروع تقدم به مجلس مدينة (رامات هناجف ) يقضي بإقامة معبر سياحي لاستقبال السائحين بالقرب من معبر ( نيتساناه ) الحدودي بين مصر و( إسرائيل ) .
وأخيراً لا يخفى ما يعيشه الناس في مصر من أزمات اقتصادية خانقة متتالية وصل فيها معدل البطالة إلى 5,10 % والدين الخارجي إلى أكثر من 30 مليار دولار وبلغ الدين الداخلي ما يزيد على 300 مليار جنيه .
ثالثاً :- الأردن
الجانب السياسي :(5/234)
" كانت اللقاءات بين الملك حسين واليهود مستمرة عن طريق الوسطاء منذ العام 1950 م ، ثم تطورت حتى بدأ اليهود يبلغون الملك حسين بمحاولات اغتياله ( 1958 م ) عن طريق بريطانيا، وفي عام 1960 م اغتيل رئيس الوزراء الأردني المجالي وكان المستهدف هو الملك حسين ، وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى سوريا فقام الملك حسين بنقل جزء من قواته المرابطة على حدوده مع فلسطين إلى حدوده مع سوريا وأكد على اليهود بعدم استغلال ذلك ، ولكنه عدل عن الفكرة فيما بعد، ثم كان اللقاء الأول للملك حسين مع المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في سبتمبر عام 1963 م ، ثم تتابعت اللقاءات إلى أن التقى الملك حسين مع موشي ديان في لندن عام 1977 م " من كتاب ( تواطؤ عبر الأردن )، ولا يخفي مقولة الملك حسين عندما أدخل اليهود في قائمة المؤمنين حيث قال في خطابه يوم 15\11\1994 م :" إن السلام المعقود مع إسرائيل سيكون سلاما تنعم به الأجيال من العباد المؤمنين من نسل إبراهيم, ويؤدي إلى علاقات الإخوة بين المؤمنين الذين جعل الله لهم القدس محج أنظارهم جميعا.
الجانب الاقتصادي :
بعد أن وقع الأردن على (اتفاقية الكويز) مع الكيان الصهيوني عام 2003 م ، هبط الميزان التجاري الأردني مع الكيان الصهيوني من 24 مليون دولار عام 1999 م إلى عجز بقيمة 26 مليون دولار عام 2003 م وقد تسببت هذه الاتفاقية بخسارة كبيرة لكثير من مصانع المواد الكهربائية وزيادة نسبة البطالة أيضا ، ويمكن رصد عينة من ممارسات التطبيع التجاري والصناعي بين الجانبين خلال الأعوام الماضية :
* يعمل الإسرائيليون على الاستفادة من رخص الأيدي العاملة الأردنية لزيادة إنتاجهم وخفض كلفة الإنتاج ، وذلك عبر نقل مصانعهم إلى الأردن ، أو اتخاذ مصانع وكيلة لهم في المناطق الصناعية .
* تهتم هذه المصانع بالاستفادة من الانفتاح الأردني الواسع على الدول العربية لترويج بعض منتجاتها في دول لا تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني بوصف هذه البضائع أردنية المنشأ والإنتاج .
* من المشاريع الهامة التي نجح الإسرائيليون في إقامتها :
* تمكنت شركة " شتراوس " الإسرائيلية المتخصصة في صناعة منتجات الألبان من نقل جزء من صناعاتها إلى الأردن في منتصف عام 1998م ، وقد خطط لتصدير الكثير من الإنتاج إلى الدول العربية ، غير أن الشركة تعاني من صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتها حيث اكتشف عدد من التجار مصدر الألبان الذي تصلهم منه ، مما جعل السوق الرئيسي لها هو الدول العربية بوصفها منتجات أردنية .
* خرّجت كلية " شنكر"الإسرائيلية لتعليم مهنة الحياكة وفنون الموضة وإنتاج الملابس الجاهزة خمسة عشر عاملا أردنيا على نفقة مؤسسات إسرائيلية بهدف إلحاقهم بالمصانع الإسرائيلية التي أقيمت في الأردن .
وقبل فترة وجيزة أعلن رسمياً عن تطوير الاتفاق التجاري الذي يربط بين الكيان الصهيوني والأردن، ما يعطي مزيداً من الفرص للتعاون فيما بينهما للتصدير المشترك لأوربا ، فقد أجرت صحيفة (هارتس) العبرية حواراً مع مسئول التجارة بالإتحاد الأوربي (بيتر مندلسون) حيث أكد أن هذا الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوربي مع الأردن و الكيان الصهيوني لم يكن رد فعل متأخر لاتفاق (الكويز ) الموقع مع الولايات المتحدة ، وقال :إن التعاون معهما بدأ قبل تنفيذ هذا الاتفاق ، وعن إمكانية التوقيع على اتفاق مماثل بين مصر والكيان الصهيوني قال المسئول الأوربي : إنه يتمنى دخول مصر تلك المنظومة التجارية ، كما أشار إلى أن الإتحاد الأوربي يبدي اهتماماً خاصاً باتفاق التجارة الحالي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية ، وأنه معني باستمراره في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه حيث أن مسئولي الاتحاد الأوربي يرون أن هذا الاتفاق إذا تم وقفه سيؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع ، كما سيضر بمحادثات السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حسب رأيهم .
وأخيرا فالشعب الأردني المسلم والذي ظلت قيادته متمسكة بتعهداتها للعدو الصهيوني لا يزال يئن من شدة الحاجة والفاقة ، وأرضه تحوي من الخيرات والثروات الشيء الكثير ، حتى وصل الحال " بحاملي درجة الدكتوراه - العاطلين عن العمل - أن يسيروا في مظاهرات في شوارع عمان " ( تقرير بثته فضائية الجزيرة ).
رابعاً:- موريتانيا
وضع موريتانيا الجغرافي وثقلها السياسي الهش جعلها دومًا بعيدة عن الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني , إلا أن نظام معاوية ولد الطايع (المخلوع) مد جسور العلاقة مع الكيان الصهيوني, وجعل من بلاده أول بلد عربي خارج دول الطوق يكسر حاجز التطبيع مع الصهاينة, ليكون ثالث نظام عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني ، ولعلنا نقول: إن علاقات موريتانيا مع الكيان الصهيوني تفوقت واتسمت بدفء مستمر لم تشهده علاقات الكيان مع أية دولة عربية أخرى, ففي نوفمبر 1995 م وقعت موريتانيا اتفاقًا تعترف فيه بالكيان الصهيوني وتقيم علاقات معها، و في أكتوبر 1998م زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني الكيان الصهيوني ؛ حيث عقد محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني السابق بنيامين نتانياهو، ثم أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني في أكتوبر 1999م, وفي ذات العام تواردت الأنباء عن سماح النظام الموريتاني بدفن نفايات نووية من الكيان الصهيوني في البلاد في صفقة لم يتم الكشف عن جميع أبعادها، وقد زار وزير الخارجية ولد عبدي الكيان الصهيوني في مايو 2001م اجتمع خلالها مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون ووزير خارجيته شيمون بيريز ، و في أبريل 2002م قاومت الحكومة الموريتانية الضغوط لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني ، بسبب حملته العسكرية الإجرامية على الفلسطينيين في الضفة الغربية, مع أن مصر قد اضطرت تحت الضغوط الشعبية إلى سحب سفيرها من الكيان الصهيوني وتبعتها في ذلك الأردن، و في مايو 2005 م أجرى وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم محادثات مع مسؤولين بارزين في الحكومة الموريتانية.
خامساً :- المغرب
يمثل النظام المغربي حالة فريدة في التطبيع من خلال أدواره التاريخية في تسهيل الاتصالات الإسرائيلية – العربية بالمنطقة ،منذ بداية الستينات حيث كان يعمل على تهجير المغاربة اليهود إلى الكيان الصهيوني مقابل رسوم مالية بالدولار ، ويشكل حجم الجالية اليهودية الكبير وسيلة تواصل دائم بين الجانبين ، حيث يوجد حوالي مليون يهودي مغربي بالكيان الصهيوني و300 ألف يهودي مقيم بالمغرب ، وهو أكبر عدد لطائفة يهودية في دولة عربية، كما يوجد في المغرب عدة جمعيات يهودية تعمل في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني كجمعية هوية وحوارالتي تأسست عام 1974 م ، والتجمع العالمي لليهودية الذي تأسس عام 1985م ، والمركز العالمي للأبحاث حول اليهود المغاربة الذي تأسس عام 1995 م ، ثم الاتحاد العالمي لليهود المغاربة الذي تأسس في 3 مايو 1999م.(5/235)
وقد قام النظام المغربي بدور كبير في اتفاقية ( كامب ديفيد) ، ففي اللقاء التمهيدي بين الحسن الثاني وموشي ديان - وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك - الذي سأل الملك متعجباَ عن كيفية عمله كمنسق بين الكيان الصهيوني والدول العربية ، أجاب الملك بكل سهولة : ( أتعرف أنه لو علم بوجودك هنا فلن يطيح هذا العمل بي عن العرش والسبب شعبيتي الكبيرة بين اليهود )، ثم تلا ذلك عدد من الاجتماعات بين ( موشي ديان) و حسن التهامي ( أحد ضباط ثورة يوليو وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) مبعوث الرئيس السادات في مدينة (أفران ) بالمغرب سنة 1977 م .
وأخيراً لا يخفى ماأعلنته غالب دول الجامعة العربية بما فيها بعض دول الخليج عدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان اليهودي وذلك عام 1994م، إلا أن بعضها ما زال ملتزماً بشئ يسير منها، وهذه المقاطعة هي التي كبدت اليهود بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مائة مليار دولار، وما وصفته الصحافة الأميركية بهدف ( إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا The International Rehabilitating of “Israel” ) وهو هدف يتطلب تحقيق أمرين: الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني ، والثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية إلى إن السلام في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني ، ففي ثلاث سنوات تقريبا تم تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا، على ثلاثة محاور: المحور الأول إقامة علاقات دبلوماسية مع بلدان كانت لا تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني ، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحا أن الكيان الصهيوني يولي بلدان جنوب شرقي آسيا اهتماما خاصا ، أما المحور الثاني فهو أن البلاد التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية للكيان الصهيوني أخذت تفتح أسواقها للبضائع الصهيونية ، وتقيم مع الكيان الصهيوني مشاريع مشتركة، وعلى سبيل المثال زادت الصادرات من الكيان الصهيوني للبلدان الأسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23 في المائة وأصبحت تعادل حوالي 13 في المائة من مجمل الصادرات الصهيونية بعدما كانت اقل من 8 في المائة ولقد ازداد حجم التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وكوريا الجنوبية حوالي 50 في المائة ما بين 1994 ـ 1996م ، كما أصبحت الصين مستوردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فان الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في الكيان الصهيوني بعد العام 1994م : Intel General Motors, Westinghouse, Mottorola, Salmon, Cablet Wireless, Daimler Brewze, Siemens, Brothers, ولقد أتت هذه الشركات إلى الكيان الصهيوني لأنها ترى في اقتصاد الكيان الصهيوني شريكا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، وهي لا تقيم مصانعها في الكيان الصهيوني من اجل سوقه المحلي ، ولكن لأنها تستخدم سوق الكيان الصهيوني بوابة لأسواق الشرق الأقصى أولاً، وأسواق الشرق الأوسط ثانياً، وهكذا بينما كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني عام 1991م لا يتعدى 400 مليون دولار، أصبح عام 1996م حوالي 2.9 بليون دولار ، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في الكيان الصهيوني في العام 1996م ، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر" (مجلة الوسط 1-5-2000م ).
سابعاً : مبادرات التطبيع الجديدة:
أ - خارطة الطريق
إن هذه المبادرة ليست معاهدة رسمية ، بل هي خطة عملٍ تتطلّب من السلطة الفلسطينية ومن دولة الكيان القيام بأعمالٍ عدةٍ في المجالات الأمنية و الإنسانية من أجل تهدئة الأوضاع و تحسين عوامل الثقة بين الطرفين من أجل العودة إلى المفاوضات ، وتتكوّن خارطة الطريق من ثلاث مراحل رئيسة :
المرحلة الأولى : استتباب الأمن للكيان الصهيوني بالقضاء على من يسمونهم بـ (الإرهابيين) - المقاومة الفلسطينية - حيث تعلن السلطة الفلسطينية عدم شرعية المقاومة و تعتبر المقاومين (إرهابيين) خارجين عن القانون يجب محاربتهم و اجتثاثهم بالقوة من المجتمع الفلسطيني و القضاء عليهم كلية , وعليها كذلك أن تمنع و توقف جميع مظاهر التحريض ضد الكيان في أجهزة الإعلام و خطب المساجد و المناهج الدراسية التي ستُبدل إلى منهاجٍ جديدٍ شبيهٍ بالمنهاج الأميركي المُصمّم لمدارس العراق , و تشمل هذه المرحلة أيضاً إصلاحاتٍ جذريةٍ في جميع المؤسسات الحكومية الفلسطينية لكي تتعاون تماماً مع الكيان الصهيوني في جميع مجالات الأمن (أمن الكيان الصهيوني ) , و بعد أن تقوم السلطة الفلسطينية بجميع هذه الأعمال تقوم دولة الكيان بتقديم التسهيلات الإنسانية المعيشية للفلسطينيين و تفكيك مستوطنات ما بعد 28 أيلول 2000م و تجميد عمليات اغتصاب الأراضي و بناء المستعمرات عليها .
المرحلة الثانية : قيام دولة فلسطينية في غضون عامين أي عام 2005 م ، قابلة للاستمرار و للنمو حسب تصوّر الرئيس الأميركي جورج بوش ، وهانحن في بداية عام 2006 م ولم ترى هذه الدولة النور بعد !! .
المرحلة الثالثة : و تعتبر المرحلة النهائية للصراع الفلسطيني الصهيوني حيث يقوم الطرفان بالمفاوضات النهائية من أجل إحلال سلامٍ شاملٍ في المنطقة .
ب – المبادرة العربية
هذه المبادرة في الأصل مبادرة سعودية ( مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد ) ثم سميت بالمبادرة العربية بعد أن تبنتها قمة بيروت وهذه المبادرة لم تأخذ مجمل الحقوق الفلسطينية بعين الاعتبار بل حصرت الحقوق في الانسحاب الإسرائيلي من الضفة والقطاع إلى حدود عام 1967 م وفي الدولة الفلسطينية، ونلاحظ كذلك أن الكيان الصهيوني عندما رحب بهذه المبادرة لم يأخذ منها إلا جانب التطبيع والاعتراف العربي الذي سيحصل عليه، أما ما يترتب عليها من التزامات، وهو الانسحاب الكامل والاعتراف بالدولة المستقلة لم يشر إليه الترحيب اليهودي بل عندما أشار إليه ، قال إن ذلك يأتي عبر المفاوضات ، ومن أبرز بنود هذه المبادرة :-
* إقامة علاقات كاملة بين الكيان الصهيوني وكل الدول العربية الأعضاء بالجامعة العربية .
* العمل طبقاً لأسس وبنود قرارات مجلس الأمن الدولي أرقام 242، 338،425 .
* الالتزام بالقرار 194 لمجلس الأمن خاصة فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 م .
* ضرورة توافر ضمانات كتابية أمريكية لنجاح المبادرة والتزام الكيان الصهيوني في حالة قبولها .
* تحديد وضع القدس باعتبارها أراضي عربية احتلت صباح يوم 5 يونيو 1967م، وبهذا ينطبق عليه قرارات مجلس الأمن الداعية لانسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 4 يونيو 1967 م .
* اعتبار الحدود الدولية هي الحدود التي كانت على أرض الواقع يوم 4 يونيو1967م.
* تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وهو ما جاءت به قرارات مؤتمر مدريد للسلام 1991 م .(5/236)
وقد اعتبر "شيمون بيريز" وزير الخارجية الإسرائيلي المبادرة "مرنة" بشأن القدس، ومواضيع أخرى، وقال لشبكة "فرانس - 2" التلفزيونية ، الأربعاء 26-2-2002م: إن تقاسم المدينة المقدسة سوف يتضمن الإبقاء على مواقع إسرائيلية في القدس الشرقية، حيث ستبقى بعض القطاعات بين يدي إسرائيل , وأضاف أن الحلول التي تطرحها المبادرة تقوم على "تبادل أراض" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع اعترافها في الوقت نفسه بأن وضع المستوطنات اليهودية يشكِّل واقعًا من الصعب جدًّا تغييره, واستبعد إجراء أي "اتصال مباشر" مع المسئولين السعوديين في الوقت الراهن,وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية قد نشرت في 26-2-2002م: إن المبادرة السعودية تنطوي على أهمية كبيرة لإسرائيل، تتمثل في اعتراف 22 دولة أعضاء في الجامعة العربية بها، وإقامة علاقات كاملة معها.
وقد قيل أن المبادرة تأتي في سياق تفاهم أمريكي - عربي في صورة مقايضة بين القضية الفلسطينية والعراق؛ بحيث توافق الدول العربية على إطاحة النظام العراقي في بغداد عبر غزو على غرار غزو أفغانستان مقابل تهدئة الأوضاع في فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية ، وربما لهذا تم التركيز في هذه المبادرة على فكرة (التطبيع الشامل) وتنبع أهميتها كذلك من أنها صادرة عن أهم دولة إسلامية تحتضن المقدسات الإسلامية، وأكبر مصدر للنفط؛ وذلك بغرض إغراء الصهاينة، ودفعهم لتقديم أقصى تنازلات ممكنة، وبعد هذه الأطروحات كلها أكد بوش في خطابه للعالم بخصوص القضية الفلسطينية في 6 / 2002م، على أن :
* الاحتلال باق و إسرائيل تدافع عن نفسها وهي وأفعالها تحت المظلة الأمريكية .
* العراق دولة تشجع على الإرهاب .
* على سورية التزامات بخصوص الحرب على الإرهاب وعليها القيام بها .
* على الدول العربية إنجاز التطبيع الكامل مع إسرائيل.
جـ - المبادرة الأردنية
قدمت هذه المبادرة إلى قمة الجزائر الأخيرة ، ولقد وصفت القمة بأنها قمة الهرولة نحو التطبيع، خاصة بعد موافقة وزراء الخارجية في الاجتماعات التحضيرية على المبادرة الأردنية، وهي المبادرة التي تنظر إليها أوساط عربية على أنها دعوة إلى الاستسلام وفتح العواصم العربية من دون قيد أو شرط أمام المسئولين الصهاينة، الذين ردوا على مبادرة السلام العربية التي صدرت عن قمة بيروت باجتياح الضفة الغربية، فيما سمي عملية 'السور الواقي'.
والمثير في الأمر حقًا هو تزامن إعلان الأردن عن المبادرة بعد لقاءات خاصة بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ورئيس وزراء الاحتلال الصهيوني شارون، كما كانت قبيل لقاء الملك عبد الله الثاني بالرئيس الأمريكي بوش في واشنطن، والأكثر إثارة هو الإعلان عن عدم مشاركة العاهل الأردني في القمة.
ولكن هذه المبادرة أجهضت ونتيجة لذلك اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم كلاً من سوريا والجزائر والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بإعاقة المبادرة التي طرحتها الأردن على قمة الجزائر الأخيرة، وقال شالوم إن هذه المبادرة كانت تحظى بتأييد إسرائيل ، وأظهرت أمريكا عدم رضاها عن القمة من خلال تصريحات رسمية انتقدت القمة العربية، وبالطبع لم تؤسس انتقادها على رفض القمة للتطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني ، وإنما لجأت إلى نقطة الضعف التقليدية في النظام العربي، مشيرة إلى أن القمة فشلت في التوجه نحو المزيد من الديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط!.
ومن جانبه أعلن العاهل الأردني أن ما أثير حول المبادرة الأردنية هو مجرد «سوء فهم» للنوايا الأردنية، و«حادث مؤسف» في سلسلة الأحداث المؤسفة التي ارتبطت بالدبلوماسية الأردنية في الآونة الأخيرة.
ثامناً : آخر تطورات التطبيع :
إن المؤشرات الجديدة تتمثل فيما صرح به وزير الخارجية «الصهيوني» سيلفان شالوم، من أن هناك عشر دول عربية سوف تقيم علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني في وقت قريب ، وهو تصريح يَلْقى مصداقية ـ للأسف ـ مما جرى، ومما أعلن عنه رسمياً في الفترة الأخيرة، ومما تناقلته وسائل الإعلام وسط صمت، أو رفض علني رسمي - وهي السياسة المعتمدة دوماً في جسّ النبض لقرارات بدء التطبيع من قِبَل الأجهزة الرسمية العربية - عن لقاءات وزيارات علنية، وأخرى سرية .
ولعلنا نستعرض ما يجري في بعض الدول العربية من ممارسات تدل على قربها من التطبيع:
الجزائر :-
في أثناء تشييع جنازة الحسن الثاني بالرباط في يوليو 1999 م ، صافح الرئيس الجزائري بو تفليقة ، أيهود باراك رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ، كما صرح بوتفليقة للصحافة مراراً بوجود آفاق واسعة للتعاون الاقتصادي بين الجزائر و الكيان الصهيوني وبأنه لا يشعر بأي عداء تجاهها ، وعلى هامش مؤتمر حوض الأبيض المتوسط المنعقد في أكتوبر 1999 م التقى بو تفليقة بشيمون بيريز وبوزير الأمن الداخلي للكيان الصهيوني شلومو بنعمي ، ودعماً لهذه الإشارات أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن مشروع إنشاء محطة للتصنت في جنوب الجزائر تابعة لوكالة الأمن الوطني الأمريكية ، تهدف إلى التقاط كل المكالمات الهاتفية وشبكة المعلومات وكل وسائل الاتصال الالكترونية وتحليل معلوماتها لأغراض أمنية،كما تعتزم إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في جنوب الجزائر .
تونس :-
استغل الموساد الوجود المكثف لليهود التونسيين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة التونسية فورط بعضهم في جمع معلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية ونشاطها العسكري والسياسي وقد اعتقلت السلطات التونسية اثنين من هؤلاء وأطلقت سراحهما بعد تدخل حاخام اليهود الأكبر في تونس لدى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ، ومن الشخصيات الفلسطينية المهمة التي جرى اعتقالها في تونس الرجل الثاني في سفارة فلسطين في تونس عدنان ياسين الذي كلف من قبل الموساد الإسرائيلي بجمع معلومات عن مسودات محمود عباس– أبومازن– وذلك قبل لقاء جرى بين أبو مازن وشيمون بيريز في القاهرة ، وقد تفاجأ أبو مازن بأن شيمون بيريز كان على إطلاع كامل بتفاصيل الأطروحات الفلسطينية المتعلقة باتفاق غزة أريحا أولاً ، وفي 29 يوليو 2001 م تم تعيين بن عامي رئيساً جديداً لمكتب الاتصال الإسرائيلي بالعاصمة التونسية خلفاً لـ شالوم كوهن وكلاهما من أصل مغربي ، وتأتي دعوة شارون لزيارة تونس التي خرقت السقف العربي ، لا سيما في محطاته غير ذات الصلة المباشرة بالصراع ، دليلا واضحا على قرب إعلان التطبيع بين البلدين .
ومن الجدير بالذكر أنه قبل زمن الإصلاح الأمريكي المزعوم الذي نعيشه هذه الأيام ، كانت الولايات المتحدة تلعب ذات اللعبة وإن على نحو مختلف عن الوقت الراهن ، إذ كانت تمارس بعض الضغوط الرامية إلى الابتزاز من خلال بعض المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، في وقت كانت فيه تونس تتصدر التقارير بانتهاكها المستمر لكل ما له علاقة بحقوق الإنسان ، لكنها كانت تبيع مواقفها على الإدارة الأمريكية بشكل من الأشكال من خلال مقولة أنها الدولة الأفضل في ميدان محاربة الأصولية ، بل إنها تقدم نموذجاً في النجاح من دون التورط في الدم كما جرى في الجزائر ومصر ، بل وصل الحال حد التباهي بالقدرة على الحد من ظاهرة التدين في الشارع التونسي ، من خلال المنع القسري للمظاهر الإسلامية مثل الحجاب في المدارس والجامعات فضلاً عن أماكن العمل الرسمي .
العراق:(5/237)
هناك في بلاد الرافدين تجري تطورات خطيرة ، تتمثل في وصول عدد الشركات الصهيونية العاملة إلى أكثر من مائة شركة تعمل في مجالات متنوعة كالأمن والأعمال التجارية وغيرها ، وسط دلالات على أن مخطط عودة خط البترول القديم من العراق إلى حيفا عبر الأردن بات تنفيذه مسألة وقت ترتبط بهدوء أو ضعف عمليات المقاومة العراقية ، بالإضافة إلى النشاط المسعور لجهاز الموساد في تنفيذ أعمال الاغتيالات لرموز أهل السنة وعلماء الطبيعة وشراء المباني والأراضي والتنسيق مع بعض الرافضة في كثير من هذه الأعمال .
اليمن :
أما في اليمن فتجري عمليات تطبيع تتوسع باضطراد، تحت عنوان منح اليهود اليمنيين تسهيلات واسعة.
البحرين :
نقلت مصادر صحفية عن وزير الخارجية البحريني الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة قوله : إن البحرين قررت إلغاء الحظر على الواردات من البضائع الإسرائيلية، بعد أن وقعت اتفاقا للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وأوردت صحيفة "الرأي العام" الكويتية في مقال نشرته في عددها يوم 21/9/2005 م ،عن الشيخ محمد قوله ــ في نيويورك ــ : "نعم.. اتخذنا بالفعل هذا القرار، وهناك اتفاقية تجارة حرة وقعتها البحرين والولايات المتحدة، واتفاقيات التجارة الحرة لا تطبق قرارات المقاطعة" مشيراً إلى المقاطعة العربية للكيان الصهيوني السارية منذ عقود.
باكستان :
أثر لقاء وزير خارجية الكيان الصهيوني شالوم مع نظيره الباكستاني في تركيا ، فقد شكر شالوم الرئيس الباكستاني على دعم السلام بين "إسرائيل" والعالم الإسلامي مؤكداً بأن هذا اللقاء الأول بين البلدين سيمهد المستقبل للسلام وسيكون لمصلحة جميع شعوب المنطقة وأضاف:"لقائي مع نظيري الباكستاني هام جداً كونه مع وزير دولة إسلامية كبيرة، ثم أضاف قائلاً: لدينا اتصالات سرية مع كل الدول العربية، ونأمل أن تصبح علنية قريباً"، وأن تساعد العلاقات الآخذة بالتوطد بين الدولة العبرية ونظام برويز مشرف في باكستان في تبادل المعلومات بينها وبين المخابرات الباكستانية، وذلك من أجل تكثيف الحرب ضد تنظيم القاعدة !.
تركيا :
يشير المراقبون إلى أهمية الدور الذي لعبته تركيا في أن تكون جسراً للحوار بين باكستان والدولة اليهودية في أول محادثات علنية تجري على الإطلاق بين البلدين مما يدعم موقعها الاستراتيجي المميز، ويؤهلها للعب دور أكبر حيوية في المنطقة ، وكانت صحيفة ميللى جازيت التركية الإسلامية قد انتقدت حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب إردوغان مؤكدة أن هذه الحكومة مستمرة في تأدية دورها والمهام المكلفة بها في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير بهدف خدمة المصالح "الإسرائيلية" في المنطقة مشيرة إلى أن أنقرة وفى هذا الإطار وبتعليمات من إردوغان شخصياً قامت باستضافة اللقاء الباكستاني الإسرائيلي في اسطنبول ، وشددت الصحيفة على أن إردوغان يقترب يوماً بعد يوم من "إسرائيل" جراء ممارسات اللوبي اليهودي الأمريكي مما جعله يتحرك للقيام بدور الوساطة بين باكستان و"إسرائيل" واصفة ما تعيشه العلاقات التركية "الإسرائيلية" هذه الأيام بأنه شهر عسل غير مسبوق.
وقد نشر المركز الفلسطيني للإعلام مقالاً للدكتور ( رفعت سيد أحمد ) قال فيه :
إن التقارير والوثائق الرسمية تقول إن عدة دول عربية قامت خلال عام 2004م ( عام زيادة القتل الصهيوني للفلسطينيين ) بإجراء عمليات تبادل تجارى مع الكيان الصهيوني بلغت قيمتها 193 مليوناً و960 ألف دولار إما مباشرة أو عن طريق دول أخرى ، وهذه الدول جاءت وفقاً للترتيب التالي:
1- المملكة الأردنية الهاشمية بقيمة إجمالية لحجم التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني 131 مليوناً 200 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 86 مليوناً و700 ألف دولار.
2- مصر بإجمالي 48 مليوناً و610 آلاف دولار، وواردات بقيمة 26 مليوناً و500 ألف دولار.
3 - المملكة المغربية بلغ إجمالي قيمة التبادل التجاري 7 ملايين و840 ألف دولار ،الواردات فبلغت 6 ملايين و700 ألف دولار.
4- جيبوتي بإجمالي مليون و270 ألف دولار، وكانت الواردات بقيمة مليون و100 ألف دولار.
5- المملكة العربية السعودية بإجمالي مليون و270 ألف دولار وكانت الواردات قيمتها مليون و100 ألف دولار.
6- دولة الإمارات العربية المتحدة بإجمالي 904 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 900 ألف دولار.
7- لبنان بإجمالي 802 الف دولار وكانت الواردات بقيمة 800 ألف دولار.
8- الجزائر بإجمالي 501 الف دولار وكانت الواردات بقيمة 500 ألف دولار.
9- العراق بإجمالي 502 ألف دولار وكانت الواردات بقيمة 500 ألف دولار.
ونتيجة لذلك نجد " أن مؤسسة الحكم الإسرائيلية تعدّ أن تطبيع الدول العربية لعلاقاتها معها سيدفع الفلسطينيين لتخفيض سقف توقعاتهم، وسيمثل أداة ضغط على قيادة السلطة للتقارب مع التصور الإسرائيلي للتسوية، وتشير دوائر صنع القرار العبرية إلى أن هناك الكثير من المؤشرات على ممارسة الدول العربية الضغط على قيادة السلطة من أجل تغيير الكثير من المواقف "التقليدية" المتعلقة بالتصور لتسوية الصراع، لا سيما في مجال دفع السلطة للتنازل بشكل مباشر أو غير مباشر عن حق العودة للاجئين ، وهاهو مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي (جاك بورسو) يعبر عن ذلك بشكل صريح فيقول: إن هناك بعض الدول العربية تبدي استعداداً لقبول توطين اللاجئين الفلسطينيين، وإضافة إلى ذلك فقد صرح (دوف فايسغلاس كبير مستشاري شارون) بأن تل أبيب ستطرح على الدول العربية -وبتدخل أمريكي فاعل- القيام بإعادة تأهيل مخيمات اللاجئين في قطاع غزة والضفة الغربية وتحويلها إلى أماكن سكن ثابتة ومستقرة، وذلك بتمويل دول الخليج العربي " (بتصرف من مقال لصالح النعامي : موقع الإسلام اليوم ).
تاسعاً : مقترحات وبرامج لمقاومة التطبيع :
1– إن النصر من عند الله وحده، وأنه لا يستحقه إلا المؤمنون حقًا، قال تعالى: (( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) (الأنفال: 10).
وقال تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) (محمد: 7)، وقال تعالى: (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) (الروم: 47(، وأول الطريق إلى النصر على الأعداء هو الانتصار على النفس في معركة الشهوات والشبهات، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم ينكشف إلا بتوبة، وأن ذنوب الأمة أخوف عليها من عدوها، وأن تقوى الله من أعظم العدة في الحرب، ومن أقوى المكيدة على العدو، وأن كل خطيئة ترتكب في أرض الإسلام فهي حبل من الناس يمد به العدو بمزيد من القوة .
2- إن هذه الأمة منصورة ومرحومة، و العاقبة لها بإذن الله، و لا تزال طائفة منها قائمة على أمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، و قد مرت عبر التاريخ بأطوار من الضعف والانحطاط أعظم مما تمر به هذه الأيام، وقد خرجت من كل ذلك، واستعادت عافيتها، واستأنفت مسيرتها.
3- الاهتمام البالغ بتزكية الأنفس، وتربية الناشئة على الإيمان والجهاد، وحمايتهم من غوائل التغريب والعلمنة، فإن المعركة طويلة الأمد ، وقد لا تحسم على يد هذا الجيل، فيجب إعداد العدة لمثل هذا الامتداد على مستوى الزمان كما نعد له على مستوى المكان!(5/238)
4- الاتحاد والائتلاف: فالتنازع والاختلاف هو بريد الفشل وذهاب الريح، وإن نصر الله لا يتنزل على شيع متنازعة متناحرة، وقد قال تعالى: (( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) (الأنفال: 46).
5- التأكيد الدائم على أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية، وتخليصها - على الأقل في نفوس المؤمنين بالله واليوم الآخر- من الأقنعة العلمانية، والنزاعات العرقية أو الإقليمية.
وختاماً:
إن المتأمل للواقع اليوم في أرض مسرى محمد صلى الله عليه وسلم يرى البشائر تترى على الأمة من هناك على يد فئة قليلة العدد والعدة ولكنها كبيرة بما تملكه من قلوب مؤمنة واثقة بعون الله تعالى ورعايته - نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا - فقد أثمرت تضحياتهم على مدى سنين قليلة ومن خلال عشرات العمليات وسقوط مئات القتلى من يهود ، أن تنادى إخوان القردة والخنازير أن احموا أنفسكم وأقيموا الجدار الفاصل ، فصدق عليهم قول القوي العزيز : ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)) ( الحشر :14 ) ، ثم ها هم وبعد إقامة جزء كبير من الجدار العازل يخربون بيوتهم بأيديهم في مستوطنات قطاع غزة و يخرجون منها أذلة صاغرين ، فيتذكر المؤمن قول مولاه عز وجل : ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ))( الحشر2 ) ، ولا يخفى أن هذا الانسحاب وإن كان محدود المساحة لكنه عميق الدلالة على أهمية الجهاد في سبيل الله وعظم نتائجه ، وقد كانت عدد من الدول العربية قد طالبت اليهود بالانسحاب من قطاع غزة وعلى مدى عقود جرت فيها عشرات اللقاءات لكنها لم تظفر من ذلك بشيء ، ولنتأمل ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت " اليهودية في 22-9-2005 م ، عندما أكدت على حقيقة هامة فقالت :' نحن لم نقض على حماس بقوة القنابل، ولن نقوم بالانتصارعليها بقوة الحواجز المانعة ، وآخر البشائر هو فوز حركة حماس الذي فاجأت به العالم في انتخابات المجلس التشريعي وسعيها لتكوين الحكومة الفلسطينية القادمة التي نرجو العليم الخبير أن يجعلها جالبة لنصر من الله وفتح قريب، وهذا الفوز هو دليل على تعطش الأمة للإسلام وأهله ، و والله إن هذه آية وعبرة رآها العالم أجمع، فهل يعتبر المسلمون حكاما ومحكومين أن المستقبل لهذه الأمة، ما استقامت على أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنها لا تؤتى إلا من قبل نفسها، وأن ذنوبها أخوف عليها من أعدائها، وأنها قد وعدت بأن تبقى طائفة منها مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى يأتي أمر الله، وأن هذه الطائفة المنصورة هي التي يقوِّم الله بها اعوجاج الأمة ، ولهذا فإننا نقول لإخواننا في أرض الإسراء والمعراج: إن نصر الله قريب، ولينصرن الله من ينصره ،فاصبرواوصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
=============
الكاتب المغلوث
يقول بعض أهل العلم: إن لكلٍ من اسمه نصيباً، وفي لسان العامة يقولون: كلب مغلوث، أي : مسعور ..وما كنت أظن أن هذا الداء سينتقل إلى بعض البشر، ويتسمى به، حتى ظهر علينا كاتب يُدعى : غازي المغلوث، كان له من اسمه أوفر الحظ والنصيب، هذا الكاتب - وهو أستاذ في الثقافة الإسلامية بجامعة الملك فيصل !!.
أطلقته صحيفة الوطن السعودية !! لينهش لحوم خيار البشر عبر مقالاته المسمومة، ويغزوهم بسيفه الخشبي المتهتك ، حتى يكاد ينطبق عليه قول المولى عز وجل : (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ)) (الأعراف:166-167) .
ونسي أن لحوم خيار الأمة مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصهم معلومة ..
اعذروني إن كنت قد قسوت في القول، أو أسأت في العبارة ، فإن الله يقول : (( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ )) (النساء:148) .
ولو كان الظلم واقعاً على نفسي، لما خططت حرفاً وحداً، لكنه واقع على خيار الأمة وسلفها الصالح، باسم الإصلاح والتنوير !!
وقبل أن نعرج على مقالات هذا المغلوث، يحسن بنا أن نتعرف على انتمائه .. فهو ينتمي إلى المدرسة القرضاوية - إن صح التعبير - والتي يمكن أن نسميها مدرسة التميع في العقيدة والأحكام .. لذا نجده في مقال له في جريدة الوطن (عدد: 347) بعنوان (قراءة في فكر الشيخ القرضاوي) يثني على القرضاوي، بل يضعه في قائمة مجددي وعمالقة الإسلام كالنووي، وابن حجر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والعز بن عبد السلام، والسيوطي!! على حد تعبيره، في الوقت الذي نراه يطعن في المنتمين إلى المدرسة السلفية، وأهل الحديث، بل في المدرسة ذاتها، وهذا هو فحوى غالب مقالاته القليلة ..
ففي صحيفة الوطن (عدد : 324) كتب مقالاً بعنوان : (الجماعات السلفية، والإشكاليات المزمنة) يرى فيه أن الحركات السلفية في معظم أقطار الوطن العربي / الإسلامي تعاني من حالة مرضية مزمنة، تتمثل في فقدان القدرة على التعاطي مع العصر، والتماهي مع مستجدات وأدوات الحداثة الكونية، فلا زالت تتخبط في مناهجها! .
وتتعثر في برامجها! وتفقد مصداقيتها، مما جعلها تبتعد عن التأثير في الجماهير !! هذا نص ما ذكره عليه من الله ما يستحق .
ثم يذكر أن من المطبات التي وقعت فيها الجماعات السلفية في خطابها المعاصر : النظر إلى التراث بعيون تراثية لا نقدية، ومن ثم - يقول - هناك نظرة تضخيمية لأعلام التراث، فهم وحدهم يحتكرون الحكمة والعلم والصواب ، والخير كل الخير في التأسي بهم والسير على منهاجهم !!!
وأقول : إن لم يكن الخير في اتباع السلف الصالح ، والسير على منهاجهم، فأين يكون ؟ هل يكون في اتباع الخلف وما ابتدعوه في دين الله .
أما النظرة التضخيمية لأعلام السلف وأنهم وحدهم يحتكرون الحكمة والعلم والصواب .. فلم يقل به أحد من السلف الأوائل ولا الأواخر .
بل شاع في كتب السلف قول الإمام مالك رحمه الله : (كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد عليه إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتضخيم أئمة السلف وأعلامهم لما بلغوه من العلم والمكانة ونفع الأمة ، خير من تضخيم الخلف وما ابتدعوه في دين الله كما فعل الكاتب بشيخه القرضاوي .
ثم يصل ضلال الكاتب إلى ذروته، فيقول بخبث : من خلال قراءة الأدبيات التي تنطلق منها الحركات السلفية، نجدهم يتترسون بنزعة حجاجية غير مقنعة، وهي أن ثمة منهجاً للسلف واحداً ينبغي التماهي والتأسي به، وهذه مفارقة عجيبة، لأن هذه الحركات منقسمة على نفسها إلى جماعات وحركات كلها تدعي التماهي مع نهج السلف والاقتداء به . وأقول :(5/239)
أولاً : هل ثمة شك في أن للسلف منهجاً واحداً ينبغي التمسك به .
وإذا كان الكاتب غير مقتنع بذلك ، فذلك ناتج عن انحرافه عن منهج السلف .
ثانياً : الكاتب لم يفرق بين الجماعات السلفية الحقة، وأدعياء السلفية، فليس كل من تسمى بالسلفي يكون سلفياً ، فإغفال هذه النقطة في الحديث عن السلفية يدل على أمرين : إما جهل الكاتب بالواقع، أو خبثه واصطياده في الماء العكر ، وهذا هو الظاهر .
ثالثاً : هناك أمور اجتهادية ليس فيها نص قاطع ، فتختلف فيها وجهات النظر، ومثل هذا الاختلاف يقع بين أفراد الجماعات السلفية وغيرها، فليس هو حكراً على الجماعات السلفية وحدها، ومثل هذا الاختلاف سائغ، ولا يلزم أن يتفق السلفيون في كل صغيرة وكبيرة لاسيما مع اختلاف البلاد واختلاف الأوضاع .
ثم يستطرد الكاتب في كيل التهم والافتراءات على الجماعات السلفية والذي يطول الرد عليها، بل إنها لا تحتاج إلى رد لمن كان لديه أدنى بصيرة ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
1 - ادعاء الحقيقة المطلقة التي لا يرقى إليها شك، ورفض الرأي الآخر، ويقصد بالرأي الآخر، ما خالف مذهب السلف .
2- استنساخ الأقوال القديمة دون اعتبار زمانها ومكانها، واجترار اجتهادات الفقهاء القديمة وتقديمها في طبعة جديدة .
3- التوظيف المكشوف (كذا) لآراء السلف الصالح، والانتقائية حسب الهوى .
4- رفض النظرة المقاصدية للنصوص الشرعية، والوقوف عند ظواهر النصوص .
5 - عدم الاهتمام بالعمل الاجتماعي وخدمة الناس ومعايشة همومهم ومشاكلهم ..
6- عدم الاكتراث بالمواجهة المصيرية مع الحضارة الغربية والسعي لأسلمة المعرفة والفنون والاقتصاد والسياسة، والانشغال!! بالرد على المتصوفة والأشاعرة والماتوريدية !!.
7- رفض الحوار والنقاش مع الفرقاء (المخالفين) واستدعاء الخلافات الفقية والكلامية القديمة .
8- الوعي المنقوص ، وعدم الانعتاق من أسر التراث الفقهي والكلامي وأعلامه ...
هذه مجمل التهم التي وجهها الكاتب لأتباع السلف دون تمييز بين الصادقين منهم والأدعياء، وهي تهم جائرة وظالمة، صادرة من قلب متشبع بالبدعة، منافح عنها ..
وليس المقصود - فيما يبدو - من هذا المقال نقد الجماعات السلفية وإصلاحها، وإنما المقصود تنفير الناس من المنهج السلفي القويم المتمثل في أتباعه المنافحين عنه، وصرفهم إلى مناهج الخلف المنحرفة ، وهذا ما تدأب إليه صحيفة الوطن وللأسف الشديد منذ صدورها في بلاد التوحيد .
وفي مقال آخر له في الصحيفة ذاتها (عدد : 406) بعنوان : ( المشروع الإسلامي ..) ويقصد به تطبيق الشريعة الإسلامية، يردد ما قاله العلمانيون منذ زمن من غياب الفكر السياسي في المشروع الإسلامي، فيقول : ليس من شك أن ثمة غياباً للفكر السياسي في المشروع الإسلامي المعاصر، فلا يملك رؤية واضحة أو برنامجاً يثبت من خلاله قدرته وكفاءته وأحقيته في القيادة ثم يستدل على ذلك ببعض التجارب المعاصرة، فيخلط بين أصحاب المناهج المنحرفة ، والمنهج الصحيح ..
وقد نسي وهو يردد ما يقوله العلمانيون أعداء لشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً لم يكن لديه برنامجاً - بالمعنى الذي يدندنون حوله - لتطبيق الشريعة، بل كانت الأحكام تنزل تباعاً في القضايا والأحكام المختلفة، حتى اكتمل الدين، وتمت النعمة على مدى عشر سنين ، فأي رؤية اليوم أوضح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأي برنامج أحسن منهما لا سيما مع توافر العلماء الربانيين الذين لا يخلو منهم عصر ولا مصر .
ثم يصرح بأن الواقع اليوم غير مهيء لتطبيق الشريعة ـ ولست أدري متى يكون مهيأ - فالشريعة في نظره لا تطبق ابتداءً في ظل الفقر والجوع والبطالة والجهل .. الخ ، فأقول : إذاً ما قيمة الشريعة إذا لم تحل مشاكل الناس ؟
ثم يبرر رفضه لتطبيق الشريعة بأنه إذا كان المقصود تطبيق الحدود فالغالب أنها لا تطبق إلا في حالات محدودة ومعينة ، كحد الزنى والردة والسرقة وهي الاستثناء وليست الأصل، أما إذا كان المقصود من الشريعة بقية الأحكام والتشريعات، فثمة تشابه كبير بين قواعد المذاهب الإسلامية، والقواعد القانونية المعاصرة نتيجة استطراق الآراء والأفكار والعبارات خلال الأوعية البشرية المتشابهة في الطبائع، والمتماثلة في الظروف، وتقارب النفوس والعقول، وتشابه التصرفات والمعاملات .. الخ، فإذاً لا حاجة إلى تطبيق الشريعة بزعمه .
ثم يثني على الحضارة الغربية التي تعلي من قيمة الإنسان !! في مقابل الحضارة الإسلامية التي تعلي من قيمة الجماعة على حساب الإنسان حسب زعمه، مستشهداً بقول المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري !!!
وهذا حق، فهي تعلي من قيمة الإنسان الغربي بل حتى الحيوان البهيم، أما المسلم فهو في نظر هذه الحضارة أحط درجة من الحيوان ، وهذا ما تشهد به أفعالهم في شتى بقاع الأرض .
وفي مقال له آخر في الصحيفة ذاتها (عدد: 442)، يستشهد بقول للمفكر المغربي محمد عابد الجابريـ وهو من المبشرين بما يسمى بالمذهب الانتقائي ، والذين يزعمون أن العلم شيء والعقيدة شيء آخر - يستشهد بمقولة له وهو يتحدث عما سماه بالـ (أنا) وثقافة الآخر، وأن الأحداث التي حصلت منذ حملة نابليون على مصر، وإلى وقتنا الراهن كشفت ضعف المسلمين وتخلفهم ، وتفوق الأعداء، وهذا حق لا مرية فيه، لكنه يعزو ذلك إلى ما سماه بالـ (أنا) عند المسلمين، التي تمثل - حسب زعمه - الحق الذي لا مرية فيه، والآخر يمثل الباطل الذي لا شبهة فيه .. ثنائية الهدى والضلال .. حزب الله وحزب الشيطان .. الفرقة الناجية والفرقة الهالكة .. هذه المصطلحات الشرعية التي وردت في الكتاب والسنة، تفسر - في نظره - تأزم وضعية الآخر في تراثنا .. وهذا كلام خطير، لا يصدر عن مسلم - فضلاً عن أستاذ جامعي - يدرك ما يقول .
ثم يعود إلى الوراء ليذكر تكفير بعض علماء الحديث لأبي حنيفة، إحراق الحنابلة لمنزل الطبري، عراك الحنابلة مع الأشاعرة ..الخ، فيخلط الماضي بالحاضر مع التباين الواضح في واقع المسلمين قديماً وحديثاً، كما يلاحظ تركيزه على أهل الحديث والحنابلة كعادته في لمز السلف وأهل الحديث .
ثم يثني على الآخر البعيد، وهو الغرب الكافر، فيعزو نجاحه وتقدمه المطرد على المستوى السياسي والفكري - حسب تعبيره - إلى إيمانه بمنظومة قيمية، تقوم على القبول بالآخر، والتسامح معه، والحق في الاختلاف، ونسبية الحقيقة، ونسبية المعرفة .. الخ وقد نسي أو تناسى جرائم الغرب التي يرتكبها في كل زمان ومكان لتحطيم المسلمين وإذلالهم وقتلهم وتشريدهم، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر .. ولو صدق لقال إن الهزيمة النفسية، والإعجاب بالغرب الكافر، والخضوع له، هو السبب الرئيس في تخلف المسلمين وتأخرهم، وهو الداء العضال الذي أصاب هذا الكاتب وأمثاله ممن يدعون أنهم من أصحاب الفكر المستنير .
ولا يقف الكاتب عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى إنكار ما يسمى بالغزو الفكري أو الثقافي للعالم الإسلامي في مقال له في الصحيفة ذاتها (عدد : 429) بعنوان (وهم الغزو الثقافي) ويسخر من العلماء والدعاة الذين حذروا من هذا الغزو، كأمثال محمد محمد حسين، ومحمد رشيد رضا ، وقد عد رجوع هذا الأخير عن المنهج العقلي في تفسير النصوص، إلى المنهج السلفي ردة إلى الوراء، ونكوصاً عما أسماه بـ (المشروع النهضوي الكبير) ..!!!(5/240)
ويعزو لجوء هؤلاء العلماء والدعاة الأجلاء للتحذير من الغزو الفكري إلى العجز الذي ظهرت تجلياته - كم يزعم - في الخطاب الإسلامي عن تقديم بديل سياسي، ثقافي، اقتصادي للمجتمعات الإسلامية، فيلجئون إلى الشعارات المعلبة الجاهزة، والأسطوانات المكرورة، ويعلقون عليها فشلهم الحضاري عن اجتراح البديل .. هكذا يفسر جهود أولئك العلماء والمصلحين .
ثم يخلص إلى القول أن لا قضية حقيقية في هذا الموضوع ، فلا يوجد ثمة غزو ولا من يغزون .. كل ما هنالك أن ثمة حضارة غربية علت وهيمنت .. الخ .
وأقول : هاهنا مكمن الداء، فإن الحضارة الغربية قد علت مادياً، لكنها روحياً تتمرغ في الحضيض، ونحن المسلمين ، نحن الأعلون بإيماننا وعقيدتنا ومبادئنا كما قال تعالى: (( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )) (آل عمران:139) .
فمتى ما تخلينا عن عقيدتنا ، وأحسسنا باستعلاء الكافر علينا ، كانت الهزيمة الحسية والمعنوية كما هو حال المسلمين اليوم، وهذا ما يفسر انتصار المسلمين الأوائل الذين لم يعرفوا الحضارة المادية، على أكبر حضارتين في العالم آنذاك : فارس والروم .
وختامأً: فإني أنصح هذا الكاتب بتقوى الله عز وجل، وأن يكف عن لمز المؤمنين ، وتنفير الناس عن منهج السلف، فالخير كل الخير في اتباع منهج السلف الصالح .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد .
=============
الولاء والبراء والنظر في المناهج
الحمد لله القائل: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (سورة الأنبياء:92).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ختم رسالات السماء بالإسلام، وأنزل على خاتم المرسلين قوله تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (سورة آل عمران:19).
وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله نزل عليه حين كان بمكة قوله تعالى: ((قُل يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) (سورة الكافرون) .
وبَعَثَ في آخر أيامه بالمدينة منادياً يُنادي في الحج بقوله تعالى: ((وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)) (سورة التوبة:3).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
عباد الله :
اتقوا الله واخشوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) (سورة آل عمران :102).
أيها المسلمون:
قضيةٌ كبرى من قضايا الدين الحق، ما كنت أحسبُ أنني بحاجة إلى تذكيركم بها هذه الأيام - وإن كانت غاية في الأهمية لوضوحها عند عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم ومثقفيهم - لولا أني قرأت ما كتبه البعضُ مؤخراً عنها ، ومسألة عظيمة من مسائل العقيدة يقع فيها الخطأ والخلط إن في الفهم أو في التطبيق أو في كليهما، عند فئة من الناس، وتحتاج إلى بيان وإيضاح، تلكم هي عقيدة الولاء والبراء، فما معنى الولاء وما معنى البراء؟ وما حكم الموالاة والمعاداة ؟ وماذا عن نصوص الكتاب والسُّنة وكلام أهل العلم فيهما؟ وهل من أمثلةٍ واقعية على الموالاة للكفار؟ وما هي نتائج ذلك وآثاره؟
إخوة الإسلام:
معنى الولاء هو المحبةُ والودُّ والقُرب، ومعنى البراء هو: البُغض والعداوة والبعد، وإذا كان الولاءُ والبراءُ من أعمال القلوب فإن مقتضياتهما وآثارهما تظهر في المواقف العملية وعلى الألسنة والجوارح.
ومن هنا يمكن القول أن الولاء والبراء ليسا مجرد اعتقادٍ في القلب، بل يظهر منهما وينشأ عنهما من أعمالِ القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُصرة والأنسِ والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال (عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، الدرر السنية 2/157).
والولاءُ الحق لا يكون إلا لله ولرسوله r وللمؤمنين كما قال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُواْ الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) (سورة المائدة:55).
والبراءةُ إنما تكون من الكافرين وكذلك أُمر المؤمنون ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلقُونَ إِليْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الحَقِّ)) (سورة الممتحنة:1) إلى قوله تعالى مخاطباً المؤمنين ومادحاً لإبراهيم والمؤمنين معه: ((قَدْ كَانَتْ لكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ )) (سورة الممتحنة:1 -4).
عبادَ الله :
هل يخفى أن الولاءَ والبراءَ شرطٌ في الإيمان، والله تعالى يقول: ((تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلوْنَ الذِينَ كَفَرُواْ لبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَليْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِل إِليْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (سورة المائدة:80، 81).
قال ابن تيمية - رحمه الله-: "فذكر جملةً شرطيةً تقتضي أنه إذا وجد الشرطُ وُجد المشروط، بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاءُ المشروط(الإيمان ص14).
أيها المؤمنون :
بل يصل الأمرُ في الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين إلى كونه أوثق عُرى الإيمان، بخبر الصادق المصدوق حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((أَوْثَق عُرَى الإِيمَان الحُبّ فِي الله وَالبُغْض فِي الله)) (أخرجه أحمد 4/286 وغيره، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1728).
والولاءُ والبراءُ ليس عقيدةً باردةً لا محل لها ولا شأن في الإسلام، بل يرى علماءُ العقيدة أنه لا يتمُّ الدينُ ولا يُقام علمُ الجهاد، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، إلا في الحبِّ في الله والبغض في الله، ولو كان الناسُ مسلمهُم وكافرهم متفقين على طريقةٍ واحدة ومحبةٍ من غير عداوةٍ، ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، رسالة أوثق عرى الإيمان/38).
ومن عجبٍ أن تُجهل عقيدةُ الولاءِ والبراء، أو يتهاون المسلمون في تطبيقاتها، وليس في كتاب الله حكمٌ - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده - أكثر أدلةٍ ولا أبينَ من معاداة الكفار والمشركين، كما قال الشيخُ حمدُ بن عتيق - رحمه الله- وغيره(د. عبد العزيز العبد اللطيف، نواقض الإيمان القولية والعملية/359).
أجل لقد كان رسول الله r يبايع أصحابه - رضي الله عنهم- على تحقيق هذا الأصل العظيم .(5/241)
وهذا جريرُ بن عبد الله البجلي t يقول: (( أَتَيْتُ النَّبِيَّ r وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلتُ: يَا رَسُول اللهِ ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ وَاشْتَرِطْ عَليَّ فَأَنْتَ أَعْلمُ، قَال: أُبَايِعُكَ عَلى أَنْ تَعْبُدَ اللهَ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ المُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ المُشْرِكِينَ )) (أخرجه أحمد 4/365، والنسائي 7/148، والبيهقي 9/13، وصححه الألباني في الصحيحة (936).
أيها المسلمون: ومن خلال ما سبق يتبين أن عقيدة الولاء والبراء منهجُ الأنبياء عليهم السلام، ومما بايع عليه الصحابةُ رضوان الله عليهم، وتكلم علماءُ الأمة فيها سلفاً وخلفاً، وما ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابرٌ أو صاحبُ هوى، وكم تفاجأتُ - وربما تفاجئ غيري- من مقال نُشر في جريرة عكاظ يوم السبت الماضي 21/10/1422هـ لأحد الكتاب - هداه الله وبصَّره بالحنيفية السمحة- وليست هذه بأولى سوآته، والمقال بعنوان: (التطرف) وقد تكلم فيه عن (الولاء والبراء) بكلام تستغرب أن يُنشر أولاً، وتستغرب ثانياً أن يصدر من مسلم يقرأ القرآن الكريم أو يعرفُ سنة محمد r وأقتطف لكم شيئاً مما قاله:
قال في بداية المقال : لو تأملنا قليلاً في فكر الجماعات المتطرفة الإرهابية ثم ذكر نموذجاً لها وقال: هذه الجماعاتُ تؤمن وتعمل وفق ما يُسمى بعقيدة أو فكرة الولاء والبرء... " .
ثم قال بعد: "ونظريةُ الولاءِ والبراء مبدأ أعلنه الخوارجُ قديماً وجعلوه مُحفِّزاّ لأتباعهم للقتالِ والعُنفِ ضد المجتمع، ثم اندثر هذا المبدأُ ولم يعدْ له ذكرٌ إلى أن أحياه وعاد له المتطرفون الجُدد...".
وفي نهاية المقال قال: وهكذا دخلت (نظريةُ) الولاء والبراء من عدة بوابات في الإعلامِ وفي التعليم وفي الكتب...الخ وأصبحت تُعرف بأنها إحدى ركائز دراسةِ العقيدة، وواضحٌ أنها أضيفت بتعسفٍ إلى ركائز العقيدة السليمة" .
إن هذا الكلام من السقوط والضحالة والجهل بحيثُ لا يحتاج معه إلى وقفة ولا تعليق وفيما مضى من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم ما يكشفُ بطلانه، ولكنك تستغربُ كيف تصلُ الضحالة الفكرية ببعض الكتاب إلى هذا الحد... وتستغرب كيف يُسمح بنشر هذا التهجم الصريح أو الملفوف على نصوص الكتاب والسنة وسيرة محمد r وهديه وهدي أصحابه وتراث الأمة كلِّها في بلاد أكرمها الله بالحرمين، ومنها انطلقت وشعَّ نورُ الإسلام معلناً الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين .
تُرى أيجهل الكاتبُ أن من بلده الذي كتب فيه شعَّ نورُ الإسلام وأعلن محمد r بأمر ربه ولاءه للمؤمنين وبراءته للمشركين حتى وإن كانوا أولي عهد، في قرآن تُلى ويُتلى إلى يوم القيامة : (( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلى الذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ)) (سورة التوبة:1).
وفي الآية الأخرى: (( وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)) (سورة التوبة:3).
وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من مدونات السنة وكتب أهل العلم ما يكشف ويفسر ويوضح ويرشدُ إلى مزيد من آيات وأحاديث البراءة من المشركين، فهل هذه وتلك نَبتت وأعُلنت من قبل الخوارج ؟ وهل هذا فكرُ المتطرفين أم وحيُ رب العالمين؟! إنه الجهل والرميُ والبهتان، وويل للفضيلة من الرذيلة، وللحق من الباطل، إذا تكلم المرءُ بما لا يُحسن، وتطاول المتطاولون ولنا أملٌ في أن يوقف الكاتبُ عند حدِّه وتُساؤل الصحيفة كيف سمحت بمثل هذه الكتابات المفترية على الله الكذب والله يقول: (( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلى اللّهِ الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (سورة النحل:116، 117).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .
الخطبة الثانية
الحمد لله رَبّ العالمين جعل فرقاناً كبيراً بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حكم - وهو أعلمُ وأحكم- بأن حزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آله وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً .
إخوة الإيمان: ومن التنظير -في مسألة الولاء والبراء- إلى التطبيق العملي لنرى ونتبين أنواعاً من الممارسات والسلوكيات المخالفة لعقيدة الولاء والبراء، إذْ من الناس من يؤمن بهذه العقيدة نظرياً لكنه قد يضعفُ في تطبيقاتها عملياً، والله تعالى ينهى بشكل عام عن التناقض بين القول والعمل ويقول: (( يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)) (سورة الصف:3).
واكتفي بالوقوف عند مظهرين من مظاهر الولاء للكافرين :
أولاً : من هذه الموالاة العملية للكفار، الإقامة ببلدهم رغبةً واختياراً لصحبتهم، والرضا بما هم عليه من كفر أو يمدحه، أو يُرضيهم بعيب المسلمين فأولئك ليس من الله في شيء كما قال تعالى: ((لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ فَليْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْء)) (سورة آل عمران:128).
وإذا كان الإمامُ مالك - رحمه الله - كره للمسلم أن يسكن ببلدٍ يُسبُّ فيه السلفُ فكيف ببلدٍ يُكفر فيه بالرحمن، وتُعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقرُ نفسُ أحدٍ على هذا إلا وهو مسلمٌ مريضٌ الإيمان (ابن رشد، مقدمات ابن رشد 2/612، 613).
ثانياً: ومن مظاهر الولاء للكفار وهو الأكثر وقوعاً طاعتهم في التشريع والتحليل والتحريم، فذلك كفرٌ وخروجٌ عن الملِّة يقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)) (سورة آل عمران:100).
وهو - فوق الكفر- مُوردٌ للخسران في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ)) (سورة آل عمران:149).
يقول الشيخُ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - وهو من أعلام الدعوة السلفية- عند هذه الآية: "أخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرين، ولم يرخِص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم. (الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص33، العبد اللطيف، نواقض الإيمان 365).
أيها المسلمون:
ونحن في هذه الأيام - ومع الأزمة الأخيرة - نشهد نوعاً من هذا التدخل الغربي النصراني في أحوال المسلمين وتشريعاتهم وذلك بفرض السياسات والتدخل في المناهج وصياغة العقول المسلمة كما يريدون إنها حملةٌ شرسةٌ على الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، والثقافة الإسلامية، لم يستطع الغربُ إخفاء معالمها وخطواتها، في ظل دعايته وإعلانه الحرب على الإرهاب، لقد انكشف الغطاءُ، وزال اللبسُ عند عددٍ من المنُخدعين بسياسةِ الغرب والضانين بنْزاهته ؟(5/242)
وما الحملات والمخططات للعالم الإسلامي - من قِبل الغرب - إلا برهانٌ لتوجههم لسياسة (صراع الحضارات) - وفي مقدمتها والمقصود الأولُ منها حضارةُ الإسلام- وكان للملكة نصيبٌ وافرٌ من هذه الحملة الظالمة، ويبدوا أنها إرهاصٌ لفرض سياسات والتدخل في الخصوصيات - في العالم الإسلامي بشكل عام -
إن المناهج - على سبيل المثال - خصوصيةٌ وهي تعبيرٌ عن ثقافة الأمة، ومقومات الدولة - لا يسوغ - بحال- أن تتدخل فيها الأمم الأخرى، وإذا كان الغربُ لا يسمح للمسلمين أن يتدخلوا في مناهجه التعليمية، حتى وإن كان فيها من العَوَر والقصور - ما فيها- في نظر المسلمين، فكذلك المسلمون لا يسمحون للأجنبي أن يتدخل في مناهجهم - بل ولا في سياساتهم الأخرى الإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية... ونحوها.
ولو كان الغربُ جاداً في الإصلاح لبدأ بإصلاح مناهجه ومدارسه، تلك التي تشهدُ من الجرائم وتخريج المنحرفين والشاذين ما يدعوا للإصلاح ، ولغة الأرقام، وعناوين المقالات يشهد على عدد من هذه الجرائم والممارسات اللاأخلاقية في مدارس الغرب مما لا يوجد مِثلُه ولا قريبٌ منه في مدارس المسلمين، هذا فضلاً عن ما في إعلامهم وتعليمهم من إساءة للإسلام وتشويه صورة المسلمين، دون حقٍ أو عدل ، ومن زاوية أخرى فهل يستطيع الغربُ أن يدعوا للتغيير في المناهج والبُنى الثقافية والإعلامية في الصين واليابان مثلاً أو في الهند، أو في فيتنام أو نحوها من الأمم والثقافات الأخرى ؟
ومن زاوية ثالثة وإذا وُجد في العالم الإسلامي مدارسُ ومعاهدُ دينية أو كليات وجامعات لتعليم الدين الحق في مصر أو السعودية أو الباكستان أو غيرها من الدول العربية والإسلامية مثل اليمن والمغرب وأفريقيا، فعند الغرب مئاتٌ من المدارس والمعاهد والكليات والجامعات التي تدرس اللاهوت وتُعنى بالإنجيل و التوراة، ولو كانت خزعبلات وتحريفات وطنطنات وترانيم فارغةَ المحتوى قاصرة في الأهداف والرؤى، وهناك المئات بل الألوف من المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية، والصحف والمجلات الأصولية الإنجيلية أو التوراتية، فأين الحديث عن التطرف وتلك منابعهُ، وأين الحديث عن الإرهاب وتلك مجالات تفريخة ؟!
وباختصار - يمكن القول- إن المناهج التعليمية والسياسات الإعلامية والاجتماعية ونحوها في أي أمة من الأمم هي شأن خاص من شؤونها لا يجوز لأي قوةٍ خارجية أن تتدخل في صياغتها أو تتلاعب بشيءٍ من مفرداتها، والقوانين والدساتيرُ التي يُدندن حولها هؤلاء الغربيون تمنع من هذه التدخلات هذا بمنطقهم ، وفوق ذلك ترفض شريعةُ الله، ويمنع منه إقامةُ الحق والعدل، ويتعارض مع لوازم عقيدة الولاء والبراء في مفهومنا ومنطقنا؟
معاشر المسلمين:
إننا لا نستغرب مثل هذه الهجمات على الإسلام والمسلمين- من قبل الأعداء فذلك شأنُنا وإياهم عبر التاريخ، لكن المستغرب بحق أن ينبري للتغيير للأسوأ أناسٌ من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، وفي مقال الكاتب المشار إليه أنفاً، شيءٌ من ذلك بل ودعوةٌ للنظر في الكتب والمناهج التي تحمل خصوصية الأمة وما يحفظها من الذوبان في حضارة الآخرين عبر مؤشرات الولاء والبراء، ومحاور الأصالة، وتثبيت القيم، وثمة طروحاتٌ أخرى مشابهة لهذا الطرح تظهر علينا بين الفينة والأخرى، ولستُ أدري أهي تشكيكٌ في مناهجنا التعليمية تلك التي تعب في صياغة سياستها، ومقرراتِ مناهجها، - مخلصون لدينهم ووطنهم - كذلك نحسبهم والله حسبنا وإياهم- وتخرج منها بكل كفاءة واقتدار العلماءُ والوزراء والمهندسون والأطباء، والإداريون، وأصحابُ الكفاءات المختلفة ؟
أم هو تناغمٌ مع ما يطرحه الغربُ - هذه الأيام- ويتهجمون به على مناهجنا؟ إن التطوير للأحسن مطلب، والنظرُ والتقويم المستمرُ للمناهج - بما يفي بحاجات العصر ومتطلبات التقدم - دليلُ النضج لكن ليس على حساب قيمنا وعقائدنا وأصالتنا وثوابتنا، وتاريخنا، والمختصون يقولون : إن نسبة تأثير المناهج على الفرد بحدود ( 7% ) إنها مأساة حين ينحصر تفكيرُ بعض مثقفينا -في تطوير المناهج- بحذف أو تقليل المواد الدينية والعربية في زمن باتت فيه حربُ العقائد ظاهرة، أو بحذف عبارات ومفاهيم هي من صميم ديننا كالولاء والبراء والجهاد...ونحوها، وكأنها المعوق عن التقدم وينسون أن التطوير ممكن دون طمس هوية الأمة، وأن التقدم لا يعيقه تحقيق معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله .
إن الاستحياء من ذكر المفاهيم الإسلامية والمصطلحات القرآنية، والعناية بالسنة والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المجيد، كل ذلك مؤشراتٌ للهزيمة النفسية، وهو سقوطٌ في أول المعركة، بل هو ذوبانٌ للشعوب والدول الإسلامية والحضارة الإسلامية في زمنٍ باتت لغةُ القوة هي المسيطرة، وإن كانت قوةً باطلة فهل نعي حقيقة المعركة، وهل نحافظ على أصالتنا وقيمنا مع التطوير والتجديد النافع وهل نشدُّ على أيدي القائمين على المناهج والمدركين لأهداف الحملات الشرسة؟
إن في بلادنا والحمد لله من المسؤولين والعلماء والمفكرين وصُناع القرار من يدركون هذه المعاني، زادهم الله قوةً وأعانهم وسددهم ولا بُدَّ أن نقف معهم إن كنا جادين في مصلحة الدين والوطن؟ والعاقبة للتقوى وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.
==============
معالم قرآنية في تاريخ اليهود
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد :
فمن المعالم القرآنية التي حكم الله بها على اليهود :
المعلم الأول : عداوتهم للإنسانية عامة وللمؤمنين خاصة، قال الله تعالى (( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ)) (سورة المائدة:82) .
وعداوة اليهود هذه مبكرة تشهد بخستها القرون الغابرة، وتؤكدها القرون اللاحقة، فأنبياؤهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، ولا غرابة أن يتطاولوا على محمد صلى الله عليه وسلم ويحاولوا قتله وهو بعد طفل رضيع، فقد روى ابن سعد [1]: أن أم النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى حليمة السعدية لترضعه قالت لها: احفظي ابني وأخبرتها بما رأت من المعجزات، فمر بها اليهود فقالت : ألا تحدثوني عن ابني هذا، فإني حملته كذا ووضعته كذا، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه، ثم قالوا: أيتيم هو؟ قالت لا، هذا أبوه وأنا أمه.. وكأنها أحست منهم شيئاً.. فقالوا لو كان يتيما لقتلناه.
ثم تستمر محاولة اليهود في قتله حين ذهب مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو بعد في رعيان الشباب، ومقولة بحيرى لعمه إني أخشى عليه من اليهود فارجع به بلده. هذا كله قبل النبوة.
ثم تشتد العداوة بعد النبوة، ويحاول اليهود أكثر من مرة قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفلحوا، وسموا الطعام الذي قدموه له، وآذوه وألبوا الأعداء عليه وتعاونوا مع المنافقين والمشركين لحربه،وأعلنوا العداوة له بكل وقاحة وصراحة، إذ هم يعترفون بنبوته ويعلنون كرهه وعداوته حتى الممات، وهذا حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير يسأله أخوه أبو ياسر: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته ؟ قال: نعم، قال فما في نفسك منه ؟ قال: عداوته والله ما بقيت) [2](5/243)
وحين أمكن الله من عدو الله حيي وجيء به مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يمكن الله منك يا عدو الله؟ قال!: بلى، أبى الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل.
واستمرت عداوة اليهود للمسلمين وفي أيام الخلفاء الراشدين خرج عبد الله بن سبأ اليهودي ليشعل الفتنة ويبذر الخلاف بين المسلمين وكانت الفتنة وكانت الحروب، ونتجاوز الزمن قليلاً ونقف عند الدولة العثمانية ملياً إذ كانت محاولات اليهود للعثمانيين للسماح لهم بالهجرة إلى أرض فلسطين والاستيطان فيها، فأصدر السلطان عبد المجيد خان أمراً بمنع اليهود القادمين لزيارة بيت المقدس من الإقامة في القدس أكثر من ثلاثة أشهر [3].
ثم يعيدون الكرة مع السلطان عبد الحميد ويعدوه ويمنوه بالهبات والأموال مقابل إنشاء مستعمرة قرب القدس، فيجابههم بالرفض التام والتحقير والتوبيخ كما الوثيقة المشهورة.
ثم يدرك اليهود أن لا وسيلة لهم لتحقيق أغراضهم إلا القضاء على هذه الدولة بالتآمر مع الدول الكبرى وقد كان، فليهود الدونمة دور كبير في القضاء على الدولة واختيار الزعماء المناسبين لهم.
ويستمر العداء، ويؤكد الخلف ما بدأه السلف، فليست عداوتهم تاريخاً مضى وانتهى إنما هي عقيدة يلقنها الأباء للأبناء.
فهذا ((مناحيم بيجن)) يقول: (أنتم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تشعروا بالشفقة حتى تقضوا على عدوكم، ولا عطف ولا رثاء حتى تنتهوا من إبادة ما يسمى بالحضارة الإسلامية، التي سنبني على أنقاضها حضارتنا) [4]
وهذا "شامير" يقول في حفل استقبال اليهود السوفيت المهاجرين إلى إسرائيل (إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصياً، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد، ولن يتحقق أمر الإسرائيليين ولا سلامتهم).
ويقول ابن غوريون (نحن لا نخش الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ) [5].
هكذا يحدد اليهود أعداءهم، وكذلك تستمر العداوة، ويتحقق إعجاز القرآن ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ )) (سورة المائدة :82) .
المعلم الثاني : والبارز في تاريخ اليهود هو نقضهم العهود، قال تعالى : (( الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ)) [الأنفال: 56 ] .
وقال تعالى : (( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) [البقرة: 100]
فهذه شهادة القرآن،فما هي شهادة الواقع على هؤلاء الأقوام؟ لقد عاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب بينه وبينهم كتاباً حين وصل المدينة فهل التزم اليهود العهد واحترموا الميثاق؟ كلا فقد غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين على المشركين، والمعاهدة لم يمض عليها إلا سنة [6].
وغدرت يهود بني النضير بعد غزوة أحد وتجرأوا على المسلمين بعد ما أصابهم في غزوة أحد.
وغدرت بنو قريظة عهدهم في أشد الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الأحزاب، فإذا كانت هذه أخلاقهم مع من يعلمون صدقه، ويعتقدون نبوته، فهل يرجى منهم حفظ العهود مع الآخرين؟ هل يتوقع صدق المجهود في معاهداتهم مع من يرونهم أضعف وأقل شأناً؟
إن اليهود قوم بهت، كما قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه الذي كان يهودياً فأسلم، وهم ينظرون إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها مع غيرهم أنها للضرورة ولغرض مرحلي ولمقتضيات مصلحة آنية، فإذا استنفد الغرض المرحلي نقض اليهود الميثاق من غير استشعار بأي اعتبار خلقي أو التزام أدبي [7].
فإذا كانت تلك شهادة القرآن، وشهادة الواقع التاريخي على اليهود، فإن من الجهل والبلاهة والحمق الثقة بأي معاهدة يبرمها اليهود، وبأي اتفاق يتم مع اليهود.
المعلم الثالث : يأبى الله إلا أن ينتقم من هذه الطغمة الفاسدة في الحياة الدنيا وقبل أن يقوم الأشهاد، وذلك بتسليط شعوب الأرض وأممها على اليهود، كلما اشتد فسادهم في الأرض، تحقيقاً لقوله : ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ )) .
وذلك معلم ثالث من معالم تاريخهم، وذلك راجع- والله أعلم- إلى فسادهم، وإلى علوهم واستكبارهم، وتحريف كتبهم، وحقدهم وعدائهم، فليس لهم صديق دائم، بل المصلحة والمنفعة الذاتية هي التي تخلق لهم الأصدقاء أو تجلب لهم العداوة والبغضاء، ولذلك فما من شعب جاوره اليهود إلا ويحاول التخلص منهم، وإليكم هذه النماذج من شهادات التاريخ:
ففي سنة 1290 للميلاد قضى الإنجليز على اليهود جميعاً بالنفي وتبعهم في ذلك الفرنسيون وفي عامي 1348، 1349 م انتشر الموت الأسود في أوربا، واتهم اليهود بأنهم سمموا الآبار ومجاري المياه، فاشتدت حملة القتل والتنكيل بهم، بالرغم من محاولة البابا ((كليمنس السادس)) الدفاع عنهم ولكن دون جدوى.
وفي 1493 م أصدر فرديناند وايزابيلا بأسبانيا مرسومها الرهيب بالفتك باليهود والمسلمين فهام اليهود على وجوههم، ولم يجدوا ملاذاً آمناً إلا بلاد المسلمين .
وفي سنة 1881 م كانت أعمدة الدخان تتصاعد حول بحر البلطيق إلى البحر الأسود حيث كانت عمليات حرق اليهود وبيوتهم وكتبهم مستمرة وحددت لهم روسيا مناطق لا يخرجون منها وألزمتهم الخدمة العسكرية خمسة عشر عاماً .
إذا كان النصارى والعلمانيون، والأوربيون والأمريكان اقرب الشعوب إلى اليهود فاسمعوا وجهة نظرهم فيهم .
يقول ((باكس)) وهو أحد النصارى (.. وكان في ذاكرة عامة أوربا أن اليهود يمتصون جهود البلاد الاقتصادية ويمثلون الطرف الخبيث الخطر الذي يسعى أبد الدهر لتحطيم المسيحية).
وفي أمريكا ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق ((بنيامين فرانكلين) أول خطاب في الاجتماع التأسيسي للولايات المتحدة بعد استقلالها عام 1779 م قال فيه:( إن هؤلاء اليهود هم أبالسة الجحيم، وخفافيش الليل، ومصاصو دماء الشعوب ،
أيها السادة : اطردوا هذه الطغمة الفاجرة من بلادنا قبل فوات الأوان، ضماناً لمصلحة الأمة وأجيالها القادمة، وإلا فإنكم سترون بعد قرن واحد أنهم أخطر مما تفكرون، وثقوا أنهم لن يرحموا أحفادنا، بل سيجعلونهم عبيداً في خدمتهم.. إلى أن يقول:
أيها السادة : ثقوا أنكم إذا لم تتخذوا هذا القرار فوراً، فإن الأجيال الأمريكية القادمة ستلاحقكم بلعناتها وهي تئن تحت أقدام اليهود 00) [8].
إذا كان هذا حكم القرآن فيهم، وتلك وجهات نظر أقرب الناس إليهم، فكم هو مؤلم ومؤسف أن تختل هذه النظرة عند بعض المنتسبين للإسلام، وينسوا أو يتناسوا هذا التأريخ البعيد والقريب لليهود فيطمعوا في صلح دائم معهم ويثقوا بعهودهم والله المستعان.
المعلم الرابع : من المعالم القرآنية التي حكم الله بها على اليهود: التفرق والشتات والخلاف ماض فيهم إلى يوم القيامة، يقول تعالى: ((وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا)) [سورة الأعراف:168] ويقول تعالى: ((وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) (سورة المائدة : 64) .
ويقول تعالى : ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)) ( الحشر:14) .(5/244)
فهذه سنة ماضية من سنن الله في اليهود : (( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)) (سورة الحشر:14).
يعلمها من يقرأ تاريخهم قديما وحديثاً، ودعونا نطوي صفحة الماضي حتى لا يظن أننا نتعلق دائماً بالماضي، ففي عصرنا الحاضر وفي دولة إسرائيل اليوم من التفرقة العنصرية بين اليهود الغربيين الذين يسمون ((الأشكنازيم)) وبين اليهود الشرقيين الذين يسمون ((السفارديم)) من العداوة والبغضاء والكره ما الله به عليم، وليست تلك عداوة عنصرية لاختلاف المواقع، لكنها طبع، وتحقيق لموعود الله فيهم، وإليك هذا النص المؤكد لاستمرارعداوتهم.
تقول يهودية روسية ذات ثقافة أكاديمية : صحيح أننا نكرههم- تقصد اليهود الغربيين- وصحيح أنهم يكرهوننا، إننا إسرائيليون وهم إسرائيليون، يبدو أن سوراً كبيراً يفصل بيننا، إننا نعيش في مستويات مختلفة ومفاهيم مختلفة، إننا نتحدث بشكل آخر ونفكر بشكل آخر، وينظر الواحد منا إلى الثاني بشكل آخر،إن هذا لأكثر من طائفتين مختلفتين، هذا بمثابة شعبين مختلفين، صدقني هذه عنصرية، إن ذلك ليس مسألة لون جلد، ولا مسألة البلد الأصلي، إن الذي يحدث ناجم عن الكراهة الثقافية، إنني أكرههم لأنني أتخوف من الانتقال ليلاً
تلك الشوارع التي يتجولون فيها، إنني أكرههم بسبب نظرتهم، بسبب كلماتهم البذيئة التي يطلقونها خلفنا، وبسبب جميع الأعمال الخسيسة التي يحاولون القيام بها ضدنا.
إلى آخر مقالها الذي يعبر عن الكره بين طوائف اليهود وصدق الله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى )) (سورة الحشر:14).
فلا تظنوا والحالة تلك أن يهود اليوم صف واحد وبنيان مرصوص، كلا فبنيانهم أوهى من بيت العنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، وما يخيل لبعض المسلمين اليوم من هيبة اليهود وقوة اليهود واجتماع كلمتهم إنما يبرز بسبب واقع المسلمين من الضعف والفرقة والشتات، وسيبصر المسلمون حقيقة الحال ويتأكدون من وصف القرآن إذا صلحت أحوالهم وعادوا إلى كتاب ربهم والتزموا شريعته، هناك يزول السراب الخادع، وتذهب الغشاوة عن العيون، ويأذن الله بنصر المسلمين، ويفر اليهود كما تفر الفئران من أرض المعركة، يحتمون بالقصور والحصون، غير قادرين على مواجهة المسلمين وحينها يعلم المسلمون مصداق قوله تعالى : ((لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)) (سورة الحشر:14) .
إن المعالم في تاريخ اليهود كثيرة، وإن آيات القوم عنهم بليغة، وليس هذا حصراً لها بقدر ما هو إشارة إلى بعض منها،
وللمزيد من العلم أنصح بالاطلاع على عدد من الكتب عن اليهود ومنها:
1- جذور البلاء (عبد الله التل) .
2- صراعنا مع اليهود (محمد ماضي) .
3- صراعنا مع اليهود (محمد عثمان شير) .
4- مكائد يهودية عبر التاريخ (عبد الرحمن حبنكة الميداني) .
5- اليهود في القرآن (محمد عزة دروزه) .
6- اليهود وراء كل جريمة (وليم كار) .
7- اليهود والماسونية (الشيخ عبد الرحمن الدوسري..رحمة الله ) .
8 - وأخيراً صدر كتاب جيد بعنوان: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (الدكتور/مصطفى مسلم..
ولاشك أن العلم والوعي بهذه الحقائق مهم في كل زمان ومكان، وهو في هذا الزمان أهم، وقد قيل إن معرفة المؤمنين بحالهم وحال أعدائهم نصف المعركة [9] ويبقى الشق الآخر وهو العمل والاستعداد فمجرد العلم وحده لا يكفي، وليست هذه المعرفة خاصة بطبقة دون أخرى، ولا بحاكم دون محكوم، ولا بذكر دون أنثى ، فكل عليه كفله من المسؤولية، فليبدأ بإصلاح نفسه وتسديد عيوبه وتنمية معارفه، وليحذر من الخداع والتزوير وليجعل الكتاب والسنة دليله في الحياة.
[1] في الطبقات 1/113
[2] السيرة لابن هشام 2/189.
[3] الأفعى اليهودية عن معالم قرآنية 211.
[4] صراعنا مع اليهود لمحمد ة إبراهيم ماضي ص 59، عن معا لم قرآنية في الصراع مع اليهود: ص214
[5] المصدر السابق ص 214
[6] انظر: العمري، السيرة النبوية الصحيحة 1/ 276.
[7] معالم قرآنية ص177 .
[8] انظر: د. مصطفى مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 205، 221.
[9] سيد قطب: الظلال 6/3529
==============
أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية
د/ جاد أحمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة
الحمد للّه الذي هدى المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد
فإنه في الوقت الذي كان المسلمون ينعمون فيه بظل الحضارة الإسلامية التي أفاضت عليهم كل أنواع الخير ووقتهم مفاسد الشر وأبعدتهم عن مواقع الفتن، في هذا الوقت الذي كان فيه المسلمون كذلك، كان أهل أوروبا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء بعيدين كل البعد عن كل مظاهر التقدم الحضاري.
ومنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري بدأ شعاع الحضارة الإسلامية يصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس، ثم عن طريق صقلية وكذلك عن طريق الحروب الصليبية، ومن قبل تلك الحروب، عن طريق السفارات بين دول أوروبا وبين دول المسلمين، في الشرق والغرب.
ولم يكن تأثير هذا الإشعاع الحضاري متساويا في الدرجة بل كان بعضه أكثر تأثيرا من الآخر فالأندلس كانت أسبق مصادر الإشعاع وأكبرها تأثيرا، ثم تلتها في الأهمية صقلية ثم تأتي بعد ذلك الحروب الصليبية ثم الاتصالات السياسية والتجارية بين الدول الإسلامية والدول الأوروبية.
الأندلس مصدر الإشعاع الأول
عبر المسلمون إلى الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري وواصلوا فتوحهم في أوروبا حتى استولوا على شبه جزيرة أيبريا وجنوب فرنسا ثم استمروا في فتوحهم حتى استولوا على جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا ونشروا دينهم فيما فتحوه من البلاد.
وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية.
وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية.
وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية.(5/245)
وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين.
وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين" [1]
وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين.
وبعد جيل من الفتح تكوَّن من المسلمين العرب والأسبان عنصرٌ جديدٌ عرف "بالمولدين"وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أسبانيات، وعلى مرّ الزمن كثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا يكونون أغلب سكان الأندلس.
وقد وصلت الحضارة العربية في الأندلسي إلى درجة عالية من الازدهار، وبخاصة في القرن الرابع الهجري؛ حيث كانت مدينة قرطبة العاصمة تضم مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وواحد وعشرين ضاحية، وكان بها سبعون دارا للكتب، وعدد لا يحصى كثرة من الحوانيت كما كان بها كثير من المساجد، وكان أغلب شوارعها مرصوفا ومضاءة [2] وكانت بقية المدن صورة مصغرة من العاصمة.
وفي محيط الزراعة غرس العرب الكروم في بلاد الأندلس، وأدخلوا إليها كثيرا من النباتات والفواكه التي لم تكن بها، مثل الأرز والقمح وقصب السكر والمشمش والخوخ والبرتقال والرمان، وقد حفر المسلمون الترع والقنوات، ونظموا وسائل الري وكان الرقى الزراعي أحد مفاخر أسبانيا الإسلامية [3] .
وفي ميدان الصناعة ازدهرت صناعة النسيج والزجاج والنحاس والخزف والسيوف، وكثر استخراج الذهب والفضة والحديد والرصاص، وغيره من المعادن [4] . وكان ما تنتجه الأندلسي من مزروعات وفواكه ومصنوعات يفيض عن حاجة سكانها.
ولقد ازدهرت الحياة الثقافية في الأندلس وبخاصة في عهد الحكم الثاني (350- 366 ه) وكانت جامعة قرطبة التي أنشأها والده عبد الرحمن الناصر في المسجد الجامع يفد إليها الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، ومن أفريقيا وأوروبا، وقد استدعى الحكم بعض الأساتذة المشهورين من الشرق ليحاضروا فيها، ومن بينهم العالم اللغوي المشهور أبو على القالي مؤلف كتاب الامالي [5] وكان المؤرخ الأندلسي ابن القوطية يدرس النحو بها. وكان الحكم مغرما باقتناء الكتب؛ فكان يكلف رجاله بالبحث عن المخطوطات في حوانيت الإسكندرية ودمشق وبغداد، وشرائها ونسخها، وبهذه الطريقة تمكن من جمع أربعمائة ألف مجلد [6] وكان يطالع بنفسه على بعض هذه المخطوطات ويكتب ملاحظات في هوامشها مما جعل لها قيمة كبيرة في نظر العلماء المتأخرين. وقد أراد أن يحصل على النسخة الأولى لكتاب الأغاني التي كتبها أبو الفرج الأصفهاني بنفسه- وهو من سلالة الأمويين- وكان يقيم إذ ذاك بالعراق فبعث إليه بألف دينار ثمنا لها [7] .
وكان المسيحيون الأسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوروبا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الأسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك- من حيث لا يقصدون- دعاية طيبة للمسلمين في أوربا ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في أسبانيا.
وكان هؤلاء المهاجرون قد تسرعوا في هجرتهم خوفا على أنفسهم من بطش المسلمين بهم، من غير أن ينتظروا ما سيكون منهم، ولكنهم لم يلبثوا أن ندموا على هجر بلادهم حين علموا من مواطنيهم الذين لم يهاجروا مثلهم أن المسلمين يحسنون جوارهم ويطلقون لهم الحرية في أداء شعائر دينهم، ويعاملونهم بالحسنى وينشرون العدل والأمن في سائر البلاد وأنهم حولوا أسبانيا إلى مروج خضراء وجنات فيحاء [8] .
هذه الدعاية غير المقصودة التي نشرها المهاجرون الأسبان، في أكثر بقاع أوروبا جعلت أهلها يتطلعون للوقوف على هذه النهضة الحضارية، التي وصلت أخبارها إليهم وكان أسبق الأوربيين إلى ذلك الملك فيليب البافاري؛ حيث بعث إلى الأندلس يرجو الأمير الأموي هشاما الأول (172- 180 هـ) يرجوه أن يسمح له بإيفاد بعثة إلى قرطبة لدراسة أنظمة الأندلس وثقافتها، ومشاهدة أوجه النشاط بها، فقبل الأمير رجاءه وأرسل الملك الجرماني وفداً إلى الأندلس برئاسة وزيره الأول "ويلميبن "الذي أطلق عليه الأندلسيون اسم "وليم الأمين "لأنه تحرى الأمانة في نقل ما رأوه من مظاهر نهضة بلادهم إلى الملك. وقد أشار الوزير على الملك بالاستمرار في إرسال البعثات العلمية لاقتباس ما يفيد البلاد من فنون الحضارة العربية [9] .
وقد توالت البعثات على الأندلس بعد ذلك، وفي أوائل القرن الخامس الهجري أرسل جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه الأميرة "دوبانت "، على رأس بعثة من ثمان عشرة فتاة، من بنات الأمراء والأعيان، إلى أشبيلية بمرافقة النبيل "سفليك "رئيس موظفي القصر الملكي، وأرسل معه كتابا إلى الخليفة هشام الثالث آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس جاء فيه بعد الديباجة: "وقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم، والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل؛ لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد أرسلنا ابنة شقيقتنا الأميرة "دوبانت "على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتتشرف بلثم أهداب العرش؛ والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم؛ وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص من خادمكم المطيع: جورج.
وقد ردّ الخليفة هشام الثالث على ملك إنجلترا برسالة جاء فيها: "لقد اطلعت على التماسكم فوافقت- بعد استشارة من يعنيهم الأمر- على طلبكم وعليه فإننا نعلمكم بأنه سينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهى من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام- خليفة رسول اللّه على ديار الأندلس: هشام.
وفي عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت توفد إلى معاهد غرناطة، وأشبيلية، وغيرهما بعثات من فرنسا، وإيطاليا، والأراضي الواطئة؛ لتنهل من الحضارة العربية، وكان طلاب هذه البعثات يعجبون بالحياة العربية وتقاليدها وثقافتها حتى أن بعضهم اعتنق الإسلام وفضل البقاء بالأندلس ولم يعد إلى بلاده [10] .
وكانت مدينة طليطلة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين سنة 487 هـ المركز الرئيسي لحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد أنشأ "ريموند "رئيس أساقفتها مكتبا للترجمة، وكان المستعربون من أهل الأندلس أكبر المساهمين في حركة الترجمة ومن أشهرهم " دومونيقوس جوند يسا لفى "و "بطرس الفونسى "و "حنا الأشبيلى "وغيرهم [11](5/246)
وقد ترتب على هذه الحركة وجود ثورة علمية وفكرية هائلة في غرب أوروبا؛ ذلك لأن المعارف الجديدة التي نقلت من العربية إلى اللاتينية أضاعت أمام الأوربيين طريق الحياة, وبددت ضباب الجهالة الذي حجب عنهم رؤية الحضارة وأيقظتهم من سباتهم العميق ونبهتهم من غفلتهم الطويلة فأقبلوا على دراسة الحضارة الإسلامية بشغف بالغ ونهم شديد [12] .
ففي علم الحساب مثلا عرفوا نظام الأعداد الهندية عن العرب، وهو النظام الذي تتغير فيه قيمة الرقم بنقله من خانة الآحاد إلى خانة العشرات أو المئات أو الآلاف وما بعدها استعملوه في عملياتهم الحسابية بدل الأرقام الرومانية التي كانت عملياتها الحسابية تتطلب منهم وقتا طويلا .
ومن المرجح أن البابا "سلفتر "الثاني الذي قضى سنوات عديدة في شمال إسبانيا كان من أوائل الأوروبيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربي إلى الغرب، هذا بالإضافة إلى تشجيعه على ترجمة كثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الجغرافيا.
وقد عرف الأوروبيون علم الجبر- لأول مرة- عن العرب، كما نقلوا عنهم علوم الهندسة والفلكَ والطبيعة والكيمياء والطب والفلسفة، وكثيرا من أنواع فروع المعرفة المختلفة.
وقد سلكت الفنون الإسلامية سبيلها إلى أوربا عن طريق الأندلس، كذلك، مثل صناعة الخزف والنسيج، والتعدين، وصناعة المعادن، والنجارة، والتطعيم بالعاج وغيرها من الصناعات [13] .
ومن هذا العرض السريع نتبين أهمية الدور الذي قامت به الأندلس في نقل الحضارة الإسلامية إلى ربوع أوربا، فكانت أساس نهضتها في العصور الحديثة، وسببا في تنعم به الآن من حياة مرفهة وثراء وفير، وما تفخر به من تفوق في العلوم والفنون.
صقلية مصدر الشعاع الثاني
حاول المسلمون فتح جزيرة صقلية منذ عهد معاوية بن أبى سفيان فقد أرسل و اليه على مصر وأفريقية (معاويةُ بن حديج) جيشا بقيادة عبد الله بن قشر الغزاوي؛ لغزوها ولكن ابن قشر لم يتمكن من ذلك ثم تجددت المحاولة عدة مرات، ولكن أقدام المسلمين لم تثبت في هذه الجزيرة إلا في أوائل القرن الثالث الهجري حيث ابتدأ فتحها سنة 313 هـ زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب الذي كان والي على إفريقية من قبل الخليفة المأمون العباسي.
وكان سبب فتحها أن إمبراطور الدولة البيزنطية " ميخائيل الثاني"ولى عليها "قسطنطين البطريق"، فأرسل الأمير القائد قسطنطين "بوفيموس"على رأس أسطول نهب ساحل أفريقية، ولكن الإمبراطور غضب على هذا القائد، لما بلغه من أنه اختطف راهبة من أحد الأديرة هناك،؛ ففر القائد إلى مدينة "سرقوسة"الواقعة على ساحل صقلية الشرقي، وأعلن الثورة على حاكم الجزيرة، غير أنه رأى أن لا طاقة له على مقاومة جيوش الإمبراطور وأساطيله، فلجأ إلى زيادة الله بن الأغلب أمير أفريقية، وأغراه بغزو صقلية وهوّن عليه فتحها فجهز الأمير الأغلبي جيشا وأسطولا يتألف من مائة سفينة بقيادة أسد بن الفرات قاضى القيروان وسيره لفتحها ( [14] ) .
وقد لقي المسلمون صعوبات كثيرة في فتحها ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها جميعها إلا في عهد إبراهيم الثاني الأغلبي سنة 364 هـ، وقد ظلت صقلية تابعة لدولة الأغالبة حتى سقطت هذه الدولة على أيدي الفاطميين سنة 396 هـ، فدخلت صقلية في حوزتهم ولكن العرب الذين كانوا يستوطنونها أعلنوا الثورة على الفاطميين، بزعامة أحمد بن قرهب بعد أربع سنوات من حكمهم اعترفوا بسيادة الدولة العباسية [15] .
غير أن الفاطميين تمكنوا من إخضاع الثورة، وإعادة سيطرتهم على الجزيرة، واتخذوها قاعدة حربية لأسطولهم يشنون منها الغارات على جنوب إيطاليا، وبخاصة مدينة جنوة التي تكررت غاراتهم عليها.
وقد عيّن الخليفة المنصور (ثالث خلفاء الفاطميين) الحسن بن علي بن الكلبي واليا على صقلية فوضع الحسن أساس حكومة شبه مستقلة في صقلية يتوارثها أبناؤه من بعده وفي عهد هذه الأسرة بذرت بذور الثقافة العربية، وأخذت تنمو وتزدهر على مرّ الأيام في تلك الجزيرة. ولم يتدخل العرب في الشئون الداخلية لأهل الجزيرة، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة عاداتهم وتقاليدهم، وفي أداء شعائر دينهم، واكتفوا بجباية جزية قليلة ممن لم يعتنق الإسلام منهمن، وكان مقدارها أقل بكثير من الضرائب التي كان الرومان يفرضونها عليهم، وقد أعفوا من هذه الجزية الرهبان والفقراء والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يتعرضوا لكنائسهم بسوء.
وقد اهتم العرب بالزراعة، وأدخلوا في الجزيرة العربية زراعة قصب السكر والكتان والزيتون، وكثيرا من النباتات، وأشجار الفاكهة التي لم تكن موجودة بها من قبل، وقد ساعد خصب تربة الجزيرة على نمو زراعتها وجودة فواكهها؛ فتوفرت حاصلاتها، وكثرت مواردها. وقد مرّ الرحالة ابن جبير بها سنة 580 هـ بعد ست وتسعين سنة من انتهاء حكم العرب بها، فأعجب بأشجار الفاكهة فيها، واسترعى انتباهه ما شاهده من جودة كرومها [16] .
ولم يكن اهتمام العرب في صقلية بالصناعة أقل من اهتمامهم بالزراعة، فقد أنشأوا مصانع للورق، ومصانع للنسيج، واستخرجوا الذهب والفضة، والحديد والرصاص والنوشادر من مناجمها، وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية وصناعة النجارة والتطعيم بالعاج وصناعة الرخام والفسيفساء وغيرها وشيدوا المساجد الفخمة والقصور الجميلة.
وقد ساعدت موارد الجزيرة الفنية، كما ساعد اشتغال العرب بالتجارة على زيادة ثروتهم؛ فعاشوا عيشة مرفهة، ومضوا منازلهم بالأثاث الفاخر، وفرشوها بأحسن أنواع السجاد، وتزينوا بأغلى أنواع الثياب، ولبست نساؤهم ثياب الحرير الموشى بالذهب وانتعلن الأخفاف المذهبة وتزيّن بالذهب والجواهر.
ومنذ أوائل القرن الرابع الهجري أخذ البيزنطيون يكثرون من الغارات على الجزيرة فشغل ولاتها من قبل الفاطميين بعد هذه الغارات، وفي الوقت نفسه، قامت اضطرابات بين العرب أنفسهم داخل صقلية؛ فأدى ذلك إلى ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن الجزيرة، ولم يكن في وسع الفاطميين بالقاهرة أن يمدوهم بالجيوش لاضطراب الأمور فيها، فانتهز النورمانديون هذه الفرصة وأخذوا يستولون على ثغور الجزيرة ومدنها الواحدة تلو الأخرى حتى تم للملك "روجر الأول"الاستيلاء على جميع نواحي الجزيرة سنة 483 هـ وبذلك انتهى حكم العرب فيها بعد أن استمر مائتين وعشرين عاما [17] .
ولم يكن استيلاء النورمانديين على الجزيرة آخر عهد العرب بها، بل ظلوا بعد زوال الحكم العربي يقيمون فيها، وقد اعتمد حكامها النورمانديون على العناصر العربية في الشئون السياسية، والاقتصادية؛ لأنهم كانوا على جانب كبير من الخبرة والحضارة والرقي، كما كانوا عناصر نشيطة ومنتجة.
وكان "روجر الثاني" يرتدى الملابس العربية ويطرز رداءه بحروف عربية وقد نقش على سقف كنيسته التي بناها في مدينة "بارمو"نقوشا بالخط الكوفي. وكان الإدريس الجغرافي الرحالة، وأعظم رسامي الخرائط، محببا إليه مقربا عنده، وقد شجعه الملك على بحوثه الجغرافية وقدم له كل مساعدة وبذل له من المال ما مكنه من إرسال الرسل إلى كثير من الأقاليم؛ لإمداده بالمعلومات الجغرافية عنها.(5/247)
وكذلك كان الملك "وليم"بن الملك روجر الثاني وحفيد الملك روجر الأول يعتمد على العرب فيقربهم إليه ويثق فيهم، وقد عبر عن ذلك شاهد عيان هو الرحالة بن جبير في حديث له عن الملك بقوله: "لا.... إنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه لكثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله منهم الأطباء، والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم" [18] .
وكان الإمبراطور "فردريك الثاني"الذي ورث عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عن أبيه الألماني، كما ورث عرش صقلية عن أمه الإيطالية، كان قد ولد بصقلية وتربى بها، وتعلم فيها؛ فنشأ محبا للعلوم العربية وكان يحسن التكلم باللغة العربية. وقد أفاض المؤرخون العرب والأوربيون في وصف حبه للمسلمين، وإعجابه بعلومهم، وحضارتهم، وأخلاقهم، وتقريبه لهم واستخدامهم في حاشيته حتى أن الموذنين المسلمين كانوا يؤذنون عند موعد كل صلاة في معسكره [19] .
وقد قامت بين الإمبراطور "فرديك الثاني" وبين السلطان الأيوبي الكامل محمد بن آخي صلاح الدين صداقة متينة، وكانا يتبادلان السفارات والهدايا. فتذكر المصادر التاريخية أن السلطان الكامل أرسل هدية إلى الإمبراطور، كان من بينها زرافة كانت أول زرافة دخلت أوربا، وأن الأشراف الأيوبي صاحب دمشق أرسل إليه جهازا عجيبا للكواكب في صدر تمثل الشمس والقمر، وتحدد الساعات في مداراتهما، وأن الإمبراطور أرسل هدايا لكل من الكامل والأشرف منها دب أبيض وطاووس أبيض أعجبا أهل القاهرة ودمشق، كما أعجبت الزرافة وجهاز الكواكب أهل صقلية [20]
وقد استمرت الصداقة قائمة بين "فردريك الثاني"وسلاطين مصر بعد وفاة السلطان الكامل سنة 635 هـ؛ يدلّ على ذلك ما أشارت إليه المراجع التاريخية من أن الإمبراطور حذر الصالح نجم الدين أيوب عندما علم بنية ملك فرنسا "لويس التاسع"القيام بالحملة الصليبية السابعة ضد مصر سنة 647 هـ حيث أرسل إليه- وهو بدمشق- رسولا تظاهر بأنه تاجر، وأسرّ إليه بأن لويس التاسع يعتزم توجيه حملة إلى مصر؛ للاستيلاء عليها، فأسرع الصالح بالعودة إلى مصر للدفاع عنها [21] .
وقد ظل العرب يحتفظون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم في الجزيرة، ويزاولون نشاطهم الزراعي والتجاري والصناعي بحرية تامة، كما ظلت اللغة العربية شائعة في الجزيرة، وكان ملوك النورماند يحسنون التكلم بها ويطربون لأدبها وشعرها. ويظهر أن استعمالها استمر إلى أواخر القرن التاسع الهجري؛ ويؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها علماء الآثار حديثا سواء كانت قبور مسلمين أم قبور مسيحيين.
وقد ترك العرب في جزيرة صقلية كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، التي لا تزال باقية حتى الآن، كما تركوا ألفاظا عربية كثيرة في اللغة الصقلية والإيطالية. ولا تزال مدن كثيرة في الجزيرة تحمل أسماء عربية. وفي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباني العرب أحدهما قلعة العزيزة والآخر قصر القبة.
ومما تقدم يتبين أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في الجزيرة نحو ستة قرون من الزمن وقد خرّجت صقلية العربية عددا غير قليل من المحدثين والفقهاء والنحويين والأدباء والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلاسفة. نذكر منهم على سبيل المثال أسد الدين بن الحارث، صاحب كتاب الأسديات في الفقه، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمد يس الصقلي الشاعر المبدع، والشريف الإدريسي الجغرافي المحقق، والحسن بن يحي المعروف بابن الخزاز صاحب تاريخ صقلية، وعيسى بن عبد المنعم، وكان من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وغيرهم كثير.
وقد أنشأ العرب في مدينة بالرمو، عاصمة صقلية، أول مدرسة للطب في أوربا، وعن طريقها انتشر الطب في إيطاليا، وسائر أرجاء القارة. إذن كانت جزيرة صقلية مركز إشعاع للحضارة الإسلامية العربية، أفادت منه أوربا أعظم الفائدة؛ لأن الجزيرة كانت على صلة وثيقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة ما يقع منه على شواطئ البحر المتوسط؛ مثل الشام، ومصر وبلاد المغرب، وكانت البلاد الإسلامية في العصر الوسطى وطنا عاما للمسلمين لا فرق بين مشرقي ومغربي. فلم تكن هناك قيود على انتقال العلماء من بلد إسلامي إلى بلد آخر فكثرت تنقلاتهم، وساعد هذا على تبادل الآراء وانتقالها من جهة إلى جهة فلم تكن حضارة المسلمين في صقلية من صنع أهلها وحدهم بل كانت حضارة إسلامية شاملة لنتاجها ونتاج العالم الإسلامي كله ومن هناك ترجمت وتسربت إلى جميع أصقاع أوروبا.
لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن صقلية ساهمت في تحضير أوروبا وتنويرها بنصيب يقرب من نصيب الأندلس، ولكنه يقّل عنه لأن رقعتها أضيق بكثير من رقعة الأندلس ولأن عدد من أنجبتهم من العلماء لم يصل في شهرته العلمية إلى ما وصل إليه علماء الأندلس.
وهذا لا يغض من قيمة الدور الذي قامت به صقلية في إمداد أوروبا بكل مظاهر الحضارة ما كان منها من صنع العرب الذين استوطنوها أو مما نقلوه عن غيرهم من الدول الإسلامية الأخرى.
دور الحروب الصليبية في نقل الحضارة الإسلامية
في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) خرجت جموع من المسيحيين الأوروبيين مختلفي النزعات والأغراض لغزو الشرق الإسلامي. والأسباب التي دفعت هؤلاء إلى شنّ تلك الحروب التي عرفت في التاريخ باسم "الحروب الصليبية"نسبة إلى الصليب -الذي اتخذه المحاربون شعارًا لهم- أسبابٌ غير واضحة، تختلف باختلاف الطوائف التي اشتركت فيها.
ويمكننا أن نعتبر رغبة القبائل القيوتونية في الهجرة، وحبهم للمخاطرة من بين تلك الأسباب، كما لا نستبعد أن يكون هدم الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) لكنيسة القيامة في أواخر القرن الرابع الهجري من بين الأسباب البعيدة لهذه الحروب [22] .
أما ادعاء الحجاج المسيحيين أنهم كانوا يلقون مصاعب في أثناء اجتيازهم أسيا الصغرى الإسلامية، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، أو أنهم كانوا يتعرضون لمضايقات من جانب المسلمين في أثناء حجهم، فليس له ما يبرره؛ لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم، ونهت عن التعرض لهم بسوء ماداموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.
ولئن سلمنا حدوث بعض مضايقات، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حوادث فردية صدرت من بعض جهلة المسلمين، وحتما على فرض صدورها، فإنها لا تقتضي هذه الضجة الكبرى التي أثارها الغرب ضد المسلمين ولا تستلزم سفك ما سفك من دماء في هذه الحروب التي استمرت نحو قرنين من الزمن.
وكان الراهب بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس، وعزّ عليه أن يراه مِلكا للمسلمين، وهو المكان الذي يقدسه المسيحيون؛ كان هذا الراهب هو الذي روّج تلك الإشاعات.
على أن السبب المباشر لتلك المأساة التي ذهب ضحيتها عدد من البشر هو استنجاد الإمبراطور "ألكسيوس كمنينوس"إمبراطور الدولة البيزنطية بالبابا "إربان الثاني"بطريك الكنيسة الغربية بعد هزيمة البيزنطيين أمام السلاجقة في موقعة "ملاذكر"في أواخر سنة 462 هـ [23] ، وكان هذا الاستنجاد بعد الموقعة بأكثر من عشرين سنة ولكنه صادف هوى في نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ العالمي.(5/248)
وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة "كليرمنت"في الجنوب الشرقي لفرنسا حثّ فيها المؤمنين من النصارى على أن "يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعوه لأنفسهم" [24] ، ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماس في نفوس الجماهير المسيحية شريفهم ووضيعهم على السواء، وبلغ عدد المتطوعين لهذه الحرب مائة وخمسين ألفا من النورماندبين والفرنج.
ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شنّ الغارة على الشرق بل إن كثيرا من الأمراء- ومن بينهم "بوهيمند"_ خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط، كما كانت المصالح الاقتصادية هدف تجار البندقية وبيزة وجنوة.
وقد نجح الصليبيون في تكوين أربع إمارات لهم في الشرق وهى إمارة الرها وإمارة أنطاكيا وإمارة طرابلس وإمارة بيت المقدس وسميت هذه الإمارات مملكة بيت المقدس حيث كان أمير بيت المقدس يتوج ملكا لهذه المملكة، وإن كان كل أمير مستقلا داخليا في إمارته. وكان الاعتداء الصليبي على الشرق سببا في ظهور قوى إسلامية فتية؛ فقد تحمس الأبطال المسلمون لاسترداد بلادهم المغتصبة، وتمكن البطل عماد الدين زنكي من استرداد إمارة الرها أول أمارة أنشأها الصليبيون في الشرق، وأهم إماراتهم وقد تم له ذلك سنة 539 هـ [25] .
ثم جاء بعده ابنه السلطان نور الدين محمود (541- 569 هـ) فوحّد بلاد الشام تحت حكمه وضم إليها مصر، ولم يتمكن الصليبيون في عهده من إضافة شبر واحد إلى ممتلكاتهم في الشرق، بل انتزع السلطان من أيديهم كثيرا من البلاد التي كانوا قد احتلوها قبل أن يتنبه المسلمون لخطرهم، وحمل لواء الجهاد في عهده ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي (567- 589 هـ) فانتزع بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ [26] .
ثم أخذ سلاطين الأيوبيين والمماليك من بعدهم ينتزعون المدن الإسلامية من أيدي هؤلاء المغتصبين مدينة بعد أخرى حتى انتزع السلطان المملوكي الأشراف خليل (689-693 هـ) مدينة عكا أخر معقل لهم في الشرق سنة 692 هـ [27] وبذلك قضى على مملكة الصليبيين القضاء الأخير.
وكان الأثر الحضاري لهذه الحروب فنيا وصناعيا وتجاريا أكثر منه علميا أو أدبيا؛ فقد كان الأوروبيون الذين أقاموا في الشام في الإمارات التي أنشئوها يعيشون داخل حصون وسكنات عسكرية، وكان اتصالهم بالزراع الوطنيين والصناع أكثر من اتصالهم بالطبقة المثقفة. على أنهم مع ذلك استفادوا علميا، وإن كانت استفادة محدودة فقد نقل أحد علماء مدينة بيزة الكتاب الطبي المشهور "كامل الصناعة الطبية"لعلي بن العباس المعروف بالمجوسي نسبة إلى أحد أجداده الذي كان يدين بالمجوسية قبل أن يعتنق الإسلام وترجم فيليب الطرابلسي مخطوطا عربيا في الفلسفة والأخلاق يسمى "سر الأسرار"يقال إن أرسطو ألفه لتلميذه الإسكندر المقدوني.
كما كان من أثر الحروب الصليبية العلمي اهتمام الأوروبيين بتعلم اللغة العربية؛ لأنهم وقد فشلوا في نشر الديانة المسيحية بحدّ السيف رأوا أن تعلم اللغة العربية يمكنهم من التخاطب مع الشرقيين ونشر المسيحية بينهم باللين والإغراء [28] .
على أن إنشاء المستشفيات ومعالجة المرضى فيها لم يعرف في أوروبا قبل الحروب الصليبية؛ مما يرجح أن هذا النظام منقول عن الشرق الإسلامي، بعد أن شاهد الأوروبيون المستشفيات فيه أثناء الحروب الصليبية، كما يرجح أيضا أن نظام الحمامات العامة الذي انتقل إلى أوروبا بعد الحروب الصليبية منقول كذلك بواسطتها.
وقد كان أثر الحروب الصليبية في نقل الفنون الحربية إلى أوروبا واضحا؛ فقد تعلم الصليبيون من المسلمين استخدام حمام الزاجل في نقل الأخبار الحربية [29] كما اقتبسوا منهم الاحتفال بالانتصارات بإشعال النيران، ولعبة الفروسية المعروفة باسم "الجريد"، وكذلك نقلوا عنهم اتخاذ الشعارات ونقشها على الأسلحة والخوذات، وكان اتخاذ الشعارات معروفا عند المسلمين، فقد كان صلاح الدين يلبس خوذة عليها رسم النسر، وكانت خوذة الظاهر بيبرس على شكل أسد كخوذة ابن طولون من قبل، ولم يكن ذلك معروفا في أوروبا قبل الحروب الصليبية.
وفي مجال الزراعة والصناعة والتجارة نقل الصليبيون العائدون إلى أوروبا كثيرا من النباتات وأشجار الفواكه مثل السمسم والبصل والأرز والبطيخ والبرقوق والليمون، كما حملوا معهم حين عودتهم البسط والسجاجيد والمنسوجات، وبدأت تظهر في أوروبا مصانع الآنية والبسط والأقمشة تقليدا للمنتجات الشرقية، ووجدت سوق أوروبية جديدة للمنتجات الزراعية الشرقية، والسلع الصناعية مما ساعد على نشاط التجارة الدولية التي كانت قد ركدت منذ سقوط الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي [30] .
السفارات بين دول أوروبا والدول الإسلامية
حدثت اتصالات بين دول أوروبا والدول الإسلامية في العصور الوسطى كان لها أثر- ولو ضئيل- في نقل حضارة المسلمين إلى أوروبا. فيحدثنا التاريخ أنه عندما يئس الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين من مدّ سلطانه إلى بلاد الأندلس التي أَسس فيها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إمارة أموية.
عندما يئس أبو جعفر من التغلب على هذا الأمير بالقوة لجأ إلى سلاح سياسي يستعين به على الوصول إلى غرضه فأراد التحالف مع "ببن" ملك الفرنجة على طرد الأمويين من الأندلس.
وقد مهد أبو جعفر لذلك بإرسال سفارة إلى "ببن" وجرت مفاوضات بين رسل الخليفة وبين ملك الفرنجة حول الغرض الذي جاءوا من أجله، ثم عادوا إلى بغداد يصحبهم سفراء من الفرنجة ليتفاوضوا مع أبى جعفر في التحالف مع دولة الفرنجة على سحق الدولة البيزنطية عدوتها، وعادوا إلى بلادهم يحملون الهدايا النفيسة التي أرسلها الخليفة إلى ملكهم.
ولم تؤد هذه المفاوضات إلى نتيجة إيجابية لكل من الطرفين أكثر من إزعاج عبد الرحمن الداخل وتخويفه من هجوم الفرنجة على بلاده، وإزعاج البيزنطيين من هجوم العباسيين على بلادهم. ويؤخذ على حكام المسلمين الاستعانة بغير المسلمين للتغلب على إخوانهم في الدين؛ فالمسلمون إخوة ينصر بعضهم بعضا، ويقفون صفا واحدا للدفاع عن عقيدتهم وصد أي عدوان يوجه إليها {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
وفي عهد الخليفة هارون الرشيد تجددت العلاقة بين دولة الفرنجة والدولة العباسية؛ حيث خطب شارلمان ود الرشيدَ؛ فأرسل إليه يطلب التحالف معه ضد البيزنطيين ويرجوه أن ييسر الحج إلى بيت المقدس للفرنجة، وأن تتبادل دولة الفرنجة التجارة مع الدولة العباسية وأن يمده بالكتب العلمية، كما أرسل الرشيد بعثة إلى بلاط شارلمان بغية التحالف معه ضد الإمبراطورية البيزنطية، والأمويين بالأندلس.
وقد أسفرت هذه المفاوضات عن إرسال مفاتيح كنيسة القيامة إلى شارلمان، وتبادل الهدايا بينه وبين الرشيد وكان من بين الهدايا التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان: فيل وساعة مائية دقاقة، وأقمشة فاخرة من الموشى المنسوج بالذهب، وبسط ومواد عطرية [31] .
ولم تسفر هذه المفاوضات عن عمل إيجابي من جانب شارلمان ضد الأمويين في الأندلس؛ لأنه لم يجازف بالدخول في حرب مع الأمويين لا يدرى مغبتها حيث أدرك استحالة الفضاء على الأمارة الأموية التي أصبحت ثابتة البنيان، موطدة الدعائم، واكتفى هو وأولاده من بعده بالدفاع عن أملاكهم ولم يفكروا في توجيه حملات هجومية ضد الأمويين.(5/249)
وكما حاول الفرنجة والعباسيون أن يتحالفوا ضد البيزنطيين والأمويين كذلك حاول الأمويون والبيزنطيون أن يتحالفوا ضد العباسيين والفرنجة. وقد بدأت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور البيزنطي "تيوفيل"الذي اشتد العداء بينه وبين الخليفة العباسي المعتصم باللّه، فقد هاجم الإمبراطور حصن زبطرة الإسلامي وضربه فرّد عليه الخليفة بالهجوم على عمورية وتخريبها سنة 223 هـ، كما خرّب كثيرا من المدن البيزنطية [32] .
بعث الإمبراطور "تيوفيل"، سفيره "كريتوس"ومعه هدايا نفيسة رسالة يطلب فيها صداقة عبد الرحمن الثاني (الأوسط) أمير الأندلس ويرجوه عقد معاهدة صداقة ويحرضه على استعادة مقر خلافة أجداده. وقد ردّ الأمير عبد الرحمن الأوسط على لا "تيوفيل"بخطاب عبّر فيه عن عداوته للعباسيين، دون أن يرتبط معه بمعاهدة حربية ضدهم وهذا تصرف نبيل من الأمير المسلم، يستحق الثناء عليه حيث لم يتفق مع المسيحيين على حرب المسلمين.
ومع أن هذه المراسلات لم تؤد إلى عقد تحالف فعلي فإنها لم تخل من فائدة حيث أوجدت حالة استقرار في غرب أوروبا؛ إذ أن الأمويين والفرنجة اقتنعوا بأنه من الخير لهم أن يتفاهموا، وأن تكف كل من الدولتين عن حرب الأخرى وتنصرف كل منها إلى رعاية مصالحها وتعمل على تقدمها الحضاري.
وقد نشأت بين المدن الإيطالية وبين الدولة الفاطمية بمصر والشام علاقات تأرجحت بين الودّ، والعداء فقد أرسلت مدينة بيزا سفيرا إلى بلاط الخليفة الفاطمي الظاهر (411-417 هـ) لتسوية المشكلة التي تسببت عن اعتداء بعض تجار بيزا على جماعة من التجار المصريين في البحر الأبيض، على مقربة من بيزا وسلب أموالهم، وقتل بعضهم. وقد انتقمت الحكومة الفاطمية لرعاياها وعاقبت التجار البيزيين المقيمين بمصر.
ونجح سفير بيزا في تسوية الخلاف بعد أن تعهد عن حكومته بالاقتصاص من المعتدين كما تعهد بالامتناع عن إمداد أعداء المسلمين بأي مساعدة، وفي نظير ذلك تعهدت الحكومة الفاطمية بإطلاق سراح التجار البيزيين المسجونين بمصر، وحماية حجاج بيت المقدس القادمين من بيزا على سفن غير حربية.
وعندما تولى الصالح طلائع بن رزيك الوزارة المصرية سنة 549 هـ بادرت حكومة بيزا بإرسال وفد لتهنئته، فرحب الوزير بهم وأكرمهم وأكد المعاهدات القديمة بينهما.
وقد قامت صلات ودية بين مدينة جنوة والدولة الفاطمية وازدادت هذه الصلات في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فقدي بعثت جنوة سفراء معاهدة مع الحكومة الفاطمية وتمخضت المفاوضات بين الطرفين عن تعهد الحكومة الفاطمية بحماية رعايا جنوة في مصر، وكان معظمهم يقيمون في مدينة الإسكندرية.
وكذلك قامت علاقات بين البندقية والدولة الفاطمية؛ حيث تعهدت البندقية في القرن الرابع الهجري بإمداد الفاطميين بما يحتاجونه من الأخشاب التي تلزم لبناء الأسطول الفاطمي المرابط في سواحل مصر، وسواحل الشام، ولكن البندقية توقفت بعد فترة عن إرسال الأخشاب- تحت تهديد حكومة بيزنطة- فتعكر صفو العلاقات بينها وبين الفاطميين، غير أن البندقية لم تلبث أن أدركت أن مصالحها التجارية تحتم عليها أن تعيد علاقاتها الطيبة بالقاهرة؛ فعادت إلى ما كانت عليه من إمدادها بالأخشاب نظير حصولها على امتيازات خاصة لسفنها التي تمر بالمياه المصرية، وتنقل حاصلات إفريقية وأسيا إلى أوروبا [33] .
ومما لاشك فيه أن هذه السفارات قامت بدور في توصيل حضارة المسلمين إلى دول الغرب؛ لأن السفراء كانوا يطلعون على مظاهر الحضارة في العالم الإسلامي، وينقلون فكرة عما شاهدوه إلى بلادهم لكن عدد هؤلاء السفراء- بالطبع- كان محدودا وإقامتهم في البلاد الإسلامية لم تكن طويلة، بل كانت مدتها تتوقف على انتهاء المهمة التي أرسلوا من أجلها.
ولذلك لم يكن دور هذه الاتصالات بارزا في نقل الحضارة الإسلامية، بل كان نصيبه في نقلها محدودا يقتصر أغلبه على الجانب المادي للحضارة، أما الجانب الثقافي منها فقد كان قليلا جدا، كما اقتصر نقل التجار على الجانب المادي فقط لأن همتهم كانت متجهة أولاً وبالذات إلى الحصول على المال فكانوا ينقلون التحف بقصد الكسب من ورائها فحسب ولم تكن الثقافة والفن مما يحرص التجار على تداوله.
من كل ما تقدم نعلم أن ما تنعم الدول الغربية به من حضارة ليس من ابتكار عقول أهلها، ولا من صنع أيديهم إنما هو فيض الحضارة الإسلامية وصل إليهم عن تلك المصادر التي تكلمنا عنها.
وقد اهتم الغربيون بالجانب المادي من الحضارة التي وصلت إليهم من الشرق وأغفلوا الجانب الروح، وهو المهم، وليتهم وجهوا الجانب المادي وجهة صالحة تعمّر ولا تخرب، وتبني ولا تهدم. بل تفننوا في نقل وسائل التخريب والتدمير، حتى أصبح العالم يعيش اليوم في جو من القلق والرعب اللذين يجب أن يخلو منها المجتمع الحضاري.
ويوم يرجع المسلمون إلى التمسك بقواعد دينهم، والسير على هداها فسوف يعيدون إلى المجتمع الإنساني نعمة الأمن، ويخرجونه من جو القلق والرعب إلى جو الطمأنينة والسعادة واللّه سبحانه وتعالى يهدى إلى سواء السبيل، نسأله جلت قدرته أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لطفي عبد السميع، الإسلام في أسبانيا ص31.30.
[2] المقري ، نفح الطيب جـ1 ص298.
[3] جوت هل، الحضارة العربية ص119.
[4] ابن حوقل، المسالك والممالك ص79.78.
[5] ابن خلكان، وفيات الأعيان جـ1 ص131.130.
[6] ابن خلدون، كتاب العبر جـ4 ص 146.
[7] المقري ، نفع الطيب ج1 ص 250.
[8] المدوّر . الديانات والحضارات ص 67.
[9] علي الخربوطلي: العرب والحضارة ص 313.
[10] المدور الديانات والحضارات ص 70.
[11] سعيد عاشور. أوروبا في العصور الوسطى ص 217.
[12] بالنشيا ، تاريخ الفكري الأندلس ص 536.
[13] هل، الحضارة العربية ص 120.
[14] أماري، مكتبة صقلية العربية جـ1 ص 427،429.
[15] ابن الأثير، الكامل جـ1 ص 54 ،53
[16] رحلة ابن جبير ص 228.
[17] أماري، مكتبة صقلية العربية ص 472
[18] رحلة ابن جبير ص331.
[19] المقريرزي ، السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص382
[20] أبو المحاسن، النجوم الزاهرة ج6 ص283
[21] المقريزي ، الخطط، ج1 ص219
[22] ابن الأثير، الكامل جـ1 ص45.44.
[23] ابن الأثير، الكامل جـ8 ص45.44.
[24] فيليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص822.
[25] إسحاق أرملة، الحروب الصليبية ص106
[26] ابن شداد. سيرة صلاح الدين ص 67066.
[27] أبو الفداء المختصر في أخبار البشر جـ4 ص 24.
[28] فليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص 857، 858.
[29] السيوطي ، حسن المحاضرة جـ3 ص 168.
[30] فيليب حتى تاريخ العرب جـ3 ص 65.
[31] جميل نخلة حضارة الإسلام ص 151.
[32] إبراهيم العدوى، المسلمون والجرمان ص 270.
[33] جمال سرور الدولة الفاطمية ص 1760175
================
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية
خالد عزب(5/250)
عرفت الحضارات القديمة علم الفلك وارتبط فيها بالتنجيم ومعرفة الغيب، وهو ما ألقى بظلاله على علم الفلك عند المسلمين حتى عهد قريب، ولكن في حضارة الإسلام، تلك الحضارة التي نبذت التنجيم واعتبرته مخالفًا لعقيدتها، انفصل علم الفلك عن التنجيم، وأصبحت له قواعده العلمية التي يرتكز عليها. ولم يكن هذا الانفصال وليد الصدفة، بل وليد التجربة العلمية والقياس والاستنباط، والحاجة الإسلامية لتحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة، حتى أصبحت المساجد الجامعة لا تخلو من فلكي يقوم بتحديد الوقت من خلال واحدة من الآلات الفلكية التي عرفها وابتكرها المسلمون.
لقد كان علم الفلك في الحضارات القديمة تائهًا، ولكن مع العصر العباسي وفي خلافة المأمون بن هارون الرشيد، صار لهذا العلم موقع خاص، فلأول مرة نرى مراصد كبيرة لها مواقعها الثابتة والمتميزة، وآلاتها الضخمة المصنعة بعناية، والرعاية التي حظيت بها من قبل الدولة، وعدد الفلكيين الذين ارتبطت أسماؤهم بها.
ويرى آيدين صاييلي -أبرز الباحثين الأتراك الذين درسوا المراصد الفلكية- أنه نشأت ظروف اقترنت بالإسلام، وكانت مواتية لتطور المراصد كمؤسسات، ذلك أن هناك ما يبرر القول بأن الإسلام شكل بيئة مناسبة لنشأة المراصد وتطورها، فلقد كانت هناك مرتبة خاصة لعلم الفلك في العالم الإسلامي، وكان هناك اهتمام بالرصد المباشر، وبدقة القياسات، وبالنظريات الرياضية، وبزيادة حجم الآلات، وبالإصرار على ممارسة الفلكيين أعمالهم في مجموعات، وبالميل إلى التخصص في مجالات ضيقة، وبالنزعة التجريبية عند علماء الإسلام.
كان للمراصد في عصر المأمون عدة سمات هامة لعل أهمها البرامج البحثية المحددة، كانت المهمة الكبرى لتلك المراصد الأولى إيجاد جداول فلكية مبنية على أرصاد حديثة للشمس والقمر فقط. ولكن فضلاً على كون البرامج المرسومة لها محدودة، فإنها كانت بُدائية بعض الشيء من حيث الإدارة والتنظيم المالي، والواقع أن طبيعة العمل المحددة التي نيطت بمرصدي المأمون في الشماسية وقاسيون قد جعلتهما لا يرقيان إلى مستويات المراصد المتكاملة التي عرفها العالم الإسلامي فيما بعد.
ظهر المرصد الإسلامي بشكل أكثر تطورًا بعد زمن المأمون بحوالي قرن ونصف قرن، وكان أكثر تنظيمًا من الناحية الإدارية، وعندما نشأ مرصد شرف الدولة أصبح له مدير يشرف على تدبير شؤونه، واقترن ذلك بتوسعة برنامج الرصد بحيث صار يشمل الكواكب كافة، ولقد أمكن تحقيق هذا الجانب الأخير من تطور المراصد على مرحلتين، ذلك أن هناك دليلاً على أن بعض برامج الرصد قد اقتصرت على مشاهدة الكواكب السريعة فقط إلى جانب الشمس والقمر.
كانت المهمة الرئيسية للأعمال التي يضطلع بها المرصد تتمثل في إقامة جداول فلكية جديدة لكل الكواكب مبنية على أرصاد حديثة. وكان هناك ميل واضح نحو تصنيع آلات تزداد حجمًا على مر الزمن ونزوع إلى توفير هيئة عاملة متميزة، وذلك بموجب التقدم الذي أمكن تحقيقه في هذا الاتجاه أيضًا، ومن شأن التطورات أن تعمل على تعزيز اعتقاد مفاده أن نشأة المراصد، باعتبارها مؤسسات، ترجع في أصلها إلى الخلفاء والملوك.
ويعد المرصد الذي شيده السلطان السلجوقي ملك شاه في بغداد مرحلة أخرى من مراحل تطور العمل في المراصد، وإن لم يتوافر لدينا إلى الآن معلومات كافية حول عمل هذا المرصد، وظل هذا المرصد يعمل لفترة تزيد على عشرين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبيًّا بالنسبة لعمر المراصد، وقد رأى الفلكيون آنذاك أنه يلزم لإنجاز عمل فلكي فترة زمنية لا تقل عن 30 عاماً.
مرصد المراغة
يعد القرن السابع الهجري أهم حقبة في تاريخ المراصد الإسلامية؛ لأن بناء مرصد المراغة تم هذا القرن، ويعد هذا المرصد واحدًا من أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع المراغة بالقرب من مدينة تبريز. بُني المرصد خارج المدينة، ولا تزال بقاياه موجودة إلى اليوم، وقد أنشأه "مانجو" أخو "هولاكو". كان مانجو مهتمًا بالرياضيات والفلك، وقد عهد إلى جمال الدين بن محمد بن الزيدي البخاري بمهمة إنشاء هذا المرصد، واستعان بعدد هائل من العلماء منهم: نصير الدين الطوسي، وعلي بن عمر الغزويني، ومؤيد الدين العرضي، وفخر الدين المراغي، ومحيي الدين المغربي وغيرهم كثير.
ويعد مرصد المراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف؛ إذ وقفت عليه عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به؛ ولذا ظل العمل جاريًا في المرصد إلى عام 1316م وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته.
وتكمن السمة الثالثة لمرصد المراغة في النشاط التعليمي الهام الذي تم فيه، فقد تم تعليم العديد من الطلبة في المرصد علم الفلك والعمل على الآلات الفلكية. كما كان بالمرصد مكتبة ضخمة ضمت آلاف المخطوطات في شتى مجالات المعرفة.
مرصد سمرقند
أسس هذا المرصد "أولغ بك" حفيد "تيمورلنك" في سمرقند، وفي عام 1908 تم الكشف عن موقع هذا المرصد حين نجح "ج.ل فاتكن" في العثور على وقفية من وقفياته تحدد مكانه بالضبط في المدينة، واستطاع في أثناء تنقيباته الأثرية أن يعثر على قوس كبيرة كانت تستخدم في تحديد منتصف النهار، وتعتبر أهم الأدوات الفلكية في المرصد.
يقع فناء المرصد الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 21 مترا على تل ذي قاعدة صخرية، وتبلغ مساحة السطح لذلك التل حوالي 85 مترًا من الشرق إلى الغرب، وحوالي 170 مترًا من الشمال إلى الجنوب. وتحيط بالمبنى الرئيسي للمرصد حديقة، وأماكن إقامة لغرض السكن. وهذا ما يدل على فخامة المبنى وعظمته، ويستدل من الاكتشافات الأثرية أن ذلك المبنى كان أسطواني الشكل وذا تصميم داخلي دقيق ومحكم.
ولم يكن دمار مرصد سمرقند وزواله ناجمين، في رأي فاتكن، عن عوامل طبيعية؛ إذ من المحتمل أن يكون بعض الدمار قد نجم عن استخدام رخامه في عمليات بناء أخرى. وقد وضعت جداول فلكية في المرصد، عرفت بجداول "أولغ بك" وتعد من أدق الجداول في العالم. ومن المعروف أن قبة المرصد، استغلت في وضع الجداول؛ حيث كان يوجد بها نقوش تحدد الدرجات والدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفلاك التدوير، وللكواكب السبعة، وللنجوم المتحيرة، وللكرة الأرضية بتقسيماتها من حيث الأقاليم والجبال والصحارى. وممن عملوا في هذا المرصد "غياث الدين الكاشي" الذي برع في ميدان النماذج الميكانيكية للحركات السماوية.
==============
مفهوم الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية هي نتاجٌ لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، سواء إيماناً وتصديقاً واعتقاداً، أو انتماءً وولاءً وانتساباً، وهي خلاصةٌ لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمةً في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، ولانصهارها في بوتقة المبادئ والقيم والمُثُل التي جاء بها الإسلام هدايةً للناس كافة.
والحضارة الإسلامية نوعان : النوع الأول ــ حضارة إسلامية أصيلة وتُسمّى حضارة الخلق والإبداع، وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام، والنوع الثاني ــ حضارة قام بها المسلمون في الأمور التجريبية امتداداً وتحسيناً، كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتُسمّى حضارة البعث والإحياء (12).
فالحضارة الإسلامية بهذا المفهوم الجامع الشامل العميق، هي إرثٌ مشترك بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كوَّنت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجَها المُحْكَم.(5/251)
فليست الحضارة الإسلامية حضارةَ جنسٍ معيّن فتكون بذلك حضارةً قوميةً تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارة جامعة شاملة للأجناس والقوميات جميعاً التي كان لها نصيبُها في قيام هذه الحضارة، ودورها في ازدهارها وتألقها، وفي امتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي كان معروفاً خلال القرون التي سطع فيها نجمُها واتسع إشعاعها وامتدَّ نفوذها.
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقاف
=============
حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية
المرجع: سعيد عبدالفتاح عاشور و آخرون، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، الكويت،1986.
أ - عوامل مهدت لظهور حركة الترجمة ( الترجمة قبل الإسلام ) :
* أدت الفتوحات الاسكندر الأكبر إلى انتشار الحضارة اليونانية في غرب آسيا و مصر مما اكسب هذه المنطقة طابع خاص أطلق عليه بعض المؤرخين اسم الحضارة الهلينستية و هي ممتدة على الفترة من وفاة الاسكندر الأكبر يونيو 323 ق.م. إلى القرن السابع الميلادي عندما جاء الفتح العربي. و تعد اشهر مراكز الحضارة اليونانية:
- الإسكندرية - انطاكيا - نصيبين - جنديسابور
* قبل ظهور الإسلام نهض السريان بدور كبير في ترجمة معارف اليونان و علومهم إلى اللغة السريانية، و الذي ساعد السريان على ذلك:
2. كثير من علماء اليونان تركوا بلادهم تحت تأثير الاضطهادات الدينية و المذهبية و اتجهوا شرقا حيث استقروا في مدينة الرها شمال العراق و هناك أسسوا مدرسة انتعشت في القرن الخامس الميلادي.
3. عندما أغلق زينون (474 - 491 م) إمبراطور القسطنطينية مدرسة الرها سنة 489 م رحل علماؤها إلى نصيبين حيث أسسوا مدرسة اشتهرت في ميادين الفلسفة اليونانية و الطب اليوناني.
4. عندما أغلق جستنيان الأول ( 527- 565 م) مدرسة أثينا الوثنية سنة 528 م هجرها علماؤها و اتجهوا شرقا يبحثون عن مأوى في أحضان دولة الفرس.
و عندما استقر السريان في جنديسابور التابعة للفرس أقام كسرى انوشروان ( 531- 579 م) بيمارستان للطب. و تقع جنديسابور هذه في إقليم خوزستان و قد أسسها سابور الأول لتكون معسكرا و معقلا لأسرى الروم و لذلك كانت اللغة اليونانية معروفة فيها.
* عندما استقر العلماء اليونان في جنديسابور اشتهروا بالدراسات الطبية و ذاعت شهرتهم و صار علماؤها يضعون قوانين العلاج و قد ظلت قائمة و مستمرة في ظل الإسلام، حتى أن الخليفة أبا جعفر المنصور ( 136- 158 ه) عندما مرض احضروا له جرجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور و منذ ذلك الوقت اشتهر آل بختيشوع في بلاط الخلافة ببغداد.
* في حين اشتهار مدرسة جنديسابور ظلت الإسكندرية بمصر ( تأسست 331 ق.م.) و مدرسة انطاكيا شمال الشام (تأسست 300 ق.م.) تمتلك قواعد ثابتة في الفلسفة و المعارف و العلوم اليونانية.
* نجد أن الفلسفة و الفكر اليوناني اتخذ طابع مميز في الشرق في العصر الهلينستي لاصطباغه بصبغة شرقية واضحة و من ابرز ما يمثل هذا هو مذهب الافلاطونية المحدثة التي اشتهرت به مدرسة الإسكندرية و الذي أسسه أفلاطون المصري أو السكندري.
* و عن المدارس الشرقية التي استوعبت الفكر اليوناني سرعان ما غدت مراكز إشعاع للحضارة اليونانية و اشتهرت بالفلسفة و الطب و التشريح و الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و قد جاء نشاط هذه المدارس مصحوبا بنشاط في الترجمة، إذ حرص السريان على نقل الكثير من الكتب اليونانية التي ضاعت أصولها إلى السريانية، و هي احد اللغات الآرامية. و من اشهر مراكز السريان هو مركز مدينة الحران إلى الجنوب من الرها، و قد كانت السريانية بمثابة اللغة العالمية للمعرفة و العلم في منطقة الشرق الأدنى و ذلك قبل ظهور الإسلام. و كان يعيب على الترجمة السريانية أنها ترجمة حرفية مما سبب ضياع المعنى للنص المترجم في بعض الأحيان. و قد أسهم السريان كذلك في ترجمة بعض الكتب عن الفهلوية و هي اللغة الفارسية و منها: كتاب "كليلة و دمنة" و "السندباد".
* عندما ظهر الإسلام و فتح المسلمون فارس و العراق و الشام و مصر في القرن 7م، رؤوا ما في هذه البلاد من مدارس تحتضن حضارة اليونان و فكرهم و لم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلا تاما، لان بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم. و بفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم و حثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها و لم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.
ب. نشأة حركة الترجمة و ظهورها ( الترجمة بعد الإسلام) :
* هناك رأيين مختلفين حول نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية، الأول من الكتاب المقرر و الثاني يتعلق بالرأي الأصح في مسالة نشأة الترجمة في الإسلام:
1. رأي الكتاب:-
- و يقول هذا الرأي أن الجذور الأولى لحركة الترجمة إلى العربية في أوائل العصر الأموي حيث ذكر في المصادر أن خالد بن يزيد بن معاوية و الملقب بحكيم آل مروان أرسل إلى الإسكندرية في طلب بعض الكتب في الطب و علم الصنعة (الكيمياء) لترجمتها إلى العربية و ذلك بعدما أقصى عن الخلافة طواعية و يقول عنه:
ابن النديم: و قد ذكر في "الفهرست" أن خالد كان يسمى حكيم آل مروان و كان فاضلا في نفسه و له محبة في العلوم، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان الذي نزلوا مصر و تفصحوا بالعربية و كان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
ابن خلكان: وصف خالد بن يزيد بقوله انه كان اعلم قريش بفنون العلم و له كلام في صنعة الكيمياء و الطب و كان متقنا لهذين العلمين.
الجاحظ: قال عنه انه كان أول من أعطى الترجمة و الفلاسفة و قرب أهل الحكمة و رؤساء كل صنعة.
- و يقال أن خالد بن يزيد استقدم من الإسكندرية راهبا بيزنطيا اسمه مريانس و طلب منه أن يعلمه علم الصنعة و لم يكتفي بذلك و إنما طلب من آخر اسمه اصطفن ترجمة ما أتى به مريانس إلى العربية.
- و قد اتجه بعض الباحثين الأوروبيين المحدثين أن يشككوا فيما نسب إلى خالد بن يزيد من جهود في الترجمة إلى العربية مستهدفين غمس الإسلام و طمس دوره في ظهور أعظم حضارة عرفتها البشرية في العصور الوسطى، و في ذلك شككوا أيضا في شخصية جابر بن حيان الكوفي ( القرن 2 ه) الذي يعتبر أبا لعلم الكيمياء و أيضا شككوا في قسطنطين الأفريقي الذي ينسب إليه ترجمة مؤلفات العرب في الطب إلى اللاتينية مما مهد لظهور مدرسة سالرنو الطبية. و قد ذهب الكاتب لوتسيان كاسيموفتش إلى التشكيك في شخصية محمد في كتابه" لم يكن هناك محمد إطلاقا" .
- و من الخلفاء الأمويين الذين استكملوا جهود الترجمة بعد خالد بن يزيد، عمر بن عبدالعزيز( 99- 101 ه) حيث اصطحب معه عند ذهابه إلى الخلافة في المدينة احد علماء مدرسة الإسكندرية بعد أن اسلم على يديه ابن ابجر واعتمد عليه في صناعة الطب. و قد قام الخليفة عمر بن عبدالعزيز أيضا بنقل علماء مدرسة الإسكندرية إلى مدرسة انطاكيا سنة 100 ه لكن هذا لا يعني أن مدرسة الإسكندرية أغلقت بل ظلت قائمة في العصر العباسي و من اشهر أطبائها:
1. بليطان الذي اعتمد عليه هارون الرشيد (170-194 ه) في علاج جارية له.
2. سعيد بن توفيل كان طبيب احمد بن طولون ( 254- 270 ه).
- و من المدارس التي ازدهرت بالعلوم و الترجمة:(5/252)
1. مدرسة الإسكندرية: إلا أن انغماسها في الجدل الديني حول بعض القضايا المسيحية و بعدها نسبيا عن مركز الخلافة خاصة في العصر العباسي، جعل تأثير مدارس الشرق و خاصة جنديسابور يبدو أكثر قوة.
2. مدرسة جنديسابور: اشتهرت هذه المدرسة بدراسة الطب و فيها ترجمت مؤلفات اليونان في الطب إلى السريانية و بعد ذلك نقلت إلى العربية، و ينتسب إلى هذه المدرسة أطباء أسرة بختيشوع الذين اشتهر منهم من عالجوا الخلفاء العباسيين الأوائل.
3. مدرسة حران: و كانت مركزا للأثينيين الصابئة و هم من السريان الذين اختلطوا باليونانية الوثنيين الفارين من الاضطهاد المسيحي، و ينسب إلى هذه المدرسة: ثابت بن قرة الصابئي و له مؤلفات عديدة في الطب و عمل في خدمة الخليفة المعتضد العباسي( 279-289 ه) و كان من ذريته سنان بن ثابت الذي حظي برضاء الخليفة القاهر. كما اشتهرت مدرسة حران بالفلك و ينسب إليها في هذا المجال:
- عبدالله محمد البتاني - أبو جعفر الخازن
2. و الرأي الأصح في نشأة الترجمة:
- ترجع حركة الترجمة إلى صدر الإسلام في عهد الرسول الكريم (ص) و بتكليف منه، فنُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم: "من عرف لغة قوم امن شرهم" . و من اشهر من تعلم السريانية في عهد الرسول هو زيد بن ثابت و قد تعلمها في ستين يوما و تعلم كذلك الفارسية و الرومية.
- أقدم بردة في الإسلام تعود إلى سنة 22 ه و عليها نص باسم عمرو بن العاص و به ثلاثة اسطر باليونانية و الترجمة بالعربية تحتها، و بالتالي الترجمة ظهرت في صدر الإسلام و ليس منذ العصر الأموي.
ج. تطور حركة الترجمة و ازدهارها:
* حركة الترجمة إلى العربية أخذت تتسع و تزداد قوة في العصر العباسي بفضل:
1. تشجيع الخلفاء العباسيين و رعايتهم لهم و قد فتحوا بغداد أمام العلماء و اجزلوا لهم العطاء و أضفوا عليهم ضروب التشريف و التشجيع بصرف النظر عن مللهم و عقائدهم. في حين أن حركة الترجمة في العصر الأموي كانت محاولات فردية لا يلبث أن تذبل بزوال الأفراد.
2. غدت ركنا من أركان سياسة الدولة فلم يعد جهد فردي سرعان ما يزول بزوال الأفراد سواء حكام أو غير ذلك بل أصبح أمرا من أمور الدولة و ركنا من أركانها.
* و في حين أن الترجمة في العصر الأموي اقتصرت على الكيمياء و الفلك و الطب، نجد انه في العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة و المنطق و العلوم التجريبية و الكتب الأدبية.
* من أمثلة اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلماء و المترجمين:
1. الخليفة أبا جعفر المنصور( 136- 158 ه) : و قد عني بترجمة الكتب إلى العربية سواء من اليونانية أو الفارسية، و في تلك المرحلة نقل حنين بن إسحاق بعض كتب ابقراط و جالينوس في الطب و نقل ابن المقفع كتاب "كليلة و دمنة" من الفهلوية.
2. هارون الرشيد (170 -194 ه): عندما كثر أعداد العلماء في بغداد انشأ لهم دار الحكمة لتكون بمثابة أكاديمية علمية يجتمع في رحابها المعلمون و المتعلمون و حرص على تزويدها بالكتب التي نقلت من آسيا الصغرى و القسطنطينية.
3. المأمون ( 198-218 ه) : ازداد اهتماما ببيت الحكمة، فوسع من نشاطها و ضاعف العطاء للمترجمين و قام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلفات يونانية في شتى ألوان المعرفة، فاخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، و ابن البطريق فاخذوا مما اختاروا و قد ذكر ابن النديم انه كان بين المأمون و إمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن.
* من اشهر المترجمين في العصر العباسي:
- ثيوفيل بن توما الرهاوي - جورجيس بن جبرائيل - يوحنا بن ماسويه
- الحجاج بن يوسف الكوفي - ثابت بن قرة - حنين بن اسحق
- اسحق بن حنين.
و نخص بالذكر حنين بن اسحق الذي ترجم كتبا عديدة في المنطق و الفلسفة و الطبيعة لكن اغلب ما نقله كان في الطب و قد ترجم من اليونانية إلى السريانية و العربية فترجم لجالينوس 95 كتابا إلى السريانية نقل منهم إلى العربية 39 كتابا فقط.
د . تأثير الحضارات الأخرى في الحضارة الإسلامية:
أ - التأثير الفارسي:
* كان التأثير الفارسي في الحضارة الإسلامية أقوى في مجال الأدب حيث كان الأدب الفارسي الشرقي اقرب إلى ذوق العرب و أحاسيسهم من الأدب اليوناني.
* في العصر العباسي قام من يجيدون اللغتين الفارسية و العربية بترجمة الكتب الفارسية و من هؤلاء :
- عبدالله بن المقفع - أبناء خالد - الحسن بن سهل
و نخص بالذكر المقفع حيث ترجم تاريخ الفرس و قيمهم و عاداتهم و سير ملوكهم فضلا عن كتب أدبية منها:
- كليلة و دمنة - الأدب الكبير - الأدب الصغير - كتاب اليتيمة
* لم تكن حضارة الفرس في مجال الأدب فقط فقد امتلكوا تراثا في العلوم الأخرى كالهندسة و الفلك و الجغرافيا، لكن تأثير اليونان في العلوم العقلية كان أقوى من تأثير الفرس.
ب -التأثير اليوناني:
* التأثير اليوناني في الأدب كان محدودا و لا يزيد عن نقل بعض الكلمات مثل:
- القنطار - الدرهم - القسطاس - الفردوس - بالإضافة إلى بعض الحكم
* كانت الحضارة اليونانية ذات تأثير قوي في العلوم العقلية و هذا نتج عن معتقدات اليونان أنفسهم و اهتمامهم بالعقل و ارتفاع شانه على حساب الأعمال اليدوية أو المجال الأدبي، فنقل العرب عنهم في مجال الفلسفة عن أفلاطون و أرسطو و في مجال الطب عن جالينوس و ابقراط.
* لبرز مظاهر التأثير اليوناني كانت خلال العصر الهلينستي حيث امتزجت حضارة اليونان بالقسم الشرقي و اخذ المسلمون منهم ما يتوافق مع الإسلام و نبذوا ما يتعارض معه.
ت - لتأثير الهندي:
* حركة الفتوح الإسلامية امتدت إلى الهند في أواخر القرن الأول الهجري، أي في خلافة الوليد بن عبدالملك( 86 -96 ه) و استؤنفت في منتصف القرن الثاني الهجري في عهد أبي جعفر المنصور ( 136- 158 ه) و نشطت مرة أخرى في القرن الخامس الهجري، و ذكر في ذلك بعض المؤرخين:
- الجاحظ:" اشتهر الهند بالحساب و علم النجوم و أسرار الطب".
- الاصفهاني: " الهند لهم معرفة بالحساب و الخط الهندي و أسرار الطب و علاج فاحش الداء....".
* جزء كبير من ثقافة الهند و علومهم انتقل إلى فارس بحكم العلاقات التجارية بين الطرفين قبل الإسلام و من ذلك أن كسرى انوشروان أرسل طبيبه برزويه إلى الهند لاستحضار كتب و مؤلفات في الطب فعاد بالكثير منها و يقال أن قصة كليلة و دمنة انتقلت من الهند ضمن ما نقله برزويه من كتب بالإضافة إلى لعبة الشطرنج.
* عندما عكف المسلمون على ترجمة كتب الفرس إلى العربية نقلوا بين ثناياها أجزاء من ثقافة الهنود و علومهم و أحيانا قام بعض المترجمين بنقل السنسكريتية و هي اللغة الهندية إلى العربية مباشرة و منهم:
- منكة الهندي - ابن دهن الهندي
* و من العلوم التي اخذ فيها المسلمون عن الهنود: الرياضيات و الفلك و الطب:
أ - الرياضيات:
- الأرقام الحسابية المستخدمة في العالم حاليا عرفها المسلمون عن الهنود و عن المسلمين نقلت إلى الغرب، و قد عرف المسلمون هذه الأرقام باسم راشيكات الهند.
- نقل عن الهنود الكثير من المصطلحات الرياضية مثل مصطلح الجيب في حساب المثلثات.
و استفاد العالم الرياضي أبا جعفر بن موسى الخوارزمي من معارف الهنود في الرياضيات.
ب - الفلك:(5/253)
- أمر أبو جعفر المنصور سنة 154 ه بترجمة كتاب في الفلك ألفه احد علماء الهند و هو برهمكبت و قد كان باللغة السنسكريتية، كما أمر باستخراج زيجا من ازيجة هذا الكتاب يستخدمه العرب لدراسة حركة الكواكب، و قد قام بترجمة هذا الكتاب الفزاري و أنجز الزيج المشهور الذي ينسب إليه. كما اخذ المسلمون عن الهنود كتاب "السند هند" في الفلك.
ت - الطب:
- من الكتب التي ترجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب :
كتاب " السيرك" و قد ترجم أولا إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية عن طريق عبدالله بن علي.
كتاب " سسرد" نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي.
كتاب "أسماء عقاقير الهند" نقله منكة عن اسحق بن سليمان.
كتاب " استنكر الجامع" نقله ابن دهن الهندي.
- من المعروف أن أطباء الهند نبغوا في استخدام الأعشاب الطبية في مداواة الكثير من العلل و قد نقل المسلمين الكثير عن فوائد الأعشاب عن الهنود، و بعض هذه الأعشاب لم يعرفها اليونان حيث لا تنبت إلا في أقاليم الهند و شرق آسيا، و يقال أن خالد بن يحيى البرمكي جلب بعض أطباء الهند مثل:
- منكة - قلبرقل - سندباد
- و كان الاتصال بالحضارة الهندية مصحوبا بتعريب كثير من المصطلحات و الأسماء مثل: - زنجبيل - كافور - خيرزان - فلفل
فضلا عن ترجمة بعض القصص مثل كليلة و دمنة و السندباد كما سبقت الإشارة.
* و إذا كان المسلمون اخذوا عن الحضارات السابقة فان هذا لا يقلل من شانها لان الترجمة كانت مرحلة من مراحل الابتكار العلمي الإسلامي و هذه المراحل هي:
1 . النقل و الترجمة. 2. الشرح و التفسير.
3 . النقد و التصحيح. 4. الإضافة و الابتكار.
===============
من نماذج العمارة الاسلامية في مصر: مقياس النيل بالروضة
المرجع: كمال الدين سامح، العمارة الاسلامية في مصر، القاهرة، 1991.
- يعد مقياس النيل بالروضة من المنشات العباسية، و قد عرف المصريون منذ أقدم العصور تشييد المقاييس في شتى أنحاء البلاد ليتعرفوا على ارتفاع النيل نظرا لعلاقته الوثيقة بري الارض و تحصيل الخراج. و تشير المصادر العربية إلى العديد من المقاييس التي أنشئت بمصر بعد الفتح العربي لها منها:
v معاوية بن أبي سفيان( 41-60 ه): مقياس انصنا .
v عبدالعزيز بن مروان: أنشا مقياس بحلوان سنة 80 ه .
v بنى أسامة بن زيد التنوفي عامل الخراج، مقياس في الروضة في عهد الوليد بن عبدالملك(86 -96 ه) سنة 92 ه و قد أبطل سليمان بن عبدالملك العمل به فانشأ غيره في سنة 97 ه، أي بعد خمس سنوات.
و في سنة 247 ه أمر الخليفة المتوكل ( 232 - 248 ه) بإنشاء المقياس الذي عرف بعدة أسماء منها:
* المقياس الهاشمي * المقياس الجديد * المقياس الكبير *مقياس الروضة
و يذكر المؤرخ ابن خلكان أن اسم الخليفة المتوكل كان منقوشا في شريط من الحجر يحيط بأعلى فوهة البئر، و قد شيد على يد احمد بن محمد الحاسب، و تحيط بشخصية هذا المهندس الغموض حيث يقول البعض:
1. الذي بنى المقياس هو مهندس عراقي اسمه محمد بن كثير الفرغاني في ولاية يزيد بن عبدالله التركي.
2. قال البعض أن اسمه ابن كاتب الفرغاني و انه كان قبطيا، لكن يقول كريزويل أن الذي ينسب إلى فرغانة التي هي جزء من دولة الفرس لا يمكن أن يكون قبطيا.
3. زعم البعض أن احمد بن محمد الحاسب و احمد بن كثير الفرغاني ما هما إلا شخص واحد و في هذا يقول بوبر، انه هو نفسه احمد بن المدبر الذي ولي خراج مصر.
و ما يزيد من حدة هذا الخلاف أن النقش الحجري الذي أشار إليه ابن خلكان فقد أثناء إصلاحات احمد بن طولون ( 254- 270 ه).
- و هذا المقياس الأثري عبارة عن:
1. عمود رخامي مدرج و مثمن القطاع يعلوه تاج روماني يبلغ طوله 19 ذراع، حفر عليه علامات القياس.
2. يتوسط العمود بئر مربع مشيد بأحجار مهذبة روعي في بنائها أن يزيد سمكها كلما زاد العمق، و على هذا شيد البئر من ثلاث طبقات: السفلى على هيئة دائرة، يعلوها طبقة مربعة ضلعها اكبر من قطر الدائرة، و المربع العلوي و الأخير ضلعه اكبر من المربع الأوسط. و جدير بالإشارة أن سمك الجدران و تدرجه على هذا النحو، يدل على أن المسلمين كانوا على علم بالنظرية الهندسية الخاصة بازدياد الضغط الأفقي للتربة كلما زاد العمق إلى أسفل.
3. يجري حول جدران البئر من الداخل درج يصل إلى القاع.
4. يتصل المقياس بالنيل بواسطة ثلاثة أنفاق يصب ماؤها في البئر من خلال ثلاث فتحات في الجانب الشرقي، حتى يظل الماء ساكنا في البئر، حيث أن حركة المياه في النيل من الجنوب إلى الشمال و بالتالي لا يوجد اتجاه حركة للمياه في الناحية الشرقية و الغربية.
5. يعلو هذه الفتحات عقود مدببة ترتكز على أعمدة مدمجة في الجدران، ذات تيجان و قواعد ناقوسية.
6. و يرتكز العمود الوسطي على قاعدة من الخشب الجميز لأنه الوحيد الذي لا يتأثر بالمياه و ذلك لتثبيته من أسفل، و مثبت من أعلى بواسطة tie-beam أي كمرة، و عليه نقش بالكوفي لآية قرآنية.
7. و عن النقوش و الكتابات الأثرية في هذا المقياس:
• في الجانب الشمالي و الشرقي كتابات أثرية بالخط الكوفي.
• في الجانب الجنوبي و الغربي نقوش ترجع إلى أيام احمد بن طولون سنة 259 ه عندما أصلحه و انفق عليه ألف دينار.
- و قد تناولت يد الإصلاح و التجديد مقياس النيل:
• في عهد احمد بن طولون- مؤسس مدينة القطائع في مصر- و قد أصلحه و جدده سنة 259 ه، و في هذا الإصلاح فقدت النقوش الحجرية التي أشار إليها ابن خلكان كما سبق الذكر.
• عهد الخليفة المستنصر إلى وزيره بدر الجمالي بتجديد المقياس سنة 485 ه و بنى مسجدا في جانبه الغربي عرف بمسجد المقياس.
• قام السلطان الظاهر بيبرس(658- 676 ه) بإضافة قبة فوق بئر المقياس في القرن السابع الهجري.
• تمت بعض الإصلاحات في عهد الاشرف قايتباي ملك مصر(872-901 ه)
• كما شهد إصلاحات أخرى في العهد العثماني على يد كل من:
- السلطان سليم الأول ( 918 - 926 ه )
- السلطان سليمان القانوني ( 926 - 974 ه)
- السلطان سليم الثاني ( 974 - 982 ه)
• حظي بنصيب من جهود الحملة الفرنسية سنة 1214 ه/ 1799 م فنظفوا بئر المقياس من الطمي المتراكم في قاعه كما أضافت قطعة من الرخام مقدارها ذراع إلى عمود القياس و نقش عليها تاريخ 1215 ه/ 1899م.
• قامت وزارة الأشغال العمومية سنة 1305 ه/1887 م بتنظيف المقياس مرة أخرى من الطمي المتراكم بداخله.
• بعد هذه الإصلاحات هبط عمود المقياس بمقدار 3 سم ثم 6سم، فقامت مصلحة المباني بالاشتراك مع لجنة حفظ الآثار العربية بأخذ الاحتياطات اللازمة لإيقاف الهبوط، و كان ذلك عام 1343 ه/ 1925م.
- و عن وظيفة المقياس هو معرفة كمية مياه النيل و بناء عليها يعرفون ما إذا كانت ستروى جميع الأراضي أم سيأتي موسم جفاف أو فيضان، و في هذا:
• إذا كان ارتفاع مياه النيل 16 ذراعا، يعد بشيرا بوفاء النيل و أن الأراضي ستروى و يكون الخراج كافي لسد احتياجات الدولة.
• إذا كان ارتفاع مياه النيل اقل من 16 ذراعا، كان علامة على قدوم الجفاف، و من ثم يهيئ الدولة لأخذ الاحتياطات اللازمة.
• إذا كان ارتفاع مياه النيل أكثر من 16 ذراعا، كان علامة على قدوم فيضان.
==============(5/254)
اصول الحضارة الاسلاميه:
الحضارة الاسلاميه هى حلقة من سلسلة الحضارات الانسانية السابقه عليها وخلاصة لها ؛ فقد استوعب المسلمون علوم ومعارف الأمم السابقة ؛ وأضافوا اليها ماأبلدعه العقل العربى من ابتكارات واستكشاف نظريات جديدة تفيد الانسانية فى تقدمها ؛ كما انهم اخضعوا نظريات علماء الحضارات السابقه للتجربة والملاحظة ولم يأخذوها قضية مسلمة لا شية فيها ؛ فهم الذين اخترعوا المنهج التجريبى فى ابحاثهم ونظرياتهم؛ وكانوا سببا رئيسيا فى قيام الحضارة الحديثة ولولاهم لتأخر ركب المدنية قرونا طويلة ولبدأ الغرب من حيث بدأوا .
وتميزت الحضارة الاسلامية عن سابقتها من الحضارات بأنها قامت على رسالة سماوية هى رسالة الاسلام التى جاءت بالشرائع والنظم الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية فنظمت علاقة الانسان بخالقه وعلاقته باخيه الانسان وبمجتمعه ووطنه بحيث لاضرر ولا ضرار ووجهت نظر الانسان الى الاعمار والتطور والاخذ باسباب المدنية والارتقاء ولذا فهى تحقق للبشريه الرخاء والارتقاء .
وعلى الرغم من ان الحضارة الاسلامية قد قامت على الدين الاسلامى ؛فان ذلك لم يمنع المسلمين من دراسة الحضارات السابقة والاستفاده منها فقد استفادوا من الحضاره العربيه ؛والفارسية؛واليونانية؛ والهندية؛ والصينية؛ وغيرها من الحضارات فى العالم القديم . فان المسلمين عندما خرجوا من جزيرتهم العربيه ينشرون رسالة الاسلام التى وكلوا بنشرها شرقا وغربا وصادفوا مدنية وحضارة لم يطمسوها او يدمروها بل عكفوا على دراستها والاستفادة منها والاخذ مافيه النفع لهم وما يقره دينهم الحنيف .
اما عن اصول الحضارة لاسلامية :
القران الكريم والسنة النبوية :
هما الاصلان الاساسيان للحضارة الاسلامية فأما القران فهو كتاب الله المجيد المنزل على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى (كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) وهو معجزة الاسلام الخالده التى وقف العرب وقد نزل بلغتهم تجاهها مبهورين قد اخذ العجب بهم كل مأخذ قال تعالى ( وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبنا فاتوا بسوره من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين )
وهو دستور المجتمع الاسلامى الذى احاط بكل صغيرة وكبيره قال تعالى (مافرطنا فى الكتاب من شئ) وفى القران الكريم يكم سر الحضارة الاسلميه وعظمتها فهو كتاب الله يهدى للتى هى احسن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو خير البشريه من كل نواحيها : الروحية ؛ العقائدية ؛الاجتماعية ؛العلمية ؛ الفكرية ؛ الاقتصادية؛الثقافية ؛العسكرية؛ فهو يدعو الى عقيدة حقه تقوم على الوحدانية لله تعالى خالية من التعقيد والغموض
اما السنة الشريفة :فهى كل ماصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم من قول وفعل او تقرير وهى المصدر الثانى فى التشريع بعد القران الريم فقد وضع القران الكريم الخطوط الرئيسيه فى التشريع الاسلامى وترك تفصيلها فكان النبى صلى الله عليه وسلم يفسر ماجاء مجملا فى القران ويجيب على اسئله السائلين ويحل المشكلات التى تعرض عليه
وقد امرنا الله تعالى باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لانه لاينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى وقد عصمه الله عن الخطأ فيما يبلغه للناس من امر الرسالة قال تعالى ( وما اتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا )وبذلك صار القران لكريم اصلا والسنة النبويه الشريفة تفسيرا وتوضيحا وبيانا
=================
النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية
مفكرة الإسلام : جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.(5/255)
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالصراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
وقد بقي لنا من عهد المأمون العباسي أثر تاريخ هام يدل على مقدار الجباية الخراجية من جميع الأقاليم, وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته نقلاً عن كتاب جراب الدولة ولما في ذلك الأثر من الفائدة والتوضيح نذكره كما هو:
الإقليم الخراج النقدي الخراج العيني
1ـ أرض السواد 27800000 درهم 200 ثوب
2ـ كسكر 11600000 درهم 240 رطلاً من التين
3ـ كور دجلة 20800000 درهم
4ـ حلوان 4800000 درهم
5ـ الأهواز 25000000 30 ألف زجاجة ماء ورد/ 30000 رطل سكر
6ـ فارس 27000000 30200 رطل زيت/ 20000 رطل تمر/ 500 ثوب
7ـ كرمان 4200000
8ـ مكران 400000 150 رطل عود هندي
9ـ السندوماييه 12500000 200 ثوب
10ـ سجستان 4000000 ألفان نقرة فضة/ 40000 برذون/ 1000 رأس رقيق
11ـ خراسان 28000000 20000 ثوب
12ـ جرجان 12000000 30000 رطل أهليلج ونوع من الفاكهة
13ـ قومي 1000000 1000 ثوب حريري
14ـ الرويان ودنباوند 6300000 250 كساء/ 500 ثوب/ 300 منديل/ 3000 إناء فضة
15ـ الري 12000000 20000 رطل عسل
16ـ همذان 11300000 1000 رطل رمان / 12000 رطل عسل
17ـ البصرة / الكوفة 10700000
18ـ ماسبذان والريان 4000000
19ـ شهررؤر 6700000
20ـ الموصل 24000000 20000 رطل عسل
21ـ الجزيرة 34000000 1000 رأس رقيق/ 12000 زق عسل/ 10 صقور
22ـ أرمينية 13000000
23ـ برقة 1000000
24ـ أفريقية 'تونس' 13000000
25ـ قنرين 4000000 دينار
26ـ دمشق 420000 دينار
27ـ الأردن 97000 دينار
28ـ فلسطين 310000 دينار
29ـ مصر 1920000 دينار
30 اليمن 370000 دينار
31ـ الحجاز 3000000 دينار
فيكون بهذا الأثر دخل الدولة الإسلامية من الخراج فقط كمورد من موارد الدولة يبلغ 31960000 درهم 3817000 دينار هذا غير العروض الأخرى المذكورة والتي لو قومت لبلغت مبلغًا كبيرًا كل ذلك يرد إلى بيت مال المسلمين ببغداد.
ثالثا: العشور:
ليست كل أراضي الدولة الإسلامية المفتوحة تعتبر أرضًا خراجية بل هناك نوع آخر من الأراضي لا يفرض عليها الخراج وهي التي يفرض عليها عشر غلتها واسمها الأرض العشرية وهي ثلاثة أنواع:
أـ الأرض التي أسلم أهلها وهم عليها من غير قتال ولا حرب.
ب ـ الأرض التي لم يعرف لها صاحب ووزعت على الفاتحين بإذن الإمام.
ج ـ الأرض البور أو الموات التي فتحها المسلمون وقاموا باستصلاحها.
ويلاحظ أنه لا يجوز تحويل الأرض العشرية إلى أرض خراج كما لا يجوز تحويل أرض الخراج إلى أرض عشرية.
رابعًا: الجزية:
تأمر شريعة الإسلام السمحة النقية أنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع, وقد ذكر أبو يوسف في كتابه الخراج ثلاثة فئات 58 درهمًا على الموسرين، و24 على المتورطين، و12 على العمال، والجزية لا تسقط عن الذمي إلا في حالة واحدة وهي إسلامه 'بخلاف الخراج'.
وليست الجزية من مستحدثات الإسلام فلقد عرفتها الأمم السابقة, فلقد فرض اليونان القدامى على سكان سواحل آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد ضريبة أشبه بالجزية مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين كما فرضها الروم على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم وتبعهم الفرس، وكانت الجزية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق على أهل الكتابين اليهود والنصارى, فلما كان عهد عمر بن الخطاب ألحق بهما المجوس عملاً بشدة عبد الرحمن بن عوف, فلما كان عهد المأمون العباسي ألحق بهم 'الصابئة'.
خامسًا: الغنائم:
وهي بحل ما غنمه المسلمون في حربهم ضد الكفار والمشركين من غير الملة, وقد أباحها الله عز وجل لهذه الأمة لما رأى ضعفها وقصر أعمارها وكثرة أعدائها وهي من خصوصيات هذه الأمة الخاتمة ولم تكن لأمة ولا نبي من قبل, وهذه الغنائم عبارة عن المتاع والسلاح والخيل والأموال المنقولة من ذهب وفضة وغير ذلك ولا يستثنى إلا الأرض عملاً بمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جعلها وقفًا لعموم المسلمين.
والغنائم لا يدخل منها في بيت المال إلا الخمس أما باقي الأخماس الأربعة فتوزع على المجاهدين سواء كانوا من الجند النظاميين أو من المتطوعين، أما مصرف الخمس فهو مذكور في قوله عز وجل في الآية رقم 41 من سورة الأنفال كما يلي:(5/256)
[1] سهم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأزواجه وفي صالح المسلمين, وقد أسقط أبو بكر هذا السهم بعد وفاة النبي [2] سهم ذي القربى وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد المطلب وقد أسقط أبو بكر أيضًا هذا السهم [3] سهم لليتامى [4] سهم للمساكين [5] سهم لأبناء السبيل، وعندما جاء عمر اتفق مع الصحابة على جعل سهم الرسول وسهم قرابته في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين وهذا ما عليه الراجح من أقوال أهل العلم.
سادسًا: عشور التجارة:
ولم تكن عشور التجارة من الموارد التي ذكرها القرآن الكريم ولكنها أحدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إليه أن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر ـ ويعني أرض الحرب كل أرض أهلها غير مسلمين ـ فكتب إليهم عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.
وروي أن أهل مدينة 'مبنج' وكانوا نصارى في شمال الجزيرة كتبوا إلى عمر بن الخطاب يقولون: دعنا ندخل أرضك تجاراً وتعشرنا, فشاور عمر الصحابة في ذلك فوافقوا فأصبحت سنة ماضية, وإذا كان القادم بالتجارة من المسلمين فيُسأل هل أدى زكاة هذه التجارة أم لا؟ ويقبل يمينه على ذلك, وهكذا نرى أن العشور تختلف تمامًا عن صورة الجمارك المفروضة اليوم على كل ما يأتي من الخارج سواء كان التاجر مسلمًا أو غير مسلم.
هذا بالنسبة بموارد بيت مال المسلمين أو ما يطلق عليه في الصورة الحديثة بند 'الإيرادات'، أما بالنسبة للمصروفات أو مصارف بيت المال فهي كالآتي:
أولاً: أرزاق الولاة والقضاة وموظفو الدولة والعمال في المصلحة العامة ومن هؤلاء أمير المؤمنين أو الخليفة نفسه.
ثانيًا: رواتب الجند والعسكر, ولم يكن هناك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرتبات معينة للجند لأن الجميع كانوا جنودًا ولم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى المعروف وكان الجميع يأخذ من أربعة أخماس الغنائم والخراج ولما ولي أبو بكر ساوى بين الناس في الأعطيات فلما جاء عمر بن الخطاب قسم العطاء مفضلاً الأسبق فالأسبق وعلى هذه القاعدة كانت المرتبات كالآتي:
12000 درهم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولعمه العباس/ 5000 درهم لأهل بدر وألحق بهم الحسن والحسين، 4000 درهم لمن كان إسلامه كأهل بدر ولكن لم يشهدها وألحق بهم أسامة بن زيد/ 3000 لعبد الله بن عمر وبعض أبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة/ 2000 درهم لأبناء المهاجرين والأنصار/ 800 درهم لأهل مكة 400/300 لسائر الناس/ 600 إلى 200 لنساء المهاجرين والأنصار/ 9000 لأمراء الجيوش والقراء، وهكذا كان الحال, فلما كثر الناس عن حاجة الغزو والجهاد ولدواعي قيام الحضارة العمرانية اشتغل كثير من الأمة بغير الجهاد من الصنائع فلجأت الدولة للجيش النظامي وأصبح هناك دواوين خاصة بالجند ينالون منها الرواتب الخاصة بهم على رأس كل سنة.
ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح وذخائر وخيل وما يقوم مقامهما.
رابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور وسدود وتمهيد الطرق والمباني العامة ودور الاستراحة والمساجد.
خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والسجون وغير ذلك من مرافق الدولة.
سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل وكل من لا عائلة له, فالدولة تعوله وتكفله, ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى ومبكرًا جدًا قبل أي حضارة أخرى سابقة أو حتى لاحقة, فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجئ الدولة بكارثة أو مجاعة أو قحط شديد أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة دون إكراه أو مصادرة أو إجبار.
وهكذا نرى أن المنظومة الاقتصادية في الحضارة الإسلامية كانت تمثل معلمًا بارزًا من معالم تلك الحضارة ضمنت لتلك الحضارة وتلك الدولة المسلمة الاستقلالية والاستمرارية والتوسع والانتشار وأيضًا الشفافية في التعامل والحرية في اتخاذ قراراتها فإن الدولة متى اعتمدت على غيرها في المساعدات والقروض فقد تخلف طواعية عن سيادتها واستقلاليتها لصالح من تأخذ منه الأموال وهذا وقع بالفعل لكثير من بلاد المسلمين الآن وهذا رغم تراثهم العظيم والحافل من رصيد التجربة في الحضارة الإسلامية
=================
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (1/2)
د.عبدالله بن هادي القحطاني * 4/6/1426
10/07/2005
إن من المسلّمات التي لا يمكن التنازل عنها لأي نظام يصبو إلى العالميّة هو تحقيق المساواة بين كافة الشعوب، وكفالة العدالة الاجتماعيّة لهم. ومن المؤسف فإن مبدأ المساواة في التعامل مع البشر من خلفيات عرقيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة مختلفة مفقود في الأيديولوجيات المسيطرة على العالم، فالهند "أكبر ديموقراطية في العالم" -كما يزعمون- تعاني ولقرون عديدة من نظام طبقيّ اجتماعيّ مقيت cast system) )يُعامل بعض أفراده كآلهة ( Avatars ) بينما يُعَدّ الآخرون، وهم الغالبية الساحقة أقل قدراً من العبيد، ويسمّوْن بطبقة المنبوذين (Untouchables) ليس لهم أية حقوق، وعلى الرغم من أن المسلمين لا يُصنفون دينياً وفقاً للهندوسية ضمن هذا السلم الاجتماعي الظالم، إلا أنهم يعاملون في كثير من أرجاء الهند معاملة جائرة ظالمة، ناهيك عن البقرة التي يقدسها ويعبدها كثير من الهندوس.(5/257)
وأما النصرانيّة التي لم يُكتب لها أن تُطبّق كنظام حياة متكامل كما في الإسلام إلا أنها تحوي في تعاليمها كثيراً من المبادئ العنصريّة، والتي اتخذها كثير من أتباعها ذريعة لاستعباد الشعوب الأخرى واستعمارها. وفي الجانب الآخر، فإن التعاليم التلموديّة التي تقوم عليها اليهوديّة الحديثة تعلي من شأن اليهودـ وتصفهم بأنهم شعب الله المختار، وأما الأمم الأخرى بما فيهم أعوانهم من النصارى، فتصفهم بأنهم أمميّون، ويمكن أن تمتد القائمة لتشمل الشيوعيّة، ونداءاتها الجوفاء "بأن الناس سواسية"، والتي واقعها أن هناك" أناساً أكثر سواسية من غيرهم". وأما الرأسماليّة الطاغية بظلمها على العالم اليوم فإنها لا تهدف ولا حتى على المستوى التنظيري إلى تطبيق المساواة؛ لأنها تشجّع الابتزازيّة المطلقة، وتقوم على الاحتكار الذي يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وينعكس ذلك في كافة مناحي الحياة. بينما الاشتراكيّة والتي -نظرياً- تدعو إلى رأْب الصدع بين الشيوعيّة والرأسماليّة وبلورة نظمهما في بوتقة جديدة، ما فتئت إلا أن تخبطت في حمأة أخطاء ذينك النظامين. وبهذا لم تنجح في أن تقدم خياراً مقبولاً لنظام عالمي جديد، وبهذا فإن الإسلام يبقى الخيار الأوحد لنظام يسير حياة البشريّة. فهو يحترم حقوق البشر بغض النظر عن اختلافهم، ويعتبرهم أعضاء في أمة عالميّة واحدة تحيا في كنف الله في سلام ووئام، وبعد هذه المقدمة العامة فإنني سوف أتطرق لتعاليم بعض تلك الأنظمة بشيء من التفصيل، ومقارنتها بتعاليم الإسلام، فيما يتعلق بالمساواة بين البشر، بغض النظر عن الفوارق الاجتماعيّة والعرقيّة وغيرها.
1- النصرانيّة ومبدأ المساواة:
فمن خلال استعراضنا لبعض تعاليم النصرانية في كتبها الأصلية نقرر في كونها نظاماً يمكن أن تتطلع إليه الإنسانية ليحقق العدل والمساواة، وخاصة أن دستور أكبر دولة نصرانية في العالم قد تأثر كثيراً بتعاليم الكتاب المقدس عند النصارى، ولتعاليمها تأثير كبير على قادة الولايات المتحدة، ومثال ذلك مقولة الرئيس ريجان في خطاب ألقاه خلال فترة الحرب الباردة، قال فيه:
" لقد بدأت الأمور تتضح، ولن تكون بعيدة الآن، فإن إزاكل (1) يقول بأن النار والحمم ستمطر على أعداء شعب الله، وهذا يجب أن يعني أنهم سوف يُدمرون بالأسلحة النووية .. جوج الأمة التي تقود كل قوى الظلام الأخرى ضد إسرائيل، والتي سوف تأتي من الشمال فإن روسيا هي جوج ... وبما أن روسيا قد حاربت الإله .. فإنها تنطبق عليها أوصاف جوج وماجوج بدقة متناهية "(2).
وفي الحقيقة فإن رسالة عيسى الحقيقية كانت موجهة لشعب بني إسرائيل في عهده عليه السلام، ومازالت بقايا ذلك في كتب العهد الجديد عند النصارى.
( متى 10: 5ـ6)
فهي إذن ليست رسالة عالمية لكل البشر ولكل الأزمنة ، بل محدودة بزمن معين ولشعب بعينه . وفي مقطع آخر من العهد الجديد يشير متى إلى حادثة مرت بعيسى (عليه السلام ) حسب زعمهم وفيها إجحاف كبير على نبي الله أعزه الله وشرفه عما يقولون ، واتهام له بأنه عنصري متحيز ، فهو لا يرى أن أحداً أهل لدين الله من بني إسرائيل ، ولاشك في أن ذلك تجن على نبي من أولي العزم كرمه الله بالرسالة ، وجعل ميلاده معجزة وآية ، ولكنه دليل على أن تعاليم النصرانية الحالية تعاليم متحيزة ولا تسمو لتطبيع المساواة بين البشريّة.
(متى15: 21 ـ 26) .
ولاشك أن هذه المقاطع من كتاب النصارى المقدس قد وُضعت لتأكيد اصطفاء بني إسرائيل على كافة الأمم، وبأن ما ينطبق عليهم لا يمكن أن ينطبق على غيرهم مع إيماني بأن نبي الله ـ شرّفه الله عما يقولون ـ لايمكن أن يتلفظ بمثل هذه الكلمات التي تدل على احتقار الشعوب الأخرى والانتقاص منهم، وكأنهم ليسوا عباداً لله مثلهم. ولكنه أيضاً دليل على أصول العنصريّة الحديثة المعتمدة على التعاليم النصرانيّة المحرفة. والتي مهّدت للاستعمار والحروب الصليبيّة واستعباد الأحرار من عباد الله.
فهذا السيناتور جون كالهون ( John Calhoun )من كارولينا الجنوبيّة يقول حول أحقيّة السود بالعبوديّة دون غيرهم:
" إن الحريّة عندما تُعطى لأناس لا يستحقونها فبدل أن تكون بركة فإنها تكون لعنة ... فإن الله خلقهم عبيداً .. وهذا هو وضعهم الطبيعي (3).
ونحن لا يساورنا أدنى شك بأن التعاليم الأصلية للنصرانيّة كما أتى بها نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ كانت تعاليم خير وعدل وبركة، ولقد بقيت آثار لتلك الشريعة السمحة في بعض كتب النصارى الموجودة، ولكنه مع الأسف إندرس كثير منها في ظل التغييرات المتكررة في المجامع الكنسية المختلفة، حتى أصبح هناك نسخ متعدّدة من "الكتاب المقدس" بينها مساحات واسعة من الاختلاف، حتى غدا الكثير من فرق النصارى وكأنها أديان مختلفة تماماً.
2- اليهود ومبدأ المساواة بين الأمم الأخرى :
لقد أعطى (4) التلمود اليهود مرتبة لا يرقى إليها أحد من شعوب الأرض ولا حتى الملائكة، فاعتبر أن اليهود شعب الله المختار، فاليهود حسب التلمود أقرب إلى أن يكونوا آلهة، أما غيرهم من الأمم فهم " قيوم" غير مؤهلين لمرتبة اليهود، بل أقرب من أن يكونوا أقل من البشر، وخطورة هذه الرؤية العنصريّة هو أن التلمود يعتبر المرجعيّة الأولى عند اليهود.
وهذا إسرائيل شاحاك (المفكر اليهودي البارز) يقول:
" بأن المفهوم التلمودي الأرثوذكسي والذي يُرجع إليه بكثرة في كل الأوقات، هو أن الكون مقسم إلى خمسة أقسام: الجمادات ، النباتات والخضروات ، الحيوانات ، سائر البشر ، واليهود . وأن الفرق الشاسع بين اليهود وسائر البشر مثل البون الشاسع بين البشر والحيوانات " (5).
ولقد بين الكاتب اليهودي المعاصر هرمن ووك( Herman Wouk) في كتابه هذا هو إلهي (This is my God) بأن:
" التلمود يبقى حتى يومنا هذا القلب النابض للدين اليهودي ، فبغض النظر عن كوننا أورثوذكس، محافظين، إصلاحيين، أو مجرد متعاطفين فنحن نتبع تعاليم التلمود، إنه قانوننا".
ومن وجهة نظر اليهود فإن سبب اختيارهم واصطفائهم على سائر الأمم؛ هو أن غير اليهود لم يكونوا حضوراً عند جبل الطور كما يقول التلمود حيث تم تطهير اليهود من الخطيئة الأصلية التي يلصقونها بحواء؛
عندما اقتربت الحية من حواء نفثت فيها الفحش الخبيث .. وعندما وقف بنو إسرائيل على سيناء تم تطهير ذلك الفحش، ولكن فحش أولئك الوثنيين الذين لم يقفوا على سيناء لم يتوقف.
وعلى أية حال فاليهود وفقاً للتعاليم التلموديّة لا يمكن أن يكون لهم نداً أي من البشر، بل التلمود يتعامل مع غير اليهود وكأنهم ليسوا بشراً، وهذا قد يساهم في تفهم الحقد المقيت الذي يكنّه اليهود للأمم الأخرى؛ فهذا مقطع من التلمود يبين كيف يجب أن تكون العلاقة بين اليهود وغيرهم من الأمم ـ
الأممي (القيوم) لا يمكن أن يكون جاراً بمعنى تبادل الحقوق والواجبات .. بل إن قوانين الأمميّين لا ترقى إلى ذلك أبداً فلا يمكن أن تكون هناك علاقة مبنية على حقوق مشتركة .(Belc 13 b)(5/258)
وبهذا فالتلمود لا يتورع في أن يبيّن حق اليهود في الحكم لصالحهم، وإن كانوا جائرين ظالمين لغير اليهود. فقانون الكيل بمكيالين أمر مشروع جداً عندما يكون ذلك في صالحهم وضد أعدائهم من غير اليهود، وقد يساهم هذا في تفهم الصلف الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين اليوم، وتجاهلهم لقرارات الأمم المتحدة، فهي بالنسبة لهم منظمة "قيوميّة" أمميّة يذعنون لأحكامها عندما تكون لصالحهم فقط . فمنظمة العلاقات الأمريكيّة الاسرائيليّة IPAAC)) المعروفة باللوبي الصهيوني الذي يستخدم نفوذه المذهل في الضغط من أجل ألاّ تطبق على إسرائيل من خلال مجلس الأمن أو غيره أية عقوبات أو إدانات قوية، وبما أن غالبية الناشطين اليهود في أمريكا من الصهاينة، فإن التلمود هو مرجعهم الأول في تقنين الظلم والكيل بمكيالين إن لم يكن بمكاييل كثيرة. وهذا المقطع التالي من التلمود يظهر غاية الجور وانعدام العدل والمساواة بين اليهود وغيرهم من الأمم،
عندما تقع مقاضاة بين إسرائيلي ووثني heathen ـ مع العلم أن هذا المصطلح يُطلق على النصارى أيضاً ـ فإن أمكن الحكم لصالح اليهودي وفق قانون إسرائيل فلا بأس فأحكم له وقل هذا "شرعنا"، وإن كان بالإمكان الحكم لصالح اليهودي بقانون الوثنيين فاحكم لليهودي، وقل للوثني"هذا شرعكم" ، وإن لم يكن ممكناً الحكم لليهودي بناءً على أي الشرعين فلتجد ذريعة للتحايل عليهم .Babakama 113a))(6)
ومن أمثلة احتقار اليهود لغيرهم واعتبار أنفسهم أمة مختارة على سائر البشر، أن تلمودهم يتحدث عن سائر الأمم بأنهم في منزلة منحطة ، ولا يمكن قبولهم كيهود حتى لو رغبوا ذلك ، فالتلمود يحرم تدريس التوراة لغير اليهود .
ووفقاً للموسوعة اليهودية :
فإن التلمود يحرم تدريس الأمميين التوراة ( ميراث أبناء يعقوب ) بل إن ر. جوهان يفتي بأن من يفعل ذلك "يستحق القتل " (7) .
فبلا أدنى شك فإن نظاماً عنصرياً بهذه الدرجة لا يمكن أن يتقبله أحد كنظام حياة عالمي ينظم حياة كافة البشر . ولهذا فلا عجب بعد ذكر هذه المقتطفات البسيطة والمحددة من التلمود حينما تستمع لتصريحات القادة الصهاينة المتعجرفة والجائرة في عدم احترام حياة وحقوق غير اليهود ، وكأنهم ممنوحون دماءً خاصة . وتعاملاً خاصاً يميزهم لأنهم يهود على سائر الأمم ، فهذا مناحيم بيغن (الرئيس السابق للكيان الصهيوني) يرد بصلف وتعجرف على انتقادات واستنكارات الصحفيين والمنصفين بل كافة دول العالم حول مذبحة صبرا وشاتيلا التي قُتل فيها المئات من الأبرياء أطفالاً وشيوخاً ونساءً ، قائلاً :
قيوم "غير اليهود" يقتلون قيوم وتريدون أن تحاسبوا اليهود على ذلك ؟! (8)
وما المداهمات الإجرامية التي تقوم بها القوات الصهيونية في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وهدم بيوتهم وتشريدهم وجرف مزارعهم وأشجارهم التي قد تأصلت جذورها في أراضيهم لعشرات السنين قبل احتلال اليهود لبلادهم، إلا مثالاً حياً أمام العالم الذي انعدمت فيه أي مصداقية لحقوق المسلمين لتعاليم التلمود العنصريّة.
بل إن شارون وتعامل حكومته مع الفلسطينيين بأقصى درجات الإرهاب على مسمع ومرأى من العالم، ومقتل داعية حقوق الإنسان الأمريكية دهساً بالجرافة أمام أعين الصحفيين والمصورين والعالم كله- إلا مثالاً لتلك الرؤية العنصرية الحاقدة التي تجذّرت في العقليّة الصهيونيّة المستشرية للحقد والكراهية والظلم . وما اغتيال الشيخ أحمد ياسين ـ الطاعن في السن المصاب بشتى العلل والمشلول تماماً ـ بأمر شارون نفسه رئيس وزراء الدولة الديموقراطيّة الوحيدة والمحافظة على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط كما يزعم ـ بدماء باردة بل بكل فخر واعتزاز ودون أي مبالاة برد فعل واستنكار العالم كله إلا دليل آخر على فساد الفطرة، وتأصل نظرة الحقد والاحتقار لكل ما هو غير يهودي، ومحاولة استغلاله وابتزازه بأشرس الطرق وأخس الوسائل.
ومع هذا قد يقول قائل من محبي السلام واللاهثين وراء سراب اليهود: إن تلك التعاليم آثار قديمة قد لا يكون لها تأثير كبير في واقع الممارسات الإسرائيليّة في واقعنا اليوم. فإسرائيل دولة ديموقراطيّة، وتلك تعاليم عنصريّة راديكاليّة، فلنستمع سوياً لتصريحات رئيس وزراء إسرائيل لما سببوه من دمار وقتل يفوق الخيال بغزو لبنان بلد ذا سيادة وحرمة .. فلقد رد بيغن بصلف على تساؤلات الأمريكيين حول المذابح التي ارتكبت قائلاً:
لا نشعر نحن بالمسؤولية لتبرير ما نقوم به للآخرين .. نحن فقط نبرر ذلك لأنفسنا (9) .
وبمفهوم تلمودي فإن كلماته تعني " أن اليهود أكبر وأعلى من أن ينتقدهم القيوم (غير اليهودي) وإن كان سيد نعمتهم وحامي ديارهم وحليفهم الأول" ومثال آخر على ذلك التفكير العنصري الصهيوني هو ما نشرته صحيفة صن داي Sunday) ) حول الحاخام والكيميائي اليهودي (موشيه أنتل مان) Moshe Antelman)) والذي يفخر بأنه استطاع تطوير رصاصة تحتوي على شحم الخنزير ولكن لم فعل ذلك؟ تقول الصن داي:
إن (أنتل مان) حاخام وكيميائي يهودي طوّر رصاصة مشبعة بشحم الخنزير لاستخدامها ضد الملتزمين من المسلمين، والذين يؤمنون بأن أي اتصال مع الخنزير يفقدهم الفرصة في دخول الجنة، حسب زعمه .. ولقد قدم هذا الحاخام "الطيب" اختراعه هدية لمستوطني الضفة الغربية، وبأمل أن يحصل على اهتمام البنتاغون في الاستفادة من هذا الاختراع الخنزيري العسكري (10).
وهذا مثال آخر سقناه عن كيف ينظر النخبة من اليهود ورجال الدين من الحاخامات للأمم الأخرى من غير اليهود.
كما يبين حقيقة اليهودية المعاصرة شاهد من أهلها، ألا وهو المفكر السياسي العالمي اليهودي الأمريكي الجنسيّة وأستاذ علم اللغة الشهير في معهد ماستشوستش للتكنولوجيا، البروفسور نعوم لتسوسكي Noam) Chomsky ) في مقابلة أجراها معه ديفيد بارسا ميان (David Barsamian)حيث أجاب تشوسكي على سؤال وجه له حول نظرة اليهود للناس الآخرين فقال:
"لو نظرت إلى الثقافة اليهودية التقليدية سواء كانت في أوروبا الشرقية أوفي شمال أفريقيا ، لوجدت أنها تعدّ النصارى و غير اليهود وكأنهم مخلوقات مختلفة أقل مستوى من اليهود ... ولهذا فعلى سبيل المثال فإنه لا ينبغي للأطباء اليهود أن يعالجوا غير اليهود إلا إذا كان ذلك يعود بالفائدة على اليهود، ولهذا فإن موسى بن ميمون " الطبيب اليهودي الشهير" كان يعمل لدى السلطان صلاح الدين الأيوبي لأن اليهود سوف يستفيدون من هذا العمل وليس العكس (11).
وعندما سئل تشوسكي هل تلك النظرة الدونيّة من قبل اليهود جزء من تعاليم اليهوديّة الأصليّة أم جزء من الثقافة اليهوديّة الشائعة؟ .فقال:
إنها في الحلقة Halakah( التعاليم الحاخامية ) ... هناك الكثير من هذا، لقد كانوا أقلية مضطهدة ، ولكنهم كانوا عنصريين في نفس الوقت ، فهم يصبحون عنصريين عندما يصبحون أغلبية غير مضطهدة (12) .(5/259)
ومما يبرز أهمية إظهار التعاليم والتشريعات العنصريّة اليهوديّة هو تشدّق كثير من الساسة والإعلاميين والمثقفين الأمريكان بأن حضارتنا هي "حضارة يهودية ـ نصرانية " (Judo-Christian) فإن كانت الحضارة الغربية حسب ما يقولون، فإنها بلاشك هجين غير متناسق من حضارتين (إن صحّ التعبير) متناقضتين في ركائزها العقديّة والأخلاقيّة، وإن جمعتهما أساطير ونبوؤات توراتيّة تفوح منها رائحة العنصريّة والاحتقار للأمم الأخرى، و بدأت طوائف نصرانيّة متطرفة أكثر من أي وقت مضى تربط مستقبلها السياسي وهيمنتها على العالم بإسرائيل وأساطيرها؛ إذ أدخل اليهود كجزء أساسي في منظومتها للهيمنة العولمية. ومن أولئك من يسمون "بالنصارى الصهاينة أو اليمينيين الجدد" . وهم من يحكم أمريكا في الوقت الحاضر، لقد استطاعوا السيطرة على حزب الجمهوريين في الولايات المتحدة لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، ولهم امتداد يتزايد في مناطق أخرى من العالم وخاصة أوروبا.
________________________________________
* أ ستاذ مشارك جامعة الملك خالد - أبها
1- أحد الحواريين عند النصارى .
2- Jim Hill and Raud Cheadle's (1996) The Bible Tells Me So. Anchor Book : New York (P.129).
3- Jim Hill and R. Cheadle, P.
4- عالمية الإسلام ص 13 ترجمة الحاشية رقم
5- Israel Shahak. "Israeli Apartheid and The Intifada" Race & Class,30 (1) 1988 : 1-12 (P.3) .
6- The Jewish Encyclopedia .ed.Cyrus Adler, Isidore Singer, New York, London: Funk - Wagnalls, 1901-1906, P.620
7- T. Pike, (61) from The Jewish Encyclopedia (p. 623), Sanh. S 9a,Hagigah 13a .
8- T. Pike, p. 53
9- T. Pike. P.72. from New York Times, 5 August 1985, p. 1 and National Geographic, April 1983, p. 514
10- Sunday. August 28,1994, p.18.
11- David Barsamian and Noam Chomsky. Propaganda and The Public Mind. South Press : Cambridge, 2001,p85
12- Barsamian and Chomsky,p.85
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (2/2)
د.عبدالله بن هادي القحطاني * 14/6/1426
20/07/2005
3.الهندوسيّة ومبدأ المساواة :
تحوي تعاليم الهندوسيّة نظاماً اجتماعياً طبقياًً دينياً صارماً وجامداً يفتقر معه إلى أدنى مستويات المساواة والعدالة الاجتماعية، وقد أشار إلى ذلك المستشرق الفرنسي جوستاف لابون (Gustave lebone) في كتابه حضارة الهند أن هذا النظام الطبقي العنصري يصنف الناس إلى أربعة طوائف:
1. البراهما: وهم طبقة سدنه المعابد والرهبان.
2. الكشتريا: وهم طبقة الحكام والقادة العسكريين.
3. الفايزا ياس: وهم طبقة التجار والصناع والزراع.
4. السودراس: المنبوذون وهم الطبقة الدنيئة ودورهم حسب التعاليم الهندوسية خدمة الطبقات العليا، فهم لم يخلقوا إلا لخدمتهم (1).
ولكل طبقة من هذه الطبقات عالم خاص بذاته، مختلف تماماً عن باقي الطبقات، فهذا النظام يعكس أسوأ صور التمييز العنصري وعدم المساواة، ولقد جلب هذا النظام الاجتماعي الطبقي الجائر أحد مؤسسي الهندوسية مانوManu)) خلال حقبة ازدهار الحضارة البراهمة، ثم أصبح جزءاً من الديانة الهندوكية. و يشير جوستاف لوبون إلى بعض تعاليم مانو فيقول:
" لقد أعطى هذا القانون للبراهما تميّزاً وحصانة ومكانة عالية مما رفع درجتهم لتصبح موازية للآلهة .. فكل من يولد برهمياً فهو أفضل المخلوقات على الإطلاق، فهو مالك كل شيء.ومهمته الأساسية هو حماية الشاستراز (التعاليم الهندوسية التي تعطي الشرعية لسلطة البراهما). فبينما التعاليم الهندوسية تؤكد أن: "كل ما على الأرض ملك للبراهما؛ لأنهم الأعلون بين كل المخلوقات، وكل الأشياء لهم".
أما حال المنبوذين (سودراتر) في الديانة الهندوسية فلا يمكن أن يتصوره خيال أو يقبل به عقل، فهم حسب تعاليم الشاستراز أقل درجة من البهائم. فلا يجوز للسودراتر أن يمتلكوا شيئاً، وحتى لو سنحت لهم الفرصة، لا ينبغي لهم فعل ذلك؛ لأن ذلك يؤذي البراهما، فلا شرف أعظم للسودراز من أن يسهروا على خدمة البراهما ... بل إن التعالم الهندوسية توكد بأن "فدية قتل كلب أو قط أو ضفدع أو سحلية أو غراب أو بومة وقتل السودراز سواء" . فلايمكن أن يتصور عاقل أن هذا الدين صالح للبشرية؛ فهو يفتقر لأدنى مسلمات المساواة والعدالة الاجتماعية، وقد احتوت الهندوسية نوعاً جديداً من التمييز العنصري ضد الأقلية المسلمة "أكبر أقلية في العالم" (120)مليون نسمة، "فلقد تبنت الأحزاب الهندوسية المناهضة للمسلمين في الهند سياسة تفرقة عنصرية دينية نحو المسلمين. إذا استمرت فسوف تهدد كيان الهند كدولة تجمع أدياناً مختلفة "(2).
5.الرأسمالية :
يقول جورج تشرش (George Church) في مقاله سباق التسلح الآخر ...
أن الرأسمالية قد أصبحت نظام حياة الملايين من البشر وهم يسعون جاهدين لتشجيع انتشارها والدفاع عنها بحماس شديد. وهذا ما حدا بملايين البشر للانبهار بالرأسمالية ، ويبدو أن غالبية أولئك قد نسوا عشرات السنين من العبودية والمستعمرات المبنية على الجور والتميز العنصري ضد السود وغيرهم من الأقليات، ويبدو أن قليلاً فقط من بين الرأسماليين قد استوقفتهم معدلات الجريمة والاغتصاب والاعتداء على الأطفال المتصاعدة بالإضافة إلى التفرقة العنصرية الظاهرة والمستترة وسوء المعاملة لكبار السن والمشردين ..(3)
ولا يخفى على أحد ما ينتج عن الرأسمالية من جور اقتصادي وخاصة فيما يتعلق بالأقليات والفئات غير المشاركة في الإنتاج مثل كبار السن والأطفال. ولقد نشأت مشكلات اجتماعية جديدة بسبب التغيّرات الكبيرة التي شهدها المجتمع الأمريكي خلال المئة سنة الماضية؛ فلقد نتج عن هجوم الشركات الكبيرة على اقتصاد الأسر المعتمدة على الزراعة والمجتمعات الزراعية الصغيرة مشكلات اجتماعية واقتصادية كان لها تأثير واضح على كبار السن. وعلى الرغم من أن النظام الرأسمالي -كمنهج حياة- قد حقق مكاسب مادية كبيرة لعدد قليل من أفراد المجتمع، إلا أن الغالبية قد عانت من أعراضه الجانبية، ومن بينها كثرة تعداد كبار السن وقلة العناية بهم، وارتفاع عدد الأسر بعائل واحد وغالباً ما تكون المرأة، ومشاكل الأطفال، والأقليات. فلقد أصبح من المظاهر المعتادة أن كثيراً من كبار السن بين المشردين الذين لا مأوى لهم في أواسط كبريات المدن الأمريكية، وقد تنبأ عدد من علماء الاجتماع الأمريكيين بأن مشكلة كبار السن سوف تصبح أكثر تفاقماً في المستقبل (4).
وفي الجانب الآخر فإن معدلات المواليد في تناقص متزايد، وارتفاع أعداد كبار السن دليل على أن مشكلة كبار السن سوف تتفاقم في السنوات القليلة. لقد كانت نسبة المسنين في الولايات المتحدة خلال عام 1900م 4% فقط من تعداد المجتمع آنذاك، ومن المتوقع أن يبلغ عدد المسنين عام 2030م (50 مليون) أي ما يقارب 17% من تعداد المجتمع الأمريكي.(5/260)
فلنتصور حجم المأساة التي يواجهها ما يقارب خمس المجتمع في وقت يواجهون فيه أفظع صور اللامبالاة والممارسات اللاأخلاقية من اعتداءات وسطو وقتل وتمييز وتخلٍّ من قبل الأولاد، فأي عدالة يحققها هذا النظام الذي يظلم الطفل والشيخ والمرأة. ويحافظ على حقوق القادرين على العمل والإنتاج فقط. وكنتيجة متوقعة للمعاملة الجائرة والتمييز العنصري فإن الأمريكيين من أصول أفريقية "السود"، يواجهون مشاكل مضطردة في مجتمع انعدام المساواة. وعلى الرغم من أن الأمريكان البيض في بعض طبقاتهم الدنيا يواجهون نفس المشاكل ولكن بنسب متفاوتة. فإن 69% من المواليد السود هم أبناء زنا . وثلثي الأطفال السود يعيشون في بيوت ذات عائل واحد ( Single Parent homes)أي برعاية الأم غالباً فقط دون وجود أب، أو الأب فقط، وهذه الحالة تشكل نسبة ضئيلة جداً. كما أن من المتوقع أن يُودع 33% من الأولاد السود تحت سن السادسة عشر السجن لجرائم مختلفة. ويوجد أربع من كل عشرة رجال سود إما في السجن أو في مرحلة الاستئناف أو تحت مراقبة الشرطة الدائمة، وبأسباب تلك الممارسات العنصرية بالإضافة لعوامل أخرى فإن أعلى معدلات تعاطي المخدرات وترك الدراسة والاغتصاب تنتشر بين الأمريكان السود (5).
وبدلاً من بحث الأسباب لهذه الإحصاءات المخيفة، وإيجاد الحلول العادلة فإن مرشح الرئاسة السابق والمستشار لثلاثة رؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية السابقين باتريك بوكانن (Patrick Buchanan) يتحدث عن تلك الإحصاءات بأسلوب اتهامي لطبقة السود المسحوقة ويلومها على ما هي فيه من ظلم وفساد (6).
فلقد واجهت تلك الأقليات العبوديّة والرق وأسوأ أصناف العنف والتمييز العنصري، وهي الآن تواجه التميز العنصري والتجاهل المؤسساتي غير المعلن. إن ما يحتاجون إليه هو جهود صادقة ولكن عادلة تزرع المساواة والعدل وتعوّضهم عن قرون من الظلم والقهر والعنصرية، وليس كيل التهم ولوم الضحية على ما جنته يد الظالم، وبهذا فإن نظاماً جائراً على أهله وفي موطنه لايمكن أن يقيم العدل والمساواة بين شعوب الأرض، فالدعاوى الإعلامية للحرية والإصلاح والعدالة الاجتماعية إنما هي أساليب ملتوية لفرض الهيمنة الأمريكية الرأسمالية الإمبريالية على شعوب الأرض لسلبها مقدراتها وخيراتها بل إنه استعمار جديد والعراق وأفغانستان أكبر شاهد على ذلك.
6.الإسلام والمساواة :
إن من البدهي على كل نظام يدعي العالمية أن يحترم قدرات أتباعه، وأن يقدّر إنجازاتهم بغض النظر عن أعراقهم وخلفياتهم الجغرافية، أو الاجتماعية أو اللغوية أو غيرها. فهو يقيّم الناس حسب ما يستطيعون فعله، لا وفق ما جبلوا عليه من صفات خلقية لوناً كانت أم عرقاً. فالناس في نظر الإسلام سواسية أما الاختلافات الطبيعية بين الناس فإنها لمقاصد وحكم تتطلب منا التدبر والتقدير لا الازدراء والاحتقار وسلب الحقوق.
قال الله : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22] وقال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط" "لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أحمر ولا أسود إلا بالتقوى".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
فالإسلام يرفض كل أشكال الاستعلاء على الخلق والتكبر والتمييز العنصري البغيض الذي ينقص من آدمية الإنسان وتكريمه الرباني.
قال الله تعالى:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الاسراء:70] وقال سبحانه:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...)[الحجرات: من الآية13].
ولقد أذهلت المساواة كما يدعو إليها وآلياتها العملية والتطبيقية واحدة من أكبر شعراء الهند ساروحيني نايدو (Sarojni Naidu) حتى عبرت عن هذه المساواة بقولها:
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أرسى وطبق الديموقراطية الحقيقية؛ فالمساواة الإسلامية تتجلى كل يوم خمس مرات، عندما ينادى المؤذن للصلاة فيجتمع المسلمون زرافات ووحداناً، حينها يقف الحاكم والمحكوم جنباً إلى جنب ساجدين لله ومردّدين "الله أكبر" لقد أذهلني هذا التضامن الحقيقي الذي يجعل الإنسان أخاً فطرياً لأخيه الإنسان، فعندما نقابل مصرياً أو جزائرياً أو تركياً في لندن مثلاً، فمصر مجرد بلد ذاك الشخص وكذلك الهند أو تركيا".
لقد كان المجتمع المسلم منذ ذلك العهد الأول يجمع في كنفه كافة أصناف الناس يعيشون في وئام ومساواة حقيقية، يعبد بها المسلم نفسه لخالقه، فسلمان منا أهل البيت، و بلال سيدنا، مجتمع تسامت فيه النفوس المؤمنة على كل تصنيفات الجاهلية قديمها وحديثها. بل إن بعض الأرقاء المسلمين يفضل الرق على الحرية لما يحصل له من الأجر، ولما كفل له هذا الدين من حقوق غاية في الرقي والإنسانية، إنها قوانين ربانية ثابتة لا تسير وفق هوى الإنسان ومصالحه المتغيرة، بل تشريعات ربانية مطلقة لا تحدها أي حواجز نسبية مقيدة.
ولقد أذهلت تلك الأسس العالمية للمساواة بين الخلق في شريعة الإسلام مفكرين وعلماء كثر، فهذا ر.ل.ميليما رئيس القسم الإسلامي في المتحف الهولندي بامستردام، يقول:
إن مبدأ الإخوة الإسلامية الذي يضم تحت جناحه كافة البشر بصرف النظر عن اللون والجنس ..هذا المبدأ الذي جعل الإسلام الدين الوحيد القادر على تطبيق الأخوة في حيز الواقع لا في المجال النظري فحسب؛ فالمسلمون في جميع أنحاء العالم يعرفون أنهم جميعاً إخوة في الله .
كما يقول لايتز:
في المساجد ترى المساواة التامة بين المصلين فلا يوجد فيها مقاعد خاصة بأحد، وأي إمام يمكنه أن يؤم المصلين ولا يوجد أبهج من منظر جماعة المسلمين يصلون وهم خاشعون صامتون"
وهذه دييرا بوتر(Deborah Potter) تقول:
الإسلام نظام عالمي وديني كوني جاء لجميع الناس في كل العصور، ولم يحدث أن أقرّ الإسلام آية تفرقة بسبب الوقت أو الوطن أو الثقافة أو الطبقة، فكل مؤمن بالحقيقة مسلم يتمتع بالأخوة الإسلامية مع كافة الناس في كل عصر ومصر, هذا هو سر قوة الإسلام".
وما تخاذُل المسلمين وظهور بعض الممارسات التي لا يقرها الإسلام إلا بسبب انحطاطهم. فالإسلام لا يحوي في تشريعاته ما يقر أي سوء معاملة أو تمييز ضد أحد للونه أو عرقه أو لغته أو لأي صفة جِبليّة جبله الله عليها.على عكس ما كان الأمر عليه في أديان ونظم تقر بصفة أو أخرى في قوانينها تفرقة عنصرية، أو تفضّل طبقة على طبقة لأسباب عنصرية تتنافى مع مبدأ المساواة بين البشر على منهج من العدل.
فالإسلام يبقى شامخاً دين العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وهذا أحد أهم الخصائص المميزة لهذا الدين العظيم، وقد انجذب إليه بسبب هذا المبدأ الأساس آلاف المهتدين من شتى أصقاع الأرض، ومن خلفيات دينية وعرقية واجتماعية مختلفة، ليجدوا مكانهم ضمن المنظومة الإسلامية العالمية السمحة من بلال وعمار إلى مالكوم إكس وسراج وهاج .(5/261)
كل تلك المبادئ الإسلامية العظيمة للمساواة التي لم تستطع أن تسمو إليها أي حضارة إنسانية على مدار التاريخ، نشأت في بيئة مريضة بأدواء العصبيات وضروب الضلال في اختلاف من العبادات والخرافات. فلو جرت الأسباب التي ندركها في مجراها المعهود فالدعوة التي تأتي من قبل هذه البيئة لن تدعو إلى إله واحد يتساوى لديه جميع الناس، ولن تمنح الإنسان حقاً يتساوى فيه جميع الناس, و لكن هذه الدعوة جاءت بهذا وذاك: جاءت بالدعوة إلى رب العالمين، والى الحق الذي يتساوى فيه أبناء أدم وحواء، وجاءت بذلك لأن إنساناً واحداً خلق الله فيه من قوة ما يكافىء تلك العصبيات جميعاً، وتلك الضلالات جميعا ويتغلب عليها ويجريها في غير مجراها بعون الله وتوفيقه. ذلك هو رسول الله .
|1|2|
________________________________________
* أستاذ مشارك جامعة الملك خالد - أبها
1- Gustave Le Bone. Les Civilization de I'nde, p. 211
2- Khalid Al-Maeena. "Victims of India's Religious Apartheid." Arab News, Nov. 29, 1994, p. 10
3- George Church. "The Other Arms Race." Time, Feb. 6, 1989.
4- Sullivan, etal. Social Problems: Divergent Perspectives. (John Wiley & Sons, New York. 1980, p. 340.
5- William J. Bennett. Index of Leading Cultural Indicators. New York: Broadway Books, 2000, pp. 50-57.
6- Patrick J. Buchanan. The Death of the West. Thomas Dunne Books: New York, 2002, pp. 218-225.
-===============
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة
د. بدران بن الحسن 9/11/1426
11/12/2005
لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عن نقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالة التراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي -عليه رحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأى منذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئية متغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة.
ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أن يقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن من تحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّد المنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئي ومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة، ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت -عن قصد أو غير قصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها. فأنتجت هذه التصورات الجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحل المشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالم الإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالم الإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمة في فك خيوط الأزمة التي أُحكمت. ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذه الأسئلة على نفسه.
وفي تصوري، فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماً بالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقوم على بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذا استقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامج الجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم، وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة، ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادة الحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت. لنا في كل هؤلاء خير دليل على أن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤون القوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية في صياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلمات الفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبة والمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمط القيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفة للواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤية وتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين، إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذه القيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريق اليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة -في رأي الجماهير من الناس- على فعل المعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزها ليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العمل المستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لا يفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعوية والسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكب نمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهي غير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.
كما أن النخبة بمختلف طبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهير وغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً. بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيها أن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهة أخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلى مراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كل الأطراف. وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيم المبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجع عنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابلية لتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.(5/262)
وعليه فإن النخبة مطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريح ومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلف المقولات والتصورات. كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليدية الموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلك وفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر، القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أي فكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيم الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر من صالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلة الأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛ لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عن مواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدى الأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتها لمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أن سلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلام والمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤية واضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءات العملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس
===============
مالك بن نبي.. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة
2003/11/2
د.إبراهيم رضا / المغرب**
مالك بن نبي
يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
"وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ"1.
ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها"2.
*
ابن خلدون العصر
*
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
*
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
*
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
*
القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
*
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
*
الدورة الحضارية عند ابن نبي
ابن خلدون العصر
لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر" 3.
ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن" 4 .
وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري"..
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.5
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". 6
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. 7
ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس"
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت.8
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية(5/263)
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار"
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم" 9.
. ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار 10. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها"
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" 11.
وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث" 12
. وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي"13
القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى ابن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية14.
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته15.
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم الإسلامي نموذجا يختزل كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلاصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي -في نظره- معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان؛ "فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها".(5/264)
وفي مقابل هذا يرى الأستاذ أن المجتمع الإسلامي -رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة- ما يزال مجتمعا متخلفا؛ لأنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا علميا ونقديا، يقول: "الواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكلا الطالبين (المجد والسائح) لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها" 16.
فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الأخير ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها. دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد. "فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا" 17.
وقد خصص ابن نبي مقالات عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي لا تفرق في اقتباسها واستلهامها لأفكار ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للاقتباس وما هو خاص بحضارة معينة، لا يمكن نقله لأي بيئة حضارية أخرى مغايرة.18
الدورة الحضارية عند ابن نبي
استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية.
وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى"
ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر" 19
ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد" 20
ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء" 21
ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها. 22
وختاما لا بد من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي.
أولا: على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلاتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقا بواقع الأمة، وراصدا لمختلف التحولات التي تطرأ عليها.
ثانيا: تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
ثالثا: إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر، وذلك بالآتي:
1- إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق.
2- وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالات، وتعميق النظر في "المفردات" و"المفاهيم" و"المعادلات" و"القوانين" التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها، وتوظيفها لتحليل وتوليد الحلول المناسبة لكثير من المشكلات الحضارية المستجدة في واقع الأمة.
اقرأ أيضا:
* ابن خلدون.. سيرة ومسيرة
* الغرب وعلاقته بالآخر
* لماذا نعيد طرح السؤال: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"
* حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا الإسلامية
* دراسة حول العلاقة بين الإسلام والتنمية
1 - جودت سعيد: "مذهب ابن آدم الأول"، ص: 14-15.
2- انظر: د.نصر عارف: مقال "هندسة البناء الحضاري عند مالك بن نبي" مجلة الفكر الإسلامي، نشرة تصدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ملف العدد الحضارة ـ ذوالقعدة 1414هـ أبريل1994م.
3- د. فهمي جدعان: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام"، ص: 410.
4- ذكر مالك بن نبي في مذكراته شاهد القرن: الطفل والطالب، "جملة من المفكرين المسلمين وغيرهم الذين كان لهم تأثير فكري في حياته ينظر إلى مذكراته، ترجمة مروان القنواتي، الطبعة 1، 1969، دار الفكر- بيروت.
5- خالد أبو الفتوح "مقال نحو وعي سنني"، مجلة البيان، العدد 89.
6- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 19-20.
7- مالك بن نبي: آفاق جزائرية، ص: 38، وهذا هو التعريف الحقيقي الذي اختاره مالك بن نبي للحضارة، وليس ما ذهب إليه الدكتور توفيق يوسف الواعي في كتابه "الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية"، حين ادعى أن تعريف الحضارة عند ابن نبي "هو البحث الفكري والبحث الروحي".(5/265)
الكتاب نفسه، ص: 29، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1408هـ /1988م.
8- مالك بن نبي: تأملات، ص: 168.
9 - عمر كامل مسقاوي: تقديم كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، ص: 7.
10- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص: 51.
11- مالك بن نبي: في مهب المعركة، ص: 117.
12- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 42.
13- عمر كامل مسقاوي: في تقديمه لكتاب مالك بن نبي "حديث في البناء الجديد"، ص: 12 و13.
14- مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ص: 48.
15- مالك بن نبي: تأملات، ص: 167.
16- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 151.
17- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 152.
18 -مالك بن نبي، تأملات، ص: 164.
19- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 19-20.
20 - المصدر نفسه، ص: 49.
21- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص: 20.
22- المصدر نفسه، ص: 47
** أستاذ بكلية الآداب جامعة القاضي عياض - مراكش
================
النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية
مفكرة الإسلام : جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟(5/266)
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالصراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
وقد بقي لنا من عهد المأمون العباسي أثر تاريخ هام يدل على مقدار الجباية الخراجية من جميع الأقاليم, وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته نقلاً عن كتاب جراب الدولة ولما في ذلك الأثر من الفائدة والتوضيح نذكره كما هو:
الإقليم الخراج النقدي الخراج العيني
1ـ أرض السواد 27800000 درهم 200 ثوب
2ـ كسكر 11600000 درهم 240 رطلاً من التين
3ـ كور دجلة 20800000 درهم
4ـ حلوان 4800000 درهم
5ـ الأهواز 25000000 30 ألف زجاجة ماء ورد/ 30000 رطل سكر
6ـ فارس 27000000 30200 رطل زيت/ 20000 رطل تمر/ 500 ثوب
7ـ كرمان 4200000
8ـ مكران 400000 150 رطل عود هندي
9ـ السندوماييه 12500000 200 ثوب
10ـ سجستان 4000000 ألفان نقرة فضة/ 40000 برذون/ 1000 رأس رقيق
11ـ خراسان 28000000 20000 ثوب
12ـ جرجان 12000000 30000 رطل أهليلج ونوع من الفاكهة
13ـ قومي 1000000 1000 ثوب حريري
14ـ الرويان ودنباوند 6300000 250 كساء/ 500 ثوب/ 300 منديل/ 3000 إناء فضة
15ـ الري 12000000 20000 رطل عسل
16ـ همذان 11300000 1000 رطل رمان / 12000 رطل عسل
17ـ البصرة / الكوفة 10700000
18ـ ماسبذان والريان 4000000
19ـ شهررؤر 6700000
20ـ الموصل 24000000 20000 رطل عسل
21ـ الجزيرة 34000000 1000 رأس رقيق/ 12000 زق عسل/ 10 صقور
22ـ أرمينية 13000000
23ـ برقة 1000000
24ـ أفريقية 'تونس' 13000000
25ـ قنرين 4000000 دينار
26ـ دمشق 420000 دينار
27ـ الأردن 97000 دينار
28ـ فلسطين 310000 دينار
29ـ مصر 1920000 دينار
30 اليمن 370000 دينار
31ـ الحجاز 3000000 دينار
فيكون بهذا الأثر دخل الدولة الإسلامية من الخراج فقط كمورد من موارد الدولة يبلغ 31960000 درهم 3817000 دينار هذا غير العروض الأخرى المذكورة والتي لو قومت لبلغت مبلغًا كبيرًا كل ذلك يرد إلى بيت مال المسلمين ببغداد.
ثالثا: العشور:
ليست كل أراضي الدولة الإسلامية المفتوحة تعتبر أرضًا خراجية بل هناك نوع آخر من الأراضي لا يفرض عليها الخراج وهي التي يفرض عليها عشر غلتها واسمها الأرض العشرية وهي ثلاثة أنواع:
أـ الأرض التي أسلم أهلها وهم عليها من غير قتال ولا حرب.
ب ـ الأرض التي لم يعرف لها صاحب ووزعت على الفاتحين بإذن الإمام.
ج ـ الأرض البور أو الموات التي فتحها المسلمون وقاموا باستصلاحها.
ويلاحظ أنه لا يجوز تحويل الأرض العشرية إلى أرض خراج كما لا يجوز تحويل أرض الخراج إلى أرض عشرية.
رابعًا: الجزية:
تأمر شريعة الإسلام السمحة النقية أنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع, وقد ذكر أبو يوسف في كتابه الخراج ثلاثة فئات 58 درهمًا على الموسرين، و24 على المتورطين، و12 على العمال، والجزية لا تسقط عن الذمي إلا في حالة واحدة وهي إسلامه 'بخلاف الخراج'.
وليست الجزية من مستحدثات الإسلام فلقد عرفتها الأمم السابقة, فلقد فرض اليونان القدامى على سكان سواحل آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد ضريبة أشبه بالجزية مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين كما فرضها الروم على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم وتبعهم الفرس، وكانت الجزية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق على أهل الكتابين اليهود والنصارى, فلما كان عهد عمر بن الخطاب ألحق بهما المجوس عملاً بشدة عبد الرحمن بن عوف, فلما كان عهد المأمون العباسي ألحق بهم 'الصابئة'.
خامسًا: الغنائم:
وهي بحل ما غنمه المسلمون في حربهم ضد الكفار والمشركين من غير الملة, وقد أباحها الله عز وجل لهذه الأمة لما رأى ضعفها وقصر أعمارها وكثرة أعدائها وهي من خصوصيات هذه الأمة الخاتمة ولم تكن لأمة ولا نبي من قبل, وهذه الغنائم عبارة عن المتاع والسلاح والخيل والأموال المنقولة من ذهب وفضة وغير ذلك ولا يستثنى إلا الأرض عملاً بمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جعلها وقفًا لعموم المسلمين.
والغنائم لا يدخل منها في بيت المال إلا الخمس أما باقي الأخماس الأربعة فتوزع على المجاهدين سواء كانوا من الجند النظاميين أو من المتطوعين، أما مصرف الخمس فهو مذكور في قوله عز وجل في الآية رقم 41 من سورة الأنفال كما يلي:
[1] سهم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأزواجه وفي صالح المسلمين, وقد أسقط أبو بكر هذا السهم بعد وفاة النبي [2] سهم ذي القربى وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد المطلب وقد أسقط أبو بكر أيضًا هذا السهم [3] سهم لليتامى [4] سهم للمساكين [5] سهم لأبناء السبيل، وعندما جاء عمر اتفق مع الصحابة على جعل سهم الرسول وسهم قرابته في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين وهذا ما عليه الراجح من أقوال أهل العلم.
سادسًا: عشور التجارة:
ولم تكن عشور التجارة من الموارد التي ذكرها القرآن الكريم ولكنها أحدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إليه أن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر ـ ويعني أرض الحرب كل أرض أهلها غير مسلمين ـ فكتب إليهم عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.
وروي أن أهل مدينة 'مبنج' وكانوا نصارى في شمال الجزيرة كتبوا إلى عمر بن الخطاب يقولون: دعنا ندخل أرضك تجاراً وتعشرنا, فشاور عمر الصحابة في ذلك فوافقوا فأصبحت سنة ماضية, وإذا كان القادم بالتجارة من المسلمين فيُسأل هل أدى زكاة هذه التجارة أم لا؟ ويقبل يمينه على ذلك, وهكذا نرى أن العشور تختلف تمامًا عن صورة الجمارك المفروضة اليوم على كل ما يأتي من الخارج سواء كان التاجر مسلمًا أو غير مسلم.
هذا بالنسبة بموارد بيت مال المسلمين أو ما يطلق عليه في الصورة الحديثة بند 'الإيرادات'، أما بالنسبة للمصروفات أو مصارف بيت المال فهي كالآتي:
أولاً: أرزاق الولاة والقضاة وموظفو الدولة والعمال في المصلحة العامة ومن هؤلاء أمير المؤمنين أو الخليفة نفسه.
ثانيًا: رواتب الجند والعسكر, ولم يكن هناك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرتبات معينة للجند لأن الجميع كانوا جنودًا ولم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى المعروف وكان الجميع يأخذ من أربعة أخماس الغنائم والخراج ولما ولي أبو بكر ساوى بين الناس في الأعطيات فلما جاء عمر بن الخطاب قسم العطاء مفضلاً الأسبق فالأسبق وعلى هذه القاعدة كانت المرتبات كالآتي:(5/267)
12000 درهم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولعمه العباس/ 5000 درهم لأهل بدر وألحق بهم الحسن والحسين، 4000 درهم لمن كان إسلامه كأهل بدر ولكن لم يشهدها وألحق بهم أسامة بن زيد/ 3000 لعبد الله بن عمر وبعض أبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة/ 2000 درهم لأبناء المهاجرين والأنصار/ 800 درهم لأهل مكة 400/300 لسائر الناس/ 600 إلى 200 لنساء المهاجرين والأنصار/ 9000 لأمراء الجيوش والقراء، وهكذا كان الحال, فلما كثر الناس عن حاجة الغزو والجهاد ولدواعي قيام الحضارة العمرانية اشتغل كثير من الأمة بغير الجهاد من الصنائع فلجأت الدولة للجيش النظامي وأصبح هناك دواوين خاصة بالجند ينالون منها الرواتب الخاصة بهم على رأس كل سنة.
ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح وذخائر وخيل وما يقوم مقامهما.
رابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور وسدود وتمهيد الطرق والمباني العامة ودور الاستراحة والمساجد.
خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والسجون وغير ذلك من مرافق الدولة.
سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل وكل من لا عائلة له, فالدولة تعوله وتكفله, ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى ومبكرًا جدًا قبل أي حضارة أخرى سابقة أو حتى لاحقة, فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجئ الدولة بكارثة أو مجاعة أو قحط شديد أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة دون إكراه أو مصادرة أو إجبار.
وهكذا نرى أن المنظومة الاقتصادية في الحضارة الإسلامية كانت تمثل معلمًا بارزًا من معالم تلك الحضارة ضمنت لتلك الحضارة وتلك الدولة المسلمة الاستقلالية والاستمرارية والتوسع والانتشار وأيضًا الشفافية في التعامل والحرية في اتخاذ قراراتها فإن الدولة متى اعتمدت على غيرها في المساعدات والقروض فقد تخلف طواعية عن سيادتها واستقلاليتها لصالح من تأخذ منه الأموال وهذا وقع بالفعل لكثير من بلاد المسلمين الآن وهذا رغم تراثهم العظيم والحافل من رصيد التجربة في الحضارة الإسلامي
=============
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة
د. بدران بن الحسن 9/11/1426
11/12/2005
لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عن نقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالة التراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي -عليه رحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأى منذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئية متغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة.
ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أن يقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن من تحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّد المنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئي ومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة، ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت -عن قصد أو غير قصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها. فأنتجت هذه التصورات الجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحل المشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالم الإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالم الإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمة في فك خيوط الأزمة التي أُحكمت. ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذه الأسئلة على نفسه.
وفي تصوري، فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماً بالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقوم على بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذا استقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامج الجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم، وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة، ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادة الحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت. لنا في كل هؤلاء خير دليل على أن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤون القوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية في صياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلمات الفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبة والمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمط القيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفة للواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤية وتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين، إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذه القيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريق اليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة -في رأي الجماهير من الناس- على فعل المعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزها ليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العمل المستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لا يفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعوية والسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكب نمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهي غير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.(5/268)
كما أن النخبة بمختلف طبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهير وغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً. بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيها أن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهة أخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلى مراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كل الأطراف. وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيم المبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجع عنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابلية لتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.
وعليه فإن النخبة مطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريح ومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلف المقولات والتصورات. كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليدية الموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلك وفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر، القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أي فكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيم الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر من صالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلة الأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛ لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عن مواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدى الأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتها لمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أن سلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلام والمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤية واضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءات العملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس
==============
حضارتنا ليست للبيع ... ... ...
إن تاريخنا الإسلامي هو أفضل تاريخ عرفته الأرض•• عبر مساحة التاريخ المدوَّن !! وهذه الحقيقة تتجلى عندما ننظر إليها في سياق بشريته، (فهو تاريخ بشر)••• وعندما ننظر إليه بالجملة، لا بالوقوف المتربص الحاقد عند نقطة معينة ، ففي حياة كل إنسان ـ عظيماً أو عادياً ـ هفوات•
والتاريخ هو حياة مجموع البشر أو الناس الأحياء، وليس رصداً لتاريخ أوهام أسطورية••• بل هو تاريخ ناس واقعيين ••• عاشوا على الأرض، وكانت لهم أشواق روحية، وغرائز بشرية!!•
وعندما ننظر بهذا التقويم الموضوعي، فسنجد أن عصر الرسالة والراشدين (1 ـ 14هـ)، هو أفضل عصور التاريخ البشري على الإطلاق، ولا يساويه إلا حياة الأنبياء عليهم السلام، وقد تقترب منهم حياة حواريي الأنبياء من الدرجة الأولى•
ولم يحظ أي نبي بهذا الجمع العظيم الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينيه••• وكان القمة المثلى للحضارة الإسلامية!•
فلما جاء الأمويون (14 ـ 231هـ)، لم ينقطع هذا التاريخ لأن عام (14هـ) لا يعني موت كل الصحابة، فبقى عصر الأمويين يرشح بهؤلاء العظماء، وانحصر الخلل في بعض النواحي القومية والسياسية، وكانت الحياة الدينية والاجتماعية في القمة••• بل في هذا العصر تمت أعظم الفتوحات التي قام بها الشعب المسلم تحت قيادة بني أمية عن رضا وطواعية•
فلما جاء العباسيون (231هـ ـ 656هـ)، مضت الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والتشريعية، بقيادة الشعب المسلم في مجراها الطبيعي ، فنهرُ الحضارة الدافق لا يخضع للتحولات السياسية بقيام دولة أو سقوط أخرى•
وقد وقع العباسيون في خطأين:
أولهما: حركة الترجمة إلى العربية من دون ضوابط كافية، ومن دون حركة ترجمة مضادة تنشر العقيدة الإسلامية في العالم•••
وثانيهما: إشغال الأمة بفتنة خلق القرآن، واستعمال العنف والقسوة، وترك الحبل على الغارب للمعتزلة المنهزمين أمام المقولات الفلسفية!!•
لكن العباسيين نشروا الحضارة الإسلامية، وامتدت في عهدهم حركة سلمية دعوية لنشر الإسلام! إذ إن فتوحات بني أمية العسكرية والسياسية لم تعنِ دخول الناس في الإسلام فوراً، فالإسلام لا يؤمن بالإكراه، فكان العصر العباسي هو الذي نشر الإسلام بواسطة الأمة الداعية، لا الدولة الراعية•
ثم إن الحكومة العباسية وقفت ـ بصرامة ـ ضد الحركات الباطنية كالبرامكة، والخرَّمية، وحسبها أنها صمدت في وجه المد الفاطمي الذي نجح في الاستيلاء على المغرب ومصر•• كما أنها استوعبت السيطرة الشيعية البويهية على الحكم، بحيث بقيت السيطرة البويهية سيطرة سياسية، لا باطنية!!•
وجاء الزنكيون، والأيوبيون، والمماليك•• ثم جاء العثمانيون، الذين عاشوا خمسة قرون حتى سقطوا سنة 1924م، فكان للجميع بعض السلبيات، لكنهم قدموا للإسلام أعظم الخدمات، وصدوا عنه أشنع الغارات!!•
ومازال الإسلام ـ بفضل هؤلاء الأسلاف ـ موجوداً إلى الآن، يصارع المحن، ويمتص المؤامرات الخبيثة، ويفلت بالمسلمين ـ تحت رايته الخفاقةـ من مرحلة الاستعمار العسكري والسياسي الأوروبي إلى مواجهة الغزو الفكري الصليبي والصهيوني، ثم إلى مرحلة الصحوة الإسلامية، وما تواجهه، الآن من صعوبات ومؤامرات عالمية•
لكن الإسلام يمتد إلى كل قارات الأرض بفضل الأمة الداعية، وينتصر حتى مع الهزائم السياسية والعسكرية، كما انتصر أيام التتار••• وسيشق المسلمون طريقهم بإذن الله، وستخفق راية الإسلام ـ مهما كانت السحب داكنة ـ فالإسلام هو الحل الوحيد للبشرية•• وليس للمسلمين وحدهم، وهو قدر الله الغالب، والأمل الوحيد الذي لا أمل في إنقاذ البشرية من دونه!•
هذا التاريخ الصامد••• وهذ الإسلام الفاتح•• وهذه الحضارة المثلى التي صهرت الجوانب الوجدانية، والعقلية، والروحية، والفردية، والاجتماعية، في بوتقة واحدة، وحققت للإنسان إنسانيته، فكانت مشرق النور، روحاً وعقلاً لكل الدنيا لأكثر من عشرة قرون•
هذا التاريخ، وهذه الحضارة، هل يجوز أن نبيعهما رخيصين في عصور تصطنع الأمم فيها لنفسها تاريخاً، وتتوهم لنفسها حضارة!!•
وهل يجوز أن يبقيا مطعناً لسهام أصحاب النحل الباطلة والنزعات الشاذة، والمحنَّطين في كهوف أحداث معينة، لا يريدون أن يتحولوا عنها ليمدوا الطرف، ويوسعوا الصدر، ويتعاملوا مع البشرية بالمقياس الملائم للطاقة البشرية•
بم سنمضي في مجالات صراع الأمم، وحوار الحضارات؟
إن أسلافنا هم أجدادنا، ولا نستطيع أن ننسلخ عنهم إلا إذا كنا قد قررنا أن نفقد هويتنا••• فالاسم وحده لا يدل على صاحبه، ولا يعتمد في سجلات التاريخ!!•(5/269)
وإن حضارتنا هي قسماتنا الحضارية التي نتميز بها ونحن نصنع حضارتنا المعاصرة التكنولوجية والإنسانية••• فهي التي تدل علينا، وتؤكد أننا شريحة خاصة من البشر، ولسنا عبيداً تابعين، قد ضاعت ملامحهم .. •
وكما أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً هم ـ بعد إمام الدعوة، ورسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم، قدوتنا وعظماؤنا، فكذلك ننظر إلى من جاء بعدهم•• فهم دونهم، لكنهم أزكى منا، وقدوتنا••• فهم من خير القرون، ومن الصحابة والتابعين، ومن الأسلاف المجتهدين، مصيبين كانوا أو مخطئين•• وكذلك نربي الأمة على الانتماء لحضارتها وصُنَّاعها والاعتزاز بهم، دون أن نقدسهم أو نرتفع بهم إلى درجة العصمة••• فلا عصمة لأحد بعد رسول الله، خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام•
والويل لأمة تتربص بتاريخها أو تشوهه أو تكبِّر لحظات الضعف فيه، أو تمضي في طريقها من دون معالم تستلهمها من حضارتها•
إنها ـ عندئذ ـ أمة ضائعة، تائهة، قد ضلت الطريق!!
إن تاريخنا، وحضارتنا، ليسا للبيع، وإن مؤرخينا ومفكرينا المنتمين الواعين بسنن الله في التقدم، يجب أن يجندوا أنفسهم للذود عن هذا التاريخ، وهذه الحضارة، وأن يحسنوا ـ كذلك ـ توظيفهما للانبعاث الحضاري العصري المنشود .
كاتب المقال: د. عبد الحليم عويس
المصدر: الشبكة الإسلامية
===============
حوار الحضارات بين الحقيقة و الخداع
أ. مجدي أحمد حسين*
منذ انهيار المعسكر الشيوعي قفز إلى رأس جدول أعمال العالم موضوع الصراع بين الغرب و الإسلام وتحول إلى محور رئيسي للسياسات الدولية, وفى المقابل بدأ الترويج لمقولة مضادة وهى حوار الحضارات بعيدا عن صراع الحضارات, وتشكلت من أجل ذلك العديد من المنتديات الدولية.
في العالم الإسلامي ظن البعض أن مواجهة العداء الغربي للإسلام تتم من خلال عدة محاور: إبراز شعار حوار الحضارات - تحسين صورة الإسلام في الغرب - تغيير الخطاب الديني الإسلامي بحيث يكون مقبولا على المستوى الدولي عامة والغربي خاصة.
حول هذا الموضوع جرت الكثير من المساجلات اختلط فيها الثابت مع المتغير, اختلط فيها تحديد من أين نشأت المشكلة بين الشرق والغرب, أو بالأحرى أي جانب هو المسئول عن سوء التفاهم , اختلط فيها ما هو عقدي مع ما هو سياسي , ما هو مبدئي مع ما هو عملي ( براجماتي ) , بل اختلط فيها كثير من الحقائق الساطعة , من المسئول عن أزمة الثقة , من المعتدِى ومن المعتدَى عليه , بل غلب على النخبة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية الطابع الاعتذاري عن جرائم لم نرتكبها , وكأن ضعفنا المادي وتأخرنا عن مواكبة أسباب التكنولوجيا المتطورة سبب كاف لخلط الأوراق , وعدم ذكر الحقائق التي جرت وتجرى على مشهد ومرأى من العالمين.
ولكل هذه الأسباب أرى أن أركز على الثوابت الإسلامية فيما يتعلق بهذا الموضوع: نحن والغرب أو بالأحرى نحن وكل الآخرين من غير المسلمين.
وسنجد في إسلامنا كل ما يمكن أن نفاخر به , بل ونتحدى إذا كان لدى الآخرين ما هو أفضل وأكثر عدلا ورقيا فإننا على استعداد لأن نأخذ به .(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24.
الحوار والتفاهم والتعارف:
لنبدأ بالنقطة الجوهرية التي أفاض فيها الكثيرون من النخبة الرسمية وغير الرسمية في بلاد المسلمين , والتي يركزون عليها دون باقي النقاط المكملة لها , ولكننا نبدأ بها لنؤكد أنها فكرة صحيحة وأساسية بلا خلاف , ولكنها ليست كافية لعرض موقفنا كله إزاء المتغيرات المختلفة .
ونقصد أن الإسلام يحض على الحوار والتفاهم والتعارف والتعايش السلمي, ذلك أن الدين الحق لا يقوم إلا على الإقناع و الاقتناع, ولا يوجد إيمان بحد السيف , فالإيمان لغة هو التصديق.(1)
وآيات القرآن عديدة في هذا المجال .. (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة. وجادلهم بالتي هي أحسن)النحل125 . (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة 256 .. (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)يونس99.
ولأن البشرية تنقسم إلى شعوب و قبائل فان الدعوة تكون (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم)الحجرات13.
وعندما تتمايز الأمم فان الهدف الأسمى هو التعايش والتعارف وعدم استعلاء طائفة على أخرى, أو لا أمة على أمة, ثم يكون الأكرم عند الله هو الأكثر تقوى, والحساب النهائي عند الله وليس على هذه الأرض الفانية. وحتى الخلاف العقدي فهو متروك لله عز وجل كي يحكم فيه يوم القيامة (ثم إلىّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)آل عمران55.
إذن من وجهة النظر الإسلامية الخالصة, لا توجد أي مشكلة على الأرض , بسبب الخلاف في الرأي أو العقيدة أو اللون أو العرق أو القومية, بل إن الإسلام يدعو إلى مباراة سلمية في إعمار الأرض والتخلية بين الإنسان و اختياراته العقدية.
من أين يأتي الصدام؟!
من أين يأتي الصدام إذن ؟ من أين تنشأ المشكلة؟
تأتى من الطرف الذي يرفض المبادرة السلمية ويستخدم وسائل الإكراه في فرض هيمنته ورؤيته ومصالحه.
وإذا افترضنا أن الكرة الأرضية مسرح واحد متواصل فإننا كإسلاميين نقبل منطق المباراة السلمية, ولترفع العقبات والروادع عن كل الرؤى والأيديولوجيات ولنترك الحكم لجمهور البشرية, ولكن الغرب لم يقبل بهذا المنهج، بل وصل الأمر إلى حد التدخل في شؤون الدول العربية و الإسلامية ضد الأنظمة ذات التوجه القومي, ثم ضد الأنظمة ذات التوجه الإسلامي, ثم انتقل الآن إلى الأنظمة الصديقة يريد أن يتدخل في أسلوب حياة مجتمعاتها ومناهج التعليم و الخطاب الديني.
والآن تتم عملية تعليق هذا التدخل على مشجب أحداث 11 سبتمبر في حين أن تاريخ التدخلات قديم ولم ينقطع بعد فترة الاستعمار التقليدي, وكانت التدخلات الغربية متصاعدة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين, وعندما نشير إلى الغرب فإننا نشير بشكل خاص إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت السياسة الأكثر غلوا, ولكن أوروبا لم تعارض هذا التوجه الأمريكي جذريا ولم تقدم بديلا متماسكا للعلاقات بين الإسلام و الغرب, وكان خلافها مع الولايات المتحدة تكتيكيا خاصة ألمانيا وفرنسا وبلجيكا. بل لقد عادت بنا الولايات المتحدة إلى مرحلة الاستعمار التقليدي مرة أخرى باحتلال أفغانستان والعراق والتهديد باحتلال دول أخرى.
وبالتالي نحن أمام الوضع التالي:
العالم الإسلامي لا يتدخل (ولا يقوى) في الشئون الداخلية للعالم الغربي, بينما يتعرض هو للاعتداء والاحتلال و التدخل في أخص شؤونه الداخلية.
والعقيدة الإسلامية توفر أعدل منهج للتعايش السلمي بين الحضارات, ولكننا لا يمكن أن نرفع شعار الحوار الحضاري مع الجيوش الغازية لأراضينا والمتواجدة في عدد كبير من الدول العربية و الإسلامية.
أما المنهج الذي نعتبره الأكثر عدالة, فقد نص عليه القرآن الكريم في قواعد نعرضها للاحتكام إليها, وأين يمكن أن نجد معيارا أكثر عدالة من ذلك؟! وإذا زعم أحد أن هناك ما هو أفضل من ذلك, فنحن على استعداد لمناقشته باعتبار أن الغرب في مجموعه لا يؤمن بطبيعة الحال بقداسة ما ورد بالقرآن الكريم, ولكننا نعرضه للمناقشة العقلية البحتة.
( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين , إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)الممتحنة 8-9.(5/270)
من هاتين الآيتين نستخرج مجموعة من القواعد الأساسية التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم سواء أكانوا أهل كتاب أو مشركين أو غير مؤمنين بأي دين من الأديان:
1- إن المسلمين ملتزمون بحسن العلاقة مع غيرهم من بنى البشر , ذلك أن الأصل في الإسلام هو السلام والمحبة , ونشر البر والعدل بين الناس قاطبة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم(2).
2- إن عداوة المسلمين يجب أن تنصب حصرا على الذين يحاربونهم لتغيير دينهم , أو يعتدون على حرماتهم : النفس و الوطن.
3- إن المسلمين لا يحاربون ولا يعادون ولا يعلنون الجهاد ضد الآخرين بسبب عقيدتهم ولكن دفاعا عن النفس والعقيدة وهى ضرورة للمحافظة على الذات فإذا انتفى هذا المبرر فلا مجال للحديث عن قطع كل صلات بالمخالفين في الرأي فضلا عن قتالهم, فالنهى عن الصداقة والمحبة والتحالف منصب على الذين ما يزالون مستمرين في حربهم و عدوانهم.
*****
نحن إذن أمام قاعدة أساسية واحدة تجمعها هذه الأبعاد الثلاثة ..
إن العلة في المقاطعة والقتال و العداوة, هي الفعل الدفاعي ردا على العدوان وحماية النفس والوطن والعقيدة, وليس لنشر الدين بالقوة أو لإبادة المخالفين في الرأي والعقيدة.
وهذا أمر بدهي لا يمكن أن يرفضه أحد بأي منطق وبأي معيار , فأنا باختصار أطالب المخالف لي بالحد الأدنى الذي لا يمكن الهبوط عنه وهو ( ألا يقتلني ) و ( ألا يخرجني من وطني ) هذا مطلب عادل لأنه غريزي , ولأنه مطلب لكل إنسان على الأرض , و التفريط في هذا الحد الأدنى معناه: العدم!!
ربما يرد أحد الغربيين فيقول هذا كلام حسن ولكننا لم نره في التاريخ, وما فائدة الكلام الحسن الذي لا يمكن أن يطبق. ونقول:
أولاًََ: إن التاريخ يثبت أن هذه المقولات لم تكن غائبة.
ثانيا: حتى وإن اختلفنا في تقييم التاريخ فإننا نقترح على الغرب هذا الميثاق من جديد خاصة وأنهم عندما يتحدثون عن خطر الإسلام كقوة غازية لا يجدون إلا معارك بواتييه(741م) و فيينا(عام 1684م). ونحن الذين نتعرض لحملات عسكرية متواصلة بل ومذابح في القرون الأخيرة خاصة خلال القرنين الأخيرين 19 و 20 .
نظرة على التاريخ:
في إطار هذه الورقة المكثفة يصعب تقديم عرض أو تحليل شامل لتاريخ العلاقات بين الإسلام و الغرب.. وهنا نكتفي بعدة محطات:
المحطة الأولى
* الدعوة الإسلامية في موطنها الأصلي لا يمكن أن تقارن معاركها التي فرضت عليها بأي معارك في التاريخ السابق أو اللاحق لها من حيث محدودية العنف, فالمعارك فرضت أولا على المسلمين بقتلهم وتعذيبهم وإخراجهم من ديارهم على مدار 13 عاما , وعندما تأسست دولة المدينة خاضت دفاعا عن النفس والعقيدة خمسين مواجهة عسكرية لم يتجاوز عدد ضحاياها بأجمعها تسعمائة رجل في المعسكرين سقطوا في ساحة القتال خلال 10 سنوات(3), قارن هذا العدد بالحرب الدينية الأوروبية التي عرفت بحرب الثلاثين سنة (1618-1648)والتي كانت حربا كاثوليكية بروتستانتية و أدت إلى مقتل 30% من السكان في وسط أوروبا(4) .
* أما موقف الدين الإسلامي في بداية عهده من اليهود .. فقد كانت وثيقة المدينة التي أعطتهم حق المواطنة الكاملة مع المسلمين, ولكنهم هم الذين رفضوا هذه المواطنة و تعاونوا مع الأعداء ضد مدينتهم فكان الصدام.
* أما بالنسبة للإمبراطورية الرومانية فهي التي بادرت بالعداء للدين الجديد من خلال قبائل الغساسنة الحليفة, حتى أن مبعوث الرسول إلى هرقل قد تم قتله. وقد كانت هذه المواقف وراء غزوات مؤتة وتبوك وبعثة أسامة بن زيد.
* أما بالنسبة للدولة الفارسية فقد كان الفرس يضطهدون الفرق المخالفة لعبادتهم (النار) من يهود ونصارى وصابئة وبوذيين وماتويين, وكان للفرس قبائل عربية تابعة لهم في الحيرة وكانوا يحتلون البحرين واليمن , وعندما تلقى كسرى كتابا من محمد عليه الصلاة و السلام مزقه وأرسل إلى عامله على اليمن يأمره بأن يرسل رجلين قويين من عنده ليأتياه بمحمد (أو رأسه في رواية أخرى) . ثم بدأ عرب الحيرة التابعون للفرس الاعتداء على المسلمين المجاورين لهم. فأرسل أبو بكر خالد بن الوليد ليكف أذاهم , ويؤمن جيرانهم المسلمين وعندما انتصر عليهم حنق ملك الفرس وثار لأتباعه فكانت الحرب بينه وبين المسلمين في عهد عمر(5).
المحطة الثانية:
عندما شنت أوروبا الحروب الصليبية التي دامت قرنين كاملين, وكانت اعتداء ماديا من جيوش أوروبية على أراضى مسلمين مشارقة ـ 8 حملات وحشيةـ ونكتفي بما حدث في القدس كرمز لهذه المرحلة.
دخل الصليبيون القدس بمجزرة ذبح فيها سبعون ألفا من المسلمين. غرقت الدروب كما يحكى المؤرخون فى الدماء, وخاضت الخيول حتى الركب في السائل الأحمر .
لكن بعد مائتي عام , طرد صلاح الدين الأيوبي الفرنجة من القدس , ليكون المؤرخون الأوربيون أول المنبهرين بسماحة وحلم وسلم القائد الكبير المنتصر مع أعدائه المنهزمين(6).
وقد سجل المؤرخون أن الصليبيين عندما دخلوا القدس أحرقوا يهود القدس أحياء في كنيسهم, في حين تم الإبقاء على معظم الأماكن المقدسة المسيحية واليهودية بدون أن يمسها سوء خلال الحكم العربي الإسلامي كله(7).
المحطة الثالثة:
الحروب التي دارت على الأرض الأوروبية سواء في الأندلس أو في شرق أوروبا في العهد العثماني. يعترف كثير من المؤرخين الغربيين ( مثل المؤرخ البيزنطي خالكو كونديلاس khalkokondylas والمؤرخ الانجليزي جيبون Gibbons ) وغيرهم كثير بأن النظام العثماني كان يتعامل مع الدول و الأشخاص غير المعادين بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم وأنه عامل الأرثوذكس معاملة أفضل بأضعاف من معاملة الكاثوليك للأرثوذكس(8).
وكان فتح القسطنطينية هدفا رئيسيا للسياسة الإسلامية منذ القرن الهجري الأول لأنه من القسطنطينية كانت تصدر قرارات الحرب لغزو ديار الإسلام و الإغارة على الثغور.
ويعترف نورمان بينز بأن "عداوة بيزنطة للإسلام بقيت ما بقيت الإمبراطورية"
ويتحدث "فازلييف" في بحثه "بيزنطة و الإسلام" عن تفضيل الأرثوذكس الأتراك العثمانيين على ( الكاثوليك ) أشقائهم في الدين فيقول ] ولا زال الناس يرددون تلك المقالة المأثورة التي صدرت عن رئيس ديني بيزنطي يدعى "لوكاس فاتوراس" في ذلك الحين وهى: "انه لخير لنا أن نرى العمامة التركية في مدينتنا من أن نرى تاج البابوية"[ .
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى شهادة " نهرو " زعيم الهند الهندوسي: " ومهما يكن من أمر فالواقع أن سلاطين الأتراك العثمانيين كانوا متسامحين جدا مع الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية"(9).
ولعل هذه الشهادات تغنينا عن سرد تفاصيل رهيبة من خلال عملية مقارنة تاريخية بين سياسة الدولة الإسلامية العثمانية , وسياسة الإمارات الأوروبية التي كانت تستخدم أساليب الاستئصال و الإفناء الكلى بالمعنى الحرفي, أي قتل جميع المسلمين في المناطق التي يسيطرون عليها , حدث هذا بنسبة 100% في الأندلس , وبنسبة 100% في مناطق كثيرة بشرق أوروبا, رغم أن الأغلبية الساحقة من مسلمي شرق أوروبا هم من أصل أوروبي (وليسوا أتراكا) ودخلوا الإسلام طواعية , لأنهم لو كانوا دخلوا مكرهين , لتحولوا سريعا إلى المذاهب المسيحية بمجرد انكسار الجيش العثماني في بلادهم. وحدث الاستئصال بنسب أقل من 100% في مناطق أخرى. وحقائق التاريخ مفزعة , فالمسلمون كانوا أكثر من 50% من سكان بلغاريا في القرن التاسع عشر أما في إحصاء 1982 فقد أصبحوا يمثلون 17% من السكان !(5/271)
وكان عدد المسلمين في اليونان يقارب نصف العدد الإجمالي للسكان حتى عام 1832 أما الآن فهم يمثلون 3% من السكان !!
وفى جزيرة كريت كان المسلمون يشكلون الأغلبية الساحقة من سكانها حتى منتصف القرن التاسع عشر , وظل المسلمون متواجدين حتى عام 1913 , أما الآن فلا وجود لأي مسلم في الجزيرة في وقتنا الحاضر!؟(10)
*****
وإذا عبرنا مرحلة الاستعمار الحديث ( الاحتلال الفرنسي - الإنجليزي - الأوروبي عموما) لبلاد العرب والمسلمين والتي كانت في الحقيقة حملة صليبية تاسعة ولكن بشعارات مختلفة , فإننا نواجه الآن حملة استعمارية صليبية عاشرة . ومن المؤكد أن أي قوات إسلامية لم تطأ أرضا أوروبية أو أمريكية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ولا يمكن تبرير هذه الحملة لاحتلال أراضى العرب و المسلمين بالعقد القديمة من الدولة العثمانية حتى و إن سلمنا بأي وجهة نظر غربية متطرفة ضد هذه الحقبة, فلا يمكن تبرير الحروب بالهواجس التاريخية القديمة. ومن المفترض أن الأجيال والعهود المختلفة تحاول في عصرها أن تضع ضوابط في العلاقات السياسية الداخلية أو الدولية.
في هذه الغزوة المعاصرة الصهيونية - الأمريكية , تقدم تبريرات بأن هدفها هو البترول (وأنها ليست حربا دينية) وكأن الاستيلاء على بترول العرب والمسلمين مسألة مشروعة أو مبررة أو فيها نظر , وكأن الاستيلاء على مكامن قوتنا الاقتصادية لا يؤدى إلى إضعافنا وإذلالنا وتحويلنا إلى تابعين.
وتردد كثير من الأبحاث والدراسات أن سقوط الاتحاد السوفيتي , وانتهاء الصراع السوفيتي-الأمريكي , الشيوعي-الرأسمالي , هو الذي فتح الطريق للصراع بين الغرب و الإسلام, والحقيقة أن العداء الغربي للإسلام لم ينقطع ( الثورة الإسلامية الإيرانية وثورة الإنقاذ السودانية حوربتا من الغرب رغم وجود الاتحاد السوفيتي) , ولا يقلل من هذا الموقف التكتيكي لأمريكا من الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفيتي, فلاشك أن الخطر السوفيتي كان الخطر رقم واحد , والآن ارتفع الإسلام إلى المرتبة الأولى وأصبح في الصدارة , رغم أنه لم يتشكل بعد كقوة عظمى , بل تسعى أمريكا والغرب للحيلولة دون قيام هذه الدولة العظمى ذات الرؤية الحضارية البديلة , وهى بهذا المعنى المنافس الوحيد للهيمنة الأمريكية والغربية , هذا بالإضافة إلى البعد العددي حيث تقدر الدراسات المستقبلية الغربية أن المسلمين سيشكلون 40% من البشرية منتصف القرن الحالي . هذه الرؤية ليست بنت مرحلة العولمة أو النظام العالمي الجديد أو ما يسمى المسيحية الصهيونية المسيطرة الآن على السلطة في واشنطن ولندن. فقد سبق لـ "أرنست رينان" المؤرخ ذائع الصيت أن قالها بصراحة وفظاظة عام 1862 : "إن الشرط الأساسي لانتشار الحضارة الأوروبية هو تحطيم الإسلامية. وتلك هي الحرب الدائمة , حرب لن تضع أوزارها إلا بعد أن يموت بؤسا آخر حفيد لإسماعيل أو يرد على عقبيه إلى أعماق الصحراء , لأن الإسلام هو أكبر نفى لأوروبا , ستفتح أوروبا العالم وتنشر دينها المتمثل في القانون , في الحرية , في احترام الإنسان وهى عقيدة ذات طابع الهي تحملها البشرية".
وهذا نفسه ما يقوله جورج دابليو بوش الآن عن أنه يشن حربا باسم السماء, وأن الله قد اختار الشعب الأمريكي لأداء هذه الرسالة. وما يقوله ممثلو الكنيسة المعمدانية الجنوبية - التي خرج من عباءتها معظم رؤساء أمريكا - من أمثال جيري فولويل وبات روبرتسون, وما يقوله رامسفيلد ومساعدوه, وهو يتضمن إعلان حرب على الإسلام كدين, وليس على ما يسمى الحركات الإرهابية. (الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إرهابي - القرآن كتاب يحض على العنف - اله المسلمين وثن - وعندما نحاربهم فنحن نحارب الشيطان ...الخ)
ولا شك أن الصراع ينطوي على استراتيجية للهيمنة والسيادة العالمية وأن هذا التوجه العدواني مشبع بالمصالح الاقتصادية والسياسية, ولكنه يستظل بهذه المظلة العقائدية (المسيحية الصهيونية,التي تربط نهاية العالم بعودة المسيح عقب معركة هر مجدون.. وعقب تجمع اليهود في فلسطين , وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه)، وبكل هذه المعاني نحن أمام حرب دينية حضارية.
وعبر التاريخ فان القوى العظمى لا تتخلى طواعية عن سيادتها العالمية, ولا تتراجع إلا عندما تتغير موازين القوى التي تجبرها على هذا التراجع. ولكننا نزعم انه عندما سادت حضارتنا فإننا لم نفرض ديننا ورؤيتنا على المخالفين لنا في الدين . هذا حدث في أوروبا , وحدث في الهند التي ظلت أغلبيتها هندوسية في ظل الحكم الإسلامي المديد , وحدث في مجمل أراضى آسيا , وحدث في قلب المنطقة العربية ذاتها , حيث لم تتعرض الأقليات المسيحية إلى أي حالة من الاستئصال. ويكفى أن نشير إلى حالة مصر , حيث ظل المسلمون منذ الفتح عام 640م - 20 هجرية أقلية لأكثر من قرنين , وظل الإسلام ينتشر بصورة طوعية بطيئة حتى أن المسلمين لم يصبحوا أغلبية إلا في عهد الدولة الطولونية (868-905م , 254-292هجرية)(11) . وقارن ذلك بما حدث في الأندلس وبلغاريا واليونان..الخ
*****
ولا نطرح كل ذلك على سبيل التفاخر أو الكيد, فنحن على استعداد دائما لفتح صفحة جديدة, ونحاول في عصرنا الحديث أن نضع الضوابط الدولية التي يمكن أن تحكم تعايش الحضارات.
ولكنهم, ولأنهم الأقوى, لا يستمعون إلينا إلا على سبيل الخداع ومضيعة الوقت والمناورة.ونحن نشير إلى الفئات الحاكمة المسيطرة والتي تحظى بقبول الأكثرية, ولا يعنى ذلك عدم وجود فئات أو شرائح أو منظمات أهلية في الغرب يمكن التحاور بل والتعاون معها. ولقد كانت هناك و لاتزال فرصة تاريخية لإنشاء جبهة عالمية إنسانية ضد مشروع الهيمنة الأمريكية - الصهيونية, ولقد قدمت الحركات الشعبية في الغرب المناهضة للحرب في العراق فرصة لهذه الجبهة الإنسانية ضد الحرب وضد العولمة (الهيمنة) الأمريكية.
ولكن حديثنا ينصب على القوى المسيطرة في الغرب(وأمريكا خاصة) والتي تحظى بقبول شعبي عام من خلال الانتخابات . وهذه لا يجوز الحوار معها وهى تعتدي وتحتل أراضى المسلمين وتساند الكيان الصهيوني, وتستهين بمقدساتنا, بل وتقيم حكومات يرأسها أمريكيون (كرزاي - بريمر) , بل وصل الأمر إلى حد استباحة المدنيين على نطاق واسع , استباحة النساء والشيوخ و الأطفال في حالتي الحرب أو الاحتلال (فلسطين - العراق - أفغانستان كحالات صارخة) . فهؤلاء لا يمكن الحوار معهم إلا بالسيف حتى يتراجعوا عن عدوانهم.
إن موقفنا كمسلمين من الغرب تحكمه الآيتان المشار إليهما من سورة الممتحنة
(لا ينهاكم الله...... ) والتي حولها الفقه الإسلامي مع آيات أخرى إلى هذا التقسيم الأزلي الذي لا يعتوره أي تبديل عبر الأزمان لأنه مشتق من القرآن الكريم ،أي تقسيم العالم إلى ..
1- دار السلام 2- دار الحرب 3- دار العهد
- فدار السلام هي دار الإسلام حيث يتعين أن تكون أمة واحدة, والأمة الواحدة يتعين عليها أن تحكمها تقاليد الإسلام حتى أن الذي يخرج عليها بغيا يتعين محاربته لرده إلى الصواب ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين, إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) الحجرات 9-10.(5/272)
ويدخل في دار السلام بطبيعة الحال كل مواطني الدولة الإسلامية من أهل العقائد غير الإسلامية حيث تكون لهم حقوق المواطنة الكاملة.
- دار الحرب هي الدول غير الإسلامية المحاربة للمسلمين , المعتدية على أراضيهم , المستبيحة لديارهم ومقدساتهم أو التي تبيد المسلمين على أراضيها.
- دار العهد هي الدول غير الإسلامية التي - بتعبيرات العصر- توقع معاهدة عدم اعتداء مع العالم الإسلامي, وتلتزم بها, وتصون حقوق المسلمين لديها, فهذه يمكن التعاون وإقامة علاقات طبيعية تماما معها. أقرب مثال لها الآن الصين وبعض الدول الأوروبية(كفرنسا وألمانيا) ودول أمريكا اللاتينية.
*****
ويتعين أن نطالب الدول الغربية الموجودة في خانة دار الحرب أن تنتقل إلى خانة دار العهد, وهى مطالبة ساذجة, إذا لم تكن مرهونة بتنامي قوة المسلمين, وتغيير موازين القوى, ولكن ضعفنا المادي الراهن لا يبرر -من الناحية الشرعية- التغاضي عن دول دار الحرب واعتبارها وكأنها دول من دار العهد. والجهاد في فلسطين والعراق وأفغانستان يؤكد أن المقاومة ممكنة رغم الفجوة التكنولوجية. وأن المعتدين لابد أن يألموا - كما نألم - حتى يستمعوا إلى كلام الحق. ولنلحظ هذه الدقة القرآنية في الربط بين الحرب و السلام .. حيث يتضح لنا أن القوة أساس السلام, وهذا ما أكدته وقائع التاريخ..
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) الأنفال 60 يتبعها مباشرة (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) الأنفال61.
أي عندما تمتلكون من أسباب القوة ما يكفى فان باب السلم سينفتح.
وعلينا في هذه الحالة أن نقبل بالسلم حتى وإن كانت النوايا غير خالصة وغير موثوقة. ( وان يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين). الأنفال 62
وحتى عندما نبرم العهود فإننا لا ننقضها, ولا ننقض على الدول غير الإسلامية بأسلوب الغدر والخيانة , ذلك إن الغدر مرفوض حتى مع المخالفين لنا في الدين.
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال 58.
والمقصود أننا إذا لاحظنا بوادر الخيانة من الآخرين , كحشد الحشود على الحدود , والخروج عن شروط معاهدة السلام فانه يتعين توجيه الإنذار قبل تبديل موقف السلم إلى الحرب , وهذا ما أقر به القانون الدولي مؤخرا ..
*****
والأمر المثير للحذر و القلق, أن الولايات المتحدة تتحدث عن أن أمنها القومي مهدد من المسلمين , وهذه مبالغة لا معنى لها , فأين هي الدولة الإسلامية التي يمكن أن تهدد الولايات المتحدة , ولكن الولايات المتحدة تعتبر أن حدودها تشمل كل الكرة الأرضية , وهذا أمر غير مقبول ولا يمكن التسليم به إلا لمن يريد أن يلغى شخصيته وحضارته ووجوده.
وفى النهاية نقول: إن حوار الحضارات كلمة حق ولكن يجب ألا يراد بها باطل, وهو خداعنا وكسب الوقت لمزيد من احتلال الأراضي, وألا يكون حوار الحضارات معناه, أن نغير ديننا (الخطاب الديني) ونظم تعليمنا وثقافتنا , ونستغني عن استقلالنا , وأن نتطابق مع مفاهيم العولمة الأمريكية في شتى المجالات.
كذلك فإن الحوار بمعناه الفكري الحضاري مرفوض مع المعتدين المحاربين لأن هؤلاء لا يعرفون ولا يستجيبون إلا للغة القوة.
ولكن في المقابل علينا أن نشن هجوما إسلاميا بالحوار مع كافة الحضارات والدول غير المحاربة في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية , وأن نسعى لتأسيس جبهة إنسانية عالمية حكومية وشعبية لمحاصرة العولمة الأمريكية-الصهيونية في مرحلتها العسكرية المتغطرسة.
الهامش
1- مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبى بكر عبد القادر الرازي - المكتبة العصرية - صيدا بيروت, الطبعة الرابعة 1998 - ص22
2- تفسير القرآن الكريم من سورة الأحقاف إلى سورة المرسلات - أحمد حسين - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مصر 1976 - ص385
3- الإسلام والحداثة - عبد السلام ياسين - دار الآفاق - الطبعة الأولى 2000 -ص208
4- هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟ هنري كيسنجر - دار الكتاب العربى - بيروت - 2002 - ص11
5- الجهاد - د.أحمد محمد الحوفي - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مصر - 1970 ص168
6- الإسلام والحداثة - مرجع سابق - ص78
7- الغرب والإسلام - مجموعة دراسات مترجمة - دار جهاد للنشر والتوزيع - القاهرة , الطبعة الأولى 1994 - ص143 ترجمة و تحليل منى ياسين , مراجعة و تعقيب د.محجوب عمر
8- تاريخ الدولة العثمانية -يلماز أوزتونا - منشورات مؤسسة فيصل للتمويل - تركيا, استانبول - 1988 - الجزء الأول - الطبعة الأولى ص102
9- المسألة الشرقية - محمود ثابت الشاذلي - مكتبة وهبة - القاهرة 1989 الطبعة الأولى ص41 , ص102
10- الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان - محمد خليفة - مركز دراسات العالم الإسلامي - مالطة - الطبعة الأولى - 1994 ص 230و231 و283 و 284و713
11- موسوعة تاريخ مصر - أحمد حسين - دار الشعب - مصر - الجزء الثاني - الطبعة الأولى - 1973 ص500
* كاتب صحفي مصري
=============
خرافة حوار الحضارات ومكافحة الفقر
د. أبوبكر محمد عثمان*
أعتقد أننا فيما نسميه حوار الحضارات نتجنب الدخول بطريق مباشر أو غير مباشر إلى لب الخلاف!!..
فإذا تحدثنا عن اليهود فهم يعلمون الآية (82) من سورة المائدة (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، والآية (51) من سورة النساء (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا)، وهم يقولون: (إن أجداد المصريين الحاليين هم الذين سخروا اليهود لبناء الأهرامات وأذلّوهم).. ولذلك قتلوا آلاف الأسرى في صحراء سيناء في حرب 1967م..
فلا مجال للحوار مع هؤلاء.
أما عن النصارى فهم يعلمون الآية (82) نفسها من سورة المائدة: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوَا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)؛ لذلك أحمد الله كثيرا أن هُزِم اليابانيون الوثنيون في الحرب العالمية الثانية على أيدي النصارى الأوروبيين والأمريكان؛ وقد قال الله تعالى في سورة الروم: (ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5))؛ لذلك يوجد مجال للتعايش حسب الضوابط الشرعية في حدود تضيق، وتتسع حسب تشدد قادتهم، ووعي أفرادهم..
وفي هذا تفصيل مهم:(5/273)
- هم يعلمون أننا نكفرهم؛ لأنهم إما أنهم يعتقدون أن عيسى بن مريم هو الله؛ قال الله تعالى في الآية (72) من سورة المائدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، أو أنهم يعتقدون أنه ابن الله؛ قال تعالى: (وقالت النصارى المسيح ابن الله)، أو أنهم يعتقدون أن المسيح عيسى عليه السلام ثالث ثلاثة يشكلون الإله؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ).. وهم يكفروننا للسبب نفسه؛ وهو أننا لا نعتقد بألوهية عيسى؛ بل نعتقد ببشريته؛ قال الله تعالى في الآية (75) من سورة المائدة: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ)..
لقد هزمت الأحداث الأخيرة، والرسوم المسيئة لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة نشرها، بل لبس وزير إيطالي قميصا عليه تلك الرسوم إمعانا في التحدي، والازدراء، والامتهان.. وكذلك تدنيس مقابر المسلمين في الدنمارك، وتدنيس المصحف الشريف في سجون أفغانستان، وأبي غريب في العراق، وجوانتانامو في كوبا، وإلقائه في المراحيض، والتبول عليه، واستعماله بدلا من مناديل الورق لمسح الخرء عن أدبارهم..
هزمت كل هذه الأحداث فكرة حوار الحضارات..
ومن قبل قتل الصرب عشرات الآلاف من المسلمين، ودفنوهم في مقابر جماعية، واغتصبوا عشرين ألف امرأة مسلمة، ولا زال المجرمان - رادوفان كاراديتش، وميلاد يتش - طليقين..
ولا يظن إلا مُغفّل أن الاتحاد الأوروبي، أو الناتو، أو موسكو، أو واشنطن لا يعرفون مكانهما؛ فإنما هي صفقات؛ يباع فيها المسلمون لقاء منافع متبادلة..
نحن لا نتحدث عن الحروب الصليبية، والفظائع في القرون الغابرة!!..
ومن قبل كسب الإسلاميون انتخابات الجزائر فانقض عليهم الجيش بأمر فرنسا وألغى نتائجها..
ولماذا يعترضون على نتائج انتخابات فلسطين - التي أوصلت حركة حماس إلى السلطة -، ويطلبون منها طلبا لا أخلاقيا بالاعتراف بإسرائيل؛ فهذا قرار الأغلبية التي انتخبتهم على برنامجهم بعدم الاعتراف بإسرائيل؟!..
ولِمَ يعترضون على ممارسات السلطات المصرية التي أفقدت الأخوان المسلمين قدرا كبيرا من أصوات الناخبين؟!..
ولماذا يصرّون على أن يدخل السُنَّة في الحكومة العراقية؟!.. طبعا ليس حبا فيهم، وفي الديموقراطية؛ ولكن لتحجيم دور إيران الشيعية في العراق؛ فهم يتمسكون بالديموقراطية فقط إذا كان فيها قهر للحركات التي تؤمن بأن الإسلام هو الحل!!..
ومن هنا أُدين قتل الشرطة للمتظاهرين ضد الرسوم، وهي تتحمل وزر القتل العمد أمام الله، وفي الوقت نفسه لن يرضى عنهم ناشرو الرسوم..
أما قول تلك الحكومات: (إن المتظاهرين يستغلون الأحداث لأغراض سياسية)؛ فهل يجب على الأحزاب السياسية أن تبارك تلك الرسوم؛ حتى لا تتهم باستغلال الدين؟!.. ثم هذا اتهام للنيات، ويدل على الجهل الفاضح بالدين؛ فالنيات لا يعلمها إلا الله.
أما تفجيرات 11 سبتمبر فقد اتخذتها أمريكا ذريعة لغزو أفغانستان، والعراق، وللاستيلاء على النفط، وقهر المسلمين؛ بادعاء نشر الديموقراطية.. ولقد افتضح أمرهم في أول انتخابات في مصر، وفلسطين، ومن قبل في الجزائر كما أوضحنا..
مثل هذا يحدث تماما مع فكرة مؤتمرات محاربة الفقر؛ فهم يتجنبون الحديث عن السبب الحقيقي، أو المهم للفقر - ألا وهو الفساد بأنواعه - فالفقراء هم الذين يغذون خزينة الدولة بالضرائب، والزكاة، والرسوم، والغرامات المتعسفة والعشوائية، والدعوم المفروضة التي تؤخذ عنوة أو بسيف الحياء؛ كدعم الشريعة، والجهاد، والجريح، والشهيد..
بينما لا يعرف دافعوها أين تصرف هذه الأموال؟!.. والحكومة تضن عليهم حتى بهذه المعلومة؛ لأنها تعلم أنها تصرف في غير ما جمعت له - كالرواتب المُركّبة، والحوافز المصطنعة، والبدلات، والموبايلات، والسفريات، خلا العربات، والمؤتمرات القممية، والإقليمية، والقارية، واليخوت، والفلل، والسمنارات - خصوصا تلك المخصصة لمحاربة الفقر؛ حيث توزع رقاع الدعوة المكتوبة بماء الذهب، وتعقد في أفخم الفنادق والقاعات، حيث يقدم أطيب الطعام والشراب الذي يتبقى منه على الموائد ما يكفي لمدد طويلة لطالبات الداخليات، وملاجئ المشردين، والمساجين المظاليم؛ الذين سرقوا بسبب إفقار الدولة لهم..
هذا غير السرقات، والاختلاسات، والرشاوى، والعمولات، وإعفاءات الجمارك والضرائب، وحتى دين الله تلاعبوا به؛ فديوان الزكاة يفرض عند بدء كل سنة ربطا للزكاة عن تلك السنة؛ بمعنى أنه لا بد من جمع كذا من النقد، وكذا من المحاصيل، وكذا من الحيوان - فما يدريك يا صاحب المربوط أن التجارة ستربح، وأن النبات سيثمر، وأن الحيوان سيتوالد ويتكاثر؟! - لذلك يقوم زبانية الزكاة بجمع المربوط بالتعسف.. وإنما شرع الله الزكاة نسبة من الناتج بعد ثبوته؛ وليس لك افتراضه قبل بدء الحول.. ومثل ذلك في الضريبة، مع أنه ليس في دين الله شيء اسمه الضريبة؛ فقد حكم الله أن الزكاة تكفي لإغناء الفقراء إذا جمعت من المكلفين وصرفت على المستحقين؛ ولكن الحكومة تقول: (إنها لا تكفي)!!.. وليس ذلك إلا لأن الحكومة تعفي منها كثيرا من المكلّفين، وتصرفها لكثير من غير المستحقين!!..
فقط عند الأزمات شرع الله ما يسمى (في المال حق سوى الزكاة) يحدده الإمام على قدر الحاجة، ولمدة محدودة؛ ريثما تزول الحاجة التي أوجبته.
بالله عليكم.. كفوا عن عقد مؤتمرات وسمنارات مكافحة الفقر، وأنفقوا أموالها على الفقراء والمساكين؛ حتى لا تضطروهم للسرقة، والغشّ، والتزوير، وبيع الأعراض..
هذا لحين تحقق إرادة محاربة الفساد؛ فإنها لن تكون إلا بصدق العزم، ووضوح السبيل.
=============
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
.
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟(5/274)
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:(5/275)
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gullive صلى الله عليه وسلم الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
• أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
• أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
• أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
• وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟(5/276)
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة mode صلى الله عليه وسلم nity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
• فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.
• بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
• ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.(5/277)
• ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
• وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
• وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
• وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
• ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.(5/278)
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
==============
الآخرة كمدخل عملي إلى "الإسلام هو الحل " وكمنهج لبناء الحضارة " الإسلامية "
د. يحيى هاشم حسن فرغل
إن السر في تأخر المسلمين يكمن هنا في هجرانهم الآخرة كمنهج عملي للدخول في " الإسلام هو الحل "، ثم في هجرانهم لها كمنهج لبناء الحضارة الإسلامية
ويرجع انحرافهم في ذلك إلى أمرين على التفصيل يربطهما أمر جامع:
أما الأمر الأول: فهو انحراف في المنهج المعرفي، جعلنا نشتغل بقضايا العلم الذي لا عمل من ورائه ونشتغل بالعمل الذي لا علم فيه " علم لا ينفع ".
إن قضية الآخرة قضية جوهرية في مسألة المعرفة أساسا، وفي مسألة القيم سلوكا، وفي مسألة البناء الحضاري هدفا.
وهي إذ تسيطر على هذه المواقف كمنهج إسلامي فإنها تحول مواقفنا جميعا إلى مواقف عملية.
وتنقلنا في ممارساتنا لقضايا المعرفة والقيم والبناء الحضاري إلى المنهج العملي.
حتى في قضية الإيمان الأساس ومبدأ الدخول في الإسلام..وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآخرة كمنهج عملي بابا للدخول في الإسلام.
ففي صحيح البخاري باب {إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ: 46) روى بسنده عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «صَعِدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصّفا ذاتَ يومٍ فقال: يا صباحاه.فاجتمعَت إليه قريش، قالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ يصبّحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدّقونني؟ قالوا: بلى قال: فإِني نَذيرٌ لكم بينَ يَدَي عذابٍ شديد.
وفي صحيح مسلم: روى بسنده عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 214) دَعَا رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشاً. فَاجْتَمَعُوا. فَعَمّ وَخَصّ. فَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيَ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّارِ. فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. غَيْرَ أَنّ لَكُمْ رَحِماً سَأَبُلّهَا بِبِلاَلِهَا ».
وفي صحيح البخاري بسنده عن أبي بُردةَ عن أبي موسى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مَثَلي ومثلُ ما بَعَثَني اللّهُ به كمثلِ رجلٍ أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيتُ الجيشَ بِعَينيّ، وإني أنا النذيرُ العُريان، فالنّجاء النجاء! فأطاعَهُ طائفةٌ من قومِهِ فأدْلجوا فانطلقوا عَلى مَهَلِهم فنَجوا، وكذّبت طائفةٌ منهم فأصبَحوا مكانهم فصبّحَهم الجيشُ فأهلكهم واجْتاحَهُمْ، فذلك مثلُ مَن أطاعني فاتّبع ما جئتُ به، ومثلُ من عصاني وكذب بما جِئت به منَ الحق».
إن الوحي عندما نزل جعل قضية الآخرة في الصدَّر، وألح عليها بشكل دائم:
(يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر، فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) أول سورة المدثر
(يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) أول سورة يس.
(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) أول سورة الفرقان.
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيها أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) أول الكهف.
وفي المستدرك للحاكم النيسابوري: بسنده عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن بن مسعود رضي الله - تعالى -عنه قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن النور إذا دخل الصدر انفسح، فقيل: يا رسول الله هل لذلك من علم يعرف؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله
لكن للأسف الشديد: لقد زحزحت الآخرة عن موقعها التأثيري هذا من زمن طويل. منذ بدأ احتكاك المسلمين بالثقافات غير الإسلامية.
نقلوا قديما عن الثقافة اليونانية منهج النظر بغير عمل. ثم نقلوا حديثا عن النهضة الأوربية منهج العمل بغير إيمان
وأما الأمر الثاني: فانحراف في المنهج السلوكي، جعلنا نتناول الحياة الدنيا لا على منهج الكفار فنأخذها خالصة، ونفقد الآخرة كما فقدوا، ولا على منهج الإسلام فنأخذ الآخرة قصدا وتأتينا الدنيا تبعا. ففي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: بسنده عن إبراهيم بن بشار الصوفي الخراساني خادم إبراهيم بن أدهم قال: وقف رجل صوفي على إبراهيم بن أدهم، فقال: يا أبا إسحاق لم حجبت القلوب عن الله - عز وجل -؟ قال: لأنها أحبت ما أبغض الله، أحبت الدنيا، ومالت إلى دار الغرور واللهو واللعب، وترك العمل لدار فيها حياة الأبد، في نعيم لا يزول، ولا ينفد، خالد مخلد، في ملك سرمد، لا نفاد له ولا انقطاع.(5/279)
وفي مسند الشهاب لأبي عبد الله القضاعي: بسنده عن أبي أيوب قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فأخذ بعضادتي باب المسجد، ونادى بأعلى صوته: يا أيها الناس يا أهل الإسلام: جاء الموت بما جاء، جاء بالروح والرحمة، والكرة المباركة لأولياء الله من أهل دار السرور، الذين كان سعيهم ورغبتهم فيها. يا أيها الناس يا أهل الإسلام: جاء الموت بما جاء، جاء بالحسرة والندامة والكرة الخاسرة لأولياء الشيطان من أهل دار الغرور الذين كان سعيهم ورغبتهم فيها، ألا إن لكل ساع غاية، وغاية كل ساع الموت.
أما الأمر الجامع لهذين الأمرين فهو عقيدتنا التي اهتزت في " الآخرة "
ليست قضية الآخرة قضية موعظة ولا مبالغة في الزهد، ولا تسكين لآلام هذه الحياة إن حصر هذه القضية في هذه المواضع جزء من التزييف الحاصل في ثقافتنا المعاصرة.
ولا يمكن إنقاذ هذه الثقافة من فقر الدم الذي أصابها طالما نحن نضع الآخرة في تلك المواضع.
إن قضية الآخرة قضية جوهرية في مسألة المعرفة و القيم، و الحضارة.
وهي إذ تسيطر على هذه الجوانب كمنهج إسلامي فإنها تحول مواقفنا جميعا إلى مواقف عملية.
وتنقلنا في ممارساتنا لقضايا المعرفة والقيم والبناء الحضاري إلى المنهج العملي.
وللكلام بقية
صرامة قوانين النظام الإلهي:
وتأتي الجنة والنار في الآخرة ضمن سياق مبدأ " النظام " الصارم الذي يحكم الدنيا والآخرة لإرادة الله دون شبهة تعسف أو استثناء مما قد يدور في صدور بعض الملحدين.
إن الكفار والعصاة يتصادمون مع سنن الله في الكون، ومن هنا جاءت منطقية الهلاك بالنار مع كل من يخرج على هذه السنن أو هذا النظام: إنهم يتصادمون مع سبيل الله.
كل ما في الوجود فإنه يتحرك طائعا في سبيل الله، يقول - تعالى -: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) 11- 12 فصلت.
وإشكالية الإنسان في خصوصيته حيث أراد الله له أن يتحرك في سبيل الله - كما هو شأن المخلوقات جميعا إلا أنه استثناء منهم أراد له أن تكون حركته وهي واجبة عليه باختياره، وهو ممتحن فيه.
معنى في سبيل الله بالنسبة للشمس كذا وكذا مما نطلق عليه قوانين الفلك والفيزياء، وبالنسبة للقمر الأمر كذلك، وبالنسبة للنجوم والكواكب والمجرات كذلك، وبالنسبة للرياح، وبالنسبة للذرة كذلك، وفي سبيل الله بالنسبة للإنسان: أن يتحرك باختياره في هذا السبيل - أي سبيل الله - وفق إرادته - سبحانه - في: الدين، ووفق إرادته - سبحانه - في الأخلاق، ووفق إرادته - سبحانه - في الشريعة، في الاقتصاد، في العبادة إلخ
كل نشاط إنساني يسير بحركته وفقا لإرادة الله وأوامره ونواهيه هو في سبيل الله.
وكل نشاط إنساني: فرديا كان أو اجتماعيا أو دوليا يخرج عما يريده الله وعما بينته رسله هو خارج سبيل الله. ليس هذا فحسب، ولكنه اعتداء على سبيل الله: اعتداء على سبيل الله الذي ينتظم الفلك والطبيعة والحياة والحضارة جميعا.
ومن هنا فإن المخالفين يجدون أنفسهم في خلاف لا مع خالقهم فحسب، ولكن مع المخلوقات جميعا، مع الكون، مع الطبيعة، ومع قوانين الله في الطبيعة، ومع قوانين الكون المخلوق الموزون: دنيا وأخرى
ولا منجاة لهم من سحق الكون لهم بالنار، لأنها قوانين، وسنن، كقوانين الذرة، وقوانين الجاذبية، وقوانين الحياة، أو أدق وأصدق منها جميعا
ومن هنا فإننا نجد النار تسعى إلي هؤلاء المخالفين بما يشبه الجاذبية، أو تطلبهم طلبا طبيعيا، كما أنهم يتحركون نحوها حركة طبيعية كذلك، وفق سنن الله، وسبيل الله.
إن جهنم خلقت لتستقبلهم هناك في آخر طريقهم الذي سلكوه.
إنهم مطرودون من الكون، وليس لهم مكان فيه غير النار، وذلك بعد أن أخذوا فرصة النجاة بالإنذار وبالهداية والتوبة والإصلاح في هذه الدنيا فضيعوها.
النار هناك تنتظرهم، فهم وقودها:
(قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) 6 التحريم (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ) 6-8 الملك.
والنار تنتظرهم هناك بطول انتظار وترقب (فأنذرتكم نارا تلظى) 14 الليل.
وهي تنتظرهم بشراهة (يوم نقول لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد) 30 ق
والنار تنتظرهم هنالك بكراهية (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) 11- 12 الفرقان
(إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) 29 الكهف
(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) 49 التوبة.
أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال: (إن العبد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشفير، ثم تزفر زفرة لا يبقى منا أحد إلا خاف).
وهي تنتظرهم عالمة بأقدارهم! فقد أخرج أبو يعلى الموصلي من حديث أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال: (إذا جمع الله الناس في صعيد واحد يوم القيامة أقبلت النار يركب بعضها بعضا وخزنتها يكفونها وهي تقول: وعزة ربي لَتُخَلٌّن بيني وبين أزواجي، أو لأغشَيَن الناس عنقا واحدا، فيقولون: من أزواجك؟ فتقول: كل متكبر جبار) [1]
وفي رواية أخرى تقول: (وُكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم) أخرجه الإمام أحمد
وأخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق: تقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين) وصححه الترمذي.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البزار والطبراني من حديث ابن عباس قال: (أنا آخذ بحجزكم، فاتقوا النار اتقوا النار، اتقوا الحدود) وفي رواية للبزار قال (وأنا آخذ بحجزكم أقول: إياكم وجهنم، إياكم والحدود، إياكم وجهنم، إياكم والحدود، إياكم وجهنم، إياكم والحدود).
نحن هنا أمام أحداث كونية محكومة بمنطقية الطبيعة وبالمنطقية الأخلاقية معا، الموضوعتين والموزونتين معا بميزان الله. إن ما جاء عن الآخرة والنار في العقيدة الإسلامية يبين أننا أمام حدث محكوم بميزان الله، ما يطلق عليه الناس تجوزا أو تجاوزا: قوانين الطبيعة، ونصحح القول فيه لنقول: قوانين الكون الموزون بموازين الله. إن هذا الحدث لا يهدد الكفار والعصاة فحسب، ولكن يخشاه الملائكة والنبيون كذلك. مما يدل على صرامة قوانين الله ونفاذ مشيئته وسننه في الكون والوجود: يقول - تعالى - في شأن الجماد: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) 74 البقرة.
ويقول عن الملائكة والأنبياء جميعا: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين) 26-29 الأنبياء. ويقول - تعالى -لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة، ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) 39 الإسراء.(5/280)
وأخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة في حديث الشفاعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شفاعة الأنبياء: (فيأتون آدم أي يطلبون منه الشفاعة فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري.. ) ثم ذكر مثل ذلك عن نوح وموسى وعيسى: (إني أخاف أن يطرحني في النار) وفي رواية للبخاري جاء فيها (ولم يزل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون يخافون النار، ويخوفون منها).
وروى ابن أبي الدنيا من حديث فضالة عن أشياخه قال: (إن لله - عز وجل - ملائكة لم يضحك أحدهم منذ خلقت جهنم)
فما فعلة الكافر تلك؟ إنها بمنطقية السنن والقوانين وبساطتها وهولها معا: (كذب وتولى)، ومن ثم كان التارك المتروك، ترك الله فانطبق عليه قانون الكون الإلهي، هذا الكون الموزون، المحكوم بنظام، أي: تركه الله، ويا لهول من يتركه الله، ويا لضياعه (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) 34 الجاثية. (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) 26 ص (نسوا الله فنسيهم) 67 التوبة (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) آخر الفرقان
ويأتي مقياس القيم ليكون هو المدخل إلى منهج الإسلام في طلب الآخرة فتأتي الدنيا وهي راغمة
نعم ليأخذ بيدنا ونحن نتعثر إذ نحتاج ونحن في قلب هذه الحياة الدنيا وزخرفها إلى مقياس نعرف به ما هو من الدنيا وما هو من الآخرة؟
وإذن فالمقياس واضح في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله رسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وروى الإمام مسلم بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن أول ما يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت القرآن وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال.. فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن تنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي به في النار).
ويشرح الإمام الغزالي هذا المقياس فيقول: (كل ما ليس لله فهو من الدنيا، وكل ما هو لله فليس من الدنيا).
ثم يُرجع الأمر إلى أن التفرقة بين الحالين تقوم على طبيعة العمل وعلى القصد معا
ويقول على سبيل التفصيل: (الأشياء ثلاثة أقسام: منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو المعاصي والمحظورات، وأنواع التنعم بقصد التلذذ في المباحات.
ومنها ما تكون صلته لله ويمكن بالقصد أن يكون لغير الله مثل الفكر والذكر والكف عن الشهوات، فإن هذه الأمور إن كان الغرض منها مجرد حفظ المال والبدن والاشتهار بالتقوى فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى، وإن كانت صورته أنه لله. وإذا جرت سرا أو لم يكن عليها باعث سوى الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا.
ومنها ما تكون صورته لحظ النفس، ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح، فإن كان القصد حظ النفس فهو من الدنيا، وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى والحصولَ على رضا الله فهو لله، وإن كانت صورته من الدنيا. )
ثم يقول: (فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذن: الدنيا حظ نفسك العاجل، الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله - تعالى -: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى). 39-41 النازعات
ومجامع الهوى خمسة أمور وهي ما جمعه الله - تعالى -في قوله - تعالى -: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) 20 الحديد، والأمور العينية التي تتحقق منها سبعة، يجمعها قوله - تعالى -(زين للناس حب الشهوات من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب، قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) 13-15 آل عمران. ) اهـ
وعلى الذهب والفضة يقاس اليوم الدولار وما شابه، وعلى الخيل المسومة يقاس اليوم العربات والطائرات واليخوت وما شابه، وعلى الأنعام والحرث يقاس اليوم المصانع وما شابه.
يقول الإمام الغزالي: (فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت والمسكن والملبس إن قصد به وجه الله فهو لله، والاستكثار منه تنعم وتلذذ وهو لغير الله، وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة، وللحاجة طرفان ووسط: طرف يقترب من الضرورة فلا يضر، فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، وطرف يقترب من التنعم فينبغي أن يحذر منه، وبينهما وسائط متشابهة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) [2]
إن اهتزاز القيم الذي يعانيه المسلم المعاصر منشؤه اهتزاز نظرتنا إلى الآخرة والدنيا اهتزازا عقائديا خطيرا
جاء في صحيح البخاري باب قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كنْ في الدنيا كأنكَ غَرِيب، أو عابرُ سَبيل» وروى بسنده عن عبدِ اللّه بن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: «أخذ رسولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: كن في الدّنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سَبيل». وكان ابنُ عمرَ يقول: «إذا أمسيتَ فلا تنتَظِر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء. وخُذْ من صحتِكَ لمرضِك، ومن حَياتِك لموتك ».
وفي جامع الترمذي: بسنده عن مُجَاهِدٍ عنْ ابنِ عُمرَ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِبَعْضِ جَسَدِي فقَالَ: «كُنْ فِي الدّنْيَا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ»، فَقَالِ لِي ابنُ عُمر: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تُحَدّث نَفْسَكَ بالمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تُحَدّثْ نَفْسَكَ بالصّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي يَا عَبْدَ الله ما اسْمُكَ غَداً ».
وفي مسند الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمر، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي، فقال: «اُعْبُدِ الله كَأَنّكَ تَرَاهُ، وَكُنْ فِي الدّنَيْا كَأَنّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيل ». وفيه بسنده عن ابن عمر أيضا قال: أَخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوبي، أَو ببعض جسدي، وقال: «عبدَ الله: كُنْ كَأَنّكَ غريب أَوْ عابر سبيل، وَعُدّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ».
نعم،. فنحن لا يمكن أن ندرك ميزان القيم الصحيح فيما بين الدنيا والآخرة دون أن ندرك أن الإنسان موجود في هذه الحياة الدنيا لا لتستغرقه بمتعها ونعيمها وأهوائها.(5/281)
ولكي نرجع إلى الميزان الدقيق للقيم علينا أن نتأمل كثيرا في قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه ابن ماجة بسنده عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا. فَقَالَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَ الّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ، مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا. وَلَوْ كَانَتِ الدّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَىَ كَافِراً مِنْهَا قَطْرَةً أَبَداً ».
وفي سنن الترمذي بسنده عن سهلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَتْ الدّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ». وَفي البَابِ عن أَبِي هُرَيْرَةَ. قال أبو عِيسَى: هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
إن التأمل في هذا الحديث يعيدنا إلى الوضع الصحيح في ميزان القيم.
إنه يقرر أن الأشياء 0 المقتنيات الأموال الألقاب المناصب النساب -.. هذه الأشياء معطيات هذه الحياة الدنيا تأخذ قيمتها من إرادة من هي في يده أو في أيديهم.
لوحة لفان جوخ بيعت بسبعة وثمانين مليون دولار: ماذا يعني هذا؟
فوز في مباراة التنس نال فيها الفائز عددا من ملايين الدولارات؛ ماذا يعني هذا؟
لنتوقف ولنخرج قليلا من طابور هذه الحياة، ولنتأمل.
هل يعني أن اللوحة تساوي سبعة وثمانين مليون دولار؟ أم تعني أن السبعة والثمانين مليونا هذه تساوي لوحة؟ أيهما يعطي القيمة للآخر؟
إذا كان عمل س من الناس راقصة مثلا ثمنه مليون مثلا فما ذا يعني هذا؟ هل يعني أن هذا العمل يساوي المليون، لأم يعني أن المليون يساوي هذا العمل؟
الحديث الذي ذكرناه يعيدنا إلى ميزان القيم الصحيح.
إنه يعني لا أن الكافر قيمته هذه الدنيا، ولكنه يعني أن هذه الدنيا قيمتها هذا الكافر.
وإذا كان الكافر لا يساوي عند الله شيئا فهذا يعني أن الدنيا التي أخذها لا تساوي عند الله شيئا.
إن عقيدة المقَيِّمين أو إرادتهم هي الأساس في إعطاء شيء ما قيمة. فإذا تغيرت العقيدة تغيرت قيم الأشياء.
ولما كان الأمر كذلك فطريقنا نحن المسلمين إلى تقييم الأشياء يرجع إلى العقيدة الإسلامية وإرادتنا النابعة منها المسلمة أمرها إلى إرادة الله.
علينا أن نعطي الأشياء قيمة أو لا نعطيها وفقا لما جاءنا به الوحي: عقيدة وشريعة، أمرا ونهيا، وأحكاما ومقاصد. وعندئذ لا تختل نظرة المسلم عندما ينظر إلى متع هذه الحياة الدنيا وقد أعطيت كأوسع ما تكون لكافر أو لص أو عاهر، فيظن أن هذا الكافر أو اللص أو العاهر قد ارتفعت قيمته. وإنما عليه أن يتيقن أنها وقد أعطيت للكافر أو اللص أو العاهر فهذا يعني أنها وقد أخذت مقطوعة عن الآخرة فهي لا قيمة لها.
إنه يحق له أن يتألم عندما يرى ذلك ولكن لا يحق له أن يتحسر أو يحسد. عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا حسَدَ إلاّ في اثنَتينِ: رجُلٍ آتاهُ اللهُ مالاً فسلّطهُ على هَلَكتهِ في الحقّ، ورجُلٍ آتاهُ اللهُ حِكمةً فهو يَقضِي بها ويُعلّمها». رواه البخاري بسنده.
يتألم لأن ميزان القيم قد اختل في أيدي الناس وأصبحت له السيطرة على شئونهم وحياتهم، وانتصر الضلال، وسيطر الفساد، ولا يتحسر لأن متعة الدنيا قد أصبحت بيد الكافرين.
يتألم لأن المسلمين بدلا من أن يعملوا على إرجاع ميزان القيم الأخروية إلى وضعه الصحيح حسب التكليف الرباني لهم فيعلون من قيمة التقوى والجهاد ولأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب مرضاة الله.. بدلا من ذلك أخذوا يساهمون في المعاصي، ويعملون على ترسيخ قيم هذه الحياة الدنيا من الجري وراء المتعة واللهو والأكل في سبعة أمعاء.
إن مجرد تحسر المسلم على زينة الحياة الدنيا وأنها في يد الكافر أو اللص أو العاهر.. وحسده عليها.. إن مجرد هذا التحسر أو الحسد يعني أن لديه اختلالا في ميزان القيم وأنه لا يرتبط ارتباطا وثيقا بتعاليم الإسلام في الدنيا وزينتها، وعليه أن يتحرك فورا لتصحيح الميزان، ووضع الدنيا في وضعها الصحيح وفقا لتكليف الله وإرادته الإصلاح في هذه الأرض.
لقد مر المسلمون بمراحل من التدهور منذ أن اختلت في أيديهم قيمة هذه الحياة الدنيا وقيمة الآخرة، وكان آخر مراحل هذا التدهور خضوعهم لموجة عاتية من الاستعمار، وعندما جاء الاستعمار قالوا: الحل في رحيل هذا الاستعمار، وعندما رحل ولم يتحقق شيء مما أملوه قالوا: الحل في تغيير الأنظمة السياسية، وعند ما غيروا ما غيروا من هذه الأنظمة ولم يتحقق ما أملوه قالوا: الحل في الديموقراطية، وعند ما غيروا ما غيروا من هذه الأنظمة ولم يتحقق ما أملوه قالوا: الحل في الديموقراطية، ولما تخبطوا في دهاليز الديموقراطية وعفونة التزوير فيها وأمراض الإيدز الناشبة في أسسها وأركانها حق لهم أن يقفوا مبهوتين يتساءلون عن الحل، وهم في هذا كله كانوا وما يزالون أشبه بتلميذ خائب، أتيحت له ظروف مواتية تنقلت به من سنة دراسية إلى أخرى: دون امتحان حقيقي، فلما جاءت سنة الشهادة الأخيرة اكتشفوا أنه لا يستحقها فنزلوا به عاما، ثم عاما، ثم عاما، إلى أن وصلوا به إلى ألفباء.
هم كذلك اليوم يكتشفون أنهم مازالوا عند ألفباء الحل الإسلامي.
إن الحضارة الأوربية المعاصرة اختارت وحسمت قرارها وانتهى الأمر، كان قرارها منسجما تماما مع قوله - تعالى -: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها.. ). قرار يتصف لديهم بالاتساق والانسجام الداخلي، وإن تناقض مع قانون الخلود قانون الآخرة الذي نبذته.
وبمقدار اتساقها ذاك أثمرت؛ أثمرت شجرة الزقوم.
أما المسلمون فالأصل في حضارتهم أنها تقوم على التسليمية لله والأخروية في القيم، ولكنهم لم يأخذوا بهذه أو بتلك، كالشاة العائرة بين الغنمين، التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمارواه مسلم بسنده عُبَيْدُ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ. تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً، وَإِلَىَ هَذِهِ مَرّةً ».
ويقول عيسى - عليه السلام - فيما ردده التراث الإسلامي: (من الذي يبني على موج البحر دارا؟ تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا) وقيل له: (علمنا علما واحدا يُحبنا الله عليه؟ قال: أبغضوا الدنيا يحبكم الله - تعالى -)
إننا لا يمكن أن ندرك ميزان القيم الصحيح فيما بين الدنيا والآخرة دون أن ندرك أن الإنسان موجود في هذه الحياة الدنيا لا لتستغرقه بمتعها ونعيمها وأهوائها، ولكنه وجد فيها ليقوم برسالة تكليفية؛ رسالة تكليفية بمقتضى نزوله إليها ليكون خليفة، ليبني حضارة وفق تعاليم الله. نعم: عابر سبيل مكلف، وليس عابر سبيل تائها. هذه المهمة التكليفية في هذا العبور هي التي تقتضي ميزانا دقيقا للعلاقة بين الدنيا والآخرة توجب على الإنسان أن يظل على رعاية له في كل لحظة.
في أحد كفتى الميزان: الدنيا مقطوعة عن الآخرة لا قيمة لها
وفي الكفة الأخرى: الدنيا كطريق موصول بالآخرة لها قيمة فاعلة.(5/282)
ماذا حصل للمسلمين في حساب هذا الميزان؟ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع ومن بطن لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع). وفي شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: قوله من علم لا ينفع أي لا يهذب الأخلاق الباطنة فيسري منها إلى الأفعال الظاهرة ويحصل بها الثواب الأجل وأنشد:
يا من تقاعد عن مكارم خلقه *** ليس افتخار بالعلوم الزاخرة
من لم يهذب علمه أخلاقه *** لم ينتفع بعلومه في الآخرة
قال الطيبي فيما نقله عنه السيوطي: إعلم أن في كل من القرائن الأربع ما يشعر بأن وجوده مبنى على غاية وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلوم إنما هو للانتفاع بها فإذا لم ينتفع لا يخلص منه كفاف، بل يكون وبالا، فلذلك استعاذ منه، وأن القلب إنما خلق لأن يخشع لربه، وينشرح لذلك الصدر، ويقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك كان القلب قاسيا فيجب أن يستعاذ منه، قال الله - تعالى -"فويل للقاسية قلوبهم"، وأن النفس إنما يعتد بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود والنفس مهما كانت منهومة لا تشبع حريصة على الدنيا كانت أشد عدو للمرء، فأولى ما يستعاذ منه هي، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه ولم يخشع قلبه ولم تشبع بطنه إهـ السيوطي
والحق أن التغير الاستراتيجي الذي أصاب المجتمع الإسلامي كان من هنا: لقد أصبنا بهذه الأربع المستعاذ منها في ميزان الآخرة: لم تكن الكارثة سياسية بقدر ما أنها كانت ثقافية؛ اشتغلنا بالعلم الذي لا ينفع وما زلنا نشتغل به: في المتشابهات، في خلق القرآن، في العلاقة بين الذات والصفات، في العقول العشرة، في الجبر والاختيار، في الحقيقة المحمدية، والحكومة الباطنية، في رجعة الأموات في الدنيا، في صفة البراق وعدد أجنحته، إلخ وأصبنا بالبطن التي لا تشبع.
جاء في كتاب التواضع والخمول لابن أبي الدنيا بسنده عن يحيى بن عقيل قال: قال: علي بن أبي طالب لعمر رضي الله - تعالى -عنهما: إن أردت اللحوق بصاحبيك فاقصر الأمل، وكل دون الشبع، وانكس الإزار، وأخصف النعل تلحق بهما.
وفي فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل بسنده عن سفيان قال: قال رجل لعلي: إن أردت أن تكون مثل عمر فاخصف نعلك وشمر ثوبك وكل دون الشبع.
وفي المعجم الكبير للطبراني بسنده عن عكرمة عن بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع في الآخرة غدا.
وفي الآحاد والمثاني: بسنده عن عمرو بن الأسود العنسي رضي الله - تعالى -عنه أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة الأشر.
وفي لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قالت عائشة رضي الله - تعالى -عنها " أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع فان القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم " أخرجه البخاري في الضعفاء.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفا من ناحية سنده، لكن معناه يتفق مع تطور المجتمعات، وربما كان العكس صحيحا أيضا وهو أن القوم لما جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا نتيجة اختلال في ميزان القيم لديهم أشبعوا بطونهم.
يقول أبو طالب المكي: (مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار إنما صوته لخفته ورقته، لأنه أجوف غير ممتلئ، وكذلك الجوف إذا خلا.. )
وهكذا الجوف كالمزهر إذا امتلأ: لا صوت. !
وروي أن عيسى - عليه السلام - مكث يناجي ربه أوقاتا طويلة، لم يأكل فيها، فخطر بباله الخبز، فانقطع عن المناجاة، فإذا رغيف بين يديه، فجلس يبكي؛ علام يبكي وقد جاءه الخبز؟ هذا سؤال يطرحه أهل البطون، أما عيسى - عليه السلام - فقد بكى، بكى على فقد المناجاة،، إذ أدرك خطر الانشغال بالحصول على الرغيف. هذا الانشغال الذي نتمرغ في أوحاله صارفا للجمهور عن كل مشروع للإصلاح.
وهذا يطرح السؤال الآتي: ما فائدة الجوع الإرادي عند من يمارسونه وهم قادرون على الشبع كما هو شأن الدرس الرمضاني؟
من فائدته فيهم زوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله.
من فائدته فيهم: ألا ينسى الواحد منهم بلاء الله فلا ينسى أهل البلاء.
من فائدته فيهم: كسر شهوات المعاصي والسيطرة على النفس الأمارة بالسوء.
على كل حال لقد أصبنا بهذين المرضين: علم لا ينفع، وبطن لا تشبع، وعندما يصاب المرء بهذين المرضين فإنه يصاب بعد ذلك بالقلب الذي لا يخشع وبالعين التي لا تدمع. وفي النهاية: بالجوع الذي لا يردع
ومن هنا اجتمعت لنا أسباب التأخر والانحطاط.
إن سر تأخر المسلمين لا يكفي أن نقول فيه: إنه البعد عن كتاب الله وسنة رسوله،
لأننا لو اكتفينا بهذا الجواب ستظل الدهشة عالقة بأذهان الكثيرين منا، إذ يرون أن الغالبية الساحقة منا تردد هذا السبب، والكثيرون منهم يتمنون الأخذ بالكتاب والسنة، حلا لمشاكلنا، ويبقى السؤال بعد ذلك قائما: ما السر في أننا لا نقتحم هذا الحل ونأخذ به فعلا؟
في أعماقنا أنا لا نريد.
والسر في هجران الآخرة كمنهج عملي
والله أعلم
-----------
[1] تخويف.. ص 230
[2] أنظر إحياء العلوم ج3 ص 210
http://al-shaab.o صلى الله عليه وسلم g المصدر:
================
حوار الحضارات الجذور والتاريخ
شهد العالم في الخمس والعشرين سنة الأخيرة العديد من التغيرات الأيدلوجية التي دفعته إلى حقبة جديدة وشكل غير مسبوق من الصراعات والحروب والتدمير وتحول العالم عبر انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية بعد أن كان ثنائي الأقطاب [بتوازن القوى بالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية] إلى عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأمريكية التي تشهد نهضة حضارية قوية خاصة في مجالات العلوم المختلفة والتكنولوجيا ولعل هذا المشهد لا غرابة فيه أما المشهد الذي يليق به الاستغراب حقا فهو مشهد العالم وهو يعيش فترة سيطرة أحادية القطب [الولايات المتحدة الأمريكية].
ثم هو بعد ذلك يعاني من ويلات الحروب والتدمير والإبادة أضعاف ما كان يعاني وهو في الوضع الثنائي القطب وهو الوضع الذي تسعى فيه كل حضارة أو بالأحرى قطب من الأقطاب للهيمنة على العالم ولذا فالغالب المتوقع في حال سيطرة ثنائي الأقطاب على العالم حدوث مصادمات فيما بينهم وهذا المشهد متكرر على مدار أزمنة التاريخ فمن الصراع الدائر بين الفرس والروم إلى انجلترا وفرنسا إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية وبين كل حقبة وأخرى من هؤلاء تتنوع الأمثلة وتتعدد الأشكال لحضارات تتصارع لتحقيق الهيمنة على العالم أما أن توجد حضارة واحدة يظهر من واقع العالم أنها الحضارة المسيطرة المهيمنة ثم بعد ذلك نرى مزيدا من الحروب والويلات والتدمير وملامح الاضطراب على الساحة العالمية بادية لا تخفى على أي ناظر فهذا هو المشهد الذي لا بد من الوقوف عنده وتأمله مليا للوصول إلى لبه ومضمونه.
إن وضع تصور حاكم للعلاقات بين الحضارات المختلفة كان الهم الشاغل للعديد من المفكرين والسياسيين والمنشغلين بتحليل الوضع الراهن للمنظومة العالمية حتى يمكن التوصل للفهم الناضج الواعي لطبيعة الأحداث ومن ثم محاولة الانتفاع بها وسوقها في الاتجاه المفيد النافع للبشرية وبناءا على ذلك فقد انطلقت العديد من النظريات تحاول جاهدة فهم وتحليل الواقع ومحاولة توجيه دفته إلى ما فيه النفع لعموم البشرية وظهرت أقوى تلك الأطروحات أو بالأحرى ما كتب له العيش منها على النحو التالي:(5/283)
قبل ما يقارب من عقدين من الزمان والعالم ما زال في ذلك الوقت يتعامل بواقع ثنائي القطب إلى حد ما خرج المفكر الفرنسي روجيه جارودي على العالم أجمع بنظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض وسماه بـ' حوار الحضارات ' ولكن مشروعه كان يتسم بسمة أساسية ألا وهي النقد الشديد للهيمنة الغربية والسيطرة الأمريكية حتى أنه بشر في ثنايا نظريته بزوال الغرب عموما لكن هذه الصيحة وأخواتها من جانب جارودي أو غيره من المفكرين والساسة الذين سعوا إلى وضع نظرية أو قاعدة تحكم وتفسر واقع المجتمع العالمي لم تجد الصدى اللائق بها في ذلك الوقت لواقع الصراع القائم والمسمي بالحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم بدأت نظريات أخرى بالصعود إلى السطح والظهور لتفسير كيفية تعامل القطب الأحادي مع العالم في ضوء الواقع الجديد ومن هذه النظريات ما خرج به الأمريكي الجنسية الياباني الأصل 'فوكوياما' بما يسمى ويعرف بنظرية نهاية التاريخ تلك النظرية التي انتشرت سريعا لتتداعى بسرعة أكبر ومفادها تصوير انتصار الرأسمالية على الأرض أنها نهاية التاريخ وأن الإنسان الأمريكي هو من وصل إلى أقصى مستوى حضاري ممكن وبالتالي فهي نظرية نهاية الإنسان والتاريخ ثم تلا هذا المشهد مشهد آخر في أواخر صيف 1993 م وكانت أول شرارة أشعلت المشهد مقالة نشرت في صحيفة [الشؤون الخارجية] للمفكر الأمريكي الشهير صمويل هتنجتون تحت عنوان [صدام الحضارات] والتي حاول فيها قراءة مستقبل العالم المعاصر وقرر فيها أن الصراع في خلال القرن القادم سيكون صراعا بين الحضارات وليس صراعا اقتصاديا أو أيدلوجيا وقد حدد في نظريته تلك سبع حضارات أساسية يتوقع أن يلتهب بينهم الصراع ولا بد في هذا الصراع من زوال البعض وخضوع البعض الآخر لهيمنة الأقوى وقرر في النهاية أن الحضارات المتوقع لها الاستمرار حتى النهاية لما تحمله من إمكانيات ومقومات للبقاء هي ثلاث حضارات الإسلامية والغربية والكونفوشيوسية [حضارة الصين] وحذر العالم الغربي من تحالف الحضارة الإسلامية مع نظيرتها الكونفوشيوسية في إشارة إلى إمكانية حدوث تحالف نووي بين الصين وبعض الدول الإسلامية.
مقالة هتنجتون أثارت عاصفة من الانتقادات والجدل حول المفاهيم التي تضمنتها وقابل هتنجتون ذلك بالرد أنه على الرغم من إمكانية الاعتراف بوجود ثغرات في نظرية صراع الحضارات إلا أن المعارضين والرافضين لهذه النظرية لم ينجحوا أن يقدموا بديلا في طرحهم يوازيها في الواقعية والوضوح وبأن نظرية صراع الحضارات وهذا من وجهة نظر هتنجتون بالطبع هي خير وأفضل تصور موضوع للمستقبل في القرن القادم.
ولعل من الجدير بالذكر ردا على دعوى هتنجتون أن أحدا لم يطرح البديل المناسب أقول لعل من المناسب في هذا المقام بيان أن العديد من المفكرين والساسة الذين عارضوا نظرية صراع الحضارات والفكرة القائمة عليها قد طرحوا لها بديلا قويا ألا وهي نظرية حوار الحضارات كوسيلة لتجنيب المجتمع ويلات الحروب والقتال.
وتم إنشاء العديد من المؤتمرات والجمعيات والمؤسسات الداعية لترسيخ سياسة الحوار والتفاهم والتعايش السلمي بدلا من الصدام وتبني العديد من الكتاب هذه النظرية ودعوا إلى تنمية الحوار بين العالم الإسلامي والغرب حتى يمكن لكل طرف أن يتفهم الآخر ويتعايش معه وقد حددت الأمم المتحدة عام 2001 م عام حوار الحضارات وعينت مندوبا متخصصا لهذا المنصب.
إلا أن أطروحة حوار الحضارات لم تخل من جدل شديد ونقد دائم مستمر حتى من جانب المفكرين المسلمين ولم يقف الجميع فيه على نسق واحد فمن رافض للفكرة من أساسها لعدم واقعيتها فكيف ستتحاور مع من يهدم بيتك ويشرد أهلك في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي إلى فريق آخر مؤيد للفكرة على الإطلاق وداع لها بغض النظر عن الواقع الحالي للأمة وفريق ثالث لا يستوعب المعنى المقصود من حوار الحضارات بل يحتفظ كل فرد في الفريق الثالث بفهم خاص له لهذا المصطلح.
ونحن بادئ ذي بدء لا نريد الوقوف مع واحد من تلك الفرق بدون نظرة محايدة منصفة قدر الإمكان ودراسة متأنية فالأمور لا تؤخذ كردود أفعال أو بدعوى الدفاع عن تهم لم نرتكبها أصلا أو بحكم العواطف والمشاهد الدامية كلا فالأمر يتعلق بمستقبل أمة وعلى الأمة أن تقرر طبيعة وشكل الطريق الذي تختار هي سلوكه في المرحلة القادمة بناءا على فهم واضح دقيق لأبعاد المصطلحات وحكم واضح صريح من علماء الأمة ومفكريها وقادتها مبني على قياس دقيق للمصالح والمفاسد.
بناءا على ما سبق يلزمنا إلقاء الضوء على نظرية حوار الحضارات وتحديد المقصود الدقيق بهذا المصطلح ثم بعد ذلك قياس حجم المصالح والمفاسد المترتبة على العمل بمقصودها ومن ثم تتضح إمكانية الحكم عليها.
' إن على الحضارات أن تكون قاعدة من الثوابت المشتركة فيما بينهم وتنطلق من خلال هذه القاعدة إلى حوار يؤمن بالتعددية وعدم هيمنة حضارة على الأخرى، هذا الحوار سيمكن كل طرف من تفهم الآخر والتعايش معه بدلا من الاصطدام والحروب ' هذه هي خلاصة نظرية حوار الحضارات وقبل أن نتسرع بإصدار الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب علينا أن نوضح بعض المحاور الرئيسية وهي:
7 شعبان 1425هـ - 21 سبتمبر 2004 م
http://www.islammemo.cc المصدر:
==============
إعصار كاترينا .. القدر يكشف هشاشة الحضارة الأمريكية
أ. أحمد محمد إبراهيم
هل هو عقاب إلهي لما ارتكبه الأمريكيون من مجازر وانتهاكات بحق العراقيين؟
تابع العالم بذهول هشاشة ما يسميه القوة العظمى الوحيدة على كوكب الأرض، وهي تواجه صعوبات في التعامل مع عواقب الإعصار كاترينا أو كما يقال "وهي غارقة في شبر مياه"!.وقال البعض إن الفوضى تكشف مدى التصدعات والانقسامات العميقة في المجتمع الأمريكي.
وعبر زعماء العالم والمواطنون العاديون عن التعاطف مع سكان جنوب الولايات المتحدة ومعظمهم من السود والملونين الذين عصف بهم الإعصار وما أعقبه من فيضان.
لكن كثيرين صدمتهم أيضا حالة الفوضى التي نقلت صورها إلى أنحاء العالم، مذكرة بالفوضى التي سمح بها جيش الاحتلال الأمريكي للغوغاء بنهب وسلب الممتلكات العامة إثر سقوط العاصمة العراقية بغداد، والتي بدت في الحالتين على أنها جزء من الثقافة الأمريكية التي يبشر بها بوش العالم!.
فقد انتشرت أعمال السلب في الشوارع المليئة بالحطام وآثار الكارثة بينما آلاف الجثث ملقاة في الشوارع والمستنقعات المائية وتحت الأنقاض، وآلاف الناس الذين ظلوا على قيد الحياة تجمعوا في "نيو أورليانز" بانتظار ما ستقدمه لهم السلطات من طعام وماء وأغطية.
وكأن المشهد الدرامي الذي لحق بمدن الجنوب الأمريكي جاء انتقاما لما ارتكبته قوات الاحتلال الأمريكي من مجازر بحق آلاف الأسر العراقية من أطفال وفتيات ونساء ورجال، وما تبع ذلك من أعمال اغتصاب وانتهاك لحقوق الإنسان.
صحيفة "الصن" الأوسع انتشارا في بريطانيا وصفت المشهد بالقول: "فوضى في الولايات المتحدة".
بينما كانت صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية اليومية أكثر تأثرا بالكارثة فكتبت عنها تحت عنوان: "نهاية العالم الآن".(5/284)
وقد أعادت صور الكارثة التي قتلت الآلاف، إلى الأذهان ذكريات الأزمات في أفقر دول العالم مثل موجات المد "تسونامي" العام الماضي في آسيا التي خلفت أكثر من 230 ألفاً بين قتيل ومفقود. لكن البعض يرى أن التحرك المسؤول من قبل المسؤولين والناجين إزاء تلك الكوارث كان أعلى مستوى أخلاقي من التسيب والنهب الهمجي الأمريكي الذي أعقب الإعصار كاترينا.
وقال ساجيوا شيناتاكا، 36 عاما، وهو يتابع مباراة كريكيت في كولومبو بسيريلانكا: "أنا أشعر بالاشمئزاز تماما. بعد موجات المد أراد شعبنا حتى من فقدوا كل شيء مساعدة الآخرين الذين كانوا يعانون. لم يتعرض سائح واحد للسلب في المنطقة أثناء موجات المد. الآن وفي ظل كل هذا الذي يحدث في الولايات المتحدة يمكننا أن نرى بسهولة أين يقع الجزء المتحضر من العالم".
وأبرزت كثير من الصحف ـ كما تقول الشرق الأوسط ـ الانتقادات للسلطات المحلية وعلى مستوى الولايات وللرئيس الأمريكي جورج بوش. وقارن البعض بين الجهد الأخرق في عمليات الإغاثة والكميات الهائلة من الأموال والموارد التي توجه للعدوان على العراق، من أجل تحقيق مصالح فئة من العسكريين وصناع السلاح وتجار البترول المتحكمين.
وقالت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية ذات الميول اليسارية "إن غرق مدينة حديثة في الماء والفوضى مشهد قاس فعلا لمدافع عن الأمن مثل بوش".
وأضافت أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي يعيش مبتهجا بعيدا.. لا بد أنه يكاد يموت من الضحك".
وقالت موظفة في شركة عالمية في كوريا الجنوبية إنها ربما ليست مصادفة أن لحق الضرر بالولايات المتحدة.
وأضافت الموظفة التي رفضت نشر اسمها حيث إن لها مديراً أمريكيا: "ربما كان عقابا لما فعلته في العراق. كثير من الناس الذين أعمل معهم يفكرون بهذه الطريقة. تحدثنا عن هذا الأمر في ذلك اليوم".
وأشار معلقون إلى أن الغالبية الساحقة من ضحايا الإعصار، أمريكيون سود منعهم الفقر من الفرار من المنطقة مع اقتراب الإعصار على عكس بعض من جيرانهم البيض.
وتحتل "نيو أورليانز" المركز الخامس في الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسكان الأمريكيين السود وتبلغ نسبة السود بين سكان المدينة 67 في المائة.
وقال تقرير في صحيفة "الغارديان" البريطانية: "يكتسب الأمر بعدا عنصريا في واحدة من أفقر ولايات البلاد حيث يكسب السود نصف ما يكسبه البيض".
وقال وزير خارجية لوكسمبورغ "جان اسلبورن" في انتقاد مغلف للفكر السياسي الأمريكي إن الكارثة أظهرت الحاجة إلى دولة قوية يمكنها أن تساعد الفقراء.
وقال طبيب التخدير "ديفيد فوردام" (33 عاما)، متحدثا في محطة لمترو الإنفاق في لندن، إنه أمضى وقتا في الولايات المتحدة ولم يفاجأ بأن البلاد وجدت صعوبة في التعامل مع الوضع.
وأضاف: "ربما فكروا ببساطة أنه يمكنهم الجلوس في الهواء الطلق وسيكون كل شيء على ما يرام، لكن الأمر لا يصدق على أية حال".
وقد توقعت شركة "ريسك مانجمنت سوليوشنز" الأميركية المتخصصة في إدارة الكوارث، أن تتجاوز قيمة الأضرار التي ألحقها الإعصار "كاترينا" الذي اجتاح الاثنين الماضي لويزيانا ومسيسيبي، مائة مليار دولار.
وأوضحت الشركة أن نصف هذه الكلفة على الأقل ناجم عن الأضرار التي سببتها الفيضانات التي اجتاحت نيو أورليانز.
وكانت الشركة قد قدرت الاثنين قيمة الأملاك المدمرة والتي تحظى بتغطية شركات تأمين بـ 25 مليار دولار.
وقالت المجموعة الأميركية إن هذا التقدير ينبغي إعادة النظر فيه إثر تصدع سدود تحمي أكبر مدن لويزيانا.
01-شعبان 1426 هـ
04-سبتمبر-2005
http://www.lahaonline.com المصدر:
=============
الحرية وازدهار الحضارة الاسلامية
- د. عمرو اسماعيل
كلما ناقش البعض ممن ينتمون الي التيار الليبرالي التحجر الفكري لبعض جماعات الاسلام السياسي وهجومهم علي رموز التنوير في عالمنا بدءا بمحمد عبده وقاسم أمين ومرورا بعلي عبد الرازق وطه حسين وانتهاءا بنجيب محفوظ وغيره من دعاة حرية الفكر في العصر الحالي ..دعاة الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة التي أصبحت حقيقة واقعة .. ففصل الدين عن الدولة في المجتمعات العربية اصبح حقيقة تاريخية لا يمكن الرجوع عنها وكل ما ينقصها هو التحول الكامل الي الديمقراطية ..ذلك التحول الذي تقاومه الحكومات الديكتاتورية والاهم تقاومه جماعات و أحزاب الاسلام السياسي لأن هذا التحول سيسحب البساط نهائيا من تحت اقدامها ويحولها الي فولكلور ممكن أن تذكر في كتب التاريخ كجماعات سببت صداعا في الربع الاخير من القرن العشرين و أوائل القرن الحالي وقامت بعمليات ارهابية وسفكت دماء بريئة كثيرة ولكنها لن تستطيع تحقيق أكثر من ذلك مهما فعلت و دمرت وقتلت .. فمصيرها الذي لا مفر منه هو متاحف التاريخ كظاهرة عديمة الحيلة وسيئة السمعة
.. كلما ناقشنا هذه الجماعات و أوضحنا لهم الحقيقة التي لا يستطيعون أن يعوها وهي انهم مرحلة تعداها الزمن في مصر منذ مائتي عام وفي باقي الدول العربية في خلال القرن الماضي .. نجدهم يذكروننا بازدهار الحضارة الاسلامية في فترة زمنية معينة و أن الغرب قد أخذ عنا هذه الحضارة .. وهي حقيقة لا ينكرها أي من انصار الديمقراطية والليبرالية ..بالعكس فهي حقيقة تؤكد قولنا لا قولهم وهي حقيقة تؤكد أن الحضارة الانسانية هي حضارة متراكمة تستفيد مما سبقها وتفيد من يأتي بعدها وهي حضارة لن يقوم لها قائمة الا علي قواعد من الحرية.
.. فالمسلمون في فترة ازدهارهم استفادوا من الحضارة اليونانية وترجموا اهم انجازاتها الفكرية والغرب استفاد من الحضارة اليونانية والاسلامية خاصة عبر ابن رشد .. ثم انطلق حين سمح بحرية العقل وتخلص من كهنوتية الكنيسة بينما تبادلنا نحن معه المقاعد عندما وقعنا في فخ كهنوتية فقه النقل وثقافة العنعنة في اللحظة التي تم فيها ضرب كل رموز تلك الفترة من اصحاب العقل خاصة من المعتزلة ... لحظة انتصار اصحاب ثقافة النقل علي يد المتوكل العباسي وانتصاره لهم ..
الحقيقة أن الحضارة الاسلامية ازدهرت في فترة حرية العقل بدون حدود وشططه أحيانا وكل رموز هذه الفترة هم مثل طه حسين تماما بحثوا بعقولهم وقد اتهموا مثله بالزندقة والكفر احيانا ومعظمهم أن لم يكن كلهم من مدرسة المعتزلة والفلاسفة الذين كتب لهم ابو حامد الغزالي كتاب تهافت الفلاسفة .. حتي الفقهاء والأئمة من اصحاب مدرسة الراي مثل أبو حنيفة النعمان لم يسلم من اتهامات التكفير التي يمارسها البعض الآن علي يد أهم رموز مدرسة النقل ابن حنبل وسلسلته الممتدة حتي اليوم ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز وتلاميذهم .. ثم كل اتباع هذه المدرسة الذين انتشروا وسيطروا علي الشارع الاسلامي للأسف بقوة البترودولار .. حتي وصلوا الي مصر معقل التنوير في العصر الحديث ..
ويبدوا أن رائد مدرسة التكفير في العالم العربي وأهم رموزها هو ابن تيمية الذي كفر كل من أتي قبله من اصحاب مدرسة العقل من المعتزلة و الفلاسفة ..(5/285)
والغريب في الموضوع أنه اننا وامتدادا لحالة فصام الشخصية لا نجد من العلماء خارج الفقه من نفخر بهم الا اصحاب هذه مدرسة العقل وحريته التامة .. نتغاضي عن حقيقة تكفيرنا لهم واتهامهم بالزندقة من قبل ونذكرهم كمثال لفترة ازدهار الحضارة الاسلامية .. هذه الحضارة التي لم تزدهر الا بهم ولم تدخل حالة البيات الشتوي الا بعد القضاء عليهم مثلما يحاولون القضاء وأهالة التراب علي رموز التنوير في العصر الحديث ولتوضيح هذه النقطة فلنري معا راي ابن تيمية في هؤلاء :
ابن تيمية يسمي ارسطو واتباعه المشائين ، فابن تيمية يرى ان مذهب اكثر الاسلاميين الذين تكلموا عن الفلسفة في كتبهم مثل الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن رشد وغيرهم هو مذهب ارسطو، وينبه الى ان بعضهم مثل ابن سينا والسهروردي، له مذهبان، احدهما مذهب ارسطو والآخر ما يرجحه هو من اقوال.
وابن تيمية يكفر مريدي ارسطو ومترجميه من «الاسلاميين» في رأيه لمقالات كثيرة يقولون بها، منها: قدم العالم. ومنها: قولهم في النبوة، حيث ينقل عنهم انهم يرون ان للنبوة ثلاث خصائص، وهي: ان تكون للنبي قوة حدسية وقوة تخييلية وقوة نفسية، مما يبطل كونها من عند الله. ومنها: انكارهم لمعاد الابدان، فينقل ابن تيمية عن فلاسفة الاسلام انهم اختلفوا في معاد الابدان والنفوس على اقوال: انكار المعاد مطلقا او اثبات معاد النفوس العالمة دون الجاهلة او اثبات معاد النفوس جميعا دون الابدان ..
وذكر ابن تيمية ان هذه الاقوال جميعا منقولة عن الفارابي، وان منهم من يقول بالتناسخ، وقد عرض ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه لنقد ارسطو، واتهمه بانه من اجهل الناس برب العالمين، وبانه ساحر ووزير لملك ساحر هو الاسكندر المقدوني، ويبدو ان سبب هذه الاتهامات وغيرها ما نقله فلاسفة الاسلام عن ارسطو.و قد انتقد بل وكفر ابن تيمية كثير من الفلاسفة الاسلاميين اتباع ارسطو مثل: ابن سينا وابن رشد ونصير الدين الطوسي وغيرهم.والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على ردود الغزالي والشهرستاني عليهم و علي كتابات المتكلمين كالرازي والارموي وغيرهما ومن ردود بعضهم على بعض ولذا فردوده تكاد تخلو من الاصالة وتقتصر على «الترجيح» بين المختلفين، ولعل السبب في هذا هو ان دراسة ابن تيمية للفلسفة لم تكن دراسة مقصودة لذاتها، بل كانت دراسة هدفها الحجاج مع المخالفين..
وقد هاجم ابن تيمية أيضا فلاسفة الصوفية بشدة قاسية، حيث كفر ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وغيرهم.وكذلك نقد ابن تيمية المنطق، لكن ما يهمنا هنا هو بيان سبب نقده له، فابن تيمية نقد المنطق لانه وجد ان من اصول فساد قول المتكلمين والفلاسفة في الالهيات هو ما ذكروه في المنطق.
اي أن ابن تيمية كفر الجميع .. علماء المسلمين الذين نفتخر بهم مثل ابن سينا والفارابي والرازي والكندي وكفر الصوفية ورموزها بل وهاجم المذهب الحنفي .. هذا طبعا غير تكفيره للشيعة وتسميتهم بالرافضة .. وهذا ما يعطي ابن تيمية الحق أن يكون زعيم مدرسة التكفير عن جدارة .. زعيم المدرسة السلفية ذات الصوت العالي الان التي كفر كل مدارس الفكر الاسلامي الأخري وتعتبر نفسها هي الفرقة الوحيدة الناجية .. هذه المدرسة التي افرخت كل مظاهر التطرف والتعصب الديني الذي وصل به الأمر أن يستحل دم كل مخالف في المذهب والدين وهي المدرسة المسئولة عن كل العنف الذي ابتلي به عالمنا مهما حاولت أن تنكر ذلك الآن بعد أن وصل العنف الي عقر دارها ..
لقد كفر اصحاب هذه المدرسة رموز مرحلة ازدهار الحضارة الاسلامية .. الم تزدهر الحضارة الاسلامية في عصر الحرية علي يد هؤلاء العلماء والفلاسفة وأهل الكلام .. الم تندحر الحضارة الاسلامية عندما تحولت الي ثقافة النقل وخفتت اصوات ابن سينا والفارابي وابن رشد والمعتزلة بصفة عامة حتي تمت أعادة اكتشافهم في العصر الحديث .. هل هناك اختلاف بين مافعله ابن تيمية في السابق وما يفعله البعض الآن من اتهامات التكفير التي تطول رموز التنوير الاسلامي في العصر الحديث مثلما طالت رموز التنوير في العصر القديم .. حتي الاشاعرة الذين اخذوا موقفا وسطا بين أهل الكلام وبين أهل النقل والذين كانوا يمثلون الأغلبية في العالم الاسلامي وحتي الصوفية المعتدلة من انصار ابو حامد الغزالي لم يسلموا من التكفير في العصر القديم والحديث علي يد اتباع ابن تيمية ..
وحتي الامام الأعظم ابو حنيفة النعمان رائد مدرسة الرأي في الفقه الاسلامي لم يسلم من اتهامات التكفير علي يد أتباع نفس المدرسة ..
أن الحقيقة المرة التي لا يريد أن يعيها أتباع مدرسة التكفير أن الحضارة الاسلامية لم تزدهر الا في عصور الحرية الفكرية .. عصور فقهاء عظام من أمثال ابو حنيفة النعمان وجعفر الصادق و مفكرين وعلماء وفلاسفة عظام أمثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد ولكنهم هوجموا وكفر الكثير منهم علي يد اصحاب مدرسة النقل وخاصة ابن تيمية وصحبه ... حتي من أخذوا خطا وسطا بين أهل الكلام والفلسفة وبين أهل النقل مثل الأشعري و أبو حامد الغزالي لم يسلموا من اتهامات التكفير ..
أن الحقيقة المرة والتي تمثل محنة للعقل العربي هي أن ازدهار الحضارة لا يمكن أن يحدث ألا في وجود الحرية الفكرية مهما صاحبها من شطط ... والحقيقة التي لا يستطيع ان يعيها أتباع مدرسة التكفير الحديثة من حسني النية والذين ينطلق أغلبهم من باب الغيرة علي الاسلام و التي نفخ فيها حلف البترودولار والسلفية للسيطرة السياسية علي المنطقة .. أن انتصار هذه المدرسة سيكون فيه ردة العالم العربي الاسلامي الي ما هو أسفل من قاع الحضارة التي نحتلها الآن بجدارة تامة .. مثلما حدث تماما علي يد نفس المدرسة في العصور الوسطي عندما تم القضاء علي ثقافة العقل التي كان يحمل لواءها علماء وفلاسفة عظام كابن سينا و ابن رشد ..
ولكن ما يعطي بعض الامل أن الشعوب قد ذاقت طعم الحرية وهي لن تعطي هؤلاء الفرصة مرة أخري للتحكم في مقدراتها .. ومدرسة التكفير والنقل تلفظ انفاسها الأخيرة خاصة بعد أن فقدت الدعم السياسي والمالي من نفس الاسرة التي كانت تدعمها سابقا لأغراض سياسية عندما انقلب السحر علي الساحر ..
وحتي نعي أن الحرية الفكرية هي اساس كل تقدم وحضارة فسيظل العقل العربي في محنة ... لنا الله
=============
دور أوزبكستان في الحضارة الإسلامية ودور حكومتها في محاربة الإسلام
يحيى بن ثابت طشقندي
تاريخ النشر :15 أغسطس, 2007 م
تشهد العاصمة الأوزبكية طشقند يومي الثلاثاء والأربعاء (14 و15 / أغسطس/2007م) مؤتمراً دولياً بعنوان "دور أوزبكستان في الحضارة الإسلامية"، وذلك بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2007 من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسيسكو" التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وسيحضر الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى أكمل الدين إحسان أوغلو والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.
ويناقش المشاركون فيها في اليوم الأول خصائص تشكيل وتطور الثقافة الإسلامية على أرض أوزبكستان، في حين يناقشون في اليوم الثاني دور سمرقند فى الحضارة الإسلامية.(5/286)
هذا، ويعتقد كريموف ومدّاحوه بأن اختيار هذا البلد العريق الذي له إسهامات كبيرة جداً في تطور الحضارة الإسلامية عبر التاريخ بلا شك - يعتقدون بأنه فرصة سانحة لتحسين صورة النظام الحاكم المشوهة والمسودّة أمام العالم، ولا سيما بعد أحداث أنديجان، بسبب سياسة القمع الدموية التي قتلت آلاف الأبرياء طوال السنين الماضية، ولا يزال عشرات الآلاف من الشباب المسلم في سجون الطاغية المجرم المتلقب بـ"إسلام كريموف"، وهو في الحقيقة "كفر بخيلوف" -كما اشتهر بذلك بين الناس لكثرة جرائمه في شتى المجالات-.
وقد سارعت السلطات الأوزبكية بعد تلقيها نبأ هذا الاختيار الذي لم تتوقعه أبداً لترميم بعض المساجد القديمة في حي "حاستي إمام" وسط العاصمة طشقند والتي بقيت طوال السنين الماضية بلا رعاية ولا ترميم وكأنها "خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا"، وذلك قبل قدوم الوفود الرسمية لتقديم التهاني والتبريكات للحكومة الأوزبكية.
ولئن كانت طشقند وما حولها من المدن الأوزبكية الطاهرة قد قدمت خدمات جليلة وعظيمة لأمة الإسلام في مختلف المجالات، ويكفيها أن أنجبت علماء عظماء وأئمة أجلاء لا يكاد أحد من المسلمين وغيرهم يجهلونهم، فقد قدمت الحكومة الأوزبكية برئاسة المدعو "إسلام كريموف" خدمات عظيمة وجليلة لأعداء الإسلام من شياطين الإنس والجن، وذلك بقمع الصحوة الإسلامية الصافية بكل عنف وهمجية، وتدمير عدد كبير من المساجد والمدارس غير المشهورة، ولا سيما مساجد الأحياء الصغيرة البعيدة عن الأنظار والمدارس الأهلية في مختلف أنحاء أوزبكستان.
ولئن كانت الحكومة الأوزبكية ترائي العالم وتدعي بأنها تحترم وتقدس ضرائح ومقابر الأئمة العظماء كأمثال البخاري والترمذي والسمرقندي والشاشي والمرغيلاني وغيرهم، فإنها تقتّل وتصفّي وتعذّب وتحتقر العلماء المعاصرين التابعين للمتقدمين بإحسان من أمثال المشايخ عبد الحكيم قاري المرغيلاني وعبد الولي قاري الأنديجاني وعابد خان قاري الطشقندي وعبد الأحد قاري النمنكاني ومحمد رجب قاري القوقندي وحسين خان قاري النمنكاني والشيخ مختار جان القوقندي والشيخ محمدي قاري الأنديجاني والشيخ محمد خان قاري السمرقندي والإخوة الدعاة روح الدين وعاقل وفاروق -وكلهم من طشقند- وغيرهم ممن لا يحصي عددهم وجهودهم في خدمة الإسلام والمسلمين إلا الله.
ولم تكتف السلطات الأوزبكية بمطاردة علماء أوزبكستان الصادعين بكلمة الحق في داخل البلاد، بل تجاوزت إلى دول أخرى حيث خطفت الشيخ صادق جان قاري الأوزجاني في جنوب قرغيزستان في عام 2003م ولا يعرف مصيره حتى الآن، وقتلت الشيخ محمد رفيق قاري القرغيزستاني في مدينة "قاراصو" حين كان يسير في وضح النهار قبل عام، وطاردت الشيخ مقيم جان محمودوف الأوشي القرغيزستاني واعتقلته لمدة سنين، كما اغتالت الاستخبارات الأوزبكية الشيخ مختارجان القوقندي في موسكو قبل سنين.
ولئن كان علماؤنا المتقدمون قد تركوا لنا آثاراً عظيمة ومخطوطات علمية نادرة في مختلف الفنون والعلوم فإن تلك الكنوز العظيمة ما زالت أسيرة مظلومة في مكتبات تراثية محاصرة بأجهزة الأمن الأوزبكية.
ولئن كانت الحكومة الأوزبكية قد قامت بترميم مجمّع "حاستي إمام" الذي يضم عدداً من المباني التاريخية في حي واحد، وأضافت إليه مسجداً جديداً بالرغم من وجود المساجد القريبة حولها، فإنها قد هدمت من المساجد والمدارس ما لا يحصيه إلا الله.
ونحن في هذه المقالة المختصرة سوف نذكر نزراً يسيراً من أخبار بعض المساجد والمدارس التي هدمت أو أغلقت ولم ولن يتحدث عنها الإعلام الأوزبكي ونستشهد بمقتطفات من الندوة الإذاعية التي أجرتها إذاعة صوت أوروبا الحرة بهذه المناسبة:
- إغلاق المسجد الجامع الكبير في أنديجان، الذي كان يؤم فيه الشيخ عبد الولي قاري -المخطوف بأيدي المخابرات الأوزبكية منذ عام 1995م-، وكان المسلمون في أنديجان قاموا بتشييد هذا المسجد والآلاف من أمثاله بأنفسهم قبيل سقوط الاتحاد السوفييتي، حين أعلن آخر رؤساء السوفييت "ميخائيل غربتشوف" الحرية والعلنية. وقد أغلق المسجد في عام 1997م بدعوى عدم الترخيص له من قبل الإدارة الدينية الرسمية، وهناك آلاف المساجد قد أغلقت بنفس هذه الدعوى في مختلف أنحاء أوزبكستان.
- إغلاق جامع ومدرسة "كمالات" بمدينة قوقند الذي أسسها الشيخان مختار جان قاري -رحمه الله- ومحمد رجب قاري -فرّج الله عنه-، وكان المئات من الناشئة والشباب يتعلمون العلوم الإسلامية في هذه المدرسة الشهيدة.
- هدم مسجد ومدرسة فاطمة الزهراء في شارع ساغبان في العاصمة الأوزبكية طشقند.
- هدم مدرسة "السيد أحمد إيشان" في مدينة مرغيلان، وبناء معهد طبي حكومي مكانه.
ويقول أحد المسلمين في مرغيلان السيد "أحمد جان محمدعمروف" في تصريح له لإذاعة "أوروبا الحرة":
"ماذا يمكن أن تقول عن هدم المدرسة الكبيرة - مدرسة السيد أحمد إيشان- التي شُيدت بتمويل من عامة المسلمين في مدينة مرغيلان؟ وعن إغلاق المسجد الذي كنا نصلي فيه قبل أيام بقرار من المدعي العام بالمدينة؟ أنا أعتقد بأن تنظيم مثل هذا المؤتمر (مؤتمر دور أوزبكستان في الحضارة الإسلامية) أو نحوه في طشقند ليس إلا من أجل الرياء والسمعة!"
- وأما المسلم الأنديجاني السيد "نور الدين نظام الدين وف" فيقول في تصريحه للإذاعة:
"هذه المباني التي تشيّد وهذه المساجد التاريخية التي ترمّم لا تعمّر من أجل مصلحة دين الإسلام، بل من أجل إخفاء عيوب نظام كريموف عدو الإسلام أمام الضيوف الرسميين الذين يأتون لمدة قصيرة، وهؤلاء الضيوف الذين اختاروا طشقند مركزاً للثقافة الإسلامية معترفين بتاريخ أوزبكستان العظيم جاهلون بواقعها اليوم، وكريموف يجيد انتقاء الضيوف الذين يريد استضافتهم في مثل هذه الظروف، وفي الحقيقة حال أهل الإسلام مأساوية، وهذا شاهد واحد؛ قبل 15 يوماً فقط كان مجموعة من زملائنا في جلسة في أحد المطاعم فلما حان موعد صلاة المغرب قاموا فصلوا المغرب جماعة، ثم اعتُقلوا بسبب ذلك".
- وهذه سيدة أوزبكية أخرى تتحدث عن أوضاع المساجد والمسلمين الأوزبك:
"لم يبق في أوزبكستان إلا المساجد المركزية، أما المساجد التي في الأحياء الصغيرة فقد أغلقت، وكان المسلمون الكبير منهم والصغير في أول أيام الاستقلال يرتادون المساجد للصلوات الخمس وصلوات التراويح بلا خوف، أما الآن فالكل يخاف من ارتياد المساجد، حتى أنا منعت ولدي من الذهاب إلى المسجد خوفاً من محنة تصيبه (حيث يدرجه جلادوا كريموف ضمن القوائم السوداء)".
ويضيف مسلم أوزبكي آخر في ندوة إذاعة "أوروبا الحرة" قائلاً:
"أصيب المسلمون الأوزبكستانيون برعب شديد بسبب اعتبار الحكومة الأوزبكية أن المسلم العادي والإرهابي هما شيء واحد، فصاروا يبتعدون عن تعلم الإسلام وإقامة الصلوات في المساجد ويحاولون عدم الخروج من بيوتهم، وفي الأصل الإسلام بعيد عن الإرهاب كل البعد".
المصدر :«أوزبكستان المسلمة»
-=============
دستور المدينة.. مفخرة الحضارة الإسلامية
محمد مسعد ياقوت
yakoote@gmail.com
إسلام أو ن لاين
فور هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة المنورة كتب دستورًا تاريخيًا[1]، وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني..(5/287)
إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة..
وبإبرام هذا الدستور -وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل..
يقول المستشرق الروماني جيورجيو:
"حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده"[2].
ومن ثم تعالوا نقف وقفات سريعة على أهم معالم القيم الحضارية التي نراها جلية في هذا الدستور:
أولاً: الأمة الإسلامية فوق القبلية:
قال الدستور في ذلك:
"إنهم [أي الشعب المسلم] أمة واحدة من دون الناس"[3].
وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى جماعة الإسلام، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
ثانيًا: التكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب:
وفي هذه القيمة كُتبت البنود التالية:
"المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين"[4].
"وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين"[5].
"وبنو سَاعِدَةَ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين...
"وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
"بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين..
"وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
"وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ"[6].
ثالثاً: ردع الخائنين للعهود :
وفي هذا الحق كُتب البند التالي:
"وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة[7] ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم"[8].
وهذا نص في جواز حمل السلاح على أي فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين..
وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة - بعد معركة الأحزاب (في ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م ) - ، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد!
رابعا: احترام أمان المسلم:
وجاء في هذا الأصل الأخلاقي البند التالي:
"وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس."[9] ..
فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان، ومن ثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلمُ، ولو كان المجير أحقرهم.
فيُجير على المسلمين أدناهم، بما في ذلك النساء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم هانئ: " أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ "[10].
خامسا: حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم"[11].
وهو أصل أصيل في رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، أو الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين .. فلهم -إذا خضعوا للدولة- حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها..
سادسا: الأمن الاجتماعي وضمان الديات:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه من اعتبط[12] مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه"[13].
وبهذا أقر الدستور الأمن الاجتماعي، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل، وفي ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضد المعتدي الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة..
"ولا شك أن تطبيق هذا الحكم ينتج عنه استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي منذ أن طبق المسلمون هذا الحكم"[14].
سابعا: المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد...
"وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره"[15].
ثامنا: حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ[16] إلا نفسه وأهل بيته" [17].
تاسعا: الدعم المالي للدفاع عن الدولة مسؤلية الجميع:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين"[18].
فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليًا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها في تحمل جميع الأعباء المالية للحرب.
عاشرا: الاستقلال المالي لكل طائفة:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"[19].
فمع وجوب التعاون المالي بين جميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي، فإن لكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف.
الحادي عشر: وجوب الدفاع المشترك ضد أي عدوان :
وجاء في هذا الأصل :
"وإن بينهم النصر على من دهم يثرب "[20].
"وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"[21].
وفي هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك، ضد أي عدوان على مبادئ هذه الوثيقة.
الثاني عشر: النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب:
وجاء في هذا الأصل:
"وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم"[22].
فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة -مهما اختلفت معتقداتهم- هو النصح المتبادل، والنصيحة التي تنفع البلاد والعباد، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف.
وقد اشتملت الدستور على قيم حضارية أخرى منها:
الثالث عشر: حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة:
وجاء في هذا الأصل:
"وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه"[23].
الرابع عشر: ووجوب نصرة المظلوم:
وجاء في هذا الأصل :
"وإن النصر للمظلوم."[24]
الخامس عشر: وحق الأمن لكل مواطن:
"إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول"[25].(5/288)
هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية في دستور المدينة، تبين لك - كما رأيت - كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم .. وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل.
[1] سماها ابن إسحاق وكتاب السير القدماء : الموادعة، وسماها الصلابي : الوثيقة أو الصحيفة، وسمها صفي الرحمن المباركفوري ميثاق التحالف الإسلامي، وسماها الحميدي :صحيفة المعاهدة بين أهل المدينة، وسماها البوطي وثيقة بين المسلمين وغيرهم ، واخترنا تسميتها بالدستور، فهو الاسم الحالي الرسمي للوثيقة التي تنظم الشأن للدولة . فالمعاهدة تنظم العلاقات الخارجية بين دولة ودولة، أما الدستور فيطلق على الوثيقة التي تنظيم الشأن العام الداخلي للدولة .
[2] ك. جيورجيو : نظرة جديدة في سيرة رسول الله ، ص 192.
[3] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 321
[4] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 321
[5] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260
[6] ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 501
[7] أي: طلب دفعًا على سبيل الظلم، ويجوز أن يراد بها العطية.
[8] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 321، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 501
[9] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 321، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 502
[10] ابن القيم : زاد المعاد 3/ 108
[11] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 321، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 502
[12] أي قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله.
[13] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/260، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 502
[14] عبد العزيز بن عبد الله الحميدي : التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، 3/49
[15] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261، وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[16] يعني : يُهلك .
[17] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[18] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[19] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[20] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[21] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[22] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503
[23] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 322، وابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503، والسهيلي : الروض الأنف 2/345
[24] ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/261 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 323، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503، والسهيلي : الروض الأنف 2/345
[25] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 323 وابن سيد الناس : عيون الأثر 1/262 ، ابن هشام : السيرة النبوية 1/ 503، والسهيلي : الروض الأنف 2/345
المصادر والمراجع
*
ابن سيد الناس (أبي الفتح محمد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن يحيى))ت 734هـ(: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، بيروت : دار الآفاق، 1977م.
*
ابن القيم (محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي) : زاد المعاد في هدي خير العباد ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، بيروت - الكويت: مؤسسة الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية -الطبعة الرابعة عشر ، 1407 هـ- 1986م
*
ابن كثير(إسماعيل بن عمر): السيرة النبوية، بيروت: مكتبة المعارف،د. ت.
*
ابن هشام (، أبو محمد بن عبد الملك ) : السيرة النبوية ، دمشق : دار الفكر، د. ت.
*
السهيلي ( أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله) ت 581 هـ: الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل ،القاهرة: 1967 م
*
عبد العزيز بن عبد الله الحميدي : التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، الإسكندرية : دار الدعوة، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م .
*
كونستانس جيورجيو : نظرة جديدة في سيرة رسول الله، تعريب : محمد التونجي، د. م : الدار العربية للموسوعات، الطبعة الأولى، 1983م
=============
تاريخ الحضارة الإسلامية و الفكر الإسلامي
28 يونيو 2007 كتبت بواسطة عمار كشاري
This entry has a rating of 5
تأليف أبو زيد شلبي أستاذ الحضارة بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر، ربما أستطيع أن أقول سابقا لأن الكتاب قديم فقد نشر في 1383هـ
عدد الصفحات : 379
الناشر: مكتبة وهبة
تاريخ الإسلام ليس مجموعة من الحروب و الغزوات، كما يتبادر إلى ذهن أي شخص يقرأ مناهج كتب التاريخ في المدارس، عندما ندرس التاريخ الإسلامي يجب أن ندرس تاريخ حضارة المسلمين وليس حروبهم فقط.
بدأ الكتاب في فصله الأول بتعريف الحضارة ونشأتها وأطوارها وعناصر تكوينها
والحضارة في رأي المؤلف هي مدى ما وصلت إليه أمة من الأم في نواحى نشاطها الفكري و العقلي من عمران وعلوم ومعارف وفنون وما إلى ذلك.
في الفصل الثاني
جاء الإسلام في عالم تعمه الفوضى، هذه العبارة صحيحة إلى حد كبير، لكن كانت هناك أمم حضارات سبقت الإسلام منها الفرس و الروم، ورغم ما وصلت إليه هذه الدولتان من تقدم في زمانهم وكانتا وقتئذ تتحكمان في العالم، لكنهما كانتا متهالكتين من الداخل بسبب الحروب و الفساد ووصل هذه التهالك أوجه في وقت ظهور الإسلام.
العرب لم يكونوا أفضل حالا من غيرهم، فأهل شبة الجزيرة العربية كان همهم الوحيد البحث في الصحراء عن مكان جديد ليعيشوا فيه مع أغنامهم وجمالهم كما قال الشاعر المثقف العبدى في ناقته:
تقول إذا درأت لها وضيني ….. أهذا دينه أبدا وديني
أكل الدهر حل وارتحال ….. أما تبقى علي ، ولا تقيني
فأي حضارة بدون منزل!؟ كيف نطلب من شخص لا يجد قوت يومه ولديه مشكلات للصبح أن يبدع ويبنى حضارة!؟ وأنا أشير من هذا الكلام إلى الوقت الحالي وليس إلى ذلك الزمان!
كان الجاهلي يكرم زوجته ويجلها (!) أنظر إلى الشاعر يقول
ياربة البيت قومي غير صاغرة ….. ضمي إليك رحال القوم و القربا
كانت لدى العرب علوم لكن ما دعتهم إليه الضرورة فقط كأمراض الإبل و غزل الصوف و الوبر ومعرفة بعض الإمراض و النجوم و كانوا يجيدون علم القافية و الفراسة و الضيافة.
كان العرب أبعد الناس عن الصناعة، وذلك لأن عامتهم بدو متنقلون، بل أكثر من هذا فقد بلغ بهم الأمر إلى أن يعيبوا الصناعين، يقول قائلهم في وصف أهل بلد ما : (هم بين دابغ جلد وناسج برد) وكانت كسوة الكعبة تطرز من قبل عمال فرس أو روم وكذلك كانت صناعة الأصنام .
الفصل الثالث : أصول الحضارة الإسلامية
القران الكريم
السنة النبوية
الحضارة العربية
الحضارة الفارسية
الحضارة اليونانية و الرومانية
نستطيع أن نقول أن هذه هي المصادر التي استمدت منها الحضارة الإسلامية مقوماتها، في الكتاب تجد تفصيل ذلك، ربما يستغرب الكثير من وجود الحضارة الفارسية و اليونانية و الرومانية كمصدر من مصادر الحضارة الإسلامية، لكن الجدير بالذكر أن المسلمين الأوائل تعلموا من أهل البلاد التي فتوحها.
الفصل الرابع : نظم الحكم(5/289)
ديمقراطية الإسلام، الخلافة، الإدارة، الوزارة، الحجابة، الكتابة، الدواوين ، القضاء، الشرطة، البريد، الجيش، البحرية، حكومة الأقاليم.
لم يكن هذا الفصل مثيرا بالنسبة لي، فيه تفاصيل كثيرة عن المواضيع السابقة مما لا يفيدني ولا أفكر بتأسيس دولة -حاليا على الأقل!- لذلك مررت مرور الكرام عليه. لكن على كل حال في هذا الفصل نبذه عن كل من الإدارات السابقة وكيف بدأت في ظل الإسلام ونماذج تبين كيف كانت تمارس دورها في ذلك الوقت.
الفصل الخامس : نشأة العلوم الإسلامية وبدء الحياة العلمية (الحديث-التفسير-الفقه-النحو)
بعد أن استقرت أوضاع المسلمين بدأ نتائجهم العلمي في الظهور.
الحديث
لم يكن كبار الصحابة يكتبون الحديث في وقت مبكر لأسباب
-أنهم لا يعرفون الكتابة!
-أنهم يعتمدون على ملكة الحفظ التي امتازوا بها
-حتى لا يشتبه على الناس الآية من الحديث
أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه كما قال القسطلاني كان عمر بن عبدالعزيز في سنة مائة للهجرة وقد أمر بهذا أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وهناك رواية أخرى ذكرها صاحب فتح البارى أن المأمور هو ابن شهاب الزهري.
التفسير
و التفسير ثلاث أقسام
التفسير بالرواية ويسمى التفسير بالمأثور
التفسير بالدراية ويسمى التفسير بالرأي
التفسير الإشارة ويسمى التفسير الإشاري
الأول كما هو واضح فقد كان التفسير نقلا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، ومن أمثله هذه التفاسير تفسير مخلد القرطبي سنة 260 ولكن للأسف لم يكتب لهذا التفسير البقاء وتفسير ابن كثير وهو من أصح التفاسير بالمأثور وتفسير السيوطي.
الثاني وقد يبدوا واضحا أيضا فهو يعتمد على الرأي بضرورة توفر بعض الشروط في من يريد أن يبدي رأيه! ومن أشهر هذه التفاسير تفسير الجلالين، و أنوار التنزيل و أسرار التأويل، و روح المعاني.
الثالث هو تفسير الفرق المختلفة، فبعد ظهور عدة طوائف في الإسلام تناولت كل طائفة كتاب الله تفسره بما ارتضته لنفسها، ويمكن تقسيم هذه التفاسير إلى نوعين الأول التفسير الإشاري أو التفسير الصوفي و الثاني تفسير أهل الكلام. ومن أمثلة التفسير الصوفي تفسير ابن عربي و تفسير النيسابوري، وأمثلة التفسير أهل الكلام مجمع البيان في تفسير القران.
الفقه
الفقه الإسلامي مثله مثل كل كائن مادي أو معنوي، لا ينشأ من لا شئ، ولا يبلغ كماله طفرة واحدة، بل ينشأ من شئ موجود سابق عليه، ويأخذ في السير متدرجا في مراتب الحياة والوجود، حتى يبلغ أقصى ما يقدر له من نضوج وكمال وتطور، ثم ينال من الزمن وأحداثه حتى يدركه الهرم. مر الفقه الإسلامي بأربع أطوار
1 - طور النشأة وكان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
2- طور الشباب بدأ في عصر الخلفاء الراشدين وفي نهاية هذا الطور ظهرت نزعتان في الفقه الأولى نزعة أهل الحديث و الثانية نزعة أهل الرأي و القياس
3- طور النضج و الكمال وهو العصر الذي ظهرت فيه المذاهب الفقهية
4- طور الشيخوخة وهذه مستمر إلى عصرنا هذا، ولم تقم محاولة للاجتهاد إلا من الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، و النفوس اليوم متطلعة إلى أن يعود للفقه ازدهاره.
النحو
النحور قانون اللغة العربية
النحو يبسط من لسان الألكن …. و المرء تكرمه إذا لم يلحن
إذا طلبت من العلوم أجلها … فأجلها عندي مقيم الألسن
وضع علم النحو بعد أن أختلط العرب بالعجم،ومن أمثلة ما ظهر أن أبا موسى الأشعري والى البصرة أرسل إلى عمر بن الخطاب كتابا ذكر فيه كاتبه: (من أبو موسى الأشعري) فكتب عمر لأبى موسى (عزمن عليك لما ضربت كاتبك سوطا). لماذا غضب عمر؟
وضع هذا العلم أبو الأسود الدؤلي، بعد أن قال له علي رضي الله عنه (أنح هذا النحو) ، ولذلك سمى نحوا،وقيل لأن أبا الأسود كلما وضع بابا عرضه على علي رضي الله عنه فيقول له: ما أحس هذا النحو الذي قد نحو
مر النحو بأربع أطوار
1- طور النشوء و التكوين وكان في البصرة بدأ مع أبى الأسود الدؤلي إلى عصر الخليل بن أحمد
2- طور الترقي و النمو : وقد اشتركت فيه مدرستا البصرة و الكوفة ويبدأ من عهد الخليل بن أحمد البصرى و أبى جعفر الرؤاسي الكوفي.
3- طور الكمال: وقد اشتركت فيه مدرستا البصرة و الكوفة ويبدأ من عهد أبى عثمان المازني البصري ويعقوب بن السكيت الكوفي
4- طور الترجيح و البسط: وهو من عد بغداد إلى وقتنا هذا وقد اشترك فيه البغداديون و الشاميون و المصريون و الأندلسيون.
وأنا أقترح طور جديد هو
5- الانحطاط الشديد
الفصل السادس: مظاهر العمران
بني المسلمون عدة مدن منها الكوفة فبعد أن فتح الله على المسلمين ما فتح من العراق كانت رسلهم ترد على عمر رضي الله عنه فيرى في وجهوهم وألوانهم تغيرا فسألهم عن سر ذلك فقالوا له: وخومة البلاد, فكتب إلى سعد بن أبي وقاص ( أنبئني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم) فكتب إليه سعد (إن العرب خددهم وكفي ألوانهم وخومة المدائن ودجلة) فكتب إليه (أن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فأبعث سلمان وحذيفة فيرتادا منزلا بريا بحريا ليس بينكم فيه بحر ولا جسر) فبعثهما سعد حتى وصلا إلى الكوفة وهي حصباء ورمل فأعجبتهما البقعة فنزلا وصليا ودعوا الله أن يبارك لهم في هذه الكوفة وكتبا إلى سعد بالخبر فارتحل بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في المحرم سنة 17هـ.
ومن المدن التي خطها المسلمون الفسطاط وهي تقع الآن في المنطقة التي فيها جامع عمرو بمصر القديمة. كان كانها وهو معسكر جيش المسلمين حينا حاصروا حصن بابل المعروف اليوم بدير النصارى أو دير مارى جرجس. ولما فتح عمرو هذا الحصن أجمع المسير إلى الإسكندرية لفتحا، فأمر بنزع فسطاطه 0خيمته) فإذا يمامة قد باضت فقال: (لقد تحرمت بجوارنا) أقروا الفسطاط حتى تنقف وتطير أفراخها فأقر فساكة و وكل به من يحفظه إلا يهاج.
بغداد دار السلام سابقا و الحرب الآن!
أختار موقعها وبناها المنصور ووضع أول لبنة وقال (باسم الله والحمد لله، الأرض لله يورثها من يشاء و العاقبة للمتقين) وقال فيها الشاعر بعد بنائها
بغداد يا دار الملوك ومجتي …. صنوف المنى يا مستقر المنابر
يا وجنة الدنيا ويا مجتني الغني …. ومنبسط الآمال عند المتاجر
وهناك مدائن أخرى بنائها المسلمون كالقيروان و الفسطاط أو زادوا في عمارتها كدمشق و المدائن وغرناطة و طليطلة و الإسكندرية.
العمارة الإسلامية
للعمارة الإسلامية مظاهر
1- اتخاذ الأعمدة و المنحنيات و المشربيات و الشرفات و القباب و المآذن و المدخل الملتوي وبعض هذه المظاهر مستوحى من بيئاتهم وأحوال معيشتهم.
2- إن المدن كانت تحاط بأسوار منيعة ولها أبواب متينة يمكن إغلاقها عند الحاجة كأسوار بغداد.
3- أن تكون في وسط المدينة ساحة متسعة بها أكبر مساجدها.
4- إن البيوت كانت تبنى داخل ساحة الدار، وليس لها نوافذ تطل على الشارع.
5- أن يخصص حي من أحياء المدينة لأهل كل حرفة يعرف باسمهم، كما أن بغضهم للنظام المركزي جعلهم يتجمعون قبائل منفصلة أينما حلوا، ولكل قبيلة حيها ومنزلها ومسجدها وسوقها ومقابرها وهذا يلائم ما درجوا عليه من الحرية و اعتبر ذلك بالكوفة و الفسطاط.
6- إن اختيار موقع المدينة وتخطيطها يكون قريب الشبه من باديتهم وأحوال معيشتهم من حيت الموقع و اتساع الخطط وهم برعوا في تخطيط المدن.
7- إن زخارفهم كانت مستمدة من المناظر الطبيعية و الأشكال الهندسية و النباتية و تحاشوا التماثيل و الصور المجسمة لأنها محرمة عليهم حتى لا يتشبهوا بعبده الأوثان.(5/290)
8- إن تخطيط المساجد كان يقوم على أربعة إيوانات مسقوفة وعقودها محمولة على عمد من الرخام أكبرها إيوان المحراب ويتوسط الإيوانات صحن مشكوف كثيرا ما تتوسطه قبلة.
الموسيقى و الغناء
الموسيقى فن رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم من حيث الإتقان و التنافر، وأحوال الأزمنة المتخللة بين النقرات من حيث الوزن وعدمه ليحصل معرفة كيفة تأليف اللحن .. وهو يشتمل على بحثين. البحث الأول عن أحوال النغم و الثاني عن الأزمنة، فالأول يسمى علم التأليف و الثاني يسمى علم الإيقاع.
كان العرب يغنون قبل ظهور الإسلام قال الشاعر
فغنها وهي لك الفداء …. إن غناء الإبل الحداء
ومازال هذا النوع من الغناء موجودا حتى اليوم في بعض بلادنا بين من يقوم على الإبل، كذلك كان العرب يضربون الدف وهو نوع بدائي من الموسيقى وقد أباحه الإسلام في الولائم وكان الحارث بن كلدة الثقفي الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضرب العود.
أشتهر من المسلمين بعد ذلك كـ زرياب وهو الذي زاد في العود وترا خامسا و أخترع مضراب العود من قوادم النسر، وكذلك الفارابي الذي أخترع القانون ومازالت هذه الآلة تستخدم حتى الآن بدون تغيير.
ذكر ابن خلكان أن الفرابي حضر مجلس غناء لسيف الدولة الحمداني ولم يكن أحد من الحضور يعرفه فعاب المغنين، فسأله سيف الدولة الحمداني هل يحسن الغناء؟ ففتح خريطة و استخرج الآلة وركبها ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في الملس، ثم فكها وركبها تركيبا آخر وضرب عليها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب ضربا آخر فنام كل من في المجلس حتى البواب! فتركهم نياما وخرج.
وهناك فنون برع فيها المسلمون كالشعر و الخطابة و الزخرفة و الخط
الفصل السابع : الحياة الإجتماعية
تكوين المجتمع العربي ، الأسرة في الإسلام ، المرأة في الإسلام ، الرقم
الفصل الثامن : الحياة الإقتصادية
الزراعة ، الصناعة ، التجارة ، النظام المالي
الفصل التاسع : الحركة الفكرية
المذاهب و الفرق و الفلسفة و التربية
العلوم الطبيعة عند العرب الطلب الفلك الكيمياء الفيزياء و الرياضيات
العلوم الاجتماعية التاريخ الجغرافيا الاجتماع
لن أنقل هنا شيئا من الكلام الذي ذكره المؤلف عن الفرق و المذاهب فهو ملئ وهذه هي ملاحظتي الوحيدة على هذا الكتاب.
الفلسفة
لم ينقل العرب كتب فلاسفة اليونان إلى العربية إلا في عصر المأمون على وجه العموم- وهنا أتذكر هؤلاء الذين يلعنون المأمون لأنه سمح بنقل هذه العلوم إلى العرب و أن هذه الخطوة هي سبب تخلف المسلمين اليوم!- وكان من أشهر فلاسفة الإسلام الكندي (فليسوف العرب) ، الفارابي (المعلم الثاني) ، ابن سينا (يعرف في أوربا بـ أفسينا) ، الغزالي (حجة الإسلام وهو غير الغزالي المعاصر، مؤلف تهافت الفلاسفة ويقول عنه دى بور أنه أعجب شخصية في تاريخ الإسلام)، ابن رشد(الشارح العظيم ومؤلف تهافت التهافت ردا على الغزالي!).
الفصل العاشر : أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوربية
- ظل كتاب الحاوي في الطب للرازي المرجع الوحيد المعترف به في جامعات أوربا حتى القران السابع عشر.
- أعتمد روجر بيكون في دراسته لعلم البصريات على ما كبته الكندي
- أعترف بيكون ودافينشى وكيبلر بفضل الكندى لما لاحظه في طريقة تعرف العين على الأشياء
- جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء فقد نظم طرق البحث والتحليل وركب عددا من المواد الكيميائية وكانت أبحاثه وما توصل إليه من معلومات هي المرجع الأول حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
- اعتمدت أوربا على ما كتب ابن سينا في علم طبقات الأرض الجيلوجيا إبان نهضتها العلمية.
- يعتبر ابن خلدون أول مفكر اجتماعي فهو أول من صاغ قوانين تقدم الأمم و انهياراها وأول من عرف للعوامل الطبيعية و الجغرافية و المناخية و أخميتها في ذلك.
- يقول جيب (إن أعظم أثر للأدب العربي كان في بعض روح الكتابة، فقد حرر الفكر الأوربي من النطاق الضيق للتقليد المميت).
-كان جامعة باريس وحتى القران الرابع عشر لا تعتبر بآراء أرسطو إلا على الوجه الذي حدده ابن رشد.
- وأخيرا يقول المسيو سيديو : (إن الكنوز الأدبية العظيمة التي أوجدها العرب في ذلك العصر ونتاج نبوغهم العلمي و اختراعاتهم الثمينة تنهض دليلا على نشاطهم الفكري وتؤيد الرأي القائل بأن العرب هم أساتذتنا في كل شئ وإذ أنهم زودونا بمواد جليلة القيمة في تاريخ العصور الوسطى وبأسفار مجيدة في التراجم وتركوا لنا صناعة لا مثيل لها وفنا معماريا آية في الروعة و الجمال و اكتشافات هامة في الفنون و الصناعات)
تلك أمة قد خلت!
هذا الكتاب " تاريخ الحضارة الإسلامية و الفكر الإسلامي " كتب في 28 يونيو 2007 في الساعة 5:37 ص ومصنف بهذه التصنيفات: تاريخ, إسلاميات. يمكنك متابعة التعليقات على تاريخ الحضارة الإسلامية و الفكر الإسلامي عن طريق ملف الخلاصات RSS 2.0. يمكنك أن تكتب تعليقاً, أو تعقب على تاريخ الحضارة الإسلامية و الفكر الإسلامي من
===============
علم استنباط المياه عند المسلمين
رزق العرب منذ قديم الدهر فراسة حاذقة يتعرفون بها على مكامن الماء في باطن الأرض ببعض الإشارات الدالة على وجوده، وبعده وقربه، بشم التراب أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بحركة حيوان مخصوص. سمى العلماء معرفتهم هذه(1) علم الريافة(2).
قال الألوسي : >هو نوع من الفراسة، وهي موجودة في بعض أعراب نجد، ويسمى من له هذه المعرفة اليوم "النصات"، ولم تذكره معاجم اللغة، وهو من مبالغات اسم الفاعل من : نصت الرجل ينصت نصتاً، وهو "القنقن"، وجمعه بالفتح "القناقن". وقد عرفته دواوين اللغة بأنه "البصير بالماء تحت الأرض" و"البصير بحفر الماء واستخراجها" و"الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريباً أو بعيداً" من القن، وهو "التفقد بالبصر"<(3).
وورد (القناقن) بالجمع في شعر للطرماح بن حكيم (تـ نحو 125هـ) قال :
يخافتن بعض المضغ من خشية الردى
وينصت للسمع انتصات (القناقن).
ويقال لمن يقوم بالحفر وإنباط الماء (القناء)، وقد تطورت هذه المعرفة الفطرية عند العرب إبان تفجر ينابيع العلم في الإسلام وتبحر العلماء المسلمين فيه، وقامت الحضارة الإسلامية وعمرانها على أسسه وقواعده، فصارت بجهود علماء الرياضيات والطبيعيات علماً محرراً ومدوناً، وفناً تطبيقياً بالغ الدقة، ارتقى به بعضهم إلى اختراع موازين يزن بها ارتفاعات الأرض على النحو الدقيق الذي اهتدى إليه، وشرح صفته المهندس الرياضي (الكرجي) على ما ستأتي الإشارة إليه.
وبدأ العلماء المسلمون التأليف في الماء في أواخر المائة الثانية الهجرية، وقد تناولوا بحثه من جوانب مختلفة، وأرقاها وأبلغها فوائد وعوائد ما ألفوه في (استنباط المياه الخفية). ولعل أول كتاب في هذا الفن، بلغنا خبره، هو كتاب "علل المياه وكيفية استخراجها وإنباطها في الأرضين المجهولة"، الذي ألفه أبو بكر أحمد بن علي المعروف بابن وحشية، من أهل المائة الثالثة الهجرية، وأدرك المائة الرابعة، وقد عرفنا من ذلك الكتاب اسمه، ولم يبلغنا عن وجوده في مظنة خبر.(5/291)
ووضع فيلسوف العرب "أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي" المتوفى نحو سنة 260هـ شرحاً على كتاب "في قود المياه"، أي جرها لفنيلون البيزنطي.. ذكره أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج الإشبيلي في كتاب "المقنع في الفلاحة"، ونقل إلى كتابه فصلاً منه (فيما يعرف به قرب الماء من بعده وحلوه من مره)، وقال في صفته : >هو أحسن كتاب ألف في هذا الشأن، ولا بد لمن أراد قود ماء من موضع بعيد إلى مدينة أو قرية أو نحوهما، من تصفح هذا الكتاب، لما فيه من المنافع وقرب المآخذ<.
ونجد أيضاً في رسالة الكندي "في العلة الفاعلة للمد والجزر" اكتشافه للدورة الهيدرولوجية، فيذكر عناصرها المعروفة في الوقت الحاضر تقريباً وهي : التبخر. ويذكر أنه يتم بتأثير الشمس، التكاثف، وينعقد سحاباً. الهطل، ويصير مطراً أو ثلجاً أو بردًا. الجريان أو الانتقال : عائداً إلى الأرض سائلاً إلى البحار. ويشير بشكل واضح إلى دورية هذه الحوادث التي تشكل الدورة الهيدرولوجية بقوله : دائماً بهذا الدور أبداً ما بقي العالم، ثم يشير إلى حقيقتين تتعلقان بالمياه الجوفية :
أولاً : أن المطر والثلج يشكلان المصدر الأساس للمياه الجوفية.
ثانياً : وجود أجواف وخزانات في باطن الأرض تحتوي على المياه الجوفية.
ثم يشير إلى مصير هذه المياه محدداً أشكال ظهورها وأماكن استخراجها بأشكال مختلفة، مثل القنوات الجوفية أو الآبار أو ظهورها تلقائياً، كالعيون التي يعرفها كالآتي : >وهى الخروق المتفجرة من بطون الأرض انفجاراً<، أي باندفاعها الذاتي من غير حفر. هذا الكلام يقترب من الحقائق العلمية المعروفة حالياً. ثم يحدد الكندي أنواع الماء الجوفي : >فأما كون الماء في بطون الأرض فيكون بحالين : أما أحدهما فالجاري من أعلى، وأما الآخر فالمستحيل في بطون الأودية<. فالأول هو الذي مصدره المطر أو الثلج الذي يمكن الاعتماد عليه، كمصدر للإمداد بالماء. ويذكر نوعاً آخر من الماء الجوفي، وهو الماء الناجم عن التكاثف في أجواف الأرض الباردة، وعلى الرغم من أن هذه العملية تحدث، إلا أنها لا تساهم بحال من الأحوال في زيادة كمية المياه الجوفية.
ثم يسهب الكندي في بيان تحول الهواء إلى ماء : >لأن الهواء والماء مشتركان في الكيفية المنفعلة<، وهو يعني هنا الرطوبة "متضادان في الكيفية الفاعلة"، وهو يعني هنا الحرارة والبرودة، فإذا استحال في رأيه الهواء بارداً وعدم الحرارة، فإنه يصير عنصراً بارداً رطباً، وهذا هو الماء. ويلاحظ أنه أدخل تأثير الرطوبة والحرارة والبرودة، وأن عملية التكاثف هذه، إنما يخضع لها الماء نتيجة لانخفاض درجة الحرارة. كما أشار إلى أن هذه العملية يمكن أن تحدث في الآبار ذات الأعماق البعيدة.
وبيَّن الكندي أيضاً في رسالته حادثة التكاثف تجريبياً كالآتي : تأخذ زجاجة قنينة، فتحشوها بالثلج حشواً تاماً ثم تستوثق من سد رأسها، ثم تزنها وتعرف وزنها، ثم تضعها في قدح تقرب أرجاؤها من ظاهرها، فإن الهواء يستحيل على ظاهر القنينة كالرشح على القلال، ثم يجتمع شيء، ثم يوزن الإناء والماء والقدح معاً، فيوجد وزنها زائداً على ما كان قبل. والوزن الزائد بالطبع ناتج عن تكاثف الهواء المحيط بزجاجة الثلج، ثم ذوبانه وسيلانه إلى مقر القدح.
كتاب إنباط المياه الخفية
مؤلف هذا الكتاب هو محمد بن الحاسب الكرجي المتوفى في القرن الخامس الهجري(4)، والكتاب الذي وضعه في هذا العلم كتاب نفيس يمكن أن يُعدّ موسوعة فنية في دراسة المياه الجوفية واستثمارها. ويقصد المؤلف في عنوان كتابه بالإنباط إخراج الشيء وإظهاره بعد خفاء، وأنبطنا الماء، أي استنبطناه وانتهينا إليه. والاستنباط : الاستخراج(5) والمياه الخفية هي المياه الجوفية حسب المصطلح العصري.
وقد أحاط الكرجي بموضوعه إحاطة الخبير المثقف الذي أدرك أهمية كل فكرة تحدث عنها. فدقة التفاصيل التي شرحها في هذا الكتاب وجمعه بين الهندسة العلمية والبرهان الرياضي، ولا سيما في (باب وزن الأرض) تدل دلالة واضحة على أن الكرجي ــ وهو العالم الرياضي ــ زاول مهنة المهندس وتعرف إلى دقائقها، بالشكل الذي كانت تعرف به في ذلك الوقت. فالمهندس هو المقدر لمجاري المياه والقنى واحتفارها حيث تحفر. وثق الكرجي في هذا الكتاب خبرة هندسية اختزنتها وطورتها الذاكرة العلمية والعملية للحضارة الإسلامية في مجال الاستفادة من المياه الجوفية. لذلك كله، فإن الكتاب لفت انتباه المستشرقين، فترجموه إلى الألمانية(6) والفرنسية(7) والإنجليزية(8).
ويذكر الكرجي عن سبب تأليف هذا الكتاب، أنه بعد أن تصفح شيئاً من كتب المتقدمين في الموضوع، ووجدها قاصرة على الكفاية واقعة دون الغاية، بدأ في تصنيف كتابه هذا في إنباط المياه الخفية، وعن مفهوم الدورة الهيدرولوجية للماء. ويذكر تحت عنوان صفة الأرض : >ومن حكمة الله أن خلق في الأرض مواضع كثيرة ذات جبال متصلة. فإذا كان الزمان في هذه المواضع شتاء، فإن الهواء يتكثف ويشتد البرد، ويستحيل الهواء إلى ماء استحالة قوية، ووقعت عليها الثلوج لا تنقطع شتاء ولا صيفاً. فإذا اشتد الحر بها بمسامته الشمس إياها، ذابت وصار ذوبها مادة الأرض والخروق التي في بطنها، فصارت مادة لمنابع في أماكن بعيدة<.
ويذكر كذلك : >لما خلق الله الأرض والماء خلق لكل واحدة منهما مادة، فمادة الماء الساكن في بطنها والعيون والأودية والينابيع عليها من الأمطار والثلوج، فلو انقطعت، قلت المياه وأدى ذلك إلى خراب الأرض<، ويقول أيضاً : >وعلى هذا يجب أن تكون المياه من الثلوج والأمطار من استحالة الماء إلى الهواء، والهواء إلى ماء<. وهو بقوله هذا يشير إلى التبخر والتكاثف. ولعل باقي كلامه من الوضوح، بحيث لا يحتاج إلى تعليق. ويصنف الكرجي أنواع المياه الأرضية تصنيفاً دقيقاً يثير العجب ينطبق تماماً على ما يعرفه الهيدرولوجيون اليوم، فيقول إن >الماء في بطن الأرض ثلاثة أنواع، ماء ساكن في جوفها لا يزيد بزيادة الأمطار ولا ينقص بنقصانها ولا يتغير حاله إلا شيء قليل، فقد غمر جرم الأرض بحسب وجود الخلل والمنافذ فيه، لا يتغير بشدة القيظ وأزمان الدهر، ويكون هذا الماء قليل الحركة والجريان في بطن الأرض، والثاني ما تكون استحالة الهواء إلى ماء في بطن الأرض دائماً، وهذا يدوم جريه ما بقي السبب الذي به يستحيل الهواء إلى ماء، والثالث الماء الذي مادته من الثلوج والأمطار وأكثر عمارة أهل الأرض به، لأنه مادة الأودية العظام والعيون والقنى<.
هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على الوضوح الكامل لفكرة الدورة الهيدرولوجية عند مؤلف الكتاب الذي عاش في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، وهو عندما يسوق هذه المفاهيم، لا يسوقها ليبحث بحثاً نظرياً أكاديمياً يعارض فيه هذا المؤلف أو ذاك، إذ الغاية من كتابه غاية يمهد لها بمعطيات نظرية، وهو يعبر عن هذه الفكرة بوضوح فيقول : >ومن تصور ما ذكرته وحققته، فقد عرف قطعة كبيرة من صناعة إنباط المياه، لأن تصور طبع الأرض والماء، وكيفية وضعهما وخلقتهما وصفة حال الماء وخللها يدل على معرفة قوية في هذه الصناعة<.
فهي معطيات نظرية تقود إلى إتقان صناعة علمية : صناعة إنباط المياه الخفية التي بها عمارة الأرض، وهو يدرك أهمية هذه الصناعة، فيقول : >فلست أعرف صناعة أعظم فائدة وأكثر منفعة من إنباط المياه الخفية التي بها عمارة الأرض وحياة أهلها<(9).(5/292)
ويقودنا الكرجي في كتابه إلى كيفية الاستدلال على وجود الماء الجوفي، فقد صنف الجبال والأحجار الدالة على الماء حسب كمية الماء الموجود فيها إلى :
ــ الجبال السوداء، إذا كانت من حجر يخالطه طين، والحجر رخو ذو أطباق، وعواليها ــ أي قممها ــ عريضة، وأجسامها ضخمة.
يتضح أن الجبال السوداء التي يتحدث عنها هي من الصخور الرسوبية التي تتألف من طبقات مرصوفة متوازية تفصلها سطوح الارتصاف التي تكون عادة من مواد متبلورة، ومن الصخور التي تمتاز بلون أسود "الهيماتيت". وتعدّ الصخور الرسوبية كالرمل والحصى، مناسبة لترسب الماء وامتصاصه. وهناك صخور استحالية تمتاز بلون أسود، كالغنايس الهوربنلندى والميكاشيست، ولونه فضي أسود. ومن الصخور سوداء اللون أيضاً، الصخور الاندفاعية:البيروكسيت، والبازلت والغابرو، وكلها صخور دالة على وجود ماء جوفي.
أما الصخور الأخرى التي يذكر الكرجي أنها تحتوي على الماء، فهي الصخور الخضراء، ومنها الدونيت، وهو أخضر مصفر، والفيليت، وكذلك الكلوريت شيست ولونه أخضر به قطع سوداء، وكذلك يذكر الصخور الصفراء، ومنها الأنديسيت(10).
ويصف الكرجى أيضاً في كتابه أشكال الجبال التي تحتفظ بالثلوج وتختزن الماء في أجوافها. ومن صفاتها أن تكون مغطاة بالشجر، بشكل يظللها فيؤدي إلى احتفاظ الأرض بالرطوبة وتقليل البخار. وفي الصحارى ينظر إلى الأرض وشكل حجارتها. فالحجارة الرخوة السوداء تدل على الماء، والحجر المختلف الألوان المتبدد يدل عليه، و الحجر الأبيض المتفرق، وكذلك الصخور الثابتة، ويلاحظ أنه يشير إلى الحجر المتفرق والمتبدد، وهذا يعطي دليلاً على الفراغات، وبالتالي ازدياد تسرب الماء إليها(11).
كما يذكر الكرجي في كتابه مجموعة من النباتات يدل وجودها على الماء الجوفي، ويذكر أن وجود هذه النباتات يدل على وجود الماء الجوفي مع الشروط الآتية :
ــ أن يكون نابتاً من غير زرع.
ــ أن يكون غضاً.
ويعلق على نبات الحاج بأن جذوره تمتد حتى تصل إلى الماء، وتمتد جذوره إلى 15 ذراعاً، أي ما يقرب من 8 أمتار تقريباً، وذكر مثالاً آخر لنفس النبات، حيث وصلت جذوره إلى 50 ذراعاً، أي نحو 27 متراً.
ويصنف الكرجي المياه الجوفية وخواصها الكيميائية والفيزيائية إلى ثلاثة أنواع :
ــ الماء الساكن : هو ماء يجري في جوف الأرض، وهو لديه اضطراب في تعريف هذا الماء، خاصة عندما يذكر أن نشأته من استحالة الهواء إلى ماء في الأرض.
ــ الماء المتكاثف : ما تكون مادته استحالة الهواء إلى ماء، هذه العملية تحدث في أجواف الأرض الباردة، وهى بالطبع لا تعطي إلا كميات قليلة جداً من الماء، ولا علاقة لها بالماء الجوفي.
ــ الماء الذي مادته من الثلوج والأمطار، لأنه مادة الأودية العظام والقنى والعيون. وهو تعريف أيضاً يدل على طبقة الماء الجوفي، والتي تعرف بمنطقة الإشباع.
ويذكر الكرجي أيضاً صفات الماء الصالح للشرب والمتمثلة فيما يلي :
ــ أن لا يثقل على المعدة.
ــ ينفذ نفاذاً سريعاً.
ــ يقبل البرد والحر بسرعة.
تحتوي الشروط الثلاثة للماء الصالح للشرب ضمناً انخفاض نسبة المواد المنحلة (عدم الإثقال ــ النفاذ ــ قبول البرودة والحرارة)، والشروط الثلاثة لا تختلف من حيث الجوهر، وإنما من حيث الدقة والتحديد الكمي لهذه الشروط. وتم تحديد درجة حرارة الماء الملائم للشرب بين (15-10) درجة مئوية. وتعد نسبة 1000 ملغ من المواد الذائبة حداً فاصلاً بين المياه العذبة وسواها. ويشير الكرجي إلى أن الماء الذي لا تتحقق فيه الشروط السابقة هو ماء (رديء وبيء)، والكلمتان لهما مدلولان محددان تماماً. فرديء، تعني عدم إمكانية شربه، أما وبيء فتعني أنه ناشر للوباء. والوباء هو المرض القابل للانتشار، ولا يخفى ما للمياه الملوثة من قدرة على نشر الأوبئة(12). ويتحدث الكرجي عن الماء العذب الذي يسميه الرقيق أو الخفيف، باعتباره الماء الصالح للشرب، والماء الثقيل أو الثخين أو الكريه، باعتباره الماء الملوث الذي لا يصلح للشرب.ويوصي بفحص الماء بالنظر والشم والتذوق. فالماء الصالح للشرب ليس له طعم ولا لون ولا رائحة ويقبل الحرارة والبرودة(13).
وبعد هذه الرحلة مع كتاب "إنباط المياه الخفية"ومؤلفه، فإن الدراسة المتعمقة له قد أفضت إلى مجموعة من النتائج، التي تجدر الإشارة إليها في النقاط التالية :
ــ تضمن الكتاب براهين رياضية وتحليلات هندسية، ووصفاً لتنفيذ أعمال إنشائية ولأجهزة قياس.
ــ ربط بين الاختلاف التضاريسي على سطح الأرض وحركة المياه.
ــ عرف الدورة المائية " الهيدرولوجية " وتوصل إلى أن الأمطار والثلوج تتسرب عبر شقوق القشرة الأرضية لتشكل مصدراً مغذياً للمياه الجوفية التي تظهر من جديد على سطح الأرض.
ــ شرح آلية انبثاق العيون، حين يصادف أن تتقاطع الطبقة المائية مع سطح الأرض من موقع الخزان الجوفي، فيؤدي هذا إلى تدفق العيون.
ــ شرح عدد من الحركات التي تحدث في الأرض، كالسقوط والانهدام بتأثير المركز، وانتقال المياه، وحركة الأجزاء الترابية الدقيقة لتترابط، وحركة القارات.
ــ ربط الكرجي بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية.
ــ شرح وفصل أنواع الماء الجوفي تبعاً لأشكال وجودها ومنسوبها عن سطح الأرض، منها الماء الساكن "البساط المائي" وماء التوآب "الماء المعلق".
ــ وضح أهمية الجبال كمخازن للماء الجوفي.
ــ أشار إلى أثر التبخر في تحويل الماء العذب إلى ماء ثخين وارتفاع نسبة المواد الصلبة فيه.
ــ ربط بين الأحواض المائية الجوفية والتكوينات الجيولوجية، وذكر من هذه التكوينات، حواجز قائمة ومسطحة ومائلة، وهذا الاختلاف أدى إلى ظهور المياه الجوفية بأشكال مختلفة.
ــ شرح وفصل طرق الاستدلال على الماء الجوفي، منها ما يتعلق بنوعية الصخور والتربة وصفاتها الفيزيائية، ومنها ما يتعلق بأنواع النبات، ومنها بعض الاختبارات، كطريقة القدح المقلوب.
ــ فصل الحديث في أنواع الماء الجوفي من الناحية الكيميائية، أي على حسب المواد المنحلة فيها، كالماء الصالح والمر والحلو والكبريتي والزرنيخي.
ــ تحدث عن الشروط الواجب توافرها في مياه الشرب، ومنها ضرورة انخفاض نسبة المواد المنحلة فيها، والاختبارات المتبعة لتحديد هذه الصلاحية، وتحديد أفضلية ماء على ماء، وبعض طرق تنقية المياه.
- تحدث عن دور الفصول والظواهر الطبيعية العائدة إلى كل فصل، وأعاد أصل الظواهر إلى التكاثف والتبخر والحالة المناخية الحرارية.
- صنف التربة تبعاً لمدى صلاحيتها لحفر القناة، والصفات الفيزيائية الواجب توافرها فيها، مثل كمية الرطوبة والقساوة، وخلوها من المواد العضوية والمركبات الضارة.
- شرح تأثير الزلازل على المياه الجوفية بالتغيرات الجيولوجية التي تحدث في باطن الأرض، وما تؤدي إليه من تغير مواقع التكوينات المائية، مما يؤدي إلى أخذها وضعية جديدة.
- أفاض في الحديث عن الأحكام والقوانين الشرعية الإسلامية التي تحكم مصادر المياه الجوفية، فأشار إلى اجتهادات عدد من الفقهاء.
ويلاحظ أن الكرجي كان مجتهداً في حل مشكلات حُرُم المصادر المائية الجوفية، وقد استفاد من ثقافته وخبرته العلمية الهندسية، مستشهداً بالأحاديث الشريفة، ومعتمداً على اجتهادات الفقهاء، فأدرك ضرورة فحص التربة والصخور، وضرورة اتباع اختبارات هندسية، كالآبار الاختبارية، وذلك من لأجل وضع تصور لأشكال التكوينات المائية الجوفية، وتحديد الحريم بناء عليه.(5/293)
ــ فصل الحديث عن الصعوبات التي تعترض حفر الآبار والقنوات، وقدم حلولاً شاملة، منها حلول هندسية وتنفيذية، ومنها نصائح وقائية، ومنها أدوات وتقنيات تساعد في تذليل تلك الصعوبات.
ــ شرح طرق تنفيذ بعض منشآت المياه الجوفية، مثل تفاصيل حفر وإنشاء القناة وحفر الآبار والمصاعب التي تعترض العمل، والتعامل مع التربة في أثناء ذلك، كدعم التربة الرملية أو اللجوء إلى الأنابيب في التربة الطينية التي تحوي بقايا عضوية.
ــ ناقش الناحية الاقتصادية، وأكد أن قيمة الفائدة المرجوة يجب أن تكون أكبر من كلفة الاحتياطات المتخذة.
ــ أكد ضرورة حماية العمال الذين يقومون بالحفر من الغازات السامة التي يمكن أن تنطلق، وذلك باتباع طرائق هندسية معينة، أو باستخدام بعض الأجهزة، وكذلك ضرورة ارتداء الملابس الواقية من الماء أثناء حفر القناة.
ــ شرح كيفية استخدام الأنابيب الرصاصية في رفع ماء البئر إلى سطح الأرض.
ــ شرح بالتفصيل استخدام البرابخ "الأنابيب"، كوسيلة هندسية لجر المياه وأسباب اللجوء إليها، ووصف شكل البربخ و كيفية صناعته وطريقة تنفيذه.
ــ وأوضح أيضاً حلاً آخر للأنابيب، وهو رص ورصف جوانب الساقية.
ــ أشار إلى العديد من مواد البناء التي تستخدم في المنشآت المائية، كالآجر والحجارة والطين، وخلائط النورة بجميع أنواعها كرابط، واعتنى بتفصيل طريقة تصنيعها واستخدامها.
ــ ذكر ثلاثة أجهزة مساحية لقياس فروق الارتفاع في موقع القناة لتحديد ميلها الطولي، وهي : (جهاز الأنبوبة، وجهاز الصفيحة، وجهاز العمود، وهي أجهزة كانت معروفة في عصره).
ــ اخترع ميزانين آخرين : ميزان الصفيحة المربعة المدرجة، و ميزان الصفيحة ذات الأنبوبة. ومن معرفته الرياضية في استخراج هذه الموازين وتطويرها وتعديلها، حولها إلى أجهزة متكاملة مدرجة تعطي فرق الارتفاع للراصد مباشرة.
ــ إن الكرجي باختراعاته هذه يكون قد أدخل الأعمال المساحية بوصفها جزءاً من عمل هندسي مائي في حقل العلوم التطبيقية، فحولها من مجرد عمل حرفي يقوم به المساح، إلى عمل هندسي دقيق.
ــ ذكر مراحل تنفيذ منشأة القناة، كاختبار موقع القناة و توقيت البدء بتنفيذها، واختيار مقطع القناة على حسب نوعية التربة و الصخور، ثم تحديد ميول الأرض لتحديد الميل الطولي لأرضية القناة، ثم حفر وإنشاء القناة والحالات المختلفة التي تعترض ذلك، والأجهزة والأدوات المستخدمة أثناء العمل.
ــ أكد ضرورة صيانة منشأة القناة وترميمها باستمرار.
ــ ذكر تقاليد تسليم الأعمال المنفذة من المتعهدين منفذي القنوات "القنائين"، والشروط الواجب توافرها في القناة عند استلامها (انظر الأشكال 1، 2، 3، 4).
ــ من المحتمل أن الكرجي قد اطلع على الباب الخامس حول هندسة إنباط المياه في كتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية. ومن المحتمل أيضاً أن يكون قد اطلع على كتب غير عربية في مجال الاستفادة من المياه الجوفية، ومما يشير إلى ذلك أنه أورد أقوالاً وآراء ينسبها للأولين : "قال الأولون" ــ "قال الحكماء" دون أن يتبناها، وفى أحيان كثيرة ينقدها.
كتاب البئر(14)
ألف هذا الكتاب أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي. ويعدّ هذا الكتاب من الرسائل التي كانت نواة للمعاجم العربية الكبيرة فيما بعد. ويجمع كتاب البئر لابن الأعرابي مجموعة لا باس بها من الألفاظ التي توصف بها الآبار في حفرها واستخراج المياه منها، وقلة تلك المياه وكثرتها، وأجزاء البئر وأنواعها، وأسماء كل نوع، وأنواع المياه الخارجة منها، وآلات استخراج المياه من الآبار.
كتاب عين الحياة في علم استنباط المياه
يعدُّ هذا الكتاب من المؤلفات المتأخرة في هذا العلم، وعلى الرغم من ذلك فإن للكتاب أهمية خاصة، سنبينها من خلال تحليل مضمون هذا الكتاب.
مؤلف الكتاب :
هو أبو العباس أحمد بن عبد المنعم الدمنهورى، نسبة إلى دمنهور بمصر(15)، ولد فيها سنة 1101هـ، ونشأ يتيماً ولا وزر له وكان ذكياً فهماً، وفي نفسه طموح وعزم، ووجد في اكتساب العلم والتحلي بحليته ما يخرجه من واقع حاله إلى ما يطمح إليه من الرفعة والمجد والعلم. فنزح إلى الأزهر صغيراً ولم يكفله أحد، واجتهد في تحصيل العلم، واشتد ولعه بالفقه، واجتهد في التعرف على المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، وعني بعلوم الهندسة والمساحة والهيئة (الفلك) والميقات، وصنع المزاول(16) والحساب... إلخ.
وفي أواخر حياته سنة 1181هـ ولي مشيخة الأزهر ولم تطل مدته فيها، إذ توفي في شوال 1182هـ.
سبب تأليف هذا الكتاب :
التمس تأليف هذا الكتاب من المؤلف الشيخ يوسف بن محمد الزغواني التونسي، وهو فقيه تونسي معروف. والغريب في هذا المطلب هو بعده عن تخصصه، والأمر الطبيعي من مثله أن يطلب منه تأليف كتاب في خاص علمه يزيل إشكالاً، أو يحل عويصاً، أو يفصل مجملاً، وليس كتاباً في علم إنباط المياه.
ويجلو هذا الاستغراب ما علمناه من صلة الرجل بأمير بلاده وما كان يدركه من حاجاته ومطالبه في العمران. وقد كان هذا الأمير (الباي حسين بن علي التركي) مؤسس الإمارة الحسينية بتونس، وإليه نسبتها، كان حفياً بالعمران، جاداً في نشره، وفي طليعة متطلباته هذا الماء ولزوم توفيره وإنشاء الفوارات والسقايات، فبنى المآجل والصهاريج واستكثر من نشره، ومن هنا نشأ اهتمام الشيخ بمطلب الماء، وحرص على التعرف على طرق إنباطه ووسائله ليستعين بها هذا الأمير في نشر العمران والخصب.
محتويات الكتاب :
يتألف هذا الكتاب من مقدمة وبابين وخاتمة.
فأما (المقدمة)، فقد خصها المؤلف بأشياء تتصل بطبيعة موضوع الماء، ففسر الاستنباط لغة واصطلاحاً، وتكلم عن العالم والعناصر الأربعة التي كان القدماء يظنون أن العالم مركب منها، وهي الماء والهواء والنار والتراب، معللاً وشارحاً خواصها ونسبة بعضها إلى بعض، وذكر الرياح الأربع وحدوثها وصفاتها، وبين علاقتها بالمياه في تجفيفها أو زيادتها.
وأما (البابان)، فأولهما في "تعريف المواضع التي فيها ماء، والتي ماؤها قريب، والتي ماؤها بعيد وما يستدل به على ذلك من أمارات ذكرها"، وثانيهما تكلم فيه عن حفر الآبار، وطرائقه، ووسائل معالجته، وختمه بأقوال بعضها من الاعتقاد الباطل بالنجوم والقمر، مما يحكيه المنجمون، وبعض آخر من حكايات أهل الشعوذة. وقد كان الخليق بالمؤلف، إذ شاء أن يذكرها، أن يفندها، ويذكر بطلانها وسخفها كما لمثله بعلمه الواسع وعقله الحصيف أن يفعل(17). وهذان البابان هما لب موضوع الكتاب.
أما الخاتمة فقد ضمنها ثلاثة مباحث : الأول في إيضاح ما تقدم، مستمداً مادته من (عجائب المخلوقات) وغيره، وهو يتعلق بالأرض وطباعها وطبقاتها وما يحيط بها من الماء والهواء، وصفة الماء وأنواعه والأبخرة.
المبحث الثاني في بيان المعمور من الأرض، طوله وعرضه وطول البلد وعرضه، وقسمة الأقاليم إلى سبعة، وأثر الأقاليم في الأبدان والطبائع والأخلاق. والمبحث الثالث عقده لبيان فضل العلم وأهله، فذكر فيه بعض ما تواترت به الآيات والأحاديث والآثار على فضله والحث على تحصيله، كأنه أراد منه أن يحفز همم الأمة إلى اكتسابه لتفيد منه في شؤون دنياها وآخرتها فتعمر الأرض، وتنبط المياه، وتزرع وتغرس ما تتقوت به، وما يمد لها من أسباب الحياة الهانئة، إذ الحكمة تقول : >اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً<.
في مضمون الكتاب وخاتمته وضع المؤلف صوراً لمهاب الريح وكرة الأرض والأقاليم السبعة وغيرها.(5/294)
ولا ريب في أن جملة ما تضمنه هذا الكتاب في المقدمة والبابين والخاتمة هو من العلم النافع الذي عني به الفلكيون وعلماء الفلاحة وتداولوه، وظل موضع نظر ودرس واعتبار على مسار رحلة العلم من زمن إلى آخر، ومن أوطان في الشرق إلى أوطان في الغرب، لا تحجزه حدود مغلقة النوافذ، ولا تقيده قيود(18)... ومع أن الدمنهوري لم يأت بجديد في كتابه، إلا أنه امتاز ببراعته في تلخيص الأصول التي أشارت إلى استنباط المياه، وغدت أصولها في حكم المفقود في زماننا(19)... يدل تأليف ذلك الكتاب في هذا الزمن المتأخر، فيما تدل عليه جملة معانيه، على مبلغ تعلق علماء الإسلام على تعاقب العصور بعلوم الحياة، دقيقها وجليلها، يدرسونها ويعلمونها، ويؤلفون فيها لا يفترون.
علم المياه الجارية
أحدث ما كتبه علماء المسلمين في هذا المضمار، ما خطه الشيخ محمد حسين العطار الدمشقي (1243-1177هـ/1827-1764م)(20) تحت عنوان علم المياه الجارية في مدينة دمشق، أو رسالة في علم المياه. يقول العطار عن سبب تأليف الرسالة ما يلي : >عنَّ لي أن أضع في ذلك تأليفاً وافياً بالمقصود كافياً، إذ لم أر في ذلك رسالة ولا كتاباً مع كونه من مهمات الحساب<. ركز العطار في رسالته على طرق حساب توزيع مياه نهر بَرَدَى على كل حارة وزقاق وبيت في دمشق وغوطتها، وهي تروي كل إنسان وحيوان ونبات، في كل وقت وزمان وعلى مدار أربع وعشرين ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، وعلى مدار العام، أليس ذلك دليلاً على التقدم والعلم ؟. لذلك قال العطار في مؤلفه إنَّ العلم وحده ودقة الحساب توصل الحياة إلى كل بيت وإنسان في زمن لم يكن للآلة والمضخات والرافعات وجود. لذا استخدم الدمشقيون الحسابات الدقيقة في تسيير قنوات المياه بمدينتهم، واستخدموا معها الأواني المستطرقة في التوزيع. وقد أوضح المؤلف في مخطوطته أسس علم توزيع المياه، وهو مبني على علم الفرائض والحساب، والعلوم الأخرى المساعدة، كعلم الهيئة، وهوعلم الفلك، ويفيد هنا في حساب الميول والانحدارات وفي توزيع المخططات، وعلم الميقات، وذلك لحساب الزمن المخصص في توزيع المياه. كما يبين لنا الأدوات التي يستخدمها العالم في هذا العلم، كالذراع والبيكار وغيرها، ثم يوضح لنا طرق الحساب بحسب الفرائض والنسب والقراريط، ويشرح لنا أيضاً المسائل التي ترد في تطبيقات العلم، ويضرب الأمثلة على كل حالة ليعلمنا كيف نحل الإشكالات، ويبين أسباب الخلل الذي قد يحدث في بعض الأحيان عند توزيع المياه. كما حفلت رسالة العطار بالعديد من المصطلحات العلمية الهامة الخاصة بهذا العلم(21).
الماء في مصنفات علماء المسلمين
إذا كانت الكتب السابقة قد أفردت الحديث عن المياه، فإن مخطوطات التراث الإسلامي حفلت أيضاً بنصوص وموضوعات هامة تتعلق بالمياه واستنباطها، نبدأ هذا من خلال تعريف طاش كبري زاده (علم إنباط المياه) الذي قال : >هو علم يتعرف منه كيفية استخراج المياه الكامنة وإظهارها، ومنفعته إحياء الأرضين وأفلاجها<، وعده فرعاً من فروع الهندسة، فهو فرع من فروع هندسة الري.
بينما نرى القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) يقدم وصفاً للمياه الجوفية، حيث يقول : >ذهبوا إلى أن جوف الأرض فيه منافذ ومسام، وفيها إما هواء أو ماء، فإن كان أصابه مدد من جهة أخرى لا يسع ذلك الموضع تنشق الأرض إن كانت رخوة، ويظهر وجهها إن لم يكن لها قوة الخروج، فيحتاج إلى أن ينحي عنه التراب حتى يظهر كماء القنوات والآبار...<. هذا، ويعدد القزويني بعض عيون المياه العجيبة في نظره، لينتقل منها إلى ذكر الآبار مما عاينه مشاهدة أو مما سمعه من الرواة والرحالة، منها (بئر كنود) في ليبيا، وبئر بدر، وبئر زمزم في مكة المكرمة. ومن اللاَّفت للنظر أن القزويني يتحدث عن الدورة الهيدرولوجية قائلاً في فصل سماه "في السحاب والمطر وما تعلق بهما" : >زعموا أن الشمس إذا أشرقت على الماء والأرض حللت من الماء أجزاء لطيفة مائية تسمى بخاراً، ومن الأرض أجزاء لطيفة أرضية تسمى دخاناً. فإذا ارتفع البخار والدخان في الهواء وتدافعهما الهواء إلى الجهات من فوقهما، برد الزمهرير ومن أسفلهما مادة البخار غلظاً في الهواء وتداخلت أجزاء بعضهما في بعض، فإنه يكون منهما سحاب مؤلف متراكم، ثم إن السحاب كلما ارتفع أنمت أجزاء البخار بعضها إلى بعض حتى يصير ما كان منهما دخاناً وركاماً، وما كان بخاراً ماء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض، فتصير مطراً، ثم تأخذ راجعة إلى الأسفل. فإن كان صعود ذلك البخار بالليل والهواء شديد البرد، منعه من الصعود وأجمده أولاً، فصار سحاباً رقيقاً، وإن كان البرد مفرطاً أجمده البخار في الغيم، وكان ذلك ثلجاً، لأن البرد أجمد الأجزاء المائية ويختلط بالأجزاء الهوائية وينزل برفق، فلذلك لا يكون له في الأرض وقع شديد كما هو الشأن بالنسبة للمطر والبرد، فإن كان الهواء دفيئاً وارتفع البخار في الغيوم وتراكمت منه السحب طبقات بعضها فوق بعض كما ترى في أيام الربيع والخريف، كأنها جبال من القطن مندوفاً. فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق غلظ البخار، فإنها تصير ماءاً وانضمت أجزاؤها فصارت قطراً عرض لها الثقل، فأخذت تهوي من أعلى السحاب وتلتئم القطرات الصغار بعضها إلى بعض حتى إذا خرجت من أسفلها صارت قطراً كباراً. فإن عرض لها برد مفرط في طريقها، جمدت وصارت برداً قبل أن تبلغ الأرض، وإن لم تبلغ الأبخرة إلى الهواء البارد، وكانت كثيرة صارت ضباباً، وإن كانت قليلة وتكاثف ببرد الليل ولم تجمد، نزلت صقيعاً<(22).
وفي كتاب الخراج تعرض القاضي أبو يوسف، لعديد من القواعد التي تتعلق بالمياه والتي يمكن أن نعدّها قوانين شرعية تحدد العلاقة بين الماء والأرض والإنسان، منها على سبيل المثال، أن تنفيذ أي منشأة مائية في ملكية خاصة يجب أن يكون بإذن من صاحب الأرض(23).
واشتمل كتاب صورة الأرض لابن حوقل على وصف لبعض المشاريع المائية. فعن سجستان يقول : >وللقرنين ــ وهي مدينة مياه جارية وقني من تحت الأرض كثيرة<، ويذكر عن مكة المكرمة : >وليس بمكة ماء حار إلا شيء أجري إليها من عين كان قد عمل فيها بعض الولاة فاستتم في أيام المقتدر<، وعن مدينة طبريا يقول : >وبها عيون جارية حارة ومستنبطها على نحو فرسخين من المدينة<(24).
كما اهتمت المؤلفات الكبرى في الزراعة والنبات كـ المقنع في الفلاحة للإشبيلي، وكتاب الفلاحة لابن البصال، والفلاحة النبطية لابن وحشية، بطرق إنباط المياه الجوفية وهندستها. ونتوقف عند الزمخشري الذي ولد سنة 467هـ وتوفي سنة 538هـ، فقد وضع كتاباً بعنوان كتاب الأمكنة والمياه والجبال عرف فيه بشكل مختصر بأشهر الآبار والعيون(25).(5/295)
وقدم البيروني في مؤلفه الآثار الباقية عن القرون الخالية عرضاً علمياً عن المياه الجوفية، فحدد مصدرها وآلية جريانها الجوفي وأشكال وجودها بأسلوب دقيق ورصين قائم على التحليل الفيزيائي في معظم الأحيان، فهو يحدد بشكل قاطع وصريح، أن أصل المياه الجوفية هو (المطر)، حيث يقول : >فأما لما صارت مياه العيون في الشتاء أغزر... ومن البين أن وقوع الأنداء في الشتاء أكثر منه في الصيف، وفي الجبل أكثر منه في السهل، فإذا وقعت فيها وسال بالسيول غاص الباقي في المجاري التي في تجاويف الجبال وخزن هناك، ثم يأخذ في الخروج من المنافذ التي تسمى العيون...<، عبر هذا التحليل المنطقي المستند إلى انخفاض درجة الحرارة في الجبال وكون أمطارها أكثر، يوضح البيروني أن المطر له مسلكان، قسم يسلك في مسيلات سطحية، وقسم آخر يتسرب ويتخزن، كمياه جوفية، وهي المياه التي قد تخرج في شكل ينابيع.
ويعلّل البيروني حركة الماء الجوفي بالاستناد إلى مبادئ منها : حركة الماء إلى المركز، والمقصود بهذا بلغة العصر : خضوع الماء للجاذبية الأرضية مما يجعله يسيل آخذاً ميل الأرض، فهو يناقش وينتقد من قال إن : >صعود الماء في أنهار ومجاري مياه كلما تباعدت مع جري الماء تصاعدت< حسب هذا التصور. وفي الواقع أيضاً، قد ينبثق الماء الجوفي، ليس من الموضع الذي تسرب منه، وإنما من مكان بعيد عن هذا الموقع.
ويذكر البيروني أن الآبار على نوعين : إما بالرشح أو تفور بالقعر، ويبدو أن هذين النوعين يسميان حديثاً : الآبار العادية والآبار الارتوازية : >فإن من مياه الآبار ما يجتمع بالرشح من الجوانب فذلك لا يصعد، ويكون مأخذها من المياه القريبة إليها، وسطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه التي هي مادتها<، هذه هي مادة الآبار العادية، فمياهها لا ترتفع إلى الأعلى، لعدم وجود الضاغط البارومتري، مصدرها طبقة مائية جوفية غير محتجزة، وقد تكون طبقة مائية معلقة تترشح مادتها في جوانب البئر، ويكون مستوى الماء في البئر هو مستوى الماء في الطبقة الجوفية.
أما النوع الثاني، فيصفه البيروني بقوله : >ومنها ما يفور في القعر، فذاك هو المرجو الممكن أن يفور إلى الأرض ويجري على وجهها، وأكثر ما يوجد في هذه الأرضين القريبة من جبال، بحيث لا يتوسطها بحيرات ولا أنهار مياه عميقة، فإذا كان مأخذه من خزانه أعلى من سطح الأرض، فإن الماء يصعد بالفوران إذا حصر، وإن كانت خزانه أسفل لم يتم ارتفاعه إليها ولم ينجح<، هذه هي البئر الارتوازية، ويقصد بخزانها (أعلى من سطح الأرض) أن موقع البئر الارتوازية يتعرض إلى ضغط مائي، مما يؤدي إلى الاندفاع إليه. فالمياه الجوفية تكون غير مقيدة أو حرة، عندما يساوي الضغط السطحي الضغط الجوي، وكذلك عندما لا تعزل بطبقات كتمية وسميكة غطائية، حتى يكون الضغط المائي السطحي أعلى من الضغط الجوي.
هكذا أبدى علماء المسلمين اهتماماً خاصاً بقضايا المياه وحلولها، حيث أفردوا لها كتباً خاصة، وفصولاً في مؤلفاتهم، وهذا يعني أنها كانت تعد عصب الحياة في الحضارة الإسلامية.
(1) للمزيد ينظر بحث محمد بهجة الأثري، خواطر وسوانح في حلول مشكلات الماء والتغذية وتزايد السكان، مجلة "الأكاديمية"، العدد 1، فبراير 1984، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط.
(2) طاش كبري زاده، مفتاح السعادة، ج 1، ص 355، ج1 ، ص 355، ط مصر، محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب، ج 3، ص 343، ط 3، مصر. ومقدمة محمد بهجة الأثري، لكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، ص 8، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.
(3) انظر تهذيب اللغة، لسان العرب، القاموس المحيط، تاج العروس (قنن).
(4) عاش أبو بكر محمد بن الحسن الكرجي في فترة السيطرة البويهية على الدولة العباسية التي تمتد بين سنتي 447-334هـ/1055-945م، ولا تذكر المصادر سنة ميلاده أو سنة وفاته، وإن كانت بعض الكتب الحديثة ترجح وفاته بعد سنة 406هـ. للكرجي إنجازات علمية رائعة، فله بحوث مبتكرة في الجذور الصم، ومربعات الأعداد الطبيعية ومكعباتها، والمتواليات الطبيعية التي تبدأ بواحد. كذلك أبدع الكرجي ما يسمى مثلث المعادلات ذات الحدين، وهو المعروف اليوم باسم "مثلث باسكال"، الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، وكان الأولى أن يسمى "مثلث الكرجي". ومن مؤلفاته في الجبر "الفخري في الجبر والمقابلة"، وله رسالة "علل حساب الجبر والمقابلة"، وله في الحساب "الكافي في الحساب" قدم فيه القوانين والطرق الحسابية المبتكرة لتسهيل المعاملات، كما شرح فيه كيفية إيجاد الجذر التقريبي للأعداد التي لا يمكن استخراج جذرها التربيعي، وكيفية حساب مساحات بعض السطوح، وبخاصة التي تحتوي على جذور، وله "البديع في علم الحساب" و"عقود الأبنية" و"نوادر الأشكال" و"الدور والوصايا".
ـ سليمان فياض، عمالقة العلوم التطبيقية وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية، ص 109-108، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م.
ـ ابن خلكان، أحمد بن محمد أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج 2، ص 65، المطبعة اليمنية، القاهرة، 1310هـ.
ـ عمر رضا كحالة ،معجم المؤلفين، ج 9، ص 211، دمشق، 1960م.
ـ قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، ص 282، ط 3، دار القلم، القاهرة، 1963م.
ـ الكرجي، محمد بن الحسن، إنباط المياه الخفية، ص 16-13، تحقيق بغداد عبد المنعم، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1997م.
(5) انظر مادة نبط في لسان العرب لابن منظور.
(6) wiedmann beitrage zurgeschichte der natur wissenschaften. v 1905 bd 37. x I v 1908 bd 40. karagi (mohammad_ al).
(7) La civilisation des eaux cachées de lصexploitation des eaux souterraines, texte etabli, traduit et commenté par aly mazaheri.
(8) ترجم قسم من الكتاب إلى الإنجليزية fr.bruin تحت عنوان : Surveying and surveying instruments being chapters 26, 27, 28, and 30 of the book on finding hidden water by Abu Baker Muhammad al Karaji, english edition, Beirut, 1970.
(9) الكرجي، إنباط المياه الخفية، ص 153.
(10) الكرجي، إنباط المياه الخفية، ص 154.
(11) المصدر السابق، ص 162.
(12) المصدر السابق، ص 162.
(13) المصدر السابق، ص 163، ود. حسين علي محفوظ، "القنوات في التراث"، ص 194-192، بحث في كتاب ندوة الري عند العرب، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1989م.
(14) لأبي عبد الله بن زياد الأعرابي، تحقيق د. رمضان عبد التواب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970.
(15) وهي تقع غرب الدلتا، وهي مدينة كبيرة، عاصمة إقليم البحيرة بمصر.
(16) جمع مزولة، آلة يعرف بها زوال الشمس.
(17) أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري، عين الحياة في علم استنباط المياه، ص 11.
(18) المصدر السابق، ص 11.
(19) د. محمد صالحيه ،علم الريافة عند العرب، ص 9، الجمعية الجغرافية الكويتية، نشرة (37) بالاشتراك مع جامعة الكويت.(5/296)
(20) يعد الشيخ محمد بن حسين الشهير بالعطار والمدرس الحنفي الدمشقي من علماء دمشق البارزين، أخذ عن والده الذي عاش في الفترة من 1151 إلى 1227هـ الذي أخذ العلم عن والده أيضاً. ومن أهم مؤلفاته : رسالة في علم المياه، رسالة في الرمي بالقنبرة، رسالة في فن القبان، وهي شرح على منظومة معاصرة للشيخ حسن العطار المصري. وله أيضاً رسالة في المزولة. سافر العطار إلى مصر ودخل الأزهر وأخذ عن علماء مصر. توفي محمد العطار بالطاعون الذي أصاب دمشق، وذلك في سنة 1243هـ/1827م ودفن في دمشق.
ـ الشطي، أعيان دمشق، ص 91-90.
(21) محمد حسين العطار، علم المياه الجارية في مدينة دمشق، تحقيق أحمد غسان سبانو، دمشق، 1984م.
(22) القزويني، زكريا بن محمد، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص 118، مطبعة عيسي البابي الحلبي، القاهرة.
(23) أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، ص 97، ط2 ، القاهرة، 1352هـ.
(24) ابن حوقل، النصيبي أبو القاسم، كتاب صورة الأرض، ص 312، 420، طبع في ليدن، 1938م.
(25) الزمخشري، محمود بن عمر، كتاب الأمكنة والمياه والجبال، ص 3، تحقيق د.إبراهيم السامرائي، مكتبة سعدون، بغداد، بدون تاريخ.
=============
الحضارة الاسلاميه
قصة الحضاره تبدأ منذ أن عرف الانسان وهى حلقه متصله تسلمها الامه المتحضره الى من بعدها وتكاد لا تخلو امه من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضاره غير ان ما تمتازه الحضاره عن غيرها انما هو قوة الاسس التى تقوم عليها والتأثير الكبير الذي يكون لها والخير العميم الذي يصيب الانسانيه من قيامها
وكلما كانت الحضاره عالميه في رسالتها , انسانيه في نزعتها , خلقيه في اتجاهاتها , واقعيه في مبادئها كانت أخلد في التاريخ.
وحضارتنا حلقه من سلسه الحضارات الانسانيه , وقد كان لقيامها عوامل , ولا انهيارها أسباب , ولسنا هنا بصدد الحديث عن عوامل قيامها أوبيان اسباب انهيارها , ولكن حديثنا سيدور حول دورها في التاريخ والتقدم الانسانى وما تميزت به من خصائص .
ان ابرز ما يلفت النظر الى الحضاره الاسلاميه انها قامت على اساس الوحدانيه المطلقه في العقيده ,فهي اول حضاره تنادى باسم الله الواحد الاحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد .له في حكمه وملكه ......هذه السمو في فهم الوحدانيه كان له أثر كبير في رفع مستوى الانسان وتحرير الناس من الطغيان وتصحيح العلاقه بين الحاكمين والمحكومين ونتج عن هذه الوحدانيه خلو هذه الحضارات من كل مظاهر الوثنيه وأدابها وفلسفتها في العقيده والحكم والفن و الأدب وهذا هو سر اعراض الحضاره الاسلاميه عن الترجمه لروايات الأدب اليوناني الوثنى وتحاشيها في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء
ان الاسلام الذي أعلن الحرب العوان على الوثنيه ومظاهرها لم يسمح لحضارته ان تقوم فيها مظاهر الوثنيه وبقاياها المستمره منذ أقدم العصور التاريخ كتماثيل العظماء والفاتحين
وبما ان حضارتنا الاسلاميه انسانيه النزعه والهدف , فالقرأن الكريم أعلن وحدة النوع الانسانى رغم تنوع أعراقه ومواطنه ,في قوله تعالى- يأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفو ان اكرمكم عند الله اتقاكم)
جعل حضارته عقدا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب التى خفقت فوقها راية الفتوحات الاسلاميه وكل حضاره تستطيع ان تفتخر لانها ابناء جنس واحد وامه واحده الا الحضاره الاسلاميه فانها تفتخر بالعباقره اللذين اقامو صرحها في جميع الشعوب والحضارات وان للمبادئ والاخلاق المحل الاول في كل نظمها ومختلف الميادين فلم تجعلها وسيله لاستغلال دوله او جماعه بل رويت تشريعا وتطبيقا وسلما وحربا وحضارتنا تؤمن بالعلم وترتكز على العقيده في اصفى مبادئها فهي تخاطب العاطفه والافكار في وقت واحد وهذه ميزه لم تشاركها أي حضاره في التاريخ وللدين الاسلامى عامل كبير في ارتقاء الحضارات فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهره وقرطبه وغرناطه انطلقت أشعة العلن الى أنحاء الدنيا قاطبه
وان للحضارة الاسلاميه ميزه لم تعرفه البشريه وهي التسامح الدينى التى قامت على الدين وشادت عليه قواعدها ومبادئها وهى من أشد ما عرف التاريخ تسامحا وعداله وانسانيه ورحمه حمدا لله اننا مسلمون وحسبنا ان نعرف حضارتنا التى تنفرد في التاريخ بأنها اقيمت على دين واحد للناس اجمعين وان الحضارات لايقارن بالمقياس المادى ولا بالكميه في الأعداد والثروات والمساحات ولا بالترف المادي في المعيشه وانما يقارن بالأثار التى ترمها البشر الأخيار على مدى التاريخ المعارك والممالك ...مقارنه لا تقاس بسعة الرقعه ولابحساب العدد .
فان للمعارك شرفها وكرامتها ولو قيست بمعارك الحرب العالميه الثانيه من حيث العدد والعتاد ووسائل القتال لكانت شيئا تافها الا ان لها قيمتها التاريخه ذات الصدى الكبير في معالمنا الحالى وخير دليل على هذه الفتوحات الاسلاميه بقيادة خالد بن الوليد في الشام والعراق لا تزال محل دراسه في المعاهد والكليات العسكريه الغربيه ومثار اعجاب لها وهي صفحات ذهبيه في تاريحنا الاسلامى
ومع هذا ما كان لبدر والقادسيه وحطين وعين جالوت ان يحول دون النظر اليها على انها معارك فاصله في التاريخ الاسلامى
==============
القصور القديمة في الحضارة الإسلامية
أسفرت الحفائر في الدول العربية الإسلامية ولاسيما في سامراء بالعراق، والفسطاط بمصر ،ومدينة الزهراء بالأندلس عن كشف أطلال بعض البيوت الأثرية . وظهر أن معظم هذه البيوت قد لوحظ في تصميمها، موافقتها لجو البلاد وللعادات الشرقية الإسلامية، فكانت حرمة الدار مكفولة، ومن في ظاهر الدار لا يستطيع رؤية من في داخلها. وكانت في معظم البيوت فسقية وحديقة .
كما كان يعنى بالقصور الإسلامية عناية كبيرة ،وكانت الطبقات السفلية من هذه القصور متينة البناء ومشيدة بالحجر وذات عقود جميلة . وكانت الطبقات العلوية تمتاز بأسقفها البديعة المصنوعة من الخشب المزخرف بالنقوش المذهبة بينما كانت واجهات القصور تزدان بالمشربيات البارزة والمصنوعة من الخشب الخرط، مما كان يكسب المدن الإسلامية طابعاً جميلاً أُعجب به الرحالة والتجار من المشرق والمغرب .
وكانت القصور الإيرانية في العصر الصفوي صغيرة الحجم ،وكان كل ملك أو أمير يملك عددا كبيرا منها . وقد وصف الأوربيون الذين رأوا إيران في ذلك العصر ما شاهدوه من قصور ،وأطنبوا في ذكر ما فيها من أدلة النعيم وحسن الذوق، ووصفوا سقوفها الدقيقة واللوحات المصورة على جدرانها ،والأثاث الفاخر في قاعاتها ،وأشاروا إلى القاعات التي كانت تهيأ في جدرانها طاقات لوضع الأواني الخزفية الجميلة .
أما القصور في الأندلس وبلاد المغرب فقد كان معظمها آية في العظمة ،والسعة ، وجمال العقود ،ودقة الزخارف الجصية التي تزين الأعمدة وتيجانها، فضلا عن الأرضية الجميلة من الفسيفساء ،والسقوف الجميلة من الخشب المحفور والمزين بالنقوش البديعة . وقصر الحمراء بغرناطة يكاد يكون في ذلك أبدع القصور الإسلامية على الإطلاق .(5/297)
وفي عهد المماليك والأتراك كانت البيوت الكبيرة في القاهرة تشمل طابقا أرضيا للرجال ( سلاملك ) ،وطابقا علوياً للنساء ( حرملك ) ،وكان يلاحظ في تصميم الدار أن تُطلَ القاعات الرئيسية على الجهة البحرية لتستقبل النسيم . وكانت المشربيات أهم مايزين واجهات البيوت والقصور، فتلطف شدة الضوء وتدخل النسيم وتمكن النساء من رؤية ما يحدث الخارج بدون أن يراهن أحد . وكانت النوافذ المتسعة في القاعات تطل على صحن الدار ، أما النوافذ المطلة على الشارع فكانت صغيرة ومرتفعة .
ومن أمثلة القصور في الحضارة الإسلامية ما يلي :
قصير عمرة بالأردن
قصير عمرة قصر صغير يقع على بعد حوالي 50 كيلو مترًا غرب الرأس الشمالي للبحر الميت، و يرجع بناؤه إلى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك سادس الخلفاء الأمويين، و الذي حكم ما بين عامي 705 - 715 م، ويضم قاعة استقبال مستطيلة الشكل ذات عقدين يقسمانها إلى ثلاثة أروقة ، لكل رواق منها سقف من قبو نصف دائري ،ويتصل الرواق الأوسط في الجهة الجنوبية بحنية كبيرة على جانبيها غرفتان صغيرتان بدون نوافذ .
وإلي جانب قاعة الاستقبال حمام من ثلاث قاعات صغيرة : الأولى ذات سقف من قبو نصف دائري ،والثانية سقفها من قبوين متقابلين ، والثالثة تعلوها قبة نصف كروية ، أما الحمام فهو بحالة جيدة، و يشبه الحمامات الرومانية بشكلها ومكوناتها، حيث يتألف من قاعة كبيرة مخصصة لخلع الملابس مزودة بمقصورتين، و هناك أيضاً الغرفة الباردة والغرفة الفاترة و القاعة الحارة المجهزة بأنابيب البخار، أما جدران القصر فكانت مليئة بالرسومات و الجداريات. وكانت جدران هذا القصر وسقوفه محلاة بنقوش دب التلف إلى معظمها . وتضم هذه النقوش رسوم صيد، واستحمام، ورسوم راقصات، ونساء، ورسومًا رمزية لآلهة الشعر والفلسفة والنصر والتاريخ عند الأغريق، وأخرى لبعض مراحل العمر المختلفة: الفتوة والرجولة والكهولة، ورسما لقبة السماء وبعض النجوم فضلا عن البروج المختلفة، ورسوم طيور وحيوانات وزخارف نباتية.
وأهم نقوش هذا القصر نقشان : الأول رسم الخليفة على عرشه وحول رأسه هالة وفوقه مظلة يحملها عمودان حلزونيان، ويحف به شخصان ، وكان على عقد المظلة عصابة من الكتابة الكوفية تطرَق التلف إلى كثير من أجزائها، ويستنبط من الكلمات الباقية أنها كانت تشتمل على عبارات دعائية، أما النقش الثاني فالصورة المشهورة فيه باسم صورة ملوك الأرض والتي اعتمدها علماء الآثار في تأريخ قصير عمرة .
قصر المشتى بالأردن
......................................
يقع القصر على مسافة حوالي 32 كم جنوب شرق مدينة عمان، وتم إنشاؤه على يد الخليفة الأموي الوليد الثاني عام 744م، ويحيط بالقصر سور مربع طوله 144 متراً، و يكتنفه 25 برجاً دائرياً، عدا برجي المدخل فهما بشكل نصف مثمن، و يمتاز القصر بتقسيماته المختلفة، فهو مقسم إلى ثلاثة أجنحة، الجناح الأوسط
الأوسط مقسم إلى ثلاثة أقسام يضم القسمان الشمالي و الجنوبي الأبنية الرئيسية، أما القسم المتوسط فهو يشكل ساحة مكشوفة، وكان الجناح الشمالي مقراً للخليفة، أما الجناح الجنوبي فهو ممرات و غرف ومسجد، ومنه ينفتح المدخل الوحيد الذي تزينه من الخارج واجهة مزخرفة.
علي أن أعظم ما في قصر المشتى من الناحية الفنية الزخارف المحفورة في الحجر الجيري في الواجهة القبلية التي يقع بها المدخل . ونقلت تلك الواجهة إلى القسم الإسلامي بمتحف برلين، ونرى في قصر المشتى بعض العناصر الفنية التي تشبه زخارف قبة الصخرة
============
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.(5/298)
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gulliver الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.(5/299)
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
• أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
• أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
• أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
• وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة modernity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)(5/300)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
• فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.
• بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
• ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.
• ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
• وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
• وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
• وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
• ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.(5/301)
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.(5/302)
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] For many centuries Islam was the greatest civilization on Earth -- the richest, the most powerful, the most creative in every significant field of human endeavor. Its armies, its teachers and its traders were advancing on every front in Asia, in Africa, in Europe, bringing, as they saw it, civilization and religion to the infidel barbarians who lived beyond the Muslim frontier.
And then everything changed, and Muslims, instead of invading and dominating Christendom, were invaded and dominated by Christian powers. The resulting frustration and anger at what seemed to them a reversal of both natural and divine law have been growing for centuries, and have reached a climax in our own times (The Washington Post, Tuesday, Sept. 10, 2002, p. A15)
[2] لكن هذا لا يعنى أن الحضارة الغربية هي السبب الوحيد لفقدان المسلمين لهذين الشرطين، فمن أسباب ذلك ما قد يكون محليا، بل ما لا بد أن يكون محليا، لأن ضعف الأمة الديني والمادي كان هو السب في هزيمتها. ولما عرف العدو ذلك حرص على استمرار أسباب الضعف وساعدته على ذلك عوامل محلية في الأمة نفسها.
[3] Peter Kreeft, Ecumenical Jihad, Ignatius Press, 1966, San Francisco, pp.61-2.
[4] http://www.whitehouse.gov/news/releases/2002/06/20020601-3.html
[5] http://www.upi.com/view.cfm?StoryID=20020912-034109-6371r
[6] يرى آخرون غيرنتنياهو أن الديمقراطية وجو الحرية الذي بدأ يسود في إيران سيؤدي إلى إنهاء الحكم الإسلامي بطريقة سلمية ديمقراطية.
[7] تصرفت قليلا في بعض الكلمات التي لم أجد لها في العربية مقابلا يفى بغرض الكاتب. لذلك يحسن أن أضع نص حديثه بين يدي من يريدون الاطلاع عليه في لغته الانجليزية:
Why is Islam spreading so spectacularly? Sociologists and psychologists and historians and economists and demographers and politicians are quick to explain this growth with "expert" worldly wisdom from each of their specialties; but to any Christian familiar with the Bible, the answer is obvious: because God keeps His promises and blesses those who obey His laws and fear Him and punishes those who do not. Much too simple for scholars to see. Compare the amounts of abortion, adultery, fornication, and sodomy among Muslims and among Christians. Then compare the amounts of prayer. Ecumenical Jihad, 1996, Ignatius Press, San Francisco, p.38.
=============
بُناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية
ملامح من سِيَر علماء مسلمين من عصور مختلف
المقدمة
تعتبر العلوم من أهم المجالات التي نالت الكثير من اهتمام علماء المسلمين، والتي حققوا فيها إنجازات عظيمة ورائدة أسهمت بدور كبير في تطور المعرفة الإنسانية ؛ فعدد كبير من المؤرخين والباحثين الغربيين يعترفون بإسهامات العلماء المسلمين وإضافاتهم الجديدة في مجالات عديدة كالطب، والفلك، والرياضيات وغيرها، ويقرون بدورهم الريادي في وضع الأسس التي يقوم عليها العلم الحديث.
وإسهاماً منا في التعريف ببعض الشخصيات الإسلامية وما قدمته للإنسانية في مختلف العلوم، فكرنا في إنجاز بيبليوغرافيا لبعض علماء المسلمين. وقد سعينا للجمع في هذه البيبليوغرافيا، بين الشخصيات العلمية البارزة والذائعة الصيت، وبين الشخصيات التي لم تحظ بالشهرة العلمية الكافية، رغم ما قدمته من أعمال ومنجزات، وما أسهمت به في تطور مختلف العلوم، وذلك بهدف إتاحة الفرصة للمثقفين ولطلبة الجامعات ولتلاميذ المدارس الثانوية للتعرف على بناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية وإلقاء نظرة سريعة وموجزة على بعض ما حققوه من إنجازات وما تركوه من مؤلفات في مختلف العلوم.
وإذا كان العلماء المسلمون يوصَفون بالموسوعيين، الذين يحيطون بعدد من المعارف في حقول معرفية متعددة ، تجمع عادة ما بين الفلسفة، والفلك، والرياضيات، والطب، وعلوم أخرى، فقد رأينا أن نخصص هذه البيبليوغرافيا، فقط، لبعض علماء المسلمين الذين أسهموا في تطوير المعرفة العلمية في ميادين محددة مثل : الكيمياء، والطب، والنبات، والصيدلة، وعلم الفلك، والرياضيات والهندسة، وأن نعطي نبذة مركزة عن حياة كل عالم، وفكرة مختصرة عن أهم ابتكاراته وإنجازاته العلمية، مع ذكر أهم مصنفاته وما حملته من جديد في الميدان العلمي، وذلك حسب ما تتفق عليه المراجع التي اعتمدنا عليها في إنجاز هذا العمل.
يتناول هذا العمل الذي نقدمه إلى القارئ نبذة مختصرة عن حياة أربعين عالماً من عصور مختلفة، تمتد من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، إلى القرن الثامن الهجري / الخامس عشر الميلادي. وإذا كنا قد اقتصرنا في هذه الرحلة الطويلة على بعض الشخصيات التي كان لها دور مهم في تطور العلوم وتقدم المعارف، فنحن واعون بأن هناك حاجة ملحة للعمل مستقبلاً، على التعريف بكل الشخصيات العلمية الأخرى التي لم نتمكن من تخصيص حيز لها في هذا العمل.
ولا يسعني وأنا أختتم هذه المقدمة، إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان إلى معالي الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الذي كان له الفضل في إخراج هذا العمل إلى حيز الوجود، كما أتوجه بخالص الشكر والتقدير للدكتور فائق بلال مدير العلوم بالمنظمة الإسلامية الذي تبنى هذا العمل واقترح إدماجه ضمن البرامج العلمية للمنظمة.
حليمة الغراري
-----------
جابر بن حيان
199-102هـ/815-721 م
جابر بن حيان شخصية بارزة، ومن أعظم علماء القرون الوسطى(1). وهو أبو موسى جابر بن حيان الأزدي. ويلقب أحياناً بالحراني والصوفي. وعرف عند الأوربيين في القرون الوسطى باسم Geber. ويقال إنه كان من الصابئة ومن ثم جاء لقبه الحراني. ودخل جابر في الإسلام بعد ذلك وأظهر غيرة عظيمة على دينه الجديد، ويذكر الأب جورج قنواتي أن جابراً أرسل إلى الجزيرة العربية بعد وفاة والده، وهو صغير حيث درس القرآن والرياضيات، وذهب ابن النديم في "الفهرست" إلى أن الناس اختلفوا في نسبة جابر إلى جهة معينة كالشيعة والبرامكة والفلاسفة، >بل هناك من أنكر وجوده أصلاً<، لذلك يجب التحفظ بشأن نسبته إلى الصابئة. وإن كان أصله من خراسان فقد عاش معظم حياته في الكوفة. ولد جابر في طوس حوالي 721/102م، وتوفي حوالي 199 هـ موافق سنة 815م على اختلاف بين المؤرخين.
مارس جابر الطب في بداية حياته تحت رعاية الوزير جعفر البرمكي أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد. وبعد نكبة البرامكة سجن في الكوفة وظل في السجن حتى وفاته.
إسهاماته العلمية
كانت أهم الإسهامات العلمية لجابر في الكيمياء، فهو الذي أدخل البحث التجريبي إلى الكيمياء، وهو مخترع القلويات المعروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي Alkali، وماء الفضة. وهو كذلك صاحب الفضل فيما عرفه الأوربيون عن ملح النشادر، وماء الذهب، والبوتاس، وزيت الزاج. كما أنه تناول في كتاباته الفلزات، وأكسيدها، وأملاحها، وأحماض النتريك والكبريتيك، وعمليات التقطير، والترشيح، والتصعيد.(5/303)
ومن أهم إسهاماته العلمية كذلك، أنه أدخل عنصرَيْ التجربة والمعمل في الكيمياء وأوصى بدقة البحث والاعتماد على التجربة والصبر على القيام بها. فجابر يُعَدُّ من رواد العلوم التطبيقية. وتتجلى إسهاماته في هذا الميدان في تكرير المعادن، وتحضير الفولاذ، وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود، وطلاء القماش المانع لتسرب الماء، واستعمال ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج.
وقد قسم جابر المواد حسب خصائصها إلى ثلاثة أنواع مختلفة، وهي :
1. الكحوليات، أي تلك المواد التي تتبخر عند تسخينها مثل الكافور وكلوريد الألمنيوم ؛
2. المعادن مثل الذهب، والفضة، والرصاص، والحديد ؛
3. المركبات، وهي التي يمكن تحويلها إلى مساحيق. وخلاصة القول، حسب "سارطون"، >إنه لا يمكن معرفة القيمة الحقيقية لما قام به جابر إلا إذا تم تحقيق وتحرير جميع مؤلفاته ونشرها.
مؤلفاته
تعود شهرة جابر بن حيان إلى مؤلفاته العديدة، ومنها :
ـ"كتاب الرسائل السبعين"، ترجمه إلى اللاتينية جيرار الكريموني سنة 1187م ؛
ـ"كتاب أصول الكيمياء" ؛
ـ"صندوق الحكمة" ؛
ـ" كتاب الملك" ؛
ـ"كتاب الموازين الصغير" ؛
ـ" كتاب الرحمة" ؛
ـ "كتاب الخواص" ؛
ـ "كتاب السموم ودفع مضارها".
وتضاف إلى هذه الكتب تصانيف أخرى عديدة تتناول، إلى جانب الكيمياء، شروحاً لكتب أر سطو وأفلاطون ؛ ورسائل في الفلسفة، والتنجيم، والرياضيات، والطب، والموسيقي. وجاء في "الأعلام" للزركلي أن جابراً >له تصانيف كثيرة تتراوح ما بين مائتين واثنين وثلاثين (232) وخمسمائة (500) كتاب، لكن ضاع أكثرها. وقد ترجمت بعض كتب جابر إلى اللغة اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، كما ترجم بعضها من اللاتينية إلى الإنجليزية عام 1678م. وظل الأوربيون يعتمدون على كتبه لعدة قرون، وقد كان لها أثر كبير في تطوير الكيمياء الحديثة. وفي هذا يقول ماكس مايرهوف : يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوربا إلى جابر ابن حيان بصورة مباشرة. وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملة في مختلف اللغات الأوربية.
------------
الخوارزمي
توفي سنة 236هـ ــ 850م
يُعَدُّ الخوارزمي من أكبر علماء العرب، ومن العلماء العالميين الذين كان لهم تأثير كبير على العلوم الرياضية والفلكية. وفي هذا الصدد يقول ألدو مييلي : وإذا انتقلنا إلى الرياضيات والفلك فسنلتقي، منذ البدء، بعلماء من الطراز الأول، ومن أشهر هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي.
لا يعرف تاريخ ميلاد الخوارزمي، كما أن تاريخ وفاته غير مدقق. وكل ما يعرف عنه أنه ولد في خوارزم (خيوة) (أوزبكستان اليوم) جنوب بحر الآرال، وعاش في بغداد أيام حكم المأمون العباسي، وأن المأمون عينه على رأس خزانة كتبه، وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها. وقد استفاد الخوارزمي من الكتب التي كانت متوافرة في خزانة المأمون فدرس الرياضيات، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، إضافةً إلى إحاطته بالمعارف اليونانية والهندية.
إسهاماته العلمية
يُعَدُّ الخوارزمي مؤسس علم الجبر كعلم مستقل عن الحساب، وقد أخذه الأوربيون عنه. كما أنه أول من استعمل كلمة "جبر" للعلم المعروف الآن بهذا الاسم. فلحد الآن ما زال الجبر يعرف باسمه العربي في جميع اللغات الأوربية. وترجع كل الكلمات التي تنتهي في اللغات الأوربية بـ "algorism/algorithme" إلى اسم الخوارزمي. وهو أول من ألف في الجبر. كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالأرقام الهندية (وهي التي تعرف بالأرقام العربية). ومن الإسهامات الهامة للخوارزمي في الرياضيات اكتشافه بعض القواعد وتطويرها، ومنها : قاعدة الخطأين، والطريقة الهندسية لحل المربعات المجهولة وهي التي تسمي اليوم باسم المعادلة من الدرجة الثانية، كما نشر الخوارزمي أول الجداول العربية عن المثلثات للجيوب والظلال، وقد ترجمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر.
إضافةً إلى إسهاماته الكبرى في الحساب، أبدع الخوارزمي في علم الفلك وأتى ببحوث جديدة في المثلثات، ووضع جداول فلكية (زيجاً). وقد كان لهذا الزيج الأثر الكبير على الجداول الأخرى التي وضعها العرب فيما بعد، إذ استعانوا به واعتمدوا عليه وأخذوا منه.
ومن أهم إسهامات الخوارزمي العلمية التحسينات التي أدخلها على جغرافية بطليموس سواء بالنسبة للنص أو الخرائط.
مؤلفاته
ألف الخوارزمي عدة كتب من أهمها :
ـ كتاب "الجبر والمقابلة" وهو يعد الأول من نوعه، وقد ألفه بطلب من الخليفة المأمون. وهذا الكتاب >لم يؤد فقط إلى وضع لفظ الجبر وإعطائه مدلوله الحالي، بل إنه افتتح حقاً عصراً جديداً في الرياضيات. وقد ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وكانت هذه الترجمة هي التي أدخلت هذا العلم إلى الغرب. وظل هذا الكتاب قروناً عديدة مرجعاً في أوربا. وقد حققه الأستاذان علي مصطفى مُشَرَّفَة ومحمد مرسي أحمد، ونشر أول مرة في القاهرة سنة 1939م.
ـ "كتاب صورة الأرض"، وهو مخطوط موجود في ستراسبورغ بفرنسا، وقد ترجم إلى اللاتينية، وتمت مقارنة المعلومات الموجودة فيه بمعلومات بطليموس.
ـ "كتاب العمل بالأسطرلاب" و"كتاب عمل الأسطرلاب".
وخلاصة القول إن الخوارزمي يعد من أعظم العلماء في عصره، وقد >كان له أعظم الفضل في تعريف العرب والأوربيين، من بعدهم، بنظام العدد الهندي. فهو واضع علم الجبر وواضع كثير من البحوث في الحساب والفلك والجغرافيا. وقد عبر ألدو مييلي عن عظمة الخوارزمي بقوله : >وقد افتتح الخوارزمي افتتاحاً باهراً سلسلة من الرياضيين العظام. وقد ظلت كتبه تدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر.
-----------------
ابن ربَّن الطبري
توفي سنة ـ 247هـ ـ 861م
اسمه الكامل هو أبو الحسن علي بن سهل ربَّن الطبري. ولد في مرو من أعمال طبرستان سنة 780 م 164 - هـ أوسنة 770م ـ 153هـ. وهو ينحدر من أسرة فارسية مسيحية حسب كل من ألدو مييلي وابن خلكان ؛ لكنه اعتنق الإسلام على يد المعتصم. ويقول محمد زبير الصديقي محقق كتاب "فردوس الحكمة" : إن المتوكل هو الذي >دعاه إلى الإسلام فلباه واعتنقه، فلقبه بلقب مولى أمير المؤمنين، ولشرف فضله جعله من ندمائه<.
أما لقب ربَّن فيعني الأستاذ حسب ألدو مييلى الذي يقول : >إن اللقب السرياني، ربان، كان مستعملاً عند المسيحيين مطابقاً للفظ : أستاذ عندنا.
وكان والده سهل عالماً بارعاً في الطب، والهندسة، والتنجيم، والرياضيات، والفلسفة. ويقال إنه أول من ترجم إلى العربية كتاب "المجسطي" لبطليموس. وقد تلقى أبو الحسن دراسته الأولى على والده الذي علمه الطب، والهندسة، والفلسفة، إلى جانب اللغتين العربية والسريانية. وبعد وفاة والده تعمق في دراسة الطب وأصبح طبيباً مشهوراً. وقد مارس الطب في مدينة الري، ثم ذهب إلى العراق واستقر بمدينة "سر من رأى (سامراء)، حيث صار كاتباً للخلفاء : المعتصم والواثق والمتوكل.
إسهاماته في الطب(5/304)
تتجلى الإسهامات العلمية لعلي بن ربَّن في تصنيفه في عدد من المواضيع الطبية التي تطرق لها بتفصيل في كتابه "فردوس الحكمة"، ومنها : وضع المبادئ العامة للطب، وقواعد الحفاظ على الصحة الجيدة، وذكر بعض الأمراض التي تصيب العضلات، ووصف الحمية للحفاظ على الصحة الجيدة، والوقاية من الأمراض ؛ إضافةً إلى مناقشة جميع الأمراض من الرأس إلى القدم، وأمراض الرأس والدماغ، وأمراض العين، والأنف، والأذن، والفم، والأسنان، وأمراض العضلات، وأمراض الصدر والرئة، وأمراض البطن والكبد والأمعاء، وأنواع الحمى. كما وصف النكهة والطعم واللون، وتعرض للعقاقير والسموم.
مؤلفاته
لعلي بن ربن عدد من الكتب الطبية و أشهرها :
ــ كتاب "فردوس الحكمة"، (850م) 236هـ وهو عبارة عن موسوعة طبية، تطرق فيه لجميع فروع الطب ؛ إضافةً إلى بحوث في الفلسفة، وعلم النفس، والحيوان، والفلك، والظواهر الجوية. وقد كتبه بالعربية وترجمه في الوقت نفسه إلى اللغة السريانية. ونشرت منه عدة نسخ في بلدان مختلفة. وقام الدكتور محمد زبير الصديقي بتحقيق هذا الكتاب، وقد طبع في الهند عام 1928. وفي سنة 1996 تم طبع الكتاب ونشره من طرف معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت الألمانية.
ــ "كتاب تحفة الملوك"، و"حفظ الصحة"، و"كتاب في ترتيب الأغذية"، و"منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير".
وأضاف الزركلي إلى مؤلفاته كتاب "الدين والدولة" الذي يدافع فيه عن الإسلام.
----------------
الفرغاني
توفي بعد سنة 247هـ ـ 861م
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني. ولد في فرغانة وعاش في بغداد أيام المأمون العباسي في القرن التاسع الميلادي. ويعرف عند الأوربيين باسم Alfraganus. ويُعَدُّ من أعظم الفلكيين الذين عملوا مع المأمون وخلفائه. يقول سارطون عنه : >كان مازال على قيد الحياة في 861م. وهو من معاصري الخوارزمي وبني موسى وسند بن علي.
إسهاماته العلمية
كان الفرغاني عالماً في الفلك وأحكام النجوم ومهندساً. من إسهاماته أنه حدد قطر الأرض بـ 6500 ميل، كما قدر أقطار الكواكب السيارة.
يقول ألدو مييلي : >والمقاييس التي ذكرها الفرغاني لمسافات الكواكب وحجمها عمل بها كثيرون، دون تغيير تقريباً، حتى كوبرنيكوس. وبذلك فقد كان لهذا العالم الفلكي المسلم تأثير كبير في نهضة علم الفلك في أوربا. وفي سنة 861 كلفه الخليفة المتوكل على الله بالإشراف على بناء قياس منسوب مياه نهر النيل في الفسطاط، فأشرف عليه وأنجز بناءه وكتب اسمه عليه.
مؤلفاته
ترك الفرغاني عدداً من المؤلفات القيمة، من أشهرها :
ــ كتاب "جوامع علم النجوم والحركات السماوية". وقد ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد كما ترجم إلى العبرية. وكان له تأثير كبير على علم الفلك في أوربا قبل ريجيومونتانوس Regiomontanus الرياضي الفلكي الذي برز في القرن الخامس عشر الميلادي. وقد طبعت ونشرت ترجمات هذا الكتاب عدة مرات خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين.
ــ كتاب "في الأسطرلاب"، و"كتاب الجمع والتفريق".
----------------
سند بن علي
توفي بعد سنة 250هـ ـ 864م
سند بن علي ويكنى أبا الطيب، عاصر الخليفة العباسي المأمون، يقال إنه نبغ حوالي 850م. وحسب "سارطون" فقد توفي بعد سنة 864م. وهو فلكي ورياضي مسلم. ويذكر أن "سند" كان يهودياً وأسلم على يد الخليفة المأمون، الذي جعله من بين منجميه، وعينه رئيساً على الأرصاد كلها.
إسهاماته
يعود الفضل إلى سند في إنشاء مرصد بغداد، كما أنه وضع جداول فلكية أطلق عليها اسم "أزياج المأمون"، عمل بها المنجمون في زمانه وبعده. واشتهر بصناعة آلات الرصد الفلكية والأسطرلاب، كما أنه حقق مواضع بعض الكواكب. وشارك في قياس المساحات الأرضية والفلكية التي أمر بها المأمون.
مؤلفاته
كان سند بن علي، إضافةً إلى اهتمامه بالأرصاد، يهتم بالعلوم الرياضية ؛ وله فيها مؤلفات عديدة منها :
ــ " كتاب الحساب الهندي" ؛
ــ " كتاب الجمع والتفريق" ؛
ــ " كتاب الجبر والمفارقة" ؛
ــ " كتاب المنفصلات والمتوسطات" في النجوم والحساب.
إضافةً إلى ذلك، فَسَّرَ "سند" تسع مقالات من كتاب "الأصول في الهندسة" لإقليدس
---------------
بنو موسى بن شاكر
توفي محمد سنة 259هـ ـ 872م
عاش موسى بن شاكر في بغداد زمن الخليفة العباسي المأمون، وكان من المقربين من الخليفة، وقد اهتم بالفلك والتنجيم. وعندما توفي موسى بن شاكر، ترك أولاده الثلاثة صغاراً فرعاهم المأمون، وكلف إسحاق بن إبراهيم المصعبي بالعناية بهم. فأدخلهم إسحاق إلى بيت الحكمة الذي كان يحتوي على مكتبة كبيرة وعلى مرصد فلكي، إضافةً إلى القيام بترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية من اليونانية. فنشأ بنو موسى في هذا الوسط العلمي وأصبحوا أبرز علماء بيت الحكمة. وقد اشتهر الأبناء الثلاثة، وهم محمد وأحمد والحسن باسم بنو موسى، أو الإخوة الثلاثة. وقد كان أكبرهم أبو جعفر محمد عالماً بالهندسة والنجوم و"المجسطي" ؛ وكان أحمد متعمقاً في صناعة الحيل (الهندسة الميكانيكية) وأجاد فيها، وتمكن من الابتكار فيه ؛ أما الحسن فكان متعمقاً في الهندسة. توفي أكبرهم سنة 872م ـ 259هـ.
إسهاماتهم العلمية
كان بنو موسى مبرزين في العلوم الرياضية، والفلكية، والميكانيكية، والهندسية؛ وأسهموا في تطويرها بفضل اختراعاتهم واكتشافاتهم المهمة.
فقد ظهرت إسهاماتهم العلمية في مجال الميكانيكا في اختراع عدد من الأدوات العملية والآلات المتحركة، حيث ابتكروا عدداً من الآلات الفلاحية، والنافورات التي تظهر صوراً متعددة بالمياه الصاعدة، كما صنعوا عدداً من الآلات المنزلية، ولعب الأطفال، وبعض الآلات المتحركة لجر الأثقال، أو رفعها أو وزنها.
وفي الرياضيات، "كان لبني موسى باع طويل بشكل عام. كما أنهم استخدموا هذه المعارف الرياضية في أمور عملية، من ذلك أنهم استعملوا الطريقة المعروفة في إنشاء الشكل الأهليليجي (elliptic).
والطريقة هي أن تغرز دبوسين في نقطتين، وأن تأخذ خيطاً طوله أكثر من ضعف البعد بين النقطتين، ثم بعد ذلك تربط هذا الخيط من طرفيه وتضعه حول الدبوسين وتدخل فيه قلم رصاص، فعند إدارة القلم يتكون الشكل الأهليليجي.
أما في مجال الفلك، فقد حسب بنو موسى الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، ووضعوا تقويمات لمواضع الكواكب السيارة، و مارسوا مراقبة الأرصاد وسجلوها.
كما لعب بنو موسى دوراً مهماً في تطوير العلوم الرياضية، والفلكية، والهندسية وذلك من خلال مؤلفاتهم ؛ ومن خلال رعايتهم لحركة الترجمة والإنفاق على المترجمين والعلماء. وفي هذا الصدد تقول المؤلفة الألمانية زغريد هونكة عن بني موسى : >وقد قاموا بإيفاد الرسل على نفقتهم الخاصة إلى الإمبراطورية البيزنطية بحثاً عن المخطوطات الفلسفية، والفلكية، والرياضية، والطبية القديمة، ولم يتوانوا عن دفع المبالغ الطائلة لشراء الآثار اليونانية وحملها إلى بيتهم... وفي الدار التي قدمها لهم المتوكل على مقربة من قصره في سامراء، كان يعمل، دون إبطاء، فريق كبير من المترجمين من أنحاء البلاد....
مؤلفاتهم
كتب بنو موسى في علوم عدة مثل الهندسة، والمساحة، والمخروطات، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات. ومن مؤلفاتهم :(5/305)
ــ "كتاب الحيل"، وهو أشهر كتبهم، جمعوا فيه علم الميكانيكا القديمة، وتجاربهم الخاصة. يقول أحمد يوسف حسن محقق هذا الكتاب، إن الاهتمام بكتاب الحيل بدأ في الغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكن الدراسات الجادة لم تظهر إلا مع بداية القرن العشرين، وذلك عندما نشر كل من فيديمان وهاو سر مقالات حول هذا الكتاب. وفي سنة 1979 قام هيل (Hill) بترجمة الكتاب إلى الإنجليزية. وفي سنة 1981 نشر معهد التراث العلمي العربي في سوريا "كتاب الحيل" بعد أن قام الدكتور أحمد يوسف حسن وآخرون بتحقيقه.
ــ " كتاب مساحة الأكر" ؛
ــ "كتاب قسمة الزوايا إلى ثلاثة أقسام متساوية"، ترجمه جيرارد كريموني إلى اللاتينية ؛
ــ " كتاب الشكل المدور والمستطيل" ؛
ــ "كتاب الشكل الهندسي" ؛
ــ "كتاب حركة الفلك الأولى".
وتجب الإشارة إلى أن بني موسى قد تعاونوا فيما بينهم لدرجة يصعب معها التمييز بين العمل الذي قام به كل واحد منهم. لكن المهم هو أنهم لعبوا دوراً مهماً في تطوير علوم الرياضيات، والفلك، والهندسة ؛ و أثروا في عصرهم تأثيراً كبيراً.
--------------
الكندي
260-175هـ/873-800م
يلقب الكندي بفيلسوف العرب، ويعد >من الإثني عشر عبقرياً الذين هم من الطراز الأول في الذكاء وهو عالم موسوعي، فإضافةً إلى شهرته كفيلسوف، فقد كان عالماً بالرياضيات، والفلك، والفيزياء، والطب، والصيدلة، والجغرافيا.
واسمه الكامل هو يعقوب بن إسحاق ابن الصباح الكندي، أبو يوسف. وهو من قبيلة كنده. ويعرف عند اللاتينيين باسم Alkindus ولد بالكوفة، وكان والده أميراً عليها.
نشأ الكندي في البصرة ودرس بها، ثم أتم تحصيله على يد أشهر العلماء في بغداد. وكانت له معرفة واسعة بالعلوم والفلسفة اليونانية. عاصر ثلاثة من الخلفاء العباسيين وهم المأمون، والمعتصم، والمتوكل. كما عاصر الإخوة الفلكيين الثلاثة بنو موسى، والفلكي سند بن علي. وقد بلغ منزلة كبيرة عند المأمون والمعتصم، حتى إن المأمون عهد إليه بترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان. كما أن المتوكل استخدمه كخطاط، لكن نظراً لآرائه الفلسفية ووشاية بعض الحاسدين به، فقد أمر المتوكل بمصادرة جميع كتبه ؛ غير أنها أعيدت إليه جميعها.
إسهاماته العلمية
كتب أربعة كتب عن استعمال الأرقام الهندية. كما قدم الكثير في مجال الهندسة الكروية لمساعدته في دراساته الفلكية.
راقب أوضاع النجوم والكواكب ـ خاصة الشمس والقمر ـ بالنسبة للأرض، وما لها من تأثير طبيعي وما ينشأ عنها من ظواهر. وأتى بآراء خطيرة وجريئة في هذه البحوث، وفي نشأة الحياة على ظهر الأرض، مما جعل الكثيرين من العلماء يعترفون بأن الكندي مفكر عميق من الطراز الرفيع.
أما في الكيمياء فقد عارض الفكرة القائلة بإمكانية استخراج المعادن الكريمة أو الثمينة كالذهب، من المعادن الخسيسة. وكتب في ذلك رسالة سماها "رسالة في بطلان دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة وخدعهم".
أما في الفلك، فلم يكن الكندي يؤمن بأثر الكواكب في أحوال الناس، ورفض ما يقول به المنجمون من التنبؤات القائمة على حركات الأجرام. ووجه اهتمامه إلى الدراسة العلمية للفلك وعلم النجوم وأرصادها. ويعدّه بعض المؤرخين واحداً من ثمانية أئمة لعلوم الفلك في القرون الوسطى.
وقدم الكندي في علم الفيزياء الكثير في البصريات الهندسية والفيزيولوجية، وألف فيها كتاباً كان له تأثير فيما بعد على روجر بيكون (Roger Bacon) ووايتلو (Witelo) وغيرهما.
كما أن الكندي كان مهندساً بارعاً، يرجع إلى مؤلفاته ونظرياته عند القيام بأعمال البناء، خاصة بناء القنوات، كما حدث عند حفر القنوات بين دجلة والفرات.
وتتجلى إسهاماته في الطب في محاولته تحديد مقادير الأدوية على أسس رياضية. وبذلك يكون الكندي هو "أول من حدد بشكل منظم جرعات جميع الأدوية المعروفة في أيامه".
مؤلفاته
ألف الكندي وشرح كتباً كثيرة، اختلف في تقدير عددها ما بين 230، و270، و300 ما بين رسالة وكتاب ؛ تناولت مواضيع مختلفة منها الفلسفة، والفلك، والحساب، والهندسة، والطب، والفيزياء، والمنطق، والمد والجزر، وعلم المعادن، وأنواع الجواهر، وأنواع الحديد، والسيوف. كما كان من أوائل مترجمي مؤلفات اليونان إلى العربية.
وسنكتفي، فقط، بذكر بعض مؤلفاته، وذلك استناداً إلى ما ذكره كل من طوقان والزركلي :
ــ "رسالة في المدخل إلى الأرثماطيقى : خمس مقالات" ؛
ــ "كتاب رسالة في استعمال الحساب الهندسي : أربع مقالات" ؛
ــ "رسالة في علل الأوضاع النجومية" ؛
ــ "رسالة في صنعة الإسطرلاب" ؛
ــ "رسالة في التنجيم" ؛
ــ "إلهيات أرسطو" ؛
ــ "الأدوية المركبة" ؛
ــ "رسالة في الموسيقي" ؛
ــ "المد والجزر" ؛
ــ "السيوف وأجناسها".
وقد ترجم "جيرار الكريموني" في القرن الثاني عشر للميلاد، معظم كتب الكندي إلى اللغة اللاتينية.فكان لها تأثير كبير على تطور علوم كثيرة على امتداد عدة قرون.
------------------
الرازي
313-251هـ/925-865م
هو محمد بن زكريا الرازي، أبو بكر، ويعرف عند اللاتينيين باسم Rhazes. طبيب، وكيماوي، وفيلسوف مسلم. وقد أجمع المؤرخون على أن الرازي أعظم أطباء الإسلام، وأشهر أطباء القرون الوسطى، "وأحد مشاهير أطباء العالم في كل زمن... كان واسع الإطلاع إلى درجة الإحاطة بكل علم وفن". وقد وصفه ابن خلكان بأنه : >كان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة، حاذقاً فيها، عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه".
ولد الرازي في الري جنوب طهران. درس الرياضيات، والفلك، والفلسفة، والكيمياء، والمنطق، والأدب. ثم درس الطب على يد إسحاق بن حنين، الذي كان متضلعاً في الطب اليوناني، والفارسي، والهندي. ورغم أنه درس الطب بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، فقد حقق فيه إنجازات مهمة ونال فيه شهرة واسعة. وقد عمل رئيساً لبيمارستان الري، ثم رئيساً لبيمارستان بغداد الذي أمر ببنائه الخليفة العباسي المقتدر.
إسهامات الرازي في الطب
إن إسهامات الرازي في الطب كثيرة ومتنوعة، ولذا سنكتفي بالإشارة إلى البعض منها، ونذكر من ذلك اهتمامه بالملاحظات السريرية التي تتعلق بدراسة سير المرض مع العلاج المستعمل، وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج(5). كما أنه سبق إلى الاهتمام بالأحوال النفسية في تشخيص الأمراض، وكان يرى أن بعض أمراض الجهاز البطني تكون ناتجة بالدرجة الأولى عن أسباب نفسية. ويعتبر تشخيص مرض الجذري ومرض الحصبة من أعظم منجزات الرازي الطبية، فقد وصف المرضين وصفاً دقيقاً، خاصة فيما يتعلق بأعراضهما الأولية وطريقة علاجهما. وكان يؤكد على أهمية الممارسة والخبرة والتجربة في علاج المرضى، كما كان يجرب العقاقير الجديدة على الحيوان قبل أن يصفها للمرضى.
ويعترف الغربيون بابتكارات الرازي في أمراض النساء والولادة، وفي الأمراض التناسلية، وجراحة العيون. كما تعرض لشلل الوجه وأسبابه، وميز بين الشلل الناتج عن سبب مركزي في الدماغ، والناتج عن سبب محلي، ووصف تشعب الأعصاب في القفص الصدري.كما أن الرازى من أوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب، وممن ينسبون شفاء المريض إلى تفاعل كيماوي في جسمه.
إسهاماته في الكيمياء(5/306)
لم يكن الرازي طبيباً عظيماً فحسب، بل كان أيضاً كيماوياً ذا مقام رفيع. وهو أحد الأوائل الذين جعلوا من الكيمياء علماً صحيحاً. ويعدّه بعض الباحثين مؤسس الكيمياء الحديثة. قام بتجارب كيماوية مهمة، حيث استحضر بعض الحوامض، ولا تزال الطرق التي اتبعها في ذلك مستعملة حتى الآن. فهو أول من ذكر حامض الكبريتيك، وقد سماه "زيت الزاج" أو "الزاج الأخضر". واستخرج الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة، وكان يستعمله في الصيدليات، لاستخراج الأدوية والعلاجات. ويتجلى فضل الرازي على الكيمياء بصفة واضحة، في تصنيفه للمواد الكيماوية إلى ثلاثة أصناف : نباتية، وحيوانية، ومعدنية ؛ وهذا التصنيف ما زال حتى الآن ثابتاً في العلم الحديث.
مؤلفاته
ألف الرازي مجموعة من التصانيف، يذكر البعض أنها تزيد عن المائتين والعشرين مؤلفاً، لكن أغلبها ضاع ولم يبق منها إلا القليل.
ففي الطب، ألف الرازي العديد من الكتب المهمة، وهي تشتمل إضافةً إلى أبحاثه المبتكرة، علوم اليونان والهنود. ومن أشهر هذه الكتب :
ــ كتاب "الحاوي" : يعتبر هذا المؤلف من أشهر ما كتبه الرازي. وهو أكبر موسوعة طبية عربية، جمع فيها الرازي، مقتطفات أخذها من الأطباء الإغريق والعرب، وأضاف إليها النتائج التي توصل إليها من تجاربه وآرائه الخاصة. وقد ترجمه إلى اللاتينية، الطبيب اليهودي "فرج بن سالم" بأمر من شارل الأول ملك صقلية (سنة 1279م)، واستبدلت بكلمة "الحاوي" مقابلها باليونانية' Continens' وترجم مرات عديدة في أوربا حتى سنة 1542م. واعتمد عليه كبار علماء أوربا، وأخذوا منه الشيء الكثير، وبقي مرجعهم في مدارسهم وجامعاتهم حتى القرن السادس عشر.
ــ "كتاب الجذري والحصبة" : يشتمل على صورة مفصلة ودقيقة عن هذين المرضين وعن طرق علاجهما. وقد ترجم إلى اللاتينية بالبندقية سنة 1565، ثم ترجم إلى عدة لغات أوربية، ونشر في أوربا أربعين مرة ما بين 1498 و1866.
ــ "طب الفقراء" : وهو عبارة عن قاموس شعبي يصف فيه كل الأمراض وظواهرها، وطرق علاجها، بالأغذية الرخيصة بدلاً من شراء الأدوية المرتفعة الثمن والتراكيب النادرة.
ــ كتاب "المنصوري" : سماه المنصوري نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خرا سان. تناول فيه موضوعات طبية متعددة كالجراحة، وأمراض العيون، وأمراض البطن. نشر لأول مرة في ميلانو سنة 1481م. وترجم إلى اللاتينية، وظل معتمداً من قبل الأطباء في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر للميلاد.
ومن أشهر كتبه في الكيمياء، نذكر :
ــ كتاب : "الأسرار في الكيمياء" : يصف الرازي في هذا الكتاب الطريقة التي يتبعها في القيام بتجاربه الكيماوية، وكيفية تحضير المواد الكيماوية، وكيفية استعمالها ؛ كما يصف الآلات والأدوات التي كان يستعملها.
ومن أشهر كتبه في الفلك :
ــ "كتاب هيئة العالم": يبرهن الرازي في هذا الكتاب : "على أن الأرض تدور حول محورين، وبأن الشمس أكبر حجماً من الأرض والقمر أصغر حجماً منها".
وللرازى كتب أخرى في الطب، و الصيدلة، والفلك والرياضيات، والفيزياء، والمنطق، والفلسفة، والعلوم الشرعية.
وخلاصة القول، إن الرازي قد أسهم، بفضل كتاباته واختراعاته، إسهاماً فعالاً في تقدم الطب والكيمياء، وتطور البحوث فيهما، وظلت كتبه مرجعاً في الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر.
--------------
البتاني
317-244هـ/929-858م
هو أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الرقي الحراني، المعروف بالبتاني. كنى بالرقي، نسبة إلى "الرقة" بلدة على نهر الفرات. ويعرف البتاني عند الغربيين في العصور الوسطى باسم Albategnius أو Albategni.
ولد البتاني في "بتان" من نواحي حران الواقعة على أحد روافد نهر الفرات بالعراق، وتاريخ ولادته غير معروف بدقة، إلا أن المرجح أنه ولد سنة 244هـ/ 858م. وإذا كان هناك شك في تاريخ ميلاده، "فقد أجمع المؤرخون على أن تاريخ وفاته كان عام 317هـ/929م"، قرب مدينة الموصل في العراق. ويعدّ البتاني من أكبر علماء الفلك عند العرب، فقد أوقف حياته على رصد الأفلاك من عام 264هـ حتى وفاته. درس في البداية على يد والده جابر البتاني الذي كان بدوره عالماً مشهوراً، ثم انتقل إلى "الرقة" حيث انكب على دراسة مؤلفات من سبقوه، وخاصة مؤلفات "بطليموس"، ثم انتقل إلى ميدان البحث في الفلك، والمثلثات، والجبر، والهندسة، والجغرافيا. وقد عاش حياته العلمية متنقلاً بين "الرقة" و"إنطاكية" في سوريا، وبها أنشأ مرصداً يحمل اسمه (مرصد البتاني).
وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية، أن البتاني يعدّ أحد المشهورين برصد الكواكب والمتقدمين في علم الهندسة، وهيئة الأفلاك، وحساب النجوم. كما يجمع علماء الإفرنج على أن البتاني كان في علمه أسمى مكانة من الفلكي الإغريقي بطليموس. "وقال لالاند Lalande الفلكي الفرنسي، إن البتاني من الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله".
وذكر قدري طوقان في كتابه "تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك" أن "كاجوري" و"هاليه"يعدّان البتاني من أقدر علماء الرصد، وسماه بعض الباحثين "بطليموس العرب". كما وصفه جورج سارطون بأنه أعظم فلكيي جنسه وزمنه، ومن أعظم علماء الإسلام.
إسهاماته في الفلك
من أهم إسهامات البتاني في علم الفلك اكتشافه السمت azimuth والنظير nadir، وتحديد نقطتيهما في السماء ؛ كما أنه حدد بدقة ميل الدائرة الكسوفية، وطول السنة المدارية، والفصول، والمدار الحقيقي والمتوسط للشمس. وخالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي، وبرهن على تبعيته لحركة المبادرة الاعتدالية. وله أرصاد دقيقة للكسوف والخسوف اعتمد عليها الغربيون (دنثورن Dunthorne سنة 1749م) في تحديد تسارع حركة القمر في حركته خلال قرن من الزمن.
أما أهم أرصاده، فهي تصحيح حركات القمر والكواكب، ووضع جداول جديدة لموقعها، إضافةً إلى تحقيق مواقع عدد كبير من النجوم ضمنها زيجه الشهير الذي اعتمد عليه علماء الفلك قروناً عدة.
ويعترف "نللينو" بأنه استنبط نظرية جديدة "تشف عن شيء كثير من الحذق وسعة الحيلة لبيان الأحوال التي يرى فيها القمر عند ولادته".
إسهاماته في الرياضيات
يُعَدّ البتاني من أوائل العرب الذين استعملوا الجيب بدل الوتر، كما أنه استعمل الظل وظل التمام في المثلث الكروي، وبحث بعض المسائل التي عالجها اليونان بالطرق الهندسية وحاول حلها بالجبر. والبتاني من الذين أسسوا علم المثلثات، ومن الذين عملوا على توسيع نطاقها.
مؤلفاته
نذكر من مؤلفاته المهمة :
1. كتاب ''زيج الصابي" وهو أهم مؤلفات البتاني جميعاً، وهو يحتوي على نتائج أرصاده للكواكب الثابتة لسنة 299هـ، وجداول تتعلق بحركات الأجرام التي هي من اكتشافاته الخاصة، وما قام به من الأعمال الفلكية المختلفة التي امتدت طوال اثنتين وأربعين سنة، من سنة 264 إلى 306هـ، فقد كان أول زيج (الزيج هو لفظ يطلق على الجداول الفلكية القديمة، وأصل اللفظ فارسي) يحتوي على معلومات صحيحة دقيقة. وكان للكتاب أثر بالغ في تقدم علم الفلك والرياضيات سواء خلال النهضة العربية الإسلامية أو عند بداية النهضة الأوربية. فقد اعتمد عليه كثير من علماء العرب في حساباتهم، كما قام بعضهم باقتباس بعض محتوياته أو تفسيرها.(5/307)
وقد ترجمه إلى اللاتينية بلاتوف تيفوك Platoof Tivok في القرن الثاني عشر الميلادي باسم "Sciencia de Sttellarum" ويقابلها في اللغة الإنجليزية "Science of Stars" أو علم النجوم. وطبع في نورمبرغ عام 1537م. وفي القرن الثالث عشر الميلادي، أمر ألفونس العاشر ملك قشتالة بأن يترجم هذا الزيج من العربية إلى الإسبانية مباشرة. ويوجد مخطوط غير كامل لهذه الترجمة في باريس. كما توجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الفاتيكان. وقد نشر كارلو نللينو بروما 1907-1899 طبعة للأصل العربي منقولاً عن النسخة الموجودة بمكتبة الأسكريال في ثلاثة مجلدات مصحوبة بترجمة لاتينية وتعليق على بعض الموضوعات.
2. ''كتاب معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك"، يتناول البتاني في هذا المؤلف الحل الرياضي للمسألة التنجيمية لاتجاه الراصد.
3. "رسالة في مقدار الاتصالات".
4. "رسالة في تحقيق أقدار الاتصالات".
وقد تناول البتاني في هاتين الرسالتين موضوع اتفاق كوكبين في خط الطول أو في خط العرض السماوي، سواء أكانا على فلك البروج، أو كان أحدهما أو كلاهما خارج هذه الدائرة.
5. "شرح المقالات الأربع لبطليموس"، وهي أربع مقالات ذيل بها بطليموس كتابه "المجسطي" عالج فيها مسائل التنجيم وتأثير النجوم على المسائل الدنيوية.
6. "كتاب تعديل الكواكب"، بحث البتاني في هذا الكتاب الفرق بين حركات الكواكب في مساراتها باعتبارها ثابتة المقدار، وبين حركاتها الحقيقية التي تختلف من موضع لآخر.
وخلاصة القول إن البتاني من عباقرة العالم الذين وضعوا نظريات هامة، وأسهموا في إغناء التراث العلمي للإنسانية بإضافة أبحاث جديدة في الفلك، والجبر، والمثلثات. فقد اشتهر برصد الكواكب والأجرام السماوية، وتمكن من القيام بأرصاد ما زالت تحظى باهتمام العلماء وتثير إعجابهم
--------------
. الفارابى
339-257هـ/950-870م
"كان الفارابي فيلسوفاً ورياضياً فذاً ذائع الصيت، بالإضافة إلى كونه موسيقياً بارعاً".
وهو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لدراسته كتب أرسطو (المعلم الأول) وشرحه لها. ويعرف الفارابي في اللاتينية باسم Alpharabius. ولد في مدينة "فاراب" في تركستان حيث كان والده تركياً من قواد الجيش. ويقول الدكتور علي عبد الواحد وافي : >إنه لا يعرف شيء يقيني عن طفولة الفارابي الأولى أو مراحل حياته التالية<. وكل ما يعرف عنه أنه درس في مسقط رأسه مجموعة من المواد المختلفة كالعلوم، والرياضيات، والآداب، والفلسفة، واللغات خاصة التركية، والفارسية، واليونانية، والعربية. وفي سن متقدمة، غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا، فدرس الفلسفة، والمنطق، والطب على يد الطبيب المسيحي يوحنا بن حيلان، كما درس العلوم اللسانية العربية والموسيقي. ومن العراق انتقل إلى مصر والشام، حيث التحق بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفة.
وبعد حياة حافلة بالعطاء في شتى علوم المعرفة طوال ثمانين سنة، توفي الفارابي أعزب، بمدينة دمشق سنة 339هـ/950م.
إسهاماته العلمية
يعدّ الفارابي أكبر فلاسفة المسلمين. وقد أطلق عليه معاصروه لقب "المعلم الثاني" لاهتمامه الكبير بمؤلفات أرسطو "المعلم الأول"، وتفسيرها، وإضافة الحواشي والتعليقات عليها. ومن خصائص فلسفة الفارابي أنه حاول التوفيق من جهة، بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون، ومن جهة أخرى بين الدين والفلسفة. كما أنه أدخل مذهب الفيض في الفلسفة الإسلامية ووضع بدايات التصوف الفلسفي.
ورغم شهرة الفارابي في الفلسفة والمنطق، فقد كانت له إسهامات مهمة في علوم أخرى كالرياضيات والطب والفيزياء. فقد برهن في الفيزياء على وجود الفراغ. وتتجلى أهم إسهاماته العلمية في كتابه "إحصاء العلوم" الذي وضع فيه المبادئ الأساس للعلوم وتصنيفها ؛ حيث صنف العلوم إلى مجموعات وفروع، وبين مواضيع كل فرع وفوائده.
وبجانب إسهامات الفارابي في الفلسفة، فقد برز في الموسيقى. وكانت رسالته فيها النواة الأولى لفكرة اللوغارتم حسب ما جاء في كتاب "تراث الإسلام"، حيث يقول كارا دي فو Carra de Vaux : >أما الفارابي الأستاذ الثاني بعد أر سطو وأحد أساطين الأفلاطونية الحديثة ذو العقلية التي وعت فلسفة الأقدمين، فقد كتب رسالة جليلة في الموسيقى وهو الفن الذي برز فيه، نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغارتم)، ومنها نعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى<. وتؤكد زغريد هونكه الفكرة نفسها حين تقول : >إن اهتمام الفارابي بالموسيقى ومبادئ النغم والإيقاع قد قربه قاب قوسين أو أدنى من علم اللوغارتم الذي يكمن بصورة مصغرة في كتابه عناصر فن الموسيقى<.
مؤلفاته
من بين أهم الشروح والكتب التي ألفها الفارابي في العلوم نذكر ما يلي :
ــ شرح كتاب "المجسطي" في علم الهيئة لبطليموس ؛
ــ شرح المقالتين الأولى والخامسة من كتاب إقليدس في الهندسة ؛
ــ كتاب في المدخل إلى الهندسة الوهمية ؛
ــ كلام في حركة الفلك ؛
ــ مقالة في صناعة الكيمياء ؛
ــ كتاب إحصاء العلوم : قسم الفارابي، في هذا الكتاب، العلوم، إلى ثماني مجموعات، ثم ذكر فروع كل مجموعة، وموضوع كل فرع منها، وأغراضه، وفوائده. ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية.
ــ صناعة علم الموسيقى : شرح فيه الفارابي مبادئ النغم والإيقاع.
وللفارابي عدد كبير من المؤلفات الأخرى في الفلسفة والمنطق ومن أشهرها :
ــ "آراء أهل المدينة الفاضلة" ؛
ــ "الجمع بين رأى الحكيمين أفلاطون الإلهي و أرسطوطاليس" : وهو كتاب يوفق فيه الفارابي بين آراء أفلاطون وأرسطو.
>وأكثر الكتب التي ألفها الفارابي، إما أنها فقدت أو أنها لا تزال في الخزائن والمكتبات، والمعروف منها إلى الآن قليل، إذا قيس بمجموع ما كتبه في شتى العلوم والفنون<.
--------------
. عبد الرحمن الصوفي
376-291هـ/986-903م
أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن سهل الصوفي الرازي. ولد بالري، وكان من كبار علماء الفلك والتنجيم. وهو من أعظم فلكيي الإسلام، على حد تعبير المؤرخ جورج سارطون. وقد كان صديقاً للخليفة البويهي عضد الدولة الذي اتخذه منجماً ومعلماً له لمعرفة مواضع النجوم الثابتة وحركاتها.
إسهاماته العلمية
قدم الصوفي في علم الفلك إسهامات مهمة تتجلى في المنجزات التالية : رَصَدَ النجوم، وعدَّها وحدد أبعادها عرضاً وطولاً في السماء، واكتشف نجوماً ثابتة لم يسبقه إليها أحد من قبل. ثم رسم خريطة للسماء حسب فيها مواضع النجوم الثابتة، وأحجامها، ودرجة شعاع كل منها. ووضع فهرساً للنجوم لتصحيح أخطاء من سبقوه. وقد اعترف الأوربيون بدقة ملاحظاته الفلكية حيث يصفه ألدومييلي بأنه >من أعظم الفلكيين العرب الذين ندين لهم بسلسلة دقيقة من الملاحظات المباشرة<، ثم يتابع قائلاً : >ولم يقتصر هذا الفلكي العظيم على تعيين كثير من الكواكب التي لا توجد عند بطليموس، بل صحح أيضاً كثيراً من الملاحظات التي أخطأ فيها، ومكن بذلك الفلكيين المحدثين من التعرف على الكواكب التي حدد لها الفلكي اليوناني مراكز غير دقيقة<.
مؤلفاته
ــ "كتاب الكواكب الثابتة" : يعدّه سارطون أحد الكتب الرئيسة الثلاثة التي اشتهرت في علم الفلك عند المسلمين. أما الكتابان الآخران، فأحدهما لابن يونس، والآخر لألغ بك. ويتميز كتاب الكواكب الثابتة بالرسوم الملونة للأبراج والصور السماوية.
ــ "رسالة العمل بالأسطرلاب" ؛
ــ "كتاب التذكرة" ؛(5/308)
ــ "كتاب مطارح الشعاعات" ؛
ــ "كتاب الأرجوزة في الكواكب الثابتة".
وتوجد نسخ من بعض هذه المؤلفات في مكتبات عدد من الدول مثل الأسكوريال بمدريد، وباريس، وأكسفورد
-----------------
. أبو الوفاء البوزجاني
387-328هـ/998-940م
أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني. وهو مهندس، وفلكي، ورياضي. وقد وصفه سارطون بأنه من أعظم الرياضيين في الإسلام.
ولد أبو الوفاء في "بوزجان" بخرا سان سنة (328هـ/940م). درس الرياضيات على عمه أبو عمر المغازلي، وخاله المعروف باسم أبي عبد الله محمد بن عنبة، كما درس الهندسة على أبي يحيى الماوردي، وأبي العلاء بن كرنيب. وفي سنة 348هـ/959 للميلاد ذهب إلى العراق وعاش في بغداد حتى وفاته (387هـ/998م). وقد أمضى حياته في بغداد في التأليف والرصد والتدريس. وأصبح عضواً في المرصد الذي أنشأه شرف الدولة سنة 377هـ.
إسهاماته العلمية
كان أبو الوفاء من العلماء البارزين في الفلك والرياضيات. كما اعترف كثير من العلماء الغربيين بأنه من أشهر الذين برعوا في الهندسة.
وترجع أهمية البوزجاني إلى إسهامه في تقدم علم حساب المثلثات، حيث يعترف "كارادي فو" بأن الخدمات التي قدمها أبو الوفاء لعلم المثلثات لا يمكن أن يجادل فيها، فبفضله أصبح هذا العلم أكثر بساطة ووضوحاً. فقد استعمل القاطع وقاطع التمام، وأوجد طريقة جديدة لحساب الجيب. كما أنه أول من أثبت القانون العام للجيوب في المثلثات الكروية.
أما في الهندسة، فقد كان أبو الوفاء عالماً عبقرياً، حيث عالج عدداً من المسائل بخبرة كبيرة.
مؤلفاته
ترك البوزجاني مؤلفات قيمة منها :
1. "كتاب فيما يحتاج إليه الكتاب والعمال من علم الحساب"، وهو كتاب في الحساب. وتوجد منه نسختان ناقصتان في كل من ليدن بهولندا، والقاهرة.
2. "كتاب الكامل"، وتوجد منه نسخة ناقصة بباريس. وقد ترجم "كارادي فو" بعض أجزائه.
3. "كتاب فيما يحتاج إليه الصناع في أعمال الهندسة"، وقد كتبه أبو الوفاء بأمر من "بهاء الدولة". وتوجد نسخة منه في مكتبة جامع أيا صوفيا في استانبول.
4. "كتاب المجسطي" وهو من أشهر مؤلفاته، وتوجد نسخة ناقصة منه في مكتبة باريس الوطنية.
5. "كتاب الهندسة".
وإضافة إلى هذه المؤلفات، فقد كتب أبو الوفاء شروحاً وتعليقات على أقليدس، وديو فنطيس، والخوارزمي، إلا أن هذه الأعمال ضاعت.
وخلاصة القول إن بحوث البوزجاني ومؤلفاته كان لها تأثير كبير على تقدم العلوم، وبصفة خاصة على علم الفلك وعلم المثلثات. كما يُعدّ من الذين مهدوا الطريق لظهور الهندسة التحليلية، وذلك بإيجاده حلولاً هندسية لبعض المعاملات والأعمال الجبرية
-------------
. المجريطي
338 ـ 398هـ / 950 ـ1007م
"كان المجريطي إمام الرياضيين بالأندلس، وأوسعهم إحاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم". وهو أبو القاسم مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي، ولد في مدريد بإسبانيا سنة 338هـ/950م. وعاش في قرطبة، وتوفي بها سنة 398هـ/1007م.
سافر إلى الشرق واتصل بعلماء العرب والمسلمين وتداول معهم في ما توصل إليه من أبحاثه في الرياضيات وعلم الفلك. وبنى مدرسة في قرطبة تتلمذ عليه فيها عدد من كبار علماء الرياضيات، والفلك، والطب، والفلسفة، والكيمياء، والحيوان.
إسهاماته العلمية
كان المجريطي يعد حجة عصره في الكيمياء، وقد كانت له في هذا المجال إسهامات عديدة، فقد ميز بين الكيمياء والسيمياء، وحرر علم الكيمياء من الخرافات والسحر، ودعا إلى دراسة الكيمياء دراسة علمية تعتمد على التجربة والاستقراء. وكان يرى أن الرياضيات ضرورية في دراسة الكيمياء. كما أولى المجريطي عناية خاصة للتجارب الخاصة بالاحتراق والتفاعلات التي تنتج عنه. واشتهر بتحضيره أوكسيد الزئبق حيث لم يسبقه أحد إلى تحويل الزئبق إلى أوكسيد الزئبق.
أما في مجال علم الفلك، فقد اختصر الجداول الفلكية للبتاني، فكان مختصره مرجعاً لعلماء الفلك. وهو أول من علق على الخريطة الفلكية لبطليموس. كما أن المجريطي نال شهرة عظيمة "بتعليقه وتقويمه للجداول الفلكية للخوارزمي وتعويض تاريخها الفارسي بالتاريخ الهجري"، كما أنه طور نظريات الأعداد وهندسة إقليدس.
وإضافةً إلى ذلك، اهتم المجريطي كثيراً بعلم الحيوان، فقد تكلم عن تكوين الحيوانات وتفضيل بعضها على بعض وفوائدها.
مؤلفاته
ألف المجريطي في علوم مختلفة كالكيمياء، والفلك، والرياضيات، والحيوان ؛ ومن هذه المؤلفات ما ذكره سارطون والزركلي :
ــ "رتبة الحكيم"، تكلم فيه عن السيمياء والكيمياء والفرق بينهما ؛ وتبرز فيه تجربته عن الزئبق.
ــ "غاية الحكيم"، يشتمل على تاريخ الكيمياء. ترجم إلى اللاتينية سنة 1252 بأمر من الملك ألفونس تحت عنوان Picatrix.
ــ "رسالة في الاسطرلاب"، ترجم إلى اللاتينية ؛
ــ "شرح كتاب المجسطي لبطليموس" ؛
ــ "كتاب ثمار العدد في الحساب".
ونشير إلى أن كتب المجريطي العلمية ظلت تدرس لعدة سنوات في الجامعات الأوربية، وأن علماء الغرب هم أول من أبرز إنتاج المجريطي وعرفوا به.
--------------
. ابن الجزار
توفي سنة 399هـ/1009م
أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني، ابن الجزار المعروف عند اللاتين باسم Algizar. وهو طبيب عربي مسلم عاش في القيروان بتونس في القرن العاشر الميلادي، وتوفي عام 1009م عن سن تجاوزت ثمانين سنة. لا تتوافر معلومات كثيرة عن حياته وإسهاماته العلمية. ويكتفي معظم المؤرخين بالإشارة إلى مؤلفاته. إلا أن "زغريد هونكة" تذكر أنه كان كثيراً ما يصاحب السفن العربية التي تذهب من تونس إلى الشواطئ الأوربية ويعمل كطبيب على ظهرها.
إسهاماته العلمية
وصف ابن الجزار في كتبه أسباب الأمراض التي قد تصيب المرء في رحلة ما، وعوارض هذه الأمراض، وطرق علاجها. كما قدم وصفاً دقيقاً لمرضَيْ الجذري والحصبة، ومعلومات جيدة عن الأمراض الباطنية، و تعرض لأنواع الحمى، وكتب عن الأوبئة.
مؤلفاته
لابن الجزار تصانيف طبية كثيرة، نذكر منها :
ـــ "زاد المسافر" : وهو أشهر كتب ابن الجزار في الطب، ترجمه قسطنطين الإفريقي إلى اللاتينية، كما ترجم إلى اليونانية والعبرية. وقد كانت للكتاب شهرة واسعة بين أطباء القرون الوسطى، وظل يدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر. وتوجد نسخ مخطوطة من هذا الكتاب في عدد من المكتبات عبر العالم.
ــ " كتاب الاعتماد" : وهو كتاب في الأدوية ألفه ابن الجزار لأحد ملوك الفاطميين بإفريقية، وتوجد مخطوطات منه في الجزائر واستنبول.
ــ "طب الفقراء والمساكين" : وهو رسالة مخطوطة توجد في المتحف العراقي.
ــ " أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه".
-------------
. ابن يونس
توفي سنة 399هـ/1009م
كان ابن يونس راصداً رفيع المنزلة للظواهر السماوية، وعالماً نظرياً من الطراز الأول. ويقول عنه سارطون ربما كان أعظم فلكي مسلم.
واسمه الكامل هو أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري. لا يعرف تاريخ ولادته، أما وفاته فكانت عام 399هـ/1009م بالقاهرة. ينتمي لأسرة اشتهرت بالعلم، فقد كان أبوه محدثاً ومؤرخاً كبيراً ، كما كان جده من المتخصصين في علم النجوم.
وقد حظي ابن يونس بمكانة كبيرة لدى الخلفاء الفاطميين الذين شجعوه علي متابعة بحوثه الفلكية والرياضية، و بنوا له مرصداً قرب الفسطاط (القاهرة)، وجهزوه بكل ما يلزم من الآلات والأدوات.
إسهاماته(5/309)
برع ابن يونس في المثلثات، وله فيها بحوث قيمة ساعدت في تقدم علم المثلثات، فهو أول من وضع قانوناً في حساب المثلثات الكروية، كانت له أهمية كبرى عند علماء الفلك، قبل اكتشاف اللوغاريتمات، إذ يمكن بواسطة ذلك القانون تحويل عمليات الضرب في حساب المثلثات إلى عمليات جمع، فسهل حل كثير من المسائل الطويلة المعقدة. ويرجع إلى ابن يونس اختراع رقاص الساعة. كما أظهر ابن يونس براعة كبرى في حل كثير من المسائل العويصة في علم الفلك.
وقد رصد ابن يونس كسوف الشمس والقمر في القاهرة حوالي 978م، فجاء حسابه أقرب ما عرف، إلى أن ظهرت آلات الرصد الحديثة.
مؤلفاته
أهم كتاب ألفه ابن يونس هو :
ـــ "الزيج الكبير الحاكمي" : بدأ تأليفه، بأمر من الخليفة العزيز الفاطمي سنة 380هـ/990م، وأتمه سنة 1007م في عهد الخليفة الحاكم ولد العزيز. وسماه الزيج الحاكمي، نسبة إلى الخليفة. وتوجد أجزاء من هذا الكتاب في عدد من المكتبات العالمية مثل اكسفورد، وباريس، والاسكريال، وبرلين، والقاهرة. وقد قام كوسان Caussin بنشر وترجمة أجزاء هذا الزيج التي فيها أرصاد الفلكيين القدماء وأرصاد ابن يونس نفسه عن الخسوف والكسوف، واقتران الكواكب. وكان هدف ابن يونس من تأليف كتابه هو تصحيح أرصاد وأقوال الفلكيين الذين سبقوه وتتميمها.
--------------
. الزهراوي
توفي سنة 404هـ/1013م
يعدّ الزهراوي من أعظم الجراحين المسلمين والعالميين. وهو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، ويعرف عند الغربيين باسم Abulcassis. ولد بمدينة الزهراء في ضواحي قرطبة بالأندلس. عاش في الأندلس خلال القرن الرابع،حيث كان طبيب عبد الرحمن الثالث، ثم طبيب ابنه الحكم الثاني المستنصر.
وإذا كان تاريخ ولادته غير معروف، فإن المؤرخين يرجحون أن وفاته كانت عام 404هـ/1013م.
إسهاماته العلمية
تتجلى إسهامات الزهراوي العلمية فيما حققه من إنجازات وابتكارات متعددة في الطب بصفة عامة، وفي الجراحة بصفة خاصة، فهو أول من فرق بين الجراحة وغيرها من المواضيع الطبية، وجعلها علماً مستقلا قائماً على دراسة تشريح الأجسام الحية والميتة. وهو أول من أجرى عملية استئصال الحصى من المثانة عن طريق المهبل، وهو أول من نجح في عملية شق القصبة الهوائية حيث أجرى هذه العملية على خادمه. كما نجح في إيقاف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة، وعلم تلاميذه خياطة الجروح خياطة داخلية لا تترك أثراً مرئياً، وكيفية الخياطة بإبرتين وخيط واحد مثبت بهما.
أما في ميدان الطب العام، فهو أول من وصف استعداد بعض الأجسام للنزيف (هيموفيليا)، كما اهتم بالتهاب المفاصل وبالسل في فقرات الظهر. كما أدخل طرقاً وآلات جديدة على فرع الأمراض النسائية. وقد استفاد الجراحون وأطباء الأسنان الأوربيون من الرسوم التي وضعها لصنع الآلات اللازمة لإجراء العمليات الجراحية.
مؤلفاته
أكبر تصانيف الزهراوي وأشهرها هو كتابه المسمى : ــ "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وهو عبارة عن دائرة معارف طبية تقع في ثلاثين جزءاً. ويمتاز بكثرة رسومه ووفرة أشكال الآلات التي كان الزهراوي يستعملها في الجراحة. وقد ترجم جيرار الكريموني الجزء الخاص بالجراحة من هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وصدرت منه طبعات مختلفة، واحدة في البندقية 1497م، وثانية في بازل سنة 1541م، وثالثة في أكسفورد سنة 1778م. كما أن الدكتور لوكليرك ترجمه إلى الفرنسية في القرن التاسع عشر.
وتقول زغريد هونكه عن هذا الجزء من الكتاب : >وقد لعب القسم الثالث من هذا الكتاب دوراً هاماً في أوربا إذ وضع أسس الجراحة الأوربية، وسما بهذا الفرع من الطب إلى مقام رفيع، فأصبحت الجراحة مستقلة بذاتها ومعتمدة في أصولها على علم التشريح<. وقد كان لكتاب الزهراوي أثر كبير في النهضة الأوربية على مدى خمسة قرون، حيث كان يدرس في جامعات أوروبا، كما كان الجراحون الأوربيون يرجعون إليه ويقتبسون منه.
-----------
. أبو سهل القوهي
توفي سنة 405هـ/1014م
القوهي من العلماء المسلمين الذين اشتهروا في الفلك والرياضيات في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. وهو أبو سهل ويجن بن رستم القوهي. وإذا كان تاريخ ميلاده غير معروف، فإن وفاته كانت سنة 405هـ/1014م. وهو من كوه في جبال طبرستان، لكنه عاش في بغداد. ولما تولى شرف الدولة البويهي الحكم، قرَّبه وعينه سنة 378هـ/988م رئيساً للمرصد الذي أسسه في بغداد، وطلب منه أن يقدم له دراسة عن رصده للكواكب السبعة من حيث مساراتها وتنقلها في بروجها.
إسهاماته العلمية
كان القوهى من نوابغ علماء الفلك في القرن الرابع الهجري/القرن العاشر الميلادي ؛ فقد وضع عدداً من الأرصاد التي كان يعتمد عليها في عصره، وانتقد بعض فرضيات علماء اليونان في الفلك، كما اشتهر بصناعة الآلات الرصدية.
أما في الرياضيات، فقد >اهتم القوهي بمسائل أرشميدس وأبولونيوس التي تؤدي إلى معادلات ذات درجة أعلى من معادلات الدرجة الثانية، ووجد حلاً لبعضها، كما ناقش شروط إمكانية ذلك. وتعتبر دراساته هذه من أحسن ما كتب عن الهندسة عند المسلمين<.
وأسهم القوهي أيضاً في دراسة الأثقال، وكان له السبق في هذا المجال، حيث استخدم البراهين الهندسية لحل كثير من المسائل التي لها علاقة بإيجاد الثقل. كما أنه ترك بحوثاً قيمة في المبادئ التي تقوم عليها الروافع.
مؤلفاته
ذكر كل من د.عبد الله الدفاع، والزركلي، عدداً من مؤلفات القوهي في الفلك والرياضيات، منها :
ــ "كتاب مراكز الأكر" ؛
ــ "كتاب الأصول على تحريكات أقليدس" ؛
ــ "كتاب صنعة الأسطرلاب بالبراهين" ؛
ــ كتاب الزيادات على أرشميدس في المقالة الثانية" ؛
ــ "إخراج الخطين من نقطة على زاوية معلومة" ؛
ــ "تثليث الزاوية وعمل المسبع المتساوي الأضلاع في الدائرة".
ويقول د. عبد الله دفاع في كتابه "العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية" : "إلا أن معظم مؤلفات القوهي قد ضاعت، ولم يعرف عنها إلا القليل من بعض الإشارات في المراجع اللاتينية".
-----------
. الكَرَخِي
توفي ما بين 420-410 هـ/ 1029-1019م
يُعدُّ الكرخي من كبار الرياضيين المسلمين، و>من أعظم الرياضيين الذين كان لهم أثر حقيقي في تقدم العلوم الرياضية<. ورغم ذلك لا تتوافر عنه معلومات كافية.
وهو أبو بكر محمد بن الحسن (أو الحسين) الحاسب الكرخى، نسبة إلى كرخ من ضواحي بغداد. عاش في بغداد أيام الوزير أبو غالب محمد بن خلف فخر الملك، وزير بهاء الدولة البويهي.
إسهاماته العلمية
توجد في كتب الكرخي، لأول مرة عند العرب، حلول للمعادلات غير المحددة، كبقية المعادلات، على أساس الطرق التي اتبعها ديو فنطس.
كما جاء الكرخي بحلول متنوعة لمعادلات الدرجة الثانية، وقدم بحوثاً في إيجاد الجذور التقريبية للأعداد، وبراهين للنظريات التي تتعلق بإيجاد مجموع مربعات ومكعبات الأعداد الطبيعية التي عددها.
مؤلفاته
ــ "الفخري في الجبر"، سمي الكتاب بالفخري نسبة إلى فخر الملك. وقد ألفه ما بين 401 و407هـ.
ويقول سمث في كتابه "تاريخ الرياضيات"، إن كتاب الفخري أهم أثر في الجبر ؛ وقد ترجمه المستشرق الفرنسي "فرانز ويبك Franz Woepcke" سنة 1853.(5/310)
ــ "الكافي في الحساب"، ألفه ما بين 401 و407هـ، وأهداه إلى فخر الملك. ويشتمل الكتاب على مبادئ الحساب المعروفة في ذلك الوقت، وكذلك بعض القوانين والطرق الحسابية المبتكرة لتسهيل بعض المعاملات. ولم يستخدم فيه الأرقام الهندية، بل وضع الأرقام كتابة بالحروف. وقد ترجمه "هوشايم Hocheim" إلى الألمانية، ونشر في ثلاثة أجزاء ما بين سنتي 1878 و1880.
ــ كتاب "البديع في الحساب".
----------------
. ابن سينا
428-370هـ/1037-980م
ابن سينا هو أعظم علماء المسلمين، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين ؛ فقد كان فيلسوفاً، وطبيباً، ورياضياً، وفلكياً.
واسمه الكامل هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس، كما عرف بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، ويعرف عند الأوربيين باسم "Avicenna". ولد قرب بخارى (في أوزبكستان حالياً) سنة 370هـ/980م ؛ وتوفي في همذان سنة 428هـ/1037م. تلقى تعليمه الأول في بخارى حيث درس القرآن وأصول اللغة ؛ ودرس الأدب، والفلسفة، والمنطق، والهندسة، وعلم النجوم، والطب، والطبيعيات. وأصبح حجة في الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة قبل بلوغه سن العشرين.
ولشهرته في الطب، دعاه الأمراء ليعالجهم. ووفق في مداواة أمير بخارى "نوح بن منصور"، كما عالج "شمس الدولة" أمير همذان، و"علاء الدولة" أمير أصفهان. فأنعموا عليه وفتحوا له أبواب دور كتبهم، فوجد فيها مجالاً كبيراً لإتمام دراساته والتعمق في مختلف فروع المعرفة.
وإضافةً إلى اهتمامات ابن سينا العلمية، فقد اشتغل بالسياسة وتدبير شؤون الدولة، حيث استوزره شمس الدولة في همذان، ولكن ابن شمس الدولة سجنه ؛ إلا أنه تمكن، بعد قضاء عدة أشهر في السجن، من الفرار إلى أصفهان حيث قضى أيامه الأخيرة في كنف أميرها "علاء الدولة"، وقد وافته المنية في همذان.
إسهاماته الطبية
برز ابن سينا بصفة خاصة في الطب، حيث حقق فيه اكتشافات جديدة. فهو أول من تحدث، بتفصيل، عن دودة سماها الدودة المستديرة، وهي ما يعرف الآن باسم "الأنكلستوما"، ودرس الاضطرابات العصبية وتوصل إلى بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي. وكان يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها.كما وصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم.
وقد أضاف ابن سينا إلى الطب الكثير بناء على مشاهداته الخاصة، حيث كان يعطي للتجربة المكانة الأولى وتوصل بفضلها إلى ملاحظات أصيلة ؛ ومن أمثلة ذلك : إدراكه للطبيعة المعدية للسل الرئوي، وانتشار الأمراض عن طريق الماء والتربة، ووصفه الدقيق لأمراض الجلد، والأمراض التناسلية. هذا إضافةً إلى وصفه للطرق الصيدلية لتحضير عدد من الأدوية.
كما كان ابن سينا أول من اكتشف التهابات غشاء الدماغ المعدية، وميزها عن غيرها من الالتهابات المزمنة، ووضع أول وصف لتشخيص مرض تصلب الرقبة والتهاب السحايا بشكل واضح. وتحدث عن شلل الوجه وأسبابه، وميز بين الشلل الناتج عن سبب مركزي في الدماغ والناتج عن سبب محلي.
إسهاماته العلمية في علوم أخرى
تمثَّل إسهام ابن سينا في الفيزياء في دراسة عدد من الظواهر الطبيعية مثل : الحركة، والقوة، والفراغ، واللانهاية، والنور، والحرارة. ولاحظ أنه إذا كان إدراك الضوء ناتجاً عن انبعاث نوع ما من الجسيمات من مصدر مشع، فإن سرعة الضوء لا بد أن تكون محدودة.
أما في علم الجيولوجيا، فقد أسهم ابن سينا برسالته في تكون الجبال والأحجار الكريمة والمعادن التي ناقش فيها تأثير الزلزال، والماء، ودرجة الحرارة، والرواسب، والتحجر، والتعرية.
وإضافةً إلى ذلك، برع ابن سينا في الرياضيات والفلك، وعالج مسائل الأجسام اللامتناهية حجماً، دينياً وفيزيائياً ورياضياً، مما ساعد كلاً من "نيوتن" Newton و"لايبنز" Leibniz، في القرن السابع عشر، على وضع الحساب اللامتناهي.
مؤلفاته
تجاوزت مؤلفات ابن سينا المائتين ما بين كتب ورسائل، ومن أشهرها :
ــ كتاب "القانون" : وهو من أهم مؤلفات ابن سينا وأنفسها، وإليه ترجع شهرته في الطب. وقد عرف هذا الكتاب انتشاراً واسعاً في الغرب والشرق. ترجمه "جيرار الكريموني" إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وطبع في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر ستَّ عشرة طبعة، واحدة منها باللغة العبرية والباقي باللاتينية ؛ وفي القرن السادس عشر أعيدت طباعته أكثر من عشرين مرة، وظل يدرس في أوربا حتى القرن التاسع عشر. وقد أعيد سنة (1996م) طبعه من طرف معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت ضمن سلسلة الطب الإسلامي التي يصدرها فؤاد سزكين.
ــ كتاب"الشفاء"، وهو موسوعة فلسفية تضم حصيلة المعارف التي توصل إليها ابن سينا في المنطق، والطبيعيات، والفلسفة ؛
ــ وكتاب"النجاة" وهو ملخص لكتاب الشفاء وأقل تعقيداً منه ؛
ــ وكتاب "الإشارات والتنبيهات"الذي يشتمل على دراسات في الطبيعيات، والإلهيات، والتصوف، والأخلاق.
ولابن سينا مؤلفات أخرى في الطب، والفلسفة، والموسيقى، واللغة، والإلهيات، والنفس، والمنطق، والطبيعيات، والرياضيات، والفلك.
--------------
. ابن الهيثم
430-354هـ/1038-965م
ابن الهيثم من أعظم علماء العرب في البصريات، والرياضيات، والطبيعيات، والطب، والفلسفة، وله إسهامات مهمة فيها.
وهو أبو علي الحسن ابن الحسن ابن الهيثم، المسمى عند الغربيين "الهازن Alhazen". ولد بالبصرة ودرس بها. ولما سمع الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله، أن ابن الهيثم له طريقة لتنظيم الفيضان السنوي لنهر النيل، دعاه إلى مصر وكلفه بتقنين مياه نهر النيل لمواجهة الفيضانات. ولما أخفق ابن الهيثم في مهمته تظاهر بالجنون، وظل على تلك الحال حتى توفي الخليفة، فعاد إلى حالته الطبيعية، واشتغل بنسخ كتب من سبقوه في الرياضيات والطبيعيات، إلى جانب التأليف في مواضيع مختلفة.
إسهاماته في البصريات
يعترف المؤرخون الغربيون بأهمية ابن الهيثم في تطوير علم البصريات، فأرنولد في كتاب " تراث الإسلام"، قال >إن علم البصريات وصل إلى الأوج بظهور ابن الهيثم<، أما سارطون فقال : >إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند المسلمين في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن أعظم علماء البصريات القليلين المشهورين في كل زمن، وأنه كان أيضاً فلكياً، ورياضياً، وطبيباً<. أما دائرة المعارف البريطانية، فقد وصفته بأنه رائد علم البصريات بعد بطليموس.
وابن الهيثم هو أول من قال بأن العدسة المحدبة ترى الأشياء أكبر مما هي عليه. وأول من شرح تركيب العين ووضح أجزاءها بالرسوم وأعطاها أسماء أخذها عنه الغربيون وترجموها إلى لغاتهم، ما زالت مستعملة حتى الآن. ومن ذلك مثلاً الشبكية Retina، والقرنية (Cornea)، والسائل الزجاجي (Viteous Humour، والسائل المائي( (Aqueous Humour). كما أنه ترك بحوثاً في تكبير العدسات مهدت لاستعمال العدسات في إصلاح عيوب العين.(5/311)
وتوصل ابن الهيثم إلى أن الرؤية تنشأ من انبعاث الأشعة من الجسم إلى العين التي تخترقها الأشعة، فترسم على الشبكية وينتقل الأثر من الشبكية إلى الدماغ بواسطة عصب الرؤية، فتتكون الصورة المرئية للجسم. وبذلك أبطل ابن الهيثم النظرية اليونانية لكل من أقليدس وبطليموس، التي كانت تقول بأن الرؤية تحصل من انبعاث شعاع ضوئي من العين إلى الجسم المرئي. كما بحث في الضوء والألوان والانعكاسات الضوئية على بعض التجارب في قياس الزوايا المحدثة والانعكاسية. ويعدّه بعض الباحثين رائد علم الضوء.
إسهاماته في الرياضيات
كان ابن الهيثم رياضياً بارعاً، فقد طبق الهندسة والمعادلات والأرقام في حل المسائل الفلكية. كما حل معادلات تكعيبية وأعطى قوانين صحيحة لمساحات الكرة، والهرم، والأسطوانة المائلة، والقطاع الدائر، والقطعة الدائرية.
إسهاماته في الفلك
اهتم ابن الهيثم بالفلك، وكتب فيه عدداً من الكتب وقام بعدد من الأرصاد. ومن أهم إسهاماته في علم الفلك : توصله إلى طريقة جديدة لتحديد ارتفاع القطب، فقد وضع نظرية عن تحركات الكواكب ؛ ولايزال أثر هذه النظرية قائماً حتى الآن، حيث توجد في ضواحي فينا بالنمسا طاولة صنعت بألمانيا سنة 1428 وعليها رسم لحركات كواكب سيارة حسب نظرية ابن الهيثم. واكتشف ابن الهيثم أن كل الأجسام السماوية، بما فيها النجوم الثابتة، لها أشعة خاصة ترسلها، ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من الشمس.
مؤلفاته
ترك ابن الهيثم تراثاً علميا غنياً في مختلف العلوم، ومن أهم ما ألفه :
ــ "كتاب المناظر" : يشتمل الكتاب على بحوث في الضوء، وتشريح العين، والرؤية. وقد أحدث الكتاب انقلاباً في علم البصريات، وكان له أثر كبير في معارف الغربيين (روجر بيكون و كيبلر)، وظلوا يعتمدون عليه لعدة قرون، إذ تمت ترجمته إلى اللاتينية مرات عديدة في القرون الوسطى. ويشتمل الكتاب على سبع مقالات، حقق منها عبد الحميد صبرة المقالة الأولى والثالثة ونشرهما في كتاب سنة 1983 بالكويت. كما أن الدكتور رشدي راشد حقق المقالة السابعة في كتابه "علم الهندسة والمناظر في القرن الرابع الهجري"، المطبوع في بيروت سنة 1996. وتوجد مخطوطات كاملة من الكتاب أو لبعض مقالاته، في العديد من المكتبات، خاصة باستانبول بتركيا.
ــ "حل شكوك أقليدس" ؛
ــ "مقالة الشكوك على بطليموس" ؛
ــ "كتاب شرح أصول إقليدس في الهندسة والعدد" ؛
ــ "كتاب الجامع في أصول الحساب" ؛
ــ "كتاب في تحليل المسائل الهندسية".
ويذكر أن ابن الهيثم صنَّف ثمانين كتاباً ورسالة في الفلك شرح فيها سير الكواكب، والقمر، والأجرام السماوية، وأبعادها.
وقد كان لترجمة بعض كتب ابن الهيثم إلى اللاتينية، تأثير كبير على علماء الغرب من أمثال كبلر، وفرنسيس بيكون. ويؤكد مصطفى نظيف أن ابن الهيثم سبق"فرنسيس بيكون" في وضع المنهج التجريبي القائم على المشاهدة والتجربة والاستقراء. كما يقول عباس محمود العقاد في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوربية" إن ترجمة كتب ابن الهيثم كان عليها معول الأوربيين اللاحقين جميعاً في البصريات.
----------
. البيروني
439-363هـ/1048-973م
هو محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي، ولد سنة 363هـ/973م بإحدى ضواحي خوارزم في فارس (أوزبكستان حالياً). لا يعرف تاريخ وفاته على وجه التحديد، لكن الراجح أنه توفي عام 439هـ/1048م.
كان البيروني عالماً في الرياضيات، والطبيعيات، والفلك، والطب، والفلسفة، والتصوف، والأديان ؛ ومؤرخاً ولغوياً وأديباً. وعلى الرغم من اطلاعه الواسع على مختلف مجالات المعرفة في عصره، فإن اهتمامه كان مركزاً أكثر على الرياضيات والفلك. ويعدّه أعلام المستشرقين من العباقرة المسلمين العالميين الواسعي الاطلاع. ويعترف المؤرخ جورج سارطون بمكانته العلمية فيقول : >كان البيروني رحالة وفيلسوفاً، ورياضياً، وفلكياً، وجغرافياً، وعالماً موسوعياً، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم في كل زمن<.
وإذا كانت المصادر لا تذكر شيئاً عن أسرة البيروني أو عن صباه وما تعلمه في أول حياته، فهي تذكر أنه درس على ثلاثة أساتذة وهم : أبو نصر بن عراق، وأبو سهل بن يحيى المسيحي، وأبو الحسن بن علي الجبلي، وأنه عاصر الطبيب المشهور ابن سينا، وكانت بينهما مراسلات في مواضيع مختلفة، وأنه كان يتقن عدة لغات منها اليونانية، والسنسكريتية والفارسية، والعبرية، إضافةً إلى العربية.
ولما بلغ البيروني الخامسة والعشرين من عمره، رحل إلى جرجان حيث التحق ببلاط السلطان أبي الحسن قابوس بن وشمكير، ثم عاد إلى وطنه خوارزم بعد عدة سنوات، ودخل في خدمة أبي العباس المأمون بن المأمون آخر أمراء دولة المأمونيين، وبعد أن استولى السلطان محمود الغزنوي على خوارزم، ضمَّ البيروني إلى حاشيته ثم اصطحبه معه في رحلاته المتعددة إلى الهند. ويقال إن البيروني بقي في الهند مدة طويلة درس فيها ثقافتها وعلومها، ومعارفها، وأصبح بذلك أكثر العلماء المسلمين اطلاعاً على تاريخ الهند ومعارفها. كما نقل إلى الهنود العلوم اليونانية والعربية.
إسهاماته العلمية
يعترف للبيروني بإسهام في مختلف العلوم، فقد حدَّد بدقة خطوط الطول وخطوط العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وبحث في الوزن النوعي، وقدر بدقة كثافة 18 نوعاً من الأحجار الكريمة والمعادن، وتوصل إلى أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، كما شرح كيفية عمل الينابيع الطبيعية والآبار الارتوازية بناء على مبدأ هيدروستاتيكي. كما قدم وصفاً للمخلوقات الغريبة، منها ما يعرف باسم التوائم "السيامية".
وكان البيروني ألمع علماء زمانه في الرياضيات كما يعترف بذلك"سمث" في الجزء الأول من كتابه "تاريخ الرياضيات". وبجانب ذلك اشتغل بالفلك، وبحث في هيئة العالم وأحكام النجوم، ووضع طريقة لاستخراج مقدار محيط الأرض تعرف عند العلماء الغربيين باسم " قاعدة البيروني" ؛ ووصف ظواهر الشفق وكسوف الشمس وغير ذلك من الظواهر الطبيعية بجانب إشارته لدوران الأرض حول محورها.كما كان ملمًا بعلم المثلثات، وهو من الذين بحثوا في التقسيم الثلاثي للزاوية.
كان البيروني متصفاً بالروح العلمية، والإخلاص للحقيقة، إضافةً إلى دقة البحث والملاحظة.
مؤلفاته
ترك البيروني مؤلفات عديدة، تزيد عن مائة وخمسين كتاباً، وقد ذكر أغلبها في رسالته المعروفة بالفهرس، وتتناول مواضيع متنوعة منها الجغرافيا، والرياضيات، والفلك. ومن أشهر مؤلفاته :
ــ "كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية"، ناقش فيه البيروني دوران الأرض حول نفسها، وتسطيح الكرة ؛ وهو بذلك واضع أصول الرسم على سطح الكرة. ترجم "إدوارد ساخاو Sachau" هذا الكتاب إلى الإنجليزية، وطبع في لندن عام 1789. كما ترجم إلى الألمانية والإنجليزية في القرن التاسع عشر.
ــ "القانون المسعودي في الهيئة والنجوم"، ألفه البيروني (421هـ/1030م) بطلب من "مسعود بن محمد الغزنوي". وهو كتاب ضخم يشتمل على 143 باباً تناول فيه مختلف موضوعات الفلك والرياضيات. و طبع الكتاب في حيدرآباد بالهند.
ــ "تاريخ الهند"، ضمنه البيروني خلاصة دراساته في الهند. ترجمه "ساخاو" أيضاً إلى الإنجليزية، وطبع في لندن سنة 1887م. وتناول فيه البيروني لغة أهل الهند وعاداتهم وعلومهم.(5/312)
ــ "كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، يبحث هذا الكتاب الحساب، والهندسة، والجبر، والعدد، والفلك. وقد كتبه البيروني على شكل سؤال وجواب، ووضحه بالأشكال والرسوم.
إضافةً إلى هذه الكتب الكبيرة، ترك البيروني عدة رسائل في الهندسة، والحساب، والفلك، والآلات العلمية، والطب، والصيدلة. كما كانت له مراسلات مع ابن سينا. وإضافةً إلى ذلك، فقد ترجم عدداً من الكتب من اللغة السنسكريتية إلى العربية.
وقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، ونشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين.
-------------
. ابن رضوان
453-389هـ/1061-998 م
طبيب مصري ذائع الصيت. كان طبيب الخليفة الحاكم بأمر الله، وعميد أطباء القاهرة.
واسمه الكامل هو أبو الحسن المصري علي بن رضوان بن علي بن جعفر. ولد بالجيزة قرب القاهرة سنة 998م، وعاش فيها وتوفي بها ما بين 1061 (453هـ) و1067م. وكان طبيباً ورياضياً ومنجماً، ومن كبار الفلاسفة في الإسلام.
لا يعرف الكثير عن حياته. ويقال إن أباه كان فَرَّاناً أو سقَّاء، ولذا اضطر ابن رضوان في صغره إلى العمل ليحصل على ما يشتري به ما يحتاجه من الكتب.
إسهاماته العلمية
من أهم إسهاماته في الطب اهتمامه بمعاينة المريض والتعرف على المرض، وذلك بالنظر إلى هيئة أعضاء المريض وسحنته وبشرته، وتفقد أعضائه الباطنية والخارجية، وطريقة نظره وكلامه ومشيته، والتعرف على نبض قلبه وعلى مزاجه عن طريق توجيه الأسئلة إليه.
كما حدد ابن رضوان واجبات الطبيب في معالجة أعدائه بنفس الروح والإخلاص والاستعداد التي يبذلها عند معالجة أحبائه.
وكانت بين ابن رضوان وابن بطلان طبيب بغداد، مراسلات دارت حول صغار الطير وعدد من المواضيع، الأخرى خاصة منها تعلّم الطب اليوناني.
مؤلفاته
ألف ابن رضوان عدة كتب في الطب، أشهرها :
ــ "كتاب في دفع مضار الأبدان بأرض مصر"، ترجم ماكس مايرهوف فصلاً منه في كتابه : "دراسة المناخ والصحة في مصر القديمة" (1923).
ــ "شرح الصناعة الصغيرة لجالينوس"، كان لهذا الكتاب شهرة عظيمة، وقد ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية. ونشر في البندقية سنة 1496م.
ــ "شرح المقالات الأربع في القضايا بالنجوم لبطليموس".
ــ "كفاية الطبيب فيما صح لدي من التجارب".
ــ "الكتاب النافع في تعلم صناعة الطب"، ويحتوي هذا الكتاب على عرض لأفكار ابن رضوان وأفكار كثير من زملائه الآخرين عن الطب اليوناني القديم، وتطوره، وقيمته، وطريقة تعلمه
--------------
. الزرقالي
480-420هـ/1087-1029م
الزرقالي من أعظم راصدي الفلك في عصره، وواحد زمانه في علم العدد، والرصد، وعلم الأبراج. وهو فلكي عربي مسلم أندلسي من مدينة طليطلة، قام بأكثر أرصاده بها، ثم انتقل منها إلى قرطبة وبقي فيها حتى وفاته.
واسمه الكامل هو إبراهيم بن يحيى النقاش، المعروف بابن الزرقالة أو الزرقالي. ويعرف في اللاتينية باسم Arzachel.
إسهاماته العلمية
اخترع الزرقالي نوعاً جديداً من الأسطرلاب معروف باسم "الصفيحة الزرقالية" التي حظيت بأهمية كبيرة. وقد دخلت هذه الصفيحة إلى مجال علم الفلك تحت اسم " الأسطرلاب الزرقالي"، وفي القرن الخامس عشر، نشر راجيومونتانوس مخطوطاً يبين فيه مجمل فوائدها. و هو من الأوائل الذين أثبتوا حركة أوج الشمس بالنسبة للنجوم، ووجد أنها تصل إلى 04.12 دقيقة في السنة (والقيمة الحقيقية هي 8.11 دقيقة).
كما وضع الزرقالي جداول عن الكواكب، وهي المعروفة بالزيج الطليطلي، بناء على أرصاده التي قام بها في مدينة طليطلة من 1061إلى 1080م.
وصحَّح الزرقالي المعلومات الجغرافية لبطليموس والخوارزمي. فقد وجد أن طول البحر الأبيض المتوسط هو 42 درجة وليس 62 درجة كما قال بطليموس.
وتقول هونكة أثناء حديثها عن تأثير علماء الفلك العرب على الغرب، بأن أعمال الزرقالي حظيت عند الغربيين بأهمية كبيرة، ففي القرن الثاني عشر ترجم جيرار الكريموني أعمال الزرقالي إلى اللاتينية، وفي القرن الخامس عشر، ألف راجيومونتانيوس كتاباً عن فوائد الصفيحة الزرقالية، وفي عام 1530م كتب العالم البافاري يعقوب تسيجلرJacob Ziegler تعليقاً على كتاب الزرقالي، وفي عام 1530م ذكر كوبرنيك اسمي الزرقالي والبتاني في كتابه : "دوران الأجرام السماوية" Revolutionibus de Clestium Orbium)(1، واقتبس من آرائهما.
مؤلفاته
ذكر الزركلي من كتب الزرقالي المصنفات التالية :
ــ "العمل بالصفيحة الزيجية" ؛
ــ "التدبير" ؛
ــ "المدخل في علم النجوم" ؛
ــ "رسالة في طريقة استخدام الصفيحة المشتركة لجميع العروض".
كان لمؤلفات الزرقالي تأثير كبير على الفلكيين الإسبان الذين وضعوا الزيج المعروف باسم "ألفونسية" نسبة إلى ألفونس ملك قشتالة، الذي أمر بعد 200 سنة على وفاة الزرقالي، بترجمة كل آثاره إلى اللغة المحلية في قشتالة
--------------
. ابن جِزْلَة
توفي سنة493هـ/1100م
هو أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة طبيب عربي مسلم من بغداد. وإذا كان تاريخ ولادته غير معروف، فإن وفاته كانت سنة 493هـ/1100م. يعرف عند الغربيين باسم Bengesla. كان مسيحياً، لكنه اعتنق الإسلام سنة 466هـ/1074م، متأثراً بأستاذه أبي علي بن الوليد المعتزلي. وقد درس الطب على سعيد بن هبة الله طبيب الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله. كان ابن جزلة >يطبب أهل محلته ومعارفه بغير أجر، ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عوض، ويتفقد الفقراء ويحسن إليهم<.
إسهاماته العلمية
كان ابن جزلة إمام الطب في عصره. وقد تجلت إسهاماته الطبية في وضع جداول تشتمل على شروح وافية عن كل مرض، كما استعرض أنواع الأوبئة والأمراض وأوقات ظهورها، ثم البلدان التي تنتشر فيها، وطرق تشخيصها، وكيفية علاجها. وقد اتبع طريقة منتظمة في متابعة أعضاء جسم الإنسان وأمراضها، ووضع ذلك في جداول تسهل على المثقف العادي في عصره استعماله في العلاج.
كما كان ابن جزلة من الصيادلة المشهورين في بغداد، وقد أسهم في هذا الميدان من خلال وصف العقاقير والأعشاب والأدوية، وكل ما يستعمله الإنسان في التطبب من لحوم ونباتات ومستحضرات كيماوية.
ومما يتميز به ابن جزلة في ميدان العلاج، أنه كان يؤمن بأهمية الموسيقى في شفاء الأمراض والوقاية منها. وقد قال في هذا الشأن : >إن موقع الألحان من النفوس السقيمة مثل موقع الأدوية من الأبدان المريضة<.
مؤلفاته
أشهر مصنفات ابن جزلة هي :
ــ "تقويم الأبدان في تدبير الإنسان"، رتب فيه ابن جزلة أسماء الأمراض في جداول، مع وصف طريقة علاج اثنين وخمسين وثلاثمائة (352) مرض. وقد طبعت منه نسخة باللاتينية في ستراسبورغ سنة 1532.
ــ "منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان"، كتبه للخليفة العباسي المقتدي. وهو قائمة للعقاقير والأعشاب الطبية مرتبة على الأحرف الهجائية .
ــ "الإشارة في تلخيص العبارة" ؛
ــ "رسالة في مدح الطب وموافقته للشرع" ؛
ــ "رسالة في الرد على النصرانية".
------------
. عمر الخيام
518-440هـ 1124-1048 /م(5/313)
أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام، فيلسوف وشاعر فارسي وعالم في الرياضيات، والفلك، واللغة، والفقه، والتاريخ. ولد في نيسابور ما بين 1038 و1048، وتوفي فيها ما بين 1123 و1124م. لقب بالخيام لأنه كان في بداية حياته يصنع الخيام. لكن لما أصبح صديقه "نظام الملك" وزيراً للسلطان "ألب أرسلان"، ثم لحفيده "ملكشاه"، خصص له راتباً سنوياً من خزينة نيسابور ضمن له العيش في رفاهية مما ساعده على التفرغ للبحث والدراسة. وقد عاش معظم حياته في نيسابور وسمرقند. وكان يتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل بخاري وبلخ وأصفهان رغبة منه في التزود من العلم وتبادل الأفكار مع العلماء. وقد استقر في الأخير في بغداد.
إسهاماته العلمية
وترجع شهرته إلى عمله في الرياضيات حيث حلَّ معادلات الدرجة الثانية بطرق هندسية وجبرية. كما نظم المعادلات وحاول حلها كلها، ووصل إلى حلول هندسية جزئية لمعظمها. وقد بحث في نظرية ذات الحدين عندما يكون الأس صحيحاً موجباً، ووضع طرقاً لإيجاد الكثافة النوعية.
ولم ينبغ الخيام في الرياضيات فحسب، بل برع أيضاً في الفلك. وقد طلب منه السلطان "ملكشاه" سنة 467هـ/1074م مساعدته في تعديل التقويم الفارسي القديم. ويقول "سارطون" إن تقويم الخيام كان أدق من التقويم الجريجوري.
مؤلفاته
للخيام عدة مؤلفات في الرياضيات والفلسفة والشعر، وأكثرها بالفارسية. أما كتبه بالعربية فمنها :
ــ "الجبر والمقابلة" : ترجمه إلى الفرنسية العالم فرانز وبكه Franz Woepcke، ونشره سنة 1851 في باريس. كما ترجمه إلى الإنجليزية داود قصير سنة 1931.
ــ "شرح ما أشكل من مصادرات كتاب أقليدس" ؛
ــ "الاحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهما"، وفيه طريقة قياس الكثافة النوعية ؛
ــ "رسالة في الموسيقى" .
وبلغت شهرة الخيام قمتها بمقطوعاته الشعرية "الرباعيات" التي كتبها بالفارسية وترجمت إلى العربية، واللاتينية،
------------
. ابن باجة
توفي سنة 533هـ/1138م
فيلسوف أندلسي وعالم في الفلك والطب والرياضيات.
وهو أبو بكر محمد بن يحيى التجيبي السرقسطي ابن باجة ؛ (و"باجة" كلمة إفرنجية تعني الفضة، كما يقول ابن خلكان)، ويعرف أيضاً بابن الصائغ. ويسمي عند الأوربيين Avempace. لا تعرف أشياء كثيرة عن حياته، وكل ما يعرف أنه ولد بمدينة سرقسطة من أعمال الأندلس في أواخر القرن الخامس الهجري / الحادي عشر ميلادي.
درس معظم علوم عصره من طب، وفلسفة، ورياضيات، وفلك وموسيقى. واشتغل بالسياسة، حيث كان وزيراً لأبي بكر إبراهيم صهر علي بن يوسف المرابطى، الذي كان والياً على غرناطة ثم على سرقسطة.
بعد استيلاء ألفونس الأول على مدينة سرقسطة، هاجر ابن باجة إلى إشبيلية (513هـ) ثم إلى غرناطة. وذهب، بعد ذلك، إلى فاس وقصد بلاط المرابطين وعمل طبيباً به ؛ وهنا تحامل عليه أعداؤه ورموه بالإلحاد والجهل. وتوفي مسموماً سنة 533هـ/1138م.
إسهاماته العلمية
رغم شهرة ابن باجة بالفلسفة، فقد نبغ في العلوم الطبيعية، والرياضية، والفلك، والطب، والموسيقى.
ويذكر حافظ قدري طوقان أن ابن باجة كانت له ملاحظات قيمة على النظام الفلكي الذي وضعه بطليموس، فقد انتقد هذا النظام وبين مواضع الضعف فيه. وقد أَيَّدَ سارطون هذه الفكرة، وقال إن البطروجي تأثر بآراء ابن باجة في الفلك. كما أن ابن البيطار استشهد في كتابه "الأدوية المفردة" بابن باجة، واعتمد على رسالته في الطب.
مؤلفاته
ترك ابن باجة عدداً من المؤلفات بلغت الثلاثين في المنطق، والفلسفة والرياضيات، والطب، والطبيعة، والنبات، والأدوية ؛ لكن ضاع معظمها، ولم يبق منها إلا رسائل وصفحات في ترجمات لاتينية وعبرية.
فمن شروحه وتعليقاته العلمية :
ــ تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة ؛
ــ شرح كتاب "السماع الطبيعي" لأرسطوطاليس ؛
ــ قول على بعض كتاب "الكون والفساد" لأرسطوطاليس ؛
ــ كلام على شيء من كتاب"الأدوية المفردة" لجالينوس ؛
ــ كتاب اختصار الحاوي للرازي ؛
ــ كتاب التجربتين على أدوية بن وافد.
وإضافةً إلى هذه المصنفات العلمية، فقد كتب ابن باجة عدداً من الشروحات والمؤلفات الفلسفية، ومن أشهرها :
ــ "رسالة الوداع" ؛
ــ "رسالة تدبير المتوحد" ؛
توجد مؤلفات ابن باجة في عدد من المكتبات العالمية مثل أكسفورد، والأسكريال، وبرلين.
------------
. أبو مروان ابن زُهْر
557-465هـ/1162-1072م
ابن زهر كنية أسرة من علماء المسلمين نشأوا في الأندلس من بداية القرن العاشر إلى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي. وأشهرهم هو الطبيب أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر، ويسمى عادة أبو مروان ويعرف عند الأوربيين باسم Avenzoar. وهو ينحدر من عائلة عريقة في الطب، فقد كان والده أبو العلاء طبيباً ماهراً في التشخيص والعلاج، وكان جده طبيباً. ولد في إشبيلية سنة 465هـ/ 1072م. وبعد أن درس الأدب والفقه وعلوم الشريعة، تعلم الطب على والده. وكان صديقاً للطبيب والفيلسوف ابن رشد.
اشتغل أبو مروان أول الأمر مع أمراء دولة المرابطين وأصابه من أميرها "علي بن يوسف بن تاشفين" ما أصاب والده من قبله من محنة، فسجن نحواً من عشر سنوات" في مراكش. وبعد زوال الدولة المرابطية وقيام الدولة الموحدية، اشتغل ابن زهر طبيباً ووزيراً مع عبد المؤمن مؤسس الدولة فشمله برعايته، مما مكنه من تأليف أفضل كتبه. وتوفي أبو مروان في إشبيلية مسقط رأسه سنة 557هـ/1162م.
إسهاماته العلمية
يمثل ابن زهر حالة استثنائية في زمانه، إذ بالرغم من سعة معارفه وتنوعها فقد تخصص في الطب ومارسه طول حياته، فأضاف أشياء جديدة، منها وصفه لمختلف الأمراض الباطنية والجلدية، إضافةً إلى الجراحة. كما بحث في قروح الرأس وأمراضه، وأمراض الأذنين، والأنف، والفم، والشفاه، والأسنان، والعيون، وأمراض الرقبة، والرئة، والقلب، وأنوع الحمى، والأمراض الوبائية، ووصف التهاب غشاء القلب ومَيَّزَ بينه وبين التهاب الرئة.
وقد اعتمد ابن زهر على التجربة والتدقيق العلمي، وتوصل بذلك إلى الكشف عن أمراض لم تدرس من قبل، فقد درس أمراض الرئة، وأجرى عملية القصبة المؤدية إلى الرئة، كما كان أول من استعمل الحقن للتغذية الصناعية.
وأبو مروان هو من أوائل الأطباء الذين اهتموا بدراسة الأمراض الموجودة في بيئة معينة، فقد تكلم عن الأمراض التي يكثر التعرض لها في مراكش. كما أنه من أوائل الأطباء الذين بينوا قيمة العسل في الدواء والغذاء.
يُعدّ ابن زهر أحد أعظم أطباء الأندلس، فقد نال إعجاب كثير من معاصريه وعلى رأسهم صديقه ابن رشد الذي وصف ابن زهر في كتابه"الكليات" بأنه أعظم الأطباء بعد جالينوس. وقد استمر تأثير بن زهر في الطب الأوربي حتى القرن السابع عشر ميلادي، وذلك بفضل ترجمة كتبه إلى اللاتينية والعبرية.
مؤلفاته
أشهر كتب ابن زهر هي :
ــ "كتاب التيسير في المداواة والتدبير"، وهو موسوعة طبية يبرز فيها تضلع ابن زهر في الطب وموهبته فيه، وقد أهداه لصديقه ابن رشد الذي ألف فيما بعد "كتاب الكليات في الطب"، فكان الكتابان متممين أحدهما للآخر. وترجم الكتاب إلى اللاتينية سنة 1490م، وكان له أثر كبير على الطب الأوربي حتى القرن السابع عشر. وتوجد نسخ منه في عدد من الخزانات، منها الخزانة العامة بالرباط، وخزانات باريس، وأكسفورد بإنجلترا، وفلورانسا بإيطاليا. وفي سنة 1991م قامت أكاديمية المملكة المغربية بطبعه ضمن "سلسلة التراث" بعدما حققه وهيأه للطبع الباحث محمد بن عبد الله الروداني.(5/314)
ــ "كتاب الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد"، وهو خلاصة للأمراض، والأدوية، وعلم حفظ الصحة، والطب النفسي. توجد منه عدة نسخ مخطوطة، منها نسخة بالخزانة الملكية بالرباط.
ــ "كتاب الأغذية والأدوية"، يصف فيه ابن زهر مختلف أنواع الأغذية والعقاقير وآثارها على الصحة، وقد ترجم إلى اللاتينية. وهو لا يزال مخطوطاً، وتوجد منه نسختان بالخزانة الملكية بالرباط.
وإضافةً إلى هذه الكتب الثلاثة، ألف أبو مروان عدداً آخر من الكتب والرسائل في الطب.
---------------
. ابن طُفَيْل
توفي سنة 581هـ/1185م
هو أبو بكر محمد بن عبد المالك بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي، يرجع نسبه إلى قبيلة بني قيس العربية. ولد قرب مدينة غرناطة بالأندلس، وتاريخ ولادته غير معروف، لكن من المحتمل أن يكون قد ولد في بداية القرن الثاني عشر الميلادي. كما لا يعرف شيء عن أسرته وتعلمه. وكل ما يعرف عنه أنه درس على علماء وحكماء عصره، وكانت له معرفة جيدة وشاملة بمختلف العلوم، خاصة منها الطب، والفلسفة، والفلك.
وقد تقلب ابن طفيل في مناصب عدة ، فاشتغل في البداية كاتباً في ديوان والي غرناطة، ثم في ديوان الأمير أبي سعيد بن عبد المؤمن حاكم طنجة ؛ ثم أصبح وزيراً وطبيباً للسلطان الموحدي "أبي يعقوب يوسف". ويقال إن ابن طفيل كان له تأثير كبير على الخليفة، وقد استغل ذلك في جلب العلماء إلى البلاط. ونذكر منهم بصفة خاصة الفيلسوف والطبيب ابن رشد الذي قدمه ابن طفيل عندما تقدم به السن إلى السلطان ليقوم بشرح كتب أرسطو وليخلفه في عمله كطبيب. وقد ظل ابن طفيل في بلاط السلطان إلى أن توفي بمراكش عام 581هـ/1185م.
إسهاماته العلمية
إسهاماته في الطب : ذكر لسان الدين ابن الخطيب أن ابن طفيل ألف في الطب كتاباً من مجلدين. كما ذكر ابن أبي أصيبعة أنه كان بين ابن الطفيل وابن رشد مراجعات ومباحث في "رسم الدواء" جمعها ابن رشد في كتابه "الكليات"، كما كانت لابن طفيل أرجوزة في الطب تتألف من 7700 بيت.
إسهاماته في الفلك : ويقال إن ابن طفيل كانت له آراء مبتكرة في الفلك ونظريات في تركيب الأجرام السماوية وحركاتها.
يقول الباحث ليون غوتيه في كتابه عن ابن طفيل : على الرغم من عدم وجود أي شيء مكتوب عن الفلك، باستثناء بعض الفقرات القصيرة في كتاب حي ابن يقظان، فإننا نعرف أن ابن طفيل لم يكن راضياً عن النظام الفلكي الذي وضعه بطليموس، وأنه فكر في نظام جديد. واستشهد الكاتب على ذلك بما كتبه كل من ابن رشد والبطروجي. فابن رشد في شرحه الأوسط لِـ "الآثار العلوية" لأرسطو، انتقد بدوره فرضيات بطليموس عن تكوين الأفلاك وحركاتها، وقال إن ابن طفيل يتوفر في هذا المجال على نظريات رائعة يمكن الاستفادة منها كثيراً. كما أن البطروجي في مقدمة كتابه الشهير عن الفلك، ذكر أن ابن طفيل أوجد نظاماً فلكياً ومبادئ لحركاته، غير تلك المبادئ التي وضعها بطليموس. ويتساءل الباحث الفرنسي عن احتمال أن تكون فرضيات ابن طفيل تشتمل على بعض العناصر الأساس من الإصلاح الفلكي العظيم الذي جاء به كوبرنيك وجاليلي بعد أربعة قرون.
مؤلفاته
ــ "مراجعات ومباحث" جرت بينه وبين ابن رشد في " رسم الدواء"، جمعها ابن رشد في كتابه "الكليات" ؛
ــ "أرجوزة في الطب" : توجد في خزانة جامع القرويين بفاس بالمملكة المغربية؛
ــ "رسالة في النفس" في الفلسفة ؛
ــ "حي بن يقظان" أشهر ما ترك ابن طفيل، وهي قصة فلسفية عرض فيها أفكاره الفلسفية عرضاً قصصياً، محاولاً التوفيق فيها بين الدين والفلسفة. وقد عرفت هذه القصة في الغرب منذ القرن السابع عشر، وترجمت إلى عدة لغات، منها اللاتينية، والعبرية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والهولندية.
-----------
. ابن رشد
595-520هـ/1198-1126م
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد الأندلسي. ويعرف عند الغربيين باسم Averroes. فيلسوف وطبيب وفقيه عربي مسلم، ولد بمدينة قرطبة، ونشأ في أسرة عريقة في العلوم الإسلامية ؛ مارس كل من جده وأبيه القضاء. تعلم ابن رشد العلوم الشرعية على يد والده، ثم درس بعد ذلك الطب والفلسفة. وقد عاصر الفيلسوف الطبيب ابن طفيل، والطبيب المشهور ابن زهر.
زار ابن رشد مراكش عام 548هـ/1153م بدعوة من السلطان الموحدي عبد المؤمن بن علي لاستشارته في إنشاء عدد من المدارس في المغرب. وعاد مرة ثانية إلى مراكش، حيث قدمه الفيلسوف الطبيب ابن طفيل إلى السلطان أبي يعقوب يوسف الذي كلفه سنة 565هـ/1169م بشرح فلسفة أرسطو، وعينه قاضياً في مدينة إشبيلية، ثم قاضياً للقضاة قي قرطبة. وفي سنة 578هـ/1182م استدعاه أبو يعقوب إلى مراكش وجعله طبيبه الخاص بدل ابن طفيل، ثم عينه قاضياً في قرطبة. وبعد وفاة الخليفة أبي يعقوب، خلفه ابنه أبو يوسف يعقوب، فقرب إليه ابن رشد، إلا أن بعض العلماء حملوا عليه فحوكم وأحرقت كتبه باستثناء مؤلفاته في الطب والفلك؛ ونفي إلى "أليسانة" قرب قرطبة، ثم عفي عنه، ورجع إلى المغرب سنة 1198. لكنه توفي في السنة نفسها.
إسهاماته العلمية
كان طبيباً باحثاً، ودارساً ومعالجاً، ومطبباً ؛ وإن كان أميل إلى البحث والدرس منه إلى التمريض والمعالجة. وقد أشار في كتابه "الكليات" إلى ممارسته للطب وإن كانت محدودة. وبيَّن ضرورة الاعتماد على المشاهدة والتجربة، وعلى الإلمام بكل ما وصل إليه العلم الطبيعي بمعرفة التشريح ووظائف الأعضاء. كما أضاف إلى الطب طريقة الشورى بين الأطباء. ومن إسهاماته الطبية توصله إلى أن مرض الجذري لا يصيب المريض إلا مرة واحدة، وأن داء الكَلبَ سببه "سؤر" الكلب المصاب بداء الكَلبَ. كما أنه اتفق مع ابن سينا حول انتقال الأمراض بالوراثة من الآباء إلى الأبناء. وقد أشار السير ستيوارت دوك ألدر Sir Stewart Duke Elder في موسوعة "طب العيون" System of Ophtalmology إلى أن ابن رشد سبق إلى القول بأن الشبكة هي المستقبِلة للضوء.
وكان ابن رشد يرى أن الحفاظ على الصحة يكون بالغذاء الجيد والشراب النظيف والهواء الصحي، ويعدّ الدواء مادة غريبة عن الجسم، تضر ببعض الأعضاء بسبب انعكاساتها وتأثيراتها المختلفة خاصة على الكبد والكلي، وهي الأعضاء التي تقوم بتخليص الجسم من السموم. كما وصف ابن رشد الكثير من الأمراض وعلاماتها ومضاعفاتها، وتكلم عن الأعراض النفسية مثل الغضب، والحزن، والقلق، والصرع. واهتم ابن رشد كذلك بمادة العلاج الطبي، وخصص جزءاً كبيراً من كتابه"الكليات" لأنواع الأغذية والأدوية وأفعالهما. كما حدد الأسس الواجب اتباعها في تقدير الأدوية.
مؤلفاته
ــ "كتاب "الكليات في الطب" : هو أهم مؤلفات ابن رشد في الطب، وقد تناول فيه المبادئ العامة في الطب وقسمه إلى سبعة أقسام بحسب المواضيع التي تناوله فيه.
ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي تحت اسم Colliget، كما ترجم إلى العبرية. وأعيد طبعه عدة مرات في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أما النص العربي فلم ينشر إلا سنة 1984 في نيودلهي. وفي سنة 1989 نشر المجلس الأعلى للثقافة الجزائري بالتعاون مع الاتحاد الدولي للأكاديميات، كتاب "الكليات" بعدما قام كل من د.سعيد شيبان، ود. عمار الطالبي بتحقيقه والتعليق عليه.
ــ "تلخيص كتاب النفس" لأرسطو ؛
ــ "شرح كتاب النفس" لأرسطو؛
ــ "تلخيص العلل والأمراض لجالينوس" ؛
ــ "مسألة في علم النفس" ؛(5/315)
ــ "كتاب "الترياق" (الترياق هو الدواء الذي يقاوم السموم)، حدد فيه ابن رشد الأمراض التي يمكن أن يعالجها الترياق، وشرح أسباب استخدامه وكيفية استعماله.
ــ "شرح أرجوزة ابن سينا في الطب" ؛
وإضافةً إلى هذه الكتب الطبية، ألف ابن رشد عدداً من الكتب في الفلسفة من أهمها : كتاب "تهافت التهافت" الذي رد فيه على كتاب الغزالي " تهافت الفلاسفة".
كما ألف ابن رشد في الفلك :"كتاب في حركات الأفلاك".
وخلاصة القول، إن ابن رشد كان من أعظم المفكرين والعلماء في القرن الثاني عشر الميلادي، وإن تأثيره في الغرب استمر حتى القرن السادس عشر.
وقد كان له تأثير كبير على تطور الطب نظرياً، لأنه مهد الطريق لفهم نظريات الإغريق في الطب بتلخيصه النقدي لمؤلفات جالينوس وغيره من جهة، وبانتقاده لنظرياتهم وإبداء آراء مخالفة لهم، من جهة أخرى.
-------------
. ابن الرزاز الجَزَرِي
عاش في القرن السادس للهجرة
هو بديع الزمان أبي العز إسماعيل بن الرزاز الجزري. وقد سمي بالجزري، لأنه من أبناء الجزيرة التي تقع بين دجلة والفرات. عاش في ديار بكر (تركيا الآن) في القرن السادس للهجرة، ودخل في خدمة ملوكها لمدة خمس وعشرين سنة، وذلك ابتداء من سنة 570هـ/1174م.
رغم أن الجزري يعدّ من كبار المخترعين الميكانيكيين، إلا أن المعلومات عن حياته ليست كثيرة، وكل ما يعرف عنه هو ما كتبه عن نفسه في كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل".
إسهاماته العلمية
تتجلى إسهامات ابن الرزاز في وصفه لعدد من الآلات الميكانيكية المختلفة من ضاغطة، ورافعة، وناقلة، ومحركة. كما أنه وصف بالتفصيل تركيب الساعات الدقيقة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي يظهر فوقها : ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وساعة الطبال...إلخ.
ويستفاد من كتابه أنه اخترع عدداً كبيراً من النماذج الميكانيكية، إلا أنه اقتصر فقط على وصف خمسين نموذجاً. كما حرص على الجمع بين العلوم الميكانيكية النظرية التي كانت معروفة في زمانه، وبين النواحي التطبيقية العملية.
ويذكر دونالدهيل بأن الجزري صنع ساعات مائية وساعات تتحرك بفتائل القناديل، وآلات قياس، ونافورات، وآلات موسيقية، وأخرى لرفع المياه. كما صنع إبريقاً جعل غطاءه على شكل طير يصفر عند استعماله لفترة قصيرة قبل أن ينزل الماء. كما ذكر ألدومييلي أن الجزري صنع ساعة مائية لها ذراعان تشيران إلى الوقت.
مؤلفاته
يعدّ "كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" أهم كتب الجزري. وقد كلفه بتصنيفه الملك ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أحد سلاطين بنى ارتق بديار بكر، أيام الخليفة العباسي ناصر دين الله أبو العباس أحمد سنة 1181م. وقد أتم كتابته سنة (1206م)، أي أن الكتاب كان نتيجة عمل دام خمس وعشرين سنة من الدراسة والبحث في الساعات، والفوارات المائية، والآلات الرافعة للماء والأثقال. ويعد الكتاب "أروع ما كتب في القرون الوسطي عن الآلات الميكانيكية والهيدروليكية".
وتوجد نسخ من كتاب الجزري في عدد من المتاحف العالمية كطوب كابي في استنبول، ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن، ومتحف اللوفر بفرنسا، ومكتبة اكسفورد.
وقد اشتهر الكتاب كثيراً في الغرب، وقام بترجمة بعض فصوله إلى الألمانية كل من فيدمان Wiedmann وهاو سر Hawser في الربع الأول من القرن العشرين. كما ترجمه إلى الإنجليزية دونالد هيل Hill المتخصص في تاريخ التكنولوجيا العربية. وقد أصدر معهد التراث العلمي العربي في حلب بسورية، سنة 1979 النص العربي، بعد أن قام بمراجعته وتحقيقه أحمد يوسف.
-------------
. البطروجي
توفي سنة 600هـ/ 1204م
أبو إسحاق نور الدين البطروجي الإشبيلي. ويعرف في الغرب باسم Alpetragius. فلكي من الأندلس، يقال إنه ولد في إشبيلية في القرن الثاني عشر للميلاد. أما الدكتور زهور فيقول إنه ولد في المغرب، ثم هاجر إلى إسبانيا وعاش في مدينة إشبيلية. وتوفي في بداية القرن الثالث عشر، أي حوالي 1204م موافق 600هـ. وقد عاصر ابن طفيل وتتلمذ عليه.
إسهاماته العلمية
وصف البطروجي نظرية فلكية جديدة، أحيا بها نظرية أودكسوس Eudoxos في الأفلاك المتعددة المركز، مع إدخال تعديل جذري عليها. وانتقد نظرية بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري، فمهد الطريق بذلك أمام كوبرنيكوس. وقد كان معاصروه يعدّون آراءه تجديداً إيجابياً مهماً، بل إنهم كانوا، آنذاك، يتحدثون عن علم الفلك الجديد.
قال عنه كارادي فو : "أما البطروجي فله آراء مبتكرة في حركة الكواكب السيارة".
مؤلفاته
"كتاب الفلك" : كان هذا الكتاب معروفاً في أوربا في القرن الثالث عشر، وقد ترجمه ميشيل سكوت إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر، كما ترجم إلى العبرية في القرن السادس عشر. وقد طبعت الترجمة اللاتينية لهذا الكتاب في فيينا عام 1531م.
---------------
. ابن البيطار
646-593هـ/1248-1197م
كان ابن البيطار أعظم النباتيين والصيادلة في الإسلام، وأوحد زمانه في معرفة النبات، وأعظم عالم نباتي وصيدلي في العصور الوسطى كلها.
واسمه الكامل هو أبو محمد عبد الله بن أحمد ضياء الدين الأندلسي المالقي المعروف بابن البيطار، والملقب بالعشاب. ولد بمدينة مالقة بالأندلس عام 593هـ/1197م. كان والده بيطرياً. وقد درس ابن البيطار علم النبات على أبي العباس النباتي المعروف بابن الرومية، ولما بلغ العشرين من عمره، سافر إلى عدد من البلاد، كاليونان، وبلاد الروم، وشمال إفريقيا، والشام، ومصر للبحث عن النباتات الطبية ومشاهدتها بنفسه والتيقن منها. وفي مصر دخل في خدمة الملك الكامل الأيوبي، الذي عينه رئيساً على سائر العشابين. وبعد وفاة الكامل، ظل في خدمة ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي كان يقيم في دمشق. ومن دمشق شرع ابن البيطار في دراسة النباتات في الشام وآسيا الصغرى بصفته طبيباً عشاباً. وقد تتلمذ عليه ابن أبي أصيبعة، ورافقه في رحلاته وأسفاره للبحث عن النباتات. وقد اشتهر ابن البيطار بكثرة أسفاره التي زار فيها الكثير من بقاع العالم لدراسة النباتات دراسة عالم خبير. توفي في دمشق عام 646هـ/1248م
إسهاماته في علم النبات والصيدلة
وصف ابن البيطار 1400 نبتة طبية، منها 300 لم يسبقه أحد إلى وصفها، وذكر أسماءها، وطرق استعمالها، وما قد يستعمل بديلاً لها. كما اكتشف أنواعاً كثيرة من النبات لم تكن معروفة من قبل. وقد درس النبات دراسة علمية تعتمد على التجربة التي تقوم على المشاهدة، والملاحظة، والاستنباط، مع ذكر المصادر التي نقل عنها وتحري الصدق والدقة.
وابن البيطار هو أول عالم اهتم بدراسة الحشائش التي تضر بالمحاصيل وصنفها حسب كل محصول.
إضافةً إلى اهتمامه بالنبات، اهتم ابن البيطار بدراسة الحيوانات البحرية والبرية، وذكر فوائدها في معالجة الأمراض، وهو بذلك يعد من كبار علماء علم الحيوان.
كما كان ابن البيطار من أعظم الصيادلة. ويقول سيد حسن في كتاب "العلوم والحضارة في الإسلام" : >إن ابن البيطار أعظم عالم مسلم في علمي النبات والعقاقير، وقد طغت سمعته الواسعة على جميع الصيادلة في القرون الوسطى، وبدون شك، فهو أعظم صيدلي منذ عصر ديسقوريدس حتى العصر الحديث<. ولم يقتصر ابن البيطار على استخلاص الأدوية من الأعشاب الطبية، بل استخرج كثيراً منها من الحيوانات والمعادن.
مؤلفاته
ألف ابن البيطار عدة كتب، من أشهرها :(5/316)
ــ "كتاب جامع مفردات الأدوية والأغذية"، طبع عام 1291هـ. وهو مجموعة من الأدوية البسيطة المستخرجة من المعادن والنبات والحيوان، وقد جمعت من كتب اليونان والعرب، ومن التجارب الخاصة للمؤلف ؛ وهو مرتب على حروف المعجم. ترجم الكتاب إلى اللاتينية، وظل مرجعاً للغربيين حتى عصر النهضة الأوربية. ويقول جورج سارطون في كتابه "مدخل إلى تاريخ العلوم" :
ولقد رتب ابن البيطار مؤلفه "الجامع في الأدوية المفردة" ترتيباً يستند إلى الحروف الأبجدية ليسهل تناوله، وقد سرد أسماء الأدوية بسائر اللغات المختلفة. واعتمد علماء أوربا على هذا المؤلف حتى عصر النهضة الأوربية.
ــ "كتاب المغني في الأدوية المفردة"، وهو كتاب في العقاقير تناول فيه ابن البيطار علاج الأعضاء عضواً عضواً، وذلك بطريقة مختصرة كي ينتفع به الأطباء.
----------------
. ابن النفيس
687-607هـ/1288-1210م
علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي، الملقب بابن النفيس. ولد في نواحي دمشق ونشأ وتعلم بها. فدرس الطب على الدخوار، رئيس المستشفي النوري، وعلى مشاهير الأساتذة أمثال عمران الإسرائيلي، وراضي الدين الرحابى. ثم درَّس الطب بدوره وأشرف على جناح في المستشفى النوري. ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة واشتغل في المستشفى الناصري. وقد ترقى في مناصب الطب إلى أن أصبح رئيس أطباء مصر. وكان معاصروه يعدّونه في مستوى ابن سينا نفسه من حيث المكانة العلمية والمعرفة بالطب. ويروى أنه كان يحفظ قانون ابن سينا عن ظهر قلب، وملماً بكتب جالينوس. "وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من حفظه، وتجاربه، ومشاهداته، ومستنبطاته" دون الرجوع إلى أي مرجع.
وكانت لابن النفيس معرفة واسعة بعلوم أخرى كالفلسفة، والمنطق، والنحو، وعلوم الشريعة. ولم يكن ابن النفيس يتقبل الأشياء، وإن كانت منقولة عن مشاهير العلماء، دون جدل أو نقاش. فقد انتقد تعابير جالينوس الطبية ووصفها بالضعف والتعقيد.
إسهامات ابن النفيس في مجال الطب
يعتبر ابن النفيس إمام الطب في عصره، وأحد أطباء دمشق المشهورين. و قد سبق غيره إلى اكتشاف الدورة الدموية الرئوية، ووصفها وصفاً علمياً صحيحاً، فسبق بذلك مايكل سرفتيس Miguel Servede الذي ينسب إليه الأوربيون هذا الاكتشاف.
وقد اعتمد ابن النفيس التشريح طريقةً للعمل وتوصل إلى عدد من النتائج منها :
1. اكتشاف الدورة الدموية في الشرايين الإكليلية ؛
2. جريان الدم إلى الرئتين لمدهما بالهواء وليس لمدهما بالغذاء ؛
3. عدم وجود هواء أو رواسب في شرايين الرئتين (كما ادعى جالينوس) بل وجود الدم فقط.
مؤلفاته
ترك ابن النفيس عدداُ من المؤلفات، منها :
ــ "شرح تشريح القانون"، وقد شرح فيه باب التشريح من كتاب القانون لابن سينا، وانتقد عدداً من أقواله في هذا الباب. وقد ظل هذا الكتاب مغموراً في المكتبات إلى أن عثر عليه الطبيب المصري الدكتور محي الدين الطراوي سنة 1924 في مكتبة برلين، وقام بدراسته في رسالة لنيل دكتوراه من جامعة فريبورج بألمانيا.
ــ "الكتاب الشامل في الطب"، وهو موسوعة من ثمانية أجزاء. ولا توجد سوى فقرات من هذا الكتاب في مكتبة أكسفورد.
ــ "المهذب في الكحل"، وهو مؤلف عن الرمد.
ــ "المختار في الأغذية "، وهو كتاب عن الغذاء.
ــ "شرح فصول أبقراط"، توجد نسخة منه في المكتبة الوطنية بباريس والأسكوريال. وقد تم طبعه في إيران عام 1298هـ/1881م.
ــ "موجز القانون"، وهو موجز لقانون ابن سينا، يقع في خمسة أجزاء. وتوجد نسخ منه في كل من باريس وأكسفورد، وفلورنسا، وميونيخ، والأسكوريال. وقد ترجم هذا المؤلف إلى التركية والعبرية، وطبع بالإنجليزية لأول مرة سنة 1838م في مدينة كالكوتا بالهند تحت عنوان ''المغني في شرح الموجز".
------------
. الحسن المراكشي
توفي سنة 660هـ/1262م
هو أبو علي الحسن بن علي بن عمر المراكشي، من علماء المغرب، عاش في عصر الموحدين في النصف الأول من القرن السابع الهجري / منتصف القرن الثالث عشر للميلاد.
وقد اشتهر المراكشي في الفلك، والرياضيات، والجغرافيا، وصناعة الساعات الشمسية.
إسهاماته العلمية :
له بحوث في المثلثات مع إدخال عدد من التجديدات عليها. فقد أدخل فيها الجيب، وجيب التمام، والسهم. وعمل أيضاً الجداول للجيب، كما جاء بحلول لبعض المسائل الفلكية. وقدم تفصيلات عن أكثر من 240 نجماً لسنة 622هـ. وهو أول من استعمل الخطوط الدالة على الساعات المتساوية.
وإضافةً إلى ذلك، فقد قام المراكشي بإدخال تصحيحات جغرافية مهمة، وجدد في رسم خريطة المغرب.
مؤلفاته
ــ "جامع المبادئ والغايات في علم الميقات" : بهذا الكتاب اشتهر المراكشي بين علماء الغرب، واعتبروه من أعظم فلكيي العرب والمسلمين. واعتبر حاجي خليفة الكتاب أعظم ما صنف في هذا الفن، وقال إنه مرتب على أربعة فنون، هي الحساب، ووضع الآلات، والعمل بالآلات، ومطارحات تحصل بها الدراية والقوة على الاستنباط ؛ وهو يشتمل على بعض المسائل في الجبر والمقابلة. أما "سارطون" فيقول عنه إنه من أحسن الكتب وفيه بحوث نفيسة في المثلثات، والساعات الشمسية المتنوعة. وقد ترجمه "إمانويل سيديو"، ونشر ابنه (لويس أميلي سيديو) هذه الترجمة 1836-1834، كما أن "كارادي فو" نشر من هذا الكتاب الجزء المتعلق بالأسطرلاب.
وللمراكشي كتب أخرى في الرياضيات منها :
ــ "كتاب القطوع المخروطية" ؛
ــ "رسالة تلخيص العمل في رؤية الهلال".
-------------
قطب الدين الشيرازي
710-634هـ/1311-1236م
هو قطب الدين الشيرازي محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي. ولد في شيراز (إيران). وتعلم الطب على والده وعمه، ثم تتلمذ على "نصير الدين الطوسي". وقد زار عدداً من البلدان، فذهب إلى خراسان، والعراق، وفارس، ومصر. ومارس الشيرازي إلى جانب نشاطه العلمي، القضاء والدبلوماسية حيث عين قاضياً في إحدى مدن فارس، ثم دخل في خدمة ملوكها. وقد أرسله أحدهم في بعثة إلى المنصور (سيف الدين قلاوون) سلطان المماليك في القاهرة، لعقد معاهدة سلام بين الطرفين. فبقي مدة في مصر،ثم رجع أخيراً إلى "تبريز" حيث كانت وفاته سنة 710هـ/1311م.
إسهاماته العلمية
يعدّ "جورج سارطون" قطب الدين الشيرازي من علماء الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والفلسفة البارزين. وقد تجلت إسهاماته في الفيزياء في شرحه لقوس قزح "شرحاً وافياً هو الأول من نوعه، فبين أن ظاهرة القوس هذه، تحدث من وقوع أشعة الشمس على قطيرات الماء الصغيرة الموجودة في الجو عند سقوط الأمطار، وحينئذ تعاني الأشعة انعكاساً داخلياً، وبعد ذلك تخرج الأشعة إلى عين الرائي".
أما في الفلك، فقد تابع أعمال أستاذه نصير الدين الطوسي، فطور نموذجاُ فلكياً لعطارد كان الطوسي قد بدأه، كما شرح أفكار أستاذه الغامضة في الفلك والهندسة. وكان الشيرازي يعتمد في بحوثه على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، مع الأخذ بالبرهان الرياضي على المسائل الفيزيائية والفلكية.
مؤلفاته
لقطب الدين مؤلفات عديدة، نذكر من أهمها :
ــ "نهاية الإدراك في دراية الأفلاك"، وهو كتاب ـ كما يقول سارطون ـ يشتمل "على موضوعات مختلفة، تتعلق بالفلك، والأرض، والبحار، والفصول، والظواهر الجوية، والميكانيكا، والبصريات".
ــ "كتاب التحفة الشاهية في الهيئة" ؛
ــ "كتاب التبصرة في الهيئة" ؛
ــ "كتاب نزهة الحكماء وروضة الأطباء" : وهو شرح وتعليق على كتاب القانون لابن سينا ؛
ــ "كتاب رسالة في بيان الحاجة إلى الطب وآداب الأطباء ووصاياهم" ؛
ــ "رسالة في البرص".(5/317)
وللشيرازي أيضاً عدد آخر من المؤلفات في الفلك وفي علوم مختلفة. وقد توجه في أواخر حياته إلى التصوف، ووضع بعض المصنفات في علوم القرآن والحديث.
----------
. ابن البناء
721-654هـ/1321-1256م
"عالم مراكشي متفنن في علوم جمة، برز بصفة خاصة في الرياضيات، والفلك، والتنجيم، والعلوم الخفية، وكذلك في الطب".
وهو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المعروف بأبي العباس بن البناء المراكشي. كان أبوه بناء. ولد في مراكش بالمغرب عام 654هـ/1256م، وقضى أغلب فترات حياته بها، وهذا هو السبب في انتسابه لها، وبها درس النحو والحديث والفقه، ثم ذهب إلى فاس و درس الطب والفلك والرياضيات. وكان من أساتذته ابن مخلوف السجلماسي الفلكي، وابن حجلة الرياضي. وقد حظي ابن البناء بتقدير ملوك الدولة المرينية في المغرب الذين استقدموه إلى فاس مراراً. وتوفي في مدينة مراكش عام 721هـ/1321م.
إسهاماته العلمية
من إسهامات ابن البناء في الحساب أنه أوضح النظريات الصعبة والقواعد المستعصية، وقام ببحوث مستفيضة عن الكسور، ووضع قواعد لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأين لحل معادلات الدرجة الأولى، والأعمال الحسابية. وأدخل بعض التعديل على الطريقة المعروفة "بطريقة الخطأ الواحد" ووضع ذلك على شكل قانون.
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ابن البناء قد تفوق على من سبقه من علماء الرياضة من العرب في الشرق وخاصة في حساب الكسور، كما عُدَّ من أهم الذين استعملوا الأرقام الهندية في صورتها المستعملة عند المغاربة.
مؤلفاته
ألف ابن البناء أكثر من سبعين كتاباً في الحساب، والهندسة، والجبر، والفلك، والتنجيم، ضاع أغلبها ولم يبق إلا القليل منها، وأشهرها :
ــ "كتاب تلخيص أعمال الحساب" : يعترف "سمث" و"سارطون" بأنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب. وقد ظل الغربيون يعملون به إلى نهاية القرن السادس عشر للميلاد، وكتب كثير من علماء العرب شروحاً له، واقتبس منه علماء الغرب. كما اهتم به علماء القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ترجم إلى الفرنسية عام 1864م على يد مار Marre، ونشرت ترجمته في روما. وقد أعاد ترجمته إلى الفرنسية الدكتور محمد سويسي، ثم نشر النص والترجمة مع تقديم وتحقيق سنة 1969.
ــ "مقالات في الحساب"، وهو بحث في الأعداد الصحيحة، والكسور، والجذور، والتناسب ؛
ــ "كتاب الجبر والمقابلة" ؛
ــ "كتاب الفصول في الفرائض" ؛
ــ "رسالة في المساحات" ؛
ــ "كتاب الأسطرلاب واستعماله" ؛
ــ "كتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة" ؛
ــ "منهاج الطالب في تعديل الكواكب"، وقد حقق المستشرق الإسباني فيرنه خينس مقدمة الكتاب وبعض فصوله وترجمها إلى الإسبانية سنة 1952 ؛
ــ "كتاب أحكام النجوم".
وقد صدر للأستاذين محمد أبلاغ وأحمد جبار كتاب بعنوان "حياة ومؤلفات ابن البنا" ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 2001، يتضمن جرداً شاملاً لمؤلفاته.
------------
. ابن الشاطر
777-704هـ/1375-1304م
عالم دمشقي برع في الهندسة، والحساب، والفلك. هو أبو الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري الموقت، المعروف بابن الشاطر. ولد وتوفي بدمشق، وكني بـ "المطعم"، لأنه كان في صغره يطعم العاج.
توفي والده وتركه صغيراً فكفله جده، ثم ابن عم أبيه وزوج خالته الذي علمه تطعيم العاج. وقد كون ثروة كبيرة مكنته من زيارة عدد من البلدان كمصر، حيث درس في القاهرة والإسكندرية علمي الفلك والرياضيات. وقد قضى معظم حياته في وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في المسجد الأموي بدمشق.
إسهاماته العلمية
تظهر إسهامات ابن الشاطر في ابتكاره لكثير من الآلات مثل الأسطرلاب وتصحيحه للمزاول الشمسية، ووضعه لنظريات فلكية ذات قيمة علمية رفيعة. كما ظلت كتبه في الأسطرلاب والمزاول الشمسية متداولة لعدة قرون في كل من الشام، ومصر، وفي أرجاء الدولة العثمانية وسائر البلاد الإسلامية ؛ حيث كانت يعتمد عليها لضبط الوقت في العالم الإسلامي.
كما نجح ابن الشاطر في قياس زاوية انحراف دائرة البروج بدقة كبيرة، حيث قدَّرها بـ 23 درجة و31 دقيقة. وفي هذا الشأن يقول جورج سارطون :
"إن ابن الشاطر عالم فائق في ذكائه، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة سنة 1365 علماً بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين بواسطة الآلات الحاسبة هي 23 درجة و31 دقيقة و19,8 ثانية".
كما برهن ابن الشاطر، بفضل الأرصاد التي قام بها، على عدم صحة نظرية بطليموس. وقال بأن الأرض تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض. وهذا هو الاكتشاف الذي توصل إليه كوبرنيك بعد عدة قرون.
مؤلفاته
ألف ابن الشاطر عدداً من الكتب مازال أغلبها مفقوداً. ومن مؤلفاته التي أشار الزركلي إليها في كتابه "الأعلام" نذكر :
ــ "الزيج الجديد"، كتبه بطلب من الخليفة العثماني مراد الأول الذي حكم الشام ما بين 1360 و1389م. وقد قدم فيه ابن الشاطر نماذج فلكية قائمة على التجارب والمشاهدة والاستنتاج الصحيح.
ــ "إيضاح المغيب في العمل بالربع المجيب" ؛
ــ "أرجوزة في الكواكب" ؛
ــ "رسالة في الأسطرلاب" ؛
ــ "مختصر العمل بالأسطرلاب" ؛
ــ "النفع العام في العمل بالربع التام" ؛
ــ "رسالة نزهة السامع في العمل بالربع الجامع" ؛
ــ "رسالة كفاية القنوع في العمل بالربع المقطوع".
-----------
. الكاشي
توفي سنة 839هـ/1436م
هو غياث الدين بن مسعود بن محمد الكاشي. ولد في أواخر القرن الثامن الهجري في مدينة قاشان (إيران). درس الكاشي النحو والصرف والفقه والمنطق، ثم درس الرياضيات وتفوق فيها. ولا غرابة في ذلك، فإن والده كان من أكبر علماء الرياضيات والفلك. وقد عاش الكاشي معظم حياته في سمرقند، وفيها بنى مرصداً سماه "مرصد سمرقند".
إسهاماته العلمية
شرح الكاشي كثيراً من إنتاج علماء الفلك الذين اشتغلوا مع نصير الدين الطوسي في مرصد "مراغة"، كما حقق جداول النجوم التي وضعها الراصدون في ذلك المرصد. وقدر الكاشي تقديراً دقيقاً ما حدث من كسوف للشمس خلال ثلاث سنوات (بين 809 و811هـ/1407 و1409م). وهو أول من اكتشف أن مدارات القمر وعطارد إهليليجية.
وفي الرياضيات، ابتكر الكاشي الكسور العشرية، ويقول سمث في كتابه "تاريخ الرياضيات" : "إن الخلاف بين علماء الرياضيات كبير، ولكن غالبيتهم تتفق على أن الكاشي هو الذي ابتكر الكسر العشري".
كما وضع الكاشي قانوناً خاصاً بمجموع الأعداد الطبيعية المرفوعة إلى القوة الرابعة. ويقول كارادي فو في حديثه عن علماء الفلك المسلمين : "ثم يأتي الكاشي فيقدم لنا طريقة لجمع المتسلسلة العددية المرفوعة إلى القوة الرابعة، وهي الطريقة التي لا يمكن أن يتوصل إليها بقليل من النبوغ".
مؤلفاته
وضع الكاشي مصنفات في علوم مختلفة نذكر منها :
ــ "كتاب زيج الخاقاني"، وفيه ضبط لجداول النجوم التي وضعها الراصدون في مرصد مراغة.
ــ "رسالة في الحساب" ؛
ــ "رسالة في الهندسة" ؛
ــ "رسالة الجيب والوتر" ؛
ــ "رسالة عن إهليليجي القمر وعطارد".
ويقول عبد الله الدفاع عن أهمية مؤلفات الكاشي وخاصة "مفتاح الحساب" : "وكان كتابه "مفتاح الحساب" منهلاً استقى منه علماء الشرق والغرب على حد سواء، واعتمدوا عليه في تعليم أبنائهم في المدارس والجامعات عدة قرون، كما استخدموا كثيراً من النظريات والقوانين التي أتى بها وبرهنها وابتكرها".(5/318)
------------
. ألغ بك
853-796هـ/1449-1393م
ألغ بك محمد تورغاى بن شاه رخ بن تيمور ، ولد سنة 796هـ/1393م في "سلطانية" بآسيا الوسطى. ونشا في بيت إمارة وسلطان، فقد كان أبوه يحكم بلداناً كثيرة ومقاطعات واسعة.
وقبل سن العشرين، عينه والده أميراً على "تركستان" وبلاد ما وراء النهر. واتخذ ألغ بك سمرقند عاصمة له، وجعلها مركزاً للحضارة الإسلامية. وقد قام خلال مدة حكمه التي دامت ما يقرب من أربعين سنة، بعدة أعمال عظيمة وقدم خدمات كثيرة للعلوم والفنون.
إسهاماته العلمية
توصل ألغ بك إلى اختراع آلات فلكية جديدة أعانت الفلكيين على بحوثهم، وفي هذا يقول "L. Bouvat" : >استطاع "ألغ بك" أثناء عمله معهم، أي الفلكيين، استنباط آلات جديدة قوية، تعينهم في بحوثهم المشتركة". كما اشتغل بالمثلثات، وقد ساعدت جداوله في الجيوب والظلال على تقدم هذا العلم. واعتنى بفروع الرياضيات الأخرى، لا سيما الهندسة التي حلّ بعض مسائلها المعقدة.
وقد بنى في سمرقند مرصداً وجهزه بجميع الآلات والأدوات التي كانت معروفة في زمانه، وكان هذا المرصد "يعد في زمانه إحدى عجائب الدنيا"، وجمع فيه عدداً من كبار العلماء الفلكيين والرياضيين مثل "قاضي زاده الرومي"، و"معين الدين القاشاني" وغيرهما، وعكف معهم (من 827 إلى 839هـ) على تصحيح الأرصاد اليونانية.
لم يكن ألغ بك عالماً بالفلك والرصد والرياضيات فقط، بل كان كذلك أديباً ومؤرخاً وفقيهاً، فقد درس القرءان الكريم وحفظه وجوده بالقراءات السبع.
مؤلفاته
ــ "زيج ألغ بك"، جمع فيه نتائج الأرصاد التي تمت خلال اثنتي عشرة سنة.ويشتمل هذا الزيج على طرق عملية لحساب الخسوف والكسوف، وجداول النجوم الثابتة، ولحركات الشمس والقمر والكواكب، ولخطوط الطول والعرض للمدن الكبيرة في العالم. وهناك اختلاف حول اللغة التي كتب بها هذا الزيج، هل هي العربية أم الفارسية أم التركية ؟.
طبع هذا الكتاب لأول مرة في لندن سنة 1650م. ونقل فيما بعد إلى اللغات الأوربية. وترجم "سيديو" المقدمة إلى الفرنسية ونشرها في باريس سنتي 1847م و1853م في مجلدين. وفي عام 1419هـ/1998م قام فؤاد سزكين، بتعاون مع مجموعة من الباحثين، بجمع وإعادة طبع أعمال ألغ بك الفلكية باللغة الألمانية.
----------
المراجع
1. أحمد عبد الباقي : معالم الحضارة العربية في القرن الثالث الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة التراث القومي، 1991، بيروت.
2. أحمد جبار ـ محمد أبلاغ : حياة ومؤلفات ابن البنا المراكشي، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط 1، 2001.
3. ابن أبي اصيبعة : كتاب عيون الأنباء، تحقيق عامر النجار، 1996.
4. أرنولد، سير توماس : تراث الإسلام، تعريب جرسيس فتح الله، بيروت، دار الطليعة، 1972.
5. ابن خلكان، أبو بكر : وفيات الأعيان، تحقيق د. إحسان عباس، بيروت، دار الصادر.
6. ابن رشد : الكليات في الطب، تحقيق د. سعيد شيبان ود. عمار الطالبي، المجلس الأعلى للثقافة الجزائري، 1989، الجزائر.
7. ابن زهر، أبو مروان عبد الملك : كتاب التيسير في المداواة والتدبير، تحقيق محمد بن عبد الله الروداني، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، "سلسلة التراث"، 1991، الرباط.
8. ابن طفيل : نصوص ودراسات، جمع وإعادة طبع فؤاد سركيس، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت، ألمانيا.
9. بنو موسى بن شاكر : كتاب الحيل، تحقيق أحمد يوسف حسن، جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، دمشق، 1981.
10. المجموعة الكاملة من مجلة تراث الإنسانية : وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، مصر.
11. التليلي : ابن رشد الفيلسوف العالم.
12. حركات، د. إبراهيم : المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1993.
13. حكيم محمد سعيد : أعلام ومفكرون : لمحات عن مشاهير العلماء والمفكرين في عصور الإسلام الذهبية، ط. 2، 2000، الأكاديمية الإسلامية للعلوم، عمان، الأردن.
14. الخطابي، محمد العربي : الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
15. دائرة المعارف الإسلامية : الترجمة العربية، أكتوبر، 1932.
16. الدفاع، عبد الله : إسهام علماء العرب والمسلمين في علم الحيوان، ط. 1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1986.
17. الدفاع، عبد الله : العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية، ط. 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981.
18. الدفاع، عبد الله : الموجز في التراث العلمي العربي الإسلامي، جون وايلي وأولاده، نيويورك، 1979.
19. ألدو مييلي : العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي،عربه د. عبد الحليم النجار ود. محمد يوسف موسى، دار القلم.
20. الزركلي، خير الدين : الأعلام؛ قاموس لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ط. 4، بيروت، دار العلم للملايين، 1979.
21. طوقان، قدري حافظ : تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، ط. 3، القاهرة"، دار القلم، 1963.
22. طوقان، قدري حافظ : العلوم عند العرب، دار اقرأ، بيروت.
23. كنون، عبد الله : النبوغ المغربي في الأدب العربي، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط. 2، 1961.
24. مرحبا، محمد عبد الرحمن : الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، ط. 2، بيروت، منشورات عويدات، 1988.
25. مريزن، سعيد مريزن عسيري : الحياة العلمية في العراق في العصر السلجوقي، مكتبة الطالب، مكة المكرمة، 1987.
26. المنوني، محمد : ورقات عن حضارة المرينيين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1996.
27. الموسوعة العربية الميسرة، بإشراف محمد شفيق غربال، ط. 2، دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1972، القاهرة.
28. نليينو، كارلو : علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى. ملخص المحاضرات التي ألقاها بالجامعة المصرية.
29. فروخ، د. عمر : تاريخ العلوم عند العرب.
30. هونكه، زغريد : شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية على أوربا، تعريب فاروق بيضون وكمال الدسوقي، ط. 8، بيروت، دار الجيل، دار الأفاق الجديدة، 1993.
31. Sarton, George : Introduction to the History of Science, Carnegie Institution of Washington , by The Williams and Wilkins Company, Baltimore.
32 . Zahoor, Akram : Muslim History 570-1950, Chronology, ZMD Corporation, MD., 2000.(http: www. cyberistan. Org/ muslimhistory 570.htm).
...
Islamic Educational, Scientific and Cultural Organizatio
==============
الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب
شهد العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، تقدماً حضارياً كبيراً شمل جميع مرافق الحياة، ورقياً فكرياً مذهلاً استطاع به الانسان أن يسبر أعماق البحار، ويضع قدمه على جبين الأقمار وتغيرت، تبعاً لذلك، أوضاع المجتمعات ونظم الحياة، بعضها بحكم القوانين التي شرعت لتجعلهما ملائمة للتطورات الحضارية الجديدة، وبعضها بتأثير المخترعات والاكتشافات التي ظهرت واستلزمت من الانسان أن يتكيف معها، ويتخذ من الترتيبات ما يناسبها، بما في ذلك مسكنه ومأكله وملبسه وتربية أبنائه وعلاقته بأهله وسلوكه إزاء محيطه، وحتى حيال المجتمعات البعيدة عنه، مما يجعل أسلوب معيشته يختلف كثيراً عن أسلوب معيشة آبائه الأولين.(5/319)
وليس من شك في أن الانسانية استفادت كثيراً من الخطوات الإيجابية التي تحققت في الميدان الحضاري، وهي خطوات عملاقة، وأن كثيراً من العقبات ذللت أمام مسيرها فأصبحت الحياة أكثر يسراً ومتعها متوافرة والرغبة في البقاء فيها تزداد، ومن نافلة القول أن يشير الانسان إلى الفوارق بين راكبي الدواب في الأسفار قديماً، وبين راكبي الطائرات التي تسبق الصوت حديثاً، أو بين المستشفي بالكيِّ والحجامة وتعليق الرقى والتمائم، وبين المعالج بأشعة الليزر وزرع الأعضاء وبالونات الأوكسجين، أو بين المستصبح بفتيل القنديل وبين المستضيء بالنور المتولد من الكهرباء أو المقتبس من طاقة الشمس، إنها قدرات العقل البشرى ومكاسبه، وفتوحات العلم المتوالية المتلاحقة التي تؤكد ما خصّ الله به الجنس البشري من تفضيل وتكريم وسخّر له من الكائنات ناطقها والساكت، متحركها والجامد: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء/ 70.
إن الحضارة المعاصرة ـ وإن كانت ذات طابع متميز يكاد يجعلها منقطعة الجذور ـ ليست إلا امتداداً لحضارات سبقتها، استقت من روافدها وعالجتها بمخصبات لم تعرف من قبل حتى أينعت وأثمرت وأصبحت سامقة الفروع وريفة الظلال، إذ ما زال الخف يستمد من السلف معارفه ويحسنها بالصقل والتصحيح، وما فتئ الآخر يستفيد من تجارب الأول ويضيف إليها ما استجد من التجارب وأفاد من الممارسات، وليس أحد بقادر على أن ينكر ما بلغته أمم قديمة من معارف وتجارب كانت هي حجر الأساس للمعارف العصرية والتجارب الآنية، كقدماء المصريين واليونان والرومان والفرس والصينيين، وعندما يقرأ المرء كتب التاريخ وهي تصف مظاهر الحياة الراقية التي عاشتها بعض الشعوب منذ آلاف السنين، أو يقف في المتاحف أمام الآثار العجيبة والصناعات الدقيقة الراجعة إلى عصور قديمة سحيقة ليدركه العجب مما اهتدى إليه الأقدمون من أسرار الطبيعة واكتشفوا من خفايا الكون ونواميسه ويقول إن المتأخرين ليسوا إلا تلامذة للمتقدمين، ولكن الحضارات تُصاب ـ ككل الكائنات ـ بالقبض بعد البسط، ويخلف بعضها بعضاً، فيترك الهَرِمُ المعمّر منها مكانه للناشئ الفتي، والحضارة الاسلامية هي واحدة من الحضارات السالفة التي استفادت منها الحضارة الحديثة واستمدت، لقد كانت تلك الحضارة مِلء الأسماع والأبصار طيلة قرون، وفي مملكة الاسلام الفسيحة الممتدة من أرض الصين شرقاً شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وبفضلها حفظت علوم الأقدمين وتجاربهم وأضيفت إليها معارف المسلمين وتجاربهم قبل أن تنقل إلى البلاد الغربية لتصير المنطلق الذي خطت منه الحضارة الحديثة خطواتها المتواصلة، ويرجع الفضل في شموخ بنيان الحضارة الاسلامية إلى الدين الاسلامي نفسه الذي فكّ العقل من عقال الجمود، وأمر معتنقيه بالتفقه والتعلم، وحثهم على السير في الأرض والتأمل في ملكوتها وملكوت السماوات، وأهاب بهم إلى النظر فيما حولهم وفوقهم وتحتهم ليدركوا نواميس الكون وسنن الله في الخلق، وفضل العالم على العابد، ورفع الذين أوتوا العلم درجات على الذين لم يؤتوه، وحضّ على التماس المعرفة ولو تناءت مواطن التماسها وأمكنة طلبها، فبفضل سماحة الاسلام وتعاليمه التقدمية تمكن المسلمون، لا من بسط حكمهم على أوسع مملكة فقط، ولكن تمكنوا أيضاً من أن ينشئوا فيها مجتمعات متحضرة يزينها العدل والرفق، ويدعمها العلم والمعرفة وحسن التنظيم، ونشطت بفضل الاسلام في هذه المجتمعات الحركة العلمية، وأقبل العلماء على دراسة مختلف العلوم والفنون، إضافة إلى العلوم الدينية واللغوية، فما من باب من أبواب العلم إلا طرقوه، وما من درب من دروب الفن إلا سلكوه، وآثارهم في الهندسة والفلك، والطب والصيدلة، والجغرافية والموسيقى، والفلسفة والمنطق وغيرها، تشهد بذلك، كما أن حواضرهم بما اشتملت عليه من قصور فخمة، وحدائق أنيقة، ومساجد مزخرفة، ومدارس منمقة، ومستشفيات متطورة، وأسواق نافقة، ومهن مرتبة، ومراكب تغدو بالبضائع والمسافرين وتروح، كانت الشموس المضيئة والأقمار المنيرة في عصر ألقى الظلام بسجفه على غيرها من البلاد التي لا يدين أهلها بدين الاسلام. وهل يجهل أحد عظمة ما بلغته من حضارة رفيعة دمشق وبغداد، وبخارى واصفهان، والقاهرة وتونس القيروان، وبجاية وتلمسان، وفاس ومراكش وقرطبة وإشبيلية؟ وهل يجحد جاحد فتوح العلم وكشوف المعرفة التي تحققت على أيدي العلماء المسلمين كابن سينا والبيروني والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس في شرق البلاد الاسلامية، وابن الجزار وابن البنا وابن طفيل وابن رشد وبني زهر في غربها؟ كلا لا يستطيع.
ومما امتازت به الحضارة الاسلامية طابعها الانساني والأخلاقي، لقد كان يواكب مظاهرها المادية ـ المتمثلة في الرقي العمراني والإبداع الفني والتقدم العلمي ـ مظاهر أخرى تتمثل في التحلي بمحامد الأخلاق ومكارم الشيم التي وصّى الله بها عباده المؤمنين، وحث رسوله الكريم على الاتصاف بها من دخل في دينه من المسلمين، كاحترام كرامة الانسان وتمتيعه بحقوقه، والحكم بالعدل، والتشاور في المصالح العمومية، ورفق القوي بالضعيف، ورد الغني من ماله على الفقير، وسؤال الراعي عن رعيته، وتحريم أكل الأموال بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام، إن الاسلام أمر بالعدل والإحسان وأداء الأمانة، والجنوح إلى السلم وإفشاء السلام، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، نهى حتى عن قهر اليتيم ونهر السائل وتعذيب الحيوان، ألم يخبر الرسول أن امرأة دخلت الجنة في قطة وأخرى دخلت النار فيها؟ ألم يقل إن في كل ذي كبد حرّى صدقة؟ ألم يجعل إماطة الأدنى عن الطريق من شعب الإيمان؟
إن الحضارة الاسلامية تهدف إلى إسعاد الناس مادياً ومعنوياً، وإلى توفير الراحة البدنية لهم بنشر العلم وتنظيم العمارة وترقية الصناعة وتحسين الفلاحة لتأمين الغذاء اللازم لمعيشتهم، كما تهدف إلى توفير الطمأنينة النفسية لهم ولمن يساكنهم، ولو كانوا على غير ملتهم، بصيانة كرامتهم وضمان حقوقهم، وتجنيبهم كل ضيم أو ضرر يلحق دماءهم وأموالهم وأعراضهم من أيٍّ كان، وإنا لَواجدون في الآثار المختلفة عن المسلمين أيام كانت حضارتهم الحضارة السائدة شواهد تدل على سمو تفكيرهم في الكائنات وبذلهم المال والمتاع لحفظها ابتغاء مرضاة الله، إن في المغرب ـ مثلاً ـ أوقافاً حبسها المحسنون لتجهيز اليتيمة والفقيرة إلى بيت بعلها كما تجهزُ ذات الأهل والمال، وأخرى لشراء الأواني التي قد تنكسرُ في الطريق بين أيدي الأطفال المتعلمين وهم ينقلون فيها أطعمة إلى معلميهم الصناع من البيوت، بل إن عندنا في المغرب أوقافاً يصرف ريعها على الطيور لجبر سيقانها وأجنحتها إذا انكسرت، وأخرى لإسماع الحمقى والمجانين نغمات الموسيقى الراقية مرة في كل أسبوع تهدئة لأعصابهم وتسكيناً لهياجهم، ومثل هذا ـ ولا شك ـ في سائر البلاد الاسلامية كثير.
بيد أن هذه الحضارة التي وفرت للمجتمعات الاسلامية طيلة قرون تقدماً مادياً وسمواً أخلاقياً، أصابها ما أصاب الحضارات التي سبقتها من تدهور، بفعل استبداد الحكام وجورهم، وتحجر أفكار بعض العلماء والفقهاء ومداهنتهم للولاة وسوء فهمهم وتأويلهم لأحكام الشريعة ومقاصدها، مما جرّأ عليهم عدوهم وأطمعه في امتلاك أوطانهم واستعباد رقابهم، و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/ 11.
- الإيجاب والسلب في الحضارة السائدة:(5/320)
يجد المسلمون اليوم أنفسهم أمام حضارة حديثة وطيدة الأركان شامخة البنيان تطرح أمامهم تحديات عليهم أن يواجهوها ثم يرفعوها، وهي الحضارة السائدة في العالم، المتغلبة على ما عداها من الحضارات، وليس لأحد مهرب منها بسبب تقارب الأبعاد وسهولة الاتصالات وتلاقح الثقافات، بل يرغب كل ذي لب في أن يحياها ويستمتع بها ويسهم في تطويرها وتوسيع آفاقها بحظ من الحظوظ، وتبذل الحكومات والشعوب التي خلعت نير الاستعمار، السائرة في طريق النمو جهداً وتنفق مالاً للاستفادة منها في أوطانها والحذو حذو صانعيها فيما يخططون لبلدانهم ويحققون، وتأخذهم غيرة مشروعة عندما يرون الأمم الراقية وقد أمسكت بناصية المعرفة وطوعت التكنولوجيا لصنع مخترعات جديدة أو تحسين ما سبق صنعه منها كبيراً كان أو صغيراً، من إبرة الخياطة وعود الثقاب إلى الحواسيب الدقيقة والصواريخ العابرة للقارات والأقمار الاصطناعية ولكن الشعوب الاسلامية ـ وسائر شعوب العالم الثالث ـ تعوقها عن تحقق مطامحها في التقدم العلمي والرقي الحضاري معوقات كثيرة، بعضها موروث عن الماضي، وبعضها من مخلفات الحكم الاستعماري الراحل أو من السياسات المقررة من القوى الكبرى في حقها، كانتشار الأمية وقلة المال وضعف الإنفاق على البحث العلمي وإغلاق باب الاجتهاد والفوضى الفكرية وانعدام الاستقرار في الميدان السياسي، وما من أحد بقادر على أن يقلل من أهمية الخطوات التي خطتها شعوب اسلامية في مجال التعلم والتمدن والتصنيع، ولكن ما من أحد بقادر أيضاً على أن ينكر ما لهذه الشعوب لو نعمت بالاستقرار السياسي وتمتعت بحكم عادل يعبر عن إرادتها، ورشدت أموالها وثرواتها الطبيعية، وأنفقت بسخاء على البحث العلمي في الجامعات والمصانع، وتجاوزت مخلفات الماضي التي لم تبق صالحة للحاضر لضاقت مسافة الخلف المنفرجة بينها وبين الشعوب المتقدمة، ولأدركت ما تطمح إليه وتبتغيه.
على أن هناك جوانب سلبية في الحضارة الحديثة تقترن بجوانبها الإيجابية ويصعب التفريق بينها إن لم يكن التفريق مستحيلاً، لأنها كل لا يتجزأ، ولأن بعضها نتيجة حتمية لبعض، وهذا ما يجعل الشعوب الاسلامية أو النخبة المفكرة فيها تقف من الحضارة الحديثة موقف المتردد المحتار، لا تدري كيف تأخذ الصالح منها وحده وتترك الفاسد، الحضارة الحديثة بمعناها الشمولي فيها أفكار مادية وممارسات منحرفة تتنافى مع ما جاء به الاسلام من حميد الشيم وكريم الأخلاق، بل تتنافى مع جميع ما دعا إليه المصلحون قديماً وحديثاً من صفاء الروح وطهارة الجسد وحسن التعامل بين الناس وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه، هي حضارة مادية متنكرة للأديان مستخفة بالقيم الخلقية التي لا تستقيم بدونها مجتمعات، صانعوها لا يفكرون إلا في المكاسب المادية والمتع البدنية ولو أضرت بالآخرين، يستوي في ذلك أفرادهم وجماعاتهم والحكومات، إنها تمتاز بحسنات كثيرة وسيئات عديدة، تمتاز بتطور الفكر وتقدم العلم اللذين نتج عنهما تحسن في المأكل والملبس وتطور العمران، وخفت بهما حدة الأوبئة والأمراض وسهلت المواصلات وانتشرت الثقافات، وحقق إنسان العصر الحديث ما لم يحققه انسان العصر القديم من غوص في الماء وطيران في الفضاء وتصرف في الاليكترون والكهرباء وتسخير للمادة وتطويعها كيف يشاء، وبهما وبما واكبهما من تخل عن العقائد السليمة فسدت أخلاق الناس وتحركت نوازعهم الشيطانية وغرائزهم البهيمية، فجروا وراء الملذات وتسابقوا إلى جمع الأموال وكنز الثروات، وتفننوا في صنع آلات التدمير الكامل والإهلاك الشامل، ونظروا إلى الخلق بمنظارين وكالوهم بمكيالين، الحضارة الحديثة يهددها اليوم، بسبب تكرها للدين ونبذها للقيم، العديد من الأخطار وتتعرض لكثير من المحاذير، كانتشار المخدرات وتفشي الدعارة وترويج أفلام الفسق والعنف وظهور أمراض مستجدة كالإيدز، الذي يقدر الإحصائيون عدد مرضاه في نهاية القرن العشرين بأربعين مليوناً. يهددها التلوث البيئي والتمييز العنصري وغش الأقوياء للضعفاء وتعريضهم لأخطار محققة ببيع الأغذية والأدوية الفاسدة لهم، ودفن النفايات المشعة المضرة بأرضهم، وحظر تصدير التكنولوجيا والآلات المتطورة إليهم، وحرمان طلبتهم من تلقي العلم في كلياتهم ومعاهدهم، وإيصاد أبواب بلدانهم في وجوههم، والتضييق على مَن سبقت لهم الإقامة فيها بمختلف أنواع التضييق، تهددها اللامساواة في التعامل على الساحة الدولية، فدولة يباح لها أن تقيم المصانع لإنتاج السلاح النووي والجرثومي دون أن تخضع مصانعها لأية رقابة، ودولة تقام من حولها الضجات لأنها أنشأت مصنعاً لإنتاج المواد الصيدلية أو مساحيق التجميل، هبات مالية كبرى تعطى لدولة واحدة صغيرة ويعطى أقل منها لشعوب أخرى مجتمعة أكثر سكاناً وأشد احتياجاً، وشرعية دولية تطبق بقوة الحديد والنار على شعب، وشرعية دولية تقرر في حق شعب آخر ثم يتناساها مقرروها غداة تقريرها، ومناحات تقام في كل مكان حزناً على طائر تلوث جناحه بنفط سفينة جنحت للشاطئ وأصوات خافتة تستنكر ـ نفاقاً ـ كسر سواعد أطفال بالحجارة وقتل صبيان واغتصاب نساء وذبح رجال وتهجير شعب بأكمله من دياره، انه الظلم المؤدي إلى خراب العمران المشار إليه في الآية الكريمة: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً) الكهف/ 59، والترف الطاغي المفضي إلى تدمير الحضارة المعبر عنه بقوله سبحانه وتعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) الإسراء/ 16.(5/321)
ما كان للجوانب السيئة من الحضارة الحديثة أن تزهدنا فيها أو تصرفنا عنها، إن فيها محاسن شتى ضرورية ولا غنى عنها، وقد أخذنا منها بنصيب، وقطعنا فيها مراحل وأشواطاً. ولابد من مواصلة السير فيها واكتساب القوة من خلال التحكم فيها، إذ لا حياة اليوم ـ مثل الأمس ـ لقاعدة في ركن بيته أو ضعيف، علينا أن نعي كل الوعي جميع الأسباب والوسائل التي أدرك بها صانعو الحضارة الحديثة ما أدركوا من قوة ورخاء وسيطرة على الطاقات وتسخير للكائنات، فنعمل بها ما عملوا، ونحقق بها مثل الذي حققوا أو فوق الذي حققوا، ونضفي على الحضارة الحديثة ـ على الأقل في بلادنا الاسلامية ـ طابعاً إسلامياً لتصير حضارة فضلى تزدان بالحق والعدل، وتتحلى بالرفق والمساواة وكل خلق كريم فيستفيد من خيراتها جميع البشر دون تمييز، لا فرق بين الناس من أجل اللون أو اللغة أو الدين، وفي طليعة ما يسهل علينا اختصار المسافات لنلحق بسرعة الركب الحضاري المنطلق، العمل لتوطيد الاستقرار السياسي والتخلي عن العنف الديني والطائفي لاستكمال التحرر السياسي والاقتصادي لبلادنا الاسلامية، والتمسك بالثوابت الاسلامية والنظر من ضوئها في قضايا العصر ومشاكله ا لمستجدة لإيجاد الحلول لها دون التقيد بالآراء والاجتهادات التي حلّ بها المتقدمون قضايا عصرهم ومشاكله، فإذا نحن فعلنا ذلك بتعقل وسماحة نفس، وأخذنا بالوسائل الحديثة انفتحت أمامنا أبواب الرقي، ووضحت السبل لتطوير الحضارة الحديثة من حضارة مادية طاغية إلى حضارة إسلامية وسط، تضمن راحة البدن والروح، وتكفل لشطر غير ضئيل من المجموعة البشرية الهناء والاستقرار، وتحقق فينا ولنا الوعد الذي وعد به الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصالحين من عباده: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) البقرة/ 55
============
الحضارة الإسلامية - بداية التاريخ ونهايته أيضا
أحاول جاهدا ألا أرتبط بمسجد معين. أحب التنقل علي المنابر لعلني أجد ما أريد أن أسمعه (وقد يكون هذا هو جوهر المشكلة) أو أسمع ما يستفز عقلي حتي ولو لم أتمني سماعه. ومهما كانت الخطبة مهلهلة وموضعها ركيك أحاول أن أتلمّس أي خيط متين أتعلق به لتجنب الشرود.
خطبة الجمعة
تحدث الخطيب في الجزء الأول من الخطبة عن السيرة النبوية في استعراض بانورامي سريع انتقلنا فيه من أذي المشركين في مكة إلي قرار الهجرة ثم ننحرف قليلا الي سيدنا أبو بكر ثم مرة أخري الي عمر بن الخطاب الخ في سرد ممل وكأن تتبع السيرة علي هذا النحو يصلح أن يكون موضوعا لخطبة الجمعة مهما طال زمنها. أو أن السرد بهذه الطريقة التقليدية يصلح في زمننا هذا أصلا.
سأتغافل عن هذا التساؤل لأنه يلهب أوجاعا سرمدية.
الجزء الثاني من الخطبه استهلّه الخطيب بما يلي:
تزعم أمريكا والغرب كله أنهم بناة الامبراطوريات والدول، ولكن مصعب بن عمير هو أول سفير في الاسلام بل أول سفير في العالم والانسانية كلها. ثم عاد مرة أخري للسيرة النبوية وفي أقل من خمس دقائق انتهت الخطبة وأقيمت الصلاة.
وسأركز فقط علي الجزء الثاني من الخطبة وتلك الجملة الاستهلالية التي تتحدث عن الصحابي الجليل مصعب بن عمير. لأبدأ من أول السطر: ليس لدي أي مشكلة مع سيدنا مصعب بل إنني أعتبر قصة اسلامه وحياته القصيرة بعد ذلك بمثابة كتاب ملئ بالعبر والدروس وقد كتبت فيه مقالا منذ سنة. لكن مشكلتي الأساسية كانت مع الرجل الذي خطب فينا، ورغبته في التأكيد علي أن تاريخ العالم كان صفحة بيضاء قبل مجئ الاسلام، ثم جاء الاسلام والمسلمون فكتبوا ما كتبوا ، ثم بعد ذلك خمدت جذوة الحضارة الاسلامية فأغلق كتاب التاريخ مرة أخري. هنا ترقد الحضارة الاسلامية حيث يتجمد التاريخ - حيث لا قبل ولا بعد.
نعم مشكلتي تكمن في ترويج هذه الرؤية - أن العالم لم يري أي تقدم حضاري وثقافي وتشريعي إلا بمجئ رسالة محمد عليه الصلاة والسلام وأن الاسلام والمسلمين هم أول من أرسي حقوق الانسان علي الاطلاق وأن الاسلام والمسلمين هم من علّموا الناس كيف يتعلموا. وكأن العالم لم يعرف قبل الاسلام أي نوع من الحضارات وكأن البشر جميعا قبل الاسلام رضوا بالظلم والاستعباد والفحش والتخلف وكأن الفرس والروم والصينيين والفراعنة لم يفقهوا أي شئ في السياسة الي أن أصبح مصعب بن عمير سفيرا!! رؤية كارثية بحق.
الرؤية التي تجعلنا نتباكي علي أمجاد زائلة ونري جميع الخلائق والحضارات مجرد أقزام أو أشباه بشر مقارنة بالمسلمين الأوائل ورسالة الاسلام ذاتها - هذه الرؤية تدمر ولا تبني لأنها تجعل تراث الانسانية (الثمين منه والخسيس) مطموس لا لشئ إلا أنه صنع بأيادي وعقول غير مسلمة قبل مجئ الاسلام، أو ربما لكي نعزز شعورنا بذواتنا فيدفعنا ذلك الي بخس الناس أشياءهم. ألسنا نقرأ في كتاب الله:
فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم
هذه الرؤية تؤكد علي أن جماعة بشرية ما مكتفية بذاتها وأنها لا تحتاج مطلقا الي أي مفاهيم وخبرات من الجماعات الأخري وكأن اسهام المسلمين يأتي من العدم المطلق وكأن العالم قبل الاسلام كان في حالة فوضي عارمة رجوعا الي نزول الانسان الأول علي الأرض، فلم يكن هناك تشريع ولا مفاهيم جمالية ولا قيم خلقية أيا كان مصدرها.
شهد العالم قيام حضارات عديدة قبل أن يظهر دين الاسلام وقبل أن يعرف للعرب قائد أو يجتمعوا علي كلمة واحدة. ومن هذه الحضارات يمكنك أن تأخذ أو تطرح ما تشاء فليس صحيحا أن الأرض كانت خرابا فأتي المسلمون ليزرعوها كأول مستصلحين يشهدهم التاريخ، وليس صحيحا أن الأرض كانت خاوية من مفاهيم العدل والرحمة والمساواة والتشريعات القانونية انتظارا لمجئ الاسلام والمسلمين ليقدموا للبشرية مفاهيم ما سمع بها ابن آدم قط في كل وجميع المجالات بلا استثناء.
احترامنا لأنفسنا واعتزازنا بديننا لا يجب أن يكون عائقا لطمس حقوق الآخرين الأدبية، واحترامنا للآخر ولاسهاماته الفكرية في مجملها لا ينتقص أبدا من اسهامات المسلمين علي مر التاريخ. احترامنا لأنفسنا ولمكانتنا التاريخية لا يجب أن يثنينا عن ابتغاء كلمة الحق واستقصاء البحث في تاريخ الآخرين للإستفادة منهم.
ما أفهمه أن تراث البشرية الفكري والعلمي هو سلسلة لا تنقطع، كل أمة تكمل ما تركته الأمة التي تسبقها بقدر ما يتاح لها، كل حضارة تأخذ وتطرح ما يعنّ لها.
عار أن تكون من المطففين الذين يعزفون ليل نهار علي نغمة استفادة الغرب من علوم المسلمين إبّان عصر النهضة الأوروبية ولا يهدأون إلا بعد أن يستوفوا حقهم كاملا ثم يرتدّون علي أعقابهم إذا ما وصل الحديث الي الحضارات والأمم التي سبقت الاسلام
===============
مفهوم الامة بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية
بقلم:غازي التوبة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعتبرت الدراسات الغربية أن الأمة تأتي حصيلة تفاعل نوعين من العوامل : الأولى : موضوعية : مثل اللغة ، والتاريخ ، والجنس الواحد ، والإقليم الواحد ، والمصالح المشتركة ، والآمال الواحدة ، والعادات والتقاليد الواحدة ، والثقافة الواحدة إلخ... الثانية : عوامل ذاتية : وعي الأفراد بأن لهم شخصية متميزة ومنفصلة تدفعهم إلى التعبير التنظيمي عن هذه الشخصية المتميزة (1) . مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية :(5/322)
لكن القرآن الكريم لم يعتبر المسلمين أمة واحدة لاجتماعهم على دين واحد فقط، بل لا بد لهم حتى يكونوا أمة إسلامية من أن يتصفوا بصفات أخرى يحققونها في وجودهم وكيانهم ، أبرزها :
1- الشهادة على الناس :
قال تعالى : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة،143) . تبين الآية السابقة أن الله -تعالى- جعل الأمة الإسلامية أمة وسطاً لعلّة وحكمة هي أن تكون قادرة على القيام بأمانة الشهادة على الناس ، والشهادة تقتضي العلم وتفتّح الوعي وتحقق الإدراك من الشاهد حتى يستطيع أن يقوم بأمانة الشهادة على المشهود عليه .
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
قال تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران،104) . وقال تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران ،110) .
دعت الآية الأولى الأمة الإسلامية أن تكون أمة خير تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم بيّنت الآية الثانية أن خيرية الأمة الإسلامية جاءت نتيجة أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ، وليس من شك في أن تحقيق الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني التطهير المستمر للمجتمع الإسلامي من أي ارتكاس ومن أية معوّقات داخلية ، ويعطيه أفقاً عالياً من الشفافية والحيوية .
3- الدين واحد والقيادة للأنبياء جميعاً :
تحدثت "سورة الأنبياء" عن معظم الأنبياء السابقين وهم : موسى وهارون وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً ، وذكرت طرفاً من سيرتهم ، وحياتهم ، ومواقفهم ، وعبادتهم ، ودعوتهم ، وصراعهم مع الباطل ، وصبرهم على أذى الكافرين ، وفضل الله عليهم ، ثم عقّبت بعد ذلك بآية قال تعالى فيها : {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء،192) .
كما تحدثت سورة أخرى هي "المؤمنون" عن عدد من الأنبياء هم : نوح وهود وموسى وهارون وعيسى عليهم السلام ثم قال الله تعالى بعد ذلك : {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون ،51-52) .
أشارت الآيتان السابقتان بعد الحديث عن معظم الانبياء إلى أن أمة الانبياء جميعهم أمة واحدة ، ويمكن أن نفسر الأمة الواحدة بتفسيرين مرتبطين ببعضهما هما :
الأول : الدين الواحد والملة الواحدة لجميع الانبياء من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام وهو دين الإسلام الذي أوحاه الله إليهم ، وأشارت آيات أخرى إلى مثل هذا المعنى فصرّحت إلى انتماء بعض الأنبياء إلى دين الإسلام فطلب يوسف عليه السلام أن يتوفاه الله على الإسلام ، قال تعالى : {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين} (يوسف،101) ، وقد وصى إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أولادهما أن يموتوا على دين الإسلام ، فقال تعالى : {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة،132) .
الثاني : قيادة الأمة الإسلامية منوطة بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لذلك فإن الامة الإسلامية ليست أتباع محمد ( وحده بل تشمل أتباع الأنبياء السابقين جميعهم.
إذن نستطيع أن نتبين من خلال الكلام السابق أبعاداً أخرى لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية يتجاوز الاجتماع الموحد والتجانس المشترك الذي قصدته الحضارة الغربية ، وأبرز هذه الأبعاد :
البعد الاجتماعي : يشتمل على واجبين :
الأول : نحو المجتمع الإسلامي : وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني ديناميكية فعالة من أجل التوازن المستمر
الثاني : نحو المجتمعات الأخرى : وذلك بالقيام بواجب الشهادة عليها ونقلها إلى ما هو أفضل لها وأخير .
2- البعد الشرعي : يقوم على الالتزام بالشرع الذي جاء به الدين الإسلامي ، ولا شك أن هذا الالتزام يرفع الأمة باستمرار إلى أفق سامٍ من التكيفات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والعقلية والجمالية .
3- البعد التاريخي : يقوم على الارتباط بالأمم السابقة وتشكيل أمة واحدة معها والاعتراف بحق القيادة لأنبيائهم .
ومما يؤكد وضوح الأبعاد السابقة عند علماء المسلمين ما أورده الشاطبي عن الجماعة في معرض حديثه عن الأمة الإسلامية والفرق التي افترقت إليها ، فقال إن الجماعة تعود إلى خمسة معان هي :
الأول : السواد الأعظم من أهل الإسلام .
الثاني : جماعة أئمة العلماء المجتهدين .
الثالث : الصحابة .
الرابع : جماعة أهل الإسلام إذا اجتمعوا على أمر فهو واجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم .
الخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه (3) .
وقد لخص بعض العلماء كلام الشاطبي فقالوا إن الجماعة ترجع في النهاية إلى معنيين :
الأول : الالتزام بالحق الموجود في الكتاب والسنة ، والخروج من الجماعة بهذا المعنى هو الابتداع والضلال .
الثاني : الالتزام بإمام جماعة المسلمين وطاعته ، والخروج عن الجماعة بهذا المعنى هو البغي والعدوان .
إذن يلتقي مفهوم الجماعة الذي وضحه الشاطبي مع مفهوم الأمة في بعدين :
الأول : بعد التزام الحق الموجود في الشريعة .
الثاني : بعد التزام القيادة المسلمة التي تتبع الرسول
والآن : ما هي أبرز نتائج الأبعاد الخاصة لمفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية على مسيرة التاريخ الإسلامي ؟
لقد أعطى البعد الشرعي الأمة الإسلامية انطلاقة هائلة عندما أقام بنيانها على التعارف بين الشعوب والقبائل انطلاقاً من قوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات،13) . وقوله ( في حجة الوداع : "يا أيها الناس إن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، الناس سواسية كأسنان المشط" ، وهذا ما جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً فريداً في الماضي والحاضر عندما استوعب أجناساً وعروقاً وشعوباً وقبائل متعددة داخل كيانه ، ليس هذا فحسب بل ساهمت هذه الأجناس والعروق والشعوب والقبائل في إقامة الحضارة الإسلامية بما وهبها الله - تعالى - من إمكانيات ، وفي الدفاع عنها عندما تعرضت للتهديدات .
2- لقد حفظ البعد الشرعي الأمة الإسلامية بعيداً عن النزعات الاستعلائية وهي اللوثة التي أصابت الأمم في الحضارة الغربية والتي أدت إلى حربين عالميتين أهلكتا الحرث والنسل ، وأدت إلى نهب قارتي آسيا وأفريقيا لمدة قرنين وإفقارهما وتدميرهما ، وأدت إلى إبادة الهنود الحمر في أمريكا .
3- لقد أعطى البعد التاريخي الأمة الإسلامية سعة في الزمان وامتداداً في المكان ، وجعلها تتفاعل مع ما قبلها وتستوعبه دون إحساس بالغربة ، ولم يبق هذا الاتصال التاريخي شعوراً مبهماً بل تجسد في قواعد وأصول منها : القاعدة الأصولية التي تعتبر شرع من قبلنا شرع لنا ، وفي أحاديث الرسول ( التي قال في أحدها تعقيباً على صيام العاشر من محرّم عند بني إسرائيل شكراً لله على إنجاء موسى عليه السلام من فرعون ، فصام وأمر بصيامه وقال : "نحن أولى بموسى منكم" .(5/323)
4- لقد أعطى البعد الاجتماعي الأمة الإسلامية اتساعاً في النطاق المدني فولّد الأوقاف التي أصبحت تمثل ربع ثروات العالم الإسلامي(4) ، وولّد عدم توزيع أرض السواد في العراق على الفاتحين بعد معركة القادسية من أجل الأجيال القادمة من المسلمين، فقد روى البيهقي عن أسلم قال : سمعت عمر بن الخطاب ( يقول : اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه ، ثم قال لهم : إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظروا لمن ترونه ، وإني قرأت آيات من كتاب الله ، سمعت الله يقول : {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - الآية} (الحشر،8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم . ثم تلا {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم -الآية} (الحشر،9) والله ما هو لهؤلاء وحدهم . ثم تلا {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان - الآية} (الحشر،10) والله ما من أحد من المسلمين إلاّ وله حق في هذا المال أعطى أو منع حتى راعٍ بعدن ؛ وقد جاء في رواية أخرى قوله عن الآية السابقة: "هذه استوعبت الناس جميعاً ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعش -إن شاء الله- لم يبق أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي بسر وحمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه"(5) .
يتضح من المقارنة السابقة بين مفهومي الأمة في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أن مفهوم الأمة في الحضارة الإسلامية أكثر غنى لأنه لا يقوم فقط على الاجتماع الموحد ، والعادات الواحدة ، والتقاليد الواحدة إلخ...، بل لا بد من تحقيق الأمة أموراً أخرى اجتماعية وشرعية فيجعلها أكثر إنسانية وأكثر انفتاحاً وأكثر شفافية وأكثر مدنية .
(1)موسوعة العلوم السياسية ، إصدار جامعة الكويت ، مادة 257 ص405 .
(2) الراغب الأصفهاني ، المفردات ، ص21 .
(3) الشاطبي ، الاعتصام ، جـ2 ص260 .
(4) أحمد بن بلّة ، الحركة من اجل الديمقراطية في الجزائر ، الخطاب التوجيهي للرئيس أحمد بن بلّة ، باريس 1984م ، ص107 .
(5) حياة الصحابة ، جـ2 ص210-212 .
==============
علم النفس في الحضارة الاسلامية العربية
الطب النفسي الإسلامي جاءت فكرة هذا الموضوع في وقت شعرت فيه كما شعرَ كل يقظٍ في بلادنا بأنه جاء الوقت الذي يلزم فيه تحديد المواقف وأن يحدد كل واحد منا من هو وما يستطيع أن يكونه وما لا يستطيع ! فقد انقسَمَ العالمُ بالفعل إلى موالينَ للغرب دونَ أي قيد أوْ شرط أو معادينَ لهُ وليسَ هناكَ موقفٌ وسَطيٌ كما ترى الإدارة الأمريكية!!
وأنا كطالب في قسم علم النفس شعرت بأن عليَّ عبءَ تحديد موقفي في مجال عملي الذي درست فيه فقدْ أحسَسْتُ أنني لنْ أستطيع الاستمرار مكتَفيا بما اتعلمه على أنه الطب النفسي العالمي وهو في الحقيقةِ الطب النفسي الغربي!
كان عليَّ لذلك أن أفتش في أفكارنا وتراثنا كأمةٍ محاولا الوصول إلى سبب الهوة التي تفصل بين ما اتعلمه على أنه العلم العالميُّ الوحيد وبين مجتمعي الذي لا أستطيع مستريحا أن أتهمه بالجهل أو التخلف وبدأت رحلة لا أحتسب منها إلا رضا الله عز وجل ثم شيء من التوفيق بين نظرتين للوجود إحداهما وهي النظرة الغربية بدأت بوضع الإنسان في مركز الكون على أنه السيد الأوحد ثم تحولت تدريجيا إلى جعله جزءًا من الكون غير مستقل عنه بحيث تحكمه نفس القوانين التي تحكم الذرة والجزيء دون أي سمو عنهما! وبين نظرة ثنائية هي نظرة الإسلام ترى الإنسان خليفة للخالق الأعظم استخلفه في الأرض وكرمه عن سائر المخلوقات ووضع فيه عقلا وروحا تسموان به عن سائر الأشياء وتجعلانه كفءً لتحمل الأمانة .
كانت أول صدمة لي حين بدَأتُ رحلتي هي حَجْمُ جهلي العظيم بتراث أمتي وأعني هنا تراثها في الطب النفسي وفي علاج المرض النفسي ومعاملة المريض كأي مريض بأي مرض آخر، ففي عام 93 هجرية الموافق 707 ميلادية أسس الوليد بن عبد الملك أول مستشفى في التاريخ للمرضى العقليين، وكانت تخصص لهم من بيت المال أموال تنفق عليهم للعيش داخل المشفى وخارجه، وفي سنة 151 هجرية- 765 ميلادية، أسس العباسيون في مستشفى بغداد أول قسم للأمراض العقلية داخل مستشفى عام، إذن فقد كان المريض النفسي يُعالج في مستشفى بغداد وفي مستشفى قلاوون بالقاهرة في القرن الرابع عشر الميلادي جنبا إلى جنب مع مريض الجراحة والباطنة والرمد وهذا هو ما احتاج الغرب ستة قرون لكي يصلوا إليه على أنه أحدث الصيحات في علاج المريض النفسي مع غيره من المرضى لما لذلك من أثر جيد في تصحيح المفاهيم التي ترى المرض النفسي مجلبةً للعار وتفصل بين المريض النفسي وبين سواه من المرضى مما يتسبب في إعاقة اجتماعية بعد الشفاء أكثر مما يسببه المرض نفسه! ، كما نبين على مقالات متنوعة في مقال وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا!
وجدت أيضا العديد من الرسائل التي تصف الأمراض النفسية وتُحَدِّدُ أعراضها وأسبابها بشكل إنما يبعث على الفخر والكبرياء ولست أدري من المسئول عن حجب كل هذا التراث المشرف عن الدارسين في بلادنا ولا أدري من الذي قرر أن أقرأ فقط وصفات الغربيين وأفكارهم ولا أقرأ مثلا ما يقوله الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله في المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال وهو يصف نوبة اكتئاب حادة أصابته: "فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: ((هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم)).ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه))"اهـ
أو ما يقوله ابنُ سينا مثلا في تحليله للسلوك "إذا كان تناول الطعام مقترنا باللذة، والضربُ بالعصا مقترنا بالألمِ فإن الحيوانَ والإنسانَ يحتفظانِ في ذاكرتهما بصورة الطعام مقترنة باللذة ، وبصورة العصا مقترنا بالألم فتصبح رؤيةُ الطعام فيما بعد مثيرةً للشعور باللذة ورؤية العصا مثيرةً للشعور بالألم" وَهذه هي الاستجابةُ الشرطيةُ التي قال بها الروسي إيفان بافلوف بعد عشرة قرون والتي تعلمتها أنا عن بافلوف منذ أولى سنين دراستي للطب على أنه مبدعها الأول وهي أيضا حجر أساس علم النفس السلوكي وعلاجهِ كله.(5/324)
وكذلك وجدت مقالة لإسحاق بن عُمران عن المالنكوليا أو الاكتئاب حيث يصف ابن عمران بعض العوارض المرضية التي تميز هذه الحالات فهناك المريض الذي تمر به أفكار رهيبة خيالية فيشعر بأحاسيس خاطئة، كالذي رأى جماعة من السود يريدون قتله، وهناك الذي يتوهم أن لا رأس له أو يسمع مثل خرير المياه وقرع الرياح وعصفها وأصوات مهولة في أذنه، كما أن المريض يفقد المحاكمة والتمييز كالذي يخشى من سقوط السماء على رأسه فيجتنب المشي تحتها والأمثلة عديدة في هذا الصدد غير أن هؤلاء المرضى يشعرون بضرورة اللجوء إلى الطبيب بمزيد من التعطش والإلحاح لشدة يأسهم وكثرة آلامهم، أما من الناحية الجسمية فكلهم يشتكون من الهزال والأرق ثم يتعرض ابن عمران إلى الأعراض السريرية للأصناف المرضية المختلفة من المالينكوليا :
1) فيلاحظ في الشكل الذي يمس الدماغ الأرق ووجع الرأس وكثرة لمع العينين ونهم من يقل تقوته من الطعام والشراب وهى أخطر الأحداث ويتصف هذا الصنف بالهياج وحتى بالوثب الذي يذكر بالسباع وسماه ابن عمران الصنف السبعي وهو يؤدى إلى الشرسام .
2) أما في الصنف الشراسفي فان الأعراض تعم المرضى، وتزيد فيهم حسب قوله ما يجدون لمن التزقق في بطونهم من الرياح السوداوية. فهذا الصنف يتصف بشدة الكآبة وحب العزلة والاستراحة في الأماكن القاسية.
3) وهناك أصناف أخرى تسبق أو تتبع ما يسميه ابن عمران بالمرض العظيم.
وأصبح واضحاً بالنسبةِ لي أن الفخ الذي وقع فيه السواد الأعظم من علمائنا ومفكرينا ومثقفينا هو اعتقادهم بأنَّ الهوة التي يجدونها بين علومهم وثقافتهم وما يعيشه الناس في بلادنا إنما ترجع إلى تخلفنا وقد أصبحت على قناعة بأن ذلك غير صحيح بالمرة! فمجتمعنا ليس متخلفا ولا جاهلا إلا حين ننطلق من مرجعية أنَّ النموذج الغربي المادي هو النموذج الوحيد الصحيح وهذه مرجعية أبعد ما تكون عن الصواب.
وأنا أدعوك عزيزي المتصفح أن تنتبه لما يحتويه الموقع من نفحاتٍ من تراثنا العربي الذي لا نعرف عنه إلا القليل ! فلم يكن علم النفس يوماً ولا كان الطب النفسي وليد النهضة الأوربية كما يقال، ولم يكن على الإطلاق أحد إفرازات الحضارة الغربية، ولكن شاء الكثير من الباحثين في علم النفس أن يتركوا أو يتناسوا التاريخ والغور في معالم النفس البشرية ولربما مالوا كل الميل ولا نقول بانحيازهم كل الانحياز إلى ما كتب حديثاً وسهلت طباعته وتيسر نشره، ولم تكن تهمهم تلك الجذور النفسية الموجودة في خضم الفكر القرآني والحضارة الإسلامية.
ويقوم الطب الإسلامي على صورة الإنسان في الإسلام والنظرة الإسلامية الشمولية للوجود وللإنسان. ولذلك يتميز الطب الإسلامي عن غيره بصورة الإنسان الشاملة الجامعة للجسم والنفس والعقل والقلب والروح كوحدة متماسكة لا تتأثر بتغييرات التيارات الفكرية المتقلبة والمحدودة في قفص المادة أو النسق المذهبي. والقصد من الطب هو حفظ سلامة الإنسان ماديا ومعنويا بالتربية والتنمية والتقوية والوقاية من الأمراض على اختلاف أسبابها وأنواعها والعلاج بكل الوسائل النافعة ماديا ومعنويا لأن العلم، كما جاء في التراث الإسلامي، علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، وهما مترابطان. وإن الغاية الحقيقية من الطب ينبغي أن تكون الحياة الإنسانية السليمة ماديا ومعنويا وأن يلقى الإنسان ربه بقلب سليم.
ومما لا شكَّ فيه أنَّ قلوبَ المؤمنين تطمئنُّ بذِكْرِ الله عز وجل وعليهِ فإنني لا أستطيع كطبيبٍ نفسي مسلمٍ أن أدَّعى أنَّ ذلك خارجَ تخَصُّصي ولا أستطيع كمثَقَّفٍ مسلمٍ أنْ أقبل بالوضعِ الذي يسمحُ لكلِّ من هبَّ وَدَبَّ أنْ يدَّعِيَ العِلمَ بالأمراض النفسيَّةِ وعلاجها حتى وإن كان عالِمًا بالقُرْآنِ وبعلومِ الدين! لأنَّ علمَ الأبدانِ غير علمِ الأديان وما النفس إلا انعكاسٌ لحالَةِ البَدَنِ؛ ومنْ يعالِجُ الأمراض النفسيةَ لابُدَّ أنْ يكون عالمًا بماهِيَتِها وبالتغَيُّراتِ البدنيةِ المصاحِبَةِ لها كما أنَّ من يُسْمَحُ لهُ بالتَّصَدِّي لآلامِ الناسِ وأوجاعِهِمْ لابُدَّ أن يكونَ كُفْءً لذلكْ
وَقد أثبَتَتْ مجموعة من الدراسات العلمية أجريتْ في ماليزيا على بعضِ مرضى اضطراب القلق العام ومرضى الاكتئاب الجسيم أنَّ المتدينين من هؤلاء المرضى يستفيدون بشكل لا يقبل الجدل عند إضافة بعضِ أساليب العلاج النفسي الديني لعلاجِهِم الدوائي مقارنة بالمرْضَى غير المتدينين حيث احتاج المتدينون لجرعاتٍ أقلَّ من العقَّاقير واستخدموها لفترات أقل من غيرهم؛ وتلخصت أساليب العلاج الديني تلك في ما يمكن اعتباره إسباغًا للوضوءِ وفي إطالة مدَّة الصلاةِ من خلال إطالة مدةِ الركوع ومدة السجود؛ وكذلك في قراءَةِ بعض آياتٍ من كتابِ الله عز وجل. ومعنى ذلك أنَّ كثيرين من مرضانا يمكنهم الاستفادةُ من ذلك العلاج وأنَّ إغفالنا كأطباءَ مُسْلِمينَ لذلكَ الباب الرحيب الذي يُسَهِّلُ الكثيرَ من الأمورِ على مرضانا لهو تقصيرٌ كبير؛ ولعَلَّهُ هوَ الذي يسْمَحُ لكلِّ من هَبَّ وَدَبَّ باستغلالِ القلوبِ المؤمنة؛ ولعل في الحديث الشريف التالي ما يشيرُ إلى أهمية الاطمئنان في الصلاة بحيثُ يسترخي المصلي وتخشع جوارحه: عن أبي هريرة رضيَ الله عنهُ قالَ : قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.رواه البخاري ومسلم وابن ماجة، ولعل ها الأمر يتخذُ الآن أهمية قصوى وقد بدأت تغزو صيحات اليوجا والرياضات الروحية الشرقية بلداننا كما بينا على استشارات مجانين في إجابة: اليوجا، وما وراء المادة: قاعدة الانتشار في الفراغ
كما أن هناك اختلافاً جوهريا في تناول موضوع الصحة النفسية ما بين علماء الغرب وأطباء النفس الغربيين وبين تناول العلماء والمفكرين المسلمين السابقين له فعلماء الغرب يرون أن أهمَّ مقوِّمات الصحة النفسية هي فقط النجاح في حياة الإنسان المادية والدنيوية وقدرته على تحمل مسئوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات ، وتوافقه مع نفسه ومع غيره من الناس، ويغفلون ما غير ذلك إغفالاً تاما وأما علماء المسلمين ومفكريهم فيرون أن أهم مقومات الصحة النفسية هو توافق الفرد مع ربه وتمسكه بعبادته وتقواه سبحانه وتعالى، ومن الواضح أن انتهاجنا كأطباء نفسيين مسلمين لمنهج الغرب لم يحقق نجاحا يمس به المجتمع لأن المجتمع المسلم بطبيعته لا يستطيع إغفال العلاقة بين توافق الفرد مع دينه وربه وبين ما يحسه من أمن نفسي وأرى أن الأجدر بنا أن نتواصل مع جذورنا نحن لكي نستطيع التأثير في مجتمعاتنا بشكل يفيدُ ويثمر.(5/325)
وقد بدأ بعض علماء النفس الغربيين المحدثين يدركون أخيرًا أهمية الإيمان بالله تعالى في صحة الإنسان النفسية، إذ أنه يمدُّهُ بطاقةٍ روحية تعينه ُعلى تحمل الكثير من مشاق الحياة وتساعده على التخلص من الكثير من القلق، لكن هؤلاء بالطبع قلةٌ منهم ولا يشجعهم أحد في المجتمع الغربي، وأنا لا أعرف سببا لتحرج الكثيرين من الأطباء النفسيين من التصريح والإعلان عن ملاحظاتهم مع المرضى في ممارستهم للطب النفسي والتي تختلف بالتأكيد عن ملاحظات الأطباء الغربيين التي يملئون بها آذان العالم كله ولا أجد من أطباء النفس المسلمين باستثناء حالات نادرة إلا أنهم يكررون ملاحظات الغرب ويحاولون إثبات أنها عندنا كما هي عندهم ولا أعرف كيف تكون كذلك لكن الواضح أننا كأمة أصبحنا نخاف من القول باختلافنا عن الغرب اللهم إلا في أننا فقراء وأننا محتاجون لرضاهم لكي نتقدم "أي أن نصبح مثلهم" ،
لا أريد البعد عن موضوعي الأصلي وهو الطب النفسي الإسلامي وإمكانية علاج الأمراض النفسية بالقرآن ولكنَّ لا بدَّ أولا من توضيح الفرقِ بين العلاج بالقرآنِ الكريم على أساسٍ فكريٍّ معرفيٍّ واضح ومن قِبَلِ من يعرف ما هو المرضُ وما أشكاله وأسبابه ، وبين من ينسب المرضَ النفسي إلى فعل الجنِّ ويتعامل مع آيات القرآنِ وكأنها تعاويذُ يؤثِّرُ بها في الجن وما إلى ذلك ويفعل أشياءً ما أنزل الله بها من سلطان ربما يصدقها هو نفسه إن كان سليم النية ويصدقها الآخرون على أنها دلائل على وجود الجني في بدن المريض؛ لكن الذي يشعرُ المسلم العالمَ بحقيقة الأمور ويخجله هو أن المنوم المغناطيسي أيا كانت ديانته للأسف يستطيع أن يفعل نفس الأفعال التي يفعلها ذلك الشيخ الهمام فيجعل المريضة تتكلم بصوت رجل والعكس دون أن يستخدم شيئًا من القرآن فكل هذه ممارسات ما أنزل الله بها من سلطان لا تحتاج إلا لمريض لديه قابلية عالية للإيحاء ورغبة غير واعية بالتالي في إسعاد المعالجِ أيا كان فيجدُ نفسه يفعل ما يريدُه المعالجُ ويحسب الأخير نفسه قد أنطق الجنَّ كما يحسب الكثيرون!!، كما سأبين بالتفصيل في مقال: الأمراض النفسية كلها بسبب المس والتلبس بالجن، وكما بينا أكثر من مرة في الروابط التالية وكلها من على مجانين: قيمة العقل في الإسلام ! ماذا جرى؟، السحر والحسد والشياطين، وأمة المساكين، والسحر والشياطين، وقول الأطباء النفسيين، والسحر وكيفية كشفه ؟، وكذلك خطيبتي والجن!!"التفكير الخرافي"، والجن المخفي: التفارق وادعاء العلم بالغيب، والجن المخفي وادعاء العلم بالغيب : مشاركة، وزدنا عليه في : بين الرقاة - مس قرين؟؟! أم وسواس قهري؟؟!!!، وأيضًا هو يقول ، ونحن نقول ... أين البحث العلمي، و"العلاج بالقرآن....من الراحة السلبية إلي الطمأنينة الوجودية"، والتفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي والأسطوري.
وأنا أحاوِلُ في السطورِ التاليَةِ أنْ أقدِّمَ بعضَ النماذِجَ مِنْ ما يُمكنُ أنْ يُساعِدَ في علاجِ أمراضٍ كالقلقِ العام والاكتئاب إضافَةً إلى العقَّاقير اللازمَةِ تبعًا لشدَّةِ الحالة المرضية أي أنه أسلوب علاجيٌ يضافُ إلى أدويَةِ المريض المتدين وربما يكون كافيا وحده في حالات مثل اضطرابات التأقلم Adjustment Disorders أو الحالات الخفيفة الشدة حسب معايير التشخيص في الطب النفسي؛ وَيُمْكِنُني أنْ أسميهِ محاولَةً لوضْعِ حجَرِ أساسٍ لعلاج معرفِيٍّ يتناسَبُ مع بيئتنا المسلمة فالعلاجُ المعْرِفِيُّ كما ذكرت هو محاولةٌ يقوم بها المعالجُ لتغيير بعضِ الأفكارِ التي يعتبرها المريض من المسلماتِ التي لا تحتاج مناقشة في منظومته الفكرية بينما هي في حقيقتها أفكارُ خاطئة وغير قائمة على دليلٍ منطقي لكن المريض لا يدرك ذلك.
أرجو أن يكونَ واضِحًا للقارئ أن ما أقولُه هنا يَجب أنْ يُطَبِّقَهُ الطبيب المتخصص وليس مع كلِّ مريضٍ لأنَّ تطبيقَ هذا الأسلوب مع مريض بعيدٍ أصلاً عن الدين إنما يترك أثرًا آخرَ في نفس المريضِ الذي يشعرُ بأن الطبيب يأخُذُ دورَ الواعِظِ وربما رفضَ العلاجَ برُمَتِّهِ!، وأؤكِّدُ مرة أخرى هنا أنني أتكلَّمُ عن علاجٍ بالقرْآن لا ينطلقُ من أنَّ الاضطراباتِ النفسية ناتجة عن مس أو تلبس بالجان ولا عن ضعفٍ في الإيمان لأنها ليست كذلك، وإنما على أساسِ أنَّ القرْآنَ هو أسمى ما لدينا من فكْرٍ وهدْيٍ نتفقُ عليه جميعًا، فمثلاً:
1- إذا أرَدْنا دعوةَ المريض إلى التفاؤل وعدم اليأس: حسبُنا أن نذَكِّرَهُ بقول الله تعالى : "......... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون" صدقَ اللهُ العظيم " يوسف (87)"
وَقولهُ تعالى " قل يا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقنَطُوا منْ رَحْمَةِ الله إنَّ اللهَ يغْفِرُ الذنوبَ جميعًا إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيم" صدقَ اللهُ العظيم" الزمر (53)"، ويطمئن الله المؤمنين بأنه دائماً معهم, إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه :"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"، صدقَ اللهُ العظيم ." البقرة (186)"، نحتاج إلى ذلك بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ مع مريضِ الاكتئاب بل وأحسبها نعمة من نعم الله التي أودعها في كتابه الكريم أن يكون لدينا مثلُ ذلك النور الهادي ولا أدري كيف لا نستخدمه في علاجِ مرضانا فهذه قمة الأمن النفسي للإنسان.
2- فإذا أردْتُ تذكير المريض الواقع في كرب وضيقٍ لأيِّ مشكلة حياتيةٍ تواجههُ وقد أحسَّ أنَّهُ وحيدٌ فلماذا لا أناقشُهُ في أمرِ صلتهِ بالله عز وجل؟: فقوة الصلة بالله أمر أساسي في بناء المسلم النفسي حتى تكون حياته خالية من القلق والحزن والغم .. وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "يا غُلامُ إني أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجاهَكَ ، إذَا سَألْتَ فاسألِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهِ, وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ على أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُوكَ إِلا بِشَيءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي زيادة "احْفَظِ اللَّهَ تَجدْهُ أمامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللّه في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أنَّ ما أخْطأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً" صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأنا كطبيبٍ نفسيٍّ مسلمٍ يعالجُ مريضا مسلما في ضيقٍ وكربٍ وخوف؛ إنْ لم أُذَكِّرْهُ بمثل هذا الحديث الشريف فماذا أقولُ لهُ ؟ هل مثلا أكلمه عن نصائح ديل كارنيجي لمواجهة القلق؟؟(5/326)
3- الثبات والتوازن الانفعالي: الإيمان بالله يشيع في القلب الطمأنينة والثبات والاتزان ويقي المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب ... قال تعالى : " يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ " صدقَ اللهُ العظيم " إبراهيم (27)"، وأيضًا "فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" صدقَ اللهُ العظيم "البقرة (38)"، وقوله تعالى : "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وللهِ جنودُ السماواتِ و الأرضِ و كانَ الله عليمًا حكيمًا" صدقَ اللهُ العظيم" الفتح (4)"
4- الصبر عند الشدائد: يربي الإسلام في المؤمن روح الصبر عند البلاء عندما يتذكر قوله تعالى: "..... وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" صدقَ اللهُ العظيم."البقرة (177)"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
5- المرونة في مواجهة الواقع: وهي من أهم ما يحصن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" صدقَ اللهُ العظيم" البقرة (216)" وأيضًا قوله تعالى: "وعسى أنْ تكرَهُوا شيئًا ويجعلَ اللهُ فيهِ خيرًا كثيرًا" صدقَ اللهُ العظيم "النساء (19)"
6- توافق المسلم مع الآخرين: الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البر والتقوى, والتسامح هو الطريق الذي يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء, وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله وقوة التوازن النفسي:"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم" صدقَ اللهُ العظيم "فصلت (34)"
7- ومما نجدهُ في تراثنا الإسلامي ويفيد في علاج مرضى وساوس التجنب سواء كانت من النوع المنتمي للوسواس القهري أو لأي من أنواع الرهاب مقولةٌ أعتبرها الركيزة الأولى للعلاج المعرفي السلوكي قالها الإمام علي رضي الله عنه وهي: "إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه، أعظم من الوقوع فيه" أي التعرض التدريجي لما تخاف منه مع منع الهروب، ومن ما يفيد في علاج مرضى الرهاب الاجتماعي أيضًا مقولة أحسبها لأحد المتصوفين وهي: "دوام النظر إلى الخالق ينسي ملاحظة المخلوق"، وما تزالُ الأمثلة وفيرةً ومعظمها لا يحتاجُ إلى تعليقٍ بل حسبهُ أنهُ يخرجُ من القلب إلى القلب ولكنني أعودُ لأؤكِّدَ أنَّ تحديد المريض المناسب والكلمات المناسبة لحالتهِ وله أمر يحتاج إلى من يعرف جيدًا عوارض وأبعاد الأمراضِ النفسية وكيفية التعامل معها ومتى نحتاجُ إلى هذا العلاج المعرفي مع الدواء ومتى يكون كافيا وحده ومتى يكون غير صالح على الأقل في مرحلة معينة من العلاج!
إذن فهناك طب نفسي إسلامي وَنعم هناك علاج بالقرآنِ للأمراضِ النفسية؛ ولكني أكَرِّرُ مَرَّةً أخرى أنني هنا أستعين بالقرآنِ كمادةٍ للعلاج المعرفي لها ما لها في قلوبنا و فيها ما فيها من بركة أودعَها الله عز وجل لكنني لا أتكلم عن آياتٍ تتعلق بالجن أو بالسحر ولا علاقة لها لا بالمرضِ ولا بما يعانيه المريضُ ولا أتكلم عن آياتٍ أكتبها على فخذ فتاةٍ مصابة بالشلل الهستيري ولا على ظهر امرأةٍ مكتئبة ولا في أوراق ليبلها المريض ويشرب ماءها أو يستحمَّ بها وإنما أتكلم عن آيات يفهمها ويتدبرها المريض؛ أنا أخاطبُ العقول والقلوب بالقرآنِ وقد أنزله الله تعالى لذلك
منقول من موقع مجانين بتصريف
=============
دور المسجد في بناء الحضارة
د. وليد فتيحي *
إننا في أمس الحاجة إلى أن نعيد استقراء تاريخنا وأن ندرس عوامل نجاح أمتنا في قيادة الإنسانية قرابة ألف عام وبناء حضارة يشهد لها أعداؤها قبل أبنائها.
أي مدرسة وجامعة فكرية وعلمية واجتماعية تلك التي استمرت في إخراج أساتذة للإنسانية في العلوم النقلية والعقلية على حد سواء قرابة ألف عام من فقهاء ومحدثين وعلماء في الطب والهندسة والرياضيات والفلسفة والفلك والأدب وغيرها من علوم الدين والدنيا قلما يجتمع مثل هذا الرقم الهائل منهم في حضارة واحدة دع عنك أن يكونوا جميعا نتاج مدرسة واحدة.
أما المدرسة التي أقصدها فهي المسجد بمفهومه الشامل المتعمق وهو مفهوم غائب عن كثير من أبناء أمتنا, المسجد الذي يمثل نقطة التقاء الأمة وتوحيدها والمظهر العملي لوحدتها, ولذلك كان أول أعمال أستاذ الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجد للمسلمين في قباء في أيامه الأولى التي أمضاها في المدينة, وبعد انتقاله من قباء الى المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده صلى الله عليه وسلم, وحمل أحجاره بيديه الكريمتين فكان المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى ودار الدولة الإسلامية الكبرى, وكان المدرسة والجامعة ومقر مجلس الشورى, وعقد الرايات, وتجهيز الجيوش, وإدارة شؤون الأمة صغيرها وكبيرها.
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الانسان العابد لله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين, لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } (الأنعام 162-163) وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصدا علميا.
وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى وحث رسول الله على هذا الدور العلمي لقوله صلى الله عليه وسلم: (من غدا الى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان كأجر حاج تاما حجه) أخرجه الطبراني, وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبينه صلى الله عليه وسلم في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي : ( غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك, فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن) وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة, وقد أعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الانصاريات على العلم فقالت: ( نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين ).(5/327)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه علم, فأقرهما وقعد في مجلس العلم, وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية او سمعية, ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله: خط لنا رسول الله خطا بيده ثم قال : ( هذا سبيل الله مستقيما ) وخط عن يمينه وشماله ثم قال: ( هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو اليه ) ثم قرأ( وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) (الأنعام 153).
ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لحث على استعمالها وكان أول من يستعملها صلى الله عليه وسلم.
واستمر المسجد في التطور والنمو جيلا بعد جيل ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة, والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف -وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام- مثل جامع عمرو بن العاص قلب الفسطاط الفكري ومهد الحركة العلمية في مصر والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية, والجامع الأموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد, وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وديموقراطية التعليم وطرق التدريس فيه فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية, وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم وخاصة من أوروبا أمثال القس غربرت دورياق الذي أصبح بابا روما, وكان التدريس يبدأ قبل طلوع الفجر وحتى الواحدة بعد منتصف الليل, أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي الف مجلد, وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة.
واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها, فأصبح من المألوف ان يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه, وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد -بمفهومه الشامل- أجيالا ستظل معجزة العالم ومفخرته, ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية, حيث كونت أساس النهضة العلمية والصناعية في الغرب.
وحظي القرنان الخامس والسادس الهجريان بالتوسع في بناء المدارس المنفصلة عن المساجد مما أدى تدريجيا الى فقد شمولية التعليم في حلقات المسجد ليقتصر على العلوم الشرعية, وبدأ الضعف العلمي يدب في الأمة, ومما زاد في تسارع الضعف والانهيار حدوث كوارث ثلاث في تاريخ أمة الإسلام على مدى ثلاثة قرون.
أما الأولى فهي حرق مدينة الفسطاط عام 564هـ وأما الثانية فهي تخريب وحرق التتار لبغداد مركز الحضارة الاسلامية آنذاك في عام 656هـ أما الكارثة الثالثة فهي سقوط الأندلس عام 897هـ.
وبفقد المسلمين للزعامة العلمية تم فقد قيادة الإسلام للبشرية وورثت أوروبا التراث العلمي فحمله أبناؤها وقدروه حق قدره فرفع قدرهم ليتسلموا من المسلمين الزعامة العلمية وقيادة البشرية, وأصبح المسملون يتخبطون في الجهل وضاعت هويتهم الإسلامية فبدأوا يفصلون بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي وهو مفهوم غريب عند جيل عمالقة المسلمين, وانفصل بذلك البعد الروحي والخلقي والتربوي للمسجد عن العلوم الدنيوية فضعف التحصيل في علوم الدنيا التي فيها قوام الحياة, وعمل الاستعمار على تقليص التعليم الإسلامي الشامل فعملت بريطانيا على الأزهر وفرنسا على جامع القرويين في فاس, وكذلك الحال بالنسبة للزيتونة بتونس, ومن وسائل تحجيم وتحييد هذه المساجد الجامعية اضعاف اوقافها, وتخرجت أجيال ممن صبغت بغير صبغة الله وبغير صبغة مدرسة الإسلام, وابتعد المسلمون أكثر فأكثر عن مفهوم الشمولية العلمية وعمارة الأرض والأخذ بأسباب كل ما يقيم الحياة ويبنيها بل وعندما فقدت صبغة المسجد فقد الإخلاص في تلقي العلوم, وسخرت أمم أخرى العلوم بمعزل عن القيم الروحية وما يصلح النفس البشرية.
ان ضعف دور المسجد هو انعكاس لضعف الأمة الإسلامية ولن تكون الصحوة الإسلامية الا عندما يقوم المسجد بدوره الشامل ويرتقي بأساليبه ووسائله التربوية والتعليمية بما يتناسب مع احتياجات العصر ومقتضياته ليصبح قلب الحياة الإسلامية من جديد, وهو واجب عصري حيث لا يتم واجب تعليم الجيل إلا به.
ان هناك جهودا حثيثة لإعادة دور المسجد في بناء الحضارة وصناعة الحياة, ومن هذه الجهود ما تقوم به الجمعية الإسلامية في بوسطن من إقامة أضخم مركز حضاري في أمريكا يشمل مسجدا جامعا ومدرسة ومكتبة تكون مرجعا للباحثين ومركزا لدعوة غير المسلمين وقاعات للمحاضرات.
وسيبنى المسجد ان شاء الله في موقع متميز بجوار المدينة الطبية والجامعات الكبرى مثل هارفرد وجامعة بوسطن على ارض قدمت للمسلمين بسعر رمزي لأول مرة في تاريخ امريكا, وسيكون هذا موضوعنا القادم ان شاء الله.
(ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)
المرجع: المسجد ودوره التعليمي عبر العصور من خلال الحلق العلمية لعبدالله الوشلي.
======
* استشاري غدد صماء وسكر ورئيس برنامج في مركز جوزلن للسكر وعضو هيئة تدريس كلية طب جامعة هارفرد - بوسطن
عضو مجلس أمناء الجمعية الاسلامية في بوسطن
===============
حضارتنا في عيون الغربيين
د.عبد المعطي الدالاتي
"لا يمكن أن نجد ديناً يحتل العلم والمعرفة
فيه محلاً بارزاً كما كان الأمر في الإسلام"
- كونستان جيورجيو -
تميزت الحضارة العربية الإسلامية بغايتها الربانية ، ورؤيتها الإنسانية ونزعتها العالمية ، ونظرتها الشمولية ، وفكرتها الوسطية ، وصبغتها الأخلاقية . وهذه الحضارة هي الوحيدة في التاريخ التي وصلت الدنيا بالآخرة ، وربطت السماء بالأرض ، وآخت بين العقل والقلب ، ومزجت المادة بالروح ، وأرضت الفرد والمجتمع ، ووازنت بين الحقوق والواجبات ، وجمعت بين الواقع والمثال .. لقد وحّدت بحق بين الثنائيات ، وأخرجت منها شراباً خالصاً سائغاً للشاربين .
وفيما يلي أنقل شهادات غربية منصفة في حضارتنا انتُزعت من أقلام مفكرين غربيين درسوا الإسلام فراعهم جماله ، وأعجبتهم مبادئه ، ولكنهم لم يُنزلوا قناعاتهم من سماء العقل إلى أرض القلب ، ولم يسقوها بماء الوجدان ، فلم تنمُ غراسها ولم تثمر !
وفشلوا في أن يحوّلوا الاقتناع بالحق إلى اعتناق له ، والإعجاب بالإسلام إلى عقيدة تجري في العروق ، نعم لم يبقَ أمامهم إلا ضربة معول واحدة كي يصلوا إلى النبع الثّر الزلال ، فلم يفعلوا ..
حاموا وهم الظّماء حول الماء ولم ينهلوا !!
وإنما أعرض أقوالهم لأولئك المهزومين أمام الغرب ، الذين لا يشربون الكأس الرويّة إلا إذا كانت بيد غربية ! ولا يجرعون الدواء إلا من تلك الصيدلية !!
على أن بعض هذه العبارات كانت في سياقها شَرَكاً نُصب للعقل المسلم ، ولا حرج علينا - أظن - إن لقطنا الحبة ، ومزقنا الشبكة ، وطرنا بسلام .(5/328)
يقول المؤرخ الإنجليزي (ويلز) : "كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط ، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام … ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية ، وقوانين اجتماعية ، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ ، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة " الإسلام هو المدنية"(1).
وتقول المستشرقة زيغريد هونكه في كتابها القيم : (شمس الله تسطع على الغرب) : "إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء ، والتي بدأت من اللا شيء لهي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني… وإن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها ، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها ، وتدعونا أن نقف متأملين : كيف حدث هذا ؟! إنه الإسلام الذي جعل من القبائل المتفككة شعباً عظيماً ، آخت بينه العقيدة ، وبهذا الروح القوي الفتي شق العرب طريقهم بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة وضع أساسها الرسول بنفسه … أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد ؟! والواقع أن روجر بيكون أو جاليليو أو دافنشي ليسوا هم الذين أسسوا البحث العلمي .. إنما السباقون في هذا المضمار كانوا من العرب الذين لجأوا - بعكس زملائهم المسيحيين - في بحثهم إلى العقل والملاحظة والتحقيق والبحث المستقيم ، لقد قدّم المسلمون أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم … وإن كل مستشفى وكل مركز علمي في أيامنا هذه إنما هي في حقيقة الأمر نُصب تذكارية للعبقرية العربية … وقد بقي الطب الغربي قروناً عديدة نسخة ممسوخة عن الطب العربي ، وعلى الرغم من إحراق كتب ابن سينا في مدينة بازل بحركة مسيحية عدائية ، فإن كتب التراث العربي لم تختف من رفوف المكتبات وجيوب الأطباء ، بل ظلت محفوظة يسرق منها السارقون ما شاء لهم أن يسرقوا"(2).
وعلى مدى الكتاب كانت المؤلفة تعقد المقارنات بين منهج العرب المسلمين في البحث العلمي وبين ما كان عليه العقل الغربي من تسطّح فتقول : "اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية في أوربة التي كانت ترى أن من الكفر والضلال القول بأن الأرض كروية ، فمعلم الكنيسة لاكتانتيوس يتساءل مستنكراً: أيعقل أن يُجنّ الناس إلى هذا الحد ، فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض ، وأن أقدام الناس تعلو رؤوسهم؟!!"(3).
قلت : منذ ألف عام توصل فقيه الأندلس الإمام ابن حزم إلى الجزم بكروية الأرض منطلقاً من القرآن الكريم ومن التنظيم المطّرد لمواقيت الصلاة في محيط الأرض… وقد بسط ذلك في كتابه الموسوم (الفصل بين المِلل والنِّحَل) .
ويقول العلامة بريفولت : "ما من ناحية من نواحي الازدهار الأوربي إلا يمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ، وإن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات مبتكرة ، بل إنه مدين بوجوده ذاته … ولم يكن بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوربة المسيحية ، وهو لم يَملّ قط من التصريح بأن اللغة العربية وعلوم العرب هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق(4).. ولقد انبعثت الحضارة الإسلامية انبعاثاً طبيعياً من القرآن ، وتميزت عن الحضارات البشرية المختلفة بطابع العدل والأخلاق والتوحيد ، كما اتسمت بالسماحة والإنسانية والأخوّة العالمية"(5).
ويقول المفكر ليوبولد فايس : "لسنا نبالغ إذ قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه ، لم يُدشّن في مدن أوربة ، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة"(6).
"نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة ، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري ، بينما كنا مثالاً للهمجية"(7).
ويقول الكاتب الفرنسي أناتول فرانس في كتابه (الحياة الجميلة) : "أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة ، ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي"
"حين نتذكر كم كان العرب بدائيين في جاهليتهم يصبح مدى التقدم الثقافي الذي أحرزوه خلال مئتي سنة ، وعمق ذلك التقدم ، أمراً يدعو إلى الذهول حقاً ، ذلك بأن علينا أن نتذكر أيضاً أن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمئة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية ، وفي الإسلام لم يُولّ كل من العلم والدين ظهره للآخر ، بل كان الدين باعثاً على العلم ، وإن الحضارة الغربية مدينة للحضارة الإسلامية بشيء كثير إلى درجة نعجز معها عن فهم الأولى إذا لم تتم معرفة الثانية"(8).
ويقول المسيو سيديو : "لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربة من تحجر العقل ، وشل التفكير ، وجدب الروح ومحاربة العلم والعلماء ، ويذكر التاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أُحرقوا أحياء ! ولا جدال في أن تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر ، بل كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة ، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ، ومنح مخالفيه في العقيدة كل أسباب الحرية كما فعل الإسلام"(9).
"لقد ديست بالأقدام تلك المدنية العظيمة في الأندلس ! ولماذا ؟ لأنها نشأت من أصول رفيعة ، ومن طباع شريفة ، نعم من رجال الإسلام . إن المدنية الإسلامية لم تتنكر يوماً للحياة"(10).
ويقول العلامة جورج سارتون :
"المسلمون عباقرة الشرق ، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية ، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة ، وأكثرها أصالة وعمقاً ، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري(11)… لقد بلغ المسلمون ما يجوز تسميته =معجزة العلم العربي+" .
وتقول الدكتورة لويجي رينالدي : ".. لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا ، تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم"(12).
ويقول البروفسور غريسيب ، مدير جامعة برلين : "أيها المسلمون ما دام كتابكم المقدس عنوان نهضتكم موجوداً بينكم ، وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم ، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا المستقبل"(13).
ويقول المستشرق درايبر : "ينبغي أن أنعي على الطريقة التي تحايل بها الأدب الأوربي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا ! إن الجور المبنّي على الحقد الديني ، والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد"(14).
ويقول روم رولان : "تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط ، والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة ، ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية" .
ويقول رينان : "ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد؟ إن فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوربة المتعجرفة"(15).(5/329)
ونختم بنقول من كتاب (حضارة العرب) لغوستاف لوبون يقول : "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية ، فلقد كان العرب أساتذتنا … وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب ، فهم الذين مدّنوا أوربة مادة وعقلاً وأخلاقاً ، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه … إن أوربة مَدينة للعرب بحضارتها … والحق إن أتباع محمد كانوا يذلّوننا بأفضلية حضارتهم السابقة ، وإننا لم نتحرر من عقدتنا إلا بالأمس ! وإن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين … فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان … ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة … "(16).
إن القفزة الحضارية الهائلة التي سجّلتها أمتنا الإسلامية ، يمكنها أن تعود ، وأن تتكرر من جديد ، بشرط واحد هو أن نريد بإذن الله ، فالإمكان الحضاري الذي تهبنا إياه القيم المعصومة في الكتاب والسنة والسيرة ، ليس ببعيد على من يريده ويسعى إليه ، وقد بدأت تتفتح أزهار الانتصار العاطفي للإسلام في ضمير الأمة ، ولم يبقَ إلا أن تتعمق جذور الوعي كي تثمر هذه الأزهار . ويقع عبء التوعية أولاً على كاهل النخبة المخلصة المتخصصة المؤتَمنة على إيصال صوت نبيها إلى العالم … وهؤلاء هم (أولو الألباب) الذين مزجوا الحق بالصواب ، والذين باعوا أعمارهم وجهودهم وطاقاتِهم لله تعالى ، فربحوا مرتين إذ البضاعة منه والثمن ! "إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنّ لهم الجنة"(17).
وإن الحضارة في صعود ، إذ كانت النخبة المبدعة المؤمنة هي التي تقود ، ومن بعد النخبة يأتي دور الأمة ، ليقوم كل مسلم بدوره في عملية النهوض الحضاري وإن أول عمل حضاري في تاريخ الإسلام وهو بناء المسجد ، قد شاركت فيه عزائم كل المسلمين ، بقيادة نبيهم الأمين ، وكذلك الأمر في حفر الخندق إذ كان الصحابة كلهم على أمرٍٍ جامع ، وإن الحضارة لن تنجم إلا عن تجمع آلاف الجهود الصغيرة النافعة ، والنهر المتدفق هو قطرات ماء تآخت ثم وجدت طريقها .
إن على كل مسلم أن يقوم بدوره في عملية البناء الحضاري للأمة ، وإن كل مسلم مدعوّ إلى نزهة القمم ، فعليه أن يُنَزِّه نفسه عن وهدة السفوح . فأمام المسلم اليوم خياران : إما أن يسعى إلى تغيير نفسه ليتغيّر العالم ، وإما أن يُغيّر اسمه .
ربنا هب عوامنا العلم ، وعلماءنا العمل … وعاملينا الإخلاص ، وهب مخلصينا السداد والتميز في النجاح .
* * *
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"
-----------------------
(1) عن (الإسلام والمبادئ المستوردة) د. عبد المنعم النمر (84) .
(2) (شمس الله تسطع على الغرب) ص (148 - 269 - 315 - 354) .
(3) نفسه ص (370) .
(4) (بناء الإنسانية) رويلت بريفولت نقلاً عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي ، مجلد4 ص(710) .
(5) عن (أخطر ما تواصى به المسلمون عبر الأجيال) أنور الجندي (16) .
(6) (الإسلام على مفترق الطرق ) محمد أسد (40) .
(7) هنري شامبون عن (الإسلام والمبادئ المستوردة) د.عبد المنعم النمر (84) .
(8) المستشرق روم لاندو في (الإسلام والعرب) ص(9-246) .
(9) نقلاً عن كتاب (هكذا كانوا … يوم كنا) د. حسان شمسي باشا (83) .
(10) الفيلسوف نيتشه عن ( ظلام من الغرب) للعلامة محمد الغزالي (140) .
(11) نقلاً عن (هكذا كانوا يوم كنا) د. حسان شمسي باشا ص(8) .
(12) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي - مجلد 7 ص(141) .
(13) عن (هكذا كانوا يوم كنا) د. حسان شمسي باشا (9) .
(14) عن (تشكيل العقل المسلم) د. عماد الدين خليل (94) .
(15) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي ( 8 / 173) .
(16) (حضارة العرب) غوستاف لوبون ص(26 - 276 - 430 - 566) .
(17) قرآن كريم (سورة التوبة - 111) .
============
أسطورة غاندي
د. خالد بن محمد الغيث
لقد كان الزعيم الهندي غاندي من الزعماء القلائل الذين نالوا شهرة واسعة في هذا العصر ، وحيثما ذكر نجد الثناء العطر يرافق سيرته ، وأنه بطل المقاومة السلمية التي يحرص الغرب على تصديرها إلى العالم الإسلامي ، وتذكيرهم بها في كل مناسبة.. فيا ترى ما سر هذا الرجل الذي ظهر فجأة على المسرح السياسي في الديار الهندية ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا العودة إلى القرن 16م ، الذي شهد الانطلاقة الحديثة للحروب الصليبية.
لقد كان هدف الموجة الجديدة من الحروب الصليبية الأوربية في القرن 16م هو الالتفاف حول العالم الإسلامي من الخلف لخنقه اقتصادياً ، من أجل إضعاف الدولتين المملوكية والعثمانية ، لكن أوربا فوجئت بأن العمق الإسلامي يمتد في وحدة دينية فريدة وخطيرة حتى يصل إلى جزر الفلبين ، ماراً بالهند ، التي أثارت لوحدها شهية الأوربيين بشكل عجيب ، لكونها من أعظم المراكز الاقتصادية الإسلامية في ذلك الوقت ، هذا وقد استغل الأوربيون سماحة السلطان المغولي المسلم (جها نكير) فبدأوا بالتسلل إلى الهند كتجار ، حتى تمكن الإنجليزي (وليم هوكنز) من مقابلة السلطان (جها نكير) في عام (1017هـ / 1608م) بصفته مبعوثاً من الملك الانجليزي (جيمس الأول) ، وقد حاول (وليم هوكنز) استثمار مقابلته للسلطان (جها نكير) بأن يأخذ منه خطاب مجاملة إلى الملك (جيمس الأول) لكن الوزير الأول في بلاط السلطان رد عليه قائلاً : (إنه مما لا يناسب قدر ملك مغولي مسلم أن يكتب كتاباً إلى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون !).
لقد عرف الإنجليز أن وجود الحكم الإسلامي في الهند كفيل بتعطيل أحلامهم الصليبية لذا فقد اكتفوا بما كان من تأسيسهم لشركة الهند الشرقية للتجارة الإنجليزية في الهند والأقطار المجاورة في عام (1009هـ /1600م). ومع الوقت كانت شركة الهند الشرقية تتوسع وتزداد فروعها في أرجاء الهند ، ومع الوقت بدأت حقيقة هذه الشركة وفروعها تتكشف فلم تكن إلا قواعد عسكرية إنجليزية ، وبؤر تجسسية كان هدفها تجنيد المنافقين من أبناء المسلمين ، والعملاء من أبناء الهندوس ، والسيخ.
وفي عام (1170هـ / 1757م) وفي إبان الغزو الشيعي الصفوي الإيراني للهند قام الجيش البريطاني التابع لشركة الهند الشرقية باستغلال هذا الظرف الحرج فتمكن من هزيمة المسلمين في منطقة البنغال في معركة (بلاسي) التي تعد أول المعارك الحاسمة بين الطرفين ، وقد تم لهم ذلك بمساعدة المنافقين والعملاء الذين تم تجنيدهم عبر عشرات السنين ، إلا أن احتلال الإنجليز للهند لم يتم إلا بعد قرن من الزمان وبعد معارك طاحنة بين الطرفين ، انتهت بعزل (بهادر شاه) آخر السلاطين المسلمين ونفيه إلى بورما حيث توفي عام (1279هـ / 1862م) لذلك فقد قامت بريطانيا في عام (1275هـ /1858م) بضم الهند إلى التاج البريطاني رسمياً ، لتصبح درة التاج البريطاني منذ ذلك التاريخ.
تقريب الهنادكة :
لقد عرف الاحتلال البريطاني أنه من المستحيل أن يقبل المسلمون في الهند الرضوخ لسياسة الأمر الواقع وفي ذلك يقول (النبرو) الحاكم البريطاني في الهند : (إن العنصر الإسلامي في الهند عدو بريطانيا اللدود ، وإن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية إليها ، لتساعدهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد).(5/330)
وفي عام (1303هـ / 1885م) قامت بريطانيا بتأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي ، ومن خلال هذا الحزب تم إحياء القومية الهندوسية الوثنية القديمة ، لتكون عوناً لبريطانيا في محاربتها للإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية.
سياسة بريطانيا تجاه المسلمين :
لقد كانت بريطانيا تعلم أن بقاءها في الهند لن يكتب له الاستمرار في ظل مقاومة إسلامية صلبة ترفض الذوبان والانبطاح والتوسل للمحتل ، لذا فقد لجأت إلى تنفيذ سلسلة من الخطوات الرامية إلى خلخلة هذه المقاومة وكسرها ، ومن ذلك :
1- إقامة المذابح للمسلمين في كل مكان ، وفي ذلك يقول أحد الكتاب الإنجليز : (إن ما ارتكبه جنودنا من ظلم ووحشية ، ومن حرق وتقتيل ، لا نجد له مثيلاً في أي عصر).
2- زرع العصبية الجاهلية داخل المجتمع المسلم ، حيث قسموا المسلمين إلى طوائف اجتماعية ، وأجبروهم على تسجيل أنفسهم رسمياً حسب هذا التقسيم الطائفي.
3- العبث بمناهج التعليم لتخدم سياسة الاحتلال البريطاني ، مما جعل المسلمين ينفرون من المدارس العلمانية خوفاً على عقيدة أبنائهم.
4- نشر الانحلال والمجون والإباحية والفساد.
5- تأسيس الحركات الهدامة التي تتسمى باسم الإسلام مثل القاديانية ، التي نفت مبدأ ختم النبوة ، ونبذت الجهاد ومقاومة المحتل ، ودعت إلى طاعة الإنجليز والقبول بسياسة الأمر الواقع.
6- تزوير التاريخ الجهادي للأمة المسلمة عن طريق نشر الكتب والمؤلفات التي تنبذ الجهاد والمقاومة ، ومن ذلك كتاب المستشرق ، تومس آرنولد : الدعوة إلى الإسلام.
7- إبعاد العلماء وعزلهم عن قيادة وتوجيه الجماهير المسلمة.
8- إيجاد زعامات قومية إسلامية ، تفتخر بقوميتها على حساب انتمائها إلى دينها وإسلامها ، وقد كان هؤلاء ممن تخرجوا من المدارس والكليات العلمانية.
صناعة غاندي :
عندما توفي السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله (886هـ) وهو يحاصر روما دعا بابا الفاتيكان في روما النصارى في أوروبا إلى الصلاة شكراً لله ابتهاجاً بوفاة محمد الفاتح.
هذه الحالة من الرعب والفزع لم تكن لتغيب عن أوروبا الصليبية في نظرتها إلى العالم الإسلامي ، لذا فقد كان أخطر عمل قامت به بريطانيا هو إلغاء الخلافة الإسلامية وإسقاط الدولة العثمانية وتفتيت العالمين العربي والإسلامي ، حتى لا تضطر أوربا لإقامة صلاة الشكر مرة أخرى.
لقد أدى قيام بريطانيا الصليبية بإلغاء الخلافة الإسلامية إلى إذكاء روح المقاومة الإسلامية في الهند ، ومن ذلك تأسيس المسلمين جمعية إنقاذ الخلافة في عام (1920م) ، وقاموا بجمع (سبعة عشر مليون روبية) لأجل هذا الغرض.
وهنا طفا على السطح فجأة شخص هندوسي اسمه (غاندي) وقام بالتقرب إلى جمعية إنقاذ الخلافة وطرح عليهم فكرة التعاون مع حزب المؤتمر الوطني الهندي ، فرحب المسلمون بذلك ، ولما عقد أول اجتماع بين الطرفين ، طرح المسلمون شعار استقلال الهند عن بريطانيا ، بدلاً عن فكرة إصلاح حالة الهند التي كانت شعار المؤتمر الوطني ، لكن (غاندي) عارض هذا المقترح وثبط الهمم ، وفي عام (1921م) عقد الطرفان اجتماعاً مهما تمكن فيه المسلمون من فرض شعار الاستقلال عن بريطانيا وقاموا بتشكيل حكومة وطنية لإدارة البلاد.
هذا التطور الخطير لم تكن بريطانيا لتسمح له بإفساد فرحتها بإسقاط الدولة العثمانية وتقسيم العالم الإسلامي ، لذا فقد قام (ريدينج) الحاكم البريطاني للهند بالاجتماع (بغاندي) وقال له : (إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون ، وأهدافها بأيدي زعمائهم ، ولو أجبنا مطالبكم ، وسلمنا لكم مقاليد الحكم ، صارت البلاد للمسلمين ، وإن الطريق الصحيح هو أن تسعوا أولاً لكسر شوكة المسلمين ، بالتعاون مع بريطانيا ، وحينئذ لن تتمهل بريطانيا في الاعتراف لكم بالاستقلال ، وتسليم مقاليد الحكم في البلاد إليكم).
وبناء على التنسيق والتفاهم الذي تم بين (ريدينج) و (غاندي) قامت بريطانيا بالقبض على الزعماء المسلمين المنادين بالاستقلال ، فأصبح الطريق ممهداً أمام (غاندي) الذي طلب من هيئة المؤتمر الإسلامي الهندوسي ، بأن تسلم له مقاليد الأمور بصفة مؤقتة نظراً لقبض بريطانيا على الزعماء المسلمين ، وعندما عقد أول اجتماع برئاسة (غاندي) نفذ ما تم الاتفاق عليه مع الحاكم البريطاني (ريدينج) وأعلن أن الوقت لم يحن بعد لاستقلال الهند.
وفي الفترة من (1921- 1948م) نجد أن بريطانيا قد طبقت في الهند ما طبقته في فلسطين مع الصهاينة [ انظر الجذور التوراتية للسياسة البريطانية - مقال بصفحة الكاتب في الموقع ]، حيث قامت بتسليح الهندوس وتدريبهم ، والتنسيق معهم لإقامة المذابح للمسلمين ، أما غاندي الذي أصبح كل شيء بعد تلميعه في مسرحية نفيه المؤقت إلى جنوب أفريقيا فقد قام بمذبحة ثقافية بشعة للحضارة الإسلامية في الهند ، وفي ذلك يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله : (لقد كانت دعوة غاندي إلى ما سماه اكتشاف الروح الهندي الصميم ، والرجوع إلى الحضارة الهندية ، هو بمثابة إعلان حرب على الحضارة الإسلامية التي عاشت على أرض الهند أربعة عشر قرناً ، وغيرت كل مفاهيم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، بل إنها قد غيرت مفاهيم الهندوكية نفسها).
وعندما اطمأنت بريطانيا على مقدرة الهندوس على حكم الهند قامت بترتيب الأمور لاستقلال الهند.
لقد كان عام (1948م) الفصل الأخير من مسرحية غاندي وبريطانيا حيث سلب الحق من أهله بإعلان استقلال الهند عن بريطانيا في تلك السنة ، لكن مسرحية المقاومة السلمية التي قام غاندي فيها بدور البطل لا تزال تعرض إلى يومنا هذا.
بقي أن نشير إلى أن من يطلق شرارة الحقد والكراهية لا بد أن يكتوي بنارها ، فقد مات غاندي مقتولاً عند استقلال الهند ، ثم تبعه في عام 1978م آخر حاكم بريطاني للهند حيث قتل على أيدي الثوار الإيرلنديين ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتبه
د. خالد بن محمد الغيث
جامعة أم القرى - كلية الشريعة
قسم التاريخ والحضارة الإسلامية
Km750@altareekh.com
=============
الذاكرة التاريخية للأمة
د. جاسم سلطان
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
إن الحديث عن الذاكرة التاريخية للأمة يأتي في سياق هذه الهجمة الشرسة على ذاكرة الأمة وتصورها عن نفسها وعن العالم. فالحرب اليوم لا تدور بين الأساطيل والطائرات فحسب، وإنما تدور حرب نفسية موجهة لاستلاب العقول والقلوب تتسم بأنها أشد ضراوة، وأخطر تأثيراً. تلك الحرب التي تأخذ مسارها على خارطة العالم، ولا تتوقف آناء الليل وأطراف النهار. افتح المذياع أو التلفاز أو ادخل على شبكة الإنترنت، وانظر إلى هذا الفضاء الفسيح الذي يطاردك، ناهيك عن الاحتراب الإعلامي الضخم الذي يستهدف المدارس والتعليم وعمليات التثقيف المختلفة. ومن خلال ذلك كله يتم تشكيل العقل -ليس في بلادنا فحسب - ولكن على مستوى العالم أجمع. وللقوة المتفوقة اليوم النصيب الأوفر والباع الأطول في إعادة تشكيل الخارطة الذهنية للمجتمعات البشرية.
وعندما تكون أداة الحرب هي الإعلام والمدرسة فإن الخصم يتخفى ويتلون ويقوم كل مرة باحتلال مساحات صغيرة من هذا العقل البشري، حتى يجد الإنسان نفسه مستلباً لمقولات الآخر دون تمحيص أو تفكير. ويعتمد الخصوم في ذلك على أن الغالبية العظمى من البشر لا تقرأ ولا تمحص، وإنما تتلقى كل شيء من الخارج.(5/331)
ويقول علماء البحوث الإنسانية أن الناس ينقسمون من حيث الرأي العام إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قادة الرأي. وهؤلاء يصنعون الإعلام ويصنعون الدعاية السياسية ولا يتأثرون بها لأنهم يعلمون أنها أداة من أدوات الصراع.
القسم الثاني: المثقفون. والرأي العام المثقف يقرأ وينظر ويمحص بدرجة من الدرجات، ويشارك في أوقات السلم في صناعة الرأي، فإذا احتدمت الحرب انقلب إلى رأي عامي أيضاً. وتلك مفارقة كبيرة تلمحها في فترات الأزمات حيث ترى أن كثيراً من الكتاب والمفكرين يجنحون إلى الحديث بلغة الشارع ويخاطبون نفس العواطف ويتحدثون بنفس المنطق.
القسم الثالث: الرأي العام العامي. وهؤلاء هم نقطة الفعل ومحط التركيز من جهاز الإعلام.
و نحن نأمل اليوم أن نرتقي بالرأي العام المثقف أو قطاعات منه إلى مستوى الرأي العام القائد الذي يصنع الإعلام ولا يتأثر به.
أنواع العقول التي تتلقف الدعاية
قادة الرأي
المثقفون
الرأي العام العامي
إن فهم هذه النقطة المحورية يعيننا على إدراك أهمية إحياء الذاكرة التاريخية للأمة. فالهجوم على التاريخ الإسلامي وإعادة تشكيله وانتقاصه وتعظيم تاريخ القوى الغازية لبلاد الإسلام يؤثر تأثيراً كبيراً حتى على صفوف من يُظن أنهم يقعون في طليعة المتحركين لعملية النهضة. ولقد رأيت في أثناء التجوال والنظر أن الكثيرين من العاملين للنهضة لا يمتلكون خارطة واضحة للتاريخ البشري، وكثير من الاستشهادات والاستدلالات التي يلجأون إليها تبدو مبتورة وفي غير موضعها. ويأتي هذا البحث لمحاولة ردم هذه الفجوة.
لمن هذا الكتاب
إنّ القارئ الذي يشق عليه في خضم مشاغل الحياة المتعددة أن يلجأ إلى أمهات المراجع والبحوث هو هدفنا الأول في هذا البحث الوجيز، حيث إن هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع الإسلامي هي التي تمثل أمل الغد المشرق إن شاء الله. وكل جهد في سبيل العمل على تكوينها ثقافياً يخدم ولاشك مشروع نهضة الأمة.
إن الكتابة في موضوع البحث تستهدف كذلك كل من يريد أن يسهم في مشروع نهضة الأمّة، وكل من يريد أن يخرج من الأنا الضيقة إلى فسحة الإنسانية الرحبة. لهؤلاء نكتب ونستصحب كل من يعتقد أنه منتمٍ لهذه الأمة ديناً أو حضارة لا نستثني منهم أحداً، ما استصحب الجميع عقد الأمة الواحد وروحها، ونحن وإن تحدثنا عن أمتنا فإن هدفنا الأسمى هو خير الإنسان، وكل الخلق، في كل أرض ومصر، حتى يتحقق قول الله عز وجل لرسوله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(1)، وهذا الكتاب نرجو له أن
يسهم في مسيرة الأمّة نحو تحقيق ذاتها واستعادة دورها، خاصة وأن تباشير الفجر تظهر في كل مكان رغم الصعاب الداخلية والخارجية التي تواجهها.
هدف الكتاب
لقد هدفنا من خلال هذا البحث إلى الوصول إلى عدة أمور:
* فهم أطوار الحراك التاريخي التي تمر بها أي حضارة حتى تقوم.
* رسم خارطة مبسطة لصعود وهبوط الحضارة الإسلامية.
* رسم خارطة مبسطة لهبوط وصعود الحضارة الغربية.
* رسم خارطة توضح تقاطع مساري الحضارتين الإسلامية والغربية.
* معرفة دور الأمة الإسلامية في نقل البشرية من طور الطفولة العلمية إلى طور الرشد العلمي.
* معرفة العوامل التي تراكمت في أوروبا وأدت إلى النهضة.
* معرفة العوامل التي تراكمت في العالم الإسلامي وأدت إلى التخلف.
ولقد حاولنا أن نجيب على تلك الأسئلة المتكررة حول ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وكيف حدث؟ كما حرصنا على الاختصار والإيجاز بقدر الإمكان. لأن الغرض هنا وضع أسس وخطوط عريضة يستطيع القارئ المتوسط أن يضع فيها معلوماته بعد ذلك، ويؤسس على تصور أكثر حنكة ودراية بالتاريخ. وبالتالي لا يقتصر التاريخ على تسجيل الوقائع، وإنما يساعد على تكوين رؤية فاحصة تستدعي نهضة الأمة وإعادة ثقتها بنفسها، مع الالتزام بالحقيقة وبمنطق العلم. وبالتالي نكون قد وضعنا لبنة هامة في المكون الفكري الأساس للفرد الذي نريد.
إن الفهم هو النقطة الحرجة في إنجاح عملية "النهضة"، ونقصد به وجود صورة أو إطار واضح المعالم يستند إليه الساعون إلى النهضة، وينطلقون من خلاله. إطار مرشد، تتدفق بين ضفتيه مياه النهضة في حركتها ونشاطها لتلتقي في المصب فلا تتشتت الجهود ولا تضيع، ومن أهم خطوات بناء هذا الإطار الجامع السعي لإحياء الذاكرة التاريخية للأمة.
طريقة تناول كل باب
وحتى يمكن تنظيم الخارطة المعرفية للعقل المسلم رأينا أن نبدأ كل باب:
* بأهم الأسئلة التي سيجيب عليها الباب.
* ثم الشرح التفصيلي.
* وبعد ذلك نموذج (شكل توضيحي) لملخص ما قيل، بحيث يسهل رسمه ومن ثم استدعاؤه وتذكر خلاصة الباب وشرحه للآخرين.
* ثم خلاصات تحتوي على أهم النقاط التي ذكرت في الباب.
لماذا هذه المنهجية في التناول؟
إن تيار النهضة المتدفق كالسيل لا يزال عاجزاً عن إحداث نقلة نوعية حقيقية تنقله من مرحلة إلى أخرى؛ بل إن هذه المراحل ذاتها تعاني من الضبابية والتداخل الذي يعجز معه طلاب النهضة وقادتها من تحديد بدايات هذه المراحل ونهاياتها. وهذا العجز وليد مجموعة من العوامل من أهمها تعامل العاملين للنهضة مع العلوم الإنسانية كعلوم وليس كأدوات.
فالمادة التاريخية يتم التعامل معها كمادة أكاديمية. وفي أحسن الأحوال تؤخذ منها الدروس والعبر المغلوطة والمبتسرة والمقتطعة من سياقها التاريخي. ونحن نرى أنه من الضروري أن ننفض الغبار عن هذه المادة التاريخية وأن ننتقل بها من رفوف المكتبات وعقول المؤرخين إلى ميادين الصراع والتدافع وعقول الاستراتيجيين. فالتاريخ هو مخزن الاستراتيجي الذي لا ينضب.
إن إتقان التعامل مع المادة التاريخية لتصبح أداةً من أدوات العاملين للنهضة - تعينهم في التفسير والشرح والتنبؤ - هو من الضروريات وليس من الحاجيات أو التحسينيات. وقديماً قال أوغست كونت: "إن المعرفة قوة.. إنها تعني أن نعرف فنتنبأ فنستطيع". فالمعرفة إذا لم تتحول لتصبح أداة للاستطاعة والتمكين فهي ليست معرفة حقيقية؛ بل هي معرفة مجتزأة لا يتعدى دور صاحبها دور كتاب من الكتب أو موسوعة من الموسوعات.
وانطلاقاً من هذه الرؤية تم التعامل مع المادة التاريخية. لذلك فإن القارئ سيلحظ أن المادة مصاغة بشكل أشبه ما يكون بالدورة الحية، تجنبنا فيها الشكل السردي الصرف. كما أنها مصاغة لتكون أداة عمل وليست ثقافة مجردة.
وعلى ذلك تم عرض الدراسة في سبعة أبواب:
تناول الباب الأول منها صورة من فلسفة التاريخ لرسم إطار ونموذج معرفي تندرج فيه المعلومة التاريخية، ويُمَكِّن القارئ من فهم المسار التاريخي لأي حضارة، كما يمكنه من تحديد الطور الذي تمر به أمتنا والأطوار التالية التي علينا طرق أبوابها والولوج إليها.
والباب الثاني أسس لمفهوم الحضارة واضعاً إجابات على ادعاءات الغرب بامتداد العلوية الحضارية له، ومفنداً لمقولة الرجل الأبيض الذكي. كما أنه يوضح العوامل المؤثرة في قيام الحضارات وتتابعها وتواليها على قمة المجد الحضاري.
أما الباب الثالث فيرسم صورةً لتقسيم التاريخ كما تتناوله الأدبيات الغربية، فيوضح النقاط المفصلية في تاريخ البشرية من وجهة نظر المؤرخين الغربيين وأسباب اختيارهم لهذه النقاط كفواصل كبرى بين كل مرحلة وأخرى من مراحل التاريخ البشري. ثم هو يتناول الدلالات الخفية في التقسيم وطريقة التناول التي تعزز الدور الحضاري والقيادي للرجل الغربي وتنفي أدوار الحضارات المشرقية الأخرى عامة والإسلامية والعربية خاصة.(5/332)
والباب الرابع يرسم المسار التاريخي الأوروبي وأهم محطاته. ويوضح النقاط المفصلية في التاريخ الأوروبي، ويتناول عصور الظلام وعصر النهضة الأوروبية بالتحليل موضحاً تطور الفعل الحضاري في أوروبا.
والباب الخامس يرسم المسار الإسلامي وأهم محطاته وعوامل التحلل فيه.
والباب السادس تحدث عن تقاطع المسارين الإسلامي والأوروبي. فبين بداية مرحلة الصحوة الأوروبية وبداية خط الانكسار في مسار الحضارة الإسلامية. كما وضح أهم النقاط التاريخية المشتركة بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية، وكيف أثرت نقاط التقاطع تلك سلباً وإيجاباً على كل من الحضارتين، وكيف أدت بإحداهما إلى القمة وأدت بالأخرى إلى الانحدار.
والباب السابع يضع الحدث الحاضر في سياقه التاريخي وفي الإطار والنموذج الذي تم شرحه في الباب الأول. فيحدد المرحلة الآنية والمستقبلية، ويوضح طبيعة الاستجابات العربية والإسلامية الحادثة والمرجوة في العوالم الثلاث (عالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العلاقات).
إن هذا الكتاب هو خطوة هامة على طريق الانتفاع بالعلوم الإنسانية وتحويلها لأدوات تدفع عنا غائلة الخصوم في هذا العالم المتدافع. وهو لبنة في بناء الشخصية التي تستطيع التصدي للحرب النفسية والإعلام الموجه. كما أنه – إذا أُحسن التعامل معه – يمكن استخدامه في الدعاية المضادة لينتقل بك من مقعد المتفرج والمفعول به إلى الفاعل.
الباب الأول
قبل البدء
(إطار فلسفة التاريخ)
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
1. كيف يمكن فهم المسار التاريخي لأي حضارة؟
2. هل هناك عصا سحرية أو وسيلة ذهبية تؤدي إلى قيام الحضارات؟
3. هل التحديات التي تواجه أمتنا فوق طاقتها ولا يمكنها التعامل معها واقعياً؟
4. ما التحديات التي تعرقل أمتنا عن بناء حضارتها؟
5. ما الأطوار الطبيعية التي تمر بها أي حضارة؟
6. على أي ضوء يمكن تفسير حالة التخبط التي تحياها الأمة اليوم؟ وهل هذه العشوائية يمكن أن تقود إلى حضارة؟
7.ما الطور الذي نمر به اليوم؟ وما هو الطور المرتقب؟
حتى نتمكن من فهم مسارات الحراك التاريخي للحضارات، ونستطيع وضع إطار شامل لذاكرة أمتنا، ينبغي لنا أولاً أن نتعرف على نظرية التحدي والاستجابة. والتي تبين الكيفية التي يتحرك بها مسار أي أمة من الأمم نحو بناء الحضارة.
نظرية التحدي والاستجابة
يعني التحدي وجود ظروف صعبة تواجه الإنسان في بناء حضاراته، وعلى قدر مواجهة الإنسان لهذه الظروف تكون استجابته إما ناجحة - إذا تغلب على هذه المصاعب - أو استجابة فاشلة إذا عجز الإنسان عن التغلب على هذه المصاعب.
وصاحب هذه النظرية هو "أرنولد توينبي". وقد ذكر أن الظروف الصعبة التي تتحدى قدرة الإنسان وتستحثه على العمل لتكوين الحضارة تتمثل إما في بيئة طبيعية أو ظروف بشرية(1).
أولاً التحديات
إن التحديات هي سر نهضة الأمم، ولولا التحديات لما وجدت الحضارات، ولما كانت هجرات الشعوب واكتشافها لمواطن جديدة تصلح للحياة، ولذلك فإن الرغبة في حياة ليس بها تحديات يعتبر بمثابة حبس طاقات الإنسان. وفي هذا يقول روبرت شولر: "إن الصراع هو مكان ولادة الإبداع الأعظم"(2). ويقول الدكتور كاريل: "الأهداف التي تعمل على إثارة الحافز فينا تقوم بتقديم أجمل الهدايا لنا على شكل إنجازات"(3).
مستويات التحديات
أنواع التحديات
تحدي قاسي
أكبر من طاقة الإنسان
تحدي ضعيف
غير مستفز
تحدي خلاق
مستفز لطاقة الإنسان
1. تحدي قاسي أكبر من قدرة المجتمع ولا يستطيع الإنسان تطوير آليات التغلب عليه، مثل شعب الإسكيمو ومعاناته من الطبيعة الثلجية. فكانت النتيجة بقاء الإسكيمو على حالهم منذ أن استوطنوا ألاسكا.
2. تحدي ضعيف غير مستفز لطاقة الإنسان كي يطور ذاته. وبالتالي يظل على حاله من غير تقدم مثل شعب نيوزلندا، حيث قلة السكان ووفرة الموارد وسهولة الأرض، فلم يتقدم سكان نيوزلندا الأصليين.
3. تحدي خلاق يستفز طاقة الإنسان ولكنه - أي الإنسان - قادر على تطوير آليات للتغلب عليه مثل حالة كل الشعوب التي صنعت حضارات فطورت أدواتها المعرفية والعملية حتى ووجهت بتحد داخلي أو خارجي أو بيئي، ولم تستطع الاستمرار أو تقاصرت حركتها فسبقها غيرها.
مساحات التعرض للتحديات
إن التحديات التي تعاني منها أي أمة من الأمم تكون على أربعة أصعدة:
1- تحد على الصعيد النفسي: حيث تعمل كل الأجهزة المناوئة لفرض الهزيمة النفسية على الأمة.
2-تحدٍ على الصعيد الفكري: حيث تشهد الساحة خليطاً واضطراباً في النسق الفكري معوق لحركتها.
3- تحدٍ على الصعيد التنظيمي: حيث تنعكس الحالة الفكرية على جميع أشكال العلاقات الفردية والجماعية.
4-تحدٍ على الصعيد المادي: حيث أن عالم الأشياء الذي تبدعه الأمة يتقلص وتصبح عالة على الآخرين.
التحديات
مادي
فكري
نفسي
تنظيمي
التحدي النفسي
إن التحدي النفسي يعد من أخطر التحديات التي تواجه أي أمة من الأمم. فعندما تفقد الأمة الإحساس بقدرتها على التفوق و التقدم والانتصار؛ عندها تبدأ عملية الهبوط. فالعامل النفسي هام جداً. ففي فترة الطموح وفترة الهمة وفترة الشعور القوي بالذات تبدأ عملية انطلاقات الأمم. وفي فترة الانهيار يفقد الإنسان ذلك البريق الداخلي والإحساس بالذات وينطفيء الوهج الخلاق الذي يدفعه إلى التحرك والعمل. وكل أمة تفقد هذا الوهج فمصيرها إلى الانهيار. و لم تعد اليوم قضية الباعث النفسي متروكة للصدف إنما تعمل أجهزة الإعلام والتعليم على زرع وبعث هذه الثقة بالذات. كما تقوم أجهزة الخصم على الطرف اللآخر بتحطيم هذه الثقة بالذات من خلال إعلامها وتعليمها.
التحدي الفكري
يتمثل التحدي الفكري في فوضى لا مثيل لها في عالم الأفكار .فعندما تكون قاعدة بيانات العقل مضطربة، فإن إضافة مزيد من البيانات لها تؤدي إلى مزيد من الفوضى. وينتج عن ذلك اضطراب وتشوه في عملية اتخاذ القرارات. إن التنظيم الكبير والأساس المتين الذي تنطلق منه كل أمة يبدأ بتنظيم خارطتها الذهنية. بحيث يكون للمعلومة قيمة وظيفية، وحتى يتسنى استدعاؤها واستخدامها بشكل صحيح.
كما أن انتشار كثير من الأفكار القاتلة التي تكرس الوضع القائم، ولا تبشر بحدوث التغيير المأمول يكون لها دور كبير كمعوق يحول دون النهضة.
التحدي التنظيمي
فكل أمة من الأمم تحتاج إلى نظم في السياسية والاقتصاد والمال والاجتماع وغير ذلك، وكل منظومة من النظم تشكل عماداً من أعمدة هذا البيت الكبير، فإذا انهارت النظم في أي مجتمع من المجتمعات كالنظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الخلقي فقد انهار جزء من البناء.
التحدي المادي
وهناك تحد في الجانب المادي. فالأمم التي لا تنتج شيئاً يذكر في عالم المعرفة وفي عالم التطبيقات؛ هيهات أن تجد مكانها بين الأمم.
ثانياً الاستجابة
يؤمن "أرنولد توينبي" - صاحب نظرية " التحدي والاستجابة" - أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسميه بالوسيلة الذهبية.
الوسيلة الذهبية
إن أي حضارة تقوم بمواجهة التحدي الذي يقابلها بسلسلة من الاستجابات، والتي قد تفشل في حل معضلة الحضارة، وحين تهتدي إلى الحل النموذجي تكون قد وصلت إلى الوسيلة الذهبية.
الوسيلة الذهبية
الاستجابة
الحضارة(5/333)
إن منحنى تقدم الأمم نحو الحضارة لا يسير في خط مستقيم. ولكنه يمر بمنحنيات متغيرة متقلبة تشير بوضوح إلى سلسلة المحاولات السلبية التي مرت بها الأمة أو الحضارة في طريقها نحو القمة، حتى تأتي الوسيلة الذهبية (الاستجابة الصحيحة) فتعيد المنحنى مرة أخرى نحو الصعود. وهكذا تتكرر المحاولات السلبية والوسائل الذهبية حتى تصل الحضارة إلى ذروتها.
إن أمتنا ليست عقيماً أن تلد أفكاراً تصل بها إلى الوسيلة الذهبية، غير أنها تحتاج سعة أفق وجرأة على التصدي للمشاكل.
الطريق نحو التكرار
نحو النمو
ويبين الشكل كيف أن الاستمرار في الأخذ بالوسائل المجربة التي لم تجد يمثل الدوران حول النفس، بينما لو جربت الأمة طرقاً جديدة لوصلت إلى النهضة، فقط يتطلب الأمر الجرأة على طرق الأبواب الجديدة وعدم الاكتفاء بالوسائل المجربة سالفاً.
لذلك يقول روبرت شولر: "أفضل أن أغير رأيي وأنجح على أن أستمر على نفس الطريقة وأفشل"(1).
ويقول أديسون : "العديد من التجارب الفاشلة في الحياة تكون عندما لا يدرك الناس أنهم كانوا قريبين من النجاح عندما استسلموا"(2).
وسئل أديسون ذات مرة هذا السؤال: "لقد قمت بألف تجربة فاشلة قبل التوصل للحل الصحيح. فما هو شعورك؟" فأجاب: "أنا لم أقم بألف تجربة فاشلة، بل تعرفت على ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح".
الطريق نحو التكرار
...
الطريق نحو النمو
لا أهداف ... أهداف جديدة
كل شئ مألوف ... إثارة
ركود
... إنتاجية أعلى
يوم أمس آخر ... غد جديد
شئ تعيش عليه ... شئ تعيش له
إرهاق ... جودة
تسلية بالعمل المعروف ... استمتاع ببذل الجهد المثمر
مشاكل ... مشاكل
إن المفاصل المؤثرة في تاريخ الحضارات عادة ما كانت تصنعها الأقلية المبدعة، التي تعشق المحاولات، وتهيم بالعثور على الوسيلة الذهبية.
اللبنة المؤثرة
عادة ما تكون أحد هذه الوسائل الذهبية من الضخامة والتأثير بحيث تمثل لبنة هامة وخالدة تبني عليها الحضارات كثيراً من وسائلها وأشكالها وتحولاتها التالية. وبإمكاننا أن نطلق على هذه الوسيلة (اللبنة المؤثرة). وسنمثل لذلك بمثالين:
الأول: ما فعله الملك هنري في بريطانيا ونظامها السياسي. ففي القرن الثاني عشر الميلادي قام الملك هنري بتنظيم(1) وضبط الدولة بالقانون، وطبقه بصرامة على جميع المستويات، ودرب الجميع على احترامه. ورغم أن السبعين سنة التالية كانت من نصيب ملوك ضعاف إلا أن نموذج هنري كان قد طبع المجتمع الإنكليزي وأصبح مطلباً مستمراً.
والثاني: هو ما فعله نابليون بونابرت في فرنسا بعد قيام الثورة الفرنسية عندما أدخل أساليب الإدارة الحديثة و أنشأ الجامعة لمجابهة التحديات التي كانت تواجهه، ورغم أن تجربته كانت قصيرة إلا أنها بقيت ما يكفي لجعل عدة تغييرات راسخة لا رجعة فيها. وما زال الكثير من هذه النظم معمول بها حتى الآن.
أنواع الاستجابات
1. استجابة فاشلة: وهي تؤدي إلى التخلف. ولها أعراضها الداخلية المتمثلة في الفوضى والتخبط ولها أعراضها الخارجية، المتمثلة بحدة في اعتماد الأمة على الغير في مأكلها ومشربها وحمايتها، بل وحتى في فكرها ونظمها. إنها حالة من الاستلاب للآخر وهي حالة بها كل مقومات "القابلية للاستعمار".
2. استجابة ناجحة: وتمر بعدة أطوار: الصحوة، ثم اليقظة، ثم النهضة، ثم الحضارة.
وسنستعرض بشيء من التفصيل هذه الأطوار الأربعة التي تمر بها أي حضارة حتى تقوم. وهذه الأطوار لا تمثل أطوار الصعود والهبوط للحضارات، وإنما تمثل أطوار الصعود فقط. (1)
أطوارقيام الحضارات
الصحوة:
هي أولى مراحل انقشاع سحب التبلد الذهني. وسنستخدمها هنا لوصف المرحلة الأولى في البعث الحضاري.
من أعراضها الإيجابية: الإحساس بالذات والهوية. ويشعر الإنسان فيها بوجوب الحركة، ولكنه غير مدرك بالمحيط الذي يتحرك فيه.
من أعراضها السلبية: عدم تمتع أشكالها التنفيذية الانطلاقية بالرشد الكامل، فهي في جزء منها قد تبدو فوضوية غير منضبطة.
فالصحوة هي إرهاصات لحالة جديدة تعتري مجتمعاً ما، واضحة أحياناً ومشوشة أحياناً أخرى، ولكنها صرخات الجنين الأولى وحركة من صحا من نومه فجأة ولكنه لم يستيقظ بعد ويتنبه لمحيطه الخارجي بشكل سليم، فربما اصطدم بمقعد أو دولاب دون أن يقصد أو يريد ولكن هذه الأخطار تزيده صحواً وتنقله للاستيقاظ الكامل.
وقد جاءت مرحلة الصحوة للأمة بعد مرحلة سبات عميق وركود مميت مكَّن أقدام المستكبرين من أن تدوس أرضها، وأن تخترق سهام الأفكار الغازية فضاءها العقلي. فانطلقت عمليات البعث الفكري الأولى بدءاً خجولاً في شكل دفاعي؛ لتطور نفسها بعد ذلك في شكل هجومي، ولكنها ظلت حركة عقلية للنخب والمثقفين، وليست زاداً للأمة بعمومها. فقيض الله من رجالات الأمة من نزلوا بهذه الأفكار لجماهير الأمة فبينوا عظمتها وسموها على غيرها، وكشفوا للأمة نقاط ضعف غيرها من الأفكار. ونجحت جهودهم في حشد الجماهير حول الإسلام, فتراجعت أمامهم جميع الأفكار وانزوت وانحصرت، ولولا سطوة السلطان ما بقى منها شيء.
والصحوة في جوهرها تيار عاطفي ضخم. تيار مؤمن بالإسلام ومبادئه, ولكنه قليل الخبرة، ضحل المعرفة بتفصيلات واقعه. تيار يفتقد الخبرة والصبر ليكتشف مناهج التغيير وطرائقه. تيار يتعجل قطف الثمار ولا يحسن فن ترقب الفرص. وفي خضم هذه العجلة دفعت الأمة وطلائعها الشابة الدم والدمع والعرض في مقابل القليل من النتائج. تضحيات كبيرة وثمرات قليلة. إنها مرحلة تعلمت الأمة فيها عقم واقعها وعظمة فكرتها، ولكنها لا تمتلك المناهج وخطط التعامل مع مشكلة الزمان والمكان، ولا تمتلك ما تحتاجه من تعدد الوسائل وطرق العمل وما يلزم لذلك من سعة الفكر والقدرة على الابتكار. وهي مرحلة على ما بها من حركة عشوائية أو شبه عشوائية، وما بها من عثرات طبيعية في مسارات الأمم والشعوب - مرت بها فرنسا واليابان وبريطانيا وغيرهم كثير - إلا أنها ظاهرة إيجابية تدل على أن الأمة قد أفاقت. فإذا نظرنا إلى فرنسا أو أوروبا وتأملنا محاولة التحرر من أسر عصر الظلمات أو الفترة الوسيطة؛ سنجد استجابات عشوائية في البداية، تمثلت في الصراع والتفتت والتجارب والاقتتال الديني وغير ذلك من الأشكال التي عانت منها كل الأمم أثناء تحركها من أجل نهضتها. إنها مرحلة تطول أو تقصر ولكنها موجودة لا محالة. إنها بشارة – رغم ما بها من آلام ومخاض – تقول أن الأمة قررت أن تهجر السكون.
إن طور الصحوة طور التمرد على الواقع، وعدم الاستسلام له، والبحث عن مخرج. وفي هذه الفترة من حراك المجتمعات والأمم ترتكب الأخطاء وتوجد الانفجارات غير العاقلة والصراعات المريرة والتجارب الفاشلة لكن هذا التراكم الضخم من الخبرات يقود إلى مرحلة لاحقة وهي مرحلة اليقظة.
وأما اليقظة:
فهي حالة تالية تنقشع فيها بقايا الخِمار العقلي، ويعرف فيها المرء مكانه ووضعه بالنسبة لما يحيط به من أشياء وبشر، فيكيف حركته ليسير بين عالم الموجودات المادية حوله وينظم علاقته بعالم البشر المحيط به.
* أعراضها الإيجابية: الرشد والوعي والعمل المخطط المدروس. في ظل رؤية تجمع الجهود العملية التي كانت تبدو متباينة أو متضاربة في مرحلة الصحوة. وتصبح القوى الفاعلة في هذه المجتمعات أقدر على رؤية الأرض، وتحديد الزمان والمكان، والممكن وغير الممكن في داخل بنائها. وبالتالي تؤسس لحركة منضبطة تسير شيئاً فشيئاً بالأمة نحو تحقيق أهدافها.(5/334)
وميلاد مرحلة اليقظة من مرحلة الصحوة أمر طبيعي. فلو كانت مرحلة الصحوة بطبعها طور (أولي الأيدي) أو التنفيذيين فمرحلة اليقظة تضيف إلى التنفيذ دور (ذوي الأبصار)، لتتكامل معادلة (أولي الأيدي والأبصار) التي أشار إليها القرآن في قوله تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار}(1). إن العقول هنا تبدأ في التفكير في كل مسلمات المرحلة السابقة وطرق عملها. إنها مرحلة يطبعها الانتقال من طور المبادئ والعواطف والشعارات إلى إعمال العقل وإطلاق طاقاته الخلاقة. إنها مرحلة تتكثف فيها الجهود لفك الأغلال عن العقل ليبدع أساليب جديدة، لنقل الأمة من مرحلة الانتظار إلى مرحلة المشاركة الفعلية التي تتجلى ثمرتها بعدها في مرحلة النهضة.
وتبدو اليوم في مجتمعاتنا بوادر مثل هذا الرشاد. نلمحها في مختلف بقاع العالم الإسلامي متمثلة في مظاهر عدة، كانخفاض حدة لغة الاحتراب الداخلي، ومحاولات الموائمة والمصالحة بين أفراد الأطراف المختلفة، ومحاولات التقارب وإيجاد قواسم مشتركة للفعل، و محاولات التركيز على القضايا الجوهرية، وفهم الواقع والتحديات، والإحساس بالخطر المشترك. كل ذلك يتم في أشكال مؤتمرات وملتقيات وندوات. وبدأ يأخذ مجراه لتعديل أفكار الأحزاب والجماعات شيئاً فشيئاً نحو رؤية المسار، وإدراك صعوبة الخلاص الفردي عبر حزب أو جماعة أو اتجاه معين وأن هذا الخلاص يحتاج كل الجهود.
وأما النهضة:
فهي حالة تالية عندما ينظم عالم الأفكار(1) ويستيقظ عالم المشاعر(2) ويندفع الإنسان فيها متحرراً من قيود الخوف ليمارس دوره في جميع المجالات.
* أعراضها الإيجابية: استشعار الإنسان لذة العمل والاكتشاف والقوة، فهي حالة تتخلل كل أشكال الحياة، وحالة تعطي للزمن قيمته من حياة الأمة، وتعطي للتفوق والإبداع تقديرهما. إنها مرحلة تدفق الشلال – الذي كان يسمى بالصحوة – ليصوغ كل مجالات الحياة العلمية والتطبيقية صياغة جديدة. و في مرحلة النهضة يعم نور البحث والنظر وتولد الإبداعات التي تؤسس لنشوء عالم الأشياء الذي يزود الحق بالقوة فيسيران معاً.
والحرية شرط ضروري لحدوث النهضة. بحيث يأمن الإنسان على فكرة سواءً خالف المجموع أو وافقه، ويطلق لفكره العنان ناظراً متأملاً في مجالات المعرفة والنظر. وعندها تبدأ الحياة تدب في المجتمعات لأن هذا النشاط الإنساني المتنوع دلالة على خفة القيود التي كانت تقيد العقل والفكر. وكلما استطاع الإنسان أن يبدع فإنه يتجاوز واقعه إلى واقع أفضل. وعندما تبدأ عملية النهضة تتصاعد وتتبلور في شكلها الخارجي في الإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمادي إلى آخره .. وعندها يمكن أن يقال أن هذا المجتمع قد انتقل إلى مرحلة جديدة .. وهي الحضارة.
الحضارة:
وهي حالة من بناء النموذج المنشود في عالم الواقع متمثلاً في نموذج فكري متقدم، وعالم علاقات وسلوك(3) متقدم، وعالم متقدم من الإنتاج المادي الصناعي والمعماري والفني (4).
صحوة
يقظة
نهضة
حضارة
حماس
رشد
حماس
رشد
تحدي + استجابة
نموذج أطوار الحضارة
هذا النموذج الذي نتحدث عنه والمتمثل في التحدي ومرحلة الصحوة ومرحلة اليقظة ومرحلة النهضة ومرحلة الحضارة ينطبق عليه ما ينطبق على كل النماذج. فالنماذج عادة توضع تبسيطية لتنظيم العقل. وهي اختزال للواقع. وكلما استطعنا أن ننظم العقل المسلم من خلال هذه النماذج التبسيطية؛ كلما استطاع المسلم أن يعبر ويصف الحالة التي يواجهها. كذلك يجب أن ندرك أوجه القصور فيها، لأن كل النماذج يمكن نقدها بصورة أو بأخرى. وتكمن فائدتها في القدر الذي تسهم به في التعبير عن الحالة التي نواجهها، وفهم بعض الظواهر التي حدثت والتي ستحدث.
وإذا نظرنا إلى معالم اليقظة التي بدأت تدب في المجتمعات وعملية التحول، نكاد نلمح إرهاصات النهضة. إذ أن هذه المراحل ليست حدية. فليس انتهاء مرحلة يعني بداية مرحلة أخرى. لكن المراحل تتداخل وتبدو خيوط بعض المراحل مبكرة، ثم تنمو وتنضج في مرحلة أخرى بحيث تصبغ الفترة بطابعها.
هل لابد أن تمر أي حضارة بمرحلة من التخبط والعشوائية (طور الصحوة)؟
يقول رينه ريمون في تأريخه عن الثورة الفرنسية التي لا زالت عماد فرنسا الحديثة (الإخاء والمساواة والحرية): "فالثورة لم تكن على الدوام موفقة في إلهامها. فقد كانت مشاريعها على الدوام طوباوية (1)، وأحياناً تراجعية قهقرية" فالثورة لم تكن بكليتها متوجهة نحو المستقبل. ويقول في موضع آخر: " أوجبت الظروف – أي المخاطر الداخلية والخارجية والمقاومة التي كان على الثورة أن تواجه بها العدوان الخارجي والحرب الأهلية – القيام بتغيير كامل.
وهكذا نرى أن أي صحوة تمر بها أمة من الأمم تكون أشكالها التنفيذية الانطلاقية شبه فوضوية أو عشوائية في كثير من جوانبها.
موقف بعض الأمم من التحدي:
رغم هذه التحديات الضخمة – النفسية والفكرية والتنظيمية والمادية - فإن أمم الأرض بدأت تخرج تباعاً من هذا الطوق. فالصين والهند وآخرون لما يلحقوا بهم بعد ولكنهم على هذا الطريق إن هي إلا نماذج من هذا النوع الحي الشاهد على إمكانية الخروج من هذا المشهد التاريخي وعوائقه.
وإن دراسة بعض هذه النماذج في عجالة ليؤكد أن نهوض أي أمة أمراً ليس بمستحيل شريطة أن تمتلك إرادة التغيير.
التحدي
...
* على المستوى الصحي: كثافة سكانية هائلة (900مليون) – مجاعات – 100مليون مدمن – أمراض متوطنة (الرمد الحبيبي) – نسبة العمي كبيرة جداً.
* على المستوى الثقافي: جهل – تخلف تكنولوجي – انبهار بالغرب لدى الطبقات المثقفة.
* على المستوى السياسي: عرقيات كثيرة تريد الاستقلال وترفض التوحد – أجزاء مستعمرة للإنجليز – حرب الأفيون 1840م - حرق الإنجليز والفرنسيين لقصر الصيف عام 1860م - احتلال ياباني عام 1895م.
* على المستوى الاقتصادي: قيود اقتصادية عبر المعاهدات غير المتكافئة مع الغرب.
محصلة الاستجابة
...
تحرير الصين.
توحيد الصين.
تقدم تكنولوجي.
من أكبر القوى العالمية.
ونأخذ مثالاً لذلك التجربة الصينية:
موقف الأمة الإسلامية من التحدي عبر مسارها الحضاري:
ليست الأمة الإسلامية بدعاً من الأمم، بل ينطبق عليها هذا القانون كما ينطبق على غيرها، وقد مرت الأمة في مسارها الحضاري بسلسلة من التحديات تبعته سلسلة من الاستجابات (الفاشلة والناجحة) استطاعت معها التغلب على تلك التحديات. ومن هذه التحديات:
الفترة ... التحدي ... الاستجابة
من خلافة أبي بكر إلى نهاية فترة عثمان ... كيف يؤَمَّن قلب الدولة وعمقها الاستراتيجي؟ ... حروب الردة والفتوحات الإسلامية
من علي إلى القرن الثالث ... مع كثرة دخول العجم في دين الله وظهور الفرق الإسلامية كان التحدي هو: كيف تقنن قضية التعامل مع الكتاب والسنة؟ ... ظهور علم تقنين العلوم المساندة للعلوم الشرعية ( أصول الفقه – علوم السنة– علوم القرآن- اللغة العربية – مصطلح الحديث - ...)
جزء من خلافة الأمويين إلى العباسيين ... مع بدء تسرب علوم الحضارات الأخرى التي احتك بها المسلمون إليهم كان التحدي هو: كيف نستوعب تراث الأمم الأخرى ونحافظ على نقاء الإسلام. ... بدأت حركة ترجمة علوم الحضارات الأخرى ودراستها وانتشار المناظرات بين علماء المسلمين وغيرهم.
الخلافة العثمانية ... كيف يمكن التحرر من تراث الجبرية الصوفية؟ ... تصدي العلماء بالكتابة والمناظرة وإظهار الحجج ودرء الشبه.(5/335)
بعد سقوط الخلافة ... كيف ننتقل وننهض من حالة التخلف ونستعيد وحدتنا؟ ... ظهرت الصحوة التي تمثل أول طور من أطوار الاستجابة، فظهر محمد عبده وقاسم أمين والكواكبي ورشيد رضا وحسن البنا وغيرهم.
وهكذا يتبين لنا أن الأمة الإسلامية استطاعت بالفعل أن تتصدى لكثير من التحديات التي واجهتها على فترات مختلفة، وكان يتصدى لها في كل مرة رجال يتمتعون بإرادة قوية. غير أننا في تحدي العصر يجب أن لا ننسى فكرة (الوسيلة الذهبية) ، وأن أية محاولات فاشلة لا تعني اليأس من وجود حل، بل تعني أن الأمة في حاجة إلى إعمال تفكيرها لعلها تصادف الوسيلة الذهبية.
موقف الأمة الإسلامية من التحديات المعاصرة:
إن التحديات الأساسية التي تمر بها أمتنا اليوم يمكن بلورتها في ثلاثة تحديات:
1- التخلف: والتراجع عن ركب الأمم الأخرى في مجالات العلم والإنتاج. وهو حالة نسبية عل كل حال لا نستشعرها إلا إذا قارنا أنفسنا بمن يفوقنا ويتقدم علينا.
2- الاستعمار: وحالة "القابلية للاستعمار" أو "حالة الاستعمار": هما وجهان لعملة واحدة، أو قل أنهما السبب والنتيجة وإذا زال السبب بطلت النتائج المترتبة عليه في هذه الحالة. وهو على كل حال داء تتعدد أشكاله منذ القرن الحادي عشر إلى يومنا هذا، ولكن تفوقه الحقيقي لم يظهر إلا بعد الثورة الصناعية وآثارها العملاقة على الحياة الأوروبية وما خلفته من إمكانات الحركة والاتصال والقوة التدميرية، الأمر الذي أخل بالتوازن لصالح الغرب بشكل ضاعف من أعباء النهضة في الشعوب المستضعفة، وجعله -أي الاستعمار- قادراً على التدخل المبكر ضد خصومه من الأمم التي تريد الانفكاك من طريقه. ومع هذه القدرات الفائقة فإن أمم الأرض بدأت تخرج تباعاً من هذا الطوق فالصين والهند وآخرون لما يلحقوا بهم بعد ولكنهم على هذا الطريق إن هي إلا نماذج من هذا النوع الحي الشاهد على إمكانية الخروج من هذا الدور التاريخي وعوائقه.
3- التفتت والفرقة: حيث تم تفكيك وحدة الأمة ولحمتها وتمزيقها إلى دويلات صغيرة معزولة ضعيفة مهددة طوال الوقت.
ولا يمكن التصدي لهذه التحديات إلا بالعمل على الأربعة أصعدة التي تحدثنا عنها سلفاً: الصعيد النفسي، والفكري، والتنظيمي، والمادي.
التحديات الأساسية
التخلف
التفتت والفرقة
الاستعمار
وسوف نتناول استجابة الأمة الإسلامية للتحديات المعاصرة بشيء من التفصيل في الباب السابع.
النموذج الأول
هذا النموذج يعينك على استيعاب نظرية التحدي والاستجابة، وحفظ أهم ما فيها، وشرحها للآخرين.
التحدي
استجابة
تتبعه
فاشلة
ناجحة
صحوة
يقظة
نهضة
حضارة
تخلف
أعراض داخلية
الفوضى + التخبط
أعراض خارجية
القابلية للاستعمار
الوسائل الذهبية
الخلاصات
* إن التحديات هي سر نهضة الأمم، ولولا التحديات لما وجدت الحضارات.
* غالباً ما تؤثر التحديات على الصعيد النفسي والفكري والتنظيمي والمادي.
* أهم التحديات التي تواجه الأمة اليوم: التخلف، والاستعمار، والفرقة.
* إن مسار النهضة لا يكون أبداً في خط مستقيم، وسلسلة المحاولات الفاشلة تقدم الهدايا للباحثين عن الوسيلة الذهبية.
* الاستمرار في تجريب الوسائل الفاشلة لن يغير من الواقع. ولابد من أن تلعب القلة المبدعة دورها للعثور على الوسيلة الذهبية.
* تمر أي حضارة بأربعة أطوار: الصحوة، ثم اليقظة، ثم النهضة، ثم الحضارة.
* إن فهم نموذج أطوار الحضارة الأربعة يعين على استيعاب أسباب التخبط الذي يكون في مرحلة الصحوة، ويستخدم استخداماً إيجابياً كمؤشر على استيقاظ الأمة من سباتها. ومن ثم يعمل على إحياء الأمل والبعث النفسي في الأمة من جديد.
* آن الأوان لكي تدخل أمتنا مرحلة اليقظة، وتتحرك على بصيرة ووعي، مستفيدة من الأعمال التي كانت نتاج مرحلة الصحوة.
الباب الثاني
الحضارة
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
1. ما مفهوم الحضارة؟
2. أين بدأت الحضارات؟
3. ما العوامل المؤثرة في قيام الحضارات؟
4. هل من الممكن أن تظل حضارة ما في قمة مجدها دون أن تنازعها على القمة حضارة غيرها ؟ وما الدليل على ذلك؟
5. ما العلاقة بين الكثافة السكانية وقيام الحضارات؟
مفهوم الحضارة
يرى البعض أن الحضارة عبارة عن استقرار، وإنتاج مادي، ووجود ديني في المجتمع. فكل مجتمع تتوفر فيه هذه العوامل يقال عنه أنه قد أنشأ حضارة. فإذا كان المجتمع وثنياً لا يؤمن بأي دين من الأديان يُطلق عليها مدنية ولا يطلق عليها حضارة.
ونرى أن الأمر فيه سعة كبيرة. فعند العقلاء أن كل مجتمع استقر ونمى عالم أفكاره بشكل من الأشكال، وأبدع في مجالات العلم والعمران البشري يوصف بأنه قد نمت عنده حضارة، صغرت أم كبرت. فالحضارة عكس البداوة. ولأن الشيء بنقيضه يُعرف كان لابد من تعريف البداوة أولاً. فالبداوة مصطلح يطلق على البدو الذين يعيشون في قبائل بالصحراء، والبربر الذين يسكنون الجبال في جماعات عشائرية وأسرية، والتتار الذين يسكنون السهول في عصبيات قوية. وهؤلاء جميعاً لا يخضعون لقوانين متحضرة ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم. فهم قوم رحَّل لا يستقرون في مكان وبالتالي تفتقد البداوة التراكم المعرفي والفعلي فيبدأ البدوي من حيث بدأ أبوه، لا من حيث انتهى.
إن لاستقرار الإنسان ونضجه دوراً كبيراً في إيجاد ناتج تراكمي لجهده في حقبة من الزمان، وبنظرة واحدة لتراث الإنسان على الأرض، سنجد أمماً كثيرة خلّفت وراءها آثاراً عظيمة في العمران، والفلسفة، والقانون، والدين، والصناعة، والتجارة والفنون بقيت شاهداً على أن هؤلاء قد خرجوا من طور البداوة والارتحال، إلى طور الاستقرار والعطاء. وكل أمة خلفت خلفها تراثاً شاهداً على قدراتها فقد دخلت طور التحضر، مثل الحضارة الفرعونية وما خلفته من آثار وكتابات وحياة مدنية وفلسفات وعمران وفنون .. إلى غير ذلك، وقل ذلك عن الحضارات المشرقية الأخرى، وقل ذلك عن الحضارات التي قامت في اليونان أو روما .. إلخ. فهل نحتاج إلى كثير عناء في تصور معنى الحضارة؟ أو إلى فلسفة طويلة حول المصطلح؟!
نشأة الإنسان والهجرات البشرية
سنبدأ القصة، من حيث عُرف الإنسان علي الأرض: تشير الدراسات إلى أن الإنسان الأول، غادر موطنه الأول، الواقع في منطقة شرقي وشمال أفريقيا، وجنوب آسيا، والهند والصين، وجاوة. وبدأ ينتشر منذ مليون سنة عن طريق اليابسة فقط، فهو لم يعرف القوارب والسفن بعد .. ولعل سائلاً يسأل: فكيف عبر الناس إلى استراليا والشماليتين إذن؟
"يسود الاعتقاد بأنه خلال الدور الجليدي الأخير، كان منسوب البحر أدنى من منسوبه الحالي بحوالي 300 قدماً، بل إن البعض يرى أن منسوب سطح البحر انخفض أثناء زحف الجليد بمقدار 600 قدماً. ومن ثم كانت هناك معابر أرضية ربطت بين بعض القارات، واستطاع الإنسان الأول أن ينتشر انتشاراً برياً من مكان إلى آخر."(1)
ومع استخدام الإنسان للبحر من 5000 ق.م إلى 1500م (أي بداية الكشوف الجغرافية) تزايدت هذه الهجرات وتحرك من مواطنه الأصلية والواقعة في جنوب الجزيرة العظمي(2) متجهاً إلى الشمال.
وتركز الناس حول الأنهار والمناطق الخضراء في كل أنحاء العالم . أما الطابع العام لهذه الهجرات فهو في تلقائيتها وعدم تخطيطها. عكس الهجرات الأوروبية المنظمة في القرن الخامس عشر. "حيث كانت الهجرات الحديثة تتم عن طريق خطط مدروسة، وعن طريق تنظيم حكومي أو منظمات خاصة، وليس عن طريق مجهودات فردية."(3)(5/336)
أما تقديرات السكان في العالم في هذا الوقت ، فقد كان المجموع يصل إلى 400 مليون نسمة، يسكن آسيا 240 مليوناً وأوروبا 80 مليوناً وأفريقيا 70 مليوناً والأمريكتين حوالي 12 مليوناً وبقية العالم مليونان.
وبنظرة واحدة إلى الكثافة السكانية لأوروبا مقارنة بمساحتها ستجد أنها تتفوق على كل من قارة أفريقيا والأمريكتين، الأمر الذي سيكون له أثره بعد قرون طويلة (1).
ويجب أن نسجل هنا بعض القضايا الهامة :
1. إن من يظن أن الأوربيين امتلكوا الحضارة لأنهم أكثر ذكاء قد أغفل نقطة هامة، وهي أن موطن الإنسان الأصلي كان في الشرق، ثم توالت الهجرات، فلا يوجد جنس مفضل على آخر.
2. كانت الكثافة السكانية العالية في أوروبا من أهم أسباب الإبداع، إذ كلما كثر عدد السكان كلما قلت فرص العمل. فيزاد التحدي وتتعدد المواهب وتزداد المنافسة، والحرص على التميز. وهذا التحدي هو الذي يولد الإبداع. كما أن الكثافة البشرية بطبيعتها تؤدي إلى وفرة في الطاقات.
3. إن الكثافة السكانية العالية في القارة الأوروبية وقلة فرص العمل كانت من عوامل الطرد، مما أدى إلى الهجرات المنظمة من أوروبا إلى استراليا والأمريكتين للبحث عن مواطن جديدة للعمل.
قصة التتابع الحضاري
4000 ق.م
476م
حتى الآن
622م- الهجرة
1600م
3000 ق.م
- المصرية
-ما بين النهرين
(السومريون– البابليون -...)
الفارسية
اليونانية
الرومانية
الإسلامية
الغربية الحديثة
التاريخ
الحضارات
حضارة شرقية
حضارة غربية
2000 ق.م
1000 ق.م
ميلاد المسيح
1000م
2000م
4000 ق.م
1100 ق.م
612 ق.م
486 ق.م
2000 ق.م
330م
509 ق.م
1492م
يبين الشكل كيف أن أغلب الحضارات جاءت موافقة لأفول نجم حضارة أخرى كانت تأخذ منها أفضل ما فيها ثم تزيد عليها إبداعاً لتصنع حضارة جديدة متميزة.
إن معرفة تاريخ الحضارات في صورته الزمنية، يعطي القارئ شيئاً من الإحساس بأن العالم لم يبدأ من هذا القرن، بل إن صنع البشرية فعل تراكمي، يضاعف في كل مرة من رصيد البشرية، ويجعل كل قفزة جديدة، تبدو وكأنها القفزة التي لا تضاهيها قفزة أخرى. وإليك تعاقب الأمم والحضارات وتداولها بين الشرق والغرب:
إن نظرة واحدة إلى ما خلفته الحضارات المصرية والآشورية والكلدانية والفينيقية والفارسية في الكتابة والبناء والطب والفلك، وفي التراث الفلسفي والديني تؤكد لنا مبدأ التلاقح الحضاري للمتجاورين. وتبين كيفية تراكم المعرفة الإنسانية لتعطي في كل مرة نبضاً جديداً للحياة. وينطبق الأمر على اليونان الذين جاوروا جغرافياً كل الحضارات التي ولدت حول وقرب البحر الأبيض المتوسط، فورثوا تراث المشرق العظيم ثم أضافوا من إبداعهم إبداعاً وقدموا للبشرية فكراً وعلماً سيرثه أهل المشرق بعدها ليعيدوا النظر فيه وينقدوه وينظموه عبر فلاسفتهم العظام كابن رشد وابن سينا وغيرهم. ثم يبدع الشرق قفزته العلمية التي ستنقل البشرية للعصور الحديثة في مختلف العلوم، لتستلم الأمم الغربية هذا التراث فتضيف له ما شاء الله لها ثم سيرثها من يرثها وهكذا.
التقاطع التاريخي
مما سبق يتبين أن نسيج الحضارة صاغته أمم عدة. ولا عجب أن اللاحق يزيد على من سبقه، ولكنه قطعاً لا يبدأ من فراغ. كما يتضح أن الحضارات القديمة هيأت للحضارة العربية الإسلامية كما هيأت الحضارة العربية الإسلامية للحضارة الغربية أرضيتها، رغم كل ادعاءات المبهورين بحضارة الغرب اليوم. وكما ستهيئ الحضارة الغربية الحاضرة الأرضية لحضارة الشرق القادمة بإذن الله. ولطالما التقت الحضارات ببعضها سلباً وإيجاباً ولكن ما يعنينا نحن هنا هو تقاطعنا الحضاري مع الغرب.
إنه تقاطع تاريخي عميق بين الشرق الإسلامي والغرب، على مساحة الأرض، وعلى مساحة الفكر والتوجيه والقيادة. أمتان، ومشروعان يتدافعان بسبب طبيعتهما. فعلى الجانب الإسلامي أمة سادت الدنيا لمدة عشرة قرون (622م – 1566م) منها ستة قرون تبدأ من القرن السادس إلى الثاني عشر وسيادتها شبه كاملة لا يطمع فيها طامع، وأربعة قرون كانت لها فيها الكلمة الفاصلة وهي ترد الحروب الصليبية منكسرة وتدخل إلى قلب أوروبا لا تلوي على شيء. وعلى الجانب الآخر تقف أوروبا اليوم بكتلتها البشرية العملاقة، وإرثها الديني والوثني، مدججة بمبتكرات القرون الثلاثة الأخيرة الحاسمة في العلم وتطبيقاته، لتنتصر لهزائمها في عشرة قرون، وتسود العالم من أقصاه إلى أقصاه، ولا تعتقد بوجود المقاومة والاستعصاء، إلا فيما أسمته بالخطر الأخضر، هذا الجزء من العالم الذي يبدو مستعصياً لسبب أو لآخر على الذوبان، في حضارة المنتصر.
ويجب أن نسجل هنا بعض القضايا الهامة :
1- إن كل الحضارات إنما قامت في مكان متقارب حول البحر الأبيض المتوسط فهي ليست حضارات متباعدة. وإن ادعاء أن إبداعها خالص غير متأثر بالآخرين أمرٌ تنقصه العلمية. فقد كان الاتصال فيما بين هذه الحضارات في الحرب والسلم كان قائماً فالتلاقح بينها كان مستمراً.
2- إن سبعاً منها هي حضارات شرقية، فالشرق هو منبت الحضارات على سبيل الحقيقة لا على سبيل الاستعلاء الجغرافي، وهو الأغزر إنتاجاً في مجالات عدة. ولقد عرفت أقدم هذه الحضارات – وهي الحضارة المصرية - الهندسة والمعمار وفنون الزراعة والري والطب، وكونت لها فلسفة حول الإله والبعث والحساب، وكتبت، ونقشت، ولونت. بينما اختفى الغرب عن الخارطة الحضارية، حتى ظهور الحضارة اليونانية. فادعاء أن العلم بدأ في الغرب اليوناني غير صحيح.
3- إن تنظيم الجيوش وتدريبها كان قائماً في كل الحضارات وقوتها العسكرية خضعت لأمور كثيرة فليس كل من انتصر عسكرياً كان الأكثر تحضراً. ولا ينبغي أن يستشهد على عظمة الحضارة الرومانية بقوة الجيش الروماني وتوسعه بقيادة الإسكندر المقدوني. فإن الحضارة الرومانية عندما انحسرت لم تترك شيئاً يذكر في تشكيل عقلية شعوب تلك المناطق. بينما نجد الحضارة الإسلامية تستوعب الشعوب في ظلالها. فتنتشر اللغة العربية، بل وتدافع هذه الشعوب التي دخلت في الإسلام حديثاً عن حمى الدولة الإسلامية. هذا مع قلة أعداد الفاتحين المسلمين بالمقارنة بالجحافل الجرارة للمستعمر الروماني. ولا تزال شعوب المستعمرات الرومانية السابقة تعتنق الإسلام. هنا تأتي الفاعلية الحضارية كمعيار وليست القوة العسكرية. كما أن الانتصار لا يعني بالضرورة التحضر. فقد ينتصر المؤمنون بأفكارهم، والمستعدون للتضحية في سبيلها،و الذين يجمعهم قائد مقدام، قد ينتصرون على الشعوب الأكثر تحضراً. فها هم التتار يجتاحون العالم الإسلامي المتحضر. بينما كانوا قبائل تحيا البداوة. كذلك سقط الرومان – الأكثر تحضراً - في أيدي البرابرة.
6- إن بلاد الإغريق دخلت تحت حكم الفرس في عهد سطوتهم. فقد شربت من حضارة
المشرق مباشرة.
7- إن بلاد اليونان لا تشكل من أوروبا إلا نقطة في بحر وكذلك روما. فادعاء أن أوروبا كل أوروبا مهد للحضارة وهم لا صحة له.
8- إن امتداد الحضارة الرومانية كان شرقياً، أما ما وراء حدود روما من الشعوب بكل أقسامها (الجرمان والساكسون...) حسب التعبير الروماني هم قبائل برابرة. وكان الرومان يستعلون على شعوب أوروبا، وينظرون إلى من خارج أسوار روما أنهم متوحشون، ولم يكن الرومان يرون بقية أوروبا امتداداً حضارياً لهم. وكان سقوط الرومان في أيدي البرابرة بمثابة نكبة للحضارة الغربية، إذ بدأ بعدها ما يسمى بالعصر الوسيط أو "عهود الظلام".(5/337)
بل إن أوروبا لم تتعرف على التراث اليوناني إلا عبر الحضارة الإسلامية. واكتشاف قيمة التراث اليوناني في الفلسفة والمنطق لم يتم إلا عن طريق الفلاسفة المسلمين كابن رشد وابن سينا وغيرهم، الذين درسوا للغرب كتابات أرسطو، ونقحوا التراث الغربي وقدموه لأوروبا. إن التراث اليوناني يعد اكتشافاً إسلامياً، تم حفظه وتنقيحه وإعادة إنتاجه وتصديره للإنسانية عن طريق المسلمين.
البندول الحضاري
تصور الكثيرون - وبسبب ضغط اللحظة الحاضرة - أن الحضارة بضاعة غربية، ونحب أن نؤكد حقيقة بسيطة وهي أنّ الشرق الذي يندب اليوم حظه، وينظر بإعجاب إلى الغرب المتفوق؛ يجب أن لا تغيب الحقيقة عن عينيه، وهي أن منبت الحضارة كان هنا في الشرق لقرون متطاولة، فهذه الأمم المتراجعة اليوم، كانت يوماً تعتلي قمة الحضارة البشرية، ومنها بدأت تهب رياح التغيير على الإنسانية. ومع ذلك فإن حركة البندول الحضاري لم تتوقف عندها. فما هو هذا البندول؟
إن التاريخ ينبئنا أن الحضارات العظمى قد بدأت في مصر، وبلاد ما بين النهرين، وفارس وكلها حضارات شرقية، وما لبث البندول أن تحرك إلى الغرب ليقرع أبواب اليونان وروما، ثم غادر الغرب لقرون متطاولة تقرب من ألف عام ليستقر في مكانه في الشرق على يد الحضارة الإسلامية، وهو اليوم في الغرب ثانية على يد الحضارة الأوروبية، وهو عائد إلى مبتدئه مهما بدا للإنسان- كما
هو الحال في كل الفترات السابقة - أن حركة البندول قد انتهت وأنه قد توقف وإلى الأبد في مكان واحد لا يغادره.
الشرق
الحضارة المصرية القديمة.
حضارات ما بين النهرين.
الحضارة الفارسية.
الحضارة المرتقبة
الشرق
الغرب
الغرب
الشرق
الحضارة الغربية
الحديثة
الشرق
الغرب
الشرق
الغرب
الحضارة اليونانية.
الحضارة الرومانية.
الحضارة الإسلامية
النموذج الثاني
تراكم معرفي وإبداع جديد
تقاطع تاريخي
تقاطع تاريخي
تقاطع تاريخي
نشأة الإنسان
(في المشرق)
هجرات متتابعة غير منظمة
استيطان حول الأنهار
قيام حضارات شرقية
(المصرية –الآشورية –الكلدانية - ...)
قيام حضارات غربية
(اليونانية – الرومانية)
قيام حضارة شرقية
(الإسلامية)
قيام حضارة غربية
(الحديثة)
هجرات متتابعة منظمة
الحضارة المرتقبة
(شرقية)
تراكم معرفي وإبداع جديد
تراكم معرفي وإبداع جديد
تراكم معرفي وإبداع جديد
تقاطع تاريخي
تراكم معرفي وإبداع جديد
هذا النموذج يعينك على استيعاب تسلسل وتلاقح الحضارات.
الخلاصات:
* إن مفهوم الحضارة عكس مفهوم البداوة. وأي أمة تنتقل من طور الترحال والبداوة إلى طور الاستقرار والإضافة في المجالات العلمية والتطبيقية فهي أمة متحضرة.
* إن معرفة تاريخ الحضارات في صورته الزمنية، يعطي القارئ شيئاً من الإحساس بأن العالم لم يبدأ من هذا القرن، بل إن صنع البشرية فعل تراكمي، يضاعف في كل مرة من رصيد البشرية.
* إن من يظن أن الأوربيين امتلكوا الحضارة لأنهم أكثر ذكاء قد أغفل نقطة هامة، وهي أن موطن الإنسان الأصلي كان في الشرق، ثم توالت الهجرات، فلا يوجد جنس مفضل على آخر.
* كانت الكثافة السكانية العالية في أوروبا من أهم أسباب الإبداع.
o إن الاتصال فيما بين الحضارات في الحرب والسلم كان قائماً فالتلاقح بينها كان مستمراً. ولا توجد حضارة منفصلة كلية عن التي قبلها.
* إن تنظيم الجيوش وتدريبها كان قائماً في كل الحضارات وقوتها العسكرية خضعت لأمور كثيرة فليس كل من انتصر عسكرياً كان الأكثر تحضراً.
* لم تتعرف أوروبا على التراث اليوناني إلا عبر الحضارة الإسلامية.
* إن فكرة البندول الحضاري تؤكد أن حركة البندول لا تتوقف عند أمة بعينها، بل إن تداول الحضارات قائم ومستمر بين الشرق والغرب. والبندول عائد للشرق لا محالة.
الباب الثالث
تقسيم التاريخ
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
* كيف قسم علماء الغرب التاريخ البشري؟
* ما هي النقاط المفصلية في تاريخ البشرية من وجهة نظر المؤرخين الغربيين؟
* لماذا اختار المؤرخون هذه الأحداث كنقاط مفصلية بين كل مرحلة وأخرى من مراحل التاريخ البشري؟
* ما الذي تستنبطه من هذا التقسيم بنقاطه المفصلية؟
* ما الذي تستفيده من معرفة تقسيم التاريخ؟
يقسم المؤرخون الغربيون(1) التاريخ إلى قسمين كبيرين يفصل بينهما "اختراع الكتابة" وهذا القسمان هما:
1. عصور ما قبل التاريخ
وتبدأ بأول وجود للإنسان على الأرضٍ قبل مليونين من السنين على وجه التقريب إلى أن توصل الإنسان "لاختراع الكتابة" في الألف الرابعة قبل الميلاد (ميلاد المسيح).
2. عصور التاريخ
وتبدأ من 3500 ق.م. حتى اليوم وتقسم إلى ثلاثة أقسام حسب التصور الغربي وهي:
* التاريخ القديم: منذ 3500 ق.م. إلى سقوط روما 476م على يد البربر(2) الجرمانيين.
* التاريخ الوسيط: منذ سنة 476م إلى سقوط القسطنطينية 1453م (أي ما يقرب من عشرة قرون).
* التاريخ الحديث: ويبدأ من سقوط القسطنطينية إلى يومنا الحاضر.
ونلحظ من هذا التقسيم أن المؤرخين الغربيين اختاروا ثلاث نقاط مفصلية لتكون الفاصل بين مرحلة وأخرى وهي:
1. اختراع الكتابة (3500 ق.م.).
2. سقوط روما سنة 476 م على يد قبائل البربر الجرمانيين.
3. سقوط القسطنطينية سنة 1453م على يد محمد الفاتح.
أولاً: اختراع الكتابة
اعتبر المؤرخون الغربيون اختراع الكتابة حادثاً هاماً جداً وفاصلاً بين مرحلتين كبيرتين في تاريخ البشرية، وهما: مرحلة ما قبل التاريخ ومرحلة التاريخ القديم. وذلك لأن هذا الاختراع يمثل بداية عصر التدوين والتأريخ وهو ما يتيح للبشرية معرفة الأحداث التي مرت بها في عصورها القديمة وتتبع صعود وهبوط الحضارات والأحداث الكبرى التي أثرت في مسار التطور البشري.
ثانياً: سقوط روما سنة 476م
يعتبر المؤرخون الغربيون سقوط روما على يد البربر الجرمانيين من الأحداث الهامة والفاصلة في حياة البشرية، والتي تعد فاصلاً بين مرحلتي التاريخ القديم والتاريخ الوسيط. وهنا لابد أن ننتبه إلى عدة أمور:
* أن أوروبا تنظر إلى العالم من خلال منظارها، وترى أنها رائدة البشرية وأن الأحداث التي مرت بها القارة الأوروبية هي أهم الأحداث في تاريخ البشرية. ونشير هنا إلى أن حدث سقوط روما قد يكون حدثاً مفصلياً في التاريخ الأوروبي ولكنه ليس بالضرورة حدثاً حول مجرى التاريخ البشري كله خاصة وأنه عاصر هذا الحدث العصر الذهبي للحضارة الهندية مثلاً والذي تجلى في سعادة الشعب الهندي وثرائه وإشاعة الأمن والاستقرار وتشييد المدن
الكبرى والمستشفيات وغيرها من مؤسسات الإحسان التي امتلأت بها البلاد، وغصت الجامعات والأديرة بالطلاب وامتازت القصور الملكية بالفخامة والعظمة، وهكذا نرى أن هذا الحدث الذي تراه أوروبا فاصلاً في حياة البشرية لا يعد كذلك بالنسبة للحضارة الهندية القديمة.
* اعتبر المؤرخون الأوربيون سقوط روما على يد البربر الجرمانيين خطباً جليلاً رغم أن هذا السقوط تم على يد أوروبيين أيضاً، وهذا يوضح طبيعة الحضارة التي كانت سائدة في أوروبا في هذا الوقت. فهي لم تكن حضارة ؛ بل كانت بداوة تغير فيها القبائل على المراكز الحضرية.
ثالثاً: سقوط القسطنطينية سنة 1453م
يعتبر هذا الحدث فاصلاً بين مرحلتين وهما التاريخ الوسيط والتاريخ الحديث. ولابد أن نعلم أن التاريخ الوسيط يطلق عليه في التاريخ الأوروبي عصر الظلام، بينما كان في التاريخ الإسلامي هو عصر الازدهار بل العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.(5/338)
وقد امتد هذا العصر عشرة قرون كاملة من التخلف والمعاناة والجهل والفقر بالنسبة للتاريخ الأوروبي، ومن الازدهار والعلم والانتصارات بالنسبة للحضارة الإسلامية.
النموذج الثالث
يوفر هذا النموذج صورة أو إطاراً تاريخياً كاملاً يسهل على القارئ تذكره واستحضاره أثناء قراءته للتاريخ.
ظهور الإنسان على الأرض (قبل مليونين سنة)
تعلم الإنسان الكتابة (3.500 قبل الميلاد)
سقوط روما (476م)
سقوط القسطنطينية (1453م)
اللحظة الحاضرة
عشرة قرون
خمسة قرون
قبل التاريخ
التاريخ القديم
التاريخ الوسيط
التاريخ الحديث
الباب الرابع
المسار الأوروبي
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
1. ما أهم الحضارات التي شهدتها أوروبا؟
2. ما النقاط المفصلية في التاريخ الأوروبي التي تفصل بين كل من العصر القديم والعصر الوسيط وعصر النهضة؟
3. لماذا اختار المؤرخون هذه الأحداث كنقاط مفصلية بين كل مرحلة وأخرى من مراحل التاريخ الأوروبي؟
4. لماذا يطلق الأوربيون على العصور الوسطى "عصور الظلام"؟
5. متى بدأ عصر النهضة الأوروبية؟
6. ما أهم الأحداث التي واجهتها أوروبا في عصر نهضتها؟
7. كيف تطور الفعل الحضاري في أوروبا؟
أولاً: الحضارة اليونانية
لقد ورث اليونان الحضارة الفينيقية وما وراءها من تراث ممتد إلى حضارة مصر وحضارة ما بين النهرين. وسنتوقف لنتناول في عجالة بعض المعلومات عن اليونانين.
اليونان والفكر والعلم والتنظيم
اليونان أو الإغريق شعب صغير من شعوب البحر الأبيض المتوسط في جانبه الأوروبي، سينتسب له الغرب فكرياً وحضارياً بعد ثلاثة عشر قرناً من الانقطاع، وسيصبغون بمصطلحاته الحياة الفكرية المعاصرة، رغم أن الغرب لم يعرف تراث اليونان إلا من خلال المسلمين في فجوة تزيد عن عشرة قرون.
ولقد بدأ ظهور اليونان في القرن السادس قبل الميلاد ومرت دولتهم بمرحلتين: الدولة اليونانية الأولى وعاصمتها أثينا .. والدولة اليونانية الثانية وعاصمتها مقدونيا، وهي التي سينطلق منها الإسكندر(1)(336 ق.م.) ليكون إمبراطوريته التي ستشمل مصر وبلاد فارس، وسيقوم خلالها بدمج الحضارة اليونانية بالحضارة الفارسية والمصرية، مما سينتج لنا الحضارة الهيلينية التي مزجت بين الحضارتين اليونانية والشرقية، والتي ازدهرت خلال القرن الخامس والرابع ق.م. فالحضارة اليونانية ليست وليدة إبداعها الخاص بها فحسب؛ بل هي مزيج ثلاث حضارات معاً: الحضارة الفارسية والحضارة المصرية والحضارة اليونانية. ثم سيدور الزمن دوره وسيسقط اليونان على يد جيرانهم الرومان
وقد قدم اليونان للبشرية إبداعهم في مجالات عدة، وكان أكثرها أثراً في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية ثم الرياضيات والهندسة والطب.
ثانياً: الحضارة الرومانية
والرومان هم سكان روما وسيبدأ ظهورهم على المسرح التاريخي سنة 509 ق.م. ليخضعوا لهم الشعوب الإيطالية واليونان الكبرى كذلك، ثم ليخضعوا لهم قرطاجة(1) -المستعصية عليهم - لاحقاً في سنة 146 ق.م.
ويهمنا الوقوف على التراث السياسي الذي خلفه الرومان وذلك لمعرفة بعض الخطوط الخاصة بالتراث الغربي فيما يتعلق بثلاثة أمور:
1. الانتخاب ومتعلقاته.
2. حق الثورة ومطالب العدالة.
3. وجود الدين والوثنية في أوروبا.
وسنبدأ من حيث التقسيم الطبقي للمجتمع الروماني، وهو على كل حال امتداد للتراث اليوناني، فاليونان كانوا يقسمون المجتمع إلى طبقات عدة والمثال الإسبارطي هو الذي سنستخدمه هنا لبيان الفكرة الطبقية في المجتمع الروماني وريث اليونان:
طبقة العبيد
طبقة العامة
طبقة المواطنون
تقسيم المجتمع الروماني
* طبقة المواطنون: وهم فقط أصحاب الثروة، يملكون الأرض، ويعيشون من إنتاجها.
* طبقة العامة: وهم السكان الأصليون، وصغار الملاك ويعملون في خدمة الطبقة الأولى ويخيم عليهم الفقر، ولكن ميزتهم أنهم لا يباعون ولا يشترون (أحرار).
* العبيد: وهم الأكثرية الساحقة من السكان، يعملون في خدمة المجتمع، وهم سلعة للبيع والشراء.
1) الانتخاب ومتعلقاته
والرومان بدأوا دولتهم بإقامة جمهورية أرستقراطية، تحكمها صفوة من العسكريين والأشراف. وهؤلاء القلة هم من يطلق عليهم مصطلح "الشعب السياسي" اليوم. ويتكون منهم مجلس الشعب، أو بمعنى آخر هؤلاء هم المواطنون الذين لهم حق الانتخاب، ولاحظ هنا ظهور مبدأ الانتخاب وهو سيكتسب أهميته في عصرنا.
2) حق الثورة ومطالب العدالة
هنا يجب تسجيل خط آخر في التراث الروماني وهو مبدأ نضال العامة (حق الثورة أو حق المشاركة الكاملة) فلقد ثار العامة بسبب حرمانهم من الحقوق السياسية حتى تمكنوا من ذلك في سنة 366 ق.م. وحصلوا على كامل حقوقهم في الانتخاب والترشيح لمنصب الحاكم أو القنصل، كما كان يسمى في النظام السياسي وقتها. وعلى ذلك فقضية المطالبة والمساواة خط يجب تسجيله في التراث الروماني.
ثم سلبت هذه الحقوق مرة أخرى على يد يوليوس قيصر، الذي أعاد الملكية بنظام مطلق. وقد قتل الرجل في سنة 44 ق.م. وخلفه بعد حين الإمبراطور أغسطس(1) (31ق.م.) الذي أعاد توحيد الإمبراطورية بعد أن تمزقت في عهد من سبقه. ورغم سلب هذه الحقوق إلا أن العقلية الأوروبية قد تأسست فيها بذور قضيتين هامتين: الانتخاب وحق الثورة والمطالبة بالعدالة السياسية.
3) وجود الدين والوثنية في أوروبا
ولد المسيح في عصر الإمبراطور أغسطس. الذي بدأ حكمه سنة 31 ق.م. ولم يُعترف بالديانة المسيحية في الدولة الرومانية إلا في عهد الإمبراطور قسطنطين 324م ، حيث ساوى بينها وبين الوثنية وهي قضية في غاية الأهمية، فلاحظ هنا مجدداً أن الدين والوثنية سيسيران معاً في أوروبا المعاصرة وسيعلو كعب الكنيسة خلال العصور الوسطى (عشرة قرون) ثم سينقلب الحال لصالح الوثنية في العصور الحديثة.
ونعود لتاريخ الرومان. فبعد أن تبنت روما المسيحية، قرر الإمبراطور قسطنطين سنة 324م ترك روما والانتقال لقرية بيزنطة (القسطنطينية لاحقاً)، مما يعني عدم استمرار الإمبراطورية الرومانية على وحدتها، ومع نقل العاصمة إلى موقع جديد. ستصبح قرية بيزنطة اليونانية القديمة الواقعة على البسفور - والتي نعرفها اليوم باستانبول - عاصمة الإمبراطورية، وسيطلق عليها الإمبراطور قسطنطين اسم القسطنطينية نسبة إليه (سنة 330م) وستصبح عاصمة موحدة للإمبراطورية بدلاً من روما. ولكن الإمبراطورية ستنقسم إلى إمبراطوريتين لاحقاً، غربية وعاصمتها روما، وشرقية وعاصمتها القسطنطينية، وبذلك ستكون لروما عاصمتان، وسيكون بين العاصمتين عداءً وندية لا ينتهيان، وستصبح العاصمة الرومانية روما عرضة للهجوم المستمر. بل وستتطور الأحداث لتنشأ عن ذلك مشكلة أخرى أن الكنيسة ستنقسم أيضاً إلى كنيستين: كنيسة شرقية وأخرى غربية.
أوروبا بين هزيمتين
1- سقوط روما
فستهاجم روما الضعيفة اقتصادياً وعسكرياً من قبل كل القبائل الشرسة المحيطة (فرنجة / قوط / هون) لتسقط 476م على يد الجرمان وتدخل أوروبا العصر الوسيط أو كما أطلق عليها الغرب عصور الظلام.
2- سقوط القسطنطينية
وبعد عشرة قرون من سقوط روما على يد الجرمان ستسقط القسطنطينية 1453م على يد محمد الفاتح لتنتهي الإمبراطورية الرومانية ويهاجر علماؤها إلى أوروبا الغربية ناقلين معهم علومهم وفنونهم. ليبدأ الغرب دورة جديدة من الحياة.
ثالثاً: القرون الوسطى(5/339)
القرون الوسطى (رحلة التيه) أو طور التشكل: وهي تمتد من 473م – 1453م. لاحظ أنها تقع بين سقوط روما وسقوط القسطنطينية. وسيسود القارة الأوروبية خلالها التخلف الشديد والفقر والأوبئة. وهي فترة سيسودها الجرمان وهم القبائل التي ستشكل أوروبا ويشمل الجرمان الجوت (الدانمارك)، الأنكلز والساكسون (بريطانيا)، الفرنج (فرنسا)، الفندال (بحر البلطيق) القوط (روسيا) وسيُسقط قسم من الجرمان روما 476م. وستنقسم أوروبا خلال هذه الفترة لمدن متخلفة يسودها اقتصاد قروي ضعيف وسيقوم على ذلك النظام الإقطاعي المشهور، وستعصف بأوروبا الحروب والانقسامات والأوبئة وسيحاول شارلمان توحيدها سنة 800م، وينجح في ذلك لمدة ثمانية أعوام فقط، ثم تعود للتفكك بعده 814م، وسينشر الفايكنغ الاسكندانفيون الدمار وما أن تنتهي هذه الحقبة حتى تنطلق أوروبا نحو الشرق فيما عرف بالحروب الصليبية.
الحروب الصليبية
وتستمر الحروب الصليبية فيما بين 1097م-1291م لتنتهي كل الحملات بفشل ذريع وتعود منكسرة إلى أوروبا. ولكن المكاسب الجانبية التي حققها الغرب منها ستظهر لاحقاً. حيث ستعود أوروبا بنظرة جديدة، وعلوم جديدة، وتصورات جديدة لتضع بذور النهضة في أوروبا.
تشكل أوائل الكيانات الأوروبية
* إنكلترا
تبدأ بمهاجمة الأنكلز والساكسون لها منذ القرن الخامس الميلادي وتسقط في يدهم في نهاية القرن السادس لتقوم فيها سبع ممالك ثم يحتلها الفايكنغ (النمساويون) 1016م-1035م، ثم تستعاد 1042م-1066م ومنذ 1066م ستشق بريطانيا طريقها بفضل التطور المستمر في نظامها السياسي لتصبح من أقوى الدول مع نهاية القرون الوسطى.
* فرنسا
تتشكل على يد كلوفيس 486م-511م الذي يحولها - على خلاف أوروبا - لتبعية الكنيسة الرومانية (مبدأها أن المسيح ثالوث متساوٍ من جميع الوجوه، فالأب يساوي الابن يساوي روح القدس والثلاثة واحد والواحد ثلاثة) وهو ما يعرف بالمذهب الأثينوس. وستدخل فرنسا في اضطرابات مستمرة ليحكمها سنة 714م شارل مارتل الذي أوقف المد الإسلامي في معركة بواتيه 732م ثم يأتي شارلمان الذي ستستمر أسرته في الحكم إلى 987م وهي فترات مليئة بالاضطرابات لتحل محلها أسرة كابيه إلى قيام الثورة الفرنسية 1789م.
* أسبانيا
حكمها القوط منذ سنة 420م وسقطت في أيدي المسلمين سنة 711م وتحولت إلى دولة عربية حتى سنة 1492م حيث سينجح الغرب في استرجاعها بعد هزيمة المسلمين وتعود أسبانيا إلى القوط وستنطلق البرتغال وأسبانيا بعدها فيما عرف بالكشوف الجغرافية، وبعدها تصل هذه الكشوف إلى أمريكا، وستصبح أسبانيا إمبراطورية عظيمة بهذه الثروات ويستمر ذلك المجد طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ذلك هو المسح السريع للتاريخ الأوروبي ومعالمه الكبرى حتى نهاية العصور الوسطى.
النظام الاجتماعي الأوروبي في العصور الوسطى
طبقة الفلاحين
طبقة رجال الدين
طبقة النبلاء
الملك
تقسيم المجتمع الأوربي في العصور الوسطى
الملك والكنيسة (العلمانية والدين)
الملك والكنيسة أو ثنائية العلمانية والدين - سمها ما شئت- ستطبع الحياة الأوروبية في كل تاريخها. فعلى رأس الدول الأوروبية في العصور الوسطى يقف الملك ويليه:
* النبلاء
وهم من توزع عليهم الأرض، ليقوموا بدورهم بتوزيعها على ملاك أصغر حسب نظام الإقطاع. والأرض المقطوعة يعمل بها الفلاحون والعبيد، ليطعموا السادة النبلاء، الذين تتركز مهمتهم في مساعدة الملك في حروبه.
* رجال الدين
ووظيفتهم الدعاء وتسكين العوام وبث الروح المسيحية في الفرسان.
* الفلاحون
وظيفتهم الخدمة للنبلاء ورجال الدين وتوفير احتياجاتهم.
الكنيسة وتطورها في أوروبا
مع سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب 476م تعاظم دور الكنيسة في الحياة المدنية لتحل محل الدولة بالكامل في عهد البابا غريغيروس الأول (590-604م).
الكنيسة والتعليم
مع شيوع الاضطرابات ستقوم فكرة الأديرة. و قد أخذت من صعيد مصر وانتشرت في أوروبا. وستتحول إلى مراكز نشر للمسيحية بين الشعوب الأوروبية الوثنية. وستقوم بتعليم المنتسبين اللغة والكتاب المقدس وشيئاً من الحساب. وداخل هذا البناء المركب من الملك والنبلاء والبابا في القمة وجموع الشعب في القاع كان الصراع محتدماً طوال العصور الوسطى.
الكنيسة والصراع مع الملوك
فمنذ بداية القرن الحادي عشر حاول غريغريوس السابع منع تدخل الملوك في تنصيب رجال الدين، الأمر الذي كان يعني تحكمهم في الكنيسة، فحرًّم غريغريوس ذلك بقرار عام 1075م، حتى خضع الملك سنة 1122م، وتنازل عن حقه في تسليم الصولجان للأسقف عند توليته وظيفته، مكتفياً أن يكون له صوت في الاختيار، ولكن ذلك لم يحسم النزاع الذي استمر وانتهى بانتصار الملوك على الكنيسة في القرن الثالث عشر.
رابعاً: بذور عصر النهضة
قلنا أن القرون الوسطى تبدأ مع سقوط روما وتنتهي بسقوط القسطنطينية. وتمتد من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر، أي ما يقرب من عشرة قرون. ورغم أن القرون الخمسة الأولى تميزت بالانحطاط الشديد في معظم المجالات، في الدين، والعلم، والاقتصاد والسياسة، والاجتماع، إلا أن خطاً صاعداً خجولاً سيظهر منذ بداية القرن الحادي عشر وسيلقي ببذور متعددة في الأرض الأوروبية، ستظهر آثار ذلك في القرن السادس عشر وما بعده. وحتى يمكن تخيل الإطار العام للصورة والتعرف على البذور الجنينية التي ساهمت في نهضة أوروبا، نبدأ مع الإمبراطورية الرومانية وبشكل تجريدي يمكن تلخيص هذه البذور في:
البذرة الأولى:
لقد كانت روما في نظر الأوروبيين هي العَظَمَةُ والعلم والتقدم، فلما دخلتها المسيحية أصبحت هي أيضاً العاصمة المقدسة ويمكن تبسيط الصورة:
روما العظيمة + روما المقدسة = روما العظيمة المقدسة رمز الوحدة الأوروبية ومع الوقت ستفقد روما خصائصها مثل كل الحضارات فلا النشاط والمبادرة ولا الجند والحرب سيبقيان ولو وضعنا ذلك في معادلة أخرى لظهرت بهذا الشكل:
روما العظيمة المقدسة – النشاط والمبادرة – القوة العسكرية = روما الكسولة غير المحاربة المعتمدة على الشرق في الغذاء وعلى البرابرة لحماية حدودها. (لاحظ علامة الطرح [-] وعلامة [=] )
والباقي هو تحصيل حاصل فبجمع المعادلتين سنكون أمام روما المنهزمة التي تسقط تحت يد البرابرة (جنودها المرتزقة سابقاً).
ثم تبدأ مرحلة التفتت لتظهر فرنسا، وأسبانيا، وإيطاليا، ثم يأتي شارلمان 800م لمحاولة إعادة حلم الوحدة فيوحد الإمبراطورية ثانية لفترة قصيرة ومع شارلمان نقف قليلاً للتأمل، فلا شك أن الوحدة السياسية أمر عظيم ولكن اقتصاد بلاده كان اقتصاداً قروياً يعتمد على القرية والزراعة فيها، وهو ما سيعرف بالإقطاع أو الاقتصاد الموضعي ويمكن صياغة المعادلة كالتالي:
العظمة السياسية [ممثلة في الوحدة + الاقتصاد المجزأ (القروي)] = السقوط والتفتت للدولة ثانية، فالأعمال العظيمة تحتاج إلى موارد عظيمة واقتصاد قوي. وهو أمر لا يوفره الاقتصاد الريفي المتواضع. فكانت النتيجة الحتمية سقوط الدولة وتفتتها. لكن حلم الوحدة سيظل عميقاً في أوروبا، فرغم كل الأهوال التي ستمر بها أوروبا من حروب طاحنة ومشاحنات داخلية دائمة كما سنرى لاحقاً. فإن الحلم ظل قائماً إلى القرن العشرين ليتمثل في تحالف عسكري ووحدة اقتصادية اندماجية لها ما بعدها ألا وهي الوحدة الأوروبية المرتقبة.
البذرة الثانية:(5/340)
الصراع بين الملكية والكنيسة وطرح مسألة: أيهما أسمى الكنيسة أم الملك والاحتكام للجمهور، فرغم دموية هذا الصراع وعنفه ولكن الحوارات حوله ستهيئ المجتمع ليقرر بنفسه لمن سينحاز، كما سيعتاد المجتمع استخدام الملكات العقلية وسيمكن الناس من التعامل مع المنطق السياسي.
البذرة الثالثة:
منذ بداية القرن الحادي عشر ستنشط التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ففي السلم والحرب (الحروب الصليبية) ستنمو التجارة وتنشط ومع هذا التبادل النشط مع الشرق ستنتج آثار كبيرة. نستطيع أن نطلق عليها "بذور التحديث"(1). ويمكن بلورتها في الآتي:
1. ستقتبس أوروبا كثيراً في الصناعات من العالم الإسلامي.
2. سيتم ترجمة كثير من الكتب.
3. سيتم نقل كثير من العلوم التطبيقية في الطب والهندسة والفلك والميكانيكا.
4. ستغير إيطاليا ومدنها وملوكها من نمط حياتهم ليتشبهوا بحياة القصور العربية، ومن هنا ستتغير القصور وأشكال التمدن في أوروبا مثل البناء والنظافة والعطور والأثاث .. إلخ.
5. ستظهر في القصور حلقات العلم والمدارسة وستنشأ الجامعات.
6. ستضاف أفكار جديدة للقضاء الأوروبي.
بذور الرأسمالية
وبتطور التجارة وتراكم الثروة القادمة من الأمريكتين والالتفاف حول العالم الإسلامي ستظهر في أوروبا طبقة جديدة وهي الطبقة البرجوازية ربيبة المدن وهذا الخط سيقلب النظام الاقتصادي من الاقتصاد القروي إلى الاقتصاد الرأسمالي التجاري التبادلي أو اقتصاد المدن بدلاً من اقتصاد الأرياف ولن يتوقف دور هذه الطبقة عند الاقتصاد بل سيمتد للسياسة الداخلية والخارجية على حدٍ سواء.
بذور الدولة القومية
ومع نشاط المدن وانتقال الناس إليها، سيقل دور الأرياف وقيمة الأرض، وبالتالي تقل قيمة النبلاء. وستصبح سلطة الملوك أكبر على الدول، وتصبح هذه المركزية، مقدمة منطقية لظهور الشعور بالانتماء القومي (لغة + شعب + أرض دائمة + تاريخ مشترك) وستتجلى هذه الروح في الحرب الفرنسية – البريطانية، المسماة بحرب المائة عام في القرن الرابع عشر. وفي الروح الجماعية التي رافقت إخراج المسلمين من أسبانيا.
بذور الإصلاح السياسي
ستظهر بذور الإصلاح السياسي في بريطانيا في القرن الثاني عشر الميلادي. عندما ينهض الملك هنري لينظم(1) ويضبط الدولة بالقانون، ويطبقه بصرامة على جميع المستويات، ويدرب الجميع على احترامه. ورغم أن السبعين سنة التالية كانت من نصيب ملوك ضعاف؛ إلا أن نموذج هنري كان قد طبع المجتمع الإنكليزي، وأصبح مطلباً مستمراً.
ثم تأتي قصة تطور البرلمان البريطاني (بيت الكلام) هذا هو معنى الكلمة ومحتواها أيضاً. ثم ظهور وثيقة العهد العظيم (MAGNA CARTA)، والتي ستشكل أول وأهم الوثائق الأوروبية في الإصلاح السياسي الدستوري.
ويمكن أن نشير إلى بعض القضايا الهامة في العصور الوسطى وعلى عجالة:
1- الحروب الصليبية
حرب أم هجرة أم مستعمرات جديدة؟
بنظرة واحدة، إلى الأسباب الحقيقية، التي دعت إلى خروج الكثيرين في الحملات الصليبية؛ سيبدو واضحاً، أن معظم هؤلاء كان دافعهم الخروج من أوضاعهم الصعبة، والوصول إلى ثروات الشرق، فالاكتظاظ السكاني في أوروبا كان دافعاً رئيساً للخروج، من ضيق العيش، وتقلص فرص الثروة، وندرة فرص العمل، وعدم توفر الحياة الكريمة، كل ذلك دفعهم إلى عالم سمعوا عنه الكثير، وأمّلوا فيه الكثير. ويكفي أن نفس هذه الجموع التي خرجت باسم الصليب، هاجمت القسطنطينية في إحدى حملاتها، في واحدة من أبشع عمليات التدمير والنهب. ولا يقلل ذلك بطبيعة الحال من عمق الحافز الديني وقدراته التحريضية العالية، الدافعة للتضحية والموت مقابل وعد الآخرة، وهو أبرز ما طبع الحياة الأوروبية حينها.
2- الكشوف الجغرافية
حب المغامرة، الروح الوثابة، طلب العلم، هكذا تساق وتسوق الكشوف الجغرافية ولكننا مرة أخرى نتحدث، عن الهروب من أوروبا المكتظة إلى عالم جديد (مدن الذهب). تلك كانت قصة القصص في الرحلة الغربية، وحالما اكتشفت الأرض الجديدة، وهي بالمناسبة حدث عارض ومصادفة، خارج خطط الرحالة كولومبوس الذي كان يسعى للوصول للهند أساساً لا للكشوف الجغرافية إذا اعتبرنا اكتشاف طريق جديد للهند ليس من قبيل الكشوف الجغرافية. وقد نتج عن صدفة اكتشاف الأراضي الجديدة وتدفق المهاجرون بعدها إلى أمريكا كالجراد.
أما المعرفة البحرية، وعبور رأس الرجاء الصالح، فذلك أمر آخر له قصة، فهنا سيصل القوم إلى إحدى الدول الأفريقية، وسيطلبون من زعيمها، أن يدلهم على طريق عبور رأس الرجاء الصالح، ولم يكن الرجل مغفلاً، فقد رفض بشدة، أن يقدم لهم العون فلم يملك القوم إلا أسر ابن أخته وأخذه رهينة في سفينتهم في البحر، مهددين بقتله، وعندها أرسل إليهم الملك أحمد بن ماجد العالم العربي الذي عجب بدوره من بدائية الأدوات والخرائط، وبدأ في استخدام خرائطه وأجهزته والقصة مشهورة .. ورغم خطورة الحدث وتأثيراته اللاحقة على العالم
الإسلامي، ولكننا مرة أخرى أمام أناس في وضع متخلف دفعتهم ظروف متعددة للخروج بحثاً عن حلول خارج قارتهم التي ضاقت بأهلها ولعبت مختلف العوامل لصالح هذه القارة في هذه الفترة من الزمن كما لعبت قبلها لصالح أمم أخرى وقارات أخرى والأيام دول.
3- علوم أوروبا في هذه القرون
ستمضي القرون من الخامس إلى العاشر، دون أن يوجد شيء يذكر، قارن ذلك بالوضع في العالم الإسلامي، ودعنا نركز الضوء على الفترة من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر، وهي عموماً فترة الاحتكاك العظمى والمباشرة بالعالم الإسلامي سلماً وحرباً. وسنبحر في كتابه "عقلية العصور الوسطى"Frederick Bart mind of middle ages وهو من إصدارات The University of Chicago press
سأحاول هنا أن أختصر الصفحات ما بين 222-261 والفصل بعنوان إحياء الغرب 1500-1000 The Revival of the west يبدأ الكاتب بتصوير المعارف الأوروبية والعقلية العلمية في هذا القرن وما كانت عليه من تخلف ومجافاة للعلم في 16 صفحة ثم يقرر حقيقة علمية هامة:
“The First Important steps beyond an elementary type of scientific writing had been taken by the Muslims“
فبعد هضم التراث اليوناني والهندي، دفع المسلمون حدود العلم إلى آفاق جديدة فمنذ القرن الحادي عشر بدأت الأمم المسيحية اللاتينية تتلقى من أسبانيا وصقلية والقسطنطينية ترجمة الأعمال التجديدية التي قام بها المسلمون، بالإضافة إلى الكتابات الفلسفية لأرسطو وغيره مع شروحها وتعليقات المسلمين عليها.
ولاحظ أن الاتصال بالعلوم القادمة من الشرق الإسلامي سيبدأ في القرن العاشر، ولكن أوائل الكتب المترجمة، جاءت في القرن الحادي عشر، عن طريق يهودي عربي من نابلس، وهو كتاب عن الحمى وبعض العلاجات الطبية (1087م) وبدأ استخدامه في جامعة سايرنو الطبية، وانظر إلى تعليق الكاتب على المترجم:
“He either conceals the names of the authors from whom he borrows or given them in correctly, a common trick with later Translator“
يقول الكاتب عن المترجم وصاحبنا قد أخفى اسم الكاتب أو أعطاه بشكل غير صحيح، وهي خدعة سيستخدمها المترجمون اللاحقون. (انظر كم من الغبن لحق بالعلماء المسلمين على يد هؤلاء المترجمين) ..(5/341)
وقد ترجمت أعمال الخوارزمي في الرياضيات سنة 1150م من شخص يدعى Aldard الذي قضى بعض الوقت في أسبانيا وصقلية. وكتب خلاصة وافية عن العلم العربي Arab science أسماها الأسئلة الطبيعية “Natural Questions” ، وفي 1160م ترجم شخص يدعى روبرت Robert القرآن، وكتاباً عن الكيمياء، وكتاباً عن الجبر للخوارزمي. وعلى أساس هذا الكتاب عملت خطوط العرض والطول للندن. وبمنتصف القرن الثاني عشر، أصبحت طليطلة أهم مركز للترجمة حيث ترجمت فيزياء ايطوطاليس، ومجموعة كاملة من البحوث العلمية الفلكية. وكان جيرارد Gerard (1187) من أهم هؤلاء المترجمين حيث ترجم 92 عملاً علمياً إغريقي وعربياً، منها كتاب الفلك المشهور لبطليموس (المجسط)، والموسوعة الطيبة لابن سينا والحساب، والطب، والكيمياء، والفلك.
وفي صقلية تمت ترجمة الكثير من الكتب وخاصة تعليقات العلماء المسلمين واليهود على كتابات أرسطو، ولقد كان اهتمام الغرب بالعلوم الإغريقية والإسلامية، أكثر منه بفلسفة أرسطو وتعليقات المسلمين عليها والتي جاء الاهتمام بها لاحقاً.
“By the end of thirteenth century, much of the surviving corpus of Greek science, the best of Muslim scientific work, and most of Aristotle was circulating in the west in various translation“.
وبنهاية القرن الثالث عشر، كان الجسم المتبقي من علوم اليونان وأفضل أعمال المسلمين العلمية ومعظم أعمال أرسطو متداولة في الغرب بترجمات مختلفة.
“The New Greek and Arabic works circulating in western Europe were usually the starting point for fresh development in philosophy and in the various science. Before 1000, Western Europe knew scarcely any thing in medicine, its astronomy and mathematics were very rudimentary; chemistry and physics hardly existed … They did take over from Arabs a large number of chemical techniques that were of use later in turning chemistry into a real science. …. In mathematics and physics the starting point of new
developments in the west was a gain the Introduction of Greek and Islamic writing….
هل نحتاج إلى ترجمة كل ذلك، لا أعتقد لكن حسبنا أن نسجل أول الكلمات هنا "كانت هذه الأعمال العلمية والعربية هي نقاط البدء لتطور الفلسفة والعلوم في أوروبا الغربية(1)".
وهكذا تستقبل أوروبا القرن السادس عشر الميلادي بمجموعة مقدمات:
1. التحول نحو الدولة المركزية.
2. التحول نحو اقتصاد المدن. (ثروات القارتين الأمريكيتين)
3. بروز الطبقة البرجوازية.
4. لغة علمية موحدة وهي اللاتينية.
5. تحولات علمية في العقل والمنهجية (العلوم المترجمة من العربية).
6. مدارس / كنائس / جامعات / قصور مهتمة بالعلم بدأت في إيطاليا، ونقلت لفرنسا ثم غيرها (التقاليد العلمية العربية وتقاليد القصور العربية حلق العلم).
7. كثافة سكانية طاردة.
8. حلم بمدن الذهب سيدفع كل الطموحين للخارج.
9. نشاط وتنافس في سبيل العظمة والقومية، ستصرف الدول على سفن المغامرات رغبة في العائد.
10. إصلاح في الفكر الديني (بعد ثورات متعددة وصراع داميٍ)
11. حركة ترجمة واسعة سيسارع فيها اكتشاف الطباعة.
12. أمل كبير بعد هزيمة المسلمين في الأندلس.
13. حساسية كبيرة من هجوم المسلمين ونجاحهم في الدولة العثمانية سيضاعف من جهود الدول ونشاطها للمقاومة.
ونستطيع أن نجمل تلك التحولات كالتالي:
أ- تحول إيجابي في عالم الأفكار.
ب- تحول إيجابي في عالم العلاقات على الأقل الداخلية في المجتمعات (اقتصاد / اجتماع /سياسة .. إلخ).
جـ- تحول في عالم الأشياء:
* اكتشاف الأمريكيتين (مدن الذهب) مصادفة.
* اكتشاف رأس الرجاء الصالح (طريق الحرير الجديد) سرقة.
* توفر موارد تحرك الحياة العلمية والعملية عن طريق الحدثين السعيدين مدن الذهب! وطريق الحرير الجديد! أو رأس الرجاء الصالح.
د- تحول في عالم المشاعر: تنافس، روح قومية، روح دينية، روح فردية.
هـ-كثافة سكانية كبيرة: شكلت وسطاً طارداً، وسطاً تنافسياً، تركيز المبدعين.
خامساً: عصر النهضة الأوروبية
يعتبر عصر النهضة الأوروبية الحديثة من أدق أقسام التاريخ. فهو فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى التاريخ المعاصر. ويصعب على المؤرخ تحديد تاريخ معين يبدأ به التاريخ الحديث، وإن كان كثير من المؤرخين يعتبر سقوط القسطنطينية في يد الخلافة العثمانية عام 1453م بداية عصر النهضة والتاريخ الأوروبي الحديث. وقد اصطلح المؤرخون على تسمية هذه الفترة باسم عصر النهضة Renaissance بمعنى البعث الجديد أو بالمعنى الحرفي (الولادة الجديدة).
عالم الأفكار أولاً
وقد بدأت تباشير عصر النهضة بتغير في عالم الأفكار، فظهرت حركة إحياء العلوم وعرف المشتغلون بها باسم الإنسانيين. ومن روادها الأوائل دانتي وبوكاشيو. كما بدأ ظهور المبدعين والمفكرين في شتى المجالات، فظهر ليوناردو دافنشي، وميشيل أنجلو، ورافاييل في مجال الفنون، ومكيافيللي في الفكر السياسي، وكوبرنيك في علم الفلك، وغيرهم الكثير من المفكرين والعلماء والفنانين الذين مثلوا الشرارة الأولى لعصر النهضة.
وقد كانت هذه الثورة في عالم الأفكار من نتاج الحملات الصليبية الفاشلة على العالم الإسلامي والتي رجعت إلى أوروبا بكثير من فنون وعلوم وكتب علماء المسلمين.
التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية
كان الإسكندر المقدوني هو أول من قاد حركة التوسع الأوروبي. وبعد عصور طويلة من التخلف والتفرق بدأت أوروبا تستجمع قواها - بعد ظهور التشكيلات السياسية في العصور الوسطى ونتيجة للكثافة السكانية الطاردة وقلة موارد الرزق - وتوجه نشاطها نحو التوسع والاستعمار الخارجي.
تركت أوروبا البحر المتوسط – البحيرة الإسلامية – وتوجهت نحو الأطلنطي فكان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح(1) سنة 1488م ثم اكتشاف الأمريكتين سنة 1492م.
حركات الإصلاح الديني والحروب الدينية
في القرن السادس عشر كانت الكنيسة تسيطر سيطرة خطيرة على مقررات البلاد، وكانت النظرية السائدة وقتها هي أن البابا هو ظل الله في الأرض، وأنه يمثل سلطة الإله على الأرض. وقد غالى بعض الباباوات في التحكم وابتزاز الأموال. ولعل أسوأ مظهر من مظاهر ابتزاز الأموال هو التوسع في بيع صكوك الغفران(1).
بدأ الإصلاح الديني في ألمانيا على يد مارتن لوثر الذي أسس المذهب البروتستانتي. وقد قامت العديد من الثورات والحروب الدينية بين أتباع حركة الإصلاح الديني وبين الكنيسة الكاثوليكية، وبلغت ذروتها بتأسيس محكمة التفتيش في روما عام 1542م والتي سعت لإخماد أنفاس البروتستانتية إلا أن هذه المحكمة لم تقتصر على قمع الحركة البروتستانتية بل تعدى ذلك إلى اضطهاد الكاثوليك الذين يدعون إلى الإصلاح الكاثوليكي، مما أدى إلى زيادة التعصب والكراهية بين هذه المذاهب. فاشتعلت الحروب والثورات الدينية. ومن أبرز هذه الأحداث:
1. مذبحة سان برثلميو الكبرى عام 1572م والتي راح ضحيتها الآلاف من أتباع الحركة الإصلاحية البروتستنتية في باريس وما حولها من الأقاليم.
2. حرب الثلاثين عاماً الدينية والتي بدأت في ألمانيا ثم ما لبثت أن أصبحت حرباً دولية بين أمم مختلفة.(5/342)
وهكذا أصبحت القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر هي قرون الحروب والثورات المستمرة – سواءً كانت دينية أو لحفظ توازن القوى بين الممالك الأوروبية – والتي لم تكن تنتهي إلا لتبدأ.
وقد مهدت هذه الحروب المتتالية لقيام الثورة الأمريكية (حرب الاستقلال) والتي أدت إلى استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن الدولة الأم (إنجلترا)، ومن بعدها لقيام الثورة الفرنسية.
الثورة الصناعية:
بدأت الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر في إنجلترا، وكانت النقلة الحقيقية في عالم التصنيع باكتشاف قوة البخار واستخدامه في عام 1769م.
ونتيجة لحركة التصنيع حدثت تغيرات اجتماعية كبيرة في أوروبا ، فاختفت طبقة النبلاء وظهر مجتمع أصحاب البنوك ومديري الشركات والمصانع، وازدادت أهمية المهندسين والحرفيين ذوي المهارة، وعمت ظاهرة البحث عن المبدعين.
وبنهاية القرن الثامن عشر انتقلت أوروبا من عصر النهضة إلى عصر التقدم التكنولوجي والإنتاج الكبير.
الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر
ظاهرة الاستعمار ظاهرة سياسية قديمة تتمثل في عدوان شعب على جيرانه الضعفاء، إلا أن أول شعب أو أمة أضفت على العدوان صورة الاستعمار المنظم هم الرومان. فهم أول شعب رسم لنفسه سياسة عدوانية للاستغلال المنظم الطويل الأمد للبلاد التي يضعون أيديهم عليها.
وهكذا بدأت أوروبا – بعد نهضتها وثورتها الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وظهور الحاجة للأسواق والموارد – في العدوان على الأمم الضعيفة أينما وجدت وفقاً لفكرة أجدادهم الرومان
الوثنيين وهي الاستغلال المنظم الطويل الأمد لنهب خيرات الأمم وتحقيق أكبر قدر من الرفاهية لشعوبهم.
وقد بدأ البرتغاليون الاستعمار الحديث ثم جاء بعدهم الهولنديون والفرنسيون والإنجليز، وأخذوا في غزو البلاد التي لا تملك سلاحاً والمتأخرة علمياً وثقافياً، وفي نهاية القرن التاسع عشر صار الاستعمار جزءاً ثابتاً من سياسات الدول الأوروبية القوية عسكرياً.
وقد اشتعل تنافس طويل الأمد بين الدول الاستعمارية على المستعمرات وانتهت قيادة الحركة الاستعمارية في أفريقيا وآسيا لأيدي الإنجليز والفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر مع اشتراك طفيف من جانب البرتغال وبلجيكا وأسبانيا وإيطاليا.
وهكذا ستستقبل أوروبا القرن العشرون الميلادي (التاريخ المعاصر) بمجموعة مقدمات:
1. ظهور دول جديدة مثل روسيا وبروسيا.
2. النمو الكبير في القدرات الاقتصادية والعسكرية.
3. تحولت إنجلترا من دولة قومية إلى إمبراطورية مترامية الأطراف..
4. الثورة الصناعية والتطور التكنولوجي.
5. التوسع الأوروبي والمستعمرات (الأسواق والموارد الجديدة).
6. تحولات وتغيرات اجتماعية كبيرة نتيجة للثورة الصناعية والتوسعات الاستعمارية.
7. تطور أساليب البحث والكشوف العلمية الواسعة.
8. تطور الحركة الأدبية والفنية والموسيقية.
9. إصلاح في الفكر الديني (بعد ثورات متعددة وصراع داميٍ)
10. روح دينية متعصبة.
11. نمو في حجم التجارة المحلية والعالمية جعلت عملية انتقال رؤوس الأموال تتمتع بنوع من السرعة والسيولة.
وأخيراً
إن التوسع التجاري الأوروبي، سيخلق طبقة جديدة من الأغنياء، ويركز الحياة في المدن مؤذناَ، بعصر البرجوازية العتيد، وتغير الحياة الأوروبية للصورة التي نشهدها اليوم.
وسيصبح التنافس بعدها أوروبياً بحتا لينتهي بالحرب العالمية الأولى والتي بموجبها سينتهي دور العثمانيين في أوروبا من منافس إلى تابع وستصبح بعدها أيام الدولة الإسلامية المركزية معدودة. فبعد انتهاء الحرب الأولى بخمس سنوات أعلن سقوط الخلافة العثمانية 1924 وإليك موجز للحرب العالمية الأولى من أجل استكمال المسار التاريخي:
الحرب العالمية الأولى:
أبرز التواريخ التي تُذكر بأحداث هامة في الحرب العالمية الأولى
28 حزيران 1914 ... اغتيال ولي عهد النمسا فرانسوا فرديناند في ساراجيفو، ويتهم الصرب بتدبير الحادث.
28 تموز 1914 ... النمسا – المجر تعلن الحرب على صربيا
1 آب 1914 ... ألمانيا تعلن الحرب على روسيا – بداية الحرب العالمية الأولى.
3 آب 1914 ... ألمانيا تعلن الحرب على فرنسا.
4 آب 1914 ... بريطانيا تدخل الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا والنمسا - المجر
2 نيسان 1917 ... الولايات المتحدة الأمريكية تدخل الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا وحليفتها.
3 آذار 1918 ... معاهدة برست – ليتوفسك بين روسيا وألمانيا.
هذه المعاهدة أدت إلى انسحاب روسيا من الحرب وتخليها عن مناطق أوروبية كثيرة.
11 تشرين (2) 1918 ... ألمانيا توقع هدنة ريتوند مع الحلفاء وتنهي الحرب مهزومة.
18 كانون (2) 1919 ... عقد مؤتمر الصلح في باريس.
الدول المنتصرة: (فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) تعاقب الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى: (ألمانيا، النمسا –المجر–السلطنة العثمانية وبلغاريا).
وستتبعها الحرب العالمية الثانية وخلاصتها:
الحرب العالمية الثانية (1939–1945):
إعلان الحرب: ... سبتمبر 1939 من قبل بريطانيا وفرنسا على ألمانيا.
الهدف: ... تحديد موقع ألمانيا في القارة الأوروبية ووقف هتلر عن التمدد.
انتصار ألمانيا: ... لم يبق بشكل حقيقي في مواجهة ألمانيا في أوروبا إلا بريطانيا.
رجل الحرب: ... هو وينستن تشرشل الذي هزم الألمان في أكبر معركة جوية للسيطرة على أجواء القنال الإنجليزي.
هتلر المنتصر: ... يواصل اكتساح الدول الأوروبية.
الغلطة التاريخية : ... غزو روسيا ومواجهة شتاء الجليد الروسي (دخل الألمان روسيا فحاصرهم الجليد)
الولايات المتحدة الأمريكية: ... تدخل الحرب مع الحلفاء وتضرب اليابان بالقنبلة النووية 1945 وتشارك في تحرير القارة الأوروبية.
ألمانيا: ... تستسلم في مايو 1945.
إن التفوق الأوروبي سيترجم إلى ما يعرف بالحركة الاستعمارية للعالم والتي تمتد إلى اليوم وبأشكال متعددة مباشرة وغير مباشرة وستقابلها حركات التحرير ومحاولات النهوض وتلك مواضيع حديثنا في البحوث اللاحقة، وإلى هنا قد استعرضنا أهم مراحل التاريخ الإسلامي والأوروبي وبينا فضل الحضارة الإسلامية في نقل البشرية خاص من عصر "العلوم البدائية" إلى عالم العلوم المعاصرة، وبينا أثر العامل الاقتصادي في الإحياء الأوروبي، وأثر العامل الاقتصادي في انكسار العالم الإسلامي، ثم ختمنا بأن أثر العامل الاقتصادي السالب في العالم الإسلامي جاء في وقت كانت كثير من الخطوط السالبة قد تجمعت وتراكمت مما يسر سبيل الانكسار التاريخي.
إن المرحلة التي بدأت بالقرن السابع عشر، هي مرحلة أوروبية بحتة، وصراعاتها تدور حول ترتيب الدول الأوروبية في القارة من جهة ومن سيحتل أول القائمة ومن سيأتي في الترتيب الأخير، ثم الصراع حول العالم واقتسامه ووضع الآليات لاستمرار هذه السيطرة الأوروبية المطلقة.
النموذج الرابع
الحضارة اليونانية
ورثت الحضارات الشرقية القديمة.
الدولة اليونانية الأولى (العاصمة أثينا).
الدولة اليونانية الثانية (العاصمة مقدونيا).
الإمبراطورية اليونانية الكبرى (الحضارة الهيلينية).
الحضارة الرومانية
ورثت الحضارات اليونانية.
اعتراف الامبراطور قسطنطين بالمسيحية 324م.
انتقال العاصمة من روما إلى القسطنطينية.
انقسام الإمبراطورية إلى شرقية (عاصمتها القسطنطينية) وغربية (عاصمتها روما).
العصر الوسيط
(عصر الظلام)
عشرة قرون
سقوط روما على يد الجرمان 476م.
سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح 1453م.(5/343)
انتشار الفقر والأوبئة والانقسامات داخل أوروبا.
الحروب الصليبية لأخذ خيرات المشرق (1097م – 1291م) وهزيمتها.
تشكل أوائل الكيانات الأوروبية (انجلترا – فرنسا – أسبانيا).
الهجمات الصليبية المنهزمة ترجع بعلوم الشرق الإسلامي(القرن العاشر).
9
عصر النهضة الأوروبية الحديثة
التوسع الأوروبي وحركة الكشوف الجغرافية ( الأمريكتين ورأس الرجاء الصالح).
أوروبا أصبحت طاردة للسكان (إلى الأمريكتين).
الحروب تجتاح القارة الأوروبية.
الثورتين الأمريكية و الفرنسية.
الثورة الصناعية واكتشاف البخار.
حركات الإصلاح الديني والحروب الدينية.
الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر.
حركة إحياء العلوم.
هذا النموذج يعينك على استيعاب مسار الحضارة الإسلامية ، وحفظ أهم ما فيه، وشرحه للآخرين.
الخلاصات
* الحضارة اليونانية ليست وليدة إبداعها الخاص بها فحسب؛ بل هي مزيج ثلاث حضارات معاً: الحضارة الفارسية والحضارة المصرية والحضارة اليونانية
* خلفت الحضارة الرومانياً تراثاً كبيراً في السياسة وأسست لمبدأ نضال العامة (حق الثورة أو حق المشاركة الكاملة)
* انتهت الإمبراطورية الرومانية على يد محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية 1453م، وهاجر علماؤها إلى أوروبا الغربية ناقلين معهم علومهم وفنونهم. ليبدأ الغرب دورة جديدة من الحياة
* بدأت القرون الوسطى بسقوط روما في يد الجرمان 476م. وسميت بعصر الظلمات. وامتد عشرة قرون.
* كان الأوربيون في العصور الوسطى شهوداً على أنفسهم بالجهل وانتشار الأمراض والأوبئة والتخلف الشديد لمدة عشرة قرون من الزمان.
* يتناسى الأوروبيون في هذه الفترة أهمية الحضارة الإسلامية المجاورة لهم، ويحاولون أن يقَزِّموا هذه الفترة (عشرة قرون) بقدر الإمكان عند تناولها، ويقللوا من حجم ما أخذوا منها.
* بدأت بذور النهضة عبر صراعات دموية محتدمة بين الملك والكنيسة.
* كان للحروب الصليبية الأثر الكبير في بزوغ عصر النهضة. عندما تم نقل علوم الشرق إلى أووربا.
* كانت الثورة الصناعية هي سبب النقلة الحقيقية لأوروربا من عصر الظلمات إلى عصر النهضة.
الباب الخامس
المسار الإسلامي
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
1. ما أهم المحطات في مسار الحضارة الإسلامية؟
2. ما المعايير التي يعاير بها أي نظام حكم ليتحدد قربه أو بعده من النموذج الراشد؟
3. ما عوامل انهيار الحضارة الإسلامية؟
أولاً:الدولة الأولى (نبوّة وخلافة راشدة)
الجزيرة وتحدي الموقع
تمثل جزيرة العرب، شبه جزيرة تحيط بها البحار من ثلاث جهات، وتفصل أفريقيا عن آسيا، أو تقع بين كتلتين كبيرتين من اليابسة هما آسيا وأفريقيا، قلبها صحراء مجدبة ممتدة، وعلى أطرافها يوجد شريطان أخضران، أحدهما في الجنوب، في بلاد اليمن وعمان، والآخر في شمالها، حيث نهري دجلة والفرات يمدان الهلال الخصيب بالنماء، ورغم أن حضارات ما قبل الإسلام في اليمن قد قامت ونمت وكذلك حضارات ما بين النهرين وكانت بلاد ما بين النهرين على الأقل عرضة وباستمرار للهجوم الخارجي، إلا أنّ صحراء العرب، لم تكن مطمعاً للطامعين، ولا تهديداً لهم، وهكذا تحرك أهل هذه المنطقة، قبائل تعيش على الرعي والحرب، لا تعرف استقراراً إلا في جزر صغيرة داخل صحراء الرمال والجبال، ألا وهي الواحات، حيث الماء والشجر والاستقرار، وأشهر هذه الواحات مكة، المدينة، والطائف، حيث توجد الحياة المستقرة، ويمارس الناس التجارة وشيئاً من الزراعة. ومن إحدى هذه الواحات خرجت رسالة الإسلام محاطة بالصحراء وأهلها.
تحدي المعطيات
وفي بطن مكة، ظهر الإسلام ، وبعث محمد e في أرض، لا تعد معطياتها بنماء رسالة، ولا بنقطة بدء صالحة. فالتنافس العائلي على أشده بين أهلها، والناس تأبى أن تتبع إلا من كان غنياً قوياً، وهي مركز العقيدة الوثنية، والطبقية الاجتماعية حادة، والحالة المادية لا تسمح بمهمة تشمل إصلاح العالم، استجابة لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.(1) والمواصلات المتوفرة تجعل العالم جزراً متباعدة، والاتصالات تنتقل ببطء السلحفاة، ولو بحثت في الجزيرة يومها، فهيهات أن تجد قبيلتين ليس بينهما ثأر، والاقتصاد البدوي يقوم على الغزو، والغنيمة، والحياة مرتبة على هذه الأسس، فكيف ستنفذ الدعوة من خلال هذه المعطيات، إلى هذه البيئة أولاً ثم إلى العالم.
ومع ذلك شقت دعوة الإسلام طريقها، حين أيقظ القرآن عالم المشاعر لدى العرب، فأحسوا بأنهم أمة جديدة، لديها ما تقدمه للعالمين، وأحسوا بذاتهم وقدرهم {كنتم خير أمة أخرجت للناس}،(2)ورتب عالم الأفكار، فصحح التصورات عن الكون والحياة الدنيا والآخرة، وأقام العالم على أسباب موضوعية، على المسلم أن يبحث عنها في كل مجال، بالإضافة إلأى وجود الفكرة المحفزة التي ملأت قلوب المسلمين أملاً، فانطلقوا يفتحون الأرض. تلك الفكرة التي عبر عنها ربعي بن عامر عندما ذهب إلى رستم: {لقد ابتعثنا الله لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة}. إنها الرسالة الحضارية لإنقاذ البشرية، وتحرير الإنسان، كل الإنسان.
ثم رتب الإسلام عالم العلاقات، فنظم الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والفردية، ومع توافر الظرف التاريخي المناسب بضعف الإمبراطوريتين الروم والفرس، انطلقت دعوة الإسلام، لتضئ العالم بدءاً من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 622م، ولتصل إلى قمة إشراقها في القرن العاشر، ثم تبدأ في الانحدار شيئاً فشيئاً لتصل إلى أقصى منحنيات الهبوط بضعف الدولة العثمانية ثم سقوطها.
ونحن حين نتحدث عن الدولة الإسلامية، ومسارها التاريخي، لا يعنينا ابتداءً الحديث عن التفصيلات، بل سنحاول أن نرسم خارطة عامة للحدث وتتابعه التاريخي.
الدولة الإسلامية النموذج المفاهيمي (622م-661م)
حين نتحدث عن الدولة الإسلامية الأولى، فيجب أن نميز بين أمرين:
* الأول
وهو المفاهيم الأساسية في الدولة الأولى، والتي أصبحت نموذجاً ومقياساً لكل العصور، عبر عنه المسلمون بلفظ "الخلافة الراشدة" تمييزاً له عن أي شكل آخر من أشكال الحكم الأخرى، ويمكن اختزال تلك الملامح في:
في النظام السياسي ... في البناء الاجتماعي
1- المرجعية العليا للكتاب والسنة
2- حكم القانون والتطبيق الشامل
3- الحاكم منتخب
4- الحاكم أجير
5- استقلال بيت المال
6- الشورى الشاملة (آلية تراضي)
7- تفعيل كل المنتظم الإسلامي.(1)
... 1- الإعداد النفسي
2- قوة الوازع الداخلي
3- محاربة العنصرية
4- إعداد الإنسان
5- حماية حقوق الإنسان
6- حماية الوحدة الداخلية
7- حماية الحدود
8- المسئولية الحضارية
وعلى هذه الأسس تم تقويم الحكومات الإسلامية المتعاقبة، فأعطيت جميع الألقاب الملكية، حتى يأتي الخليفة عمر بن عبد العزيز، فيعيد البناء على القواعد الأولى: حاكم منتخب، حكم القانون، استقلال بيت المال، الشورى الشاملة، تفعيل المنتظم الإسلامي كاملاً، فيطلق المسلمون عليه لقب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز. ذلك هو "البروتوتايب" الإسلامي المختزل في ذاكرة الأمة.
إن هذه المعايير تعطي للأمة شخصيتها وهويتها، تحدد لها اتجاه التصور الأمثل للنظام.(5/344)
وحين نتحدث عن هذا النموذج المعياري يجب أن نميز بين ثلاثة مستويات. فالمسلم يتحدث عن نموذجه المنتقى من زاوية، ويتحدث من زاوية ثانية عن الظروف التي تسمح أو تمنع من تحقق هذا النموذج بشكله الأمثل، ويتحدث من زاوية ثالثة عن المرونة الشديدة في الآليات لتحقيق هذا النموذج
* الثاني
وهو آليات التطبيق للمبادئ السابقة، ويعنينا في هذا المقام أن نشير إلى أن آليات التطبيق تخضع لمعطيات البيئة واحتياجاتها، فالحجم والكثافة السكانية والجغرافيا والخبرة
البشرية والزمن .. كل ذلك يلعب دوره في تطوير الآليات ولكن يبقى الإنسان يرقب مدى تطبيق المفاهيم السابقة ومصداقية العملية السياسية وهذا هو المحك الفاصل، ذلك هو النموذج المعياري.
ثانياً: الدولة الأموية (الشرقية) 661م-750م
انطلقت الدولة الأموية بالإسلام إلى أقصى الشرق والغرب رغم تعطيلها للنظام الإسلامي الشوري المعروف في دور الخلافة الراشدة. وقد دخلت هذه الدولة في مرحلة الضعف منذ عهد الوليد بن يزيد بن عبد الملك (743م). واستمر الانحدار والضعف حتى أسقطها العباسيون (750م).
ونستطيع أن نجمل أهم سماتها في التالي:
الفتوحات
حيث امتدت الدولة شرقاً إلى بلاد ما وراء النهر (التركستان)، وشمال الهند (باكستان وبنجلادش). كما اتسعت غرباً من برقة إلى المحيط الأطلسي.
حركة التعريب
وهي من أهم الحركات التي شهدها العصر الأموي. وذلك لتقوية الحكم العربي في الدولة الممتدة. فتم تعريب دواوين وأجهزة الدولة، وتعريب العملة المتداولة وتوحيدها بين أبناء الدولة الشاسعة.
النهضة الفكرية والعمرانية
تكونت بذور الحضارة الإسلامية. واتخذت النهضة الفكرية طابع الدراسات الدينية والاهتمام باللغة العربية وآدابها، على حين تجلت النهضة العمرانية في اهتمام الأمويين بتشييد المساجد والقصور.
ثالثاً: الدولة العباسية
وفي عهدها تتزامن دولتان:
1- الدولة العباسية
في الشرق ولها عصرها الذهبي الذي يبدأ بالسفاح 750م وينتهي بالواثق 847م ثم عصر الانحطاط ويبدأ بالمتوكل 847م وينتهي بالمستعصم 1258م (دخول المغول).
2- الدولة الأموية:
في الغرب والتي تقوم سنة 756م على يد عبد الرحمن الداخل وتصل إلى مرحلة الضعف والتفكك سنة 1100م لتسقط في سنة 1452م.
ومع ضعف الخلافة العباسية ودخولها في المنحنى التاريخي الهابط، وهو أمر فرضته ظروف كثيرة، داخلية وخارجية، أتيحت الفرصة لكثير من أطراف الدولة، أن تتحول لمراكز حضارية بديلة عن القلب.
وإليك خارطة التفتت التاريخي:
1. (815م) سيستقل السري بن الحكم (بمصر).
2. (819م) الدولة الظاهرية (خراسان).
3. (868م-905م) سيستقل أحمد بن طولون بمصر (الدولة الطولونية).
4. (909م) الدولة الفاطمية في المغرب ثم في مصر 969م لتنتهي على يد صلاح الدين 1171م.
5. (949م-1055م) الدولة البويهية (خراسان) ومدت سلطانها لبغداد.
6. (935م-969م) الدولة الإخشيدية (مصر-فلسطين-لبنان-سوريا).
7. (944م-1003م) الدولة الحمدانية (حلب).
8. (1055م-1258م) الدولة السلجوقية (عاصمتها بغداد، فارس، أفغانستان، أرمينيا، جورجيا، الأناضول-وصلوا حدود الصين وأخذوا الهلال الخصيب).
9. (1172م-1250م) الدولة الأيوبية.
10. المماليك (1250م-1516م).
11. العثمانيون (1299م- 1924م)
وسنركز في هذا المسار على دولتي المماليك والعثمانيين لما لهما من أهمية في الإطار الذي نتحدث عنه.
رابعاً: عصر المماليك
العصر المملوكي (منذ منتصف القرن الثالث عشر إلى أوائل القرن السادس عشر)
وشهد عصرين:
* العصر المملوكي الأول: الذي ساده مماليك البحرية 1250م-1382م. وهو عصر القوة والعطاء.
* والعصر الثاني: الذي ساد مماليك البرجية 1382م–1517م. وهو عصر الضعف.
وطبعت هذه الدولة تناقضات حادة نتيجة التركيبة المملوكية وسنحاول أن نلخص جملة التناقضات تحت مجموعة من المحاور.
الأول: محور الحكم
شكل المماليك طبقة مغلقة مترفعة عن الشعب، ومتقاتلة فيما بينها إلى أقصى درجة. فالمماليك لم يختلطوا بسكان مصر، وترفعوا عن الناس، وكان رجال الدين واسطة الاتصال بينهم وبين الشعب. وفرضوا أنفسهم بقوة الجيش الذي استغل موارد البلاد بتعسف.
أما المماليك البرجية فقد كونهم السلطان قلاوون. ليكون طائفة جديدة من المماليك، ترتبط به، ويكون ولاؤها له. فاختار عنصراً قوقازياً، أطلق عليهم الشركس، وكانوا على عداء مع المماليك البحرية. وبدأوا يتدخلون في الشئون العامة تدريجياً كمنافسين للمماليك البحرية. حتى وصلوا إلى سدة الحكم عام 1382م.
الثاني: محور المجتمع
1. احترم المماليك - ربما من باب المصلحة - طبقة العلماء، وأكرموهم، ولكن للمفارقة كان كثير من المماليك يأبون على العلماء ركوب الخيل باعتبارها درجة لا ينالها إلا المماليك!
2. قربوا التجار ولكنهم كانوا يرهقونهم بالمطالب.
3. احتقر المماليك الشعب والفلاحين. فأرهقوا المجتمع واكتظت المدن بالفقراء والعاطلين وساءت حالة الفلاحين.
4. كثرت الثورات خاصة في صعيد مصر معقل العرب.
الثالث: محور الاقتصاد
حدث نمو تجاري قوي، ونظمت التجارة الخارجية والداخلية، وزادت الثروات بطريقة خيالية في العصر المملوكي الأول. وفي العصر المملوكي الثاني دخل المماليك التجارة بأنفسهم واحتكروا السوق، وفرضوا الضرائب، وأرهقوا التجار الأوروبيين، واضطربت حالة النقد، بسبب التلاعب في موازين النقود. وكانت هذه الأوضاع المرهقة اقتصادياً من ضمن عوامل أخرى أجبرت أوروبا على البحث عن طريق جديد للتجارة.
الرابع: محور الحياة العمرانية
اتسمت بالرقي الفني بسبب الغنى الفاحش الناتج عن تجارة الترانزيت.
الخامس: محور العلم
اعتنى المماليك بالمدارس والتعليم الديني لإزالة آثار الدولة الفاطمية، فازدهرت المدارس، وكثر التأليف خاصة في التاريخ، وبرزت جمهرة من العلماء في الآداب والفلسفة: مثل ابن خلكان، وأبو الفداء، والمقريزي، وابن خلدون، وكثرت المكتبات وانتشرت في القصور والفنادق والجامعات.
السادس: محور الدين
اتسعت حركة التصوف، وذلك بسبب الضغوط على الشعب والفلاحين فتركوا الدنيا ولجأوا إلى طلب الآخرة.
السابع: المحور العسكري
كان للمماليك البحرية الفضل في صد الهجمات المغولية الشرسة التي تعرض لها العالم الإسلامي وذلك على يد المظفر قطز، كما كان لهم الفضل في إنهاء الوجود الصليبي في الشرق وذلك على يد الظاهر بيبرس.
إن التوصيف السابق يعطي مؤشراً على النتائج المتوقعة لمثل هذا المسار. فسنجد مجتمعاً اختل فيه عالم العلاقات:
فالحاكم مستأثر بالمال والحياة والسوق نتيجة لنعمة الموقع المتميز، ومرور التجارة في أراضيه. وهي على كل حال ثمرة لحدث سعيد يمكن مقارنته بالبترول في عصرنا في بعض دول العالم الثالث، وهو حدث لابد أن تنعكس آثاره على العمران والبناء والرفاهية الخاصة. بل والصرف على التعليم وخلق مناخ يسمح بظهور بعض المواهب.
ولكن على مسار الكتلة البشرية الكبيرة في المجتمع المملوكي كان الاتجاه معاكساً، فهذه الكتل لم يكن لها نصيب لا في مباهج الدنيا ولا في العلم، فانتعشت الطرق الصوفية، واستوعبت هذه الكتل مقابل وعد الآخرة، إذ فشلت في الحصول على نصيب من الدنيا.(5/345)
ولما كان العمران والتعليم ثمرتين للوفرة المالية، لا لتطور عالم الأفكار والعلاقات الاجتماعية؛ فإن انقراضه سيحدث لنفس السبب، أي زوال الوفرة المالية. وهنا يأتي الحدث الكبير باكتشاف رأس الرجاء الصالح، وتحول طريق التجارة إلى مسار جديد .. فماذا سيحدث للعمران، والعلم؟ وقد قررنا أن المجتمع كان قد تدمر قبلها وانخرط في حياة الطرق الصوفية أو عالم الهروب من الدنيا على مستوى القاعدة، وعالم المتعة الحسية المادية على مستوى القمة.
إن الإجابة سنكتشفها مع حملة نابليون بعد قرنين من الزمان أي في القرن السابع عشر حيث يصف الجبرتي الحالة بشكل يدعو إلى الشفقة.
خامساً:التاريخ العثماني
مراحل الدولة الثلاث:
1. التأسيس (1299-1512م) من عثمان الأول إلى بايزيد الأول.
2. القوة (1512-1595م) من سليم الأول إلى مراد الثالث.
3. الضعف والانحلال (1595 – 1924م).
فترة التأسيس
* عهد التحول من الإمارة للدولة في القرن الرابع عشر.
* توسع في أسيا الصغرى وفي أوروبا وصل إلى البلقان ووضع نظام عسكري جديد يلقي الرعب في أوروبا لمدة أربعة قرون متتالية.
* امتداد حدود الدولة إلى شواطئ نهر الدانوب وجهات البوسنة في عمق أوروبا الشرقية ، وتم تحديد لون وشكل العلم العثماني.
* أكبر انتصاراتها:
القرن الخامس عشر
1. فارنا 1444م.
2. فتح القسطنطينية 1453م.
* اتجاه الدولة العثمانية للشرق 1517م. ففي عام 1512م اعتلى السلطان سليم الأول عرش الدولة العثمانية. وبدأ بإخماد ثورة الشيعة في آسيا الصغرى. وفي عام 1514م استولى على أجزاء من إيران. ثم استطاع أن يقهر الدولة المملوكية في موقعة الريدانية عام 1517م. وغدت مصر ولاية عثمانية.
وهنا يخطر سؤال هام إذا كان المماليك قد هزموا على يد العثمانيين سنة 1517م في الريدانية فلماذا ينسب إليهم القرن السادس عشر والسابع عشر وهما قرنان عثمانيان؟
ونجيب على ذلك، أن الدولة العثمانية، تركت الشؤون الداخلية للبلاد على حالها، وبنفس ترتيب المماليك إلى حد كبير، وزادت ذلك بعزل العالم العربي عن الاحتكاك الخارجي في هذه الفترة الحرجة من المخاض البشري، فقد كانت دولة مشغولة بحروبها لا بتطوير الولايات فاستمر خط
الانحدار على جميع المستويات، وعلى كل حال فالدولة العثمانية وصلت أوجها 1566م وبدأت في الانحدار بعدها، سواءً في المركز أو الأطراف.
* أقوى فتراتها (1566م سليمان القانوني في منتصف القرن السادس عشر).
ترك السلطان سليمان الأول بصماته الثقافية والسياسية على الدولة العثمانية، فأطلق عليه الغرب لقب "العظيم"، وكانت شخصيته في أوروبا موضوعاً لروايات وتمثيليات عديدة، وكان عظيماً في حجم تجهيزات جيوشه، وفي اتساع حملاته التي وصلت إلى النمسا، وفي أعماله العمرانية، حتى أن درجة تكامل دولته لا يمكن قياسها مع تكامل أية دولة أوروبية خلال المدة نفسها، كما اتصف بالورع والتمسك بأهداب السنة.
فترات الضعف والانحلال
* فترة الضعف الأولى بين القرنين السابع عشر والثامن عشر من محمد الثالث إلى مصطفى الرابع (1595-1808م).
* فترة عهد الإصلاح والتغيير والتنظيمات التي غطت القرن التاسع عشر حتى صدور دستور عام 1876م. ويمثل هذه الفترة كل من السلاطين: محمود الثاني – عبد المجيد الأول – عبد العزيز ومراد الخامس.
* احتلال بريطانيا وفرنسا لأجزاء من العالم الإسلامي.
* أوروبا تضغط على السلطان عبد الحميد الثاني ليسمح بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد رفض السلطان مبلغ ثلاثة ملايين جنيه عرضها عليه تيودور هرتزل زعيم الصهاينة مقابل أن يسمح لهم بإقامة وطنهم في فلسطين، غير أنه حاول تقليل هجرات اليهود إلى فلسطين ولم يتمكن من منعها.
* فترة تنفيذ نظرية الجامعة الإسلامية والمشروطية(1) طيلة عهد السلطان عبد الحميد الثاني حتى عام 1909م.
* فترة قيام الثورة بزعامة حزب الاتحاد والترقي وإنهاء دور الخلافة الإسلامية بين عامي 1909م – 1924م. ويمثل هذه الفترة كل من السلاطين: محمد الخامس – محمد السادس وعبد المجيد الثاني.
* هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى وحلفاؤهم (ألمانيا والنمسا وبلغاريا) أجهض الدولة وأصابها إصابة بالغة.
* لم تعد الدولة العثمانية تمتلك من أراضيها سوى تركيا.
* تنامي الفكر القومي التركي و أخرج مصطفى كمال الخليفة من البلاد وأعلن سقوط الخلافة الإسلامية 1924م
* امتدادها الزمني ستة قرون 1299-1924م.
أسباب ضعفها
1. الفكري : غياب الصورة الكلية للصراع.
2. التنظيمي:
الحكم
الوراثي (تَذَبْذبُ مستوى من يصلون للحكم وكثرة الصراع وهو معلم تدميري هام لأي دولة).
الجيش
عدم مرونته (رفض الانكشارية التحديث وهم العمود الفقري للجيش العثماني).
القانون
ضعفه (وعدم تطوره ليناسب احتياجات الدولة وولاياتها).
الجبهات
كثرتها (تعدد جبهات الصراع يضعف أكبر الأمم).
وإذا كان لنا من تعليق على الدولة العثمانية، وجَردْ حسابها التاريخي، فيمكن القول بأنها كانت أهم ثغور التاريخ الإسلامي. وقد حمت العالم الإسلامي طوال ما يقرب من أربعة قرون أو يزيد من السقوط تحت الاحتلال الغربي. ويمكن القول أنها حمت الجزء السني في العالم الإسلامي من الدولة الصفوية وما كان يمكن أن تحدثه في العالم العربي من آثار، ولاشك أنها
كانت طوال القرن الرابع عشر أقوى دول العالم قاطبة من حيث القوة العسكرية وقوة التنظيم، بل وكانت اسطنبول أفضل عواصم العالم تحضراً.
ولكن النصف الثاني من القرن السادس عشر سيشهد أفول نجم هذه الدولة وصعود نجم الدول الأوروبية المجاورة بسبب وفرة التمويل القادم من القارة الأمريكية المكتشفة حديثاً، مع ما وفرته فرصة أربعة قرون من الاحتكاك بالعالم الإسلامي من تغيرات في الثقافة والعلوم الأوروبية والتي أشرنا إليها سابقاً .. كل ذلك سيلعب دوره في تغير كفة الميزان تدريجياً لصالح الكتلة الأوروبية. ولكن هذا التفوق لن يكون حاسماً إلا في القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية، وستكون صحوة الدولة العثمانية متأخرة جداً، وستفشل عملية التحديث ومحاولات الإصلاح في القرن التاسع عشر، بسبب -عاملين هامين- في تصورنا. أولهما: تركيبة العسكر في الدولة وقوتهم وتمردهم على الإصلاح، والثاني: أن عملية الإصلاح جاءت والدول الأوروبية قد تطورت وحاصرت الدولة العثمانية، حتى غرست أظافرها في جسد الدولة المريضة، وتدخلت لمنع هذا المريض من الشفاء.
ويبقى بعد ذلك أمرٌ لابد من الإشارة إليه، هو الموازنة بين إيجابية الدولة العثمانية بحماية العالم الإسلامي من أوروبا على مدار قرون وحماية العالم العربي من الدولة الصفوية أيضاً وبين سلبية عزل العالم العربي عن الاحتكاك بالعالم الخارجي والسياسات السالبة لعدد من الولاة الأتراك مما أثر سلباً على حالة العالم العربي لاحقاً. هذان الأمران محل جدل قائم إلى اليوم ويشكلان عاملا استقطاب للتيارات في العالم العربي وكلا الأمرين له وجاهته ولكننا نعتقد أن المقارنة بين الأمرين لاشك تعطي تفوقاً إيجابياً لصالح الدولة العثمانية وتاريخها الطويل في حماية العالم الإسلامي.
عوامل التحلل في الكيان الإسلامي
أولاً: العوامل الخارجية
الحملات العسكرية
والتي تجسدت في الحملات الصليبية والتترية على العالم الإسلامي فأنهكته بطبيعة الحال مثلما تفعل الحروب فتبتلع الأخضر واليابس.
اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح(5/346)
والذي أضعف العالم الإسلامي اقتصادياً حين تحولت التجارة إلى طريق الحرير، وقل احتياج الأوروبيين إلى البحر الأبيض المتوسط. فجفت الثروات التجارية الناتجة عن التبادل التجاري مع الموانئ التي توجد على ساحله.
ثانياً: العوامل الداخلية
1) المعضلة الجغرافية
حين تتوسع أية أمة، على مساحة جغرافية ممتدة، في عصر تبدو خطوط الاتصال والمواصلات فيه لا متناهية، فإن أكبر مشكلة تواجهها هي السيطرة على الأطراف، ولو نظرنا إلى عاصمة الخلافة العباسية في بغداد، كقلب وللشام والعراق كصدر يحوى هذا القلب، ثم تصورنا الجناحين المهولين اللذين يحملهما على جانبيه وهما مصر والشمال الإفريقي غرباً وبلاد فارس وما وراء النهرين شرقاً. لكان الأصعب هو تصور إمكانية استمرار تحريك هذين الجناحين والمحافظة عليها، مع علمنا أن صحة القلب، ليست مضمونة إلى الأبد.
بغداد
تركيا
مصر
وما بعدها
فارس
وما بعدها
البحر المتوسطالشريط المقدس
المعضلة الجغرافية ممثلة بقلب صغير وجناحين عملاقين
2) المعضلة الإثنية
إن تركيب أي مجتمع، متعدد الأعراق، يشكل تحدياً محيراً اليوم، ناهيك عن الأمس البعيد، ونقصد باليوم الواقع الفكري المتطور لأطراف المعادلة، وإمكانية صياغة العقد الاجتماعي على أسس توافقية، أما في المجتمعات الملكية القديمة وهي التي سادت التاريخ الإسلامي، فقد كانت صياغة مثل هذه العقود، من قبيل الإعجاز، ومثل هذه الإشكالية كانت ولازالت تحتاج إلى دولة مركزية قوية تنتظم فيها الأطراف ونظام عادل يمنع البغي على
الحقوق وآلة إعلامية وروحية عالية ونظام اتصال فعّال .. إلخ، وكل ذلك ضروري لتماسك المجتمع.
3) المعضلة السياسية
إن النموذج الإسلامي الأول "النموذج الراشد" ظل هو الحلم الذي يعيش عليه المسلمون. ويقيسون به صلاح الوضع السياسي، ولما كان الاعتداء على بعض أجزاء النموذج قد تم في مرحلة مبكرة، بالتحول من الدولة الراشدة إلى النظام الملكي، وعجز المجتمع المدني عن استعادة زمام المبادرة، رغم كل المحاولات وأولها محاولة عبدالله بن الزبير الناجحة حيث استعيدت الخلافة لمدة تسع سنوات ولكن عودة الملكية وانتصار الأمويين، قاد إلى استمرار الصراع داخل المجتمع وكثرت الثورات وتعددها في كل مكان، ثم إن طبيعة الحكم الملكي الداخلية، التي تعتمد على الغلبة، جعلت تيار العنف الداخلي يسود وهو أمر سيظل مصاحباً لمجتمعات كثيرة وإلى اليوم، كما أن حماية الحكم الملكي كانت تعتمد بالأساس على المرتزقة بشكل أساسي في عصور متطاولة، وفي بعض الفترات على تغليب فئات اجتماعية على أخرى، مما مهد الأرضية لعدم الاستقرار بصورة دائمة. ورغم أن الإسلام حل هذه المعضلة بآلية التراضي المسماة بـ "الخلافة الراشدة"؛ فإن ضمانات تفعيل آلية التراضي لم تتبلور إلا في عصرنا الحاضر. ولم تعرف دول العالم قاطبة ذلك النمط إلا في القرن الثامن عشر مع الثورتين الأمريكتين والفرنسية وبتكلفة عالية جداً ابتداءً، باستثناء بريطانيا، التي تدرجت في حل هذه الإشكالية ربما بأقل قدر من العنف، بينما لم تعرف بعض دول أوروبا مثل أسبانيا حلاً لهذه المشكلة إلا منذ سنوات قليلة.
4) معضلة التعصب
اختلال المفاهيم الدينية والنزعات
أ- حول الخلافة
1-السنة. 2-الشيعة . 3-الخوارج.
وكل منها لها تشعباتها وفرقها ونزعاتها، وكثر الاحتراب حتى غدت كل فرقة تجسد تجمعاً دينياً مغايراً، متبايناً في أمور كثيرة. وقد ولدت فترة الفتنة فقهاً يدعو إلى القبول بالظلم، والرضوخ له، وانتظار الأقدار لتغييره بصورة أو بأخرى. وأصبحت ولاية المتغلب عنوان عند أهل السنة والجماعة. واعتبرت قضية الحكم قضية خاصة بفئة من الناس، وأن الآخرين عليهم الانتظار. إن جاءهم صالح فبها ونعمت، وإن لم يأتهم فهذا قدر الله عليهم. هذه النظرة التي هي أقرب إلى الجبرية السياسية تعززت في الفقه الإسلامي وفي العقلية الإسلامية، وأصبحت تفرخ كثيراً من المدارس التي لم تكن تدرك خطورة هذا المنهج على مجمل حركة الحياة الإسلامية بعد ذلك.
ب- في العقائد
أولى المسائل التي أثيرت مسألة القدر وسؤالهم: هل الإنسان مخير أم مسير؟
وثانيتها مسألة مرتكب الكبيرة: مرتكب الكبيرة الذي لم يتب هل هو مؤمن أم كافر؟
وثالثتها مسألة الأسماء والصفات وأهم مسألة طرحت يومها: هل القرآن كلام الله أم خلق من مخلوقاته؟
وستظهر فرق تنافح عن اختياراتها:
o الجبرية: الإنسان مسير، لا ينسب إليه فعل، بل الفاعل هو الله!.
o القدرية: الإنسان فاعل بنفسه، لا توجد لله إرادة مع فعل الإنسان! .. وإطلاق لفظ القدرية عليهم على سبيل المغايرة، فهم نفاة للقدر جملة واحدة.
o المرجئة: "لا يضر مع الإيمان ذنب" بهذه المقولة، قامت هذه الفرقة. فالمؤمن يرتكب ما يرتكب ويدخل الجنة على كل حال. وترتب على ذلك أن العمل غير داخل في مسمى الإيمان. الأمر الذي لم يدر بخلد أولئك المتوقفين في الحكم المحتارين في قضية الشهادة، والذين اختلفوا في الإجابة على السؤال: "هل كل من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة؟!"
o المعتزلة.
o الأشاعرة.
o الماتيردية.
o حنابلة القرن الرابع والتيميه.
o أغلب الفقهاء، وعموم أهل السنة.
جـ- في الفقه:
تعددت المذاهب بين جميع الفرق، واختلفت الآراء، ولم تخل من التعصب. وتلك هي الآفة الكبرى لأي مجتمع، فعندما ينتقل النقاش المنطقي، إلى ساحة الفعل التحريضي، ومن ثم إلى ساحة العنف فإن ذلك دمار للمجتمع، فإذا استدعيت جماهير الغوغاء إلى ساحة المعركة الكلامية، فتلك بداية النهاية لكل شيء جميل، لأنها تنتقل تلقائياً إلى ساحة العنف ضد المعارضين، وذلك الأمر الذي يقتل الفكرة والعقل وهما دعامة النجاح لأي مجتمع وعليهما يقوم الإيمان والتكليف وبهما يخطط لنصرة الدين وإعمار الحياة.
5) المعضلة الاقتصادية
سوء توزيع واستخدام الثروة، الاحتكار، تداول الثروة بين طبقة محددة بالباطل، اعتبار الدولة غنيمة، وملكاً شخصياً للوالي. كل هذه المثالب طبعت الدولة في عصورها المختلفة، ثم الانغماس في الملذات بشكل غير مسبوق، حكيت عنه الأساطير، خاصة لبعض الولاة في تاريخنا، هذا الترف والسرف، أضاع الدنيا والدين معاً على مر التاريخ، ونحن هنا سنأخذ واحدة من أغنى الدول التي حكمت العالم الإسلامي قبل انهيار الوضع، ونسجل للدولة المملوكية، غناها التجاري الباهر، ونسجل عليها فقر الفلاحين وطبقات الشعب، والحرمان الذي كانوا يعانونه، في هذه الدولة الغنية، والمدى الذي وصلت إليه الأحوال في الشارع المصري من جراء ذلك، والآثار المدمرة التي ستقود إليها بعد ذلك، والتي سيصفها لنا الجبرتي - المؤرخ المشهور- يوم نزل نابليون إلى مصر، ومدى تدهور الحالة الحضارية للمجتمع. ويمكن أن يرجع إلى ذلك في تاريخ الجبرتي.
إنّ أخطر ما في الحالة الاقتصادية المذكورة، أن الغنى والترف، كانا نتاج حدث عارض، وهو أن موقع الدولة في قلب العالم وسرته حتَّم مرور تجارة العالم القديم خلال مصر إلى أوروبا، ولم يكن ذلك ناتجاً عن نشاط المجتمع وحيويته الكلية ومشاركته في الدفع الاقتصادي، ولما كان الحدث العارض عارضاً، فزاوله محتوم، وقد حدث ذلك باكتشاف طريق(5/347)
الرجاء الصالح وعندها انكشفت القدرات الحقيقية للمجتمع، وأختبرت صلابة بنائه وكانت النتيجة ذلك السقوط المريع للمجتمع. أن إيجاد مجتمع نشط بسبب حالته الداخلية الصحيحة كان ولا يزال التحدي الأكبر لأمتنا. وهي مدعوة لأن تتعلم الدرس التاريخي الأزلي، أن المال يجب أن لا يكون "دولة بين الأغنياء" ويجب أن تعتمد الدولة على نشاط المجتمع وحيويته لا الأحداث العارضة مثل تجارة الترانزيت والاقتصاد السياحي الذي يعلم الجميع أنه لا يبني العمود الفقري للاقتصاد وأقصى ما يمكن أن يقدمه فسحة من الوقت لبناء ذلك الاقتصاد لا أكثر ولا ضمان لاستقلال أي أمة لا تمتلك اقتصاداً حقيقياً.
6) إهمال العلوم التطبيقية
لقد شاع في كثير من فترات التاريخ الإسلامي، أن العلوم الشريفة هي علوم الدين، أو كما قيل "قال الله وقال رسوله" أما عدى ذلك، فهو أمر يؤخذ منه بأقل قدر، فالحساب، والفلك، والكيمياء .. إلخ كلها يجب أن تعطى أقل قدر من الاهتمام، وفي مراحل أخرى، أصاب الاضمحلال حتى العلوم الدينية، وساد التقليد واجترار الموروث، دون أي خلق وإبداع جديد .. تلك النظرة للعلم وتطبيقاته، قضية لم تحل إلى اليوم، وإن كانت دخلت في طور جديد، وهو عالم استهلاك التطبيقات العلمية، وعدم تجاوز ذلك إلى سبر المعرفة العلمية، والغوص في أعماق العلوم. وأصبحت الجامعات محطات تفريخ لمجاميع تفتقد المضمون العلمي، وروح العلم وأن حملت أوراق اجتياز الامتحانات النظرية والشهادات المعهودة. إن الخروج من هذه الحالة هو تحدٍ لابد من اجتيازه إذا أردنا النهوض والخروج من المأزق.
7) ضعف الدافع العقدي
إن الناظر في أحوال الأمم، يستطيع أن يلمح، وباستمرار أثر الدافع العقدي، في مسيرة أية أمة، هذا الدافع العقدي، هو الإيمان بقضية ما إيماناً لا يحتمل الجدل، والحماس للفكرة، حماساً يجعل كل تضحية في سبيلها أمراً هيناً، تلك هي "المكنة النفسية" التي إذا زرعت في أمة ما نفخت الرياح في أشرعتها، وإذا نزعت من أمة ما دب السكون والموات في جنباتها، ونكست راياتها، وبفضل هذه النفخة، اندفعت الأمة في الأرض، وكلما خفتت هذه
الروح، سكنت وتراجعت، ومع مرور الأيام والسنين بدأ الوهن العقائدي يدب في أوصال الأمة، مما مهد لحالة التراجع، ورسم خطاً مبكراً هدد ولايزال هذا الكيان الكبير، لقد عرّف الصدر الأول العقيدة بالعمل، وعرفت الأمة بعدها العقيدة بالجدل. والفرق بين المعنيين كبير، فالأولى تعني أن المؤشر الحقيقي للعقيدة، هو في مجموع الجهد الذي يضعه الفرد لخدمة أهداف الدين على جميع المستويات، والمعنى الثاني يعني مجموع ما يعرفه الفرد من اصطلاحات وتعريفات، وما يتقنه من جدل وحجه في موضوع العقائد، هذا الخط وهذا التحول سيظل قائماً يؤدي دوره السلبي على مر العصور اللاحقة.
8) عدم متابعة تطور الأمم الأخرى
لقد كانت الأمة في حالة صراع حاد ومازالت، هذه الحالة التنافسية كانت تستدعي بالضرورة، متابعة التطورات التي تحدث في الأمم المنافسة، ولكن ذلك لم يحدث، وكان له أسوأ الأثر على مستقبل الأمة الإسلامية. فالدولة العثمانية المشتبكة مع الغرب، لم تفلح في رصد متغيرات الحالة الأوروبية في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ولذلك فوجئت بالتحولات العسكرية التي حدثت بعدها، وقل ذلك عن المماليك، الذين كانت بعض ممالك البحر الأبيض المتوسط الأوروبية تدفع لهم الجزية، فقد فوجئوا لحظة نزول نابليون بصنف آخر من الناس غير الذين عهدوهم في الحروب الصليبية وهزموهم فوجاً بعد فوج، ولم يكن ذلك ليحدث لو كانت قرون الاستشعار حية في الأمة ونسبة الغرور أقل.
9) تكوين النخب حول السلطان
لقد رأينا أرسطو على رأس مرافقي الإسكندر المقدوني، ورأينا جاك أتالي حول ميتران في عصرنا، ورأينا النخب المفكرة الاستراتيجية حول رجالات البيت الأبيض، لكن من يجتمع حول سلاطيننا على مر العصور؟! فإذا استثنينا إشراقات صغيرة داخل التاريخ فسنجد غالبية غالبة من محترفي النفاق تتمركز حول نقطة اتخاذ القرار، نخب تفتقد العلم والخبرة، تحيط بالوالي إحاطة السوار بالمعصم يسمع بآذانها، ويفكر بعقلها، ويتردى وهو يحسب أنه يصعد، تتحول الهزائم إلى انتصارات والنكسات إلى أفراح واحتفالات، تهيئ له أن
يستريح لتحمل هي عنه الهم، فتسرح وتمرح في المال العام، ثم تقوم المعادلة الصعبة، فهو يحتاجهم ليستمر في الحكم، وهم يحتاجونه ليستمروا في النهب. تلك الفكرة الضيقة عن الحكم، والغنيمة، صبغت – ومازالت - كثيراً من عصور التاريخ، ولم ننتقل لفكرة الوطن والأمة بعد. ولم يسلم من مثل هذا الوضع إلا قلة في الماضي والحاضر وعندما يتحول الوضع إلى الصورة أعلاه، تتوارى النخب الحقيقية وتبتعد تجنباً لمثل هذه الأجواء المريضة، ويبتعد الشعب عن المسئولية، وعن البناء، ليتحول إلى أداة عاطلة عن العمل، وتصعد فرق الهدم على هذه الأنقاض لتشارك في عمليات النهب بقدر استطاعتها، تلك هي الحلقة المفرغة التي تدور فيها الأمة منذ أجيال، وتصحبنا إلى هذا الحاضر الذي نعيشه، وعلى الأمة قادة وقاعدة أن تنتبه لهذا الوضع المدمر.
10) حكم من لا يعرف الإسلام
ثم إن كثيراً ممن حكموا ويحكمون العالم الإسلامي إلى اليوم، معرفتهم بالإسلام لا تتعدى المعرفة السطحية، وأداء العبادات إن فعلوا. هذا إذا تحدثنا عن الغالب التاريخي، أما الإسلام كمشروع حضاري كلي، وكنظام جديد للبشرية، وكدعوة ورسالة للعالمين، أما معرفة المنتظم الإسلامي، وخريطة الحركة الكلية من أجل الإسلام، أما التجرد للفكرة وبنائها لبنة بعد لبنة في هذا الصرح العظيم، فذلك أمر كان بعيداً عن أذهان كثير من الساسة، وما حمله وقام بتبعاته، في الغالب إلا جمهور الأمة وبعض من أشرق النور في قلوبهم ولو ومضة من حكام الأمة، لقد انفصل الحكم عن المشروع ولم ينفصل عن الحاجة للدين في شكله الطقوسي، لأنه أداة تسكين للجمهور وأداة لكسب الشرعية، وبالتالي إذا أردنا التقدم فلابد من حل هذه المعضلة المستعصية تاريخياً وإعادة الدولة لخدمة المشروع والحياة به، وهو الأمر الذي لابد أن تتحمله قيادات الأمة الإسلامية سواءً كانت نخب الحكم أم نخب الثقافة.
11) أزمة المدينة العربية
وهي جزء من أزمة الديموغرفيا المختلة، فنتيجة للكثافة السكانية، وأزمة الحكم المستمرة، كانت الحاجة دائمة عند الملوك لاستدعاء البادية لحكم المدينة العربية، وفي أشكال
مختلفة، فمرة تستدعي البادية العربية، ومرة تستدعي البادية التركية، والشركسية ومرة تستدعي العسكرتاريا أو القبيلة المعاصرة، وهي في كل الأحوال كتل بشرية معرفتها بالحضارة قليلة، ولكن قدرتها التنظيمية عالية، بسبب من رابطة الدم، أو رابطة الانتماء للعسكر، وعبر التاريخ الطويل، انتقلت هذه من حماية الحكم إلى حكم المدينة، في حين عُزِلَ أهل المدينة عن تسييرها في جهازها الأعلى، هذا الاختلال، قد تم إصلاحه في الحركة التاريخية الأوروبية، يوم أن حكمت المدينة نفسها، ممثلة في سكان المدن، فأوجدت حالة الاستقرار والتنمية، مهدت لحركة النهضة، أما في المدينة العربية وإلى يومنا الحاضر، فلم تستطع المدينة استعادة حريتها وتوازنها.
نظرات في مسار المماليك والعثمانيين
إن أهم مراحل التاريخ الإسلامي هما مرحلتي المماليك والعثمانيين من حيث بدء خط الانكسار واصطدامه بخط النهضة الأوروبي ولابد أن نلحظ هنا عدة أمور:(5/348)
1. يبدو للوهلة الأولى، أن دخول الأتراك للمعادلة الإسلامية حدث قد جاء مع الدولة العثمانية، وهنا نحب أن نذكر بأن الإسلام وصل إلى بلاد ما وراء نهر جيحون سنة 705م على يد قتيبة بن مسلم حيث تستقر القبائل التركية القادمة من أواسط آسيا وأن المعتصم سنة 833م استقدمهم كحرس وجنود وخدم وسيبني مدينة سامراء في العراق ليستقر بها مع جنوده هؤلاء. وهؤلاء بدورهم سينقلبون بعد ذلك من أداة للسيد إلى سيد للسيد وسيمارسون الحكم كلما سنحت الفرصة وتهيأت الظروف وهي سنةٌ جارية في البشر.
2. ونؤكد أنّ الأتراك لعبوا دوراً هاماً كدول ثغور طوال تاريخهم الطويل، وهم الذين وقفوا في وجه الغرب وطموحاته في الشرق منذ عصر مبكر.
3. إن الدولة الأموية التي مدت رواق الإسلام إلى أقاصي العالم شرقاً وغرباً لم تدم في الشرق إلا ما يقرب من قرن، وهي مدة قصيرة في حساب الزمن، ومع ذلك حقق جيبها في أسبانيا معجزة حضارية، ستظل محل اعتزاز الأمة على مدى الأجيال.
4. دخلت الدولة العباسية في عهود الضعف، مع استلام المتوكل 847م (القرن التاسع)، حيث بلغت الدولة، أوج اتساعها، وبدت على الخريطة، كطائر ذي جسم صغير، وهو العراق والشام، وجناحين كبيرين، ويمثل الجناح الشرقي، بلاد فارس، والجناح الغربي مصر والشمال الإفريقي، قلب ذو كثافة سكانية منخفضة، مقارنة بجناحين، ثقيلين عريضين، في عصر تشكل القوة البشرية والموارد عناصر حاسمة في صراعات القوة، وأي مرض سيطرأ على عقل الطائر أو جسمه سينعكس على الأجنحة، وسيختل ذلك التوازن الصعب، الذي سبب معضلة الدولة العباسية. وذلك ما حدث فمع ضعف قلب الدولة، بدأ تفكك الأطراف فالجناح الغربي وبالتحديد في مصر، سيبدأ أول عملية انفصالية على يد السرى بن الحكم 815م لتظهر في الجناح الشرقي المقابل وبالتحديد في خراسان الدولة الظاهرية
سنة 819م ولو تابعت التواريخ اللاحقة لقيام الدول ستجد عملية التناوب على التفكيك من الأجنحة، ثم الاتجاه للسيطرة على القلب والجسد الضعيف.
5. هذه الدول رغم كل العيوب الناتجة عن تفكيك الإمبراطورية الإسلامية، فإن معظمها كان له إسهام حضاري أضاف للتراث الإسلامي، وسد عجزاً ما، في مراحل ضعف القلب. ودافع عسكرياً عن الأمة بشكل أو بآخر.
6. هذا الوضع المجزأ، والضعف البادي في القلب، سيغري أولاً الكتل البشرية العملاقة في الغرب على الحركة للاستيلاء على هذه الممالك الغنية وستبدأ حركة الحروب الصليبية بين العامين 1095م–1291م (نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر) أي متزامنة مع عمر ثلاث دول إسلامية، الدولة السلجوقية، والدولة الأيوبية، وما يقرب من أربعين سنة من عمر الدولة المملوكية. ويغري ثانياً الكتل البشرية العملاقة من الشرق ممثلة في المغول سنة 1258م أي قبل انتهاء الحروب الصليبية بثلاث وثلاثين سنة ليسقطوا الدولة السلجوقية وينهوا الخلافة العباسية ليوقفهم المماليك في فلسطين 1260م. وفي عين جالوت يتوقف المغول بعد توقيع الصلح مع المماليك 1320م. وبعدها ببضعة عقود يدخل التتار بقيادة تيمورلنك مرة أخرى ليستولوا على بغداد 1393م ويجتاحون المدن السورية ويدمرون دمشق سنة 1401م ويأخذون خيرة الفنانين والصناع إلى عاصمة ملكهم سمرقند قبل أن تصل إليهم جيوش المماليك وتنهي وجودهم في الشام.
والخلاصة: أن القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر هي قرون صبغتها الحروب المتواصلة من أجل البقاء، بما تعنيه الحروب مادياً وبشرياً من تكاليف تكبدها العالم الإسلامي ومناطقه الحضارية. فقد تم تدمير بغداد وحرق مكتباتها على يد المغول ثم قام تيمورلنك بتفريغ المنطقة من خيرة الصناع والفنانين.
النموذج الخامس
هذا النموذج يعينك على استيعاب مسار الحضارة الإسلامية ، وحفظ أهم ما فيه، وشرحه للآخرين.
الدولة العثمانية
(1288 – 1924م)
ستة قرون
الدولة الإسلامية
النموذجية
(622م – 661م)
الهجرة 622م
فتوحات مستمرة ضمت أجزاء واسعة من امبراطوريتي بيزنطة وفارس
مقتل علي بن أبي طالب 661م ونهاية الخلافة الراشدة.
الدولة الأموية الشرقية
(661م – 750م)
معاوية ابن أبي سفيان (661م - 680م) وبداية الملك.
سقطت في أيدي العباسيين 750م
خلافة عمر ابن عبد العزيز الراشدة ( 717م – 720م)
عهود قوة وفتوحات حتى عهد الوليد بن يزيد وبداية الضعف 743م
الدولة العباسية
(750م – 1258م)
العصر الذهبي على يد السفاح 750م
انتهاء العصر الذهبي في عهد الواثق 847م وبداية التدهور في عهد المتوكل
دخول المغول بغداد وسقوط الدولة العباسية في عهد المستعصم 1258م
هزيمة الهجمات الصليبية وتحرير بيت المقدس 1187م
قيام الدولة الأموية الغربية على يد عبد الرحمن الداخل 756م
ضعف الدولة الأموية الغربية وتفككها 1100م
قيام دولة المماليك البحرية 1250م في مصر والشام والحجاز واليمن
سقوط الدولة الأموية الغربية 1452م
مرحلة التأسيس (1288 – 1513م)
فارانا 1444م
فتح القسطنطينية 1453م
أقوى فتراتها في عهد سليمان القانوني 1566م
فترة ضعف وانحلال (1595 – 1808م)
عهد الإصلاح والتغيير دستور 1876م
تنفيذ نظرية الجامعة الإسلامية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وحتى 1909م
سقوط الخلافة الإسلامية 1924م وبداية الملك الجبري.
سقوط دولة المماليك البحرية وقيام دولة المماليك البرجية 1382م
سقوط دولة المماليك البرجية على يد العثمانيين في موقعة الريدانية 1517م
مد السلطان مراد الأول حدود الدولة العثمانية إلى البوسنة 1389م
دولةالمماليك البحرية تتصدى للهجمات المغولية 1260م (عين جالوت)
الخلاصات
* قامت الدولة الإسلامية الأولى 622م على يد النبي صلى الله عليه وسلم رغم المعطيات الصفرية. شأنها شأن كل الأمم التي نهضت.
* كانت الدولة الأموية دولة فتوحات نشرت الإسلام شرقاً وغرباً.
* تزامنت في عهد الخلافة العباسية دولتان: الدولة العباسية في الشرق والدولة الأموية في الغرب والتي قامت على يد عبد الرحمن الداخل.
* شهد عصر المماليك مرحلتين: مرحلة المماليك البحرية 1250م – 1382م. وكان عصر قوة وعطاء، انكسرت فيه الحملات الصليبية. والمرحلة الثانية هي مرحلة المماليك البرجية 1382م – 1517م وهو عصر ضعف.
* تأسست الدولة العثمانية عام 1299م وانتهت 1924م. وكانت أقوى فتراتها (1512م – 1595م).
* في الوقت الذي طرد فيه المسلمون من الأندلس (غرب أوروبا)1452م كانت الدولة العثمانية تستعد لمواجهة أوروبا وتمكنت من فتح القسطنطينية 1453م (شرق أوروبا).
* إن الأسباب التي أدت إلى سقوط الحضارة الإسلامية تتجسد في عوامل خارجية مثل الحروب الصليبية أو عوامل داخلية تتجسد في الممارسات السيئة الداخلية.
الباب السادس
تقاطع المسارين
الإسلامي والأوروبي
أهم الأسئلة التي يجيب عليها الباب
1. متى استطاع الغرب أن يفيق من غفوته ويبني حضارته؟
2. متى بدأ خط الانكسار في مسار الحضارة الإسلامية؟
3. ما أهم النقاط التاريخية المشتركة بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية؟
4. كيف أثرت نقاط التقاطع سلباً وإيجاباً على كل من الحضارتين الإسلامية والأوروبية؟
إن العامل في مجال النهضة يلزمه أن يلم بالمفاصل المشتركة بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية. ليتعرف على بداية السقوط وكيف بدأ شيئاً فشيئاً على مدار قرون طويلة.
وسنستعرض كل حدث مفصلي مشترك على حدة. ونذكر تأثيره على كلا المسارين الإسلامي والأوروبي.
622م تكوين نواة للدولة الإسلامية في المدينة(5/349)
على المسار الإسلامي: كان ظهور نواة الدولة يمثل دافعاً نفسياً كبيراً للأمة الإسلامية الصاعدة، التي تستشرف من البشارات القرآنية والنبوية مستقبلها المشرق. وبدأ سلم الحضارة الإسلامية في الصعود حتى فتحت الدولة الإسلامية مشارق الأرض ومغاربها. وصدرت عاداتها وثقافاتها إلى الغرب.
على المسار الأوروبي: نسجل هنا أن المسارالغربي كان يعيش عصر التخلف والظلام. وكان بمثابة المتلقي من الحضارة الإسلامية الجديدة.
(1097م – 1291م) الحروب الصليبية والتترية
على المسار الإسلامي: أنهكت الحروب الصليبية العالم الإسلامي رغم أن الحملات المعتدية لم تتمكن من تحقيق أهدافها المباشرة.
أما الحروب التترية فقد دمرت صرح العلوم الإسلامية، وعزلت خيرة الصناع والفنانين والعلماء والمبدعين عن العالم الإسلامي.
على المسار الغربي: رغم هزيمة الغرب في الحروب الصليبية إلا أنه عاد بالعلوم الإسلامية. فقام بترجمتها
وتغير نمط الحياة الغربي،. ليبدأ رحلة النهوض.
القرن الخامس عشر (قرن التحولات)
1452م طرد المسلمين من الأندلس
على المسار الإسلامي: أثر سلباً على الروح المعنوية للمسلمين. إلا أننا يجب أن نسجل هنا أن الدولة العثمانية ونخص تركيا كانت قادرة على التصدي لأوروبا بأكملها وقد استطاعت في 1453م أن تصل إلى القسطنطينية ثم تحاصر بعد ذلك فيينا.
على المسار الأوروبي: كان لطرد المسلمين من الأندلس رفعاً للروح المعنوية للغرب، وإحساسهم بإمكانية الفعل والتصدي للإمبراطورية الإسلامية.
اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح(1488م) والأمريكتين (1492م)
على المسار الإسلامي: أدى إلى ضمور التدفق التجاري على العالم الإسلامي، ومن ثم فقد أحد أهم ركائز قوته.
على المسار الأوروبي: انطلاقة كبرى للسيطرة على قلب الاقتصاد العالمي. واكتشاف مدينة الذهب ما أدى إلى وفرة الموارد.
1453م فتح القسطنطينية
على المسار الإسلامي: أكد أن العالم الإسلامي لازال فيه رمق، وأن جيشه يستطيع قهر أوروبا.
على المسار الأوروبي: الإحساس بالتهديد ومن ثم استفزار الطاقات لمواجهة التحديات.
1769م اكتشاف قوة البخار
المسار الإسلامي: كان يعاني من ضعف شديد في العلوم التطبيقية، بالإضافة إلأى الاحتقانات الداخلية جراء نظم الحكم المستبدة.
المسار الأوروبي: مثلت الثورة الصناعية نقلة في عالم التصنيع باكتشاف قوة البخار واستخدامه. وقد أدى ذلك إلى تغيير المعادلة العسكرية تماماً. فأصبحت القوة العسكرية الأوروبية تتفوق بمراحل على القوة العسكرية الإسلامية.
ونتيجة لحركة التصنيع حدثت تغيرات اجتماعية كبيرة في أوروبا ، فاختفت طبقة النبلاء وظهر مجتمع أصحاب البنوك ومديري الشركات والمصانع، وازدادت أهمية المهندسين والحرفيين ذوي المهارة، وعمت ظاهرة البحث عن المبدعين.
وبنهاية القرن الثامن عشر انتقلت أوروبا من عصر النهضة إلى عصر التقدم التكنولوجي والإنتاج الكبير.
إن إرهاصات أفول نجم الحضارة الإسلامية بدأت مع الحروب الصليبية . لكن الفجوة اتسعت بشكل يصعب التعامل معه بعد الثورة الصناعية. وهذا هو المفصل التاريخي للانهيار الحقيقي للحضارة الإسلامية. ومن ثم الصعود الأوروبي.
ملخص التقاطع الإسلامي الأوروبي
البرابرة الأوروبيين
عصر الظلام
(476م–1500م)
... 476م ...
* تسقط روما وتدخل أوروبا عصور التخلف والفوضى والاقتتال حتى القرن الخامس عشر ولن تخرج من الإشكاليات المميتة إلا بعد الحرب العالمية الثانية وإلى أجل.
* عصر الظلام الأوروبي:
تخلف في: [الفكر (النظرة في الكون)-السياسة-الاقتصاد-الصحة-المأكل والمشرب-النظافة-البنية التحتية]
* العلوم (الرياضيات-الفلك-الجغرافيا-الكيمياء-الفيزياء-الإنسانية-الميكانيكا)
العصر الإسلامي المجيد
(622م –1000م)
نضج الحضارة الإسلامية
...
622م
حادث الهجرة
...
* تذكر أن كل العلوم المعاصرة كان المسلمون هم من فتح أبوابها الرئيسة (انظر شهادة الطرف الآخر).
* وأن وسائل التحضر في المأكل والمشرب ووسائل الراحة جاءت من الشرق ومازالت في كثير من الأحوال بأسمائها العربية في العالم (أنظر زيجرد هونيكه شمس الله تشرق على الغرب).
* استمرار العطاء الإسلامي حتى نهاية القرن الخامس عشر واستمرار تدريس الكتب العلمية لمؤلفيها المسلمين في أوروبا كمراجع العلوم التطبيقية في الطب والرياضيات وغيرها.
الاشتباكات الحاسمة بين المسلمين والأوروبيين ...
1097-1291م
الحروب الصليبية
... فوائد الغرب من الحروب الصليبية:
kتمت ترجمت كل العلوم الإسلامية. kنقل التقنية. kالعلوم التطبيقية. kتغيير نمط الحياة في إيطاليا. kالقانون والفكر القانوني.
(التحول من البدائية إلى العلم الحديث)
القرن
الخامس عشر
قرن التحولات
...
* أسبانيا تطرد المسلمين (ارتفاع المعنويات الصليبية)
* اكتشاف رأس الرجاء الصالح (نمو تجارة أوروبا-وانكسار تجارة الحواضر الإسلامية حول البحر الأبيض المتوسط)
* اكتشاف الأمريكيتين (نمو تجاري-وفرة أموال [الصرف على العلم-الصرف على الصحة-الصرف على البنية التحتية])
- سقوط القسطنطينية (تحفز الغرب وإحساسه الخطر الخارجي)
الثورة الصناعية ...
* اكتشاف قوة البخار 1769م
الباب السابع
استجابة العالم الإسلامي
إن أمتنا الإسلامية منذ نشأتها وهي تتعرض على مر العصور والأحقاب المتتابعة لتيار متصل من التحديات والأخطار أشبه ما يكون بالتيار الكهربائي والذي تمثل الأخطار الكبرى كالحملات الصليبية والهجمة التتارية ومحاكم التفتيش في الأندلس ومعاهدات التجزئة والتقسيم ثم إسقاط الخلافة قمم موجاته. ويخطئ كل من يحصر الأخطار والتحديات في قمم الموج فقط. فتيار المخاطر لم ينقطع البتة، ولم تكن تنكسر موجة إلا لتعلو غيرها. وما بين الانكسار والعلو تلتقط الأمة أنفاسها قليلاً استعداداً للموجة التالية.
هذه القراءة للأحداث التاريخية وللواقع المعاصر لابد وأن تنقلنا من مجرد الاستجابة المتشنجة للتحديات القائمة ومن المحاولات المستميتة والمضطربة للتغلب على قمة الموجة العاتية إلى وضع رؤية استراتيجية شاملة واعية راشدة في محاولة للتقليل من قوة الأمواج المستقبلية ومن ثم للوصول إلى قمة المجد الحضاري في المستقبل.
لقد أوجزنا التحديات التي تواجهها أمتنا الآن في ثلاثية التخلف والاستعمار والفرقة. وأكدنا أنه لا يمكن التصدي لهذه التحديات إلا بالعمل على الأصعدة الأربعة التي تحدثنا عنها سلفاً: الصعيد النفسي، والفكري، والتنظيمي، والمادي.
إن هذا التحدي السافر على أمتنا يفرض علينا الرد، وقد بدأت بشائره في كل مكان .. قد تكون متعثرة، قد تكون مترددة، وقد يكون الميلاد صعباً، ولكنه الأمل الذي يراه الناس، أسرى اللحظة البائسة خيالاً، ونراه بعين البحث والنظر حقيقة لابد أن تتجسد معالمها الكلية على أرض الواقع بعد أن وضعت اللبنات الأولى منذ مطلع هذا القرن وتبلورت في أشكال فكرية وحركية واجتماعية في مجتمعنا، وبدأ البناء في الصعود شيئاً فشيئاً متضحاً في أشكال المقاومة المختلفة الراشدة وغير الراشدة. وما يحدث في الساحة الآن يمثل الصحوة التي يرتجى أن تتحول قريباً إلى يقظة تلملم أوراقها لتنطلق في ميادين النهضة، ثم تكون حضارة للعالمين.(5/350)
إن من أوجب واجبات الوقت الآن عكوف قادة النهضة وطلابها على تمحيص السبل والوسائل للانتقال بالأمة من مرحلة الصحوة - التي طال أمدها واستطابت ثمارها - إلى مرحلة اليقظة والرشد والوعي. إن الانتقال بالأمة من مرحلة الخطط التشغيلية والتنفيذية إلى مرحلة الخطط الاستراتيجية هو وحده الكفيل - بعد استمداد العون من الله تبارك وتعالى - بالقضاء على الأمواج وتقليل قوة تيار المخاطر إلى الحد المسموح به.
وتباشير الانطلاق إلى مرحلة اليقظة قد بدأت بالفعل استجابةً للتحديات القائمة وذلك على مستوى العوالم الثلاث:
فعلى مستوى عالم الأفكار تموج الساحة النهضوية الآن بالكثير من الأفكار التي تتدافع فيما بينها. وسوف يكتب لأصلح هذه الأفكار وأقواها البقاء والصمود.
كما شهد القرن العشرين صعود نجم الكثير من الحركات النهضوية الإصلاحية والتغييرية التي أحدثت فارقاً ضخماً ونقلةً حقيقية في عالم الأفكار. كما ظهرت العديد من كتابات النوعية التي وإن كانت شحيحة ونادرة إلا أنها بادرة إيجابية ومؤشر على التطور الذي يشهده عالم الأفكار في المشروع النهضوي الإسلامي.
هذا بعض حصاد مرحلة الصحوة فيما يتعلق بعالم الأفكار. وتكاد تطوى صفحات هذه المرحلة ولا تزال علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية - التي هي بطبيعتها علوم تتعلق بعملية التدافع - رهينة المكتبات وعقول الأكاديميين. ولا يزال هناك الكثير ليبذل على الصعيد الفكري لتحويل هذه الأفكار والعلوم إلى أدوات للاستخدام. ونعتقد أن هذا هو المشروع الذي لابد أن تقوم به طائفة من علماء ومفكري الأمة لتنتهي بهذا المشروع مرحلة الصحوة ونكون قد ولجنا إلى مرحلة اليقظة.
أما على مستوى عالم الأشياء فقد استطاعت بعض الدول الإسلامية امتلاك تكنولوجيا متقدمة على الصعيدين العسكري والمدني بما يؤهلها لإحداث بعض التوازن مع القوى العالمية الأخرى عسكرياً ومدنياً. وأقرب الأمثلة إلى الذهن باكستان النووية وماليزيا العملاق الاقتصادي القادم.
ولكن لا يزال أمامنا الكثير لردم الفجوة التكنولوجية والاقتصادية الهائلة بين أمتنا وبين القوى المهيمنة الأخرى. ولا تزال أكبر المشاكل التي تواجه أمتنا التبعية الاقتصادية ومشكلة السماء المفتوحة.
فالتبعية الاقتصادية تجعل الأمة تدور في فلك المستهلكين لا المنتجين. كما أن التبعية الاقتصادية يلازمها بالضرورة التبعية السياسية وما يترتب عليها من قرارات تتعلق بالصراع والتنمية والنهضة جميعاً.
أما مشكلة السماء المفتوحة فنقصد بها عجز العالم الإسلامي عن حماية سمائه ضد القوة المادية الصلبة التي قد تستخدمها القوى الأخرى إذا ما تململ المارد الإسلامي أو حاول التحرك أو القيام من
كبوته. إنها تعني الخوف من عواقب أي قرار سياسي حقيقي؛ بل الخوف من أن يُساء فهم أي قرار سياسي.
أما على مستوى عالم العلاقات فلا يزال هذا العالم أكثر العوالم الثلاثة تخلفاً. فالعلاقات لا تزال مضطربة بين الحكام والمحكومين، وبين الأحزاب والهيئات والسلطات، وبين الحركات النهضوية بعضها البعض؛ بل وبين الحكام أنفسهم. ولا تزال الانقلابات العسكرية والاستفتاءات هي أسلوب تداول السلطة أو احتكارها. وما أشبه عالم العلاقات في يومنا هذا بعالم العلاقات الذي كان سائداً في عصر دول وملوك الطوائف بالأندلس. وكم ستكون النهايتين شبيهتين لو استمر عالم العلاقات على هذا الحال.
إن استجابة الأمة الإسلامية والعربية للتحديات الآنية هي استجابة إيجابية إلى حد بعيد. ولكن لا يزال أمام الأمة البحث عن الوسيلة الذهبية التي بها يُحسم الصراع وتزول معها الأدواء. والأمة - ممثلة في علمائها ومفكريها وقادة وطلاب النهضة - وهي في طريقها للوصول إلى تلك الوسيلة الذهبية ينبغي عليها ألا تُغفل طريقاً أو سبيلاً أو فكرةً إلا وتمحصه أو تجربه. وينبغي ألا تشغلها مصارعة الموجة الحالية - التي ستنكسر بلا شك - عن التفكير العميق في كيفية الخروج من دوامة الأمواج العاتية المتتالية لعلها تجد مخرجاً أو تصادف منقذاً.
===========
السواك الدواء والسجائر الداء
الكاتب: الطبيب رامي محمد ديابي
Email: ithmed@islamway.com
الثلاثاء ، 27 رجب ، 1424
أرسل الموضوع إلى صديق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
رسالة علمية باسم :
نظرية ( السواك الدواء والسجائر الداء)
أسرار طبية حديثة من عراقة الحضارة الإسلامية
إشراقة نبوية :
كنت عبر السنوات الست الأخيرة في عملي ضد التدخين كثيراً ما أعود لأعيش مع اللحظات الأخيرة من وفاة نبي الرحمة وهو يتسوك بعود من الآراك بفكر المتأمل والباحث العلمي والمتبحر لسر هذا الاختيار النبوي في فراق الدنيا على عود من الآراك ؟
وكان كل يوم أزداد فيه إطلاعاً على خفايا الميزات العلمية للآراك أزداد تعظيماً للآراك تلك المعجزة الطبية البيئية لسكان القرن العشرين إذ تبين أن الآراك هو الشجرة الأمثل لوقف التصحر بقدرتها على النمو في السبخات المالحة وإمكانية استمرارها في الحياة بريها بماء البحر ، عدا عن التأثير المذهل لعود الآراك في شفاء المدمنين على النيكوتين ( من المدخنين ) والذي يبشر بزوال أمراض وخيمة مثل المخدرات والإدمان الكحولي والتدخين إذا تبنته الحكومات في برامجها الصحية والوقائية .
مقدمة الرسالة :
إن الحضارة الشرقية العريقة التي امتدت عبر مئات السنين لتمد جسور النور لأوربة في عصور الظلام هي نفسها تلك الحضارة التي توشك أن تنقذ العالم اليوم من أمراض الحضارة المدنية الحديثة ولاعجب ...
وربما كان مثالنا في هذا النظرية مصداقية لتلك العبارات السابقة وهو ما كشفه العلم الحديث وما يتوقع من الدور المستقبلي لتلك الجذور الطبية المسماة ( بالآراك - Persica Salvadoria ) في العلاج والوقاية من مشكلة التصحر عالمياً وكعلاج عملي بسيط التكلفة لوباء التدخين والمخدرات والكحولية .
أما كيف ذلك فالجواب يقع في شطرين :
الأول ربما كان في خبر نقلته محطة البي بي سي عن نجاح أمارة أبوظبي في زرع مليوني شجرة آراك ( شجرة السواك ) عبر مسافة تصل إلى 100 كيلومتر باتجاه الربع الخالي بعدما تبين أن الآراك يستطيع النمو في السبخات المالحة ويمكن ريه بماء البحر.
إن أهمية الجذور الطبية لنبات الأراك المستخدم في البلاد العربية منذ آلاف السنين معروفة كدواء عشبي لأمراض كثيرة وكفرشاة ومعجون أسنان بآن واحد ومؤخراً جاءت الأبحاث العلمية في جامعة عين شمس عبر أربع سنين لتكشف حقائق مذهلة تضاف إلى الأبحاث الغربية الأمريكية والسويسرية وغيرها لتثبت أهمية طبية خاصة لهذا الجذر النباتي الطبي..
ويحضرني هنا ما ذكره أستاذنا الدكتور محمد علي البار في كتابه القيم ( السواك ) نقلاً عن المجامع الغربية والشرقية في تميز السواك بمادة الثيو سيانات المضادة للنخور السنية والتي كانت معظم السبب في عدم حاجة العرب قديماً لطبيب الأسنان .
من خلال هذه السطور أركز على الإعجاز النبوي في عظمة الدلالة العلمية البيئية الصحية في وفاة النبي عليه السلام وهو يتسوك وأدلل على كون السواك ربما المخرج العملي للأمة الإسلامية من وباء التدخين , ذلك الوباء الذي يعد السبب الأول والوحيد لوباء المخدرات والإنحرافات السلوكية المختلفة في المجتمعات المسلمة.
نظرية السواك الدواء والسجائر الداء
الأسس التي قامت عليها النظرية :
1- خاصية الاعتياد المشترك ( للسواك والسجائر ) فيزيولوجياً وميكانيكياً.(5/351)
الميل الفيزيولوجي والعلاقة الميكانيكية بين اليد والفم هي أساس من أسس نجاح صناعة السجائرتجارياً وهي عامل مشترك بين الداء ( التدخين ) والدواء ( السواك ) ولعل منعكس المص عند الأطفال أحد الشواهد على ذلك.
تنص الفرضية :
"أن الأصل في عادة السجائر فيزيولوجي وميكانيكي ويحدث الإدمان خاصة في حال انعدام البديل الفطري الصحي "السواك" .
أما شواهد النظرية فهي كثيرة منها الميل الفيزيولوجي عند الأطفال لعادات كثيرة تربط الفم باليد ومنها مص الأصبع ونتف الشارب وغيرها"
شاهد منW.H.O منظمة الصحة العالمية:
يذكر الفنان دريد لحام في شريط الفيديو الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية في عام 2001 بمناسبة اليوم العالمي للتدخين خلاصة مهمة وهي :
إدمان التدخين هو إدمان المدخن للعادة الميكانيكية الحركية بين يديه والسجائر بشكل أساسي .
2- السواك وسيلة ناجعة في علاج إدمان السجائر:
هناك حالات عديدة نجحت بالإقلاع من مرضى عيادة الإقلاع الخاصة بي في حلب - سورية وذلك باستعمال السواك الأخضر الطازج والذي يأتي من منطقة أبها ومن بلاد اليمن خاصة وكانت أفضل النتائج لعلاج ادمان التدخين بالسواك تتأتى باستعمال السواك الحار ( له مذاق حار مثل مذاق قشر الفجل ) وإن لم يكن الشفاء من السجائر كاملاً فالانخفاض ملحوظ ، وهو عادة من 40-100 % عند مختلف الحالات ولذلك كنت أنصح المدخنين دوماً بوضع السواك داخل علبة السجائر.
فضلاً عن تقارير حالات الشفاء من الإدمان باستعمال الآراك كبديل ميكانيكي عن السجائرمن دول إسلامية كثيرة والتي جعلت أحد المحسنين في السعودية "كما علمت " يقوم ببناء معمل مشهور ( سواك مكة ) ليحارب وباء التدخين ، ويبدو أن العادة الميكانيكية لليد بالتردد على الوجه هي عادة مغروسة في فيزيولوجيا الكائن البشري من قبل الإله الخالق سبحانه وهذا ما يتبادر للذهن عند قراءة حديث صحيح مسلم :
عشر من سنن الفطرة وذكر أولها : السواك .
3- تأثيرات صحية نافعة للسواك تعاكس تأثيرات السجائر الضارة:
لعنات السجائر وآثارها المدمرة الصحية تصيب كل الطرق التنفسية بشكل أساسي حيث التماس المباشر مع دخان السجائر ثم تتعداه لكل الأجهزة الحيوية لتظهرالتأثيرات المخربة والمسرطنة بعد حين فتتنوع من اللثة والأسنان والفم والحنجرة والمعدة والأعصاب إلى الناحية الجنسية وبالمقابل يأتي السواك ليلعب دوراً معاكساً في كل الأجهزة السابقة بداية من لون الأسنان وطعم الفم ورائحته للحنجرة والمعدة وغيرها .
ودور السواك في علاج التهابات الحنجرة والوقاية منها معروف لتجاور المخاطية المبطنة للفم والحنجرة إضافة لتأثير السواك المهدء للأعصاب والمعدة ثم إلى دوره المضاد للسرطان المثبت في أبحاث غربية وباكستانية، إضافة لدوره المقوي جنسياً المعروف لكونه يعتبر أقوى معطر ومنكه للفم فضلاً عن كونه أقوى مزيل فوري لرائحة الفم الكريهة والتي غالباً ما ينجم عنها قرف الزوجة من الزوج والبرود الجنسي. ( قارن بين مظهر أسنان المتسوك والمدخن للتتأكد )
ولعل من المفيد هنا ذكر الأدب النبوي في بدء دخوله عليه السلام البيت بالسواك فإذا أراد تقبيل بعض أهله كان فمه عطراً منكهاً.
أما الدلالات العظيمة من وفاة النبي عليه السلام على السواك فكثيرة منها :
• رسالة بيئية ضد التصحر ورسالة للعودة للفطرة والموت عليها ( السواك من سنن الفطرة ) فضلاً عن دلالتها في تشخيصها لأهم داء ودواء للأمة الإسلامية فالتدخين يكلف المسلمين 1.5 مليون وفاة سنويا بالإضافة ل 800 مليون دولار يومياً كثمن للسجائر مضافاً لها 4-6 مليار دولار نفقات المخدرات المالية ( التدخين مرتبط بالمخدرات وهو سبب له وحيد ) عدا عن داء الخمر ( الكحولية ) وخسائره المالية والروحية الذي يعد التدخين سببه الوحيد إضافة للفواتير الصحية المنوعة وخسائر الدين والشاهد على ذلك قول الدكتور محمد خطيب الممثل الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في اليمن - مؤتمر الكويت 1998 -
إن مادة النيكوتين التي يدمنها الفرد تعتبر من أخطر المواد المسببة للإدمان والتدخين مقدمة لإدمان المواد المخدرة كلها ويبدئ تعاطي الكحول دوماً بالسجائر !
5- حرمة السجائر وسنية السواك ( ماتركت سنة إلا وجاءت مكانها بدعة )
إن ارتباط السواك بالملائكة والسيجارة بالشياطين واضح من خلال عدة أمور منها :
الحديث الشريف : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) ، وفي رواية : مطردة للشيطان..
ثم علاقة من يمارسون السحر والجن وحبهم للسجائر ومعرفة أن المدخن يؤذي من حوله بمواد سامة غازية وسائلة ثم تسببه في حرائق الغابات والبيوت مع ما تحويه السجائر من مواد مشعة,إضافة لنفور الملائكة عن المدخنين ، لوصفه عليه السلام طبيعة الملائكة الكرام اللطيفة بأنها ( تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) .
( ولعل هذا يفسر الإنحرافات السلوكية للمدخنين والتي أثبتها البحث العلمي في مصر والكويت وغيرها ) عداعن البحث العلمي الكندي الذي قمت بترجمته منذ شهرين للصحف والذي توصلت عبره الطبيبة الكندية لوجود علاقة تآزر قوية بين مستقبلات النيكوتين الدماغية وإدمان الكحول.
وشاهد آخر هو كثرة أعداد الذين يمارسون هوايتهم المفضلة " التدخين " في بيوت الشياطين لاحظ أعقاب السجائر الموجودة بكثرة في دورات المياه .
ويحضرني هنا شهادة أحد شخصيات دبي المشهورة " المهندس أحمد سفاريني "
عندما جربت السجائر وجدت في نفسي ضعف النازع للخير وقوة نوازع الشر والشهوات !
تعقيب عملي للأمة الإسلامية :
أمتاه استبدلي السيجارة بالسواك لكي يكتب لك التمكين .فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
قاطعي التبغ لأنه حيلة الصهاينة الأولى في إفساد المجتمعات الإسلامية ونهب ثرواتها بما يدره عليهم من أموال هائلة وبما يساهم به سوق التبغ في اتساع أسواق المخدرات والكحول والدعارة .
وهو إضافة لما سبق عمود الاقتصاد الصهيوني العالمي الأول.
أمتاه إن لم تقدري على جهاد الصهاينة بمالك ولملمة جراح الأقصى فلا أقل أن لا ندعم سكاكين الأقصى .
أمتاه فلا تشتري سموم التبغ رحمة بأطفال المسلمين وأراملهم " التبغ من أكبر أسباب المآسي الاجتماعية في بلاد المسلمين"
بحث علمي شاهد مهم عن حجم المأساة :
في بلد فقير يدعى إدلب في سورية - ينفق المدرس المعدوم من راتبه الشهري الذي يبلغ معدله 100 دولار ما مقداره 40 -50 % على شراء السجائر [ من بحث منشور عالميا للطبيب وسيم مزيك من حلب ]
أمتاه ما غلنت أمتنا إلا بسيف النفاق وبسيف علماء مسلمين سخروا الدين لقتل المسلمين !!
أمتاه حاربي كل مفتٍ يقول " أن التدخين مكروه فقط " بالحجة والبيان.
وأقيمي عليه الحجة بما استجد من أبحاث وحقائق علمية ووثائق سرية لشركات التبغ فضحت حديثاً ، فإن أصر فاتهمي ذلك العالم في دينه ، فكما بينت تقارير شركات التبغ السرية أن من خططهم دعم علماء المسلمين القائلين بكراهة التبغ والمواصلة معهم لبناء جسور علاقات قوية تحول دون تعطل تجارة الموت بين شباب المسلمين.
أمتاه ادعمي كل تحرك ضد التبغ صحي وإعلامي ووقفي وخاصة المشاريع الصحية والإسلامية الإعلامية على الإنترنت .(5/352)
إخواني حاربوا كل المنافقين من أعوان هذه الشركات اللعينة والتي وضعت في بلاد المسلمين من المسئولين والإعلاميين ممن يحارب كل تحرك صحي لحماية شباب المسلمين ( وتفصيل ذلك موجود على الانترنت في تقارير منظمة الصحة العالمية المسماة تقرير صوت الحقيقة ) وفيها فضح لعملاء حكوميين وإعلاميين في بلاد العرب باعوا أطفال المسلمين بحفنة من الدولارات .
خلاصة:
السواك من وجهة نظر علمية بحتة موضوع خرج من باب الشبهات والتساؤلات التشكيكية المطروحة حوله قديماً من قبل من اعتادوا التهجم على كل قضية علمية أضاءت صروحاً من تاريخ المسلمين العلمي العريق .
وذلك ليتربع على عرش المواد الطبيعية الفعالة في صحة الجسم والفم في البلاد المتقدمة حاليا ً خاصة بعدما عاد الطب الحديث ليثبت مقولة قديمة : الفم مرآة الجسد أي (إن صحة الجسم في صحة الفم )
وأهميته تتعدى النواحي الصحية العظيمة للنواحي الاقتصادية وذلك لأن السواك ( مادة استهلاكية ) و يمكن أن يدخل في صناعات عديدة من مواد طب الأسنان - لمواد الطب الشعبي لصناعات تغليف السواك ( مثل : حقن السواك على الفرشاة البلاستيكية وغيرها ( إضافة لصلاحيته في الطب الشعبي كمانع حمل طبيعي ( يستخدم منقوعه شربا كما ورد ذلك عبر سماعي له من الكويت ومن اللاذقية ) - مع كونه معقم معوي شديد- معقم فموي للغرغرة - ويصنع منه الآن مشروب متة ممزوجة مع السواك (موجودة في سورية ويصرف بوصفات طبية- وكذلك يمكن وضعه ضمن البهارات أي ممزوجة مع السواك - وكذلك يستعمل كمزيل روائح للفم و مقوي جنسي) وبالتالي يحقق السواك بديلاً اقتصادياً للحكومات عن أرباح التبغ وضرائبه .
واليوم الغرب ينتظر منا أن نخاطبه بما يفهم ومع نهاية البحث العلمي المزمع إجراؤه لإثبات تلك النظرية أكاديمياً بعون الله يمكن للمسلمين أن يتوجهوا للغرب ليقولوا لهم لقد أنزل الله الدواء قبل أن يكتشف الداء بمئات السنين وهذا غيض من فيض من رحمات الإسلام للعالم والتي جاءت عبر نبي الرحمة ليدل العالم على كل علاجات أوبئة الروح والجسد قبل مئات السنين .
جدول مقارنة بين بعض فوائد السواك وما يقابلها من أضرار السجائر
مقارنة ... السواك ... السجائر
رائحة الفم ... معطرة - ومزيل فوري لكافة الروائح الكريهة - أسرع مزيل للروائح ... رائحة الزفت والقطران
طعم الفم ... من أسباب سعادة المرء ليلاً استعماله السواك قبل النوم - الطعم الرائع (مطيبة للفم) - واستعمال النبي للسواك على أطراف اللسان ليلاً إرشاد صحي لصحة الحليمات الذوقية التي تعطينا حس الطعام ... مرارة الطعم الكريه وهلاك الحليمات الذوقية بواسطة دخان السجائر يجبر المدخن على استعمال كميات كبيرة من التوابل في سنين التدخين الأخيرة .
مفرزات البلعوم الأنفي المنظفة للبلغم ... يقضي عليها تماماً بأسرع وقت قياسا لكثير من الأدوية التقليدية ... يسبب المفرزات المزعجة الدائمة للبلعوم الأنفي والتي تجبر المدخن على البصاق دوماً
طعم الطعام ... يحفظ صحة الحليمات الذوقية ويطيل عمرها - ( انظر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في وصف تسوك النبي عليه السلام ليلاً وكيف كان يمرر السواك على طرف لسانه) ... تموت الحليمات الذوقية بسرعة مما يجبر المدخن على استعمال البهارات والمنكهات بكمية أكبر
لون الأسنان ... أبيض مميز بسبب السيليكات المبيضة للأسنان وغيرها من المواد المعقمة للجراثيم ... قبيح ويدل على الإهمال العام للشخصية
إفراز اللعاب ... محرض قوي على الإلعاب وهو عامل مهم جداً في صيانة الصحة الفموية ... اضطرابات في إفراز اللعاب والتهابات فموية عديدة.
أمراض اللثة ... يحافظ على حافة متقرنة للثة وهي قضية مهمة في صحة الفم والأسنان
( أحدث ما قررته البحوث الصحية ) ... مدمر للثة مسرطن بأساليب عديدة وآليات موضعية وجهازية
تأثير جهازي عام ... صحة الجسم في صحة الفم المنكه والمطيب للمتسوك حقيقة علمية قديمة جداَ عاد الطب الحديث ليؤكدها ... شقاء وبلاء عام منتشر من الفم لكل الجسم بعدة آليات أقلها السرطانات
المعدة ... مهدئ للأعصاب المعدية ( مستعمل كمنقوع في الطب الشعبي من القدم) ... تأثيرات مقرحة ومسرطنة ومعطلة للشهية
البيئة ... نموه في السبخات والماء المالح جعل الامارات تتبناه وتحول 100 كيلومتر من الصحراء إلى أشجار ... سبب رئيسي في الحرائق و نسبة 33% من حرائق الغابات وبالتالي التصحر
عدا عن قذارة أماكن التدخين بالفضلات الناجمة عنه
... ...
الجدول المقارن بين بعض فوائد السواك الدينية وما يقابلها من أضرار السجائر
مقارنة ... السواك ... السجائر
رضى الرب ... مرضاة للرب ويطرد الشياطين
وتحبه الملائكة ... تطرد الملائكة وتأتي بالشياطين
البصر ... مجلاة للبصر - كما وردت اللآثار ... مرارة الطعم الكريه وهلاك الحليمات الذوقية بواسطة دخان السجائر يجبر المدخن على استعمال كميات كبيرة من التوابل
الفم ... مطيبة ومطهرة للفم - كما أوردت الأحاديث ... الرائحة الكريهة والسرطانات وتخرب الأسنان والأنسجة
نطق الشهادة عند الموت ... يذكر بالشهادة كما أورد العلماء ... يمنع من النطق بالشهادة *
النصرة من الله ... من أسباب النصر ... من أسباب الهزيمة
مكانه ووقته ... المسجد والصلاة والوضوء والقرآن ... دور الخلاء والمقاهي ودور القمار والخمر
نوع مستخدميه
( عموماً ) ... أهل المساجد والصلاح ... أهل الخمر والزنى والمخدرات عموماً
تأثير سلوكي ... يقوم الأخلاق ويهذبها - لصحبة الملائكة ... انحرافات سلوكية متعددة كما أوردت الأبحاث - مفتاح الخمر والزنى والممر الإجباري له
مثل جليسه ... حامل العطر ... نافخ الكير
==============
الاستشراق
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
الاستشراق Orientalism تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم. ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته. ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.
التأسيس وأبرز الشخصيات :
البدايات :
- من الصعب تحديد بداية للاستشراق، إذ أن بعض المؤرخين يعودون به إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس، في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري. وأنه نشط في الشام بواسطة الراهب(*) يوحنا الدمشقي John of Damascus في كتابين الأول: حياة محمد. والثاني: حوار بين مسيحي ومسلم. وكان هدفه إرشاد النصار في جدل(*) المسلمين. وأيًّا كان الأمر فإن حركة الاستشراق قد انطلقت بباعث ديني يستهدف خدمة الاستعمار(*) وتسهيل عمله ونشر المسيحية(*).
- وقد بدأ الاستشراق اللاهوتي بشكل رسمي حين صدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام 1312م وذلك بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية.
- لم يظهر مفهوم الاستشراق Orientalism في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، فقد ظهر أولاً في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م كما أدرج في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م.(5/353)
- هربر دي أورلياك (938 - 1003م) Herbert de Oraliac من الرهبانية(*) البندكتية، قصد الأندلس، وقرأ على أساتذتها ثم انتخب - بعد عودته - حبراً أعظم باسم سلفستر الثاني 999 - 1003م فكان بذلك أول بابا(*) فرنسي.
- في عام 1130م قام رئيس أساقفة(*) طليطلة بترجمة بعض الكتب العلمية العربية.
- جيرار دي كريمونا 1114 - 1187م Gerard de Gremona إيطالي، قصد طليطلة وترجم ما لا يقل عن 87 مصنفاً في الفلسفة(*) والطب والفلك وضرب الرمل.
- بطرس المكرم 1094 - 1156م Prerre le venerable فرنسي من الرهبانية البندكتية، رئيس دير كلوني، قام بتشكيل جماعة من المترجمين للحصول على معرفة موضوعية عن الإسلام. وقد كان هو ذاته وراء أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية 1143م التي قام بها الإنجليزي روبرت أوف كيتون robert of Ketton.
- يوحنا الإشبيلي: يهودي متنصر Juan de Sevilla ظهر في منتصف القرن الثاني عشر وعني بعلم التنجيم(*)، نقل إلى العربية أربعة كتب لأبي معشر البلخي 1133م وقد كان ذلك بمعاونة إدلر أوف باث.
- روجر بيكون 1214 - 1294م roger Bacon إنجليزي، تلقى علومه في أكسفورد وباريس حيث نال الدكتوراه في اللاهوت(*)، ترجم عن العربية كتاب مرآة الكيمياء نورمبرج 1521م.
- رايموند لول 1235 - 1314م قضى تسع سنوات 1266 - 1275م في تعلم العربية ودراسة القرآن وقصد بابا روما وطالبه بإنشاء جامعات تدّرس العربية لتخريج مستشرقين قادرين على محاربة الإسلام. ووافقه البابا. وفي مؤتمر فينا سنة 1312م تم إنشاء كراسٍ للغة العربية في خمس جامعات أوربية هي: باريسُ، اكسفورد، وبولونيا بإيطاليا، وسلمنكا بأسبانيا، بالإضافة إلى جامعة البابوية في روما.
- قام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة. ووظفوا خلفياتهم الثقافية وتدريبهم البحثي لدراسة الحضارة الإسلامية والتعرف على خباياها لتحقيق أغراض الغرب الاستعمارية والتنصيرية.
وقد اهتم عدد من المستشرقين اهتماماً حقيقيًّا بالحضارة الإسلامية وحاول أن يتعامل معها بموضوعية. وقد نجح عدد قليل منهم في هذا المجال. ولكن حتى هؤلاء الذين حاولوا أن ينصفوا الإسلام وكتابه ورسوله r لم يستطيعوا أن ينفكوا من تأثير ثقافاتهم وعقائدهم فصدر منهم ما لا يقبله المسلم من المغالطات والتحريفات؛ ولهذا يخطئ من يظنهم منصفين . ( انظر للتوضيح : رسالة " الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجري " لعلي بخيت الزهراني .
• مستشرقون يُزعم أنهم منصفون:
- هادريان ريلاند ت1718م Hardrian roland أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولندا، له كتاب الديانة المحمدية في جزأين باللغة اللاتينية 1705م، لكن الكنيسة(*) في أوروبا وضعت كتابه في قائمة الكتب المحرم تداولها.
- يوهان ج. رايسكه 1716 - 1774م J.J.reiske وهو مستشرق ألماني جدير بالذكر، اتهم بالزندقة (*) لموقفه الإيجابي من الإسلام، عاش بائساً ومات مسلولاً، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية بألمانيا.
- سلفستر دي ساسي: 1838م Silvestre de Sacy اهتم بالأدب والنحو مبتعدا ًعن الخوض في الدراسات الإسلامية، وإليه يرجع الفضل في جعل باريس مركزاً للدراسات العربية، وكان ممن اتصل به رفاعة الطهطاوي.
- توماس أرنولد 1864-1930م إنجليزي، له الدعوة إلى الإسلام الذي نقل إلى التركية والأردية والعربية.
- غوستاف لوبون: مستشرق وفيلسوف مادي(*)، لا يؤمن بالأديان(*) مطلقاً، جاءت أبحاثه وكتبه الكثيرة متسمة بإنصاف الحضارة الإسلامية مما دفع الغربيين إلى إهماله وعدم تقديره.
- زيجريد هونكه: اتسمت كتابتها بالإنصاف وذلك بإبرازها تأثير الحضارة العربية على الغرب في مؤلفها الشهير شمس العرب تسطع على الغرب.
- ومنهم: جاك بيرك، أنا ماري شمل، وكارلايل، ورينيه جينو، والدكتور جرينيه، وجوته الألماني.
- أ.ج. أربري A.J. Arberry، من كتبه الإسلام اليوم صدر 1943م، وله التصوف صدر 1950م، وترجمة معاني القرآن الكريم.
• مستشرقون متعصبون:
- جولدزيهر Goldizher 1850-1920م مجري يهودي، من كتبه تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي. والعقيدة والشريعة. ولقد أصبح زعيم الإسلاميات في أوروبا بلا منازع.
- جون ماينارد Maynard J. أمريكي، متعصب، من محرري مجلة الدراسات الإسلامية.
- ص م. زويمر S.M. Zweimer مستشرق مبشر، مؤسس مجلة العالم الإسلامي الأمريكية، له كتاب الإسلام تحد لعقيدة صدر 1908م، وله كتاب الإسلام عبارة عن مجموعة مقالات قدمت للمؤتمر التبشيري الثاني سنة 1911م في لكهنئو بالهند.
- غ. فون. غرونباوم G. Von Grunbaum ألماني يهودي، درَّس في جامعات أمريكا، له كتاب الأعياد المحمدية 1951م ودراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية 1954م.
- أ.ج. فينسينك A.J. Wensink عدو للإسلام، له كتاب عقيدة الإسلام 1932م. وهو ناشر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي في لغته الأولى.
- كينيث كراج K. Gragg أمريكي، متعصب، له كتاب دعوة المئذنة 1956م.
- لوي ماسينيون L.Massignon فرنسي، مبشر، مستشار في وزارة المستعمرات الفرنسية لشؤون شمال أفريقيا، له كتاب الحلاج الصوفي شهيد الإسلام 1922م.
- د.ب. ماكدونالد D.B. Macdonald أمريكي، متعصب، مبشر، له كتاب تطور علم الكلام(*) والفقه والنظرية الدستورية 1930م. وله الموقف الديني والحياة في الإسلام 1908م.
- مايلز جرين M. Green سكرتير تحرير مجلة الشرق الأوسط.
- د.س. مرجليوث D.S. Margoliouth 1885 - 1940م إنجليزي، متعصب، من مدرسته طه حسين وأحمد أمين، وله كتاب التطورات المبكرة في الإسلام صدر 1913م. وله محمد ومطلع الإسلام صدر 1905م وله الجامعة الإسلامية صدر 1912م.
- بارون كارادي فو Baron Carra de Voux فرنسي، متعصب، من كبار محرري دائرة المعارف الإسلامية.
- هـ.أ.ر. جب H.A.r. Gibb 1895 - 1965 م إنجليزي، من كتبه المذهب(*) المحمدي 1947م والإتجاهات الحديثة في الإسلام 1947م.
- ر.أ. نيكولسون r.A. Nicholson إنجليزي، ينكر أن يكون الإسلام ديناً روحيًّا وينعته بالمادية وعدم السمو الإنساني، وله كتاب متصوفو الإسلام 1910م وله التاريخ الأدبي للعرب 1930م.
- هنري لامنس اليسوعي 1872 - 1937م H.Lammans فرنسي ، متعصب، له كتاب الإسلام وله كتاب الطائف، من محرري دائرة المعارف الإسلامية.
- جوزيف شاخت J. Schacht ألماني ، متعصب ضد الإسلام، له كتاب أصول الفقه الإسلامي.
- بلاشير: كان يعمل في وزارة الخارجية الفرنسية كخبير في شؤون العرب والمسلمين.
- ألفرد جيوم A. Geom إنجليزي، متعصب ضد الإسلام من كتبه الإسلام.
الأفكار والمعتقدات:
أهداف الاستشراق:
الهدف الديني :
كان هذا الهدف وراء نشأة الاستشراق، وقد صاحبه خلال مراحله الطويلة، وهو يتمثل في:
1- التشكيك في صحة رسالة النبي(*) صلى الله عليه وسلم ، والزعم بأن الحديث النبوي إنما هو من عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى. والهدف الخبيث من وراء ذلك هو محاربة السُّنة بهدف إسقاطها حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لأحكام الإسلام ولحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته.
2- التشكيك في صحة القرآن والطعن فيه، حتى ينصرف المسلمون عن الالتقاء على هدف واحد يجمعهم ويكون مصدر قوتهم وتأى بهم اللهجات القومية عن الوحي باعتباره المصدر الأساسي لهذا الدين (تنزيل من حكيم حميد).(5/354)
3- التقليل من قيمة الفقه الإسلامي واعتباره مستمداً من الفقه الروماني.
4- النيل من اللغة العربية واستبعاد قدرتها على مسايرة ركب التطور وتكريس دراسة اللهجات لتحل محل العربية الفصحى.
5- إرجاع الإسلام إلى مصادر يهودية ونصرانية بدلاً من إرجاع التشابه بين الإسلام وهاتين الديانتين إلى وحدة المصدر.
6- العمل على تنصير المسلمين.
7- الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والأخبار الموضوعة في سبيل تدعيم آرائهم وبناء نظرياتهم.
8- لقد كان الهدف الاستراتيجي الديني من حملة التشويه ضد الإسلام هو حماية أوروبا من قبول الإسلام بعد أن عجزت عن القضاء عليه من خلال الحرب الصليبية.
- الهدف التجاري :
لقد كانت المؤسسات والشركات الكبرى، والملوك كذلك، يدفعون المال الوفير للباحثين، من أجل معرفة البلاد الإسلامية وكتابة تقارير عنها، وقد كان ذلك جليًّا في عصر ما قبل الاستعمار(*) الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين.
- الهدف السياسي يهدف إلى:
1- إضعاف روح الإخاء بين المسلمين والعمل على فرقتهم لإحكام السيطرة عليهم.
2- العناية باللهجات العامية ودراسة العادات السائدة لتمزيق وحدة المجتمعات المسلمة.
3- كانوا يوجهون موظفيهم في هذه المستعمرات إلى تعلم لغات تلك البلاد ودراسة آدابها ودينها ليعرفوا كيف يسوسونها ويحكمونها.
4- في كثير من الأحيان كان المستشرقون ملحقين بأجهزة الاستخبارات لسبر غور حالة المسلمين وتقديم النصائح لما ينبغي أن يفعلوه لمقاومة حركات البعث الإسلامي.
الهدف العلمي الخالص :
- بعضهم اتجه إلى البحث والتمحيص لمعرفة الحقيقة خالصة، وقد وصل بعض هؤلاء إلى الإسلام ودخل فيه، نذكر منهم:
1- توماس أرنولد الذي أنصف المسلمين في كتابة الدعوة إلى الإسلام.
2- المستشرق الفرنسي رينيه فقد أسلم وعاش في الجزائر وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام مات في فرنسا لكنه دفن في الجزائر.
• أهم المؤلفات :
- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان ت1956م.
- دائرة المعارف الإسلامية: ظهرت الطبعة الأولى بالإنجليزية والفرنسية والألمانية وقد صدرت في الفترة 1913-1938م. غير أن الطبعة الجديدة قد ظهرت بالإنجليزية والفرنسية فقط من عام 1945م وحتى عام 1977م.
- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف والذي يشمل الكتب الستة المشهورة بالإضافة إلى مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وقد وضع في سبعة مجلدات نشرت ابتداءً من عام 1936م.
- لقد بلغ ما ألفوه عن الشرق في قرن ونصف قرن (منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) ستين ألف كتاب.
• المؤتمرات والجمعيات:
- عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في باريس سنة 1873م.
- تتابعت المؤتمرات بعد ذلك حتى بلغت أكثر من ثلاثين مؤتمراً دوليًّا، فضلاً عن الندوات واللقاءات الإقليمية الكثيرة الخاصة بكل دولة من الدول كمؤتمر المستشرقين الألمان الذي عقد في مدينة درسدن بألمانيا عام 1849م، وما تزال تنعقد مثل هذه المؤتمرات باستمرار حتى الآن.
- يحضر هذه المؤتمرات مئات من العلماء المستشرقين، حيث حضر مؤتمر أكسفورد تسعمائة 900 عالم من خمس وعشرين دولة وثمانين جامعة وتسع وستين جمعية علمية.
- هناك العديد من الجمعيات الاستشراقية كالجمعية الآسيوية في باريس تأسست عام 1822م، والجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وأيرلندا عام 1823م، والجمعية الشرقية الأمريكية عام 1842م والجمعية الشرقية الألمانية عام 1845م.
• المجلات الاستشراقية:
للمستشرقين اليوم من المجلات والدوريات عدد هائل يزيد على ثلاثمائة مجلة متنوعة وبمختلف اللغات نذكر منها على سبيل المثال:
1- مجلة العالم الإسلامي The Muslim World أنشأها صمويل زويمر ت1952م في بريطانيا سنة 1911م وقد كان زويمر هذا رئيس المبشرين في الشرق الأوسط.
2- مجلة عالم الإسلام Mir Islama ظهرت في بطرسبرج عام 1912م لكنها لم تعمر طويلاً.
3- مجلة ينابيع الشرق أصدرها هامر برجشتال في فيينا من 1809 إلى 1818م.
4- مجلة : الإسلام ظهرت في باريس عام 1895م ثم خلفتها عام 1906م مجلة العالم الإسلامي التي صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية في المغرب وقد تحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية.
5- في عام 1910م ظهرت مجلة الإسلام Der Islam .
• الاستشراق في خدمة الاستعمار(*):
كارل هنيريش بيكر Kar Heinrich Beeker ت 1933م مؤسس مجلة الإسلام الألمانية، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية في أفريقيا.
- بارتولد Barthold ت 1930م مؤسس مجلة عالم الإسلام الروسية، قام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.
- الهولندي سنوك هرجرونجه Snouck Hurgonje, G. 1857-1936م قدم إلى مكة عام 1884م تحت اسم عبد الغفار، ومكث مدة نصف عام، وعاد ليكتب تقارير تخدم الاستعمار في المشرق الإسلامي. وقد سبق له أن أقام في جاوه مدة 17 سنة وقد صدرت الصور التي أخذها لمكة والأماكن المقدسة في كتاب بمناسبة مرور مائة سنة على تصويرها.
معهد اللغات الشرقية بباريس المؤسس عام 1885م كانت مهمته الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية وبلدان الشرق الأقصى مما يشكل أرضية تسهل عملية الاستعمار في تلك المناطق.
- وهكذا نرى أن مثل هؤلاء المستشرقين جزء من مخطط كبير هو المخطط الصهيوني الصليبي لمحاربة الإسلام، ولا نستطيع أن نفهمهم على حقيقتهم إلا عندما نراهم في إطار ذلك المخطط الذي يهدف إلى تخريج أجيال لا تعرف الإسلام أو لا تعرف من الإسلام إلا الشبهات، وقد تم انتقاء أفراد من هذه الأجيال لتتبوأ أعلى المناصب ومراكز القيادة والتوجيه لتستمر في خدمة الاستعمار(*).
• آراء استشراقية خطرة:
- جورج سيل G.Sale زعم في مقدمة ترجمته لمعاني القرآن 1736م، أن القرآن إنما هو من اختراع محمد ومن تأليفه وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل(*).
- ريتشارد بل richard Bell يزعم بأن النبي(*) محمد r قد استمد القرآن من مصادر يهودية ومن العهد القديم (*) بشكل خاص، وكذلك من مصادر نصرانية.
- دوزي ت1883م: يزعم أن القرآن الكريم ذو ذوق رديء للغاية ولا جديد فيه إلا القليل، كما يزعم أن فيه إطناباً بالغاً ومملاً إلى حد بعيد.
- جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني أو مسبي غو لرئيس حكومته بتاريخ 9 يناير 1938م: "أن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها بل فرنسا أيضاً، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة(*) وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة".
- يقول شيلدون آموس: "إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية، ويقول كذلك: "إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي".
- قال رينان الفرنسي: "إن الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية".
- أما لويس ماسينيون فقد كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة في العامية وبالحرف اللاتيني.
ولكن:
- مما لا شك فيه أن للمستشرقين فضلاً كبيراً في إخراج الكثير من كتب التراث ونشرها محققة مفهرسة مبوبة.
- ولا شك أن الكثير منهم يملكون منهجية علمية تعينهم على البحث.
- ولا ريب في أن لدى بعضهم صبراً ودأباً وجلداً في التحقيق والتمحيص وتتبع المسائل.(5/355)
- وما على المسلم إلا أن يلتقط الخير من مؤلفاتهم متنبهاً إلى مواطن الدس والتحريف ليتجنبها أو ليكشفها أو ليرد عليها لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، خاصة وأن الفكر الاستشراقي المعاصر قد بدأ يغير من أساليبه وقسماته من أجل المحافظة على الصداقة والتعاون بين العالم الغربي والعالم الإسلامي وإقامة حوار بين المسيحية(*) والإسلام، ومحاولة تغيير النظرة السطحية الغربية إلى المسلمين، وربما كمحاولة لاستقطاب القوى الإسلامية وتوظيفها لخدمة أهدافهم فلنكن حذرين.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• لقد كان الاستشراق وليد الاحتكاك بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني أيام الصليبيين، وعن طريق السفارات والرحلات. ويلاحظ دائماً أن هناك تقارباً وتعاوناً بين الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار(*)، والمستعمرون يساندون المستشرقين والمنصرين لأنهم يستفيدون منهم كثيراً في خططهم الاستعمارية.
• كان الدافع الأساسي هو الجانب اللاهوتي(*) النصراني بغية تحطيم الإسلام من داخله بالدس والكيد والتشويه، ولكن الاستشراق بعد ذلك وفي الآونة الأخيرة بدأ يتحلل من هذا القيد نوعاً ما ليتوجه توجهاً أقرب إلى الروح العلمية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• الغرب هو المسرح الذي يتحرك فوق أرضه المستشرقون، فمنهم الألمان ومنهم البريطانيون والفرنسيون والهولنديون والمجريون، وظهر بعضهم في إيطاليا وفي أسبانيا، وقد علا نجم الاستشراق في أمريكا وصارت له فيها مراكز كثيرة.
• لم تبخل الحكومات، ولا الهيئات ولا الشركات ولا المؤسسات ولا الكنائس في يوم من الأيام في دعم حركة الاستشراق ومدّها بما تحتاجه من مال، وتأييد وإفساح الطريق أمامها في الجامعات حتى بلغ عدد هؤلاء المستشرقين آلافاً كثيرة.
• لقد كانت حركة الاستشراق مُسخَّرة في خدمة الاستعمار، وفي خدمة التنصير وأخيراً في خدمة اليهودية والصهيونية التي يهمها إضعاف الشرق الإسلامي وإحكام السيطرة عليه بشكل مباشر أو غير مباشر.
• استطاع المستشرقون أن يتسللوا إلى المجامع العلمية وقد عُيِّن عدد كبير منهم أعضاء في هذه المجامع في سوريا ومصر، كما استطاعوا أن يؤثروا على الدراسات العربية والإسلامية في العالم الإسلامي من خلال تلاميذهم ومؤلفاتهم.
ويتضح مما سبق:
• أن الاستشراق تيار فكري، يتجه صوب الشرق، لدراسة حضارته وأديانه وثقافته ولغته وآدابه، من خلال أفكار اتسم معظمها بالتعصب، والرغبة في خدمة الاستعمار، وتنصير المسلمين، وجعلهم مسخاً مشوهاً للثقافة الغربية، وذلك ببث الدونية فيهم، وبيان أن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية، وشريعتهم هي القوانين الرومانية مكتوبة بأحرف عربية، والنيل من لغتهم، وتشويه عقيدتهم وقيمهم، ولكن بعضهم رأى نور الحقيقة فأسلم وخدم العقيدة الإسلامية، وأثَّرَ في مُحْدثيهم، فبدأت كتاباتهم تجنح نحو العلمية، وتنحو نحو العمق بدلاً من السطحية، وربما صدر ذلك عن رغبة من بعضهم في استقطاب القوى الإسلامية وتوظيفها لخدمة أهدافهم الاستشراقية، وهذا يقتضي الحذر عند التعامل مع الفكر الاستشراقي الذي يتدثر الآن بدثار الموضوعية.
----------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- الاستتشراق، إدوارد سعيد- ترجمة كمال أبو ديب- مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت 1981م.
- المستشرقون، نجيب العقيقي - دار المعارف - القاهرة - 1981م.
- الاستشراق والمستشرقون، د. مصطفى السباعي - ط2- المكتب الإسلامي - 1979م.
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي - بيروت 1978م.
- إنتاج المستشرقين، مالك بن نبي.
- أوروبا والإسلام، هشام جعيط - ترجمة طلال عتريسي - دار الحقيقة - بيروت - 1980م.
- الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، د. جورج سارطون - ترجمة د. عمر فروخ - ط1- مكتبة المعارف - بيروت - 1952م.
- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، د. محمود حمدي زقزوق - ط1 - كتاب الأمة 1404هـ.
- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي - دار الفكر - بيروت 1973م.
- المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1981م.
- الإٍسلام في الفكر الغربي، محمود حمدي زقزوق - دار القلم - الكويت 1981م.
- الدراسات الإسلامية بالعربية في الجامعات الألمانية، رودي بارت - ترجمة د. مصطفى ماهر - القاهرة 1967م.
- أضواء على الاستشراق، د. محمد عبد الفتاح عليان - ط1 - دار البحوث العلمية - الكويت 1980م.
- المستشرقون والإسلام، محاضرة للأستاذ محمد قطب.
- المستشرقون والموضوعية، د. أحمد غراب.
المراجع الأجنبية :
- rudi Parel: Der Koran Uebersetzung Stuttgart 1980.
- C.E. Bosworth: Orientalism and Orientalists (in Arab Islamic Bibliography) 1977 Great Britain.
H.A. Flacher - Bernicol: Die Islamische revolution Stuttgart 1981.
-Johann Fueck: Die Arabischon Studien in Europa Leipzig 1955.
-Custar Pfonn Mueller: Handbuch der Islami Leteratur Berlin 1933.
- M. rodinson, Mohammed: Frank Furt 1975.
-============
أزمة الخطاب الليبرالي
محمد بن عيسى الكنعان
يؤكد الليبراليون دائماً على ( المبادئ الحضارية والقيم الإنسانية ) .. كتحقيق الحرية الفردية.. وإقامة العدالة الاجتماعية.. وتطبيق الديمقراطية السياسية.. وإشاعة المساواة البشرية .. وتقرير الحقوق الإنسانية.. إلى غير ذلك في قائمة المبادئ والقيم ، التي يرونها تمهد ل(الإصلاح الشامل) ، وتعزز مسيرة الأمة بوسائل الفكر والإبداع كي تلحق بركب الحضارة الإنسانية الذي تجاوزها منذ قرون، لذا هم يحاربون (الوصاية الفكرية) بكل أشكالها، ويدينون سياسة (تكميم الأفواه) التي تعارض الحق الإنساني في التعبير، أو جريرة (الإقصاء) بكل صوره، لأنه نقيض احترام الآخر، كما يرفضون التدخل في شؤون الناس، أو عقلية رفض المخالف (عقائدياً) والأخذ من ثقافته، أو التحجر عند الماضي وعدم التعاطي مع الحضارة المعاصرة..!
كل هذا الوصف (النظري) ينقلب إلى خسف (عملي) عندما يقدر الله لك التعاطي مع الخطاب الليبرالي والنزول إلى (واقعه) والاحتكاك بالليبراليين على ميادين الكتابة، والتعامل معهم على مسارات الفكر الواعي أو ملتقيات الحوار الجاد، بل لا أبالغ إن قلت إنك سوف تصطدم بمن يلتهم مبادئ الليبرالية في الليل فهماً وحفظاً، ثم يدوسها في النهار جهاراً نهاراً في أول مقال يكتبه على رقاع الصحافة، أو فكرة يترجمها إلى مشاركة إلكترونية، ناهيك عن حالة (التبلد الفكري) التي تنتابهم إزاء قراءتهم للأحداث والمواقف التي تتقاطع فيها النظرة الإسلامية مع النظرة الغربية، أو تتصادم معها على مساحات الرفض أو القبول أو الحياد، فتلك القراءة تفتقر لمنطق الأشياء في تحليل هذا الموقف أو ذاك الحدث، كما تمتاز بالازدواجية في الحكم على الأطراف الفاعلة في الحدث أو الموقف، أضف إلى ذلك الخروج البائن عن إجماع الأمة في قضية من قضاياها المصيرية بالإعلان عن هذا الخروج بموقف يتمسح بعباءة الغرب ويتغنى بفضائله الحضارية، بحجة أننا أمة رعاع ليس لها راية أو قيادة أو حضارة. ولعل احتلال العراق، أو قضية الرسوم الدنمركية المهينة، أو تصريح البابا الفاتيكاني العدائي خير شاهد.(5/356)
لهذا أخفقوا بدرجة (امتياز) في استمالة جماهير الأمة نحو مشاريعهم الحضارية أو برامجهم التنموية، وشواهد الإخفاق حاضرة مع الاختبارات الأولى لهم، فالذي ينادي ب(الديمقراطية) ثم ينقلب عليها لأن صناديق الانتخابات (لفظته)، حتى اتهم شعبه بالجهل وعدم النضج .. كيف يكون ديمقراطياً أصلاً ؟
والذي يدعو لتحرير المرأة من قيد (الأصولية) الإسلامية، كيف يحارب الوصاية الفكرية وهو يخلصها من القيد ويرميها بوحل التغريب، كي تكون مسخاً للمرأة الغربية في طريقة التفكير وأسلوب الحياة، ولك أن تعجب عندما شنوا حملة فكرية شعواء على الشيخ الهلالي مفتي أستراليا على خلفية تصريحه (اللحم المكشوف) عن النساء العاريات، لأن هذا تعدٍّ على الآخر لكنهم صمتوا صمت القبور على تصريح أحد وزراء الثقافة العرب ضد الحجاب واعتبروه رأياً يدخل في حرية التعبير.
يسفهون خصومهم من الإسلاميين لأنهم يمجدون التاريخ الإسلامي ويستلهمون منه نظرتهم للمستقبل، ولكنهم لا يفعلون ذلك مع غيرهم الذين يمجدون الإغريق ويتعلقون بآخر حرف كتبه أحد فلاسفة اليونان وهو على فراش الموت عن وحدة الوجود، لأن المعين بالنسبة لهم واحد، خاصة وأنهم رضعوا موروثات الحضارة الإغريقية ثم قفزوا إلى مائدة الحضارة الغربية فتغذوا على أيدي التنوير وموائد الاستشراق، وخلال هذه القفزة كانت قطيعتهم مع الموروث الديني والشاهد التاريخي، الأمر الذي أوجد لديهم قدرة عجيبة ونفساً طويلاً في جلد الذات العربية والتشكيك في الحضارة الإسلامية والطعن في تاريخ الأمة.
أما (الإقصاء) فهو الشماعة التي يعلقون عليها (انحسار) مدهم الفكري إلى المنصات التي يتحدثون منها في الندوات الفكرية والملتقيات الأدبية، لذا هم يحفلون بأي نظام يقصي الإسلاميين عن مراكز السلطة أو دوائر صنع القرار أو منابر مخاطبة الجماهير، لأن المبرر أن الإسلاميين إذا وصلوا فصلوا.
يتحدثون كثيراً عن (الحرية الفكرية) التي تتعارض تماماً مع سياسة (تكميم الأفواه)، غير أنهم لا يجدون بأساً في تكميم أي فم لا يتحدث بخطابهم الليبرالي، لأن أي خطاب ما عدا خطابهم هو خطاب (متطرف) يستلزم تكميمه أو سحقه إن لزم الأمر، لدرجة أن بعضهم يبرر عدم التسامح مع أتباع التيار الديني لأنهم أعداء التسامح! وينادي بالمنطق العقلاني في تناول الأمور ويشدد على الواقعية في تصور الأشياء والحكم عليها إلا مع الإسلاميين لأنهم جميعاً متطرفون ومشاريع جاهزة للإرهاب، وعليه لا تجد في قواميسهم إلا القنوات الفضائية الإسلامية التي يتحدثون عنها ويحذرون منها ويشنعون عليها ويرمونها بكل نقيصة، دون الموازنة وفق المنطق المتبصر عن العهر السياسي والأخلاقي الذي تمثله قنوات تتبنى الطرح الليبرالي.
بعد هذا كله.. هل يمكن تصديق الخطاب الليبرالي الذي ثبت أنه يعيش أزمة حقيقية، أو هل يمكن الوثوق بالليبراليين أو على أقل تقدير التلاقي معهم على أرضية مشتركة، خاصة وأن عدد المنصفين منهم يكاد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة ؟
ربما.. وهو بعيد الاحتمال، ما لم تكن هناك مكاشفة فكرية حقيقية معهم، تدفعهم نحو تبني مواقف عاقلة وقراءة الأحداث قراءة واعية تسهم في تخفيف حدة الغلو في خطابهم الذي بات مكشوفاً على كل الصعد والمجالات الحياتية ، فلعل فيهم بارقة أمل للعلاج حتى لا نضطر يوماً إلى إنشاء وكالة غوث الليبراليين، بسبب أنيميا الفكر وهزال الوعي ، إذا كنا بالفعل نبتغي (وحدة الصف) وننشد (إصلاح الفكر) ، خاصة وأن الإسلاميين قد تجاوزوا إشكالية نقد الذات مع واقع مراجعة خطابهم ورفض الغلو فيه والدعوة للتجديد الديني، والوقوف في وجه المتطرفين منهم ونقد منهجهم بأدوات الفكر الإسلامي ونصوصه الدينية المقدسة، إضافة على دورهم الفاعل والرئيس في فضح دعاوى الإرهابيين ونقض حججهم الدينية.
المصدر : جريدة الجزيرة السعودية
==============
العولمة الثقافية لا تقل خطورة عن الإرهاب
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
إن اهتمامنا عند الحديث عن التحديات المعاصرة التي تواجه أمتنا الإسلامية، وعن ضرورة مواكبة مناهجنا لهذه التحديات، لا تتحقق الغاية منه بمعالجة أحد الجانبين دون الآخر، ولو فعلنا فسنصل بمجتمعاتنا إلى المهالك
بما أن النية لم تكن قد توجهت للكتابة فيما أنا بصدده كان لابد من إيعاز الفضل لأصحابه، فلقد توقفت عند اهتمام الصحف المحلية بما دار في افتتاحية المؤتمر السنوي الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي، والذي تمت تسميته بـ(مناهج العلوم الإسلامية)..
لقد تأملت الكلمات التي ألقيت يوم الافتتاح، وعاودت تأمل محتواها مرات عدة، لأنتهي بعد هذا كله لحالة من الذهول، حالة أصبحت هذه الأيام ترافقني كظلي، فقد لا أفهم كيف هذا؟.. ولم كان ذاك؟.. ولكني بالتأكيد أفهم ما علينا فعله تجاه ديننا ثم أوطاننا.. فالأمانة تجاههما لا تتجزأ ولا يتأتى لها ذلك.. وبالتالي كان من الطبيعي عدم تمكني من التغاضي عن النقص الذي وصل إلينا في كلمة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الأستاذ الذي أعتز به وبعلمه معالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وكلمة مفتي عام المملكة ورئيس المجلس التأسيسي للرابطة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، فكلا الكلمتين - وكما وصلتا إلينا عبر الإعلام المقروء - تحدثت عن التحديات الداخلية التي وصمت أمتنا إلا سلامية بالإرهاب، وعن كيفية فهم حقيقة الدين الإسلامي كما ينبغي لنا أن نفهمه، وعن دوره وتعاليمه في تدعيم الحضارة الإسلامية، إلا أن كلا من الكلمتين غضت الطرف عن تبيان أهمية وضرورة رعاية مناهج العلوم الإسلامية في عالمنا للتحديات الخارجية، والتي تحاول التربع على حياتنا الاجتماعية والاقتصادية مرورا بحياتنا السياسية، بل حتى الدينية، تحديات لا تقل أهمية عن تحدياتنا الداخلية.. بأي حال من الأحوال.
وفي هذا الصدد أدعو المولى سبحانه أن يكون ما وصلنا من كلمتيهما ناقصا، إذ كيف لهذين الشخصيتين الإسلاميتين العالميتين التغاضي عن هذه الجزئية الهامة في مؤتمر عالمي إسلامي، تم تخصيصه للحديث عن (مناهج العلوم الإسلامية )..
إن الكلمة التي أراحت فوادي وهدأت من روعي وأنا أتابع الكلمات التي ألقيت يوم الافتتاح كانت كلمة خادم الحرمين الشريفين، فقد توقفت عند بيان خطورة التحديات الداخلية والخارجية ولم تبخس حق أي منهما من الاهتمام..
ولأن المسلمين وغيرهم يتطلعون لما يصدر على لسان الملك عبدالله بن عبدالعزيز بحكم كونه خادم الحرمين الشريفين، وبحكم كونه ولي أمر وطن اختصه الله سبحانه بثروات طبيعية حيوية، لهذا كله اخترت التوقف معكم عند أهم معالم كلمته تلك، فقد جاء فيها ما يلي:
* إن العلوم الإسلامية هي المواد التي تصاغ منها الشخصية الإسلامية الفردية والجماعية، فتحدد.. هويتها ووجهتها.
* كل أمة على وجه الأرض من حقها أن تنقل المبادئ الأساسية لثقافتها وحضارتها إلى الأجيال المتلاحقة عبر وسائل التعليم والتربية.
* من حقها أن تكفل الحماية لتلك المبادئ من الانتهاك والتعدي عليها وبشتى وسائل الحماية ومن خلال ما ترسمه من نظم وتشريعات أساسية وثانوية.
* يواجه العالم الإسلامي اليوم تحديات جسيمه، ما فتئت تتعاظم وتلقي بانعكاساتها الوخيمة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، مما أضعف الأمة الإسلامية في العالم المعاصر.(5/357)
* إن مما يجب علينا أن نفعله للمحافظة على ذاتيتنا وحمايتها من خطر العولمة الثقافية التي تهددها هو أن نقف وقفة الواثق بنفسه المعتمد على ربه.
* لنبرهن للعالم أجمع بالأقوال والأفعال أننا أمة نشرت أيام قوتها حضارة العلم والمعرفة والحق والعدل وصيانة حقوق الإنسان بين أمم العالم.. وأنها بمنأى عن التطرف والإرهاب في التعامل مع الغير.
* إن ما يحدث في الواقع مما يخالف ذلك لا صلة له بجوهر الثقافة الإسلامية، وإنما له أسبابه الطارئة التي يجب أن نعالجها بما تتطلبه من جهود في التوعية والتربية والتوجيه والتصدي لأصحابها بقوة وحزم.
لقد اهتمت هذه الكلمة بتحديد منبع شخصية الإنسان المسلم وهويته، وحقه كإنسان في نقل مبادئ ثقافته وفكره عبر التربية ومناهج التعليم لأجياله المتلاحقة، كما اهتمت بتقرير حق الأمم أن تكفل الحماية لتلك المبادئ من الانتهاك ولو بسن القوانين والتشريعات لهذا الشأن. كما توقفت عند التحديات الخطيرة التي تواجه العالم الإسلامي اليوم، والتي تتطلع للمساس بأوضاعنا السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى العلمية منها، وكما أشارت إلى أن السبيل للمحافظة على ذاتيتنا وحمايتها من خطر العولمة الثقافية التي تهددنا هو أن نقف وقفة الواثق بنفسه المعتمد على ربه.. وهي في هذا كله لم تغفل خطورة التحديات الداخلية والمتحققة بالفكر الإرهابي التكفيري،مبينة أهمية توافق أفعالنا مع أقوالنا التي تؤكد أننا أمة الحق والعدل وصيانة حقوق الإنسان، وأن علينا أن نقف موقف القوة والحزم أمام كل من يخالف هذا المنهج، مع ضرورة استئصال جذور هذا الفكر الذي لا علاقة له بجوهر الإسلام من أساسه، مسخرين لهذا الهدف مناهج التربية والتوجيه.
إن الواجب عند الحديث عن التحديات التي تواجهنا كأمة إسلامية يلزمنا النظر في تحديات داخلية تركت علينا وعلى غيرنا آثارا سلبية تتطلب منا تضافر الجهود للتصدي لها، كما يلزمنا في الوقت نفسه الحديث عن تحديات ترعرعت ونمت في الخارج تتطلع بشغف للقضاء على معالم ثقافتنا إسلامية المنبع، عالمية الرسالة، إنسانية الهدف، بثقافات مادية جافة لا تمت إلينا بصلة ولا تعتد بالروح، ثقافات لا ترى خلف الأبدان إلا التراب، ثقافات أثبتت فشلها على الصعيد الإنساني، وبشهادة أهلها،
إن اهتمامنا عند الحديث عن التحديات المعاصرة التي تواجه أمتنا الإسلامية، وعن ضرورة مواكبة مناهجنا لهذه التحديات، لا تتحقق الغاية منه بمعالجة أحد الجانبين دون الآخر، ولو فعلنا فسنصل بمجتمعاتنا إلى المهالك.. وسيتجرع أبناؤنا وأحفادنا المرارة جراء هذا التهاون، عندها قد لا نكون معهم، أو قد نكون حينها مسلوبي الإرادة..
وأخيرا لا أشك أن معظمنا يتفق أن العولمة الثقافية الهادفة لإلغاء ثقافات الشعوب لا تقل خطورة عن الإرهاب..
==============
انتبهوا يا سنة العالم!
إن الخصومة التي تظهر للناس على سطح السياسة الدولية بين الأمريكان وبعض الدول المجاورة للعراق، هي خصومة خادعة ومكر خبيث، الهدف منها القضاء على كيان أهل السنة واستئصال تاريخهم الذي بدأ بناؤه في العهد الراشدي الذي يبغضه بعض من يدعون الإسلام ومحبة أهل البيت هذا العهد الذي قضى على الدولة الفارسية، وأقام الحضارة الإسلامية التي أوقدت نار الحقد في قلوب المهزومين الذين كانوا يتربعون على عرش إمبراطورية مترامية الأطراف.
وإن المخطط الشيعي ضد أهل السنة في العالم الإسلامي، ومنه الدول العربية، قد بدأ من عام 1979م الذي قامت فيه أول حكومة أعلنت تصدير سياستها للسيطرة على العالم الإسلامي، وبدأت بإحداث الاضطرابات في مواسم الحج، واستضافة كثير من شباب أهل السنة للدراسة في مدينة "قم" ليعودوا إلى بلدانهم آياتٍ وحُجَجاً إلى يحدثون فيها فتنا واضطرابا بين أهل السنة، وقد حصل ذلك فعلا وانخدع بهم في حينه كثير من أهل السنة في الدول العربية وغيرها، ومنهم بعض العلماء والدعاة وأيدتهم بعض الصحف الإسلامية ظنا بزعم أن الخلافة الإسلامية التي ستجمع المسلمين في كل الأقطار الإسلامية في ظل رايتها قد آذنت بالرجوع إلى هذه الأمة... ثم اكتشف المتفائلون أن ما كانوا يظنونه ماء ليس سرابا بقيعة فقط، بل هو مشروع لتصدير مذهب معين بالقوة إلى المسلمين الذين استمروا في السير على مذهب أهل لسنة والجماعة المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي طبقه الجيل المباشر لتلقي الهدى الرباني من القدوة الحسنة للأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن ظهرت للمتفائلين أهداف المشروع الخميني وفي طليعتها هدف تصدير ما يسمى بـ(الثورة الإسلامية) كفوا عن الثناء والمديح الذي كالوه للزعيم الشيعي، بل بدأت الصحف الإسلامية التي كانت تؤيده تكفر عن إطرائها له بكشف ماكان مستورا عن المسلمين، وأذكر من تلك الصحف "مجلة المجتمع الكويتية"
وكان من المتفائلين والمؤيدين للخميني بعض الدعاة من أساتذة أهل السنة الذين التقيتهم في مناسبات كثيرة من المؤتمرات والندوات الرسمية والأهلية، وحصل بيني وبينهم حوار حول اندفاعهم المؤيد للزعيم الشيعي، وكان بعضهم يرد علي بصيغة المزاح: الشيخ القادري متأثر بالعقل الجمعي الذي يسيطر على زملائه العلماء في بلده، وأذكر أن زعيما سودانيا قال لي عندما حذرت من العقائد الشيعية الإني عشرية: إنكم تبعثون عقائد من قبور، قد ماتت واندثرت.
ومن الأساتذة الذين ذهبوا في وفد إلى الخميني لتهنئته، الشيخ سعيد حوا رحمه الله، ولكنه انقلب 190 درجة بعد أن كُشِفت له حقائق الزعيم في عقائده وفي سياساته وبخاصة موقفه من المظلومين من أهل السنة، في بعض الشعوب التي تسلط عليها من هم للخميني حلفاء خلصاء، إضافة إلى اضطهاد أهل السنة في إيران، فكتب ناقدا له رسالة بعنوان: :الخميني شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف"
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=21&book=1727
ولقد احتضنت الدولة الإيرانية بعض المراجع الشيعية التي كانت أصولها وافدة إلى العراق ودرب أفرادَها الحرسُ الإيراني منتظرة اليوم الذي تسلمها أمريكا السلطة في العراق، فكانت الهجمة الأمريكية التي تواطأت معها الزُّمَر الشيعية في أمريكا وبريطانيا، هي الفرصة السانحة لتنفيذ الخطة الإيرانية الأمريكية على العراق في الحرب الأخيرة، فتدفقت الكتائب الشيعية المدربة في إيران - وعلى رأسها - ما يسمى "لواء بدر" ومدربوه الإيرانيون بعد الغزو الأمريكي مباشرة إلى العراق على مرأى ومسمع من الجيش الأمريكي الذي اصطف وراءه لهدم المدن السنية على رءوس أهلها.
ولتغطية الخداع الشيعي الأمريكي المعتدِيَيْنِ على أهل السنة في العراق، رفعت أمريكا وإيران عنوان الخلاف والشقاق بينهما، وكانت أمريكا تصرح بأن إيران ترسل السلاح والمقاتلين إلى العراق، وهي - أمريكا - تشكو من اجتياز المقاتلين الإيرانيين الحدود الشرقية للعراق، وتجمع جيشها و"لواء بدر" للهجوم على أهل السنة في الغرب والوسط!
ولقد حذرنا مرارا من الخداع الأمريكي الإيراني، ودعونا أهل السنة في العراق إلى اجتماع كلمتهم وتوحيد مرجعيتهم في شئونهم السياسية ليقوا أنفسهم من الحرب الشيعية الأمريكية عليهم.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_hadath&p=82(5/358)
ولكنهم - مع أسفنا الشديد - تفرقوا في سياستهم، فقسم منهم أعلنوا عدم دخولهم في الألاعيب السياسية الأمريكية الشيعية المرسومة لتمييع أهل السنة وإذابتهم والسيطرة في نهاية الأمر عليهم، واغتر بعضهم ببريق السياسة ودخلوا في زنزانة سجنها السياسي البغيض، في الوقت الذي تنزف دماء ابنائهم في وسط العراق وغربه.
وها هي اليوم أمريكا تهدد السلطة الإيرانية في وسائل الإعلام وتشكو من تدخلها في العراق، ويصطف جيشها مع الجيش الموالي لإيران، ضد أهل السنة في سامراء، ثم يعلن كلا الطرفين قبول التفاوض مع الأخر بطلب في الشأن العراقي من الربيب الإيراني زعيم "لواء بدر"
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2006-03/16/article10.shtml
وإن الواجب على علماء أهل السنة ومفكريهم وسياسييهم أن يبينوا لهم ما يضرهم وما ينفعهم، سواء تعلق بعقيدتهم أو اقتصادهم أو سياستهم أو العدوان على بلادهم، و السكوت عن ذلك مع العلم به غير لائق بهم، فهاهم مراجع الشيعة وعلماؤهم وسياسيوهم واقتصاديوهم ومقاتلوهم يقوم كل منهم بدوره.
وهاهي فضائياتهم في كل من إيران والعراق ولبنان، بل وفي بعض الدول الغربية، تبث لكل تلك الفئات عقائدهم وأفكارهم وسياساتهم، وموضوعاتهم موجهة توجيها ذكيا ونشيطا إلى شبابنا وشاباتنا منطلقين في ذلك من أساس يدعونه، وهو منهم براء، ونحن أولى به منهم، وهو الولاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يرفعون رايته مع إهانة لصفوة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهدفهم من ذلك تكثير سوادهم لينقضوا على أهل السنة في العالم وليس في العراق فقط، وإن أول البلدان التي ستنال قسطها من عدوانهم إذا تمكنوا هي الدول المجاورة - وبالأخص دول الخليج - التي بها من المغريات الدينية والاقتصادية ما لا يوجد في غيرها.
إن الأمريكان واليهود والبريطانيين وبعض الدول الغربية، يعلمون علم اليقين أن العقبة الكأداء أمام تحقيق أهدافهم هم أهل السنة وليس الشيعة، لأن الشيعة قد تعاونوا مع المعتدين على البلدان الإسلامية من قديم الزمن، كما هي الحال مع التتار، وهم اليوم قد تعاونوا معهم في أفغانستان وركبوا دباباتهم عندما احتلوا العراق، ولا تخدعنا تصريحات خلافاتهم المعلنة فالنار تحت الرماد.
وللشيعة في البلدان الإسلامية مواطنون يوالونهم ضد أهل البلد الذي يستوطنونه، لا يجوز الاستهانة بهم، في الجزيرة العربية وغيرها.
لقد صدرت تصريحات من بعض المسئولين الحكوميين على مستويات عليا في بعض الشعوب الإسلامية السنية تحذر من الخطر الشيعي ثم سكتت.
والمسئولون الرسميون قد يضطرون إلى السكوت لأسباب سياسية ودبلوماسية ...ولكننا نحن الشعوب لا يجوز لنا السكوت على خطر نسمعه بآذاننا ونراه بأعيننا، ولا ينبغي أن نخفي الحقائق عن شعوبنا تحت لغة دبلوماسية غير واضحة، خشية من وقوعنا فيما وقع فيه أهل الكتاب قبلنا الذين نهاهم تعالى عن ذلك نهيا صريحا فصيحا في الكتاب العربي المبين:
((وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) [البقرة]
فهل سينتبه أهل السنة للخطر المحدق بهم من قبل العدو اليهودي والصليبي ومن يواليه عليهم؟
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
الفهرس العام
الباب السابع ... 2
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (1) ... 2
المستقبل لهذا الدين ... 2
هل نحن مسلمون ... 17
مقَدّمَة-كيف انحسر مفهوم الإسلام في نفوسنا إلى هذا الحد ؟؟ ... 17
مفهوم الإسلام ... 20
خط الانحراف ... 72
عوامل الانحراف المحَلية ... 81
تيارات عالميّة ... 125
وأخيراً .. موضوع المرأة ! ... 136
المستقبل للإسْلام ! ... 140
فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية ... 144
هل الحضارة الغربية مستمرة؟ ... 149
الوحدة والتوحيد أساس بناء الحضارة الإسلامية ... 153
استانبول حاضرة الدولة العثمانية ... 158
من أعلام الحضارة الإسلامية " ابن النفيس " ... 160
المساواة معلم من معالم الحضارة الإسلامية ... 164
من خصائص الحضارة الإسلامية ( 1/2) ... 169
بغداد مدينة الحضارة والخلافة هدف للمدفعية الأميركية ... 174
الحضارة الإسلامية الأعظم تأثيرًا في أسبانيا ... 176
من معالم الحضارة الإسلامية في فلسطين ... 177
في بريطانيا : أسبوع الإسلام والحضارة الإسلامية ... 178
دراسة التاريخ الإسلامي ... 182
كيف نعالج أسباب ضعف الأمة الإسلامية ... 184
سرُّ تخلف المسلمين في العلوم المعاصرة ... 187
أمة الإسلام بين الماضي والحاضر والمستقبل ... 188
"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" ... 189
الأمة الإسلامية ذات منهج تربوي متميز ... 190
معنى الحضارة ... 191
الإسلام هو دين العدالة والمساواة ... 192
القرآن صالح لكل العصور ... 193
الصواب أن تقوم نهضتنا على الحضارة الإسلامية ... 195
عقليتنا الإسلامية ومنهج التعاطي مع الحضارة ... 196
سراييفو .. حضارة أخيرة ! ؟ ... 199
عندما تتحول أجهزة الإعلام إلى مدفعية ثقيلة: الكاتب جلال أمين يناقش الاعتداء الأميركي المعنوي على الحضارة الإسلامية ... 200
حضارة الوفاق بين العلم والدين ... 206
الإساءة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إساءة إلى حضارة الإسلام والمسلمين ... 209
الإنسان بين العبادة والحضارة ... 212
العراق .. قلب الحضارة الإسلامية النابض ... 217
بر الوالدين بين تعاليم الإسلام وحضارة الغرب المادية ... 222
قيم الانطلاق لبناء الحضارة ... 233
حضارة الإيمان والتوحيد ... 235
أسس الحضارة الإسلامية ومقوماتها ... 238
دور المسجد في بناء الحضارة ... 248
العمران والحضارة عند ابن خلدون ... 252
الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض ... 263
صانع الحضارة ... 266
كتاب عبقرية الحضارة الإسلامية ... 267
هل الحضارة ... إسلامية أم عربية أم ماذا ؟ قيّم ... 316
عبقرية الحضارة الاسلامية ... 319
روح الحضارة الإسلامية ... 328
الحضارة الإسلامية بين الحضارات ... 335
العدالة البيئية نظرة مقارنة بين الحضارة العربية الإسلامية و الحضارة الغربية ... 342
الحضارة الإسلامية ... 356
خصائص الحضارة الإسلامية ... 366
حضارة عربية إسلامية ... 380
الحضارة التائهة ... 395
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي ... 398
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي ... 404
ملامح الوحدة في حضارة العالم الإسلامي ... 406
الكيانات الحضارية الإسلامية في آسيا ... 410
الكيانات السياسية في الجناح الغربي للعالم الإسلامي ... 421
اللقاء الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي ... 424
حركة النقل والترجمة في أسبانيا بين الأخذ والعطاء ... 442
اللقاء الحضاري في الشام خلال الحروب الصليبية ... 460
فضل الحضارة الإسلامية على العلوم الطبية ... 470
من تطبيقات الهندسة في الحضارة الإسلامية ... ... 475
الحضارة الإسلامية 000 إلى أين ؟ ! ... 481
المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية ... ... 491
المسلمون وابتكار المستشفيات ... ... 502
البعد الإنساني للطب عند المسلمين ... ... 506
حقوق الحيوان فى الحضارة الإسلامية ... ... 512
لماذا أبدع المسلمون في علم الجغرافيا ... ... 518(5/359)
المسلمون وإنقاذ علم الجغرافيا ... ... 521
الرازي معجزة الطب عند المسلمين ... ... 526
ما ظننتم أن يخرجوا..!! ... ... 531
هم العدو.. فاحذرهم!! ... ... 535
بنو قينقاع وبيت حانون والبون الشاسع!! ... ... 538
بعض خصائص الفنون الإسلامية ... 542
متحف الفن الإسلامي يدافع عن الحضارة الإسلامية ... 545
التحولات الأساسية للحضارة الإسلامية ... 548
الرياضيات الإسلامية والفلك بين الاهتمام العالمي والإهمال العربي ... 554
دور العقيدة الإسلامية في بناء الحضارة ... 561
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية ... 569
الدور الحضاري للمسلم المعاصر ... 586
الحضارة والثقافة الإسلاميّة(1). ... 589
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية ... 602
تجديد منهج العقيدة الإسلامية (1/2) ... 603
علم الثقافة الإسلامية ... 607
كيف اختلطت النصرانية بالعقائد الشركية ؟ ... 614
كيف يوفق المسلمون بين العمل للآخرة والعمل للدنيا ؟ ... 618
تريد النصيحة للمسلمات اللاتي يعشن في الغرب ... 623
لماذا فتح المسلمون الأندلس ؟ ... 625
متى بدأ الإسلام ومن وضع الحضارة الإسلامية ... 634
الإسلام والرق ... 635
الحضارة الإسلامية ... 645
التربية الإسلامية ... 657
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ). ... 666
برنارد لويس: حملاتنا الصليبية ضرورة لوقف انتشار الإسلام ... 747
ماذا قدم الإسلام للمرأة ؟ ... 750
أهمية التربية ... 761
خواطر فكرية مبعثرة ... 763
ضلالات طبيب القصيم: خالص جلبي ... 767
أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً! ... 781
الكاتب المغلوث ... 817
الولاء والبراء والنظر في المناهج ... 823
معالم قرآنية في تاريخ اليهود ... 832
أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية ... 839
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية ... 858
مفهوم الحضارة الإسلامية ... 861
حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية ... 862
من نماذج العمارة الاسلامية في مصر: مقياس النيل بالروضة ... 871
اصول الحضارة الاسلاميه: ... 874
النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية ... 876
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (1/2) ... 884
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة ... 900
مالك بن نبي.. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة ... 903
النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية ... 914
الآخرة كمدخل عملي إلى "الإسلام هو الحل " وكمنهج لبناء الحضارة " الإسلامية " ... 963
الحرية وازدهار الحضارة الاسلامية ... 985
دور أوزبكستان في الحضارة الإسلامية ودور حكومتها في محاربة الإسلام ... 990
دستور المدينة.. مفخرة الحضارة الإسلامية ... 994
تاريخ الحضارة الإسلامية و الفكر الإسلامي ... 1002
علم استنباط المياه عند المسلمين ... 1011
الحضارة الاسلاميه ... 1031
القصور القديمة في الحضارة الإسلامية ... 1033
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية ... 1035
بُناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية ... 1053
الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب ... 1122
الحضارة الإسلامية - بداية التاريخ ونهايته أيضا ... 1129
مفهوم الامة بين الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية ... 1131
علم النفس في الحضارة الاسلامية العربية ... 1137
دور المسجد في بناء الحضارة ... 1137
حضارتنا في عيون الغربيين ... 1137
أسطورة غاندي ... 1137
الذاكرة التاريخية للأمة ... 1137
السواك الدواء والسجائر الداء ... 1137
الاستشراق ... 1137
أزمة الخطاب الليبرالي ... 1137
العولمة الثقافية لا تقل خطورة عن الإرهاب ... 1137
انتبهوا يا سنة العالم! ... 1137(5/360)
الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(6)
الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها
(2)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (2)
ماذا يريدون من الإسلام؟
محمد حسن يوسف
إن الغرب يتبعون الآن استراتيجية منهجية، يهدفون من خلالها ضرب الإسلام في مقتل والقضاء عليه بلا رجعة. وقد قام الغرب بتفويض الولايات المتحدة - بصفتها زعيمة العالم الغربي حاليا - لأداء هذه المهمة. لذا يحسن بنا الآن قراءة الخطوط العامة للاستراتيجية التي تتبنى الولايات المتحدة تحقيقها، لنتعرف من خلالها على الذي يريدونه بالضبط من الإسلام!!
تقوم الولايات المتحدة، بدعم من التحالف الصهيوني الصليبي، بوضع الخطط الرامية لإحداث التطور الذي تنشده في بلدان المسلمين، وخاصة تلك التي تقع في منطقة الشرق الأوسط. وقد دشنت لتحقيق ذلك الدراسات العديدة، والتي يأتي على رأسها: تقرير مؤسسة راند، ومشروع الشرق الأوسط الكبير.
وقد انتهج هذا التحالف الصهيوني الصليبي - وفق هذه الاستراتيجيات - أخطر الوسائل والأساليب التي من شأنها تمزيق أوصال الأمة الإسلامية، وتحويلها إلى دويلات صغيرة لا تستطيع الصمود أمام الكيان الإسرائيلي، الذي يسعى لتكوين دولته الكبرى التي تمتد لتشمل جميع الأراضي الواقعة فيما بين نهري النيل والفرات.
وأهم الرؤى التي تتبناها هذه الاستراتيجيات، هي إما دخول قوات التحالف الصهيوني الصليبي في حروب طاحنة لا هوادة فيها مع الدول الإسلامية، وإما إعداد السياسات الإصلاحية التي ينبغي على تلك الدول تطبيق أجندتها بالكامل. وإذا ما حاولت تلك الدول في التملص من أحد بنود هذه الأجندة الإصلاحية، يتم التلويح لها باستخدام الخيارات العسكرية ضدها.
ونستعرض أولا أشكال الحروب العسكرية التي تبنتها استراتيجيات هذا التحالف الصهيوني الصليبي. فقد اتبعت هذه الحرب الضروس ثلاثة أساليب[1] مختلفة في منهجيتها وشكلها، وإن اتحدت في مضمونها، وذلك على النحو التالي:
الأسلوب الأول: وهو أسلوب التصادم المباشر:
وذلك على كافة الأصعدة، اقتصادية وسياسية، أم فكرية وثقافية، بل وعسكرية كذلك إذا لزم الأمر، ليتحول الأمر إلى احتلال عسكري صريح للدول الإسلامية. وأوضح مثال على ذلك، ما حدث في دولة العراق، حيث تمثل التحالف الصهيوني الصليبي في اتفاق الولايات المتحدة وبريطانيا بالأساس، وبعض الحلفاء الصليبيين، على غزو العراق واحتلال أراضيه. وتم اختلاق أسباب وهمية لهذا الغزو، ثبت كذبها - وليس خطئها - فيما بعد.
ولكن وجدت قوات ذلك التحالف نفسها وقد غرقت في مستنقع دامي لا تستطيع الخروج منه، ومُنيت بخسائر فادحة زلزلت أركانها. لتوقن بعد فوات الأوان أن الصدام المباشر مع الإسلام يخلق في نفوس أبنائه قوة جبارة هائلة على تحدي الموت والاستهانة بالحياة، لتتحول الأسلحة البدائية في أيديهم - مع تفجر هذه الروح - إلى أسلحة فتاكة لا تستطيع أية قوة في العالم الصمود أمامها.
وهكذا فشل أسلوب التصادم فشلا ذريعا في تحقيق التحالف الصهيوني الصليبي لأهدافه في تفتيت دولة العراق المسلمة وفق المخطط الذي أرادوه لها. وها هي الولايات المتحدة وبعد مرور ثلاثة أعوام من غزو العراق، لا تستطيع توفير الأمن لقواتها على أرض العراق، بل تؤكد الوقائع على الأرض أن عمليات المقاومة من الداخل في ازدياد يوما بعد يوم.
وثبت بوضوح خطأ المقولة الأمريكية عن الحروب السريعة التي لا يسقط فيها أي أمريكي. فمنذ أعلنت الولايات المتحدة عن انتهاء عملياتها العسكرية في العراق، ولا يكاد يمر يوم إلا ويسقط قتلى وجرحى من أفراد الجيش الأمريكي في كمائن وهجمات متنوعة. وتقوم المقاومة العراقية باستخدام وسائل أقوى وأسلحة غير متوقعة يوما بعد يوم.[2]
الأسلوب الثاني: وهو أسلوب تشجيع النزاع بين الأطراف المتنازعة، مع تبني أحد أطراف النزاع، والتدخل عسكريا لصالحه:
يبتعد هذا الأسلوب عن التصادم المباشر، ويقوم على إثارة المشاحنات والنزاعات العرقية والمذهبية والنزعات القبلية بين أفراد الدولة الواحدة، مع تشجيع تطور الأمور وتصعيدها للوصول إلى حرب أهلية بين الطوائف المتنازعة. ويكون موقف قوات التحالف الصهيوني الصليبي هو تبني موقف إحدى هذه الطوائف، ودعمه بالمال والسلاح، ثم التدخل عسكريا لنصرته وتمكينه من السيطرة على مقاليد الحكم في هذا البلد، فيقيم نظام حكم عميل يوالي قوات هذا التحالف ويدور في فلكها.
وأوضح مثال لذلك ما حدث في أفغانستان. فقد أرادت الولايات المتحدة وحلفائها إسقاط نظام حكم طالبان على خلفية إيوائه لقادة تنظيم القاعدة، الذي ادعت من قبل أنه المدبر للتفجيرات التي حدثت على أراضيها في أحداث سبتمبر الشهيرة! وهكذا قامت قوات هذا التحالف بالاتفاق مع قبائل الطاجيك والأوزبك والتركمان التي تقطن في شمال أفغانستان، لكي تدخل في حرب مع قبائل البشتون - التي ينتمي إليها حكام طالبان - والتي تقطن جنوب البلاد.
واستطاعت القبائل الشمالية، بمساعدة من قوات التحالف الصهيوني الصليبي ماليا وعسكريا، هزيمة نظام حكم طالبان، وإجلائه عن جميع المدن الأفغانية، بما فيها العاصمة كابول. وهكذا سقطت حكومة طالبان، لتقوم مكانها حكومة حليفة للولايات المتحدة وللتحالف الصهيوني الصليبي. وأنشأت الولايات المتحدة عدة قواعد عسكرية لها في مدينة كابول، وقاعدة باجرام الجوية في الجنوب.
وبذلك نجد أن التحالف الصهيوني الصليبي استطاع تحقيق هدفه بأقل قدر ممكن من الخسائر في صفوفه، بل إن الخسائر الحقيقية كانت تلك التي وقعت في صفوف قوات القبائل الشمالية، التي كانت بمثابة درع واقٍ للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها. كما مكّن هذا الأسلوب في النهاية من إقامة حكومة أفغانية موالية للتحالف الصهيوني الصليبي.
الأسلوب الثالث: وهو أسلوب تشجيع النزاع بين الأطراف المتنازعة، مع تبني أحد أطراف النزاع، ودفعه لعمل عسكري ضد الطرف الآخر، مع الاكتفاء بمساعدته تسليحيا وماديا:
ويتشابه هذا الأسلوب مع الأسلوب الثاني في إثارة الخلافات والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد، وفي تبني وجهة نظر أحد أطراف النزاع وتعضيدها والعمل على تمديدها. إلا أنه يختلف عنه في اكتفاء التحالف الصهيوني الصليبي بمساعدة هذا الطرف المدعوم من حيث توفير السلاح والمال والدعم السياسي له في المحافل الدولية، دون التدخل عسكريا لمصلحة هذا الفريق.
ومثال هذا الأسلوب هو ما حدث في جنوب السودان، حيث اختار التحالف الصهيوني الصليبي رجلا له من جنوب السودان، هو جون جارانج، وقدّم الدعم له من أجل إثارة مشكلة تعصب الحكومة الإسلامية في شمال السودان ضد المواطنين من المسيحيين في الجنوب. وظلت هذه الضغوط تتصاعد على مدى ما يزيد عن ثلاثين عاما، واتخذت أشكالا عدة، بدءا من توفير السلاح والتدريب العسكري والمعونات الغذائية والدعم السياسي لمواطني الجنوب، ثم ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على نظام الحكم في السودان.(6/1)
وآتت تلك الجهود ثمارها، ولو بعد فترة طويلة نسبيا، حيث تمكن دعاة الانفصال في الجنوب من إجبار الحكومة السودانية على توقيع اتفاق " ماشاكوس " في نيروبي عاصمة كينيا، يقضي بإعطاء بعض الحقوق لأبناء الجنوب، مثل وجوب تعيين نائب لرئيس السودان منهم، بل والأخطر من ذلك هو النص على عقد استفتاء بين سكان الجنوب وذلك بعد ست سنوات من إبرام هذا الاتفاق، يتم بمقتضاه تقرير مصير الجنوب: إما الانفصال والاستقلال بذاته، وإنشاء دولة مستقلة له تبعا لذلك، وإما بقائه في ظل الاتحاد مع الشمال.
وهذا الأسلوب، وإن نجح في مخططه مع عدم تدخل القوات الصهيونية والصليبية في النزاع مطلقا وعدم تعرضها لأي مخاطر من أي نوع، سواء في الأرواح أو في السلاح، إلا أن مدته الزمنية كانت طويلة للغاية، ولا تتناسب مع السرعة التي يريدون إتمام عملياتهم بها.
حقيقة الإصلاح الذي يريدونه:
واكب تبني التحالف الصهيوني الصليبي للعمل باستراتيجيات التدخل العسكري التي ناقشناها أعلاه، إعداد استراتيجية أخرى لفرض السياسات الإصلاحية على بقية الدول الإسلامية التي تبدو " مسالمة " من وجهة نظر هذا التحالف، ولكن بشرط تطبيق أجندتها بالكامل من جانب تلك الدول. وإذا ما حاولت تلك الدول التملص من أحد بنود هذه الأجندة الإصلاحية، يتم التلويح لها باستخدام أحد الخيارات العسكرية السابقة ضدها. لذا قد يكون من المناسب الحديث الآن عن أجندة الإصلاح التي يحاول هذا التحالف فرضها على بقية دول العالم الإسلامي:
قال نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي: " الإسلام الذي تريده فرنسا هو إسلام فرنسي وليس إسلاما في فرنسا ".[3] أي أن فرنسا تريد تطويع الإسلام وفقا لما يتناسب مع مجتمعها بحيث يصطبغ بالصبغة الفرنسية ( العلمانية بالطبع )، ولا تريد الإسلام الذي يفرض نصوصا يحكم بها المجتمع.
هذا هو الإسلام الذي يريدون تطبيقه في دولهم، ومن ثم فرض أجندته على الدول الإسلامية. وهم يقولون بضرورة تشجيع الديمقراطية في الدول الإسلامية، على خلفية أن الممارسات الاستبدادية هي التي تقف وراء العمليات " الإرهابية " المزعومة! وبالطبع فلا يخلو هذا الطرح من الخطأ. فالعمليات " الإرهابية " المشار إليها تعود في معظمها إلى ضياع حقوق المسلمين واغتصابه بأيدي دول التحالف الصهيوني الصليبي.
فالعمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون - على سبيل المثال - تعبر عن حق مشروع لهم تجاه مستعمر احتل الأرض وتملص من أداء الحقوق لأصحابه، ويسانده في غيه وطغيانه كل قوى التحالف الصهيوني الصليبي، مما أدى بأبناء هذا الوطن لليأس من أي طرح باتجاه إنهاء معاناتهم أو حتى تسويتها. والعمليات الشهيرة التي تمت في قلب الولايات المتحدة - إن كانت فعلا على أيدي مسلمين - فهذا يرجع ليأسهم من الانحياز الأمريكي المطلق ضد الثقافة الإسلامية والعمل بكل السبل على إنهائها وإزالتها من الوجود.
وهكذا تدعو أجندات الإصلاح التي يتبناها التحالف الصهيوني الصليبي للعمل بمقتضاها في محيط الدول الإسلامية، تدعو إلى إجراء إصلاح شكلي، فارغ الجوهر أو المضمون. في حين أن الإصلاح الحقيقي الذي يركز على الضرورات، قد يؤدي إلى نتائج تتعارض مع المصالح الأمريكية وقد تهددها، خصوصا في ظل استمرار الشعور المعادي للسياسة الأمريكية في المنطقة، الأمر الذي يوفر جوا مواتيا لانتخاب قوى معبرة عن ذلك الشعور، إذا ما كانت الانتخابات حرة ونزيهة.
وقد نبّه إلى ذلك بعض الكتّاب الأمريكيين، أحدهم توني كارون، أحد كتّاب مجلة تايم، الذي نشرت له صحيفة " ها آرتس " - عدد 18/3/2005 - مقالة حذر فيها من التفاؤل بإمكانية حلول الديمقراطية في العالم العربي، فيما وصفه بالسقوط الثاني لحائط برلين. وذكر أن 53% من مقاعد المجلس الوطني العراقي ذهبت للشيعة الموالين لإيران، الأمر الذي ينبغي ألا يكون مصدر فرح للولايات المتحدة وحلفائها. وخلص إلى أن العالم العربي بغير ديمقراطية حقيقية هو أفضل كثيرا للولايات المتحدة والعالم الغربي بعامة. ألا تشم من الكلام أن الإصلاح السياسي الذي تدعو إليه واشنطن له " سقف " ينبغي عدم تجاوزه، وأن ذلك السقف إلى عمليات التحسين والتجمل أقرب؟![4]
زد على ذلك ما صرح به الرئيس الأمريكي جورج بوش مؤخرا، في أعقاب نجاح حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية وقيامها بتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، من عزمه عدم إجراء اتصالات مع تلك الحكومة الجديدة. وأعلن جورج بوش أن واشنطن تدعم الديمقراطية وإجراء الانتخابات، لكن هذا لا يعني أنه يتعين عليها دعم كل الحكومات المنتخبة نتيجة الديمقراطية!!!
طبيعة العداء الأمريكي للعالم الإسلامي:
يعمل التحالف الصهيوني الصليبي بحرية كاملة في دول العالم الإسلامي، وذلك وفق استراتيجيات معدة ومجهزة للتعامل مع كل كبيرة وصغيرة قد تحدث في هذا الشأن. ويقوم هذا التحالف بإنفاق الأموال الطائلة والوقت والجهد في سبيل تحقيق أهدافه. ومن بين دول هذا التحالف، تبرز الولايات المتحدة كقوة عظمى مهيمنة على إدارة هذا الصراع وتوجيهه وفقا لرؤاها الخاصة.
فوفقا لما جاء بصحيفة الإندبندنت[5]، كشف البنتاجون عن قيام قوات التحالف بإنفاق الملايين من الدولارات لإنشاء ست قواعد " دائمة " على الأقل في العراق، لتزيد بذلك من التوقعات بإمكانية استمرار نشر القوات الأمريكية والبريطانية لقواتها لفترة طويلة الأمد في العراق. ومن المعلوم أن حجم القوات الأمريكية في العراق الآن يصل إلى 130 ألف جندي، وبالنسبة للقوات البريطانية نحو ثمانية آلاف جندي.
ويعتقد بعض المحللين أن الرغبة في إقامة تواجد عسكري أمريكي طويل الأمد في العراق كان دائما أحد الأسباب وراء غزوها للعراق في عام 2003. ويقول أحد مؤرخي القواعد العسكرية الأمريكية، ويدعى جوزيف جيرسون: " إن نية إدارة الرئيس بوش هي إقامة تواجد عسكري بعيد المدى في هذه المنطقة ... ولقد كان استخدام الولايات المتحدة لعدد من الخيارات التي تمكنها من فرض هيمنتها على الشرق الأوسط مثار بحث دؤوب لعدة سنوات مضت ... وقد انتهت إلى اعتبار العراق بمثابة أفضل الأماكن المتاحة لقواتها ولقواعدها خلال السنوات القليلة القادمة ".
أما زولتان جروسمان، أحد الباحثين في علم الجغرافيا بجامعة Evergreen State، فقد قال: " بعد كل تدخل عسكري للولايات المتحدة منذ عام 1990، يترك البنتاجون وراءه مجموعات من القواعد في المناطق التي لم يكن له فيها موطأ قدم من قبل فيها. ولذلك فيمتد طابور القواعد الجديدة من كوسوفو ودول البلقان المجاورة، إلى العراق وغيره من دول الخليج العربي، وحتى أفغانستان وغيره من دول وسط آسيا ... والعقبتان الوحيدتان اللتان تقفان في وجه مجال التدخل الأمريكي في هذه المنطقة هما إيران وسوريا ".
وهذا يفسر سر العداء الأمريكي حاليا تجاه النظامين السوري والإيراني. كما أن هذه الخلفية تفسر لنا أيضا السر وراء إحالة الملف الإيراني لمجلس الأمن. أما السر في عدم تسارع الخطوات بشأن هذين الملفين، على نحو ما حدث في أفغانستان والعراق، فهو بالطبع ما تكبدته القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها من خسائر باهظة، دفعت بها إلى التأني وعدم التعجل مرة أخرى. وغالب الظن أن الأمور لو كانت قد استقرت بالعراق، كما تحقق بأفغانستان - حتى وإن كان استقرارا شكليا - لما كانت انتظرت الولايات المتحدة كثيرا للقيام بغزو هاتين الدولتين والانقضاض عليهما.(6/2)
إن الراصد لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي منذ عقد الخمسينات وحتى يومنا هذا، يلاحظ بوضوح أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة لم يطرأ عليها أي تغيير في المضمون، وإنما التغير كان دائماً يدخل في مجال المنهج. وإن أسس هذه الاستراتيجية قائمة على استمرارية تدفق النفط لأمريكا وحلفائها الغربيين والشرقيين وبالكمية التي يريدونها، وبالأسعار التي لا تهدد اقتصادهم. كما أن من ركائز هذه الاستراتيجية أيضا اعتبار الاتحاد السوفيتي الخطر الأول الذي يتهدد المنطقة، وإن هذه المنطقة لا تستطيع تأمين دفاعها الذاتي، ومن هنا نصّبت الولايات المتحدة نفسها مسئولة عن أمن هذه المنطقة.[6]
أما بخصوص التطورات على صعيد الاستراتيجية الأمريكية بشأن حروبها القادمة، فقد أدار الرئيس الأمريكي ظهره للسياسة أحادية الجانب، مشدداً على أهمية السياسة متعددة الأطراف فيما يتعلق بالشؤون الخارجية ( أو الحروب التي ينتويها مستقبلا ). وبطبيعة الحال، جدد الرئيس بوش التزامه بما سمّاه بالحرب ضد الإرهاب وحماية أمن الشعب الأمريكي. جاء ذلك في الوثيقة التي صدرت مؤخرا بعنوان: " استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة ".[7]
*****
إن طبيعة الصراع بين العالم الإسلامي والتحالف الصليبي الصهيوني له أبعاد مختلفة وجذور عميقة. وفي ذلك يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي. إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية.[8]
5 من ربيع الأول عام 1427 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 3 من أبريل عام 2006 ).
----------------------------------------
[1] راجع في ذلك تفصيلا: أزمة دارفور ... بين حقيقة الأوضاع وآفاق المستقبل، د/ رضا الطيب، مجلة التبيان،عدد: 5، ص: 25-26.
[2] الأمريكان يعترفون: سقطنا في وحل الرافدين، بهاء حبيب، جريدة الأسبوع، العدد 470، 27/3/2006، ص: 12.
[3] مجلة البيان، العدد 188، ربيع الآخر 1424، نقلا عن: السبيل، 29/4/2003.
[4] عن الديمقراطية: تغيير الطلاء ليس حلا، فهمي هويدي، جريدة الأسبوع، العدد (418)، 28/3/2005.
[5] راجع المقال الذي كتبه Andrew Buncombe، بعنوان: US and UK forces establish "enduring bases" in Iraq، جريدة The Independent، يوم 2/4/2006.
[6] تطور الاستراتيجية الأمريكية في الخليج العربي، د/ فؤاد شهاب.
[7] مستقبل الأزمة العراقية إذا تراجعت أمريكا عن الأحادية، جون هيوز، صحيفة الإتحاد الإماراتية ( بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور)، 26/3/2006.
[8] الإسلام والغرب، عبد الودود شلبي، ص: 55-56.
================
الأوقاف وأثرها في دعم الأعمال الخيرية في المجتمع
الأستاذ/ عبد الله بن ناصر السدحان
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد :
لقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين، فمنها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور. وهذه لا حديث عنها باعتبارها واجبا لازما على المسلم ومن المنابع ما هو ذو طابع تطوعي بحت مثل الصدقات التطوعية والوقف، فالمسلم حين يتنازل عن حر ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع و يتحرر به من ضيق الفردية و الأنانية متجاوزا الأنا إلى الكل شاملاً المجتمع بخيرية الفرد وبانياً الجسد الواحد بكرم العضو، وهذا التفاعل تحقيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) (رواه البخاري).
ويعد الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبيراً وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره، وذلك بعدم محدوديته واتساع آفاق مجالاته، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه، وكل هذا كفل للمجتمع المسلم التراحم والتواد بين أفراده على مر العصور بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية ويزيد إحساسه بقضايا إخوانه المسلمين ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية.
وينظر كثير من الباحثين إلى نظام الوقف باعتباره أحد الأسس المهمة للنهضة الإسلامية الشاملة بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية، لذا فقد اتجهت الأنظار إليه مرة أخرى بعد تغيب دوره العظيم لعقود طويلة باعتباره البذرة الصحيحة لبداية النهضة الشاملة لجميع مجالات الحياة في الأمة المسلمة ولعل من المبشرات في ذلك أن الندوات عن الوقف أخذت تترى على امتداد العالم الإسلامي فما أن تختم ندوة إلا وتبدأ أخرى، ولاشك أن البداية الصحيحة لعودة الوقف إلى مكانه الفاعل في دولاب العجلة التنموية الشاملة هو إثارة الشعور واستنهاض الهمم نحو تجلية حقيقته والدور الذي قام به سابقاً.
وستحاول هذه الورقة الإشارة إلى شئ من ذلك وتوضيح الأثر الاجتماعي للوقوف والدور الذي أداه في حياة المجتمعات الإسلامية على مر العصور السابقة وإبراز سمات التكاتف والتعاضد التي تفرد المجتمع المسلم وتميزه بها عن غيره من المجتمعات، كما تحاول هذه الورقة طرح تصور عملي لكيفية إعادة الأثر الفعال للوقف في التنمية الاجتماعية الشاملة، والله أسأل إعانته وهو المأمول فيها والمسؤول لها هو على كل شئ قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أولاً: الوقف في الإسلام
يعرف الوقف في اللغة بأنه: الحبس والمنع، ويقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها ، وفي تعريف الفقهاء الوقف هو: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.
والأصل في مشروعية الوقف في الإسلام السنة والإجماع في الجملة، ولقد اتفق جمهور علماء السلف على جواز الوقف وصحته بناء على أدلة ومنها حث القرآن الكريم في آيات عدة علي فعل الخير والبر والإحسان وهو ما يرمي إليه الوقف ومن ذلك قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) (آل عمران آية: 92) وقوله تعالى: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة آية: 272).(6/3)
كما ورد في العديد من الآثار القولية والفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤكد مشروعية الوقف، ومن ذلك حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- الذي يقول فيه: (أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي !يه فقال: أصبت أرضا، لم أصب مالأ قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى، والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا غبر متمول فيه) (متفق عليه).
ويدخل الوقف في قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (رواه مسلم).
ومن الأدلة العملية فعله عليه الصلاة والسلام في أموال مخيريق وهي سبعة حوائط بالمدينة أوصى إن هو قتل يوم أحد فهي لمحمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته فقال النبي عليه الصلاة والسلام (مخيريق خير يهود) وقبض النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحوائط السبعة وجعلها أوقافاً بالمدينة لله وكانت أول وقف بالمدينة . ثم وقف عمر رضي الله عنه، وبعد ذلك تتابع الصحابة رضوان الله عليهم في الوقف حتى إن جابراً رضي الله يقول: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف). وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعاً .
ونظام الوقف باعتباره نظاماً خيرياً موجود منذ القدم بصورة شتى، إلا أنه من المؤكد أن نظام الوقف في الإسلام بشكله الحالي يبقى خصوصية إسلامية لا يمكن مقارنتها بصور البر في الحضارات أو الشعوب الأخرى وهذا عائد إلى عدة أمور:
1- التعلق الشعبي به وامتداد رواقه ومظلته إلى أمور تشف عن حس إنساني رفيع.
2- عدم اقتصار الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع.
3- شمول منافع الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة، فيجوز أن يقف المسلم على الذمي لما روي أن صفية بنت حيي- رضي الله عنها- وقفت على أخ لها يهودي .
ويتميز الوقف بخصائص وميزات متعددة قد لا توجد في المشاريع الخيرية الأخرى، وهذه المزايا أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها في الأمة على مدى قرون طويلة، لأجل ذلك لا عجب أن نرى ذلك الإقبال الكبير من لدن أفراد المجتمع المسلم على الوقف وتحبيس جزء كبير من أملاكهم لأعمال الخير، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام ثم صحبه الكرام (فقد وقف مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وصفية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبدالله وغيرهم) ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين ومن بعدهم من المسلمين.
ثانياً: دور الوقف في الحياة الاجتماعية
إن الدارس للوقف في الحضارة الإسلامية ليعجب من التنوع الكبر في مصارف الأوقاف، فكان هناك تلمس حقيقي لمواطن الحاجة في المجتمع لتسد هذه الحاجة عن طريق الوقف، من خلال الأوقاف، فالوقف من حيث بعده الاجتماعي يبرهن على الحس التراحمي الذي يمتلكه المسلم ويترجمه بشكل عملي في تفاعله مع هموم مجتمعه الكبير ويبدو هذا جليا في رصد التطور النوعي للوقف على امتداد القرون الأربعة عشر فلقد كان المسجد أهم الأوقاف التي عني بها المسلمون، بل هو أول وقف في الإسلام، كما هو معلوم في قصة بناء مسجد قباء أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولعل من أبرز شواهد اهتمام المسلمين بذلك الجانب في الوقف: الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق والقرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس وغيرها كثير، ثم يأتي في المرتبة الثانية من حيث الكثرة العددية والأهمية النوعية المدارس، فلقد بلغت الآلاف على امتداد العالم الإسلامي وكان لها اثر واضح في نشر العلم بين المسلمين وقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، إلى جانب تهيئة الطرق، وإقامة السقايات والأسبلة في هذه الطرق للمسافرين، وكذا دوابهم.
وصاحب ذلك إنشاء الأربطة ودور العلم للطلاب الغرباء لإيوائهم، واستتبع ذلك ظهور الوقف للصرف على هؤلاء الطلاب باعتبارهم من طلاب العلم المستحقين للمساعدة في دار الغربة، ولا تخلو كل هذه المراحل والأنواع من جوانب اجتماعية للوقف لها دلالتها وأهميتها وأثرها في المجتمع بشكل عام.
إلا أن الدور الفاعل للوقف في مجال الرعاية الاجتماعية يتمثل في المدارس والمحاضن التي أنشئت خصيصاً للأيتام يوفر لهم فيها المأكل والأدوات المدرسية كما يتمثل دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية في الأربطة والزوايا، والتكايا بالإضافة إلى الأسبلة التي يقصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس سواء داخل المدن أو خارجها ويمكن أن نعد كل ذلك مؤسسات اجتماعية أدت دورها الاجتماعي باقتدار رغم صعوبة استمرار مثل هذه المؤسسات الاجتماعية وبقائها فترات طويلة وعلى مدى أجيال متوالية، ويعود ذلك إلى حاجتها الكبيرة إلى موارد مالية دائمة لا تتوقف ولا تنضب وقد تحقق لها ذلك بفضل من الله ثم بفضل نظام الوقف الذي ازدهر في تصاعد مع ازدهار الحضارة الإسلامية ذلك أن الملاحظ في كثير من حلقات التاريخ وفي العديد من بلاد الأوقاف وأثرها في العالم توقفت مؤسسات خيرية ضخمة عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن، بسبب نضوب مواردها المالية وإفلاسها مما يضطرها إلى طلب مساعدة الخيرين بين حين وآخر، أما في الحضارة العربية الإسلامية فإنه قل أن تجد مثيلاً لهذه الظاهرة.
ويمكن أن نجعل المجالات الرئيسية لعمل الأوقاف في الجوانب الاجتماعية في المجالات الآتية:
أ) مجال رعاية الأيتام:
نجد الحرص الكبير من المسلمين على رعاية الأيتام وتربيتهم من خلال الأوقاف بحثاً عن الأجر والمثوبة وطلباً لمرافقة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً) (رواه البخاري).
ومن أشهر الأوقاف لرعاية الأيتام إنشاء مكاتب لتعليمهم ورعايتهم، ومن ذلك ما نقل في مآثر صلاح الدين الأيوبي أنه أمر بعمارة مكاتب ألزمها معلمين لكتاب الله عز وجل يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة ويجري عليهم الجراية الكافية لهم ويقصد بالجراية الكاملة مأكلهم وكسوتهم وأدوات درا ستهم ومن صورة رعاية الأيتام مكتب السبيل الذي أنشأه السلطان الظاهر بيبرس بجوار مدرسته وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم، بالإضافة إلى الكسوة في الشتاء والصيف، كذلك أنشأ السلطان قلاوون مكتباً لتعليم الأيتام ورتب لكل طفل كسوة في الشتاء وأخرى في الصيف. ولقد استرعت ظاهرة كثرة المدارس التي تعنى بالأيتام الرحالة ابن جبير، فقد عدها من أغرب ما يحدث به من مفاخر البلاد الشرقية من العالم الإسلامي.(6/4)
ولعل مما تحسن الإشارة إليه أن دار الأيتام القائمة حالياً في المدينة المنورة تعد من الأوقاف التي أنشأها حجاج القارة الهندية قبل قرابة سبعين عاماً لأيتام المدينة المنورة ففي عام1352هـ قام الشيخ عبدالغني دادا- يرحمه الله- بتأسيس مكان يأوي أيتام المدينة المنورة وأوقف عليها دارا له واستمر الصرف عليها من غلة ذلك الوقف بالإضافة إلى المساعدات التي كانت تصله من الهند إلى أيتام الدار، حتى أنشئت وزارة العمل والشئون الاجتماعية وتولت الإشراف الكامل عليها، وما زال مبناها الحالي وقفاً على أيتام المدينة المنورة، وهذا مثبت في صك شرعي صادر من محكمة المدينة المنورة عام (1356 هـ) (8).
وخلاصة القول فيما يذكر من جوانب عملية آنفة تجاه رعاية الأيتام والعناية بهم توفير حياة كريمة لهم مثل باقي أفراد المجتمع يدل على أن الوقف كان له دور كبير في سد ثغرة اجتماعية كان سيعاني منها المجتمع المسلم في حالة إهمالها، وهذا يؤكد أهمية الوقف في علاج بعض المشكلات الاجتماعية في المجتمع.
ب) في مجال رعاية الغرباء والعجزة:
لقد أدت الأوقاف دورا مهماً في تحقيق الرعاية الاجتماعية الشاملة للغرباء والعجزة بشكل عام، فما من مدرسة ينشئها الواقفون إلا ويوضع بجوارها بيت خاص للطلاب المغتربين ويجري عليهم فيها ما يحتاجونه من غذاء. لذا لا عجب أن نجد تلك الحركة البشرية المتواصلة بين المدن والقرى في العالم الإسلامي، طلباً للعلم في المدارس الوقفية، فلا يوجد ما يعوق طلب العلم فالطرق قد أمنت بالأسكنة الوقفية، والمدارس قد تم تجهيزها بالغرف الخاصة بالغرباء، وقد تزايدت تلك الظاهرة بشكل ملفت للنظر، وقد أبدى ابن جبير إعجابه الشديد لما لمسه في بلاد المشرق الإسلامي من عناية بالغرباء، فقال: (إن الوافد من الأقطار النائية يجد مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، واتسع عناية السلطان بالغرباء حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ولقد عين لهم السطان خبزتين لكل إنسان في كل يوم وزكاة العيد لهم) وحسبك من هذا أن صلاح الدين قد خصص للغرباء من المغاربة جامع ابن طولون في مصر يسكنونه وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر.
أما الربط وهي الأماكن التي تم إعدادها على الثغور للمجاهدين وصد هجمات الأعداء فقد تحولت مع الوقت هي والحانات والتكايا والزاويا إلى أماكن للمتفرغين للعبادة من الجنسين، فكان ينقطع فيها من يرغب التفرغ للعبادة، ويجري عليها الواقفون الجرايات اليومية من غذاء وكساء، وهذا النوع من الأوقاف ينتشر بشكل كبير جدا في مدن وقرى العالم الإسلامي فمن يطلع على رحلة ابن بطوطة فسيجد العجب فما مر على قرية أو مدينة في البلدان الإسلامية التي زارها في رحلته إلا ويذكر مثل هذه الأربطة والزوايا بل كان من المستفيدين منها وسكن في بعضها، ومع تطور الوقت تحولت بعض هذه الأربطة إلى ملاجئ مستديمة للذين يستحقون الرعاية، وخاصة أصحاب العاهات وكبار السن والعميان والمطلقات وهذا التحول أدى بها إلى تحقيق رسالة اجتماعية، ذلك أنها غدت مأوى للغرباء والعجزة وضعفاء المجتمع، وجميع هذه المنشآت وجدت في نظام الوقف أكبر رافداً مكنها من مواصلة رسالتها. ولازالت بعض هذه الأربطة تؤدي هذه الرسالة في العالم الإسلامي ويمكن رؤية العديد منها في كل من مدينة مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث أصبحت مأوى للعديد من العجزة، والمرضى، والمعاقين، وكبار السن وأحياناً العاطلين، وهذا ما أظهرته الدراسة التي قامت بها وزارة العمل والشئون الاجتماعية عام 1419 هـ عن الأربطة في منطقة مكة المكرمة (مكة المكرمة، جدة الطائف) ومنطقة المدينة المنورة.
ج) في مجال رعاية الفقراء والمعدمين:
لاشك أن الأوقاف باعتبارها صدقة جارية قد قامت بدور كبير في مجال الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي في المجتمع المسلم، فمن اللافت للنظر أن وثائق الأوقاف في غالبها تنص على مساعدة الفقراء والمحتاجين، بل إن هذا يعد ركنًا أساسياً في الوقف، إلا أن المساعدات تكون بأشكال وأنواع مختلفة، فمن ذلك توزيع المساعدات النقدية، وأحياناً أخرى العينية ومما يذكر في هذا المجال أن السطان الظاهر بيبرس أوقف وقفاً لشراء الخبز وتوزيعه على المعدمين.. وتجاوز الأمر إلى رعاية أولئك الفقراء حتى بعد وفاتهم ويكون ذلك بتحمل تكاليف تغسيلهم وتكفينهم ودفنهم، ومن أشهر هذه الأوقاف (وقف الطرحاء) الذي جعله الظاهر بيبرس برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم.
ومن وجوه البر التي اهتم الواقفون بالصرف عليها من ريع أوقافهم كسوة العرايا والمقلين وستر عورات الضعفاء، والعاجزين وإرضاع الأطفال عند فقد أمهاتهم ووفاء دين المدينين، وفكاك المسجونين المعسرين وفك أسرى المسلمين العاجزين وتجهيز من لم يؤد الحج من الفقراء لقضاء فرضه، ومداواة المرضى غير المقتدرين وكان مما حدده السلطان المملوكي الأشرف شعبان لمصاريف أوقافه أن جعل منها نفقات خيرية سنوية تشمل تأمين الإبر والخيوط للفقراء بمكة المكرمة.
كما كان هناك أوقاف خيرية تنفق على اسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وكل ما يحتاجونه لحين خروج عائلهم من السجن، كما وجد مؤسسات وقفيه لتجهيز البنات إلى أزواجهن ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات تجهيزهن.
ثالثا: الدور ا لاجتماعي للأوقاف
لا تخلو أي دراسة عن الوقف من ذكر الآثار المترتبة عليه، إلا أن التركيز غالباً ما يكون على الأدوار الاقتصادية أو الأدوار التعليمية للأوقاف رغم أن الدور الاجتماعي للأوقاف لا يقل عن الأدوار الاقتصادية والثقافية والصحية إن لم يفارقها ولا يكاد يوجد جانب من جوانب الحياة في المجتمع المسلم إلا ولها صلة بنظام الأوقاف من قريب أو بعيد، بل يرى أحد الباحثين أن الأوقاف عمل اجتماعي دوافعه في أكثر الأحيان اجتماعية وأهدافه دائماً اجتماعية، فالأوقاف الإسلامية في الأصل عمل اجتماعي، ويمكن أن نورد بعض الآثار الاجتماعية المترتبة على الوقف، أو التي كان للوقف دور في تعزيزها في حياة المجتمع وترسيخها على مدى القرون الماضية، فلقد ساعد الوقف على تحقيق الاستقرار الاجتماعي وعدم شيوع روح التذمر في المجتمع وذلك نوع من المساواة بين أفراده فقد تمكن الفقير من الحصول على حقه من المتطلبات الأساسية في الحياة من خلال نظام الوقف بل إن بعض الأوقاف كان يخصص ريعها للفقراء ويشير بعض الباحثين إلى أن (الآلاف الكبيرة من المجتمع من العلماء المبرزين في مختلف التخصصات كانوا من فئات اجتماعية واقتصادية رقيقة الحال).
كما تمكن الوقف بما يمتلكه من مرونة من بسط مبدأ التضامن الاجتماعي وشيوع روح التراحم والتواد بين أفراد المجتمع وحمايته من الأمراض الاجتماعية التي تنشأ عادة في المجتمعات التي تسود فيها روح الأنانية المادية وينتج عنها الصراعات الطبقية بين المستويات الاجتماعية المختلفة، وهناك من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حمت مجتمعها من امتداد ثورة العمال التي برزت مع الثورة البلشفية في روسيا إلى المجتمع العمالي في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التوسع في فتح أبواب العمل الخيري وتشجيع الشركات والأثرياء بإعفاءات كبيرة لمن تقدم منهم على الأعمال الخيرية فزادت المؤسسات الخيرية وتضاعفت الهبات حتى بلغت مئات الملايين في وقت مبكر من هذا القرن.(6/5)
كما أن في الوقف توزيعا عادلاً في الثروات وعدم حبسها بأيد محدودة مما يجعلها أكثر تداولاً بين الناس لأن الواقف عندما يوصي بتوزيع غلة موقوفاته على جهة من الجهات، يعني توزيع المال على الجهة المستفيدة وعدم استئثار المالك به.
إن المتأمل لنظام الوقف في الإسلام يرى بوضوح كيف عمل ذلك النظام المتكامل علي تعزيز روح الانتماء بين أفراد المجتمع وشعورهم بأنهم جزء من جسد واحد تحقيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (رواه البخاري).
وهذا الشعور بالانتماء يشمل الطرفين الواقف والمستفيد من الوقف فالواقف استشعر دوره المناط به في المجتمع وخصص جزءاً من ماله لسد حاجة من حاجات المجتمع والمستفيد من الوقف يستشعر بعين التقدير مدى حاجته للانتماء لجسد المجتمع الواحد الذي قام أثرياؤه بإسعاد فقرائه من خلال نظام الوقف.
إن الدارس للأثر الاجتماعي للوقف لابد أن تستوقفه نوعية الطبقة الاجتماعية التي استفادت بشكل كبير من الوقف وكيف استطاع تغييرها وتحقيق ما يسمى بظاهرة (الحراك الاجتماعي) في بنية المجتمع. والحراك الاجتماعي يقصد به: انتقال الأفراد من مركز إلى آخر في نفسي الطبقة.. وقد يكون رأسياً وهو انتقال الأفراد من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أعلى ولقد مكن التعليم الوقفي و الرعاية الاجتماعية والوقفية من تغير طبقات المستفيدين منه أفقياً رأسيا وفق مفهوم الحراك الاجتماعي، فساعد نظام الوقف على تحسين المستويات الاقتصادية، والعلمية والثقافية لكثير من أفراد المجتمع، فالتعليم الجيد الذي قد يحمله شخص موهوب قد ينقله ليس! لأن يتسلم مرتبة الإفتاء والقضاء فحسب، بل يتمرس في العمل الإداري وتيسير أمور الدولة أو في أي مهنة متخصصة كالطب أو الإدارة أو غيرها والتي قد لا تتاح له لولا أن أموالا موقوفة قد سهلت له سبيل التعليم.
وإضافة لكل ما سبق فقد كان لنظام الوقف ومصارف غلالها الدور الكبير في تعزيز الجانب الأخلاقي والسلوكي في المجتمع من خلال التضييق على منابع الانحراف، فقد كانت توجد العديد من الأوقاف لرعاية النساء اللاتي طلقن أو هجرهن أزواجهن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهم وللمجتمع ويكون ذلك بإبداعهن الرباط، حيث ينقطعن عن الناس، وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز، وتؤدب من خرجت عن الطريق بما تراه، وتجرى عليهن من الأوقاف. فتنقطع حاجتهن التي قد تلجئهن إلى سلوك دروب الانحراف بسبب الحاجة.
كما وجدت أوقاف خاصة لتخليص السجناء ووفاء ديونهم، وفكاك أسرى المسلمين، كما وجدت أوقاف خيرية تنفق على أسر السجناء وأولادهم، حيث يقدم لهم الغذاء والكساء وما يحتاجونه من أمور أخرى. وعلاوة على الصرف على المساجين وعوائلهم من أموال الوقف كانت هناك بعض الأوقاف مخصصة للصرف على الفقهاء بشرط أن يؤموا المساجين أوقات صلواتهم وأن يدرسوا ويفقهوا السجناء ويقودوهم في حياتهم العملية ليخرج هؤلاء من السجن وقد استفادوا علماً من العلوم أو حرفة من الحرف، وهذا ما يسمى في الوقت الحاضر بالرعاية اللاحقة وهي الرعاية التي تقدم للسجين وأسرته في أثناء سجنه، حتى لا يعود إلى الانحراف مرة أخرى، وحتى لا ينحرف أحد أفراد أسرته بسبب غيبته عنهم وعدم وجود الولي والرقيب عليهم.
وجماع القول في هذا المبحث أن للوقف دوراً اجتماعياً كبيراً ومهما، ورغم عدم وضوحه في بعض الأحيان وذلك يعود إلي تأخر ظهور الآثار الاجتماعية في حياة المجتمعات واحتياجها إلى سنوات وأحياناً إلى عقود طويلة من السنين والأعوام لتتضح للعيان، وهذه الآثار في جملتها آثار إيجابية نافعة، وهذا ما يؤكد ضرورة العودة بالوقف إلى دوره الفعال في المجتمعات المسلمة لجني ثماره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل متوازن ومتكامل.
رابعاً: كيف يعاد دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية؟
لعل فيما ذكر في المباحث السابقة ما يوضح الأثر الكبير المتوقع من الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية وليس ذلك بغريب، فإن المتأمل في تاريخ الأمة ليجزم وبقوة أن الرعاية الاجتماعية في المجتمع المسلم طوال القرون الماضية لم توجد إلا عن طريق الوقف.
وفي عصرنا الحالي، ورغم وجود مفهوم الدولة القائم بشكله المعاصر، بكثير من الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدم بها الأوقاف سابقاً، إلا أن الظروف المالية للدول توجب إعطاء الوقف دوره الحقيقي في المساهمة في جوانب الرعاية الاجتماعية وهذه المشاركة من قبل أثرياء الأمة لا تعني تقليل الأعباء عن الحكومات بقدر ما تؤدي إلى ترسيخ قيم الانتماء في النفوس للمجتمع المسلم الكلي وجعل أفراد الأمة أكثر استعدادا للمشاركة الفعالة في تبني هموم المجتمع والتخفيف من الإتكالية الشائعة لدى الناس اعتماداً على جهود الدولة، والدولة فقط.
وهذا الأمر ليس بدعاً من القول، فلقد كانت الأوقاف على مر التاريخ إحدى الروافد الأساسية لبيت المال يصرف ريعه على جهات البر المختلفة من مؤسسات دينية وصحية إلى جانب كثير من المنشآت التعليمية والصحية والمرافق العامة الأخرى. ومما يدعو إلى الأخذ بهذا الاتجاه هو النتائج الإيجابية المتوقعة من اضطلاع الوقف بدوره في مجال الرعاية الاجتماعية، ذلك أن الأوقاف وإدارتها يمكنها أن تملك من المرونة الإدارية والاجتماعية مالا تملكه الإجراءات الرسمية وهذه المرونة هي ما تحتاجه برامج الرعاية الاجتماعية بشكل عام بعيداً عن الجمود الروتيني والأنظمة المقيدة.
وهذا لا يعني أن عدم الاستفادة من الوقف في الوقت الحالي عائد إلى كون الأوقاف تسيرها الأنظمة الروتينية المقيدة في كثير من الأحيان، بل إن معوقات الاستفادة من الأوقاف في مجال الرعاية الاجتماعية في العصر الحالي قد يكون من الواقفين أنفسهم وذلك بجعل مصارف الوقف في أشياء قد تكون الحاجة الحقيقية للمجتمع قد تجاوزتها، ومن هذا كله فإن الحاجة ماسة لتكثيف الدعوة نحو إعادة الوقف لموقعه الطبيعي في نهضة الأمة الإسلامية بشكل عام، والمملكة العربية السعودية بشكل خاص فهي كيان مهم في العالم الإسلامي، فما يتم على الأوقاف في المملكة يعد مثالاً يحتذى به لاعتبارات عدة لا تخفى.
وفيما يلي طرح لبعض المقترحات عن كيفية إرجاع في دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية واقتراحات أخرى تتعلق بوضع الأوقاف في المملكة، وهي مقترحات عامة أجزم أن في مناقشتها إثراء لها للوصول إلى ما يطمح إليه الجميع بإذن الله فمن ذلك:
1- تنفيذ حملة إرشاد وتوعية تهدف إلى إبراز قيمة الصدقات وأجر الإنفاق في سبيل الله، وبخاصة ما كان منها صدقة جارية (الوقف) للإقبال على إحياء هذا النظام وجعله يؤدي دوره.
2- استمرار عقد الندوات العلمية المتخصصة في الأوقاف وطرحها بشكل موسع بحيث تكون المشاركات من دول العالم الإسلامي وعدم قصرها على المستوى المحلي.
3- إبراز دور الوقف الاجتماعي في النهضة الإسلامية وطرحها عبر القنوات الإعلامية، مع التركيز على ضرورة التنوع في مصارف غلال الأوقاف وفق حاجات المجتمع التي تسد الثغرات الاجتماعية.
4- طباعة أبحاث الندوات التي أقيمت عن الوقف في كتب وطرحها إلى الأسواق للبيع وعدم الاقتصار على التوزيع المجاني لها.(6/6)
5- تحويل جميع عمليات الوقف من مبادرات فردية إلى عمل مؤسسي منظم من خلال إنشاء صناديق وقفية متخصصة يندرج ضمنها الأوقاف القائمة حالياً، وما يستجد من أوقاف في إطار واحد تحدده شروط الواقفين ويؤكد هذا أن مؤسسات الرعاية الاجتماعية لا يمكن أن تنهض برسالتها إلا في ظل موارد مالية ضخمة ودائمة باستمرار، وهذا يتحقق بجلاء في نظام الوقف والتجربة التاريخية السابقة أثبتت ذلك.
وتخصص هذه الصناديق المقترحة للقيام بالأنشطة الشرعية، والثقافية والصحية بالإضافة إلى الأنشطة الاجتماعية من خلال إنفاق ريع الأموال الواقفين بما يحقق أغراض الواقفين، وتتكون موارد كل صندوق من ريع الأموال والأعيان الوقفية ويقوم على إدارة كل صندوق لجنة متخصصة، وتساعد مثل هذه الصناديق على توفير رأس مال كبير من مجموع الأوقاف المتناثرة، مما يعطي فرصة أكثر لتنمية رؤوس الأموال وإنشاء مشاريع تحقق تنمية واسعة.
ويمكن لتلك الصناديق دعم المشاريع الخيرية التي تتوافق مع شروط الواقفين بحيث تقدم أية جهة بمشروع متكامل من حيث الدراسة والتنفيذ ونوعية ومقدار المستفيدين منه، ليقوم الصندوق بدراسة المشروع وتحديد مدى إمكانية دعمه وفق معايير واضحة، بذلك نضمن تحقيق أكثر فائدة من الأوقاف في المجالات المختلفة ومنها جهات الرعاية الاجتماعية.
6- من المعلوم أن الأربطة الخيرية هي الجانب الظاهر من دور الوقف في مجالات مختلفة ومنها الرعاية الاجتماعية في المملكة حيث تشتهر منطقة مكة المكرمة ومنطقة المدينة المنورة بكثرة الأربطة الخيرية بها، إلا أنه أصابها ما أصاب غرها من الأوقاف نتيجة عوامل عدة، فلقد أظهرت دراسة لوزارة العمل والشئون الاجتماعية العديد من النتائج التي تؤكد تناقص دور الأربطة، بل وعدم تحقيق شروط العديد ممن أوقفوها، وخراب العديد منها، كما ظهر لبعضها آثار سلبية من الجوانب الأمنية والأخلاقية في ظل وضعها الحالي وهذا الأمر يتطلب إعادة النظر في وضعها، فقد تحتاج إلى دراسة شرعية خاصة بها للنظر في كيفية تحقيق الاستفادة منها بشكل يتوافق مع شروط الواقفين ويحقق البعد الاجتماعي والهدف الخيري الذي قصده الواقف منها.
ويمكن تحقيق ذلك بإسناد هذه الأوقاف في نظرتها إلى بعض الجمعيات الخيرية لتتولى متابعتها وصرف ريعها وفق شروط الواقف، ووضع شروط لتسكين المستفيدين تتفق مع شروط الواقف وعدم تركها مجالاً لتشجيع البطالة بين ضعاف النفوس ممن ألفوا الدعة والراحة
والله الموقف والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع :
(1) ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، دار إحياء العلوم، 1417 هـ.
(2) ابن جبير، رحلة ابن جبر، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
(3) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، 1401 هـ.
(4) جمال برزنجي، الوقف الإسلامي وأثره في تنمية المجتمع، ضمن أبحاث ندوة (نحو دور تنموي للوقف) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ا لكويت 1993 م.
(5) راشد القحطاني، أوقاف السلطان الأشراف شعبان على الحرمين، الرياض، 1414 هـ.
(6) سعيد عاشور، المؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية في (موسوعة الحضارة العربية الإسلامية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987 م.
(7) شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض 1415 هـ.
(8) عبدالله بن سليمان المنيع، الوقف من منظور فقهي، ضمن أبحاث ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية- المدية المنورة، 1420 هـ.
(9) عبدالله بن ناصر السدحان، رعاية الأيتام في المملكة العربية السعودية، الأمانة العامة للاحتفالات بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، الرياض، 1419 هـ.
(10) وزارة العمل و الشؤون الاجتماعية، تقرير عن الأربطة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ملاحظة : حذفت الحواشي نظراً لعدم وضوحها .
==============
انهزام داخلي.. داء ودواء!
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أكاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام
لا أدري ما الذي سيخلفه هذا الانهزام الداخلي الذي يحاول بعضنا تمكينه في نفوس الشبيبة، ولا أدري هل سيترك خلفه توجهاً سلبي المنحى، أم سيقع منا موقع التحفيز فنبرع كما لو لم يبرع غيرنا
لقد تحدث الغرب بعظيم التقدير عن إنجازات حاول بعضنا تهميشها، إنجازات حضارة استمدت قوتها من كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالتالي لم يكن من الممكن أن أتغاضى عن تلك المحاولات التي تعمل على النيل منها ،مهاترات تكرر ظهورها بشكل مقزز عبر إعلامنا على اختلاف قنواته، وقد اخترت وضع دفة الحديث بين يدي الإنسان الغربي لعل شهادته في حق هذه الحضارة الموسوعية والعالمية تكون أوقع للمصابين بانهزام داخلي، لعل ذلك الإنسان يحدثهم بما لا يعلمون:
قال الدكتور "فيليب حتي": "خلال القسم الأول من القرون الوسطى لم يساهم شعب من شعوب الأرض بقدر ما ساهم به المسلمون في التقدم البشري، وظلت اللغة العربية هي لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، وكان من آثارها أيضا أنه فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين - الثالث والسادس الهجريين - فاق ما كتب بالعربية عن الطب والتاريخ والإلهيات والفلك والجغرافيا كل ما كتب بأي لسان آخر".
أما العلامة جورج سارتون (1884-1995م) فقد قال: "إن شراح الثقافة الغربية كثيرا ما يهملون ما قام به الهنود والصينيون من تطوير للرياضيات، ولكن إهمال ما استحدثه العرب المسلمون من تطوير في هذا الجانب من شأنه أن يفسد مفاهيم كاملة ويجعلها غامضة ..لقد كانت اللغة العربية هي لغة الرياضيات بما لم تبلغه أي لغة - سوى الإغريقية - ولن تبلغها أي لغة أخرى". كان طبيعيا أن يذهب علامة كجورج سارتون إلى هذا وهو يدرك تماما أن المسلمين هم من أوجدوا علم الجبر على يد العلامة المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، وعن طريق مؤلفاته أدخلت الأعداد العربية إلى أوروبا بما فيها الأعداد التي ما زال الغربيون يتعاملون بخطها.. أما الصفر الذي كان لوجوده ثورة في علم الرياضيات، فلا أحد ينكر أنه نتاج للحضارة الإسلامية.
كما قال البروفيسور جورج سارتون عن الحضارة الإسلامية: "إن القدرة على إبداع حضارة عالمية وموسوعية بهذا الحجم، في أقل من قرنين من الزمان أمر يمكن وصفه ولكن لا سبيل إلى تفسيره تفسيرا كاملا".
كما تحدث البروفيسور سارتون أيضا عن تفوق مدارس الطب في عهد الحضارة الإسلامية فقال: "إن مدارس الطب في العالم الإسلامي أنشئت في العصر العباسي وكانت تلك المدارس تنتهج المنهاج النظري ثم العملي" وهو النظام الذي ما زال معتمدا من قبل أعظم الجامعات العالمية، بل إن التاريخ المدون من قبل الغرب يؤكد أن المدارس الطبية في الأندلس كانت الوحيدة في أوروبا التي تخرج أطباء مؤهلين في الجراحة، بل إنهم يؤكدون أن الطب الأوروبي الحديث مستنبط من بدايته من الطب العربي الإسلامي، وأنهم أول من أنشأ صيدلية عرفها التاريخ، لقد كانت العقاقير الإسلامية ترسل للشرق كما للغرب، فوصلت شرقا إلى بلاد الهند والصين كما وصلت إلى أوروبا عبر البندقية التي ازدهرت في القرون الوسطى تجاريا بسبب تجارتها في العقاقير الإسلامية .(6/7)
كما ذكرت زيغريد هونكة : " قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، إذ لم تكن تحتوي إلا على كتاب واحد كان للطبيب المسلم أبي بكر الرازي، وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة بدليل أن ملك الفرنجة لويس الحادي عشر اضطر إلى دفع مبالغ طائلة لقاء استعارة هذا الكنز الغالي رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة منه، يرجعون إليها إذا ما هدد مرض أو داء صحته أو صحة عائلته .
(زيغريد هونكة )في كتابها " شمس الله تستطع على الغرب " قالت: "اهتم العرب بالجراحة فقاموا بعمليات جراحية كثيرة في البطن، كما نجحوا في شق القصبة الهوائية ووقف نزيف الدم بربط الشرايين الكبيرة، وهذا الإنجاز العلمي الكبير ادّعى تحقيقه الفرنسي "امبراواز باري" عام 1552م، في حين أن الطبيب المسلم أبا القاسم الزهراوي في قرطبة والذي توفي عام 1013م قد اكتشفه قبله بستمائة سنة، وذكره في مؤلفه " التصريف لمن عجز عن التأليف " أي قبل باري بستة قرون.
لقد تملك العجب ملك الفرنجة شارلمان وحاشيته من رؤيتهم الساعة التي كانت ضمن هدايا هارون الرشيد ردا على الهدايا التي وصلت له مع وفد جاء من قبل شارلمان والهادفة لتوثيق العلاقات بين الدولة الإسلامية وفرنسا، لقد اعتقد الملك شارلمان وحاشيته أن هذه الساعة سحر، فقد كانت تدق كل ساعة بسقوط كراتها النحاسية على قرص معدني، مهارات المسلمين الميكانيكية كانت سحرا عند هؤلاء .
يؤكد ويل ديورانت: "أن ابن سيناء أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الفلكيين فيها، والإدريسي أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علماء البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها، وأن العلوم العربية نمت في علم الكيمياء بالطريقة التجريبية العملية، وهي أهم أدوات العقل الحديث، وأعظم مفاخره،" بل أكد ديورانت أن روجر بيكن الذي أعلن هذه الطريقة في أوروبا، اكتشفها جابر بن حيان قبله بخمسمائة عام، (خمسة قرون).
ولأن الهندسة من أبرز ظواهر الحضارة الإنسانية، لذا سأذكر هنا هذه القصة: "عندما سمع الإمبراطور الروماني (آليون) أن المسلمين قد بنوا مسجدا في دمشق، اعتبر اكبر معجزة في عصره لم يصدق ذلك، فشكل بعثة من المهندسين والمعماريين الرومان، وقال لهم: "إن المسلمين قد غلبونا في حروب البر.. ثم غلبونا في حروب البحر، ولكن أن يستطيع رعاة الغنم وسكان الخيام أن يغلبونا في فن العمارة فهذا لا أصدقه أبدا، فاذهبوا إلى دمشق وزوروا المسجد الأموي وأخبروني بحقيقة الأمر " وتقول القصة إن المعماريين الرومان عندما شاهدوا الرسوم التي وضعها المسلمون للمسجد لم يصدقوا أنه بالإمكان تنفيذها، إلا أن الذهول كان نصيبهم عندما زاروا المسجد ووقفوا على روعة الفن والعمارة الإسلامية، بل إن رئيس المعماريين الرومان شهق شهقة عالية أمام هذا الإبداع الإنساني.
وكل ما آمله من المعدين والقائمين على المقابلات الحوارية، هو القيام بواجباتهم على أكمل وجه، فالثقافة المتعلقة بعظم الحضارة الإسلامية متوفرة بشكل كبير، ولا يستغرق الإلمام بها إلا عدة أيام، فمن المهم للمحاور ليكون مقنعا أن يكون ملما بموضوع الحوار، فمع الأسف تبين من خلال بعض البرامج الحوارية، أن القائمين عليها لا يبذلون الجهد الكافي لذلك، فالرغبة والغيرة على الحضارة الإسلامية لا تكفي لإقامة الحجة على من يدعي معرفة إسرار الكون، على من بهرته القشور، فأصبح يغرد على آثارها.
الحضارة الأوروبية والأمريكية لا يمكن لعاقل أن ينكرها إذا ما قورنت بمعطيات عصرها، ولكنه من غير المستبعد أن تقدم لنا الحضارة اليابانية أو الصينية أو الهندية، بل والإسلامية ما يفوقها تقدما وتطورا في المستقبل القريب.. وعليه فمن الإجحاف إنكار الحضارة المعاصرة وتقليص معطياتها مقارنة بما سيستحدث من غيرها مستقبلا، فهي في عصرها الحالي متميزة، ولكنها ليست فريدة وموسوعية وعالمية كحال الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، فهي بشهادة علماء الغرب، ظهرت وتربعت وبقيت متفردة خلال ستة قرون.
لا أدري ما الذي سيخلفه هذا الانهزام الداخلي الذي يحاول بعضنا تمكينه في نفوس الشبيبة، ولا أدري هل سيترك خلفه توجهاً سلبي المنحى، أم سيقع منا موقع التحفيز فنبرع كما لو لم يبرع غيرنا.. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
==============
التقنية والعمل الدعوي ضرورة شرعية ملحة
د. سليمان بن محمد بن فالح الصغيّر
المتأمل واقعََ العمل الدعوي ومناشطه يرى ولله الحمد أنه يجري من خلال قنوات عديدة ونشاطات متميزة في الدعوة والإرشاد إلى دين الحق، وتمثله هيئات ومؤسسات حافلة بالأعمال الإسلامية المختلفة، وساحاته الإعلامية آخذة في شق طريقها بقوة وثبات ترعاها بتوفيق الله أيدٍ مخلصة حتى علا بعضها منابر دعوية انتشر صيتها وارتفع ذكرها، ولا نملك إزاء تقصيرنا تجاهها إلا أن ندعو لهؤلاء بأن يخلص الله لهم العمل، ويحقق الهدف الذي يؤمَّل من رجالها وأنصارها بل وعامة الأمة الإسلامية.
ولكن الملاحظ أن الساحة الإعلامية الإسلامية قلما تتطرق في صحفها ومنابرها إلى الحديث عن التقنية ومنجزاتها، وإن تطرقت فبشكل نادر؛ وغالباً ما يكون ذلك من جهة عامة باعتبار أنها ليست الغاية أو الجانب الأهم في حياة الإنسان، وهي وإن كانت كذلك، فليس معناه أن يكون موقف العمل الدعوي سلبياً، وفي المقابل حينما نتأمل الأعمال المهنية والتقنية وساحاتها الإعلامية نجدها بعيدة عن ربط مبادئ الإسلام وقيمه وآدابه وأحكامه في ذلك الشأن، وبمعنى أدق: لماذا نرى النشاطات التقنية تكاد تخلو من ربط التقنية بمفاهيم الإسلام وآدابه وأحكامه وبخاصة في المجلات والصحف التي تعنى بالجوانب التقنية، وغالباً ما يصطبغ طرح الموضوعات المهنية والتقنية فيها بصبغة دنيوية جافة ليس فيها ذكر للإيمان والنية وابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
إن ذلك فيما أرى يستوجب مضاعفة الجهود وتكاتف فئات المجتمع. ويعظم دور العلماء والدعاة في ضرورة توجيه أعمال المهن في منظومة العمل الدعوي ومجالاته الرئيسة، والسعي إلى ترابط الجهود الدعوية والتنسيق التعاوني بين ساحاتها الإعلامية ومع جهود رجالات الدعوة وإسهاماتهم من خلال مجالات تخصصاتهم التقنية والمهنية والفنية، وتشجيع البحث العلمي والتقني بين المسلمين بإنشاء المراكز للبحوث العلمية والتقنية، والعمل على نشر العلوم التطبيقية والتقنية انطلاقاً من تصور إسلامي صحيح، وإحياء المفهوم الصحيح للبحث العلمي والتقني في الإسلام وتعميقه في نفوس المسلمين، وإبراز الإشارات العلمية في القرآن الكريم، ووضع سياسات علمية وتقنية دقيقة ومستقرة للعالم الإسلامي.(6/8)
أليس الإسلام دين العلم؟ بل لم يعرف التاريخ أمة من الأمم رفعت من شأن العلم وأهله كأمة الإسلام؟ فَلِمَ لا تُربَط العلوم الحديثة بأهداف الإسلام وغاياته ومبادئه وأحكامه كلما طرحت؟ ولماذا لا يركز العلماء والدعاة على هذا الجانب الهام في العمل الدعوي؟ لا نجد مسوغاً يجعل العمل الدعوي بمنأى عن العمل المهني والتقني؛ فالعصر عصرها، وضرورة توضيح قيمة هذه الأعمال المهنية والتقنية في الإسلام قائمة وملحة؛ فإن تعزيز العلاقة وتنمية روابطها بين كل من العملين من شأنها أن توحد الجهود ويعظم تأثيرها. نعم! قد نرى شيئاً من ذلك الربط في مجلة (الإعجاز) مثلاً التي تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وإن كانت ذات توجه تخصصي أكثر؛ مما قد يكون أثَّر على انطلاقها المأمول في الساحة الإعلامية والدعوية.
فمن هنا تبرز أهمية طرح المفهوم الإسلامي للعمل التقني والمهني وربطهما بالمفهوم الإسلامي والمبادئ والقيم والآداب والأحكام التي جاء بها حتى تتبين أهدافه وتتضح غاياتهُ وتَمَيُّزُ أحكامِهِ واختصاصه بالشمولية. ونظرة الإسلام إلى العلم بعامة والحِرَف والمهن التقنية بخاصة نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أنه جعلها ضرورة من ضروريات الحياة، كما رتب عليها الأجر وجعلها من أفضل وسائل الكسب، ورفع من شأن تعلمها وتعليمها حتى جعلها في ذاتها عبادة ما دامت في حدود ما شرعه الله تعالى، وجعل أداءها وإتقانها والإخلاص فيها غاية يجب أن يسعى إليها المسلم، وإذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه إلى العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في عمارة الأرض؛ وأعرض على سبيل المثال بعض ما تضمنته مبادئ الإسلام وما جاء به من قيم وأحكام في أداء العمل، وبخاصة العمل المهني الذي هو أصل التقنية ويلتحق به كل جديد في عالمها اليوم.
إن ارتباط السعادة بالعمل في الإسلام ليس مقصوراً على الدار الآخرة وحدها، بل يجري الجزاء عليه في الدنيا؛ فمن سنن الله فيها أن يُعطي كل عامل مجدٍّ ثمرة عمله؛ فالطالب أو المدرس أو الصانع أو المزارع أو التاجر يدعوه دينه إلى أن يكون عاملاً مثابراً مخلصاً متقناً لعمله؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ولهذا نستطيع أن نقول: إن العمل التقني سبب لحصول ثمرته من سعادة وأجر دنيوي وأخروي فيما إذا سُخِّر لصالح الأمة.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتقنون مهن الحياة: زراعة، وتجارة، وصناعة، ولم يكن إيمانهم بالآخرة مانعاً لهم من العمل للدنيا، قال تعالى : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا {القصص: 77}.
وقيمة العمل اليدوي والمهني والتقني استمراريته حتى آخر لحظة من العمر؛ فالأخذ بأسباب عمارة الأرض حتى آخر لحظة من العمر هو شأن المسلم؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"(1).
العمل التقني ضرورة شرعية وحضارية حيوية؛ فقد نظر الإسلام إليه نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أن جعل العمل ضرورة من ضرورات الحياة بها ينعم الإنسان ويعمر الأرض، ومما يدل على ذلك أن الإسلام قرن العمل بالجهاد؛ حيث قال تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله {المزمل: 20}.
وقد فُسِّر الضرب بأنه التقلب في التجارة، والتجارة تُعَدُّ من أصول الأعمال المهنية والفنية.
ومما يؤكد ذلك أيضاً اقترانه بالصلاة والحج، كما في قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله {الجمعة: 10}.
وفسر بعض العلماء (المنافع في الحج) في قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم {الحج: 28} بأنها "الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا"، ولم يكتف الإسلام بهذا القدر في بيان قيمة العمل والحث عليه بل اعتبر العمل جهاداً؛ فقد قال بعض الصحابة حين رأوا شاباً قوياً يسرع إلى عمله: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله: "لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(1).
أجر العمل اليدوي والمهني في الإسلام دنيوي وأخروي: إذ حث الإسلام على العمل ووعد صاحبه بالأجر العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم : "من بنى بنياناً من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجرٌ جارٍ ما انتفع به من خلق الله تعالى"(2).
وقال أيضاً: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(3)؛ فالزراعة أصل من أصول الأعمال الفنية المهنية.
أما حكم العمل المهني والتقني فيعد من فروض الكفاية التي إذا قام بها بعض أفراد المجتمع قياماً يسد حاجة المجتمع ويدفع عجلته للتقدم والرقي سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثمت الأمة كلها، وتحوَّل فرض الكفاية هذا إلى فرض عين على كل من يستطيع. والأعمال التقنية من أولويات ذلك؛ ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : "لهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد ابن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية؛ فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها"، ثم يقول: "والمقصود هنا أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غير عاجز عنها".
والعمل ضده البطالة والكسل، وكان موقف الإسلام منهما أن حاربهما وسعى إلى القضاء عليهما بجميع أشكالهما سواء كانت البطالة بطالة ظاهرة أو بطالة مقنعة، بطالة إجبارية كعدم الحصول على العمل مع وجود الرغبة والقدرة، أو بطالة اختيارية بسبب عدم الرغبة وتفضيل الكسل والخمول. وهناك عدد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عن البطالة والقعود بلا عمل كقوله صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفَّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(4).
وقد ذم السلف الصالحُ العاطلَ عن العمل، كقول ابن مسعود رضي الله عنه : "إني لأكره الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة"(5).
يقدم لنا الإسلام القدوة والمثل الأعلى على الاهتمام بالعمل وبيان شرفه حتى إن الله تعالى جعل العمل نوعاً من الشكر له؛ فبه تتحقق فائدة ما أنعم به وما أوجده في هذا الكون. قال تعالى : اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور {سبأ: 13}. والرسول صلى الله عليه وسلم ربى المسلمين على هذا الاهتمام، فبين شرف العمل وأهميته عند الله في مناسبات شتى.
إن احترام العمل وتقديره والنظر إليه بصفته مبدأ إسلامياً بحد ذاته سبب رئيس في قيام الحضارة الإسلامية؛ فالعمل هو الثروة الدائمة لأية أمة من الأمم، وهو الطريق الأقوى لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي وتحقيق القوة والسيادة، ولقد أدرك المسلمون الأولون ذلك جيداً وطبقوه في شكل ممارسات واقعية لم يُستثن أحد لمكانته أو ثروته مما أدى بهم إلى بناء مجتمع إسلامي قوي استطاع أن يفرض وجوده على العالم أجمع.
وإحياء مثل هذا المبدأ واجب لتخليص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى موارد الغذاء والآلات والمصنوعات.(6/9)
إن إصلاح النظرة الدونية تجاه العمل والعمال يكمن في سيادة القيم الدينية الإسلامية داخل برامج التعليم العام وبخاصة برامج التعليم اليدوي والمهني والتقني.
إن العمل التقني في الإسلام يتطلب مهارة ودقة وإتقاناً، بل إن الإتقان والإحكام مطلوب في كل شيء يعمله الإنسان، ولا تستقر الحياة، ولا تتقدم الأمم، ولا تنضبط الأمور إلا عندما تكون متقنة ومحكمة، والإسلام حث على الإتقان؛ ففي الحديث: "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(1)، وفي رواية: "إن الله يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسن"(2).
ولقد كان من أهم أسباب نجاح الصناعات الحديثة في بعض الدول وتفوقها على غيرها اهتمامها بمراقبة الجودة النوعية، ثم انتشار أسلوب وجود قسم متخصص في كل مصنع لمراقبة جودة الإنتاج واستبعاد أي قطعة ليست في غاية الإتقان، ثم عقد اجتماعات دورية للجان الجودة النوعية لاقتراح ما يرونه مناسباً لتحسين نوعية المنتجات، بل تطور الأمر فيما بعد إلى إيجاد فريق متابعة الجودة خارج المصنع، وذلك باكتشاف أي خلل أو قصور في أي سلعة، واستبدالها وتعويض المستهلك عن أية خسارة تحملها نتيجة لذلك.
وقد أوجدت تلك الدول جائزة سنوية تمنح للشركات التي تحقق أعظم تحسن في الجودة والنوعية؛ ولأهمية ذلك فقد أنشئت رابطة دولية لحلقات مراقبة الجودة النوعية(3).
وإذا كان هذا حال الإنسان الذي لا يهمه إلا الكسب المادي في هذه الحياة فما أحرانا نحن المسلمين بمثل هذا السلوك، لننال القوة في الدنيا والفوز في الآخرة.
إن كل عمل لا بد له من هدف في هذه الحياة؛ فالإنسان وجد في هذه الحياة لهدف وغاية، ولم يوجد عبثاً، ولذا يجب أن تكون أعماله لأهداف وغايات، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا بإتقان العمل.
اهتم الإسلام بالعمل المهني والتقني بمفهومه العام والاصطلاحي، وجعله من القيم التي حرص عليها؛ وذلك أنه يدفع إلى تطور البلاد وزيادة الإنتاج؛ ففي مخاطبة الله سبحانه وتعالى نبيه نوحاً عليه السلام مغزى صريح لأهمية الصناعة في حياة الإنسان والمجتمع. قال تعالى : فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا {المؤمنون: 27}. وفي قصص الأنبياء وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهات تربوية تقدم ذكر بعضها نستوحي منها أهمية الصناعة والزراعة والتجارة والمهن الأخرى في حياة المجتمعات، وقد حرص الغرب على أن يبقى المسلمون محتاجين إلى علومهم وصناعاتهم وإنتاجاتهم التقنية التي غزت أسواقنا ووفرت الاحتياجات الأساسية والكمالية، ولا سيما الكمالية منها، مما أضعف اشتغالنا بالصناعة، ولئلا يكون ذلك هدماً لحضارتهم. ولنستمع إلى أحد الساسة الفرنسيين في هذا الشأن؛ إذ يقول: "إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة؛ فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقوِّ في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني؛ فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجاراة الغرب في الإنتاج، فقد بؤنا بالإخفاق السريع، وأصبح الخطر الذي يصيب العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية"(1).
وقد اعتنى القرآن الكريم بالعمل المهني وجعله نعمة تستوجب الشكر؛ حيث قال تعالى : ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون {يس: 35}، قال الإمام الرازي: "يحتمل أن تكون (ما) موصولة بمعنى: وما عملته، أي: بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما وهما الزراعة والتجارة"(2). يقول سيد قطب رحمه الله : "مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد، وفلاحة هذه الأرض، وصناعة خاماتها، ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان"(3).
وقد نوه القرآن الكريم بشأن كثير من الصناعات، ومن ذلك:
- صناعة الحديد: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس {الحديد: 25}، وقوله تعالى : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات {سبأ: 13}.
- صناعة الأكسية: ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى" حين {النحل: 80}.
- صناعة الدروع: وألنا له الحديد 10 أن \عمل سابغات وقدر في السرد {سبأ: 10، 11} .
- قالوا: درع سابغ تام واسع(4)، والسرد: خرز ما يخشن ويغلظ كنسج الدروع وخرز الجلد، واستعير هنا لنظم الحديد(5).
- صناعة الجلود: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم {النحل: 80}.
- صناعة السرابيل: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم {النحل: 81}، وقوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون {الأنبياء: 80}.
- قالوا: السربال: القميص من أي شيء كان(6)، فقد يكون من القطن والكتان وغيرها، وقيل: هي ما لبس من قميص ودروع فهو سربال"(7).
- الصناعات الإنشائية: وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا.
{الأعراف: 74}.
- صناعة السفن والمراكب: فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا {المؤمنون: 27}. يقول الفارابي: "إن فضيلة العلوم والصناعات تكون بإحدى ثلاث: إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين، وإما بعظم الجدوى التي فيه. وأما ما يفضل على غيره بعظم الجدوى التي فيه فالعلوم الشرعية والصنائع"(8).
ومن خلال ذلك تتبين قيمة تعلم الصناعات والحرف والأعمال اليدوية والتقنية، وأنها مطلب شرعي قبل أن تكون ضرورة حضارية وأرضاً خصبة للعمل الدعوي.
دور القيم في تطوير أداء العمل:
وإنه ليتحقق دور هذه المبادئ والقيم في تطوير أداء العمل التقني وتسخيره لصالح الدعوة وإقامة بناء المجتمع الإسلامي على أصول ثابتة وأسس حضارية من خلال القنوات والاعتبارات الآتية:
1 - الإخلاص في العمل يجعل العمل الدنيوي قربة وعبادة إلى الله تعالى وهذا بدوره حافز لمضاعفة الجهد والإنتاج.
2 - إيجاد الشخصية الإنسانية الصالحة المسلمة السوية التي تؤدي عملها وتقدر دورها التنموي في المجتمع الذي تعيش فيه وتتعامل معه.
3 - التوصل إلى جهود علماء المسلمين في مجال ترسيخ قيمة العمل المهني، ومن ثم إبراز هذه المجهودات في هذا المضمار؛ إذ استطاعت النظرة الإسلامية من خلال هذه المجهودات أن تفتح ذراعيها لجميع التجارب الإنسانية الصالحة.
4 - إذا أدرك الإنسان حقيقة الإيمان وجد باعثاً من داخل نفسه يدعوه إلى العمل في مجالات الحياة المختلفة ليقوم بمهمته في الأرض، وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة مرهونة بعمله، ولا مجال في الإسلام أن يعيش المسلم على الأماني.
5 - سد الاحتياجات المعرفية والمتطلبات من الطاقات المهنية والفنية التي تحتاجها الأمة لتنفيذ خططها الإنمائية في شتى مجالات الحضارة الإنسانية وتطبيقاتها العملية.
6 - الإسهام في تطوير المجتمع وزيادة إنتاجية المنتجين للعمل على تقليل نسبة البطالة المبطنة والواضحة.
7 - التخصص في الأعمال يعني المهارة لدى المختصين؛ وهذا بلا شك يعني أن إنتاج المتخصص فيما تخصص به أجود من إنتاج غير المتخصص، وفي هذا العصر تبرز وتتأكد أهمية التخصصات التقنية والفنية في تجويد الإنتاج الذي حض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(1).(6/10)
8 - القيم الإسلامية للعمل تجعل المجتمع يرتكز على قاعدة صلبة من الدراسات العملية والتطبيقية القادرة على التعاون مع التكنولوجيا ومنجزاتها تعامل المدرك لأسرارها والعالم بمكنوناتها.
9 - قيمة احترام العمل وتقديره تخلِّص الأمة الإسلامية من الافتقار إلى موارد الغذاء والآلات والمصنوعات؛ فاحترام العمل وتقديره وإتقانه والنظر إليه بصفته مبدأً إسلامياً سبب رئيس وطريق قوي لبناء الاقتصاد والتقدم العلمي، واللبنة الأولى في إصلاح القيم السلبية تجاه العمل والعمال.
10 - إن إدراك الإنسان لمسؤوليته عن نفسه وسعيه وكسبه ومجتمعه وعن مواهبه أيضاً وملكاته واستعداداته العقلية والجسمية النفسية يجعله يعمل بروح عالية فيما يعود على نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته بالخير، ورفع مستويات ذلك من الناحية المادية والمعنوية، كما يجعله مجالاً خصباً للدعوة.
11 - إتقان العمل من قيم الإسلام التي تعد من أهم أسباب نجاح الصناعات التقنية الحديثة.
12 - ومن آثار القيم الإسلامية أنها يوجب الاهتمام بالعمل المهني والفني والتقني؛ إذ سيسهم ذلك في الحد من نمو القوى العاملة غير المسلمة، كما يؤدي الاعتماد على قوة العمل الإسلامية إلى رفع درجة تأهيلها للتكيف مع المتطلبات التقنية الحديثة.
13 - إدراك قيمة المسؤولية يوجب على المسؤولين تحديد احتياجات المجتمع الإسلامي تحديداً واضحاً وفق استراتيجية مرسومة على المدى الطويل تراعي النواحي التنموية والتطورات الحضارية؛ لتتضح الرؤية تماماً، وتتحدد الأهداف الكمية والنوعية، وتأتي الخطط المرحلية وافية بحاجات المجتمعات الإسلامية.
إن هذه القنوات والاعتبارات لتؤكد مسؤولية القائمين على العمل الدعوي بخاصة والأمة الإسلامية بعامة دولاً ومجتمعات وأفراداً أن تتدارك هذا التهور التقني؛ فقد خصها الله وميزها بخصائص ومزايا تؤهلها لكبح جماح ذلك التهور والوقوف به على تطويره وتسخيره في عمارة الأرض. ولكن السؤال المطروح هو: كيف يتم ذلك وهي في مؤخرة الركب، ويسود معظم أفرادها ومجتمعاتها التخلف والرضا بالواقع المكاني دون ركب التقنية الذي يقوده تطوره إلى تهوره؟ والإجابة عن هذا السؤال تدعونا أن نتأمل أولاً موقف غالبية الأمة من التطور التقني المعاصر إعلامياً وعملياً! والواقع أنه موقف مرير؛ فنحن بين مهتمين بنظريات ودعوات وندوات وخطب ومواعظ ليس للتقنية وجود فيها ولا ذكر، وبين مهتمين بالتقنية غير مبالين بالآداب والمبادئ والأخلاق الإسلامية. وثانياً ما حال العمل الدعوي؟ وأين مكان التقنية الشاغر في ساحاته الإعلامية ومؤسساته الخيرية والتربوية؟ وماذا أعدت لشباب الأمة: هل استهدفت تأهيلهم ليملكوا زمام كبح جماح التهور التقني وضبطه في عالم اصطبغ بملوثاته، وعانى من أضراره التي باتت تخيم في سماء البشرية أجمع؟
أسباب التخلف:
ومما يتوجب على القائمين بالعمل الدعوي دراسة أسباب التخلف، ودراسة مقومات التقنية ووسائل ضبطها وإبقائها في مستوى التطور بما يخدم البشرية جمعاء؛ وذلك بالعمل الجاد لإعداد أبناء الأمة لمعرفة أسرار التقنية ومنجزاتها، وإدراك أسرارها وخفاياها. وأشير هنا إلى بعض عوائق التقدم وأسباب التخلف والتأخر التقني في عالم المسلمين المعاصر؛ علها تفتح أبواب العمل الدعوي لدراسة جادة لمقومات التقدم التقني ووسائله ضمن مشروعاته ونشاطاته واهتماماته.
فمن العوائق ما يكون مادياً مثل:
1 - الأمية المنتشرة بين المسلمين وتمزق العالم الإسلامي المعاصر إلى دول وأقليات.
2 - إهمال الدراسات التقنية في دول العالم الإسلامي، واعتمادهم على الغرب والشرق في ذلك نظراً لعدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة والمواد والقوى الفنية.
3 - فقدان التنسيق والتعاون والتشاور بين المؤسسات الدعوية والعلمية والتقنية.
وإذا تجاوزنا هذه العوائق المادية وجدنا أهم العوائق المتصلة بذات المسلمين ومن أهمها غياب التطبيق الصحيح للإسلام بصفته التشريع الشامل لجميع شؤون الحياة، وغياب الفهم الصحيح لدور الإنسان المسلم، وانعدام الشعور بالمعنى الحقيقي للأخوة الإسلامية ومتطلباتها.
إننا إذا أدركنا ذلك وأدركنا أن العالم الإسلامي يمتلك من المقومات المختلفة للتقدم ما يؤهله للقيام بدوره فليس من العسير استخلاص الوسائل والطرق الكفيلة باللحوق بركب الحضارة بل والتقدم التقني في عالمنا الإسلامي.
--------------------------------------------------------------------------------
(@) أستاذ الثقافة الإسلامية في الكلية التقنية بالرياض.
(1) رواه أحمد في المسند، تحقيق محمد سليم سمارة وزملائه، المكتب الإسلامي، بيروت، 1413ه، والبخاري في الأدب المفرد، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت، 1405ه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (9).
(1) أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1441).
(2) المسند للإمام أحمد، مرجع سابق، ج 2، ص 438، وضعفه الأرناؤوط في تحقيقه للمسند، رقم (15616).
(3) أخرجه: البخاري، في كتاب الحرث والمزارعة، فتح الباري، ج 5، ص 2.
(4) متفق عليه. (5) المقاصد الحسنة، للسخاوي.
(1، 2) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1113).
(3) كيف تصبح غنياً وسعيداً، للأستاذ- مصطفى أبو طحيش، ص 54.
(1) انظر المرتكزات الأساسية والمضامين التربوية لمكانة العمل من المنظور الإسلامي، للدكتور عطية عبد الصادق، بحث ضمن الكتاب السادس للجمعية السعودية للعلوم النفسية والتربوية، جامعة الملك سعود، 1416ه.
(2) الفخر الرازي، التفسير الكبير، 7- 80، دار الفكر، بيروت، 1398ه، (طبعة مصورة).
(3) في ظلال القرآن، 2970. (4) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 228.
(5) المصدر السابق، 235. (6) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، 237.
(7) المصدر السابق. (8) التربية عبر التاريخ، لعبد الله عبد الدائم، دار العلوم، 1973م، ص 210.
(1) صحيح الجامع، للألباني، رقم 1876.
===============
التغريب في ديار الإسلام
محمد حسن يوسف
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1]
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة ... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم - لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم .[2]
مظاهر التبعية
إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:(6/11)
إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ - مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " Royal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " - ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!
ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.
وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير " ... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.
وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.
وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.
وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.
كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.
خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام
إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.
فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.
إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.
وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].
يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].(6/12)
إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث ( والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة ) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) ... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].
سبل العلاج
? إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس " ... الخ.
? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.
? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.
? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.
? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]
? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.
? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.
21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004 ).
-------------------
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.
[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.
[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 - 56.
[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 - 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.
[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.
===============
د.شوقي أبو خليل فارس فكر ورحّالة تاريخ
د.عبد المعطي الدالاتي
فارس من فرسان الفكر، وجوّابٌ في آفاق المعرفة ، ورحّالة في دروب التاريخ ..
إلى مدرسة الأرقم ينتمي، فهولايدين بالأستاذية لغير معلم الأرقم..
و لا يغريه من التاريخ مثلُ سيرتِه ..
ولا يعجبه من الجغرافية مثل مدينتِه ..
ولايبهره من الأخلاق غير شمائلِه..
لقد استطاع قلم د.شوقي أن يصل بتوفيق الله إلى المعادل الموضوعي لطرح أقوى الأفكار، وأعمق المعاني ، بمنطق مقنع، و أسلوب ممتع..
فإنتاجه يجمع حرارة الإيمان ، وروعة الفكر ، وجمال الأدب ، في كأسٍ واحدة لذّة للشاربين ..
وأسلوبه عذب رقراق ، ينحدر كالغدير المتسلسل متسلّلاً إلى مسارب الروح ، وأعماق الفكر ، ليزرع فيهما القناعة والرضا ..
وفي كلمة واحدة ، لقد جمع د.شوقي أبوخليل الإنتاج الجليل والإخراج الجميل ..
كان رائده في الحياة محبة الله والرسول ، هذه المحبة التي تزداد مع الزمن نقاوة ونضارة وعمقا ..
وكانت قبلته التي يتجه إليها في البحث العلمي هي الحقيقة ، والموضوعية والعدل ..
ومن هنا حالفه التوفيق في إقناع الطلاب والقراء على السواء..
انظر إليه وهو على منصة الأستاذية يلقي محاضراته في" السيرة النبوية"، يحفّ به طلابه وحواريوه، وقد تلاقت عنده نظراتهم، وحامت حواليه أرواحهم الصغيرة ، لتجد في روحه الكبيرة أجوبة لتساؤلات كثيرة .
لم يكن الطلاب يستمعون إلى محاضرة ، وإنما كانوا يحلقون بوجدانهم وعقولهم في فضاءات السيرة المطهرة.
مكتبة د.شوقي أبو خليل:
أرأيت قوس السماء يزين بألوانه الوفيرة الفضاء!
ذلك مثله ، ومثل مكتبته العامرة التي رفد بها المكتبة العربية الإسلامية ..فمن التاريخ ورجاله وأحداثه وأطالسه ؛ إلى الأديان وخصائصها وحواراتها ، إلى الحضارة الإسلامية وعالميتها ، إلى الفكر الإسلامي وآفاقه وتجلياته ، إلى المرأة المسلمة ودورها ،إلى الأطفال وعالمهم الرحيب .
وفي كتابه الجامع " الحضارة العربية الإسلامية " تجلت ثقافة الدكتور شوقي الواسعة ، وإضاءاته الكاشفة للمعمار الكبير الجميل لحضارتنا العربية الإسلامية العريقة .
إنه كتاب فريد في بابه،أضعه باطمئنان إلى جانب كتاب " شمس الله تسطع على الغرب " للباحثة الألمانية زيغريد هونكه.
" الحوار دائما وحوار مع مستشرق":
في هذا الكتاب يتربع أسلوب د.شوقي على عرشه ، وفيه يتجلى دماثة الخلق ، وبراعة الفكر ، وعمق الوعي، فيه ترى المؤلف الواثق بما يمتلك من أفكار ، فهو لا يخاف من الحق إذا كان مع الآخر ، لأن الحق مطلبه .
لقد كان هذا الكتاب مِفصلا لكلماته التي صمم أن يقولها للأجيال، وقد تألق في تفعيل النقد الذاتي الداخلي، ليكشف عوار الأفكار المهترئة ، والبدع والخرافات والضلالات التي طالما رفعنا عليها لافتة القداسة .(6/13)
كما تألق في حواره مع الآخر الغربي، تاركاً في جعبة وجدانه أسئلة كبيرة تنتظر الجواب ، ومهما تأخر الجواب فالدكتور شوقي ليس على عجلة من أمره ويمكنه الانتظار!
" الإسلام نهر يبحث عن مجرى":
عنوان معبر جميل ،لكتاب صغير كبير.. يستهله د.شوقي أبوخليل بقلم المؤرخ والمفكر والأديب ، فيرسم هذا المنظور العلوي لتاريخ الحضارة الإسلامية :
" رأيت الإسلام نهرا منبعه ( حراء) ، ومعينه (اقرأ)، ومنهله رحمة للإنسانية ، وقطراته ومياهه لأولي الألباب الذين يتفكرون ويعقلون، ومجراه شعب اختاره الله لحمل الإسلام للناس كافة ..
نبع منطلقه(حراء) ، انسابت فروعه وسواقيه إلى الصين وإفريقية وأوربةأيام الفتوح في العصر الأموي ، فأينعت غراس ضفتيه الخصيبت ين الخيرتين ثمار نهضة علمية، وحضارة إنسانية..
علمني التاريخ ان المعين غزير متدفق، فالإسلام نهر خالد لن يجف مجراه..
ونظرت إلى واقع الم دنية الغرب اليوم ، فرأيتها مجرى جف ماؤه، يبحث عن مياه نهر صاف يرفده ، ورأيت في الوقت ذاته الإسلام نهر يبحث عن مجرى..".
الإثراءات التي أضافها إلى الفكر الإسلامي:
1- ابتكار فكرة الأطلس القرآني ، وأطلس السيرة النبوية والحديث الشريف ، وإثراء أطلس التاريخ العربي الإسلامي.
2- الدفاع عن الحضارة العربية الإسلامية مع الكشف عن خصائصها ومنطلقاتها ، وآثارها في الحياة والتاريخ الإنساني.
3- التجديد الفكري ، ومحاربة التعصب الأعمى للأشخاص ..
4- تصحيح المفاهيم المغلوطة، ومحاربة الخرافات والأفكار المنحرفة الخطيرة، كالاتحاد والحلول ووحدة الوجود.
5- الوزن بميزان الاعتدال للشخصيات المثيرة في التاريخ ،سواء الهدّامة كجرجي زيدان، أو إنصاف الشخصيات التي حيف عليها في تاريخنا العريق مثل القائد العباسي هارون الرشيد."سلسلة في الميزان".
6- الانتقال في معترك الأفكار من مرحلة الدفاع والتبرير إلى الهجوم الواثق المطمئن،وإلى كشف عوار الآخر.
وهاهو يتساءل :" أما آن لنا - نحن المسلمين- أن نترك موقف الدفاع الذي نقفه لرد شبهات الاستشراق وافتراءاته، ونقف موقف الطارح في ساح البحث عيوبهم ومخازيهم؟!".
7- ويبقى الميدان الأثير لرحالة التاريخ هو التاريخ الإسلامي ، حيث هاجر في آفاقه وفي دروبه ،وعاش في ظلاله فقدم لناقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي عامة، وللسيرة النبوية خاصة باعتبارها الفترة المعصومة من تاريخنا، وأعظم هجرة له كانت مع الهجرة..
================
منهج المحدِّثين بين نظرية المنهج وتاريخ العلوم
رضا أحمد صمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الأستاذ محمود شاكر: " إن الغموض إذا أحاط بلفظ "المنهج" أدي إلى خلط كثير في فهم الآداب وفي تفسيرها وفي شرحها ثم في تصوير أحداث العصر وأفكاره ورجالاته وأحواله بوجه عام".1
إن قضية المنهج من أكثر القضايا خصوبة في العصر الحديث، وقد شُيِّد تحت اسمها مدارس ونَعَى على أنقاضها ناعون، وما زالت تحظى قضية المنهج بزَخَمٍ وجدل واسع الأرجاء وفي مختلف العلوم حتى إنها شغلت معاهد علمية عريقة، واستنفذت الكثير من مجهودات الباحثين.
وبينما كانت تتفاعل هذه القضية في أولى حركاتها البدائية في العصر الهلليني - اليوناني - حينما وجدت عند اليونان معالم واضحة لما يسميه الناس اليوم بالمنهج العلمي، كان النتاج الحضاري لحضارات الأنهار القديمة في مصر وبابل والصين والهند وسوريا يحظى بزخمه أيضا لكنها اتهمت -أي تلك الحضارات- بأنها أفرزت نتاجا على غير منهج علمي.
وعندما انتقلت الحضارة الإنسانية نَقْلَتَها الواسعة على أيدي المسلمين كانت قضية المنهج تحتل مكانتها العادية في العقل المسلم، ولم تشتغل الحضارة الإسلامية بإثارة جدال - غير ذي نفع - على قضية المنهج، ربما لأنها كانت حضارة عملية إذا جاز التعبير، فكانت لدى كل العلوم الإسلامية - أعني التي نشأت ونمت في حُجر الحضارة الإسلامية - مناهج واضحة المعالم، لكن لم يُجْلِب أحد من أساطين العلم في ذلك الحين، أو يحدث ضجيجا لأنه وصل إلى منهج أو طريقة بحث، بل كانت الأمور تمضي بشكل عادي، دون صخب أو طنين.2
حتى إذا ما بدأت أوربا نهضتها وشقت طريقها نحو العلم والتحضر، التفتت إلى أهمية رسم طريق واضحة لتحصيل المعرفة، فارتسمت لنهضتها فكرا يقوم على "معيارية المنهج"، أي جعل المنهج العلمي معيارا لقيمة البحث العلمي حتى أضحت هذه المعيارية روحا تسري في كل أوصال النهضة الأوروبية، وصوتا عاليا لم يَعْلُ عليه أي صوت آخر.
ومنذ أن فجر "ديكارت" قنبلة مقالته في المنهج، وارتسم "بيكون" منهجه التجريبي، تسارع خَطْوُ التقدم، وتسابق سَعْيُ التَّمَدُّن فما دخلت أوروبا قرنها الثامن عشر إلا والمنهج العلمي هو دستور كل معهد أو مدرسة تتبنى البحث العلمي.
وليس بِجَافٍ أثرُ هذه المنهجية في مستوى البحث العلمي لدى الغربيين، فالمنهجية أسبغت سربالا بَهِيَّا على أبحاث الغربيين بحيث صارت تختال بين أمم الشرق بحللها التي لم يعهدها الشرقيون بادي الرأي.
وتحت وطأة الانبهار وضغط الرغبة في التقليد وبتأثير قانون اتباع المغلوب للغالب اجْتَرَّتْ المعاهد العلمية في الشرق تلك المناهج العلمية في الغرب وصارت تتباهى بتلك المنهجية المستوردة باعتبارها آخر صيحة من صيحات الحضارة والمدنية.
وقد كان مما تم التباهي به من مناهج الأوروبيين: منهجهم في النقد التاريخي، حيث وَجَدَ صَدَىً واسعاً بين الباحثين المسلمين واحتل مكانة مقدسة في أبحاثهم وأطروحاتهم.
وعندما أصدر "لانجلوا" و"سينيوبوس " كتابهما في النقد التاريخي، غدا منهجهما -الذي أودعاه فيه- ترنيمةَ الباحثين في الجامعات العربية، وكان ذلك حتى أوائل الثلث الأول من القرن العشرين.
ولكن أول صوت علا لينبه إلى سبق المسلمين إلى هذا المنهج كان من الأستاذ "أسد رستم " - وهو باحث نصراني - حيث ألف كتابه "مصطلح التأريخ" الذي ارتسم فيه قواعد المنهج الأوروبي في النقد، لكنه نبه في بعض فصوله إلى جهود أبي "عمرو بن الصلاح " في وضع قواعد للنقد التاريخي عبر مجهوداته في عرض منهج النقد عند المحدثين من خلال كتابه: "علوم الحديث".
وتنبه الأستاذ "حسن عثمان " - وهو من دعاة المنهج الأوروبي في النقد التاريخي - إلى فائدة المصطلحات المحدثين ونوه بها بين ثنايا كتابه : "النقد التاريخي" الذي يمكن اعتباره عرضا جديدا لكتاب "لانجلوا وسينيوبوس" .
وفي أوائل السبعين من القرن العشرين أجرى الأستاذ "عثمان موافي " بحثا أكثر استقصاء في الموازنة بين المنهج الأوروبي والمنهج الإسلامي، لكن فصوله كانت قلقة حائرة، فخلط بين منهج المحدثين في نقد السند ومنهج المعتزلة في النقد العقلي للمتن ليُلَفِّقَ ما سماه بالمنهج الإسلامي الذي جمع - في زعمه - بين نقد السند ونقد المتن ليظهره منهجا مشابها وسابقا للمنهج الأوروبي.
وفي تلك الغضون ظهر بحث للأستاذ "نور الدين عتر "يعرض فيه منهج المحدثين في النقد بدون موازنة مع المنهج الأوروبي، لكن بُغْيَتَه - كما صرح هو - هو إظهار علوم الحديث في صورةِ نظريةٍ نقدية متكاملة، لكنه في الواقع لم يصنع شيئا غير إعادة تبويب مصطلح الحديث ثم سماه "منهج النقد في علوم الحديث".
ومن بعده جاء الأستاذ "محمد الأعظمي " وعرض "منهج النقد عند المحدثين" من خلال تحقيق جزء من كتاب "التمييز "للإمام "مسلم بن الحجاج النيسابوري".(6/14)
وقد أتى بسبْق حقيقي في إثبات أن ما نزعم أنه منهج النقد من خلال كتب المصطلح إن هو إلا نتيجة منهج النقد عند المحدثين، وليس هو منهج النقد نفسه، فدراسة الإسناد تبدأ بالبحث في أحوال الرجال وما قيل فيهم، وهذه البداية التي يبدأ بها الباحث الآن كانت نهاية بحث المتقدمين، فكون الرجل ضعيفا ليس هو ما بدأ به المحدثون القدامى، بل كانت نتيجة منهج في نقد هذا الرجل.
ويرى الأستاذ الأعظمي أن منهج النقد عند المحدثين يقوم أساسا على المعارضة بين مرويات الراوي ومرويات الثقاة، وقد تعرّض في كتابه: " منهج النقد عند المحدثين" إلى هذه القضية وإلى قضية النقد العقلي فأثبتها - مترددا - ووازن بين منهج المحدثين والمنهج الأوروبي في النقد التاريخي وتناول بعض الجهود الاستشراق في نقد الحديث وبَيَّن قيمتها العلمية من خلال دراسة منهجية متعمقة ، لكن عرضه لم يكن مستقصيا لأمرين :
الأول: تفاصيل أسلوب المحدثين في المنهج النقدي.
الثاني: منهج المحدثين في توثيق الرواية منذ نشأتها.
فخلا البحث في عمق التاريخ الزماني للمنهج ومن عمق تفاصيله الدقيقة، لكنه يعد - بحق - أول محاولة جادة لعرض المنهج العلمي للنقد عند المحدثين من خلال جانب تطبيقي وهو علم العلل.
ولاحظتُ أن من تكلم في منهج النقد عند المحدثين لم يعرض فلسفة المنهج - إن جاز التعبير - ومقوماته وروحه، بحيث إن من أراد مدارسة منهج النقد عند المحدثين قد لا يفهم العلل الأولى لخطواته ومراحله.
كما أن هناك مُفارَقة سجَّلها أحد الباحثين في قضية المناهج وهي مفارقة " فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم" ، وهي مفارقة يقوم عليها - أردنا أم لم نرد - كلُّ مُؤَلَّفٍ يحمل عنوان: "مناهج البحث العلمي".3
والملاحظ الذي يجب أن نسجله هنا أيضا أن جهود الباحثين لم تنصب في عرض منهج النقد عند المحدثين على صورة نظريات علمية حديثة بحيث تتقبلها الأوساط العلمية التي جهلت اصطلاح المتقدمين فأنكرت علومهم ومناهجهم، والإنسان عَدُوُّ ما يجهله كما يقولون.
وقد تطور منهج النقد عند المحدثين عبر آلاف المؤلفات في الاصطلاح والجرح والتعديل والعلل، مع آلاف من المصنفات في التطبيقات ككتب الرواية والتخريج ونحوها، بيد أن هذا التطور ظل حبيس المصطلح القديم وبالتالي حبيس المعاهد التي ما فتئت تحافظ على تقاليد المصطلح القديم كأنها نصوص مقدسة لا يجوز تجاوزها.
فما الذي يحول دون إعادة عرض منهج المحدثين في النقد مع تلافي أوجه القصور السالفة التي تعرضنا لها؟! قد تكون محاولة جديدة ليس غير، تسْري عليها كل مُسَوِّغات النقد والذم والعيب، لكنها ستظل محاولة جديرة بالإقدام حرية أن يجترأ على امتحانها.
علم الحديث وعلم التاريخ
إن التاريخ كعلم مستقل لم يحظ بالاعتراف التام إلا في الأزمنة الحديثة جدا كما يقول روزنتال، واعتبر أن تصنيف العلوم عند الإغريق والمسلمين وعند الأوروبيين في العصور الوسطى يشترك في اتجاه واحد هو: عدم استقلالية علم التاريخ.
ويرى أيضا أن عدم استقلالية علم التاريخ عند العرب منشؤه اعتمادهم على تصنيف العلوم في العصر الهلليني والذي لم يحط للتاريخ مكانا خاصا، فسرت هذه النظرة إلى العرب من هذا الاقتباس.
لكن أدنى تأمل لمنهج تصنيف العلوم عند الحضارتين اليونانية والإسلامية سيعطينا نتيجة حاسمة: أن التأثر لم يحدث.
إن الحضارة اليونانية تصنف التاريخ في زمرة المعارف الإنسانية، وهو يندرج – بحكم تصنيف الكثير من فلاسفتهم – تحت إطار الفلسفة العام الذي استوعب كل العلوم في تلك العصور.4
أما في الحضارة الإسلامية فإن التاريخ علم نشأ في محيط حملة الشرع من المحدثين والفقهاء الذين كانوا في عداء صارم مع الزحف الفلسفي اليوناني على المحيط الإسلامي.
لقد استعرض روزنتال تاريخ تصنيف العلوم منذ الكندي ومرورا بابن سينا وابن عبد البر وابن بدرون وابن الأكفاني والذهبي ورسائل إخوان الصفا وانتهاء بابن خلدون، واستنتج أن كل هؤلاء بما فيهم ابن خلدون لم يشيروا إلى استقلال علم التاريخ لأن كتبهم لم تدخل صنعة التاريخ من ضمن المنتجات العقلية المستقلة.5
لكنه يرصد كتابا للآملي، ويشيد بكتاب الكافيجي والسخاوي باعتبار عصرهم هو بداية ظهور التاريخ كعلم مستقل.
والغريب أن روزنتال على تبحره في التراث العربي وتعمقه في تحليل النصوص يرصد هذا النمو المفاجئ وغير المنتظر على - حد تعبيره -لعلم التاريخ اعتمادا على أن الآملي أطلق على التاريخ: "علم التواريخ والسير" ، وأن السخاوي سمى كتابه: "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمه التاريخ"، وأن الكافيجي صنف كتابا سماه: "المختصر في علم التاريخ".
والصحيح الثابت أن علم التاريخ باعتباراته الفنية وأبعاده المعرفية الحديثة لم يكن موجودا ، لكن باعتباره العام الذي اعتبره المسلمون أنفسهم أو يعتبره مطلق مصطلح التاريخ فقد وجد مبكرا جدا لكنه لم يَتَسَمَّ نصا بعلم التاريخ، بل كان منضويا في علم الحديث. وكان المؤرخون في الحقيقة هم علماء الحديث.
يقول مرغليوث:" تفرعت دراسة التاريخ … من دراسة الحديث … ثم صار التاريخ فرعا متميزا تدريجيا وصار الإخباري غير المحدث" .6 وهذا التميز الذي ادعاه مرغليوث لا يختلف عما توهمه روزنتال، والثابت أن علم التاريخ لم يجد ملاذا تحته إلا ملاذ المحدثين ومنهجهم.
فالكافيجي والسخاوي -الذي ترجم وحقق كتابهما روزنتال7 يقرران بوضوح أن صفات المؤرخ التي يجب أن تتوافر فيه هي نفس صفات المحدث.8
يقول السخاوي: " شروط المؤرخ. وأما شرط المعتبر به -أي بالتاريخ- فالعدالة مع الضبط التام الناشئ عن مزيد الإتقان والتحري، سيما فيما يراه في كلام كثير من جهلة المعتنين بسير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد قال الخطيب في جامعه: ويجمعون " أي أهل الحديث أيضا ما روي عن سلف المسلمين من أخبار الأمم المتقدمين وأقاصيص الأنباء وسيرهم" والذي نستحبه ألا يتعرض لجمع شيء من ذلك إلا بعد الفراغ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.9
وهذا النص الجلي من كلام الخطيب البغدادي "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" وهو من علماء القرن الخامس الهجري، والسخاوي وهو من علماء القرن التاسع الهجري، دليل على أن علم التاريخ وعلم الحديث كانا شأنا واحدا يتناوله المحدث.
لقد كان التاريخ شأنا "حديثيا "محضا لا يقوم به إلا مشاهير المحدثين، وبمطالعة عابرة – غير متكلفة ولا استثنائية – لقائمة أعلام المؤرخين التي استعرضها المستشرقون أمثال مرغليوث في "دراساته عن المؤرخين العرب" وروزنتال في "علم التاريخ عند المسلمين" ثم الباحثون المسلمون أمثال حسين نصار10 ومحمد عبد الغني حسن11 وشاكر مصطفى12 سنجد أن معظمهم – أي المؤرخين - إن لم يكن كلهم محدثون جهابذة ، بل إن العلامات المضيئة في تاريخ المؤرخين المسلمين لم تكن سوى نماذج واضحة لأئمة الحديث في تلك العصور مثل محمد بن إسحاق والطبري والخطيب البغدادي وابن عساكر وابن الجوزي والذهبي وابن حجر والسخاوي.
ويقول السخاوي في الإعلان – أيضا - : "وكان مما قلته في مقدمة "التبر": علم التاريخ من فنون الحديث النبوي وزين تقربه العيون… إلى أن قال: وبهذا صرح غير واحد من علماء المذاهب أولي الأمانات بأنه من فروض الكفايات " 13.(6/15)
ويقول أيضا: " فائدتان: الأولى: قال العز بن جماعة: ومما يشكل ويحتاج إليه معرفة التفرقة بين علم التاريخ وعلم الطبقات ومعرفة الافتراق بين موضوعهما وغايتهما، قال: والحق عندي انهما بحسب الذات يرجعان إلى شيء واحد وبحسب الاعتبار يتحقق ما بينهما للتغاير، قلت - أي السخاوي-: بينهما عموم وخصوص وجهي، فيجتمعان في التعريف بالرواة وينفرد التاريخ بالحوادث والطبقات".14
واضح من هذا الكلام التسليم بأن علم الطبقات من التاريخ، ومعلوم أن علم الطبقات من فنون الحديث بإجماع.
وفي المقابل نرى بعض الباحثين لا يعترف بكيان لعلم التاريخ أصلا عند المسلمين، ويقرر " أن التاريخ فاعلية تنتج معرفة توظف في أطر شتى من حديث وفقه وتفسير وتصوف ووعظ، ولكنها معرفة تنتج من أصول ليست خاصة بهذه الفاعلية فأصول التاريخ ليست من التاريخ بل هي من خارجه فهي من مفهوم الخبر".15
ويبدوا أن مثل أولئك الباحثين يظنون التاريخ عند المسلمين مجرد قصص من أمثال ما في "ألف ليلة وليلة" أو "الأغاني" أو ما احتطبه الرواة بليل في ثنايا كتب التاريخ، وأن العلوم الأخرى ما كانت تصنع شيئا إلى انتقاء ما طاب لها من أخبار تناسبها، كما يبدو أيضا أن أولئك الباحثين يصدرون في الحقيقة من منطلقات معرفية وحضارية معاصرة ولا أقول حديثة يحاكمون بها مناهج علمية نشأت ونمت منذ أكثر من ألف عام.
ومثل أولئك الباحثين حينما يتغنون بأمجاد العلوم الإنسانية وعبقريتها فإنهم يغضون الطرف عن فضائح القوم التي وقع فيها أساطينهم مثل "هيرقليطس "الذي كان يعتقد أن غروب الشمس هو انطفاؤها في الماء وأنها تتجدد كل يوم16 أو كاعتقاد "أرسطو "المعلم الأول أن أسنان المرأة أقل من الرجل17 وكان يُعتذر دوما بأن هذا لا يقدح في مجموع مناهجهم وأنه يجب أن يُنظر إليه في ضوء إمكانياتهم وما يناسب عصورهم.18 وفي المقابل فإن هؤلاء عند تناول الحضارة الإسلامية يُعمِلون مِبْضَع الجراح الحاد،ّ ويضعون كل جزئية تحت مجهر ثم يفسرون من منطلقات حضارية مغايرة متهمين المسلمين بما شاءوا من أوصاف.19
والثابت أن تصنيف العلوم عند العرب والمسلمين الأوائل من واضعي العلوم ومؤصليها لم يأخذ حيزا كبيرا من اهتماماتهم شأنهم في ذلك شأن اليونان أنفسهم في بداية نشأت الفلسفة بل عند أفلاطون وأرسطو وهما أول من فصل الكلام في تصنيف العلوم ،كان التصنيف عندهم يناسب عصورهم فلا غزو أن يعتبروا الفلسفة بوتقة العلوم كلها، وأن يسوغوا للفيزيقي أن يتداخل مع الميتافيزيقي مع أن علماء المناهج يعتبرون ذلك مرحلة بدائية من مراحل تطور العلوم.20
وكان حال العرب والمسلمون أحسن بكثير في هذا المضمار ، إذ كان للعلوم الشرعية التي نشأت في الصدر الأول دور كبير في عملية التصنيف التي جرت تلقائيا لتسارع التراكم المعرفي والتطور العلمي الذي شهدته الحضارة الإسلامية في كل فروع المعارف والعلوم.
ولقد كان المحدثون موضوعيون لحد بعيد حينما اعتبروا التاريخ علمهم هم وحيزهم الذي لا يجوز لأحد أن ينازعهم فيه لأنهم هم الذين وضعوا مناهج البحث فيه بل هم الذين أرخوا وجمعوا مادة التاريخ لغيرهم.
ولقد أشار مرغليوث في دراساته عن المؤرخين العرب21 إلى أن علم التاريخ اصطلح على تسميته خبرا ، وأن المؤرخ وهو الإخباري22 صار شيئا غير المحدث ويضيف استنتاجا من عنده أن الإخباري كان أقل رتبة من المحدث.
كما يعالج روزنتال مصطلح الخبر ويؤرخ لتداوله قائلا: " تقديم لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عناصر لأقدم وثائق الخبر الثابتة المقررة ".23
لكننا نأخذ الخيط من روزنتال ونشير إلى أن مصطلح الخبر مصطلح حديثي محض24،والتفريق بين الخبر والأثر والحديث بحث اصطلحي متداول في علم الحديث، وهذا يرغم كل من أراد أن يعتبر مصطلح "الخبر" أول صورة ساذجة للتاريخ أن يعتبر علم الحديث هو المهد الذي ترعرع فيه علم التاريخ.
كما أن نزول مرتبة الإخباري عن المحدث أو تميزه عنه ليس منشؤه تصنيفه العلوم ولكن سببه أن الإخباري كان قليل كان قليل الاعتداد بالإسناد في رواية الأخبار، ولم تنصرف همته لجمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر جمع أخبار الأمم فحصل التمييز لهذا الاختلاف في المنهج وهو تمييز وجيه25.
وفي الحقيقة فإن أي باحث لا يستطيع أن يفر من هذه الحقيقة، وهي أن علم التاريخ صنيعة علم الحديث، وروزنتال بعد تطواف يقرر أن علم التاريخ، ولكن هذه المقاييس أغفلت كثيرا في بحوث التاريخية الحديثة26.
لم يكن التاريخ في الحقيقة إلا ميدانا من ميادين علم الحديث، ولم يكن منهج النقد فيه إلا منهج نقد المحدثين نفسه، ولم يكن مشاهير المؤرخين غالبا إلا رواة الحديث ونقاده.
إنها الحقيقة التي آن الأوان للاعتراف بها وإن سخط الساخطون ومارى المتمارون، فليس من المعقول أن تكون مادة التاريخ الإسلامي مأخوذة من التواريخ التي جمعها المحدثون ثم نتحدث عنهم بصفة المؤرخين ، موهمين من لا تمييز له أن هناك طائفة أخرى كبيرة غير المحدثين هي التي جعلت لنا تاريخنا، وليس من المعقول أن نقول عن الخطيب البغدادي وابن عساكر وابن الجوزي والذهبي وابن كثير وابن حجر إنهم مجرد مؤرخين، بينما الحقيقة التاريخية تنطق بوضوح أنهم علامات مضيئة في علم الحديث بل من بناة منهج النقد عند المحدثين. كما أنه ليس من المعقول أن نصطنع مناهج للنقد التاريخي من غير منهج المحدثين، في الوقت الذي لا يوجد في التاريخ الإسلامي منهج للنقد إلا منهج المحدثين، وبات واضحا- إذا كان الأمر كذلك- أن منهج النقد التاريخي الذي يصلح أن نباهي به العالمين بل ونزري به المنهج الأوروبي في نقد التاريخ هو منهج النقد عند المحدثين.
================
فن الاتصال والحضارة الإسلامية
د/علاء إسماعيل الحمزاوي
فن الاتصال
تقاس أعمار الأمم، وتعرف حضاراتها بما أنجزته من إبداعات ومبتكرات وبما فيها من علماء ومبدعين في مختلف العلوم وألوان المعرفة، وكل ما تنتجه الأمة إنما ينتقل من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل عبر الاتصال، بل إن الاتصال كان وسيلة الرسل والأنبياء في تبليغ دعواتهم إلى الأمم.
ومن هنا تأتي أهمية الاتصال، وهو نوعان: شفهي عن طريق الإلقاء ومكتوب (تحريري)، وكلاهما مهم نال شرفا إلهيا، فعن الأول قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقال: (وما على الرسول إلا البلاغ)، وعن الثاني قال تعالى: (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)، حيث أضاف تعليم الكتابة إلى نفسه، وامتنّ به على عباده، وفي ذلك شرف لهم.
والاتصال يتطلب من صاحبه (كاتب أو متحدث) أن يكون على درجة عالية بالمهارات اللغوية والأسلوبية وقواعد اللغة العربية؛ ولذا عُرّف التحرير بأنه فن الكتابة الصحيحة التي تعبر بصورة مباشرة عن المعنى المراد.
والمعرفة باللغة الأم والاعتزاز بها واجب ديني وقومي، لأنه مظهر من مظاهر الانتماء للوطن، لاسيما إذا كانت اللغة وسيلة للعبادة، فهي لغة القرآن وباقية ببقائه، ولقد رأينا مدى اعتزاز الغرب بلغاتهم (المجتمع الفرنسي والمجتمع الألماني).(6/16)
والمعرفة باللغة تسهم في وضوح المعنى المراد من فكر الكاتب أو المتحدث، وتلك المعرفة تتطلب من الكاتب والمتحدث سعة اطلاع بقواعد اللغة وقواعد الكتابة وتنمية ثروته اللفظية من خلال تنمية معجمه الخاص، فكل إنسان له معجمان: معجم عام، وهو يضم كل ما يسمعه ويقرؤه الفرد منذ إدراكه الكلمات، ومعجم خاص، وهو ما يستخدمه فعلا في التعبير عما يريد، وهو أقل من نصف المعجم العام، ولتنمية هذا المعجم لابد من الاطلاع والقراءة في مختلف مناحي المعرفة، وبخاصة في المعاجم القديمة.
وإذا كان المعجم الخاص كبيرا فإن صاحبه يستطيع أن يفرق بين الكلمات التي بينها فروق دقيقة، وربما تحمل معنى عاما واحدا، ولنأخذ مثالا على ذلك الكلمات التي تدل على الجمال: (الصباحة، الوضاءة، الجمال، الحلاوة، الملاحة، الظَرف، الرشاقة)، نقول: (وجه صبيح، بشرة وضّاءة، وأنف جميل، وعين حلوة، وقَدّ رشيق).
بفضل تنمية الثروة اللفظية يستطيع الكاتب أو (الخطيب أو المحاضر) أن يفرق بين الكلمتين اللتين يقع فيهما الاشتباه، ونعرض هنا جملة من الكلمات من هذا النوع، نقول: تسلم الخطاب أي أخذه، لا (استلم الخطاب)؛ لأن (استلم) بمعنى (لمس)، وجاء زيد وعمرو معا، لا (جاءا سوياً)، وحلّ زيد بمنزلنا ضيفا، لا (حلّ في منزلنا)، ونقول: أثبت محمد كِفاية في العمل أي تفوقا، لا (أثبت كفاءة)؛ لأن الكفاءة هي المساواة؛ ولذا فهي شرط فقهي في الزواج، واشترى زيد ظَرْفا كبيرا لا (مظروفا)، واستوقف الطالب أستاذه فاستأذنه لا (استأذن منه)، وأثّر زيد في عمرو لا (أثر عليه)، وهذه شريعة سمحة لا (سمحاء)؛ لأنه لا يوجد منها (أسمح)، وهذا التمر مبيع لا (مباع) والأصل (مبيوع)، وبلغت المشتريات مبلغا كبيرا لا (المشتروات)؛ لأن الفعل (يشتري)، ويباح الفطر للمرضع لا (المرضعة)، وقاسى المريض ألما لا قاسى من ألم).
بفضل إثراء المعجم الخاص يستطيع الكاتب أن يكتب كتابة إملائية صحيحة، فيفرق بين الضاد والظاء في الكلمات، لاسيما أن الدلالات مختلفة، فمثلا: المرض: الداء، والمرظ: الجوع، المضرة ضد المنفعة، والمظرة: الأرض المتحجرة. وكذلك يفرق بين التاء المفتوحة والمربوطة وهاء الضمير، (دخلت الطالبة قسم الحاسب؛ لتدرس علومه).
بالإضافة إلى إثراء المعجم الخاص للكاتب أو الخطيب ينبغي عليه أن يلمّ بقواعد اللغة العربية التي تعينه على استقامة لغته حديثا وكتابة، فيعرف ـ على الأدنى ـ قواعد المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول والجمع والمثنى والأسماء الستة، فلا يقول: انتصر المسلمين على المشركين في بدر وكان المشركين أكثر من المسلمون، وهكذا. بالإضافة إلى أهمية فهم معنى الجملة، فإن الفصل بين القواعد والمعنى يوقع في خطأ شديد، وقد حدث بالفعل أن طالبا سئل في الاختبار: هات اسما من الأسماء الستة مرفوعا، فأجاب: (سافر هنوك إلى الرياض)!!
ولابد أن يلم الكاتب بعلامات الترقيم ودلالاتها، فلكل علامة دلالتها التي تميزها عن غيرها. (تُعرض أمثلة لذلك تضم علامات الاستفهام والتعجب والفاصلة المنقوطة).
ومن تتمة المعرفة بالقواعد معرفة الأساليب الصحيحة في اللغة، فمن الخطأ تكرار كلمتي (بين وكلما) في الجملة، فلا نقول: لابد من السلام بين العرب وبين إسرائيل، ولا نقول: كلما صليت كلما أحسست بالراحة. كذلك من الخطأ استعمال (إلا أن) مع (على الرغم من، أو مع أن)، فلا نقول: مع أن الأمر واضح إلا أنه يخفى على الكثير، والصواب (فإنه)، وكذلك لا نقول: اصطف الطلاب وراء بعض، والصواب (بعضهم وراء بعض)، ولا نقول: الاتفاق سيكون لاغيا إذا لم يتم الانسحاب، والصواب (مُلغَى)، ولا نقول: الحضارة الإسلامية كان لها ضوء مبهر، والصواب (باهر)، ولا نقول: موقف أمريكا من إسرائيل ملفت للنظر، والصواب (لافت)، ولا نقول: الزعيمان العربيان دعيا إلى عقد مؤتمر للسلام، والصواب (دعوا).
من المهم أيضا للكاتب والخطيب أن يحرص على أن يكون كلامه مقنعا وممتعا، وذلك باستخدام الأساليب البلاغية (التصوير والخيال) والتنوع بين الخبر والإنشاء وبين الجملة الفعلية والجملة الاسمية، ومن خلال التأييد لرأيه بالاقتباس من نصوص أخرى تعضد رأيه. ولا ينبغي أن يقتبس نصا إلا إذا اقتضت الضرورة؛ حتى لا يكون حشوا. وكذلك عليه أن يتجنب تكرار الجمل والكلام المعروف سلفا، وألا يطيل في المقدمة، وقد تسيء للموضوع إذا كانت محفوظة وخارج الموضوع.
ومن ألوان الكتابة المهمة:
ـ التقرير: يكتبه شخص ليبدي رأيه في شخص ما أو عمل ما، وهو يقوم به مسئول في جهة حكومية عن موظف ما أو مشروع ما؛ ولذا يجب أن يكتب بموضوعية ولا دخل للعواطف فيه بعد جمع الحقائق والمعلومات التي تمس الشخص أو العمل.
ـ الرسالة: وهي قد تكون شخصية من شخص لآخر، وهي من أنواع الكتابة العاطفية أو الأدبية، وتسمى (رسالة شخصية)، وقد تكون من شخص لجهة حكومية (معروض) أو العكس أو من جهة لجهة أخرى، وتسمى بالرسالة الإدارية، وهي من الكتابة الموضوعية، وتبدأ بالبسملة واسم المرسل إليه (صفته الإدارية) ثم التحية ثم الموضوع ثم التحية ثم اسم المرسل والتاريخ والتوقيع.
ـ المقال: وهو عبارة عن فكرة ما يتناولها صاحبها بعرض لافت للنظر جذاب للقراء من خلال أسلوبه المتميز. وأنواعه (ديني اجتماعي أدبي سياسي وغير ذلك).
حضارة ذات آفاق
لعل المقصد من العنوان هو الحديث عن الحضارة الإسلامية التي سادت العالم شرقا وغربا في فترة العصور الإسلامية الزاهية بفضل الكتاب الذي أرسي منهجا قويما مستقيما يتفق والقيم الإنسانية السامية والعقل الإنساني الراشد. وأود قبل الخوض في هذا الحديث أن أعرض لمفهوم الحضارة والمفاهيم المتقاربة التي توشك أن تكون مترادفة وهي المدنية والثقافة.
مفهوم الحضارة :
لم يتفق المتخصصون علي تعريف ما للحضارة أو الثقافة أو المدنية، بل وضع أصحاب كل علم مفهوما يتفق مع منهجهم ، فمنهم من رأي أن الحضارة أعم من الثقافة والمدنية، ومنهم من جعل الثقافة أعم من الحضارة والمدنية، وهذا الاختلاف لا يعنينا بقدر ما يعنينا مفهوم الحضارة كمدخل للحضارة الإسلامية.
الحضارة من الحضر بمعني الوجود ضد الغيبة ، والوجود هنا هو الوجود الذي يقتضي الاستقرار ؛ لذلك فالحضارة هي صفة للمجتمع المستقر في مكان ما، يتمتع برقي ما في الجانب المادي والمعنوي. ويعرف ابن خلدون الحضارة بأنها "نمط من الحياة المستقرة يقتضي للعيش فنونا من العلم والعمل والصناعة وإدارة شئون الحياة وأسباب الرفاهية ، وهي تعبر عن قمة التقدم الإنساني، وقد تصل الحضارة بعد تقدم مذهل إلي حالة من الترف يعقبه فساد، فتنزلق رويدا رويدا حتى تصل إلي السفح ؛ فهي غاية العمران ونهاية عمره ومؤذنة بفساده". ويري البعض أن "الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان علي الزيادة من إنتاجه الثقافى، ومقوماتها أربعة عناصر: القيم الأخلاقية، النظم السياسية، الموارد الاقتصادية العلوم والمعارف".(6/17)
والحضارة لها جانبان: جانب مادي وجانب نظري، الجانب المادي متمثل في كل المبتكرات، كفنون العمارة والهندسة والطب ووسائل التقنية، وغير ذلك مما يبتكره الإنسان ويجسده ، وهذا الجانب المادي يطلق عليه المدنية، وأعتقد أن الغرب أقرب إلي المدنية منه إلي الحضارة . والجانب الآخر متمثل في العلوم النظرية المتعلقة بالفكر والعقل والروح والإيمان والأدب واللغة والفلسفة والأخلاق والمشاعر والتعامل وغير ذلك، وهذا الجانب يطلق عليه الثقافة. وعلي ذلك فالحضارة هي الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة ، بمعني أنها مجموع الحياة الإنسانية في صورتيها المادية والنظرية .
الحضارة الإسلامية :
هي الحضارة الوحيدة الفريدة التي تتناسق فيها الماديات والروحانيات، وذلك يعود إلي أنها حضارة قامت علي عقيدة ثابتة في المسلم بأنه خليفة الله في أرضه، فلابد أن يكون صالحا مؤهلا علي قدر المسئولية المكلف بها ، جديرا بهذه الصفة العظيمة؛ ومن ثم سعي بكل ما يمتلك لتحقيق ذلك ، وقد ساعده القرآن علي أن يكون إنسانا حضريا يدرك الغاية من خلقه ، فأرسي له منهجا سليما قويما ، يتسم بجملة من القيم عمل بها المسلمون فارتفعت بهم ففتحوا العالم وصنعوا حضارة عظيمة تشرفهم في كل مكان وزمان، أقامت عليها أوربا حضارتها الحديثة. ويمكننا أن نوجز أهم القيم التي وضعها المنهج القرآني لبناء الحضارة الإسلامية العظيمة والتي يحاول البعض طمسها، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فيما يلي:
ـ القيادة القدوة :
تتمثل لا شك في شخص رسول الله e فهو القائد الأول للمسلمين وللعرب، عُيّن واختير منتقيا من رب العزة ، وحدد وظيفته في البداية فقال: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". ولك أن تقول ما تشاء عن العرب في وصف القرآن لهم بأنهم في ضلال مبين، ولاحظ تعبير القرآن (رسولا منهم) بمعني أنه يعرف كل شيء عن شخصياتهم في السلوك والتعامل والفكر والعقيدة، يعرف مداخلهم كما يعرف صفاتهم الحسنة والسيئة، ولنا أن نقف هنا لنستفيد درسا في اختيار القائد.
ـ الاهتمام بالعلم :
يكفينا أن أول أمر إلهي للنبي e وللمسلمين كان أمرا بالتعلم والحث على العلم؛ حيث قال تعالي (اقرأ باسم ربك الذي خلق)؛ ولم يذكر المفعول، وتركه يدل علي العموم والشمول1، وهذا يعني أن الأمر هنا الدعوة إلي المعرفة بمعناها الواسع في مختلف مجالات الحياة الإنسانية ، إضافة إلي هذا فقد رفع الله مكانة العلماء فجعلهم مع المؤمنين{ ويرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} ؛ ومن هنا برع العلماء المسلمون في مختلف علوم الدين والدنيا من تفسير وفقه ولغة وأدب وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وطب وهندسة وفلك وترجمة وغير ذلك .
ـ الدعوة إلى استعمال العقل :
دعا القرآن إلي استخدام العقل في كثير من الأمور في كثير من آياته (إن في خلق السموات والأرض ...) والحديث (ويل لمن يلوكها بلسانه ولم يعقلها بقلبه)، بل إن القرآن وضع العقل في منزلة متقاربة إن لم تكن متساوية مع التبليغ والاستماع، قال القرآن على لسان أهل النار: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)؛ وذلك لأن استخدام العقل مركز الفكر، يجعل الإنسان يبدع فيبتكر، فيصنع الحضارة.
ـ حسن الخلق والمظهر:
ركز الإسلام علي حسن الخلق وجعله الدين كله، ولا تنفع العبادات مع سوء الخلق، لأن سوء الخلق يؤثر علي الآخرين سلبيا، ولعل أعظم صفة لرسول الله من ربه (وإنك لعلي خلق عظيم)2 ، وإذا نظرنا للمجتمع الغربي الآن وقد انحل أخلاقيا نحمد الله علي أن هدانا للإسلام الذي أمرنا بحسن الخلق، والحديث عن ذلك طويل، لكنْ حسبنا القانون النبوي: "كل المسلم علي المسلم حرام .." فهنا احترام كامل لحقوق الإنسان. كما أمر الإسلام بحسن المظهر، لأن الله جميل يحب الجمال و(خذوا زينتكم عند كل مسجد).
ـ العمل قيمة حضارية:
العمل روح الحضارة الإسلامية، يقول رسول الله :« إن قوما غرتهم الأماني أحسنوا الظن بالله وكذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" ؛ لأن الإسلام ركز علي العمل تركيزا شديدا، فربطه بالإيمان، فلا نجد آية تدعو إلي الإيمان إلا وهي مقرونة بالعمل، وحدد المنهج القرآني نوع العمل وكيفيته ، أما النوع فهو العمل الصالح للفرد والمجتمع دون ضرر علي أي منهما، سواء عمل دنيوي أو عمل أخروي، ففي آيات كثيرة يقول تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وأما الكيفية ففي إتقانه "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" وإتقانه أداؤه بإحسان؛ لذلك يقول تعالي: (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا).
ـ المساواة والعدالة:
جاء الإسلام بعد ظلم وظلام في العالم أجمع، حتى الشعوب الحضارية (فارس والروم) ؛ ومن ثم كان من مبادئه الإنسانية السامية العظيمة الدعوة إلي العدل والمساواة بين الناس؛ فالكل من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، والإنسان إذا أحس بالمساواة والعدالة بينه وبين الآخرين أخلص في كل شيء، في عمله في علاقاته في حبه للوطن.
ـ الاتحاد والتعاون المثمر :
جاء الإسلام بعد تفرق وتشتت بين العرب ؛ حيث سادة روح الذاتية والقبلية العدائية، ولا شك أن هذه السمة تضعف قوة المجتمع، في حين أن الاتحاد قوة شديدة ؛ فجاء الإسلام داعيا إلي الحب والسلام بين الناس وجعل ذلك شرطا لدخول الجنة، وهذا يقتضي التسامح والعفو والحلم، وهذه الصفات الجليلة نواة مبادئ أساسية لتقدم أي مجتمع، هي مبادئ الاتحاد والترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع، ومن ثم حرص المنهج الإسلامي علي إفشاء هذه الصفات الحميدة؛ من أجل الترابط والتعاون المثمر بين أفراد المجتمع الإسلامي، بل أمر بالتحلي بهذه المبادئ؛ يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها فأصبحتم بنعمته إخوانا)، ويقول تعالى: (وتعاونوا علي البرّ والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان).
ـ التكافل الاجتماعي :
أرسى الإسلام مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع من خلال فرضية الزكاة، وفي الوقت نفسه طهرهم من المال الحرام من خلال مكافحة الربا، والحديث عن هذا يطول.
ـ حب الوطن والانتماء له:
حب الوطن والانتماء له والذي يترجم إلي الدفاع عنه والعمل من أجل تقدمه قيمة عظيمة أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية؛ ذلك لأن هذا الحب والانتماء جزء من إيمان المسلم بالله وعقيدته الراسخة بداخله، وقد أرسى هذه القيمة في نفوسنا رسول الله e ، وذلك من خلال حبه الشديد لوطنه مكة المكرمة، كما يتضح من عبارته المشهورة (إنك لأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، ولذلك وعده رب العزة بالعودة إليها؛ فقال له: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد)، وكان وعده بفتح مكة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).
وإذا ما استعرضنا معاركنا الفاصلة في التاريخ بدءا من بدر نجد أنها كانت دفاعا عن الوطن عقيدة وأرضا ومالا وأهلا؛ ومن هنا كانت فرضية الجهاد علي المسلمين للدفاع عن العقيدة والوطن، ولم يدعُ الإسلام إلي استخدام القوة إلا في حالة الدفاع، لكنه أمر بالتسلح الذي يرهب العدو من أجل ألا يقع الاعتداء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ـ إفشاء الأمن والسلام:(6/18)
نعمة الأمن تمثل ثلث متاع الدنيا للإنسان؛ لأن متاعها في نعم ثلاث: الصحة والأمن والطعام؛ "يا ابن آدم إذا أصبحت معافى في بدنك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا". وإعلاءً لقدر هذه النعمة ذكرها القرآن بمختلف اشتقاقاتها تسع عشرة مرة ، صفة للبيت الحرام وأهله {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} و{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} وصفة لمصر {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} صفة للجنة وأهلها {وهم في الغرفات آمنون}. وإذا زال الخوف حل الأمن؛ حيث لا يجتمعان أبدا، قال تعالى لموسى: {يا موسي أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}. ولكن لكي يتمتع الإنسان بنعمة الأمن لا بد من توافر نعمة أخرى هي نعمة السلام.
وهو السلام الدولي والتعايش السلمي، فالأمن لا يتحقق إلا بتوافر نعمة السلام، سواء علي مستوى الأفراد أو المجتمعات؛ لأن السلام ضد الحرب، وإعلاءً لمكانة هذه النعمة وأهميتها للمجتمع الإنساني ركز عليها القرآن؛ إذ وردت بمختلف اشتقاقاتها إحدى وثلاثين مرة، منها أنها صفةٌ لله تعالي { الملك القدوس السلام}، وصفة للأنبياء والرسل { وسلام علي المرسلين} وصفة للمؤمن { ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا}؛ ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، فقال تعالى: {ادخلوا في السلم كافة} وقال: {إن جنحوا للسلم فاجنح لها}، هنا أمر بالسلام الدولي، وهذا مسئولية صانعي القرار في الدول، بيد أن هذا السلام لا يغني عن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مسئولية كل إنسان يعيش فوق تراب الوطن؛ ولأهميته أمر به النبي في قوله: "السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم"، وسيادة السلام يقتضي العدل بين الناس علي مستوى الأفراد والدول.
ـ الإعلاء من مكانة المرأة :
فقدت المرأة مكانتها عند العرب في الجاهلية وهُضمت حقوقها وأهينت كثيرا، وخير مثال علي إهدار مكانتها وأد البنات الذي حرمه الإسلام ، فضلا عن إنصافها بإعطائها حقها في الميراث والتعليم والعمل الصالح لها وللمجتمع بمختلف أشكاله مادام في استطاعتها.
ـ حرية الفكر والتعبير:
دعا الإسلام إلي حرية الفكر؛ لأن الحرية من أقوى مبادئ التقدم لأي مجتمع وأمة، فأي أمة ينظر إلي تقدمها من خلال مساحة الحرية التي يتمتع بها أفراده في التعبير والتنفيذ، والإنسان إذا أحس بالحرية أبدع فأنتج فتقدم المجتمع ، ولذا نجد أن أي استعمار يفعل أول ما يفعل أن يطمس حرية الشعب المستعمر من خلال الكبت والظلم والقهر، ليحل ظلامه محل نور الحرية، وبذلك يهدم حضارته المعاصرة. والحرية المعنية هي الحرية البنّاءة التي تُلزم الفرد أن يحترم حقوق الآخرين، وأن يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، لا الفوضى الهدامة التي تضر بالمجتمع لصالح الفرد، فالمصلحة العامة تعادل المصلحة الخاصة.
ـ مبدأ الشورى :
الشورى هي الديمقراطية في اتخاذ القرار الصالح للمجتمع ، وقد أرسي القرآن هذا المبدأ بعد سيطرة القبلية على المجتمع العربي، فقال تعالى لرسوله: {وشاورهم في الأمر } ووصف المؤمنين بقوله: { وأمرهم شوري بينهم}.
لكل هذه القيم السامية ـ وغيرها كثير ـ صنع المسلمون حضارة إسلامية باهرة، وقد بدأت من الصفر؛ حيث كان العرب أميين في ضلال مبين، ونجح المسلمون بفضل الله ومنهجه المستقيم المستمد من القرآن والسنة النبوية أن يفتحوا العالم وينيروه ويشعلوا مشاعل الحضارة في معظم بلدانه في الوقت الذي كانت أوربا فيه تعيش في ظلام تحت وطأة أدعياء الدين والكنيسة الذين أشبعوهم من الجانب الروحي إلي درجة الرهبانية وأفقدوهم الجانب المادي من الحضارة فكانت حضارة ذات جانب واحد؛ ومن ثم فلم تكن كالحضارة الإسلامية التي أقامت عليها أوربا حضارتها الحديثة .
وصلت حضارة المسلمين إلي أوربا من خلال جامعات أسبانيا ؛ حيث أفاق الأوربيون علي أصوات علماء المسلمين في مساجد الأندلس يدرّسون العلوم المختلفة من طب وهندسة وفلك وفقه وتفسير ولغة وأدب وفلسفة وتراجم، بل إن أوربا لم تعرف الفلسفة اليونانية إلا من خلال العلماء العرب المسلمين عن طريق ترجمتها إلي العربية ثم إلي اللاتينية، وظلت الاستفادة من حضارة العرب حتى جلاء الحملة الفرنسية من مصر.
هاهي حضارة المسلمين أضاءت العالم بفضل المنهج الذي سار عليه المسلمون في دعوتهم، وأعتقد أننا افتقدنا هذه الحضارة العظيمة اليوم بسبب تركنا لقيم هذا المنهج القويم، وأخذت أوربا بعض قيم المنهج القرآني وأقامت حضارتها الحديثة، وإن كانت في الجانب المادي. ونعود فنقول : إذا كنا فقدنا كثيرا من قِيَم حضارتنا اليوم، فمازلنا نحتفظ بالجانب الأخلاقي منها، وهذا ما تفتقده حضارة الغرب اليوم، فما أفدح الانحلال الأخلاقي والتفكك الاجتماعي في الغرب.
وحق لنا أن نؤكد أن انتقال الحضارة من أمة إلي أمة أمر طبيعي بصرف النظر عن الأسباب؛ لأن الحياة متداولة، كما قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وما أحسن أن نختم حديثنا بقول الشاعر:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ فلا يُغرّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدْتها دولٌ من سرّه زمنُ ساءته أزمانُ
تنبيه
للمؤلف العديد من الدراسات المنشورة في مكتبة صيد الفوائد وعدة مواقع أخرى يمكن الوصول إليها من خلال البحث باسم المؤلف في G00gle
أرجو من القراء الأعزاء أن يطلعوا على تلك الدراسات ويفيدوني بآرائهم من خلال الاتصال الهاتفي 009665573869 أو من خلال البريد الإلكتروني:
alaahamzawy@gmail.com
hamzawyalaa@hotmail.com
مع تحياتي وتقديري
المؤلف د/علاء إسماعيل الحمزاوي
==================
سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية
إعداد: خبَّاب بن مروان الحمد
(1ـ2)
المشاركون في الإجابة عن أسئلة التحقيق:
1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.
2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.
3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.
4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.
5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.
6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.
7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.
لا ريب أنَّ من أبرز التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية ذلك الضعف العلمي والتقني إلى حد أن صرنا ندعى بأننا (العالم المتخلف) أو (النامي)، فأصبحنا عالة على غيرنا وللأسف.
(البيان) ألقت الضوء على هذه القضية قناعة بأهمية مناقشة هذا الموضوع بأبعاده المختلفة، وتوجهنا لضيوفنا الكرام بالعديد من الأسئلة:
لماذا تأخرنا ولماذا تقدم غيرنا؟ وما سبل التقدم العلمي والتقني للأمة الإسلامية؟ وهل هناك محاولة احتكار لحصار العالم الإسلامي؟ وكيف نتعدى هذه العقبة إن وجدت؟ وما دور صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات؟... إلى غير ذلك من المحاور العديدة بإذن الله التي ستناقش هذا الموضوع.
? مدخل مفيد لكنَّه مؤلم:
هكذا استهلَّ الدكتور الضويان حديثه حول واقع العالم الإسلامي مقارنة مع العالم الآخر، من حيث الأميَّة وميزانيَّة التعليم بالنسبة لحجم الدخل القومي، وميزانيَّة البحث العلمي.(6/19)
كما أبدى عدد من المشاركين استياءهم لقلَّة المخصَّصات لوسائل التقنية في العالم الإسلامي، ورأى الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ تخلُّف العالم الإسلامي في المجال التقني والمعلوماتي أقل من الحد الأدنى الذي بدونه لا تعيش الشعوب عزيزة.
في حين يقول الدكتور العجلوني: إنَّ ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية والإسلاميَّة هزيلة للغاية، ولا تُذكر ضمن ميزانيات المؤسسات العلمية العربية كالجامعات إلا من باب استعمال الديكور أو المظاهر؛ فهي للأسف لأغراض الزينة وليس للبحث العلمي الحقيقي.
وعودة لأطروحة الدكتور الضويان؛ حيث يتحدث قائلاً: لا يتجاوز ما تنفقه الدول الإسلامية على البحث والتطوير 0.2% من إجمالي الدخل القومي، وهو أقل بكثير مما تنفقه شركة عملاقة واحدة كشركة سوني اليابانية مثلاً على البحث والتطوير. وباستقراء التغيُّر الحاصل في الدول الإسلامية في هذا الجانب خلال السنوات الثلاثين الماضية نجد أنه ـ مع الزمن ـ يتجه إلى الأسوأ؛ مع كل أسف.
ويدلي الدكتور باسم خفاجي دلوه في هذه القضية فيقول: أبسط معطيات التقدم لدى العالم العربي والإسلامي، تفترض إجادة الشعوب لمبادئ القراءة والكتابة في عالم اليوم، بينما تظهر الإحصاءات ـ الصادرة أخيراً عن المنظمة العربية للثقافة والعلوم ـ أن عدد الأميين في العالم العربي قد وصل إلى سبعين مليون شخص خلال العام الميلادي (2005م). كما أن نسبة ما ينفَق عربياً على التعليم العالي لا تتجاوز 1% من ميزانيات الدول الإجمالية، وهي نسبة متدنية، خصوصاً مع واقع الأمة الإسلامية.
وقد أظهر تقرير صدر أخيراً عن منظمة اليونسكو أن العالم العربي الذي يصل عدد سكانه إلى 290 مليون نسمة، يوجد فيه أكثر من 40 مليون تلميذ في سن المرحلة الابتدائية، كما يوجد أيضاً ما يقارب من 8 ملايين طفل في سن المرحلة الابتدائية خارج المدارس، أي أن ما يقارب 20% من أطفال العالم العربي هم ممن لا يتلقون التعليم الأساسي اللازم لإجادة القراءة والكتابة. وهذه المشكلة تزداد تفاقماً عندما نعرف أن المجتمع العربي مجتمع شاب، فأكثر من 37% من أبناء العالم العربي أعمارهم دون أربعة عشر عاماً، تبعاً لتقرير اليونسكو نفسه عام 2005م.
ويضيف الدكتور باسم قائلاً: بلغت نسبة الإنفاق على التعليم الأساسي في العالم العربي أرقاماً متدنية مقارنة بباقي دول العالم؛ فإجمالي الإنفاق على التعليم الأساسي في مصر لا يتجاوز 0.6% من ميزانية الدولة أي أقل من 1%، وفي المغرب يصل إلى 2.6%. ويقارن ذلك بالكيان الصهيوني الذي ينفق 2.8% على التعليم الأساسي (أي ما يقارب خمسة أضعاف ما تنفقه مصر). أما إجمالي الإنفاق على التعليم تبعاً لتقرير اليونسكو عن عام 2005م، فإنه يتراوح بين 1% ولا يزيد عن 6% في معظم الدول العربية.
ويذكر الدكتور زغلول النجار أنَّ السبب الرئيسي لهذا التباين الكبير في متوسط دخل الدول الإسلامية يرجع إلى عامل التجزئة، والكيانات المصطنعة التي رسمت حدودها الراهنة القوى الاستعمارية العالمية (وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا) وحافظت عليها، لتبقى الأمة الإسلامية على هذه الصورة من التفتت الذي لا يمكِّن أياً من دولها من القيام بذاته.
? سبب إهمال دراسات العلوم التقنية في العالم الإسلامي:
يقدم لنا الدكتور محمد المدهون رأيه باختصار حول ذلك في ثلاث نقاط: التبعيَّة، غياب الحوافز، عدم رعاية المبدعين والأفذاد.
بينما يسهب الدكتور زغلول النجَّار في ذكره لأسباب إهمال دراسات العلوم التقنية فيقول:
1 ـ تفشّي الأميّة بين المسلمين البالغين في هذا العصر بصورة مزعجة تتراوح نسبتها بين 50% و 80% (بمتوسط حوالي 58%).
2 ـ كثرة ما تحتاجه دراسات العلوم والتقنية من تجهيزات، ومختبرات، وأجهزة، ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات.
3 ــ انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر.
4 ـ هجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي؛ وهذا في حد ذاته يمثل استنزافاً لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم.
5 ـ تمزُّق العالم الإسلامي المعاصر إلى أكثر من خمسين دولة بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هذه الدول، واحتلال أجزاء عديدة من أراضي المسلمين؛ مما أدى إلى تشتيت المقومات المادية والروحية والطاقات البشرية للمسلمين.
6 ـ اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها؛ مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين، واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة.
وتجدر الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من 1% من تجارتها الدولية، وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة أكبر الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التى يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم.
ويضيف الدكتور العجلوني شيئاً من الأسباب التي يرى أنَّ لها دوراً في إهمال الدراسات للعلوم التقنية؛ حيث قال: عدم معرفة الأولويات، وانشغال الشعوب بالملهيات، وأحياناً الشعور بالعجز المطبق عند مشاهدة الهوة الواسعة بين مستوانا التقني والمستوى التقني في الغرب واليابان.
ويرى الدكتور نعمان الخطيب رؤية مغايرة لما رآه بعض المشاركين؛ حيث يرى أنَّه ليس هناك إهمال في دراسات العلوم التقنيَّة؛ فيقول: لكن الدراسات في العالم الإسلامي سواء كانت علوماً نظرية (إنسانيَّة واجتماعية) أو علوماً تقنية؛ فإنها لا تُدرّس بالطريقة الصحيحة، وتعتمد على التلقين وليس على البحث والتفكير والابتكار. أما إذا كان المقصود إهمال الأبحاث في الدراسات التقنية؛ فإن السبب هو صعوبة إجراء هذه الدراسات، واعتمادها على أجهزة متطورة غير متوفرة في معظم الأحيان في الجامعات ومراكز الأبحاث في العالم الإسلامي، والتركيز على الأبحاث النظرية التي تحتاج إلى ورقة وقلم فقط.
? هل تعاني الدول الإسلامية من احتكار التقنية؟
كان العلم متقدماً عندنا في السابق؛ فقد ذكر (سارتون) أن الحضارة الغربية كان مفتاحها الوحيد لغة العرب التي ملَّكتهم ناصية العلم والتقنية، والآن الدول المتقدمة تقنياً تحاول عرقلة التنمية التقنية للدول الإسلاميَّة، ولا أدل على ذلك من تدمير أمريكا بواسطة اليهود المفاعلَ النووي العراقي، وأوضح من ذلك منع بعض التخصُّصات العلمية في بريطانيا بأن تُدرَس من قِبَل طلاَّب دول معيَّنة، بل ما زالت بعض الدول الصناعيَّة تحتكر سوق التقنية وكأنَّه لها فحسب؛ فكيف نتعدى هذه العقبة ونتغلب عليها؟
حول هذه القضيَّة انطلق عدد من المختصين بالتحدث حول الحلول العمليَّة لتعدِّي مرحلة الاحتكار والتبعيَّة في السوق العالميَّة، فيتحدَّث الدكتور محمد المدهون ملخصاً رأيه باختصار حول هذه القضيَّة قائلاً:
نتجاوز تلك العقبة بإذن الله ـ تعالى ـ من خلال: السرية في العمل، الانتقائيَّة والتركيز الدقيق، نشر العلوم التقنية، تبنّي المواهب والقدرات الخاصة.(6/20)
ويرى الدكتور الضويان أنَّ احتكار التقنية ليس مشكلة إن وُجد، ويوضح مراده بقوله: فالنظرة المادية بشكل عام هي التي تحكم الشركات المصنّعة خاصة العابرة للقارات، كما أن التقنية مستويات، والاحتكار إن وُجد على المستويات المتقدمة جداً منها والباهظة التكاليف والتي يمكننا تأجيلها، لكننا لا نملك التقنية على مستويات أدنى وإن كانت في مجالات تخصنا وهذه هي مشكلتنا.
ويضرب الدكتور الضويان مثالاً على رأيه بقوله: انظر إلى صناعة النفط؛ هل نحن نصدِّر تقنيتها إلى غيرنا؟ وما الشركات البارزة في عمليات التنقيب على سبيل المثال؟ على الرغم من أن امتلاك التقنية مرتبط بالقدرة الصناعية؛ فلا أقل من أن تتميز الدول الإسلامية المنتجة منذ عقود للنفط في مجال التنقيب وتقنياته وصناعة النفط.
ويختتم حديثه بقوله: المهم أنَّ امتلاك التقنية مسألة حضارية يُنظر إليها بشكل متكامل مع قضايا أخرى، وحين تتخلف هذه القضايا تتخلف مسألة التقنية تبعاً لها؛ على الرغم من انتمائها لهذا الدين العظيم.
ويلفت الدكتور الضويان انتباه المتابع بقوله: انظر لحال الأمة المزري: الدكتاتوريات السياسية تخنق الإبداع، وضياع الصدق والأمانة والانضباط يطرد الإنتاج البحثي الناجح، وانتشار الفقر والأنانية والجهل؛ كل هذا عدو للتقدم العلمي. والإباحية الإعلامية وتسطيح الاهتمامات لا تتناسب مع المنافسة التقنية... إلى غير ذلك من الأمراض الحضارية.
ويقدم الدكتور باسم خفاجي تفسيراً وتحليلاً آخر حول هذه القضية، فيذكر أنَّ المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ذكرت ضمن تقريرها عن واقع التعليم ومستقبله في العالم العربي أنَّ «تطوير التعليم في بلداننا، الذي هو الشرط الأساس لتحقيق النقلة النوعية الحقيقية المطلوبة في النهوض الحضاري، يتوقف على المشاركة الشعبية الواسعة في تحمّل تكاليف التعليم التي تَتَزَايَدُ أعباؤها سنة بعد سنة، وبذلك ستتمكّن الدولة من القيام على نحو أفضل بدور الإشراف والرعاية، وضبط الاتجاهات العامة لمسيرة التعليم وفق المصالح العليا للوطن، وبما يحقق الأهداف الوطنية، ويمهد السبيل نحو الاندماج في المسيرة العالمية.
وفي محاولة ناقدة يقول الدكتور باسم: إننا كثيراً ما نلقي باللائمة على الدول والأنظمة، وأحياناً على الغرب وأمريكا في التعامل مع مشكلة التعليم وارتباطه بالتقنية في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن الحقيقة أن الشعوب مسؤولة أيضاً بالدرجة نفسها. وكما علمنا الخالق ـ جل وعلا ـ عندما يُذكِّرنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، فهنا مفتاح الحل. لا شك أن خصوم الأمة يكيدون لها، ولكن هذا الكيد لم يوقف الأمة على مر التاريخ عن التقدم والازدهار عندما أخذت بالجد والحزم وعلو الهمة، وهو ما نفتقده اليوم.
ويؤكد الدكتور باسم أنَّ احتكار سوق التقنيات بالنسبة للغرب لم يمنع الصين وتايوان وسنغافورة، وحتى ماليزيا المسلمة والهند من المسابقة، بل والتقدم إلى الدرجة التي أصبحت معها هذه الدول مصدرة للتقنية إلى البلاد الأوروبية والأمريكية، ويضيف قائلاً: رغم أن أمريكا ومن يحالفها حاربوا هذه الدول بالأمس كما يحاربوننا اليوم. فليس من اللائق عقلاً ولا شرعاً أن نلقي باللائمة على الخصوم كمبرر لتخلفنا، وكأننا نتوقع من خصوم الأمة أن يرفقوا بنا، وأن يعاونونا على النجاح والتقدم.
وينبِّه الدكتور باسم إلى أنَّ الغرب يحاول احتكار أسواق التجارة العالمية ويضيف: والشركات متعددة الجنسية صار لها تأثير كبير في علاقات التبادل التجاري بين الدول؛ فمن جملة (50) أكبر شركة متعددة الجنسية في العالم تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية (33) شركة، بينما تمتلك بريطانيا (5) شركات، واليابان وسويسرا تمتلكان (3) شركات، وألمانيا تمتلك شركتين، وفرنسا شركة واحدة؛ وبقية الدول (3) شركات فقط، وذلك بحسب ما أورده موقع إسلام أون لاين في مقال (الاحتكار.. مزايا للشركات وأضرار للمستهلك). ولكن بالمقابل فإن هذه الشركات تحتاج إلى أسواق، وهنا تكمن قوة المستهلك الذي يمكنه اختيار من يريد أن يتعامل معه، ممن يساعده على التقدم التقني.
? الاحتكار عقبة.. كيف نتعداها؟
وعن الطرق الكاسرة لسوق الاحتكار يقدم الدكتور باسم وجهة نظره بقوله: إننا في حاجة إلى أن نربط أسواقنا الاستهلاكية ـ وهي قوة لا يستهان بها ـ بمن يساعدوننا على التقدم التقني، وليس فقط من يريدون تصدير التقنيات لنا.
ويوضح الدكتور زغلول النجار رأيه في المسألة قائلاً: نستطيع التغلب على هذه العقبة بوحدة المسلمين وعن طريق الاستغلال الصحيح لمقومات العالم الإسلامي المعاصر في اتباع الخطوات المؤدية للتقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي. أما الدكتور الخطيب فيرى أنه لا يمكن كسر هذا الاحتكار إلا بالاعتماد على الذات، واتخاذ قرار سياسي سيادي بالخروج من الهيمنة السياسية والاقتصادية والتقنية الغربية الاستعمارية، ولا يكون ذلك إلا عندما تصبح الحكومات الإسلامية من الشعب وللشعب.
ويستند الدكتور نعمان إلى أن العالم العربي يمتلك من الموارد البشرية والطبيعية (نفط، زراعة، معادن) أكثر مما تمتلك الدول الغربية (أوروبا وشمال أمريكا)؛ فلو كان يملك المقدرة التكنولوجية لأصبح متقدماً على الدول الغربية اقتصادياً وتكنولوجياً، ولفقدت تلك الدول هيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم.
? هل تحاصر التقنية بلادنا؟
هناك عدد من المحللين الاستراتيجيين يرون أنَّ هناك محاولة لحصار العالم الإسلامي. فمن الملاحظ مساعدة الدول الغربية للبرنامج الهندي النووي، ومحاربة البرنامج الباكستاني النووي، كما يخالفهم آخرون في ذلك كل حسب الزاوية التي ينظرون من خلالها.
فالدكتور نعمان الخطيب يقول: نعم! هناك حصار للعالم الإسلامي؛ وهو حصار متعمد ومدروس ومخطط له؛ حتى يبقى العالم الإسلامي متخلفاً تقنياً ويعتمد على الغرب.
ويضرب الدكتور الخطيب على ذلك مثلاً فيقول: الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح ببيع الحاسبات المتطورة التي يمكن استخدامها في برامج معينة إلا للدول التي تثق بها، والتي تكون متأكدة أنها لن تستخدمها في برامج مثل: تصميم الصواريخ أو تقنية الفضاء والذرة.
أمَّا الدكتور الضويان فيختلف في نظرته لهذه القضية مع الدكتور الخطيب حيث يوضح مراده بقوله: لا أعتقد أن هناك حصاراً على العالم الإسلامي من الخارج، لكنه فرض الحصار على نفسه. أما موضوع البرنامج النووي الهندي والباكستاني فالمنطلقات فيه مصالح استراتيجية، ولا تُلام الدول على السعي لتحقيق مصالحها ولو أغضبت مواقفها هذا الشعب أو ذاك. وبالمناسبة: من الذي أتى بحكومة البلدين؟ أحدهما اختيار الشعب والأخرى الدبابة والعمالة للأجنبي، وهنا التخلف عينه. الهند تصنع جميع ما تحتاج داخلياً، بينما باكستان لا تستغني عن الدول الأخرى.
? صناعة الرأي والمشورة في عملية الاختراعات لنقل التقنية:
يبتدئ الدكتور العجلوني الحديث حول هذه القضية؛ إذ يقول: ليس الأساس المشاورة بمعناها المعروف وإنما العمل الجماعي، وهذه يجب تربية الأجيال عليها منذ الصغر قبل تكليفهم بمهام البحث العلمي وهم كبار، وبناء قاعدة علمية في الدولة حتى لو كان مستواها دون مستوى تلك التي في الدول الغربية، ومن ثم تحديد ما يلزم أو الضروري من التكنولوجيا ضمن جدول أولويات والسعي الحثيث لامتلاكها.(6/21)
كما يؤكد الدكتور نعمان على أهميَّة استشارة ذوي الاختصاص والمعرفة، وأن يتم الأخذ بآرائهم والعمل بها، ويضيف: يجب العمل على تشكيل مجالس استشارية متخصصة من ذوي الخبرة والكفاءة، وأن يعطَوا الصلاحية الكاملة في اتخاذ القرارات الملزمة لكافة القطاعات لتنفيذ هذه التوصيات والتوجيهات.
ويضيف الدكتور المدهون عدَّة نقاط تؤكد على أهميَّة المشورة؛ حيث يلخصها في الآتي:
ـ إنَّ صناعة الرأي تفتح الطريق أمام المبدعين والمتميزين.
ـ توفر المناخ الحيوي للتطور.
ـ يمكن تطويرها بنشر حرية الرأي واعتماد المنهج الإسلامي الذي احترم العقل.
ويختتم الدكتور الضويان الحديث حول هذه الفقرة بقوله:
أما صناعة الرأي في عملية الاختراعات، فلا بد قبلها أن يكون للأمة رأي في أبجديات القضايا يُسمح لها أن تُعبر عنه، قبل أن نقفز إلى مسألة الاختراعات.
ويختتم رأيه متأسفاً ومتأسياً بقوله: شعوب جائعة لا تشارك في قراراتها المصيرية كيف تخترع؟ لا بد من الواقعية العملية وترتيب الأولويات.
? التقنية لها خطوات فعَّالة... فما هي؟
في المقدمة نبتدئ بتقديم رأي الدكتور زغلول النجَّار حيث يقول:
لا بد من تطوير التقنية في بلادنا لنساير التطورات العالمية من حيث المستوى؛ فالوسائل والكتب والطرائق والمختبرات وغيرها أساس من أسس التقدم العلمي، كما تتطلب حسن التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهذا التنسيق مهم بالنسبة للاستفادة من كفاءاتنا العلمية، وكذلك نقل التقنية الحديثة ممن سبقونا فيها.
ثم يضرب الدكتور النجار مثالاً في التأسي بمن قبلنا من المسلمين في خطوات نقلهم للتقنية فيقول: ففي عصر الحضارة الإسلامية التي امتدت قروناً طويلة، تحرك المسلمون من منطلق حب الحكمة الذي غرسه الإسلام في نفوسهم، فجمعوا تراث الحضارات السابقة وترجموه ونقدوه بمعيار الحق الإسلامي، وأضافوا إليه إضافات أصيلة في مختلف مجالاته، فأخذوا صناعة الورق وطوروها، وأضافوا الصفر، ونشروا الأرقام، وابتكروا علوم الجبر وحساب المثلثات واللوغاريتمات.
كما أبدى الدكتور الضويان رأيه في هذه الفقرة، ملخصاً إياه في كلمة قصيرة؛ فيقول: خطوات نقل التقنية موضوع كبير قد كُتبت فيه كتب وأبحاث، لكنها لا تتجاوز الأطر النظرية. وبالجملة: نحتاج لتحديد التقنية اللازمة سواء أكانت مادية (hardware) أو معلوماتية (information) أو فنية (know-how) إلى التعامل الأمثل مع الأجهزة والمعلومات، ومن ثَمَّ وضع خطة على المستوى الفكري والاقتصادي والإداري.
من جهة أخرى يسوق الدكتور باسم خفاجي فكرته حيث يقول: أرى أن الخطوة الأولى في مشروع (نقل التقنيات) تتركز في تغيير طريقة التفكير لدى النخب العلمية والمثقفة في العالم العربي، والتأكيد على أهمية تطوير العقل العربي والإسلامي في مجالات الإبداع والابتكار، وليس فقط في سبل الاستهلاك والاستخدام لما يصنعه الآخرون.
ويعقب خفاجي على حديثه مضيفاً: ينبغي التركيز على فكرة الانتقائية في التعامل مع التقنيات المراد نقلها؛ فليس كل ما أنتجه الغرب صالح لعالمنا، أو حتى صالح للبشرية بوجه عام، فلا يجب أن ننقل إلا ما يثبت لنا صلاحه لأمتنا ليس فقط على المستوى التقني، وإنما على المستوى الأخلاقي والثقافي والعقدي أيضاً.
ويضيف الدكتور باسم قائلاً: أما في مجال الخطوات اللازمة لنقل التقنيات؛ فقد ذكر أهمها أحد الباحثين العرب، وننقل عنه هنا أهم هذه الخطوات:
أولاً: إيجاد قاعدة علمية قادرة على التطوير والابتكار العلمي.
ثانياً: إيجاد قاعدة صناعية متميزة تأخذ بأحدث ما وصلت إليه التقنية مع قبولها التطوير المستمر.
ثالثاً: الترابط الوثيق بين القاعدة العلمية والقاعدة الصناعية، لتحويل الإنجازات العلمية إلى واقع صناعي. ويفضَّل أن يكون هذا الترابط ناشئاً عن مركز بحوث رئيس مُلِمٍّ باحتياجات البلاد وأهدافها التنموية، قادر على الدعم السخي، له صلاحية التنسيق والتنظيم مع وحدات البحث العلمي المختلفة في البلاد والقطاع الصناعي المتطور، وقد أشار إلى مثل هذا الأستاذ سليمان بن صالح الخراشي في مقال له نشر في موقع (صيد الفوائد) بعنوان: (نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية/عوائق وحلول).
? مقومات التقدم العلمي وسبل تنميته:
يبتدئ المشاركة في هذه الفقرة الدكتور إيهاب الشاعر، حيث يقول: قبل البدء بالتحدث عن مقومات التقدم العلمي والتقني لا بد من تسليط الضوء على قياس معيار التقدم العلمي؛ فهو يكمن في معيارين:
1ـ قدرة العالم العربي والإسلامي على أن يكون مستقلاً بصناعة ما يحتاجه للقيام بضرورات الحياة المدنية والعسكرية.
2ـ قدرة العالم الإسلامي والعربي على تطوير ما هو موجود من تقنية وتوظيفها في مصالحه العامة: اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، وغير ذلك.
ويشير الدكتور إيهاب إلى أنَّ مجرد استيراد التقنيات واستخدامها أمر استهلاكي وليس أمراً جوهرياً يمس التقدم العلمي.
ثم انطلق الدكتور إيهاب الشاعر مجيباً عن هذه القضيَّة بنوع من التفصيل والبسط؛ وذلك لأهميتها في نظره؛ حيث قال: مقومات التقدم العلمي تكمن في الآتي:
أولاً: الجامعات ومراكز البحوث: وهي القلب النابض للتقدم العلمي في كل الدول وبغيرها لا يمكن عمل شيء، ويكون ذلك عبر عدَّة نقاط هي:
أ ـ استقطاب المؤهلين من ذوي الخبرات التعليمية والتطويرية وتوظيفهم في الجامعات، وإعطاؤهم حرية البحث.
ب ـ إنشاء صندوق دعم مالي للبحوث، يكون من الدولة والتجار وأهل الخير والشركات المحلية والأجنبية؛ لدعم بحوث الأساتذة في الجامعات.
ج ـ إعطاء المدرسين والأساتذة العاملين في مجال البحث امتيازات خاصة لإشعارهم بالأمن والاستقرار، وليس على أساس عقود وتجديدات.
د ـ منع هؤلاء الأساتذة وتحذيرهم من الانتقال إلى مجالات أخرى إدارية أو غيرها قبل مدة دنيا من البحث والإنتاج.
هـ ـ تشجيع البحث والتفكير منذ عمر مبكر (الثانوية)، وصياغة المواد التعليمية على هذا الأساس.
و ـ الاهتمام بالموهوبين والنابغين من الطلاب، وإنشاء جمعيات خاصة لهم، وإعطاؤهم منحاً خاصة للدراسة والتطوير.
ز ـ إنشاء نوادٍ صيفية لتحفيز العمل الابتكاري والإبداعي وعمل مسابقات في ذلك.
ثانياً: ربط الشركات والصناعة المحلية بالجامعات ربطاً قويما علمياً عن طريق: بحوث مشتركة، وورش عمل، ودعم مالي مفروض على الشركات الكبرى بالذات.
ثالثاً: الدعم الحكومي الرسمي ويتمثل بالتالي:
أ ـ إنشاء، ومن ثمَّ الإشراف على صندوق دعم وطني لبحوث الجامعات.
ب ـ ربط الجامعات بمثيلاتها من العالم العربي والإسلامي والغربي عن طريق ندوات وورش عمل مدعومة.
ج ـ إنشاء القوانين التي تحث الجامعات والشركات على الاتصال والعمل البحثي، وسنِّها.
د ـ تشجيع الصناعات المحليَّة، حتى ولو كانت جدواها الاقتصادية أقل في البداية.
واختتم الدكتور إيهاب ما قدم بقوله: فهذه خطة متكاملة، ولكنها تحتاج إلى مخلصين؛ وهو الشرط الرابع.
ويقدم الدكتور نعمان الخطيب مقومات يرى أنَّها ذات أهميَّة بقوله:
تحرير مراكز الأبحاث من البيروقراطية والرتابة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والتخلص من المحسوبية والواسطة في التعيينات والترقيات والقرارات، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح سياسي شامل.
ومن زاوية أخرى يلمح الدكتور زغلول النجَّار إلى أنَّ مقومات التقدم تكمن في الآتي:(6/22)
ـ مقومات بشرية: (يفوق تعدادها الألف مليون نسمة تتوزع في أكثر من خمسين دولة مستقلة وعلى هيئة أعداد متباينة من الأقليات في كافة دول العالم، ويمثل هذا العدد قرابة ربع سكان العالم، ويضم ملايين من العلماء والأطباء والأدباء والمفكرين)
ـ مقومات أرضية: (مساحة الدول المكونة للعالم الإسلامي تمثل أكثر من ربع مساحة اليابسة وتقدر بـ 148.354.000 كيلو متراً مربعاً)، ويزيد فى قيمة تلك المساحة الشاسعة اتصال بعضها مع بعض، وتوسطها دول العالم، وتكاملها من ناحية المناخ والتضاريس وطبيعة الأرض، وتعدد ثرواتها، وتنوع مصادر المياه فيها.
ـ مقومات بحرية: (يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ هامة على كل من: المحيط الأطلسي، والمحيط الهندي، والمحيط الهادي، وكل من: البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، وبحر قزوين).
ـ مقومات اقتصادية: (الثروة الزراعية، الثروة الحيوانية، مصادر الطاقة، الثروة التعدينية).
ـ مقومات تعليمية: (تضم دول العالم الإسلامي اليوم الكثير من الجامعات والمعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق التسعمائة من مراكز البحوث، وأكاديميات العلوم والتقنية، ومراكز للطاقة الذرية والنظائر المشعة).
? لا يشترط في التقنية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين:
كانت هذه إجابة الدكتور إيهاب الشاعر؛ إذ سألته: هل يشترط للتقنية المأمولة من الدول الإسلامية أن تكون منافسة لتقنية الآخرين؟ أم يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو؟
وتابع حديثه قائلاً: ذلك الاشتراط يكون في البداية، حتَّى نقوم بالحد الأدنى لاستبدال التقنية الغربية. بينما يرى الدكتور الضويان خلاف رأي الدكتور الشاعر؛ حيث يقول: التقنية المأمولة من الدول الإسلامية لا بد أن تكون منافسة بكل تأكيد وإلاَّ فلا مكان لتقنية رديئة، لكن لا بد أن تكون هذه التقنية ملائمة لهذا البلد أو ذاك من جهةِ: التكاليف، وحجم اليد العاملة، والمردود الاقتصادي المباشر، والآثار الاجتماعية؛ فبعض التقنيات استهلاكية وتُعمّق التبعية للثقافة الغربية مثلاً.
ويتقارب الدكتور العجلوني والمدهون في إجابتيهما؛ حيث إنَّ فيهما جمعاً بين الرأيين السابقين؛ حيث يقول الدكتور المدهون: مرحلياً يكفي أن تحقق هذه الدول المسلمة من التقنية ما يحفظ لها كيانها، ويحميها من كيد العدو، واستراتيجياً عليها أن تكون منافساً كبيراً لتقنية الآخرين.
وفي الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ نستكمل دوائر ومحاور التحقيق، نسأل الله أن ينفع به.
• ملاحظة:
• نشر هذا التحقيق في مجلة البيان عدد(237)
سبل التقدم العلمي والتقني في البلاد الإسلامية
(2ـ 2)
إعداد: خباب بن مروان الحمد
المشاركون في التحقيق:
1 ـ د. إيهاب الشاعر: فلسطيني مقيم بأمريكا، متخصص في الحاسوب والاتصالات.
2 ـ د. باسم خفاجي: مصري، متخصص في الهندسة المدنيَّة.
3 ـ أ. د. زغلول النجار: مصري، متخصص في علم التربة والجيولوجيا.
4 ـ د. عبد الله الضويان: سعودي، متخصص في علم الفيزياء.
5 ـ د. عبد الوالي العجلوني: أردني، متخصص في علم الفيزياء.
6 ـ أ. د. نعمان الخطيب: فلسطيني مقيم بالسودان، متخصص في هندسة البترول والتعدين.
7 ـ د. محمد المدهون: فلسطيني، متخصص في تنمية الموارد البشرية.
تحدث مُعدُّ هذا التحقيق ـ وفقه الله ـ في الجزء الأول من هذا التحقيق عن العديد من الملفات المتعلقة بالتقدم العلمي؛ سبله ووسائله، وما العوائق والعراقيل التي تعترضه؟ وفي هذا الجزء يستكمل الحديث ـ إن شاء الله ـ عن عدد من القضايا المتعلقة بالتقدم التقني؛ فما الجوانب التقنية ذات الأولوية جَلْباً إلى العالم الإسلامي؟ وما أسباب التخلف التقني؟ وهل لطرائق التدريس أثر في تنمية الإبداع؟ وما دور الأمة تجاه المبدعين من المخترعين المسلمين؟ وإلى غير ذلك من المحاور العديدة التي سيتطرق لها أثناء هذا التحقيق) .
? آثار التخلف التقني على مستوى الشعوب والجامعات:
يتحدَّث في هذا الصدد الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى إفقاره على الرغم من ثرواته البشرية والطبيعية الهائلة، فالغالبية العظمى من سكان الدول الإسلامية اليوم ـ باستثناء الدول النفطية ـ تعيش تحت الحد الأدنى للكفاف اللازم لصون كرامة الإنسان، وذلك بتباين واضح في متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي والذي يتراوح بين (20،0) سنتاً في اليوم للفرد ـ أي: في حدود (73) دولاراً في السنة ـ في دولة إسلامية مثل تشاد، وبين (63) دولاراً في اليوم للفرد في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة بروناي ـ مثلاً ـ (أي: في حدود 23000 دولار في السنة).
من جهته يرى الدكتور الخطيب أنَّ التخلف التقني والعلمي يؤدي إلى التخلف الاقتصادي والعسكري، وبهذا تبقى الشعوب خاضعة للهيمنة الغربية، ولا تمتلك القرار المستقل، وتكون ناقصة الكرامة، ولا تستطيع الدفاع عن حريتها واستقلالها؛ حسب قوله.
ويضيف الدكتور الضويان أنَّ آثار التخلف تشمل جميع نواحي الحياة، والتخلف جالب للفقر والجهل وهما مرتع خصب لكل بلاء.
ومن ناحيته يرى الدكتور المدهون أنَّ من آثار التخلف الشعور بالهزيمة والتبعيَّة وعدم القدرة على صدِّ العدوان أو إيقاف النيران.
ويختم العجلوني هذه الآثار بقوله: ومن آثار التخلف التقني شعور المواطن بالضعف والهوان وقلة القيمة حتى لو كان هذا المواطن وزيراً أو أكثر من ذلك أو أقل. ويتحمل السياسيون وأصحاب الرأي في الأمة مسؤولية هذا الشعور؛ إذ إنهم ساهموا في تكوينه. ولأن يكون المواطن مواطناً بسيطاً في دولة قوية ومتقدمة خير ألف مرة من أن يكون قائداً أو مسؤولاً في دولة لا قيمة لها.
? أسباب التخلف التقني:
يرى جميع الدكاترة المشاركين في التحقيق أنَّ أهم سبب في ذلك هو الناحية السياسية؛ فهي الوزن الكبير في معادلة التخلف كما يقول الدكتور الضويان. وهناك أسباب أخرى يتفق عليها جمع من المشاركين، وقد أجملها الدكتور الشاعر بقوله:
1 ـ عدم وجود الرغبة من المسؤولين والسياسيين للخوض في ذلك.
2 ـ هجرة العقول إلى العالم الغربي.
3 ـ ضعف وانعدام الحريات وشيوع العنصريات.
4 ـ الضعف الاقتصادي والتحفيزي.
5 ـ أنظمة الجامعات قديمة ومتخلفة ولا تواكب الواقع.
6 ـ التخطيط معدوم وهو آخرها وليس أولها.
ويدلي الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار بدلوه إزاء هذه القضيَّة حيث يقول: ما يحدث الآن من إهمال للبحث العلمي في القضايا التقنيَّة إنما هو بسبب:
1 ـ كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هذه الأيام من مبالغات، وما يلاقيه الباحثون من عناء ومشقة مما يجعلهم ينصرفون عن البحث والدراسة.
2 ـ انعدام التنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث الإسلامية، وبينها وبين الصناعة في المنطقة العربية والإسلامية.
? خنق الإبداع والابتكار.. كيف نتخطاه في واقعنا الإٍسلامي؟
هناك من يقول بأنَّ بعض البلاد الإسلامية تتعامل تجاه من يقوم بتطوير بعض الأعمال التقنية بتكميم فاه فيخنق الإبداع والابتكار! فكيف نتخطَّى هذه المرحلة ونتربى على ممارسة الإبداع والابتكار في خدمة أمَّتنا؟(6/23)
أجمع المشاركون في الإجابة عن هذا السؤال حول قضيَّة اعتبروها مهمَّة وملحَّة، وهي أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ بالارتقاء بالنظام السياسي وإصلاحه وتولي الشعوب أمورها بنفسها في ظلِّ الشورى الإسلاميَّة، كما نصَّ على ذلك الدكتور المدهون وكذا الخطيب في جوابهما.
ويضيف المدهون: ومن النقاط المهمَّة في ذلك أن يصبح الارتقاء والتطور مطلباً جماهيرياً، وأن نحسن صناعة الإبداع فهو طريق للتحدي لا للخنوع.
بينما يختلف الدكتور الضويان مع من يرى بأنَّ أفواه المخترعين تُكمَّم في عالمنا الإسلامي، ويقول: تكميم أفواه بعض المخترعين لم أسمع عنه شخصياً ولا أظن حدوثه؛ لأن الحكومات لا تستفيد من ذلك.
أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فيتحدَّث حول هذه القضيَّة بقوله: في ظل الحكومات المستبدة لا يمكن أن يظهر أي إبداع، فلا بد من المطالبة بإطلاق الحريات وإلغاء القوانين الاستثنائية واحترام آدمية الإنسان؛ حتى تتمكن الأمم من إفراز الكوادر القادرة على الإبداع، ففي المسلمين في العالمين الغربي والشرقي مئات الآلاف من العلماء الذين هربوا من بلادهم؛ إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي.
? أيها أولى في المجال التقني؟
هناك جوانب تقنية من المهم أن يتقنها أبناء العالم الإسلامي ويتطوروا فيها؛ فما هذه الجوانب؟ وما الأولويات في ذلك؟
حول هذا السؤال أفاض جمع من المشاركين بالجواب عنه، فالأستاذ الدكتور زغلول النجَّار لخَّص رأيه في هذه القضيَّة بقوله: الأولويات كالتالي:
ـ الاستخراج الثلاثي والرباعي لكل من النفط والغاز، التقنيات المتقدمة في تحلية المياه، علم الحياة الجزئي، الحواسيب فائقة السرعة، المواصلات فائقة القدرة، استزراع الصحراء، استزراع البحر، ومصادر الطاقة البديلة؛ مثل: الطاقة الشمسية، الطاقة الهوائية، وطاقة الحرارة الأرضية.
من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: أرى - والله تعالى أعلم - أن الأهم في هذه المرحل هو الإلمام بأساسيات العلوم الحديثة وكيفية تطويعها في الصناعات المختلفة، فقد بعدت الأمة كثيراً خلال العقود الماضية عن مواكبة أصول العلوم والتقدم الحادث في هذه المجالات، ولذلك يصعب علينا كثيراً إنشاء أية صناعات حقيقية؛ لفقداننا الأسس التي تقوم عليها تلك الصناعات، لذلك يجب أولاً التركيز على العلوم الأساسية في المجالات الهندسية والطبية والعلوم الحيوية.
أما المجالات التي يجب أن ينصب الاهتمام الأولي على التميز التقني فيها؛ فأرى أنها المجالات التي تخدم رسالة الأمة أولاً قبل أن تخدم رفاهيتها. ويعني ذلك أمرين؛ الأول: هو ما يتحقق به أمان الأمة من خصومها من تقنيات عسكرية وأمنية، والثاني: هو التقنيات الحديثة في مجالات التواصل والإنترنت وعلوم الحاسبات التي تخدم البنية التحتية لكافة وسائل الدعوة المستقبلية.
أمَّا الدكتور إيهاب الشاعر فيقول: لا أنصح في الوقت الحالي بالتركيز على التقنية العسكرية، بل التقنية المدنية والتطبيقات السلمية، فهذه هي الخطوة الأولى لحل الكثير من المشاكل المتراكمة، فنحن لسنا بحاجة إلى عوائق إضافيَّة، والكثير من هذه التقنيات يمكن توظيفها في مجالات أخرى والاستفادة منها عندما يكون المجتمع قد نضج والوقت قد حان، ومع ذلك فإنَّ الدكتور إيهاب يشير إلى أنَّ رأيه لا يعني إهمال التقنية العسكريَّة بالكليَّة ولكن يعني عدم التركيز عليها وجعلها هدفاً لذاتها، وأنَّ الكثير من مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية هي مرهونة بالتقدم العلمي المدني وليس العسكري، وذلك لنكون متوازنين في هذه القضية.
ويتوافق الدكتور العجلوني مع الدكتور الضويان بأن الجوانب التقنية التي يجب على العالم الإسلامي أن يتقنها تبدأ من شعور قادة هذه الدول بالمسؤولية ومن ثم ضرورة التكامل؛ فدول الخليج ـ مثلاً ـ تجعل الصناعات البتروكيمياوية والنفطية اهتمامها الأول، ومصر تتميز بالصناعات الإلكترونية؛ لوفرة اليد العاملة وهكذا بقية المجالات.
? تجارب الأمم الأخرى في التقنية هل يمكن الاستفادة منها؟
لا ريب أنَّ (الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها) كما جاء في الحديث، ومن هذا المنطلق ساءلت العديد من الدكاترة المشاركين في التحقيق السؤال التالي: كيف تستفيد أمَّتنا من تجارب الأمم الأخرى بالأعمال المتواصلة للتقدم العلمي كاليابان مثلاً؟ وما تقييمكم للتجربة الماليزية والباكستانية؟ والمقارنة كذلك بين مسيرة التطور التقني بين اليابان ومصر؟
اتفق الجميع على ضرورة الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى وبخصوص تقويم التجارب، فقد أجاب الدكتور باسم خفاجي قائلاً: إن تجربة اليابان تعكس بلا شك الإرادة القوية في التغلب على الهزيمة والنهوض من جديد، وهي تؤكد فكرتي الأساسية أن العزيمة والإرادة أهم بكثير مما نعتقد في عالمنا العربي المعاصر.
ويرى الدكتور العجلوني أنَّ التجربة الماليزية مقارنة مع باقي العالم الإسلامي تجربة رائدة، ويضيف: وأظن أنَّ أهم سبب لها هو الوعي والتصميم والإرادة التي تحلت بها القيادة السياسية هناك. أمَّا التجربة الباكستانية فهي ممتازة في مرحلة مضت وإن كانت السياسة سبباً في تقهقرها، أما تجارب الشعوب الأخرى كاليابان وكوريا الجنوبية فقد كانت الإرادة والتصميم دافعين لها، ونحن بحاجة إلى هذه الإرادة وهذا التصميم أكثر من حاجتنا لأي شيء آخر.
ويتحدث الدكتور الخطيب قائلاً: بالنسبة للتجربة الباكستانية فهذا يدل على أن تركيز الموارد وإعطاء الحرية للباحثين وإمدادهم باحتياجاتهم المادية يؤدي إلى الوصول إلى الأهداف الموضوعة، ولكن للأسف التجربة الباكستانية على الرغم من أهميتها إلا أنها مقتصرة على تركيز التقدم التكنولوجي في مجال واحد ولم تتم على أساس بناء قاعدة صناعية تكنولوجية متقدمة تستخدم في كافة الأغراض الصناعية.
وحول مقارنة مسيرة التنمية والتطور التقني بين اليابان ومصر يرى الدكتور الضويان أنَّها مفيدة لكنها تؤدي إلى الإحباط بكل تأكيد، فهي صاعدة مع الزمن في اليابان هابطة في مصر. والسبب في رأيه أنَّ الأولى دولة مؤسسات والثانية لأفراد. ولما كان اقتصاد بلد لا ينفك عن تقدُّمه التقني نُذكِّر بقيمة الجنيه المصري وكمية ديون مصر الآن وقبل خمسين سنة، وكذا الحال بالنسبة لليابان التي أصبحت يباباً إثر خروجها مهزومة ذليلة من حربها الخاسرة ضد الحلفاء ومقارنة ذلك بوضعها الحالي حيث تملك ثاني أضخم اقتصاد وما صاحبه من تقدم تقني مشهود.
من جهته يقول الدكتور العجلوني متحدثاً عن المقارنة بين تجربة اليابان ومصر: هو كما تقارن بين نملة تسير على غير هدى وصاروخ كروز موجه إلى هدفه بدقة، أو كما تقارن بين مخلوق ضعيف غارق في بحر تتلاطم فيه الأمواج وأحد الطيور المهاجرة يحلِّق في السماء يعرف جيداً نقطة انطلاقه ونقطة وصوله.
? أثر طرائق التدريس في تنمية الإبداع والحث على الاختراع:
يؤكد الدكتور الضويان على أهميَّة طرائق التدريس ودورها في صناعة روح الإبداع، ولكنَّه تساءل قائلاً: لكن من سيحتضن المبدع؟ ويجيب: إنَّ من يحضنه بالتأكيد الشركات والجامعات الأجنبية في الخارج؛ لأنَّ فاقد الشيء (من الحكومات الإسلاميَّة ومؤسساتها) لا يعطيه!
ومن ناحيته تحدث الدكتور العجلوني قائلاً: التدريس هو الأساس، ولكن يجب تربية المدرِّسين قبل تربية من بين أيديهم، وذلك على احترام الآخر والرغبة في العمل الجماعي وتنمية روح الإبداع...(6/24)
أما الدكتور نعمان الخطيب فإنه يرى أن الإشكاليَّة تكمن في طرائق التدريس منذ المرحلة الابتدائيَّة إلى الجامعيَّة، فهي تعتمد على التلقين والحفظ وليس على الإبداع والابتكار، ولذا يقول: تحتاج طرائق التدريس إلى إعادة نظر وإلى تأهيل المدرِّسين منذ البداية، ويجب تشجيع المدرِّسين ووضع الحوافز المادية لهم بحيث ينخرط في سلك التدريس الطلبة المتفوقون، ولا تقتصر مهنة التدريس على فئة من متوسطي وقليلي الكفاءة.
وينهي الأستاذ الدكتور زغلول النجار الحديث حول هذه القضيَّة مبيِّناً أفضل أساليب طرائق التدريس فيقول: لطرائق التدريس أثر كبير في بناء فكر التلاميذ والدارسين، إلاَّ أن طرائق التدريس التي تنمي الإبداع في الدارسين تعتمد أسلوب التحليل والتفكير وأسلوب البحث عن المعلومة لغرس كيفية البحث العلمي والتفكير المنطقي داخل عقل الطالب.
وقد أكَّد جمع من الدكاترة المشاركين بأنَّ المجالات العلميَّة لم تعد تصلح للعمل الفردي بل لا بدَّ فيها من العمل الجماعي المنظَّم، ويضيف الدكتور الضويان بأنَّ إدارات الأبحاث والتطوير لا تعمل بالفردية والأنانية (كما هو حال الحكومات الإسلامية) ولكن بروح الفريق، ويسوق على ذلك مثلاً بقوله: شركة (تويوتا) استفادت من آلاف الاقتراحات من موظفيها في تطوير منتجاتها من السيارات. ويستحيل دفع البحث العلمي بعقلية الفرد الواحد.
? المخترعون المسلمون.. دورهم ودورنا تجاه أمَّتنا:
نسمع كثيراً عن المخترعين المسلمين، وبراءات الاختراع التي نالوها، ولكن ينتهي سماعنا بهم مع نهاية ما قيل عنهم؛ فكيف السبيل لتنشيط إبداع هؤلاء؟ وما السبيل كذلك لاحتضانهم؟ وما دور الحكومات وأصحاب الأموال في رعايتهم وتشجيعهم على الابتكار والاختراع؟
بهذه الأسئلة توجَّهنا للدكتور نعمان الخطيب فأجاب بقوله: المخترعات وبراءات الاختراعات العربية بهرجة إعلامية وغالباً ما تكون عديمة الفائدة.
أمَّا الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار فأجاب عن سبل احتضان المبدعين وتشجيعهم بعدَّة نقاط على النحو التالي:
ـ إنشاء مراكز للبحوث العلمية والتقنية المتخصصة، ومراصد فلكية وأرضية ومؤسسات للطاقة على أرفع المستويات العالمية في دول العالم الإسلامي في غير تكرار أو ازدواجية أو عشوائية.
ـ العمل على إعادة كتابة العلوم البحتة والتطبيقية من تصور إسلامي صحيح عن الإنسان والكون وعلاقتهما بالخالق العظيم.
ـ وضع البرامج الزمنية المحددة لترجمة أمهات الكتب العلمية والتقنية المختلفة إلى اللغة العربية وغيرها من اللغات الرئيسية في العالم الإسلامي، والتعليق على ما قد يرد فيها من أخطاء تتعارض مع قضية الإيمان.
ـ العمل على إصدار مؤلفات ودوريات وموسوعات علمية وتقنية إسلامية عامة ومتخصصة باللغة العربية وبغيرها من اللغات المحلية في العالم الإسلامي.
ـ التعاون في إنشاء مراكز للإعلام والتوثيق العلمي والتقني والصناعي، ومصارف للمعلومات ولخدمات تجهيز البيانات ومكتبات شاملة إقليمية وعامة.
ـ التعاون يإنشاء مركز عام ومراكز إقليمية للملكية الصناعية ووثائق براءات الاختراع تقوم بتنسيق تشريعات الملكية الصناعية في العالم الإسلامي، وحماية حقوق المخترعين المسلمين، ودراسة الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، وتبادل تلك الوثائق مع المراكز المشابهة في العالم.
ـ ربط الصناعة بالبحث العلمي وحرص الحكومات على تشجيع المخترعين وأصحاب براءات الاختراع.
ويتطرق الدكتور الضويان للموضوع ذاته قائلاً: المخترع مكسب للأمة أياً كان اختراعه، ويقيّم اختراعه أهل التخصص من خلال إدارة براءات الاختراع. والمهم هو ترجمة فكرة المخترع إلى واقع من خلال الشركات وأصحاب رؤوس الأموال. وشركاتنا لا زالت استهلاكية وليس صناعية تقنية إنتاجية بمعنى الكلمة، كما أن طموح أصحاب رؤوس الأموال الربح السريع والمريح من خلال ممارسات تجارية تقليدية.
أمَّا الدكتور العجلوني فيقول: السبيل إلى ذلك بتوفير الاحترام لهم وتشجيعهم قبل توفير الإمكانات المادية لهم، أما الحكومات في واقعها الحالي فقد ترى فيهم عبئاً عليها فلا مكان لمبدع لديها، والأفضل لها أن يذهبوا إلى الغرب. أما أصحاب الأموال فيمكن تشجيعهم من خلال تحصيل جزء من أموال الزكاة أو الصدقات للبحث العلمي أو استغلال البحث العلمي لأغراض تحقق لهم ربحاً مادياً وهذا ممكن مما يجعلهم يستثمرون في البحث العلمي بدلاً من الاستثمار في مشاريع لا تحقق ربحاً مادياً إلا لهم، بينما باقي الأمة تخسر.
? وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوَّة:
لعل ما يوجد من تطوير للأسلحة والصواريخ على مدى عدَّة أميال في فلسطين وبعض الدول الإسلامية المحتلة؛ ما يشرح النفس من ناحية التقدُّم العلمي في صناعة الأسلحة، فهل لنقل العلوم التقنية والاستفادة منها أثر في نصرة أمَّة الإسلام؟ ثمَّ ألا يدخل في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ..} [الأنفال: 60]؟ وإمكانيَّة التقدُّم بإمكانات ضعيفة؟ وهل المشكلة عدم وجود الطاقات أم عدم تفعيلها؟
يختلف المشاركون في تشخيص الجواب عن هذه القضية؛ فبينما يرى الدكتور نعمان الخطيب أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود الطاقات، فإنه في المقابل يرى أنَّ المشكلة في عدم تفعيلها، وفي قبالة رأيه يرى الدكتور باسم خفاجي أنَّ المشكلة ليست في عدم وجود طاقات أو حتى في عدم تفعيلها، ويضيف: المشكلة هي في الانتقال من دائرة الضعف إلى دائرة المبادرة، ومن دوائر التقليد إلى دوائر الإبداع. إن الأمة الإسلامية كانت دائماً أمة مبدعة، وما سيرة غزوة الخندق عنا ببعيد. الأمر في المجال العسكري لا يتوقف فقط على الإبداع في صنع السلاح، ولا شك أن هناك حاجة إلى تعلم التقنيات الحديثة في مجالات التسلح، ولكن لا يجب أن نغفل عن السلاح الحقيقي لكسب المعارك، وهو الإرادة والإيمان، ولا ننسى أن الله ـ تعالى ـ قد طلب منا «ما استطعتم» وليس أكثر من ذلك كونه طريقاً للنصر.
? مراكز الأبحاث التقنيَّة.. دورها وتقويمها:
يرى الدكتور المدهون أنَّ مراكز الأبحاث لها أكبر الأثر في دفع التقنيَّة ودعمها، ولكنَّها بحاجة إلى رعاية صانعي القرار، إلاَّ أنَّ مخرجاتها محدودة ومبعثرة ومتباعدة وأحياناً ركيكة.
وبصيغة حزينة يعبِّر الدكتور الخطيب عن رأيه فيقول: مراكز الأبحاث يجب أن يكون لها الدور الأساسي في نقل وتطوير وتقدم التقنية، ولكن هذه المراكز في العالم العربي والإسلامي ـ في الغالب ـ لا تتعدى أن تكون مجرد تسميات واستكمال لهيكلية الجامعات أو الوزارات، والمصاريف الإدارية والبيروقراطية في هذه المراكز تفوق الصرف على دعم البحث العلمي وتشجيعه.
ويحاول الدكتور الضويان أن يوضح الدور المرجوّ والمأمول من مراكز الأبحاث بقوله: لا يكون لمراكز الأبحاث دور مؤثر ما لم يسبقها إرادة وتخطيط وتحديد أهداف ودعم مالي وفني وبشري وتعاون الشركات معها. ودورها ليس مالياً ولكنه تنسيق بين العقول التقنية والمستفيد المالي من ترجمة أفكار هذه العقول.(6/25)
وينهي الدكتور العجلوني الحديث حول هذه الفقرة بقوله عن مراكز الأبحاث: لها دور مهم، ولكن واقع الحال لدينا ـ للأسف ـ أن هذه المراكز لا يختلف حالها عن أحوال الأمة في كثير من المجالات السياسية والاقتصادية، حيث تحكمها النزعة الفردية، وتُدار بواسطة الأصدقاء والمحاسيب، ولهذا لا نرى أيّ مردود حقيقي لمراكز الأبحاث في العالم الإسلامي؛ فمخرجاتها هزيلة، وإنتاجها ركيك، فهل سمعت يوماً أن مركز أبحاث إسلامي طوّر منتجاً؟ أو تبنّى مبدعاً؟ أو هل سمعت بمبدع عربي خرج من هذه المراكز؟!
? لغتنا العربية لم لا تستثمر لترجمة كتب التقنية المهمَّة؟!
كان للدولة الصهيونيَّة دور في الاختراعات والتنمية العلميَّة الصناعية، بل ترجموا في جامعاتهم بلغتهم (العبريَّة) كثيراً مما يحتاجون إلى ترجمته، وكذا كان الوضع في كوريا الجنوبية، فلِمَ لا تُترجم الكتب التي تشرح بعض الأعمال التقنيَّة والتنموية والصناعيَّة إلى اللغة العربية، وخصوصاً أنَّ لغتنا العربية تستوعب بمفرداتها اللغوية شتَّى الفنون؟ وهل اللغة عائق في الإبداع والتطور؟ وهل يمكن للأمة أن تتعلم بلغة غيرها؟
حول هذا الأمر يقول الدكتور الضويان: الدولة الصهيونية دولة مؤسسات، وللفرد كلمته فيها، وهي نموذج مكرر من الدول الغربية الصناعية التقنية، فقياداتها قادمة أو مستنسخة من هناك. والترجمة مع غيرها أحد الوسائل الضرورية لتوطين التقنية، لكنها مبعثرة لدينا بلا تخطيط وتحديد أهداف وتنسيق بين مراكز الترجمة إضافة إلى ضعف الدعم لها. واللغة ليست عائقاً دون امتلاك التقنية، بل إن العربية أقدر على مجاراة التقنية من غيرها، ونؤكد هنا ضرورة تعلم اللغات الأخرى المفيدة للمختصين؛ لضمان استمرار التواصل مع الدول ذات الخبرة حسب المجال المطلوب.
من جهته يقول الدكتور باسم خفاجي: إن اللغة العربية ليست عائقاً أمام التقدم التقني، فلا تكاد تخلو مدينة أمريكية من طبيب سوري بارز، والطب في سورية يدرس باللغة العربية، فاللغة لا تمثل عائقاً أمام المنتصرين، ولكنها دائماً شماعة يلقي عليها المتخاذلون همومهم. إن الإعلاء من شأن اللغة هو عنوان للاستقلال الحقيقي وتعميق للشعور بالانتماء، ودليل على الثقة والرسوخ.
ويختلف الدكتور إيهاب الشاعر مع بعض نقاط السؤال المذكور سلفاً قبل عدَّة سطور، حيث يقول: ما زالت الجامعات المرموقة في الدولة الصهيونية تستخدم اللغة الإنجليزية لغةً علميَّة وليست العبرية. ثمَّ يقول: أنا أظن أن اللغة ليست العائق بل إنَّ الخطَّة تكون في مسارين:
الأول: تعلم اللغات الأجنبية لمواكبة العلم والتقدم.
الثاني: الترجمة للمستويات الدنيا كالثانوية والمعاهد.
وإذا صرنا على مستوى الإنتاج والاختراع والاكتفاء بما نصنع فسنعتمد على لغتنا فقط ونترجم كل شيء يخرج.
وفي ختام الحديث عن هذه النقطة يرى الدكتور العجلوني أنَّ الوقوف في وجه الترجمة إلى العربية واستخدامها في العلوم في وطننا الكبير هو أحد أهم وسائل الغرب في إبقائنا منهزمين ومتخلفين. وقد ساهم الكثير من الدارسين بالخارج في هذا الوقوف؛ لأن تعلمهم للغة الإنجليزية ـ مثلاً ـ يعطيهم ميزة على غيرهم ممن لا يعرفها، وإذا كنا نعرف تميز العلماء والباحثين العراقيين وهؤلاء درسوا مناهجهم الجامعية باللغة العربية، فإننا نعلم أيضاً أن الكثير من أبناء الدول العربية الأخرى يدرسون باللغة الإنجليزية؛ فلا هم أتقنوا لغة ولا هم أحسنوا تعلماً.
? العقول المهاجرة والابتعاث.. بين رأيين:
يبتدئ الدكتور إيهاب الشاعر التحدث عن الخطوات الأساسيَّة للاستفادة من جهود المبتكرين المسلمين في العالم الغربي فيقول: هذا السؤال في منتهى الأهميَّة، حيث تُعدّ هذه الخطوة جوهرية في تنشيط الجو الإبداعي والبحث، ويمكن تنفيذها كما يلي:
1ـ إنشاء جمعيات خاصة لجمع المعلومات عن المبتكرين من المسلمين في العالم الغربي، وعناوينهم ومجالات بحوثهم.
2ـ إنشاء دورات وندوات وورش عمل تجمع بين أهل الاختصاص الواحد دورياً.
3ـ إنشاء جسور وحلقة وصل بين هذه الجمعيات والجامعات أو حكومات الدول العربية والإسلامية.
وعند الحديث عن تقويم ظاهرة الابتعاث للخارج هل أفادت الأمة في قضايا التقنية؟ وما دورها في نقل التقنية؟ وكيف نشجع قدوم وتوطين العقول المهاجرة للعودة لبلادهم وخدمتها؟ يجيب الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار قائلاً: المسلمون في العالمين الغربي والشرقي يتجاوز عدد العلماء فيهم مئات الآلاف الذين قد هربوا من بلادهم إما نتيجة للاضطهاد السياسي أو جرياً وراء توفر إمكانات البحث العلمي. وفي ظل الحجر الشديد على أبناء العالمين العربي والإسلامي في العالم الغربي لم تعد هناك فائدة حقيقية في الابتعاث والبحث العلمي كالشجرة التي لا بد من نموها في أرضها. ونتيجة الابتعاث لعقود طويلة كانت مخيبة للآمال، ويمكننا تشجيعهم بتوفير الإمكانات اللازمة للبحث العلمي.
من ناحيته ينفي الدكتور إيهاب الشاعر أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي والإسلامي حيث يقول: لا يظهر لي أنَّ الابتعاث أفاد العالم العربي بقدر ما أفاد العالم الغربي إلاَّ ما ندر، وذلك للأسباب التي قلناها من أسباب التخلف التي تمنع المبتعثين من الطموح للأحسن.
وحول دور المبتعثين في نقل التقنية إلى العالم الإسلامي يقول الدكتور المدهون: دورهم كبير في نقل التقنية إذا تم إحسان العمل والسير في الطريق إلى منتهاه، ويتم تشجيعهم بالحوافز، والاستقرار السياسي، وبخلق الانتماء، وبالتواصل معهم.
ومن جهته يقول الدكتور الضويان: لا شك أن الابتعاث للخارج له أهميّة كبيرة، فهو وسيلة للانفتاح التقني وتنمية العقول باحتكاكها بالتجارب المتقدمة الأخرى.
ويضيف قائلاً: لكن لا بد من التخطيط له بشكل جيد من خلال تحديد الأهداف والتخصصات المطلوبة ومساهمة الشركات المعنية لنقل الأفكار التقنية وتوطينها. وقد أفاد هذا الابتعاث الأمة من جانب وأضرَّ بها من جانب آخر، ذلك أنها كانت تسير بشكل فوضوي ولا زالت، فالابتعاث للابتعاث أياً كان التخصص والجهة المبتعث إليها، ولذا عادت بعض العقول بفضلات الحضارة الغربية مع الأسف، وبعضها بقمة إبداعات تلك الحضارة لكن دون رعاية جادة من القطاع الحكومي والخاص. ولذا رأت بعض العقول المبتعثة البقاء هناك لمواصلة تحقيق ذاتهم وإبداعاتهم فهاجرت إلى الأبد، ولا أعتقد بالإمكان استرجاع تلك العقول في الظروف المرئية وليس ذلك من المصلحة؛ لأن البشرية ستُحرم من إسهاماتهم التقنية، فلندع الدول الغربية تستثمرهم بما فيه فائدة لازدهار البشرية.
? هل يمكن توطين العقول المبدعة في بلادنا الإسلاميَّة؟
يتحدث الدكتور باسم خَفَاجِي حول هذه القضيَّة قائلاً: إن من المحزن أن قوانين بلداننا العربية لا تزال تنظر إلى استقطاب العقول على أنه (جلب عمالة) من الخارج، ومن ثم يعامل صاحب العقل الراشد كالعامل في بلداننا العربية، وفي المقابل يعامل كالعالم في بلدان الغرب. لذلك لا غرابة في أن الأمة الإسلامية تعاني من استنزاف قدراتها الفكرية التي تهاجر بلا عودة إلى الغرب بحثاً عن فرصة علمية أو اقتصادية أو بحثاً عن تقدير الذات الذي يفتقد إليه كثير من علماء الأمة في بلادهم.(6/26)
ويبدي الدكتور باسم تعجُّبه من حال أوضاع بعض المسؤولين في بلادنا الإسلاميَّة بقوله: أليس من المضحك أن تولي دولة من أكبر دول العالم العربي مسؤولية التعامل مع العلماء المهاجرين بالخارج إلى وزير لا يحمل إلا شهادة الابتدائية في دولة عرفت بأنها من أعرق دول العالم العربي في التعليم. كيف يمكن تفسير أن عالماً حاصلاً على شهادة نوبل يجد مسؤولاً عنه في بلده لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين؟!
ويضيف: استقطاب الطاقات يبدأ من التقدير الحقيقي لها، وليس من امتهانها على أبواب السفارات. إن الولايات المتحدة تفتح ذراعيها لعلماء العالم الإسلامي، وتستثنيهم من كثير من قيود الهجرة، بل وتمنحهم الجنسية الأمريكية لكي تجذبهم إلى الاستقرار في الغرب. ولكننا في العالم العربي لا نسمح للعالم ـ في بعض الدول العربية ـ أن يدخل أبناءه لكي يدرسون في الجامعة نفسها التي يدرِّس هو بها؛ لأنهم من (الأجانب). نرفض أحياناً أن نعطيهم إقامة طويلة المدى في بلداننا الإسلامية؛ لأن القوانين تساوي بينهم وبين كل العمال، ولكننا نتحدث كثيراً أفراداً وجماعات عن تكريم العلم والعلماء، وأن المعلم كاد أن يكون رسولاً، ويسأل الكثير من العلماء العرب والمسلمين أنفسهم في بلادنا: ألا يقرأ هؤلاء قوله ـ تعالى ـ: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]؟!
ويذكر الدكتور المدهون عدة نقاط تساهم في توطين العقول في بلادنا الإسلامية، وهي:
1 ـ التكامل والتوازن يقتضي استيعاب العقول والآلات معاً، وللعقول أولوية.
2 ـ الرعاية المؤسساتية الكاملة.
3 ـ يمكن المساهمة في ذلك من خلال بناء الخطط وبناء المؤسسات.
ومن جهته يؤكد الدكتور الضويان على أهمية توطين العقول الإسلامية في بلدانها، ويشير إلى أنَّ الدول المحترمة تسعى إلى توطين العقول لتوظيفها في دعم عجلة التصنيع وتنمية شعوبها ورفاهيتها، وتستطيع الدول الإسلامية ذلك.
إلاَّ أنَّ الدكتور الضويان تساءل في ختام جوابه بقوله: ولكن الواقع يقول: ماذا ستُقدم هذه الدول لتلك العقول لو هاجرت إليها سوى الكبت والتهميش وتقييد الحريات إضافة إلى الفقر والمرض؟!
وحول تأكيده على أهميَّة جلب العقول وتوطينها يشير الدكتور الخطيب إلى أنَّ الولايات المتحدة استطاعت استقطاب معظم العقول النابهة من العالم الثالث، وأن معظم التطور العلمي والتقدم التكنولوجي في الولايات المتحدة هو ثمرة تلك العقول التي استقطبتها الولايات المتحدة في مدى الأعوام السبعين الماضية منذ بداية الحرب العالمية الثانية، ومعظمها كان من العالمين الإسلامي والعربي.
? كيف نكسر قاعدة التبعية في المجال الاقتصادي؟
التكامل والتعاون الاقتصادي يحمل مؤشرات الانتقال إلى مرحلة الاعتمادية الذاتية، وبذلك نكسر قاعدة التبعية؛ كان هذا جواب الدكتور المدهون عن سؤالنا له عن دور التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية (التجارة البينية).
ومع تأكيد الدكتور الضويان على أهمية التكامل الاقتصادي الذي يصاحبه التكامل البشري والفني بين الدول الإسلامية وعدّه مطلباً ضرورياً لامتلاك التقنية، إلاَّ أنَّه يقول متأسفاً: ولكن مع كل أسف الحاصل بينها نوع من التكامل الأمني؛ لأنها ليست دول مؤسسات تنظر بعين تنمية الشعوب ورفاهيتها.
ويختم الأستاذ الدكتور زغلول النجَّار الجواب عن هذه النقطة بإجابة مستوعبة فيقول: التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية هو أحد وسائل الانتعاش الاقتصادي، والذي بدونه لا يمكن تحقيق أية نهضة علمية. ومن الأمور المخزية أن الدول الإسلامية اعتمدت على الاستيراد من الدول الأخرى بدلاً من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قِبَل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة. وتجدر الإشارة في ذلك إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من (2%) من تجارتها الدولية! وأن هناك أسعاراً خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنوياً في الاستيراد يكفي لإقامة كبرى الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التي يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم. وتكفي الإشارة هنا إلى المبالغ التي دفعت ولا تزال تدفع لاستيراد السيارات والشاحنات والطائرات والأعتدة الحربية.
بهذه الإجابة تكون أجوبة المشاركين في التحقيق قد انتهت، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها، وأن يكون هذا التحقيق قد استكمل دوائر الحديث ومحاوره حول هذا الموضوع الحيوي في هذه الحقبة الزمنية، وأنه كان مفيداً لاستطلاع آراء المختصين فيه، والله ولي التوفيق.
• ملاحظة:
• نشر هذا التحقيق في مجلَّة البيان عدد (238)
================
حقيقة العلمانيين العرب
حامد بن عبدالله العلي
مما يحير المرء في شأن معشر العلمانيين : جماعات الشغب الثقافي ، والتفلت الأخلاقي في العالم العربي :
أن مشاغباتهم تأتي دائما في مغامرات من اللغو الذي لاطائل تحته ، ويحاولون أن يصنعوا من أنفسهم أبطالا للحرية ، من بطولات وهمية ليس من ورائها اختراع نافع ولا نقد بناء ولا كلمة حق أمام سلطان جائر ولا موقف شجاع ينصر فيه المظلوم من الظالم ، فمن أين يريدون أن يصيروا أبطالا ؟ لا أدري .
يقول محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي ( وانه لمما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن تخلو الحضارة العربية الإسلامية مما يشبه تلك الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها العلماء ، علماء الفلك والطبيعيات ، في أوربا بسبب آرائهم العلمية ، ويكفي التذكير بما تعرضت له مؤلفات كبلر من بتر ومنع من طرف لاهوتيي عصره بسبب تأييده لنظرية كوبرنيك الفلكية المبنية على القول بثبات الشمس ودوران الأرض حولها ، عكس ما كان يعتقد قبل 00 أما في الحضارة العربية الإسلامية فعلى الرغم من أن فكرة كروية الأرض ودورانها كانت شائعة كغيرها من الأفكار العلمية المماثلة فإنها لم تثر أية ردود فعل لا من طرف الفقهاء ولا من جانب الحكام ) ص 345 مركز دراسات الوحدة .
وهذه ملحوظة مهمة جدا ، وهي من الأدلة والبراهين القاطعة على أن صراع العلمانيين مع الشريعة الإسلامية في بلادنا العربية ، ليس بسبب الجدل حول موقف الإسلام من التقدم الحضاري ولا العلوم العصرية النافعة ، وهي العلوم التي تدور في فلك دراسة الطبيعة واكتشافها واختراع ما يفيد الإنسان ، وتعتمد على المنهج التجريبي ، لان الشريعة الإسلامية لا تفرض أي تعارض بين الدين وبين هذه العلوم النافعة ـ بعكس ما كانت الكنيسة تفعل في افتراضها هذا التعارض في أوربا قبل الثورة على سلطان الكنيسة ـ بل الشريعة الإسلامية تدعو إلى تلك العلوم وتحض عليها ، وكلما كان العالم ملتزما بالإسلام كان أزكى عقلا فيها ، وأعظم نفعا للناس .
ولهذا لانكاد نجد أحدا في العالم العربي ــ مثلا ــ في مجال هذه العلوم النافعة نصب عداء للدين ، والسبب ببساطة أنه لم ير في الإسلام ما يشكل عائقا أمامه البتة ، وان وقع من أحد منهم مثل هذا العداء فانه بسبب انتماءاته السياسية أو الثقافية الأخرى لا بسبب الاكتشافات النافعة.(6/27)
وانما غالب المعادين للشريعة الإسلامية وللتيار الإسلامي في العالم العربي هم قلة من جماعة (تجار الكلام ) ، جل ما لديهم مجرد الكلام المستمر، الممل والمكرور، في الصحف في السخرية والاستهزاء بالدين وأحكام الشريعة والتباهي بأنهم أصحاب قلم يدافعون عن التقدم والعصرنة.
فإذا فتشت عن عصر نتهم وتقدميتهم وجدتها تدور حول الدفاع عن كاتب طعن في القرآن لا من أجل أنه اكتشف شيئا يحرم القرآن اكتشافه ، بل لان المفكر الحر جدا !! الذي يدافعون عنه اكتشف فجأة أنه لم يرق له الإيمان بالبعث بعد الموت مثلا لانه تربى وهو صغير في مدرسة أجنبية أو تلقى ثقافة ملحدة ، فغرس في قلبه أن الأيمان بالغيبيات هو شيء سخيف لا يناسب الإنسان العصري .
كما تدور حول الدفاع عن حرية بيع كتب عن الجنس الرخيص ، أو أفلام من هذا النوع ، أو احترام رأي يدعو إلى اعتبار الرقص بين الجنسين اكتشاف عصري مذهل يعبر عن تقدم الدولة ، ونحو ذلك من القضايا في هذا المستوى أو دونه ، فلاجرم أن ينصبوا العداء للدين إذن .
وقد أهدروا أوقاتهم في اختلاق صراع مع الدين بلا فائدة ، ويضيعون أوقاتنا معهم في قراءة ما يكتبون والرد عليهم خوفا على ضعفاء الأيمان من شبهاتهم .
أما الاكتشافات العلمية النافعة فلا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ولاحتى يحسنون أن يضيفوا إليها شيئا مفيدا ، أولا لان هذه ليست صنعتهم إذ لو كانت لهم صنعة مفيدة لحجزتهم عن مشكلة الفراغ التي جعلتهم من تجار الكلام .
وثانيا لانهم انشغلوا بشيء آخر ، انشغلوا بمعاداة دينهم متوهمين أنهم أبطال المعركة مع التخلف يقودون الشعب إلى النور والمستقبل ، متخيلين أنهم سينقذون أمتنا من مثل قوى الظلام التي اضطهدت (جاليلو)00 مساكين !
قرأت لواحد منهم ذات مرة مقالا يبكي فيه على العلماء ـ كما زعمهم ـ الذين قتلوا لانهم صرحوا بمعتقدا تهم في غابر التاريخ ، وينادي من قلب يعتصر ألما لإنقاذ الأمة من اضطهاد العلماء والمفكرين ، أتدرون أي علماء يقصد ؟؟ مثل الحلاج والسهر وردي وابن عربي 00 حفنة من الزنادقة والسحرة لم يحسنوا سوى الدعوة إلى الإلحاد ، ويعدونهم طليعة التفكير الحر في التاريخ الإسلامي 00 لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون .
فقلت في نفسي لاتخف أيها المخترع الكبير المضطهد والبطل القومي !!! انك متى قررت أن تكون مثل العلماء من الخوارزمي إلي السموأل في علوم الجبر ، وابن الهيثم في علوم البصريات ، وكل من اشتغل بالنافع من علوم الطب والفلك والجغرافيا 00الخ فلن يمسك سوء ، كما لم يمس أولئك سوء في تاريخ الإسلام كله ، بل كانت الحضارة الإسلامية هي التي احتضنتهم ـ حتى غير المسلمين منهم ـ وهيئت لهم أجواء حرية البحث العلمي ، لكن مصيبتنا معكم أنكم لا تحسنون سوى السخرية من الدين وحجاب المرأة ونحو ذلك وتعدون هذه علومكم الباهرة التي تخافون على أنفسكم من الاضطهاد بسبب اكتشافها؟؟
انهم لا يزيدون على استنساخ التناقض الغربي نفسه الذي صفق لنجيب محفوظ لاكتشافه العظيم !! في رواية (أولاد حارتنا) ، وصفق لنصر أبو زيد لاكتشافاته المذهلة في الاستهزاء باليوم الآخر !! وفعل مثل ذلك لسلمان رشدي ، وسائر الأذناب ، زاعما أنهم مفكرون أحرار ، ثم هذا الغرب نفسه يقتل 6000 طفل عراقي كل شهر بسبب الحصار ، ويسحق بدعمه للكيان الصهيوني شعبا بأكمله ، وينفق على التسلح لإرهاب العالم آلاف المليارات ، ويلقي بمليارات الأطنان من منتجاته الغذائية في المحيطات حفاظا على أسعارها ، بينما تموت شعوب تحت الفقر والجوع والتخلف ، ويدعي مع ذلك أنه العالم الحر المتحضر .
وخلاصة وصفهم أن الغرب أرادهم أحرارا عندما يطعنون في دينهم ، وأرادهم عبيدا له في كل ما سوى ذلك ، فكانوا كما أرادهم في كلا الأمرين ، ثم يتفاخرون علينا متباهين أنهم أبطال الحرية !!
المصدر موقع الشيخ حامد العلى حفظه الله تعالى
=============
{ وقل اعملوا .. }
أ.د. عبدالكريم بكار
خلق الله تعالى الجنة داراً لتكريم أوليائه ، فوفر فيها كل شروط التكريم ؛ وخلق النار داراً لإهانة أعدائه ، فوفر فيها كل شروط الإهانة ؛ وخلق الدنيا داراً لابتلاء الفريقين ، فوفر فيها كل شروط الابتلاء .
إن هذا الدين يعلمنا أن كل ما يحيط بنا في دائرتي الزمان والمكان يمثل بالنسبة لنا ضرورة تتحدانا ، وعلينا أن نعيه ، ونتصرف معه التصرف اللائق بالإنسان المكرم المبتلى .
إن كل لحظة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي لحظة اختبار ، وهي في الوقت ذاته ضرورة تتحدى ، وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً مناسباً ، فإذا لم نستطع تكيف تلك اللحظة مضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا ! وإن التكييف في موازين هذا الدين السمح قد يأخذ في بعض الأحيان صورة اعتبارية محضة ، كما هو الشأن مع الذي يبادر إلى فراشه فيما يتمكن من حضور صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإنه قد كيف كل لحظه نوم بما انطوت عليه سريرته من قصد . وعلى هذا فإن البطالة والنوم - غير المكيف - ضربان من ضروب الفناء والعبودية المكبلة بالأغلال !
إن كل ما حولنا من فكر ومادة وضرورات هي الأخرى تنادي الإنسان المبتلى كي يتحرر من قيودها بتكييفها ؟ إن الفكرة الصحيحة تتحدانا كي نعممها ، وإن الفكرة الخاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها ، وإن الفكرة الغامضة تتحدانا ؛ لننفذ إلى جوهرها ، كما أن الفكرة القاصرة تتحدانا لنطورها .
إن الأرض تتحدانا لنزرعها ، فإذا قبضنا على منتوجها تحدانا هو الآخر كي نصنعه على الوجه الأمثل . إن نديف القطن يتحدى النساجين ، فإذا ما صار قماشاً دخل في طور من التحدي جديد ، فلئن كان النساجون قد تحرروا من قيود النديف فقد وقع الخياطون في ضرورة النسيج إلى أن يحيلوه ثوباً جميلاً . فإذا ما عجزت أمة عن أن تخيط نسيجها بين يديها ، أو تزرع أرضاً خصبة تملكها تحول ذاك وهذا إلى قيود على حريتها ووجودها ، وإن من القيود ما يقتل ، ومنها ما يشل ، ومنها ما يشوه ...
وليس انتقال الإنسان من ضرورة إلى أخرى انتكاساً أو زجاً له في دائرة مغلقة - كما قد يتوهم - فنحن إذ نتردد بين مشكلاتنا وحلولها إنما نمضي في حركة لولبية صاعدة تمنحنا المزيد من الحرية والقدرة والتأنق .
إن كل سلعة مصنعة نستوردها هي عبارة عن ضرورة نطوق بها أعناقنا ، وإن أشد المستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون أكثر إلغاء للعمل عند مستوردها ؛ لأن العمل هو الحرية ، والذي يلغيه يلغي الحرية . ذلك لأن السلعة المصنعة كانت من قبل مادة غفلاً وكان لإمكاننا أن نمارس حريتنا في تصنيعها وتحويلها ، وقد صودرت هذه الحرية حين قام بتشكيلها غيرنا .
وقد أدركت الأمم المتقدمة هذه الحقيقة فتسابقت إلى استيراد المواد الخام ، ووضعت القيود على استيراد السلع المصنعة ؛ فهي لا تبادل الدول الأخرى منها إلا قدراً بقدر حتى تمارس حريتها كاملة ؛ وترى ثمار ما عملته أيديها ..
إن حرية الفرد في المجتمع على قدر عمله ، فإذا ما أخذ من الآخرين أكثر مما يعطيهم فقد من حريته مقدار ما يزيد لهم عنده . وإن أقسى ما يواجهه الحر الكريم أن يرى نفسه غارقاً في عطاء الآخرين دون أن يكون لديه ما يعطيهم ؛ لشعوره بأن ذلك على حساب حريته ، أي : على حساب وجوده ! !
إن العمل هو طريق الخلاص ، وهو طريق تحقيق الذات ؛ ولكن هل كل حركة بركة ، وهل كل عمل هو كسر للقيود وإعتاق للرقاب ؟ ؟(6/28)
لاريب أن الأمر ليس كذلك ، فالسكون في أيام الفتن - مثلاً - خير من الحركة ، ورب حركة متعجلة قصد منها كسب الحرية أدت إلى الرسف في أغلال العبودية سنين طويلة ، ذلك لأن العمل عبارة عن غزو الصورة للمادة ، وإذا ما شكلت مادة ما على صورة خاطئة فإن هذا قد يعني الحرمان منها باعتبارها كماً ، وباعتبارها كيفاً ؛ لأن أشياء كثيرة قد لا تقبل أن تتشكل إلا مرة واحدة ! ! إنه لا بد من توفر شرطين أساسيين في العمل الكريم ، هما الصواب والإخلاص ، أي القوة والأمانة ، أو القدرة والإرادة ، وإن كان بعض الأعمال يعتمد على أحدهما أكثر من اعتمادها على الآخر ؛ فأعمال الآخرة تعتمد على الإخلاص أكثر من اعتمادها على الصواب ، وإن يكن الصواب أساسياً . وأعمال الدنيا تعتمد على الصواب أكثر من اعتمادها على الإخلاص ، فكلما كان الإخلاص أعظم كانت المثوبة أكبر ، وكلما كان الصواب أكبر كان النجاح أكثر ، تلك هي سنة الله .
وتقاس حيوية المجتمع بقدر ما يمور به من حركة الفكر واليد ؛ وعلى هذا الصعيد فقد فجر الإسلام طاقات المسلم على مستوى القيم ، وعلى مستوى الأداء بصورة قل نظيرها في التاريخ ، فشيد المسلمون في قرن من الزمان حضارة زاهرة ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من عشرة قرون ، ثم صارت المجتمعات الإسلامية ، من أقل مجتمعات الأرض حراكاً وعطاء ، فما هو السبب الذي أفضى إلى هذه الحالة المنكورة ؟
في مقاربة أولية للوقوف على جواب هذا التساؤل الكبير ، يمكن أن نقول أولاً : إن ظاهرة كبرى كظاهرة الركود الحضاري أكبر من أن تفسر بعامل واحد ؛ ولكن بإمكاننا أن نسلط الضوء على عامل نحسب أنه كان على جانب كبير من التأثير في هذه الظاهرة ، هذا العامل هو انخفاض مستوى الإيمان بالله - تعالى - أو انخفاض جوهر ذلك الإيمان ، أعني (الصلة بالله تعالى) . حقاً لقد ظلت قيمة الإيمان في أعلى السلم القيمي للمسلمين ، ولكن ذلك وحده غير كاف لإطلاق الطاقات وتوجيهها نحو بؤرة محددة ما لم تتوفر شروط موضوعية في الإيمان نفسه ، وفي البيئة التي يعمل فيها .
وإنما كان ذلك هو السبب في تصورنا ، لأن بنية الثقافة الإسلامية تتمحور داخلها العلاقات حول ثلاثة أقطاب هي : الله - سبحانه - ، الإنسان ، الطبيعة .
وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقات حول قطبين اثنين لكانا : ( الله ، الإنسان ) .
وأما الطبيعة فإنها هامشية نسبياً ما أن وظيفتها تتركز في كونها إحدى الدلائل على وجود الله ، وكونها مجالاً للابتلاء ؛ فالمسلم يكتشفها ويعمرها امتثالاً لأمر الله تعالى ، وهذا على خلاف ما هو مستقر في العقل اليوناني الأوربي الذي تتمحور العلاقات فيه على الإنسان والطبيعة . أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على كشف الطبيعة ، أي إنها تقوم بالوظيفة نفسها التي تقوم بها الطبيعة في الثقافة الإسلامية .
ومن هنا فإن تعامل المسلم مع الطبيعة ليس مباشراً ، ونظرته إليها معيارية قيمة ؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإيمان في صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ويكون عطاؤه الحضاري ، فإذا ما خبا الإيمان في صدره - لسبب من الأسباب - انحبس جهده في البناء الحضاري ، أو فتر . وليس كذلك الشأن عند أهل الحضارة المادية . ولا يكفي أن يتوهج الإيمان في صدور أفراد قليلين في المجتمع الإسلامي لاستئناف مسيرة الحضارة الإسلامية ؛ لأن الحضارة ظاهرة اجتماعيه لا ظاهرة فردية .
ونلمح هذا المعنى شائعاً في الخطاب القرآني كله ؛ فكثيراً ما تفتتح آيات الأوامر والنواهي بـ { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا .. } وكثيراً ما تختتم بـ { إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. } { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. } ؛ تذكيراً بأن الايمان المتألق هو الذي يطلق طاقات المسلم ، ويفعل القيم لديه . ولم تشذ الآية الكريمة التي نحن بصددها عن هذا النسق حيث يقول سبحانه : { وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فقد ربطت العمل برؤية الله تعالى لهذا العمل ومجازاته عليه في الآخرة .
وقد أدى الضعف في فاعلية المسلم وحركته اليومية إلى وجود خلل كبير في حياة المسلمين فصارت بلادهم أفقر بلاد الله ، كما أن نظامهم الرمزي الذي كان في يوم من الأيام أغنى نظم العالم بالأبطال العظام صار اليوم مجدباً على مستوى الكم والكيف ! !
ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل إن الأزمة على صعيد الفعل أدت إلى وجود أزمة خطيرة على صعيد (الفكر) ؛ ذلك لأن العقل عقلان على حد تعبير (لالاند) عقل فاعل ، وعقل سائد . أما العقل الفاعل فهو النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ، وهو الذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ . وأما العقل السائد فهو مجموع القواعد والمبادئ التي نستخدمها في استدلالاتنا . فليس العقل السائد شيئاً غير الثقافة . والعقل الفاعل أشبه شيء بالرحى ، والعقل السائد أشبه شيء بالقمح يلقى فيها ؛ وماذا تصنع رحى لا قمح فيها ؟ ! ومن أين ستأتي الثقافة لأمة لا تحرك يداً ، ولا تبني نموذجاً إلا في نطاق الضرورات إن كل انحباس في حركة اليد سيؤدي الى انحباس في حركة الفكر ، وكل انخفاض في وتيرة الإيمان سيؤدي - لدى المسلم - إلى انخفاض في تردد اليد . فهل كتبنا الحرف الأول في أبجدية البداية ؟
============
الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة
د. مازن صلاح مطبقاني
Mazen_mutabagani@hotmail.com
المقدمة
عرف المسلمون في القديم الكتابة في الأديان والفرق والمذاهب اهتماماً منهم بمعرفة هذه الفرق وبيان موقف الإسلام منها، وحرصاً منهم على الدفاع عن الإسلام كما يعتنقه أهل السنّة والجماعة أو الغالبية العظمى من الأمة. ومن هذه الكتب الفصل في الملل والنحل وكتاب الفرق للبغدادي ومقالات الإسلاميين للأشعري وغيرها كثير.
وظهرت في تاريخ الأمة اتجاهات فكرية كثيرة جداً ومذاهب وطوائف كالشيعة والباطنية والأشاعرة والمعتزلة والمناطقة وغيره ولقد تصدى لها العلماء المسلمون بحثاً في معتقداتها وأفكارها وأعلامها والرد على الانحرافات في تلك المعتقدات دفاعاً عن الكتاب والسنّة.
وظهرت في العصر الحاضر كتابات تحت عنوان الغزو الفكري أو الاتجاهات الفكرية المعاصرة وأصبحت هذه الاتجاهات إحدى المواد الدراسية في المرحلة الجامعية. وقد نال الاستشراق مكانة بارزة ضمن الحديث عن الغزو الفكري وكذلك ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة أو التيارات الفكرية المعاصرة.(6/29)
وتعود بداية الاهتمام بالاستشراق إلى المرحلة التي وقعت فيها معظم البلاد العربية الإسلامية تحت وطأة الاحتلال الغربي وكان للمستشرقين والاستعماريين اهتمام كبير بثقافة الأمة الإسلامية وعقيدتها وتاريخها ومختلف المجالات المعرفية الخاصة بها. كما تولى المستشرقون مسؤوليات وزارات التربية والتعليم فكان لهم اليد الطولى في وضع المناهج الدراسية حتى أصبح التعليم في العالم العربي والإسلامي ينقسم إلى نوعين من التعليم: التعليم الشرعي والتعليم المدني. وظهرت في العالم الإسلامي الحركات التحررية الحقيقية على أيدي العلماء العاملين فكان في الجزائر على سبيل المثال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس فكتب يرد على كثير من افتراءات المستشرقين والمسؤولين الفرنسيين في تهجمهم على الإسلام كما كان يتابع الصحافة الفرنسية حتى إنه كتب ذات مرة ( جريدة الطان وسياسة وخز الدبابيس)
ولكن لم يظهر تخصص أو كتابات متخصصة في الرد على المستشرقين حتى مع وجود بعض الكتابات المحدودة كرد الشيخ محمد عبده على الفيلسوف الفرنسي رينان وهناتو وما كتبه الأستاذ محمد كرد علي وغيرهم عن الاستشراق.
ولعل أول من تنبه إلى أهمية دراسة الاستشراق دراسة منتظمة هو الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي يمكن أن نعدّه بحق رائد دراسة الاستشراق في العصر الحاضر حيث زار المستشرقين في معاقلهم وكلياتهم وجامعاتهم ودخل معهم في محاورات ومناظرات. وكم كتب رحمه الله في مجلته (حضارة الإسلام) كما نشر كتاباً مهماً في هذا المجال يرد على جولدزيهر وهو كتابه ( السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي). الذي صدرت طبعته الأولى عام 1368هـ(1949م) هذا بالإضافة إلى كتابه القيم الصغير حجماً الكبير في أهميته وقيمته العلمية (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم). وبإمكاننا أن نضيف كذلك كتابه القيم عن المرأة بعنوان ( المرأة بين الفقه والقانون) ولعل ممن شارك في الريادة كذلك الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي الذي صدرت طبعته الأولى عام 1376هـ (1957م)
ولكن ما أهمية دراسة الاستشراق وما موقعه بين المذاهب الفكرية المعاصرة؟ صحيح أن الغرب ألغى مصطلح استشراق في المؤتمر الدولي للجمعية الدولية للمستشرقين (عام 1973م) التي أصبحت تسمى " الجمعية الدولية للدراسات الإنسانية حول آسيا وأفريقيا" ثم أصبحت "الجمعية الدولية للدراسات الأسيوية والشمال أفريقية" ، ولكننا في العالم الإسلامي ما نزال نصر على هذا المصطلح. وقد يكون للغرب مبرره في رفض التسمية وللمسلمين مبرّراتهم في الاحتفاظ بهذا الاسم. ومهما يكن الأمر فإننا في العالم الإسلامي نَعُدُّ الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في الغرب) من المواد التي تدرس ضمن مقررات الدراسات الإسلامية بصفته أحد المذاهب الفكرية الهدّامة، ولذلك فإن العديد من الكتب المتخصصة في الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة تجعل الاستشراق أحد هذه المذاهب أو الاتجاهات. وتتناول الاستشراق بصورة نمطية مكررة نشأة الاستشراق، دوافع الاستشراق، وأهدافه، ومدارسه الجغرافية أو الفكرية.
ولكن الحقيقة أن مصطلح استشراق ما زال قائماً في الغرب حتى وإن تخلوا عنه رسمياً فهذه شبكة المعلومات العالمية أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تقدم آلاف المواقع المتخصصة في الاستشراق قديماً وحديثاً. فهم وإن تخلوا عنه في العلن فإنه ما زال قائماً في أدبياتهم وفي نشاطاتهم الفكرية المعاصرة.
فهل الاستشراق حقاً أحد المذاهب الفكرية أو الاتجاهات الفكرية ؟ وهل ينطبق على الاستشراق ما ينطبق على الوجودية أو الماركسية أو العولمة أو الماسونية ؟ هل يمكن البحث في الاستشراق بعيداً عن مثل هذا التصنيف ؟وهل يمكن البحث فيه دون الأفكار المسبقة بأن الاستشراق شر كله؟
ينوي الباحث في هذا البحث محاولة التوصل إلى أسباب تصنيف الاستشراق ضمن الأفكار الهدّامة بهدف الخروج من الأفكار المسبقة محاولاً التوصل إلى جعل الاستشراق ضمن دراسة الغرب دراسة شاملة بحيث لا تأخذ دراستنا لهم في مجال الدراسات العربية الإسلامية أكثر مما يجب. ويمكن أن نتساءل هل يشغل الغرب نفسه بما نقوله عنه ،وهل جعل لهذا الأمر أقساماً علمية ؟
وينبغي أن ندرك أنّ الدراسات العربية الإسلامية في الغرب تستمد قوتها وانتشارها من خلال الإمكانات الضخمة المتوفرة لها التي تكفل لها الانتشار في أنحاء العالم ، فرابطة دراسات الشرق الأوسط الأمريكية تضم آلاف الباحثين من شتى أقطار الأرض، فهل نسعى نحن في العالم الإسلامي إلى دراسة أنفسنا وتكوين الرابطات المتخصصة في ذلك ويكون لنا يد في توجيهها الوجهة التي توضح الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين مع اعتبار أن دراسة الإسلام والمسلمين حق من حقوق أي شعب يريد أن يقوم بهذه الدراسة.
هذا وسوف ينقسم هذا البحث إلى مبحثين أحدهما موقف العلماء المسلمين في كتاباتهم حول الغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة من الاستشراق. أما المبحث الثاني فهو أين يجب أن تقع دراسة الاستشراق في العصر الحاضر.
المبحث الأول
الاستشراق والغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة
يمكننا أن نبدأ بتعريف التيارات الفكرية المعاصرة بأنها المذاهب التي يتخذها مجموعة من الناس ويعتنقوها ويسعون إلى نشرها وترويجها بكل الوسائل المتاحة لهم. ولهذه المذاهب أدبياتها وأعلامها ومصادرها ومناهجها. وقد تكون هذه التيارات فلسفية أو اجتماعية أو دينية. ولعل من المذاهب الفكرية المعاصرة التي اتفقت معظم الكتب في دراستها الوجودية والبهائية والقاديانية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية. ولهذه المذاهب أعلامها الذين لا يمكن فهمها إلاّ من خلال سيرهم ( كما فعل العقاد بالشيوعية) وكتاباتهم ونشاطاتهم.
وقبل أن نحدد فيما إذا كان الاستشراق أحد المذاهب الفكرية المعاصرة نتناول أولاً بعض ما كتبه عدد من الباحثين المسلمين حول الاستشراق. وقد وجدت أن جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية حينما عقدت مؤتمراً حول الفقه الإسلامي عام 1396هـ جعلت محوراً من محاوره الغزو الفكري ونشرت هذه البحوث في كتاب تحت عنوان (الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ) وقد جاء الحديث عن الاستشراق في أكثر من بحث حيث جاء في أحدها قول الباحث عن الدراسات الاستشراقية بأنها " دراسات في كثير من نواحيها تتميز بالصبر والجلد ومحاولة الاستيعاب والتحليل، ولكنها في نفس الوقت تحتوي على أخطاء جسيمة : عمداً أو جهلاً ثم هي في غالبها لم يقصد بها خدمة العلم والفكر، ولإشباع رغبة خاصة أو عامة في البحث والاطلاع، وإنما كانت في جملتها خدمة مباشرة للدول الاستعمارية أو للكنائس الأوروبية، بغرض تطويق الإسلام وضربه على وعي به وبصر به واقتلاع جوهره الحي النابض الذي يشكل أكبر الأخطار بالنسبة لهم."(1)(6/30)
ويضيف الباحث قائلاً: "ومن ثم حفلت هذه الدراسات بضروب التشكيك، والنقد الجائر ، وانطلقت منها الشبهات المدروسة واحدة تلو الأخرى، طعناً في كل نواحي الإسلام بدءاً بالقرآن العظيم ذاته، وانتهاءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورواتها وما بين ذلك من اتهام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكمس لكل معالم المجد والخير في التاريخ الإسلامي المشرق، حتى لنستطيع القول أنه لم تسلم ناحية واحدة من نواحي الإسلام: عقيدة ومنهجاً ونظاماً وتطبيقاً وتاريخاً وأمة بل أرسلت عليها سهام حاقدة من هذه الدراسات المنظمة..." (2)
وكتب عبد الكريم الخطيب في بحثه المقدم للمؤتمر السالف الذكر يذكر أن الاستشراق "حركة ولدت في هذا العصر الحديث ، وهي – في ظاهرها- حركة علمية يراد بها دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه، ولكنها تبغي من وراء هذا التعرف على منابع هذا التراث، محاولة صرف أهله عنه ليولوا وجوههم شطر الغرب ويتعلقوا بركاب حضارته."(3) ويشير فيما بعد إلى أن معظم المستشرقين " قد غلبتهم العصبية على أن يقولوا كلمة الحق وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد، فقد كابروا ، ولجّوا في الضلال، ورموا الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وما تنفث أقلامهم من سم، حتى فضح ذلك عند من لا يعرفون الإسلام من قومهم حين رأوا سباباً وشتائم لا تتفق مع منهج العلم، الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، ويترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة الحقد ، ونفثات عداوته.."(4)
وكتب أحمد بشير حول " الغزو الفكري الاستشراقي" حيث ذكر أن أهداف الاستشراق تتلخص فيما يأتي:
” 1 - تفتيت وحدة المسلمين وإضعافها.
2. التمهيد لاستعمار العالم الإسلامي
3. استغلال الثروات والانتقام من المسلمين الذين قاموا في القرون الوسطى في وجه المسيحية" . ويضيف قائلاً :" وإننا لنجد في دراسات المستشرقين الأدبية والإسلامية تركيزاً حول أهدافهم لإيجاد التخاذل الروحي والشعور بالنقص في نفوس المسلمين وحمهلم على الخضوع للتوجيهات الغربية."(5)
وتناولت الدكتورة عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) هذا الموضوع بأسلوب مختلف حيث جاء في كتابها القيم (تراثنا بين ماض وحاضر) عن المستشرقين قولها (وعلماء الاستشراق بشر مثلنا، يتعصبون لدينهم وقومياتهم مثلما نتعصب لديننا وقوميتنا . وما ينبغي أن نلومهم على هذا التعصب أو نغضب لعجزهم عن التجرد من أهوائهم، وإنما نحن هنا بصدد قضية علمية وتاريخية، تلزمنا بأن نكون على وعي بما لابس عمل أكثر المستشرقين من انحراف لم يكن منه بد، بحكم ما استهدف الاستشراق في نشأته الأولى من خدمة الكنيسة."(6)
وتضيف المؤلفة قولها:" وليس عليهم بأس في أن يقولوا فينا ما يقولون، متى كانت أقوالهم معبرة عن رأي لهم أو صدى لاستهوائهم بما راج في بيئاتهم من أقاويل عنّا، لكن البأس كل البأس أن يحمل " البحث العلمي" وزر هذه الأهواء فتخرج بحوث لهم مشحونة بأباطيل يزعمون أنها مما هدى إليه استقراؤهم لتراثنا، ويفرضون له حرمة علمية حين يسوقون وشواهد من نصوص في التراث انحرف بها الهوى والتعصب، فضلوا ضلالاً بعيداً".(7)
ولعل نموذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن لا يتكرر في محاولة الفهم العميق للاستشراق والاعتذار عنهم بأنهم يخدمون أهدافهم القومية والدينية فنعود إلى كتّاب آخرين فنحد باحثاً آخر يرجع نشأة الاستشراق إلى الحروب الصليبية فيذكر أن من أخطر نتائجها " الحرب العلمية والفكرية التي شنّها المستشرقون على المسلمين وظهور عدد من تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم من المسلمين ممن أخذوا يرددون آراءهم ويروجون لمفترياتهم."(8)
وتظهر الحماسة في كتابة الشيخ محمد الغزالي وكيف لا وهو في معرض الدفاع عن الشريعة ضد مطاعن المستشرقين( وهذا عنوان كتابه) فيكتب قائلاً :"إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث ، وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرين لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه."(9) ويزيد الأمر توضيحاً عند حديثه عن المستشرقين الأمريكيين بقوله:"والأمريكيون منذ دخلوا ميدان التبشير والاستشراق زادوا القوى المناوئة للإسلام شراسة وإصراراً وأمدوها بسيل موصول من المال والرجال فهي لا تني تواصل هجومها العلمي والعملي ودعايتها الماهرة ، ونحن نعرف أن من حق غيرنا التمسك بدينه والدعوة إليه واستقبال الداخلين فيه ، إلاّ أننا نقيّد هذا الحق بشرط واحد أن يكون بوسائل شرعية وصريحة. أما اختلاس عقائد الآخرين بالرغبة، أو الرهبة ، واستباحة الغش والكذب والمكر والرشوة فذلك ما نقف له بالمرصاد."(10)
ويعد باحث مسلم يعيش في بريطانيا الاستشراق ضمن القوى التي حاولت تدمير حضارات الأمم الشرقية بقوله:" ويجب أن نتذكر بأن الاستشراق لم يكن هو الاتجاه الوحيد الذي حاول أن يدمر حضارات الأمم الشرقية فهناك مجال آخر تعاون تعاوناً شديداً مع الاستشراق لخدمة الأهداف الاستعمارية ألا وهو علم الإنسان الذي غدا ابناً آخر للإمبريالية."(11)
ولم يغفل الباحثون المسلمون نظرة الغربيين لهذا المجال المعرفي فذكر محمد أحمد دياب أن الاستشراق "علم له أصوله ومقوماته وخططه وأهدافه ، ولا ننكر ما قام به المشتغلون به من بحوث ودراسات في الميادين العلمية المختلفة وفي العلوم الإسلامية بخاصة كانت بحق لها دورها الإيجابي وقيمتها العلمية كما كان لها أيضاً دورها السلبي."(12) ولكنه مع ذلك يرى أن " علم الاستشراق إنما هو حرب الكلمة التي شنها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي منذ القرن الثامن عشر وما زال يستخدمها ضدنا حتى الآن ، وإن لبست أثواباً مختلفة على مر العصور تحت شعار الموضوعية والمنهجية كي يحقق أهدافه."(13)
ويتنبه دياب إلى نظرة الغربيين أنفسهم إلى هذا المجال فيذكر أنه عندهم "مادة علمية معترف بها عالمياً ويكاد يكون ممثلاً في كل جامعة من الجامعات الغربية مع وجود أعداد كبيرة من الكوادر التخصصية في الميادين الاستشراقية."(14)
وكما ذكرنا أن الاستشراق عند كثير من الباحثين المسلمين إنما هو أسلوب من أساليب الغزو الفكري فقد كتب محمد عبد الفتاح عليان حول ذلك قائلاً:" ومن بين أساليب الغزو الفكري كان الاستشراق مغلفاً خطورته بشكل علمي واضعاً سمّه في عسل المنهج، والجديد فيه، غير أن خلق المسلم يقتضينا أن نقرر أن استغلال الاستعمار للاستشراق ليس معناه أن الاستشراق كله جملة وتفصيلاً دار في هذا الفلك، إذ لم نعدم من أدى به إنصافه إلى بيان الحقيقة ، ولئن كان هؤلاء قد نقلوا من حقيقة الحضارة الإسلامية أصالتها وأفادوا بها الغرب في نهضته فإن هذا قد اعترف به منصفون منهم وإن قلّوا."(15)(6/31)
ويتناول عدنان الوزان الاستشراق على أنه اتجاه فكري يعني بدارسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة ودراسة حضارة الإسلام بصفة خاصة.كما يتناوله من ناحية أهداف الاستشراق حيث يرى أن الاستشراق انطلق من فكرة واحدة إنما هي فكرة الغزو الاستعماري والعقائدي " بقصد التمكين للحضارة الغربية المسيحية المادية من السيطرة على الحضارة الإسلامية وإلغاء دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية وتشكيك المسلمين بدينهم ومحاولة إبعادهم وغيرهم عنه."(16) ويؤكد الوزان هذا الأمر في مواقع أخرى من كتابه حيث يقول في موضع آخر:" إن من أهداف المستشرقين الوقوف في وجه الشعوب التي لا تدين بالإسلام ليمنعوهم من الدخول في دين الحق الدين الإسلامي بما يعملون جاهدين في تشويه الإسلام وتغيير الصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف وإن إظهار الإسلام بصورة محرفة مستكرهة أمام الشعوب غير المسلمة بقصد صدهم عن سبيل الله وما نزل من الحق."(17)
ولئن كانت الكتابات السابقة ركزت على الجوانب السلبية في الاستشراق لأنها رأت أن الدراسات الاستشراقية التقليدية التي يرى البعض أنها بدأت بمدرسة اللغات الشرقية الحية التي أسست في باريس عام 1795 وترأسها في البداية المستشرق الفرنسي المشهور سلفستر دي ساسي ولم يعرفوا من الاستشراق أكثر من كتابات جولدزيهر وشاخت ومارجليوث ولامانس وغيرهم من كبار الباحثين الغربيين في الدراسات الإسلامية فإن رد الفعل اتسم في كثير من الأحيان بالحدة والقسوة والعنف. ولعل ذلك حق لهم حيث إن العقيدة والهوية هما أهم ما يملك الإنسان فكيف يرضى أن يسكت على الطعن فيهما. ولذلك قال عدنان الوزان:" وأيقنت أن ما كتب ضد هؤلاء المستشرقين إنما هو حق ، ولا أحد يلومنا إذا عزمنا على مقاومة هؤلاء المستشرقين وأخرجناهم من مكانتهم وأزحنا الأغشية التي يلفونها على وجوههم ومنازلتهم منازلة الند للند في ميدان الجدل العلمي والمناظرة الموضوعية."(18)
ومن خلال دراسة كتابات العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو تأثروا بالمناهج الفكرية الغربية فإن الاستشراق وإن كان لا يمكن تصنيفه ضمن المذاهب الفكرية كالماسونية أو الوجودية أو الشيوعية ولكنه اتجاه فكري معين يعتمد على الأسس الفكرية الغربية والمسلمات الغربية. فالغربي الذي مرّ بمرحلة " التنوير" الغربية التي دعت إلى الفصل بين الدين والحياة أو العلمانية بأوسع معانيها، الغرب الذي حارب ما يسمى بالمقدس فأخذوا يناقشون كتبهم المقدسة ويخضعونها للتحليل والنقد، كما أن هذا الغرب الذي ظهرت فيه التيارات الفكرية التي تسمى الحداثة وما بعد الحداثة وانعكست هذه الأفكار والتيارات على الدراسات العربية الإسلامية فإنه أقرب إلى أن يكون اتجاه فكري معاصر يصلح أن يدرس ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة.
ومما يؤيد هذا الأمر أنه ظهر عدد من الكتاب في العالم العربي لا يرون في التاريخ الإسلامي إلاّ سلسلة من الدكتاتوريات الحاكمة وأن العالم الإسلامي لم يعرف الحكم العادل فهم قد أخذوا عن المستشرقين النظرة السلبية للتاريخ الإسلامي ولو أنهم نظروا بعين العدل والإنصاف لهذا التاريخ لرأوا أن الأمة الإسلامية رغم بعض الصفحات المظلمة في تاريخها شأنها شأن أي أمة عظيمة إلاّ أن المواطن المسلم كان عزيزاً وتمتع بكرامته الإنسانية إلى أبعد حد وإلاّ فكيف ظهرت هذه الإبداعات العلمية التي ما زلنا لم نكشف كل كنوزها. كيف استطاع المسلمون أن يبنوا حضارة سامقة وهم كما تصورهم الكتابات الاستشراقية أو المتأثرة بالروح الاستشراقية مجموعة من المواطنين الذين يخضعون لحكام جبابرة كالحجاج أو غيره. ولعل من الطرائف أن تخصص كاتبة في مجلة سيّارة مقالتين أو أكثر للشعراء السود ومأساتهم –كما تزعم- لتخرج من هذين المقالين أن الإسلام الذي حرم العنصرية نظرياً فإن المجتمع المسلم ظل عنصرياً قلباً وقالباً.
المبحث الثاني
مكانة دراسة الاستشراق في العصر الحاضر
معرفة الآخر أمر نبه إليه القرآن الكريم في أكثر من موضع حيث أكد على أهمية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) كما أكد على أهمية الدعوة إلى الله وأوضح القرآن الكريم عقائد الأمم الأخرى وبخاصة أهل الكتاب فبين ما هم عليه من اعتقادات وسلوك. كما بيّن معتقدات المشركين وسلوكهم وأخلاقهم. وفي هذا إشارة قوية إلى أهمية معرفة الآخر حتى يستطيع أن يدعو المسلم إلى ربه على بصيرة كما جاء في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)
وقد أدرك علماء المسلمين منذ القرون الأولى أهمية معرفة الأمم والشعوب الأخرى ليس فقط من النواحي العقدية ولكن أيضاً من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وتعرفوا إلى الحضارات الأخرى وأخذوا منها ما ناسبهم وتركوا ما خالفهم. وكان من أهم الكتابات في المجالات العقدية ما كتبه ابن حزم في الملل والنحل وما كتبه البغدادي في الفرق وما كتبه الأشعري في مقالات الإسلاميين وما كتبه بعد ذلك ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم وغيره وما كتبه ابن قيم الجوزية كذلك. ويمكن أن نضيف إلى هذه الكتابات ما كتبه الجغرافيون العرب في وصف البلدان المختلفة.
ولما كان العصر الحاضر وبدأ احتكاك المسلمين بالاستشراق من خلال بدأ البعثات العلمية إلى دول أوروبا المختلفة والتي بدأت في فرنسا ثم غيرها من الدول الأوروبية ثم جاء العصر الحاضر وانطلقت البعثات إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتجمع مئات الآلاف من الطلاب العرب والمسلمين هناك. كما كان للاحتلال الأجنبي لديار المسلمين دور في التعرف إلى الاستشراق وكتابات المستشرقين حول الإسلام والمسلمين.
ولكن دراسة الاستشراق بدأت من علماء الشريعة المسلمين الذين أخذوا على عاتقهم الذب عن هذا الدين فكان زعماء الحركات الإصلاحية وأعلام العلماء المسلمين هم الذين تصدوا للهجمة الاستشراقية على عقيدة هذه الأمة وتاريخها وتراثها الفكري والثقافي والحضاري. وبرز من هؤلاء كثير منهم الدكتور مصطفى السباعي ومحمد البهي وعبد الحميد بن باديس وغيرهم كثير.
وقبل حوالي عشرين سنة ظهر كتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق فكان هذا إيذاناً بأن ثمة آخرون من خارج العلوم الشرعية يمكن أن يكتبوا في نقد الاستشراق والتعرف إليه عن قرب. فأحدث كتاب إدوارد سعيد ضجة في الغرب كما تناوله علماء المسلمين بالدراسة والنقد. فأصبح من اللافت للانتباه أن دارسة الاستشراق لم تعد مقتصرة على علماء الشريعة والدراسات الإسلامية المختلفة كالفقه والحديث والتفسير واللغة العربية فقد انضم إلى هؤلاء في السنوات الماضية أساتذة في مجال اللغة الإنجليزية وعلم الاجتماع والاتصالات والعلوم السياسية. ولعل أبرز من كتب حول الاستشراق من خارج التخصص في الدراسات الإسلامية إدوارد سعيد المتخصص في الأدب الإنجليزي المقارن. وهذا كتاب عدنان الوزان كذلك وهو متخصص في اللغة الإنجليزية، كما كتب عن الاستشراق الدكتور أبو بكر باقادر وهو متخصص في علم الاجتماع، أما في العلوم السياسية والإعلام فقد كتب الدكتور جمال الشلبي عدة بحوث تناول فيها الاستشراق المعاصر(19).(6/32)
وقد وجه النقد إلى الكتابات الإسلامية بأنها تنطلق من العداء للاستشراق كما في كتابات أنور الجندي أو بعض الكتابات الأزهرية أو غيرها كتلك التي أشرنا إليها في بداية الموضوع. وقد أفاض فؤاد زكريا في نقد ما أسماه الاتجاه الديني في نقد الاستشراق حتى إنه أخذ على بعض الباحثين "الإسلاميين" أنهم لا يعرفون التوثيق العلمي في كتاباتهم أو أن أمانتهم العلمية ليست كما ينبغي. وقد يكون محقاً في بعض هذا النقد. ولكن الحقيقة أن علماء الشريعة المسلمين من المفترض أنهم ينطلقون في نقدهم للاستشراق أو للغرب عموماً من قوله تعالى (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله)
كما أن السيد محمد الشاهد تناول هذه القضية في بحث له حول نقد الاستشراق في الكتابات الإسلامية المعاصرة ولعله أضاف إن كثيراً من الكتابات التي تتناول الاستشراق لا تعرف من الاستشراق إلاّ بعض الكتابات القليلة للمستشرقين التي تمت ترجمتها إلى اللغات الإسلامية فتأتي كتاباتهم نقلاً عن بعضهم البعض. فما أكثر الكتابات التي انتقدت جولدزيهر ومعظمها إن لم يكن كلها تنتقد ما ترجم لهذا المستشرق للغة العربية أما ما ترجم له إلى اللغة الإنجليزية أم ما كتبه في لغته الأصلية فإن هذه الكتابات لا تكاد تكون موجودة. كما انتقد هؤلاء في عدم معرفتهم بجهود المستشرقين المعاصرين في التعريف بالإسلام ونقد النصرانية وضرب كثيراً من الأمثلة على ذلك من الاستشراق الألماني المعاصر. وللدكتور قاسم السامرائي ملاحظات شبيهة بحكم احتكاكه بالاستشراق الهولندي ومعرفته بهم معرفة وثيقة.
ولعل الكتابات في العصر الحاضر تناولت العلاقة بين الإسلام والغرب أو العالم العربي والغرب وبخاصة في ضوء ازدياد قوة وسائل الإعلام وانتشار نفوذها حتى أصبحت كما ذكر الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش في كتابه القيم ( الإسلام بين الشرق والغرب) أكثر خطورة من الدكتاتوريات السابقة لقدرته الطاغية على التأثير في الجماهير. ولعل هذا ما يفسر لنا دخول علماء السياسية والاتصال لهذا المجال الحيوي. فهذا غسان سلامة ( المتخصص في العلوم السياسية ) يرى أن انتشار مراكز البحث والمعاهد وأقسام الدراسات الشرق أوسطية والمكتبات إنما هي " نوع من الامتداد الطبيعي والمنطقي لظاهرة الاستشراق وأطلق عليها "مرحلة الاستشراق الجديدة."(20)
ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح في أي مجال من مجالات المعرفة ينبغي أن ندرس الاستشراق؟ وهل الاستشراق شيء واحد أو إنه متعدد؟ الحقيقة إن الاستشراق لم يعد شيئاً واحداً من ناحية الدراسة والتخصص فقد توزعت اهتمامات المستشرقين القدماء إلى عشرات التخصصات حيث أصبحت دراسة الإسلام والعالم الإسلامي تتم من خلال أقسام الاجتماع والجغرافيا والتاريخ وعلم الإنسان والأديان ومن خلال أقسام دراسات المناطق والدراسات الإقليمية وغيرها من الأقسام.
فبالرغم من تعدد الأقسام التي تدرس العالم الإسلامي وقضاياه لكن كثيراً من الجامعات تحافظ على وجود قسم دراسات الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط للتنسيق فيما بينها وكأنه الرابط الأخير بالدراسات الاستشراقية القديمة والتي يتم فيها دراسة كتابات المستشرقين التقليديين مثل بروكلمان وجولدزيهر وشاخت وبوزوورث وبرنارد لويس وغيرهم. وفي هذه الأقسام يتم تسجيل رسائل الدراسات العليا كما يحدث في كل من جامعة برنستون وجامعة كولومبيا وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وفي جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس.
وقد أصبح يشارك الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية مراكز البحوث والمعاهد المتخصصة في دراسة الشرق الأوسط وهذه وإن لم تكن أكاديمية في مناهجها ولكنها تستعين بالأكاديميين أو إن الأكاديميين هم الذين يقومون بالعمل فيها وإدارتها. وإن كانت بعض المعاهد تستعين بالسياسيين أو الدبلوماسيين القدامى مثل معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة أو معهد دراسات الشرق الأدنى في واشنطن أيضاً.
والسؤال كيف ندرس الاستشراق هل هو اتجاه فكري يتم دراسته من خلال أقسام كليات الشريعة واللغة العربية والعلوم الاجتماعية أو يمكن أن نفرد دراسة الاستشراق من خلال كليات يمكن أن نطلق عليها كليات الدراسات الأوروبية والأمريكية؟ ما دام الاستشراق قد انتقل من الوضع القديم إلى وضع أصبح فيه يتناول العالم الإسلامي من جميع الجوانب ويستخدم مناهج البحث الخاصة بالعلوم المختلفة كالعلوم الاجتماعية وعلوم الاتصال وعلوم اللغة وغيرها. وما دام الباحث الغربي الذي ينطلق لدراسة العالم الإسلامي إنما هو ابن بيئته ولا يختلف تكوينه الفكري والمنهجي عن أي أكاديمي غربي في أي مجال من المجالات المختلفة.
ولذلك فإن المطلوب في مواجهة الهجمة الاستشراقية أن نعرف الغرب معرفة دقيقة في جميع جوانب الحياة فلا بد أن يتم دراسة الغرب في أقسام علم الاجتماع والتاريخ واللغة وعلم النفس والاتصال وقد حضرت مؤتمراً في عمّان (10-12 أبريل 2000م) حول العلاقات العربية الأمريكية وقد تناول عدد من الباحثين صورة العرب والمسلمين في الإعلام الأمريكي ولكنهم لم يتعمقوا في فهم هذا الإعلام وعلاقته بالحكومة الأمريكية وهل تستطيع الحكومة الأمريكية التأثير في وسائل الإعلام. فقد فعلت هذا الأمر في حرب الخليج الثانية حيث أصرت على أن تكون أخبار هذه الحرب صادرة عن غرفة عمليات تابعة للقوات الأمريكية أو قوات الحلفاء. ولم تشر أي من الأوراق المقدمة لارتباط الحكومة الأمريكية بعقود تسلح مع عدد من كبريات الشركات الأمريكية التي تمتلك بعض كبريات وسائل الإعلام الأمريكية كما أشار مؤلفا كتاب( مصادر غير موثوقة.)(21)
ولتكن البداية في دراسة الاستشراق في العصر الحاضر أن ينطلق الباحث المسلم بمعرفة الإسلام معرفة حقيقية من مصادره الأصلية فيعرف كيف دوّن القرآن الكريم وكيف دوّن الحديث الشريف وما مصطلح الحديث كما عليه أن يعرف أساسيات الإسلام وثوابته الكبرى كما لا يمنع أن يعرف بعض التفاصيل في الفقه والحديث والتفسير واللغة فكيف يمكن لنا أن ننتقد الكتابات الغربية حول الإسلام والمسلمين ونحن لا نعرف إسلامنا معرفة أصيلة.
أما الأمر الثاني فعلينا أن نعرف اللغات الأوروبية معرفة تمكننا من قراءة ما كتبه الغربيون بلغاته الأصلية حتى نستطيع أن نفهم فهماً دقيقاً ما قالوه فلا نقع في التأويل والتفسير بدون أساس علمي صحيح. وعلينا أن نفهم المجتمعات الغربية ذلك أن الباحثين الغربيين في قضايا العالم الإسلامي إنما هم نتاج بيئتهم وإن كثيراً من القضايا التي ينتقدون فيها الإسلام إنما هم أولى بنقد أنفسهم فيها. ويحضرني في هذه المناسبة حواراً رواه منصر بينه وبين أحد المغاربة حيث قال المغربي للمنصّر لماذا تأتوننا تدعوننا للأخلاق والإيمان بالمسيح أليس من الأولى أن تدعوا بني قومكم لمنع الانحرافات الأخلاقية وشرب الخمور وغير ذلك من المعاصي؟
ولعل الدراسة الصحيحة للاستشراق أن لا تتوقف معرفتنا بما يدور في الأوساط العلمية في الغرب عن طريق قراءة بعض الإنتاج العلمي فلا بد أن يكون لنا وجود فاعل في المؤتمرات والندوات وأن نشارك في الإصدارات العلمية باللغات الأوروبية المختلفة. فكم مادة تدرس في الجامعات الغربية باسم مدخل إلى الدين الإسلامي ويكون الكتاب المنهجي في هذه المادة كتبه مسلم باللغات الأوروبية؟
الخاتمة(6/33)
من الصعب تصنيف الاستشراق ضمن المذاهب الفكرية المعاصرة كالماسونية والبهائية أو غيرها رغم أن الموسوعات التي تصدر في العالم الإسلامي تصنفه ضمن هذا التصنيف كما أنها تصنفه ضمن وسائل الغزو الفكري. ولا بد أن لهذا الرأي بعض الوجاهة ولكن الحقيقة أن الاستشراق يمكن أن يشكل تياراً فكرياً في جميع مجالات الحياة في العقيدة وفي اللغة وفي التاريخ وفي الاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد. حتى إن كثيراً من الذين يكتبون في العالم العربي لا يختلفون في منطلقاتهم عن الكتابات الغربية. ولعل من هذه التأثيرات أن وسائل الإعلام العربية تطلق باستمرار على الحركات الإسلامية أو الإسلاميين مصطلح الأصوليين أو الأصولية الإسلامية أو المتشددين وكأن وسائل الإعلام العربية الإسلامية إنما هي مرآة تعكس ما تكتبه الصحف ووسائل الإعلام الغربية.
ويمكننا أن نضيف إن ما قدمته السينما العربية لمحاربة الثوابت الإسلامية في الأسرة والأخلاق يتفوق بمئات المرات ما قدمته وسائل الإعلام الغربية فإن الأفلام الأمريكية مثلاً وبخاصة التي لا تترجم- قبل أن تظهر الشو تايم (Show Time )التي تعتز بأنها تستطيع أن تنقل إلينا الفكرة والصورة معاً واستطاعت أن تتغلب على موضوع صعوبة قراءة الترجمة- لا يعد شيئاً مذكوراً مقابل ما قدمته السينما العربية أو وسائل الإعلام العربية الإسلامية من تشويه حقيقة الإسلام ومسلماته. ومن الموضوعات الأثيرة في وسائل الإعلام هذه موقف الإسلام من المرأة أو حقوقها، وكذلك قضية الإسلام والسياسة والعلمنة.
إننا بحاجة إلى أن نعرف الاستشراق القديم وكذلك الدراسات العربية والإسلامية والدراسات الإقليمية أو دراسات المناطق الموجودة في الغرب في الوقت الحاضر، ونحن بحاجة أكثر إلى أن نعرف الغرب معرفة وثيقة حتى نستطيع أن نحافظ على هويتنا في وجه التيارات الفكرية التي تستطيع وسائل الإعلام الغربية نشرها بما لديها من أجهزة قوية وإمكانات ضخمة.
فلعلنا في المستقبل لا تتوقف جهودنا على حضور المؤتمرات والندوات التي تعقد للحديث عن العالم العربي والإسلامي وقضاياه بل نشارك معهم في مؤتمراتهم وندواتهم التي تخص المجتمعات الغربية فنقدم لهم الاقتراحات والحلول فنكون بذلك قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة في نقل الإسلام من الوضع الدفاعي إلى الوضع الذي جاء من أجله الإسلام ( ليخرج الله به من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.) فهل نحن فاعلون والحمد لله رب العالمين
==============
الدولة الأموية نموذجا لتشويه التاريخ الإسلامي
بقلم / أسامة إبراهيم سعد الدين
محمد جلال القصاص
ادعى بعض المؤرخين أن بني أمية أرهقوا البلاد وظلموا العباد ، وهذا الإدعاء من جملة اللغط الكثير الذي أثير حول بني أميه ، وفيه مبالغة شديدة .
ولعل بعضهم قد قارن بين خلافتهم وبين الخلافتين الراشدة والعباسية فظنوا أنها لم تقدم أي تطور للحياة الإسلامية بمفهومها الحضاري ، غير تلك الفتوحات التي امتدت شرقا وغربا .
وبالغ بعض مؤرخينا المعاصرين والمتأثرين بالنظرة الاستشراقية في تفسير أحداث التاريخ الإسلامي فاعتبروها دولة مغتصبة للخلافة ، مَتوقة للزعامة ، قامت دعائمها قوية وطيدة بعد أن شردت آل البيت وأبعدتهم عن الحياة السياسية ثم حولت الخلافة إلى ملك عضوض يتوارث . والأنكى من ذلك أن يذهب بعض هؤلاء ( المؤرخين ) إلى الاعتداء على خلفاء تلك الدولة بالتشريح والتجريح لمواقفهم وأفعالهم تجاه الأمة الإسلامية ، كمعاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ، وابنه يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان .. وغيرهم . ثم يقفون عند عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ ويعدونه النقطة الوحيدة المضيئة في تلك البقعة الزمنية المظلمة ، ناسين أو جاهلين أدوار الخلفاء الآخرين في نشر الإسلام وإعلاء كلمته في أنحاء الدنيا .
ولنا مع هؤلاء وقفه بسيطة بما يسمح به المقام ..
إذا نظرنا إلى الخلافتين السابقة واللاحقة لخلافة بني أمية لوجدنا الآتي .
الخلافة الراشدة وهي تلك الفترة السابقة لعهد بني أمية فهي فترة ربانية بحق لما فيها من ولع بالدين وحب للعلم وشغف بالدراسة وزهد في الدنيا فرعاياها تلاميذ مدرسة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعظم بها من مدرسة !
وخلفاؤها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وكم يتشوق الناس لتلك الخلافة .
والخلافة العباسية . وهي اللاحقة لعهد بني أمية ، امتازت تلك الخلافة وعصرها بالبحث العلمي والنهضة العلمية والأدبية وذلك بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية شرقا وغربا ، وحدث الامتزاج بين الحضارات القديمة ليبرز في النهاية الحضارة الإسلامية بصورتها الرائعة وبريقها الأخاذ وفي تلك الخلافة تم تدوين التاريخ وكتابته ، وإن كانت إرهاصاته بدأت في نهاية عهد بني أمية إلا أن حركة التأليف والتأريخ ظهرت بوضوح في ذلك العصر .
ويكفينا أن نعرف أن تاريخ بني أمية قد كتب في عهد بني العباس ( ألد أعدائهم ) فكان في هذا نظرة مجحفة ظالمة لهم .
ومن هنا نجد أن لكل حقبة من التاريخ مزاياها الخاصة .
فدولة رائدة عادلة صنعتها يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم وساسها خيرة أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ، ثم دولة فتوحات ثم دولة حضارية بالمعنى المادي والمعنوي .
فما الثانية إلا نتيجة للأولى وما الثالثة إلا خلاصة المرحلتين الأولى والثانية .
وما كتبه الحانقين على هذه الدولة في عصرنا الحاضر مستمد من مصدرين .
الأول : كتابات المستشرقين الحاقدين على الإسلام وتاريخه وحضارته . وخاصة دولة بني أمية التي أدخلت الإسلام بلادهم حتى كادت أن تدخل باريس من الغرب وحاصرت القسطنطينية وأخذت كثيرا من ملك الدولة البيزنطية من جهة الشرق .
الثاني : الروايات الشيعية الملفقة والموجودة في بعض كتب التاريخ . كتلك الروايات التي نقلها الطبري عن أبي مخنف ذلك الشيعي الكذاب وغيرها كثير .
وكيف لهم يجهلون قدر تلك الدولة العظيمة التي اتسعت رقعتها من الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا ، كل هذا تحت خلافة واحدة تعلي كلمة التوحيد وتدافع عنه وتنشر الإسلام في كل مكان فإن كان لبعض خلفائها هنات ، فلا نقف عندها لنحلل ونعطي الأمر أكثر مما يستحق ، ونذهب نعمم ونقول للناس بأنهم كانوا ظالمين ومعتدين ، فهذا خطأ بين وخطب فادح .
وهذه النظرة المغلوطة للتاريخ الإسلامي وأحداثه قد بدت جلية واضحة في القرن الماضي حيث العلمانية تطبق ذراعيها على عالمنا الإسلامي ، وحيث الصحوة الإسلامية التي لاحت بوادرها في الأفق ، وراحت تعيد البعث في الأمة من جديد لتعود سيرتها الأولى كما كانت في عهدها الأول ( خير أمة أخرجت للناس ) . مما يشي بأنه حقد على الإسلام لا حقد على بني أمية .
============
العلمانية
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:(6/34)
العلمانية SECULArISM وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل(*) ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين(*). وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة (*). وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح(*) من قوله: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام : آية: 162].
التأسيس وأبرز الشخصيات :
• انتشرت هذه الدعوة في أوروبا وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي. وقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة (*) الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها(*) وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:
- تحول رجال الدين إلى طواغيت (*) ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس(*) والرهبانية(*) والعشاء الرباني(*) وبيع صكوك الغفران.
- وقوف الكنيسة (*) ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة، مثل:
1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.
2- جرادانو: صنع التلسكوب فعُذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.
3- سبينوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولاً.
4- جون لوك طالب بإخضاع الوحي(*) للعقل(*) عند التعارض.
ظهور مبدأ العقل والطبيعة(*): فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله(*) على الطبيعة.
- الثورة(*) الفرنسية: نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة(*) من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب. وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم.
- جان جاك روسو سنة 1778م له كتاب العقد الاجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له روح القوانين، سبينوزا (يهودي) يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً(*) للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت(*) والسياسة، فولتير صاحب القانون الطبيعي كانت له الدين(*) في حدود العقل وحده سنة 1804م، وليم جودين 1793م له العدالة السياسية ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة.
- ميرابو الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية.
- سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى (الحرية(*) والمساواة والإخاء) وهو شعار ماسوني و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة(*) من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.
- نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارلز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب وقد جعلت الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد(*) وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث.
- ظهور نيتشة: وفلسفته التي تزعم بأن الإله(*) قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.
- دور كايم (اليهودي) : جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي.
- فرويد (اليهودي) : اعتمد الدافع الجنسي مفسراً لكل الظواهر. والإنسان في نظره حيوان جنسي.
- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ(*) الذي يؤمن بالتطور الحتمي(*) وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب.
- جان بول سارتر: في الوجودية وكولن ولسون في اللامنتمي : يدعوان إلى الوجودية والإلحاد.
- الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي نذكر نماذج منها:
1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه - الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها - بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظة صراحة. أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية(*) ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.
3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية(*) عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.
4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.
5- المغرب : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة(*) واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.
7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.
8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار(*).
9- أندونيسيا ومعظم بلاد جنوب شرقي آسيا: دول علمانية.
10- انتشار الأحزاب(*) العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية(*)، القومية العربية.
11- من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي: أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبدالعزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو ، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخراً، وغيرهم.
الأفكار والمعتقدات :
• بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً.
- وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.
• الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل(*) والتجريب.
• إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة(*)، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.
- فصل الدين(*) عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.
- تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة.
- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق(*).(6/35)
- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية.
- أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار(*) والتبشير فهي:
- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة(*).
- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
- الزعم بأن الفقه (*) الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.
- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات(*) الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.
- إحياء الحضارات القديمة.
- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
- تربية الأجيال تربية لا دينية.
• إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي(*) لا ينزعج كثيراً ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجاً للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله. ومن ناحية أخرى فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقى الدين النصراني قائماً في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوشها من الرهبان(*) والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين(*) بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية له ولا كهنوت(*) ولا أكليروس(*)، وصدق الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
الجذور الفكرية والعقائدية:
• العداء المطلق للكنيسة(*) أولاً، وللدين ثانياً أيًّا كان، سواء وقف إلى جانب العلم أم عاداه.
• لليهود دور بارز في ترسيخ العلمانية من أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.
• يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين" وهذا القول إن صح بين العلم واللاهوت(*) في أوروبا فهو قول مردود ولا يصح بحال فيما يخص الإسلام حيث لا تعارض إطلاقاً بين الإسلام وبين حقائق العلم، ولم يقم بينهما أي صراع كما حدث في النصرانية. وقد نقل عن أحد الصحابة قوله عن الإسلام: "ما أمر بشيء، فقال العقل(*): ليته نهى عنه، ولانهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به". وهذا القول تصدقه الحقائق العلمية والموضوعية وقد أذعن لذلك صفوة من علماء الغرب وأفصحوا عن إعجابهم وتصديقهم لتلك الحقيقة في مئات النصوص الصادرة عنهم.
- تعميم نظرية (العداء بين العلم من جهة والدين من جهة) لتشمل الدين الإسلامي على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يقف موقف الكنيسة ضد الحياة والعلم بل كان الإسلام سباقاً إلى تطبيق المنهج(*) التجريبي ونشر العلوم.
• إنكار الآخرة وعدم العمل لها واليقين بأن الحياة الدنيا هي المجال الوحيد للمتع والملذات.
• لماذا يرفض الإسلام العلمانية:
- لأنها تغفل طبيعة الإنسان البشرية باعتباره مكوناً من جسم وروح فتهتم بمطالب جسمه ولاتلقي اعتباراً لأشواق روحه.
- لأنها نبتت في البيئة الغربية وفقاً لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية وتعتبر فكراً غريباً في بيئتنا الشرقية.
- لأنها تفصل الدين(*) عن الدولة فتفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية.
- لأنها تفسح المجال لانتشار الإلحاد(*) وعدم الإنتماء والاغتراب والتفسخ والفساد والانحلال.
- لأنها تجعلنا نفكر بعقلية الغرب، فلا ندين العلاقات الحرة بين الجنسين وندوس على أخلاقيات المجتمع ونفتح الأبواب على مصراعيها للممارسات الدنيئة، وتبيح التعامل بالربا وتعلي من قدر الفن للفن، ويسعى كل إنسان لإسعاد نفسه ولو على حساب غيره.
- لأنها تنقل إلينا أمراض المجتمع الغربي من إنكار الحساب في اليوم الآخر ومن ثم تسعى لأن يعيش الإنسان حياة متقلبة منطلقة من قيد الوازع الديني، مهيجة للغرائز الدنيوية كالطمع والمنفعة وتنازع البقاء ويصبح صوت الضمير عدماً.
- مع ظهور العلمانية يتم تكريس التعليم لدراسة ظواهر الحياة الخاضعة للتجريب والمشاهدة وتُهمل أمور الغيب من إيمان بالله والبعث والثواب والعقاب، وينشأ بذلك مجتمع غايته متاع الحياة وكل لهو رخيص.
الانتشار ومواقع النفوذ :
• بدأت العلمانية في أوروبا وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثورة(*) الفرنسية سنة 1789م. وقد عمت أوروبا في القرن التاسع عشر وانتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار(*) والتبشر.
يتضح مما سبق:
• أن العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل(*) بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلاً عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية(*) في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتداً ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.
----------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- جاهلية القرن العشرين، محمد قطب.
- المستقبل لهذا الدين، سيد قطب.
- تهافت العلمانية، عماد الدين خليل.
- الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين.
- العلمانية، سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
- تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة، محمد عبدالله عنان.
- الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.
- الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي.
- الفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار الغربية، محمد المبارك.
- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي.
- الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، د. يوسف القرضاوي.
- العلمانية: النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد.
- وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية للخروج من دائرة الكفر الاعتقادي، د. محمد شتا أبو سعد، القاهرة، 1413هـ.
- جذور العلمانية، د. السيد أحمد فرج دار الوفاء المنصورة 1990م.
-علماني وعلمانية، د. السيد أحمد فرج - بحث ضمن المعجمية الدولية بتونس 1986م.
==============
أمة في خطر مداخلة عن مناهج التعليم في الوطن العربي
سالم مبارك الفلق(6/36)
لا يخفى على المتتبع لمسيرة التعليم في الدول المتقدمة جهود الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير محتوى وطرق وأساليب تدريس كل من العلوم والرياضيات منذ أن فوجئت في العام 1957م بإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك Sputnik من قبل الاتحاد السوفيتي. ومنذ ذلك العهد خضعت مناهج الرياضيات في الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من التغيرات و الاجتهادات بغرض التطوير ورفع أداء الطلاب في هذه المادة. ويمكن تقسيم فترات التغيير إلى فترات الستينات ثم السبعينات ثم الثمانينات التي ظهرت الدعوة فيها قوية للتطوير, ففي هذه الفترة ظهر تقرير "أمة في خطر"(a nation at risk)عام 1983 ، أهم وثيقة عن التعليم في أمريكا خلال العقود الماضية. الذي يؤكد أن مشكلات الأمة الأمريكية في التعليم ترجع بالدرجة الأولى إلى انخفاض المستويات الأكاديمية للطلاب، وإلى تدني نوعية التعليم وأشار أيضا بأصابع الاتهام للمعلم نفسه. وواكبه عدد من التقارير في مجال الرياضيات مثلAgenda for Action تلاها تقرير Everybody Counts ثم وثيقة معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسيةStandards for Curriculum and Evaluation for School Mathematics , وهذه الوثيقة الأخيرة كان لها الأثر البالغ على تطوير تدريس الرياضيات في مدارس التعليم العام في الولايات المتحدة . وظلت اللجنة التي أصدرت تقرير "أمة في خطر" منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ذلك التقرير مهد أيضا لظهور الخطوة التي رسمها الرئيس بوش عام1990بعنوان أمريكا عام 2000 استراتيجية للتعليم المتضمنة الكثير من اتجاهات الإصلاح التي نادى بها تقرير 1983.
ومنذ أربع سنوات اكتشفت الولايات المتحدة أن نظام التعليم في اليابان وكوريا الجنوبية يتفوق على نظام التعليم عندها؛ فأقامت الوزارة مؤتمراً دُعي إليه كبار رجال الدولة والمؤثرون في المجتمع تحت عنوان "أمة في خطر"؛ وذلك لأنه إذا كان خريجو الجامعات من هذين البلدين سيتفوقون على خريجي الجامعات في أمريكا؛ فإنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة. وعزته إلى قصور نسبي في نظامها التعليمي، فأجرت الإصلاحات اللازمة. كما أن الأوروبيين أيضا يجرون تعديلات على نظامهم التعليمي (مثلاً برنامج أوريكا). جدير بالذكر أن التعليم يحتل قائمة أجندة اليونسكو، ويشغل اهتمام صانعي السياسة في كل دول العالم .
في نفس التوقيت أقامت إحدى الدول النامية مؤتمرًا عن التعلم في بلادها، وعلى الرغم من المشاكل الهائلة في هذه الدولة التي تتعلق بالمناهج والمدارس والطالب والجو العام للعملية التعليمية وعدم الاعتناء بالنابغين وغير ذلك من العوامل المتداخلة ــــ فإن عنوان المؤتمر كان "أمة لها مستقبل"... فإذا كان حال الأمم المتقدمة تجاه منظومتها التعليمية بهذا القدر من التخوف على نوعيتها ومدى ملاءمتها باعتبارها أهم المشاكل التي تواجه كيانها وتهدد وجودها ؛ فإن البلدان العربية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعة المستندة إلى التحليل الاقتصادي وإلى قيم اكتساب المعرفة في التطور الإنساني. إن الفارق الأساسي بين البلدين هو الفارق بين النظرتين على هذا المستوى؛ الفارق بين من يخاف من مشكلة قد تحدث بعد عدة سنوات؛ فيعد لها العدة ومن يغفل عن مشكلة تحيط به من جميع جوانبه..
إننا في موقف خطير ينبغي للمسئولين عن التعليم في كل بلد عربي أن يتداركوه فقد نمنا وأدلج أعداؤنا وتكاسلنا وجدّوا وقنعنا بالثقافة الشكلية والمعلبة التي هي سرّ تخلفنا في كل جوانب الحياة , وأي تقدم يأتي بغير تعليم ...
أننا نقبل منجزات الغرب الحضارية وتقنياته التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا.بينما كان أجدر بنا أن نرصد طرق التفكير وأسلوب الحضارة والتعليم السائدة في الغرب. الأحرى أن نعود إلى القرون الوسطى عندما لم يكن لأمريكا وجود. حين نقل العرب إرث فارس واليونان الحضاري والثقافي والعلمي إلى اللغة العربية ليس فقط بتعريبها وترجمتها، بل بإدخالها في صلب الثقافة العربية تعديلاً وتجاوزاً وتطويراً بحيث تنسجم مع روح العصر فلم يكن غريبا أن يأتي الناس من أوربا وغيرها لتعلم اللغة العربية، كما نذهب اليوم لنتعلم اللغات الأجنبية ؛ فتم ما يعرف بالمثاقفة (acculturation) بين الحضارات المختلفة عن طريق الجدل الواسع والعلني في كل الشؤون الدينية والمذهبية واللغوية والعلمية... دون أي تهديد أو تخوف من الآخر أومن ثقافته.
أما قبل ...
فقد غدت العاصمة العباسية بغداد معملاً يزود العالم بآخر منجزات العصر على المستوى التربوي والعلمي وقف إلى جانبها عدد آخر من المؤسسات التعليمية التي تميزت بصفتها العلمية المنهجية , والتي تعد بحق جامعات أو أكاديميات في العصور الماضية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : جامع الأزهر في القاهرة , وجامع الزيتونة في تونس , والمسجد الأقصى في القدس, المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 1227م وبدأ التدريس فيها عام 1233, و بيت الحكمة في بغداد ,.ودار الحكمة في القاهرة أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 975م.....الخ ثم بدأت بعدها مرحلة جديدة من مراحل الانحدار والتخلف عاشتها البلاد العربية لمدة أربعة قرون من الزمن ركدت فيها الحضارة الإسلامية وجمدت لعدم قدرة الدولة العثمانية على تغذيتها بالتشجيع المعنوي والمادي وإغلاق الشرايين التي كانت تصل بينها وبين الثقافات الأخرى ؛ فاقتصر دور المدرسين على التلقين والتقليد وزيادة عدد الكتاتيب زيادة كمية على حساب نوعية التعليم.
أما بعد ...
فإذا كانت الحملة الفرنسية عام 1798م قد عرّفت المصرين بآلة الطباعة وبالمدارس الأوربية حديثة الطراز إضافة إلى المناهج التعليمية العلمية الحديثة، فقد ترتب على ذلك أيضا تشديد قبضة الاحتلال على واقع التعليم والنظام التعليمي بما يخدم مصالحه السياسية والاقتصادية وممارسة أهدافه الاستعمارية.
مع نهاية القرن السابع عشر وهزيمة الدولة العثمانية عسكريا أمام الجيوش النصرانية الغربية , بدأت السفارات إلى الغرب , وبدأ استقدام متخصصين في العلوم البحتة , ولأول مرة جرى استقدام غير مسلمين للتخطيط والتدريس في المدارس الإسلامية . ثم عمل الأعداء على شطر نظم التعليم إلى شقين : التعليم الديني والتعليم المدني مع احتواء الأخير على بعض المناهج الشرعية , التي عملوا بعد ذلك على إضعافها من خلال عدة طرق منها :ـ طريقة وضع المنهج , وطريقة تدريسه , وموقع الحصص في اليوم الدراسي , والحط من مدرسيه , وتخفيض عدد ساعات هذه المناهج .. ثم عمدوا بعد ذلك إلى تعديل في هذه المناهج وفق الرؤى العولمية والاتجاهات العلمانية .
إن فكرة العلاقة بين الهيمنة والتعليم في الغرب أساسية ؛ لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة والإخضاع عبر التعليم , عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن ,وعبر القضاء على المدارس الدينية والمعاهد والجمعيات الخيرية التي تدعمها , ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان .
لقد أصبح واضحا أن قضية المناهج التعليمية لم تعد شأنا داخليا ترتبه الحكومات متى وكيف شاءت , وتهمله أو تؤجله متى وكيف شاءت ؛ وإنما أصبحت شأنا عالميا في ظل ثقافة العولمة وبفعل أدواتها , وأصبح في منطقتنا العربية له أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسة بل وعسكرية إذا لزم الأمر .(6/37)
إن قضية تغيير المناهج التعليمية في المنطقة الإسلامية لم تفتر منذ معاهدة كامب ديفيد , ومرورا باتفاقيات مدريد وما تلاها , إلا أنها ازدادت جرأة ووضوحا وصراحة بعد أحداث 11 سبتمبر اذ شنت الدوائر الرسمية ووسائل الإعلام في الغرب حربا ضروسا على مناهج التعليم في العالم الإسلامي متهمة إياها بأنها المسئول الأول عن ظاهرة تفريخ الإرهاب , وقد وضعوا الخطط للتدخل في التعليم في عدة بلدان وتعد مصر وباكستان والسعودية واليمن نماذج على ذلك , حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعما لباكستان مقداره 100مليون دولار لبناء بنك معلومات عن طلاب المدارس القرآنية يهدف لتأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس في هذه المدارس .
ترتبط المناهج بهوية الأمة , وتشكل عاملا مهما في إعدادها وتربيتها , ومن ثم فالتعامل معها لا يخضع لتصريحات طائشة ومواقف مندفعة , وإنما تحتاج إلى أن يتعامل معها في ظل أوضاع هادئة بعيدا عن التشنج والانفعال وبعيدا عن الاستجابة لردود الأفعال .
ورغم أن أمريكا تمارس التدخل في خصوصيات الشعوب الأخرى إلا أنها لا ترضى ذلك لنفسها وهي القائلة قبل عشرين عاما على لسان الرئيس الأمريكي رونالد ريجان :" " لو أن هذه المناهج التي بين أيدينا فرضتها علينا أمة من الأمم لاعتبرنا ذلك اعتداءً سافراً علينا " "(( إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تسمى (كير) تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية ، والدهشة سوف تمسك بتلابيبنا إذا علمنا أن وفد F.B.I قد التقى شيخ الأزهر , ووفود الكونجرس تلتقيه للاطمئنان على مناهج الأزهر ))[1] .
نستطيع أن نقول إن هناك تدنيا في مستوى التعليم في معظم البلدان العربية هذا إذا لم نقل جميعها. وأن أبناءنا في خطر.. والسبب نوعية التعليم الذي يتلقونه، والذي يخرجون بسببه من سوق العمل، وتزيد معدلات البطالة في أغلب الدول العربية، ويتوقع لها أن تزيد أكثر وأكثر إذا لم يسرع القائمون على التعليم بتغيير سياساتنا التعليمية فورًا. و يمكن دراسة ذلك ضمن ما يسمى بالتخطيط التربوي وصعوباته في الوطن العربي. حيث تواجه مدارسنا في مراحلها الأولى ضعفا وضحالة و بهما يتدرج الناشيء حتى يصل إلى الجامعة وهو غير مؤهل للدراسة الجامعية , ولا تستطيع جامعاتنا وهو تواجه هذا العدد الهائل من الطلاب الضعاف أن ترسبهم جميعا بل هي مضطرة ـــ وهم في مستوى متقارب ـــ إلى أن تعتبرهم جميعاً ناجحين . ويمرون من عام إلى عام حتى يفرغوا من دراساتهم الجامعية وعقلياتهم ليست أكبر من عقليات التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة ؛ فجامعاتنا إذا تمنح شهادات ولا تخرج متعلمين .
نحن اليوم في عصر التخصص وقد مضى الوقت الذي يمكن أن نجد فيه من يعرف كل شيء ويتحدث في كل فن . وأن العلوم الحديثة والتقنية هي التي تسيطر في الألفية الثالثة وما سبقها من قرون ثلاثة، على موازين الأحداث، وتهيمن على مصائر الأمم، وتصنع الفرق بين الرفاهية والازدهار والمنعة، وبين التخلف والهزيمة واستجداء إنتاج الآخرين. خصوصا إذا عرفنا أن الثقافة العربية بطبيعتها (ثقافة أدبية)، ويهيمن عليها (الفكر الأدبي) بمعطياته وتفرعاته وأنساقه . ومن البدهي أن الأمم المتقدمة عندما تقلق على نظامها التعليمي من واقع المنافسة الشرسة بين بعضها بعضا، فإن اهتمامها ينصب في الحال على المناهج العلمية، وبرامج التدريب المهني، ووسائل تطوير المهارات التقنية، ولذا كانت الصيحة في أمريكا،عندما اكتشفت في الثمانينيات تحول التلاميذ من القسم العلمي إلي القسم الأدبي بسبب انخفض أداء الطلاب الأمريكان في الرياضيات والعلوم . و أن كوريا الجنوبية عندما توجه تعليمها وتدريبها نحو عصرها ومتقضياته، استطاعت أن تتحول إلى نمر آسيوي، وأن تتمكن خلال عشرين عاما من تسجيل 16380 براءة اختراع في المجال الصناعي والتقني فقط، وأما العالم العربي، الذي يضج بالشعراء والأدباء وأصحاب التخصصات الإنسانية، فلم يسجل سوى 170 براءة اختراع ؛ فمن الضرورة بمكان أن يتحول التعليم في الوطن العربي من مجرد تعليم تلقيني إلى تعليم يقوم على الابتكار والإبداع واستخدام تكنولوجيا العصر؛ حتى يصبح خريجو هذا النوع من التعليم قادرين على اللحاق بسوق العمل الذي لا يقبل الآن خريجي تعليم القرن العشرين.
وأضيف أيضاً أن كتاب "أمة في خطر" الذي كشف ساعتها عن تدني المستوي العلمي للطلاب في ذلك الوقت أكد أنَّ أهم أسباب النهوض هي اللغة الإنجليزية ثم الرياضيات والفيزياء، وأخيرًا الحاسب الآلي، أما عندنا فإن الصورة مقلوبة تمامًا؛ حيث هناك تركيز رسمي على أهمية الحاسب الآلي واللغة الأجنبية في الوقت الذي يتم فيه إهمال اللغة العربية إهمالاً كبيرًا، فاللغات الأجنبية لها أهمية بلا شك، ولكن هذا ليس على حساب اللغة العربية، فاللغة الوطنية أداة فكر، أما اللغة الأجنبية فهي أداة تواصل وهناك فارق كبير بين الأمرين.
التربية والتعليم عملية تغيير مستمرة وشاملة تنتقل بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه , وتتكامل مؤسسات تربوية كثيرة في تحقيق ذلك : كالأسرة والمدرسة والمسجد ... وهذه المؤسسات التربوية تتكامل مع مؤسسات أخرى كالإعلام والثقافة دون أن تعوق احداهما الأخرى في أداء وظائفها , وأن التلاعب به من قبل قوة خارجية هو خطر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من شأنه . إنها حرب صليبية وان الخطر داهم على الأمة حكاما وشعوبا , ويجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالعقائد , وان يعرف الجميع أن روح الأمة أقوى من كل شيء , و أن كل الحلول التي تأتينا مرة من أمريكا وأخري من انجلترا وثالثة من دول أخرى قد ثبت فشلها وسبب ذلك أن التعليم لابد أن ينبع من واقع المجتمع الذي يخرج منه .
الأستاذ /
سالم مبارك الفلق
1/11/2005م
alfalagg@yahoo.com
-----------------------
[1] مجلة البيان العدد173المحرم1423هـ(مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي) كمال حبيب ص/49 .
=============
أسرار وراء كلام البابا عن الإسلام ونبيّه
عبد الله بن عبد العزيز الزايدي
يعجب بعض المتابعين من الحملة المتزايدة على الإسلام من بعض الزعماء الدينيين والسياسيين النصارى في السنوات الأخيرة، وتساءل بعضهم عن سر التوقيت والتزامن، فمن كلام بوش عن المسلمين الفاشيّين، إلى كلام البابا بندكت السادس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وقبلهما كلام رئيس الوزراء الايطالي عن الحضارة الإسلامية، وبعده الرسوم المسيئة، وغير ذلك من حملات التشويه.
وربما تساءل البعض عن الأسباب الكامنة في هذه الحملات المتوالية، وريما حمّل بعض الكتَّاب إخوانه المسلمين وِزر هذه الحملات نظراً لما حدث من بعضهم من أعمال تفجير وقتل.
وأقول: إن ثمة سراً مهماً ينبغي ألاّ نغفل عنه في السر الحقيقي وراء هذه الحملات، ألا وهو الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية، الذي أقضّ مضاجع الرؤساء الدينيين والسياسيين، مما حدا ببعضهم للكلام الصريح عن ضرورة التصدي لانتشار دين الإسلام، وهذه بعض الإحصاءات والأخبار التي تشهد بهذا الانتشار:
أ - زيادة أعداد المساجد في دول الغرب:(6/38)
ففي قلب أوروبا بدأت أعداد المساجد فيها تنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوتُ الأذان الذي يرفع كل يوم في تلك البلاد خمس مرات، خيرُ شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة وأتباعاً جدداً.
فقد أصبح للأذان من يلبيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك، وعند نيويورك ومساجدها نتوقف، ففي أوقات الأذان الخمس ينطلق الأذان في نيويورك وحدها في مائة مسجد، و بلغ عدد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من (2000) مسجد والحمد لله، وترتفع في بريطانيا مئذنة نحو (1000) مسجد، وتعلو سماء فرنسا وحدها مئذنة (1554) مسجداً ولا تتسع للمصلين، وأما ألمانيا فتُقدّر المساجد وأماكن الصلاة فيها بـ(2200) مسجد ومصلى، وأما بلجيكا فيُوجد فيها نحو (300) مسجد ومصلى، ووصل عدد المساجد والمصلّيات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدها مئذنة (130) مسجدًا، أبرزها مسجد روما الكبير، وأما النمسا فيبلغ عدد المساجد فيها حوالي (76 ) مسجداً.
هذه فقط بعض الدول في أوروبا الغربية، عدا عن أوروبا الشرقية، والإقبال على الإسلام يزداد يوماً بعد يوم، ومن هذه المساجد يتحرك الإسلام، وينطلق في أوروبا، لذلك ليس غريباً أن تشدّد أوروبا وأمريكا في أمر المساجد ومراقبة أهلها، والتضييق في إعطاء الرخص لبنائها، ومن المفارقات العجيبة أن كثيراً من هذه المساجد كانت كنائس فاشتراها المسلمون وحولوها إلى مساجد!!
ب - تحذير الصحف الغربية من انتشار الإسلام:
فقد بدأت الصحف الغربية تطلق صيحات تحذير من انتشار واسع لدين الإسلام بين النصارى، ومن ذلك ما جاء في مقال نُشر في مجلة (التايم) الأمريكية "وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب".
أما جريدة (الصانداي تلغراف) البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضي: "إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن -يعني الذي مضى- ومطلع القرن الجديد -يعني الذي نحن فيه- ليس له من سبب مباشر إلاّ أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية".
مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: "إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة".
ج - انتشار بيع نسخ القرآن الكريم والكتب الإسلامية
وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، التي كان لها آثار سيئة واسعة على النشاطات الإسلامية في الغرب وعلى دول الإسلام، إلاّ أنه مع ذلك ازداد في العالم الغربي الإقبال على التعرف على الإسلام بصورة غير متوقعة، وأصبحت نسخ القرآن الكريم المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الأمريكية والأوروبية حتى نفدت من المكتبات، لكثرة الإقبال على اقتنائها، وتسبب ذلك في دخول الكثير منهم في الإسلام، وفي ألمانيا وحدها بيعت خلال سنة واحدة (40) ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية. كما أعادت دار نشر )لاروس) الفرنسية الشهيرة طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم بعد نفادها من الأسواق.
د- تزايد أعداد الداخلين في الإسلام
ففي عام 2001 نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25 ) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية. والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: "إن أكثر من (24 ) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، "وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام".
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخرًا ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخرًا، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يوميًا من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد".
وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية والأديان، من علمانيين إلى بوذيين إلى كاثوليك وغيرهم، كما أشار التقرير إلى نشاط بعض الجاليات المسلمة وجماعات مثل جماعة التبليغ في الدعوة إلى الإسلام في المجتمع الفرنسي.
كما ورد في التقرير إلى أن عدد المعتنقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى(60) ألفًا مؤخرًا، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، الكثير منهم من شباب المدن، ويتراوحون ما بين 'الأصولية' والاعتدال. منهم مهندسون.. جامعيون.. رؤساء شركات.. مدربون.. مدرسون.. طلاب.. عاطلون.. متحفظون أو متدينون بشكل واضح... كل هؤلاء الأشخاص يشكلون لبنة جديدة في المجتمع الإسلامي الجديد، وهم بمثابة الأسرة الكبيرة في مختلف مجالات الحياة بالمجتمع الفرنسي .ومن هؤلاء على سبيل المثال: فنان الراب في مدينة مرسيليا المسمى إخناتون، ولاعب الكرة (فرانك ريبري)، ومصمم الرقصات (موريس بيجار) وأيضًا (كليمون) -أصغر أبناء رئيس وزراء الحزب الاشتراكي السابق- موريس توريز'.. كل هؤلاء أعلنوا إسلامهم منذ فترة ليست بالبعيدة.. ومعتنقو الإسلام من الجيل الأول من بينهم فنانون وحاملو شهادات رفيعة، ومعظمهم يفضلون ممارسة الإسلام النقي الصافي، كما أنزله الله على نبيه محمد ..انتهى ما ورد في التقرير..
ونظراً لهذه الشواهد المؤكدة لإقبال الغربيين على الإسلام فقد حذّر أسقف إيطالي بارز من (أسلمة أوروبا)، وفي مدينة بولونيا الإيطالية حذّر أسقف آخر من أن الإسلام سينتصر على أوروبا إذا لم تغدُ أوروبا مسيحية مجددًا.. يحدث هذا الإقبال وهذا التخوف من الإسلام على الرغم من ملاحظة أمور مهمة:
أولها: أن الأوضاع الحاضرة ليست في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فالأحداث السيئة في بلاد الإسلام قد تعطي البعض نظرة سيئة تجاه هذا الدين بسبب أوضاع أهله.
وثانيها: تلك الجهود الهائلة والإمكانات الضخمة التي يبذلها النصارى في سبيل نشر الديانة النصرانية، على كافة الأصعدة، حتى بلغت ميزانيات بعض مجالس الكنائس العالمية أكثر من مليار دولار للسنة الواحدة.
وثالثها: التضييق على النشاطات الإسلامية والمراكز والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول.(6/39)
ومع ذلك لا يزال هذا الدين الحق دين الإسلام ينتشر ويعتنقه الكثيرون، ونظراً لأن النصارى خصوصاً رجال الدين ينظرون للإسلام بصفته ديناً منافساً، فقد رأوا فيه خطراً على أوروبا، ولذا حرصوا على إثارة الشبهات حوله لحماية النصارى من خطره كما يتصورون.
وقد جاءت الأحداث الأخيرة ليتخذوا منها أدلة يؤيدون به مزاعمهم الباطلة عن الإسلام، فزعم كثير من غلاة النصارى أن حوادث الإرهاب سببها دين الإسلام، و يمكن لكل عاقل أن يجيب عن هذه الشبهة بحوادث التاريخ القريب، والواقع الذي نعيشه؟ فهل نقول: إن دين النصارى هو سبب الإرهاب لأنهم خلال الحربين العالميتين قتلوا الملايين من أبناء جلدتهم النصارى؟ فضلاً عمن قتلوهم من المسلمين أثناء حروبهم الاستعمارية. هل ننسب القتل والتدمير إلى دينهم؛ لأن الأمريكان النصارى قتلوا مئات الآلاف بالقنبلة الذرية؟
هل نقول: إن دين النصارى يدعو للقتل واحتلال البلدان الأخرى؛ لأن الرجل المتدين المحافظ ربيب القسس (بوش)، غزا العراق ودمرها وقت آلاف المدنيين العزل، وأحدث فيها فوضى يجني مرارتها ملايين العراقيين؟ هل نقول: إن دين النصارى دين القتل والإرهاب؛ لأن قسس ورهبان الهوتو في إفريقية ساهموا في المذابح التي حدثت للتوتسي. وقد طُلب بعضهم كمجرمي حرب للأمم المتحدة؟ هل ما حدث في البوسنة والهرسك من مذابح واغتصاب للمسلمين على أيدي الصرب يُحسب على دين النصارى وعلى المسيح عليه السلام؛ لأنه جاء في الإنجيل "ما جئت لألقي سلاماً على الأرض"؟ هل مذابح المسلمين في ليبريا وسيراليون التي قام بها النصارى ننسبها للمسيح ودينه؟
إن على البابا بندكت أن يصلح حال كنائسه التي زكمت فضائح شذوذ رجال الدين فيها الأنوف قبل أن يتحدث عن الإسلام ونبيه بتلك اللهجة المتحاملة؛ فمن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بحجر.
المصدر : الإسلام اليوم
==================
الابتعاث ومخاطره
تأليف
محمد بن لطفي الصباغ
توزيع
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
الابتعاث ومخاطره (*)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
أما بعد
فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي - يتوقف إلى حد بعيد - على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .
وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا ييتطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات .
حوادث صارخة تستلفت النظر :
سمعت مرة من أحد رجالات اليمن أن آلافاً من الشباب من أبناء هذا البلد المسلم الشقيق المؤمن , أُرسلوا إلى الدول الشيوعية , ليدرسوا هناك جوانب مختلفة من المعرفة والاختصاصات .
وعلمتُ في الصيف المنصرم , خلال رحلتي إلى أوربا , أن الصومال ترسل الألوف من أبنائها أيضاً , إلى الدول الشيوعية والاشتراكية ليدرسوا هناك العلوم والمعارف .
وحدث أنني منذ عشر سنوات اجتمعت في الطائرة بشاب من بلد عربي يتوقد ذكاءً , قص عليَّ قصة دراسته , وخلاصتها : إنه كان الأول في امتحان الشهادة الثانوية , فاتصلت دولة من الدول الاشتراكية بوزارة التربية في ذلك البلد , وعرضت عليها الرغبة في أن تعطي هذا الطالب الذكي منحة دراسية في أي فرع نادر من فروع التخصص يرغب فيه , وذهب إلى المدرسة , ولكنه - كما بدا من حديثه - لم يتلق العلم فقط هناك وإنما تلقى الفكر الشيوعي الماركسي وأصبح من المؤمنين به والمدافعين عنه .
مكر مدبر :
ليست عداوة الكافرين للمسلمين خافية على ذي بصيرة , فهم لا يألوننا خبالا , وما أصدق وصف القرآن الكريم لهم , وذلك في قوله تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * » سورة آل عمران 118-120
فهم منذ أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم , بهذه الرسالة وهم في مكر مستمر , وقد صفا لهم الجوُّ عندما ضعفنا وأصبحوا أقوياء , وخيم علينا الجهل وتقدموا هم , في مجال العلوم المادية , واستطاعوا احتلال بلادنا , فزين لهم ذلك المضيَّ في عدوانهم علينا , والإمعان في الإستيلاء على بلادنا وثرواتنا , ولكنهم رأوا أن جذور الإسلام عميقة في كيان المسلم مهما كان هذا الفرد المسلم مقصراً , ووجدوا أن روح الإسلام ومعانيه ومثله العليا , مستولية أشد الاستيلاء على مشاعر الناس وتصوراتهم .....
فواجهوا هذا الواقع بالمكر والتدبير , وخططوا لإزالة هذه العقبة من طريقهم ... وهي هذا الإسلام الذي لن يمكنهم من تحقيق أغراضهم وأطماعهم , مادام حياً في نفوس المسلمين وسلوكهم .
فمن ذلك كلمة غلادستون أحد زعماء بريطانيا : " مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر للاستعمار قرار في ديار الإسلام " وأمثال هذه الكلمة كثير .
وفكروا وقدروا , ثم فكروا وقدروا , ودرسوا كيف يمكنهم أن يزحزحوا الإسلام عن مكانته في صدور المسلمين ؟ وكيف يقتلعون هاتيك الجذور بهدوء ويسر ونجاح ؟ وقادهم تفكيرهم وتقديرهم إلى وسائل عدة ... استخدموها بإتقان وإحكام .
وكان من ذلك الابتعاث , والتبشير ونشر التحلل والإفساد الخلقي والحملات العسكرية المسلحة , والتشكيك , والإلحاد , ومحاربة اللغة العربية , وبعث القوميات العنصرية , والنزعات الوطنية الضيقة لتحل محل الدين , وإفساد مناهج التعليم , ووسائل الإعلام .(6/40)
ونحن في بحثنا هذا , نود أن ننظر في موضوع الابتعاث , لنبين كيف أنه كان من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب , ومحاولة اقتلاع جذوره العميقة من أعماق نفوس المسلمين , وبين أيدينا حقائق يجب أن لا تغيب عن أذهاننا , من أهمها أنهم أعداء ألداء , فلا يمكن أن يكون منهم حرص على أن نتعلم ونتقوى , وأنهم أنانيون ماديون فلا يمكن أن يكون عندهم مثل هذا الإيثار والتضحية من أجلنا , وقد حرصوا على سلوك كل سبيل لإخفاء هذه الأنانية وذاك المكر , ولكنهم - على الرغم من جهودهم في كتمان ذلك - غلبوا على أمرهم , لأنه أقوى من أن يستر , وظهر ذلك في مواقف عديدة . ولو أنهم دروا أن تعليمنا لا يقودنا إلى أفخاخهم , لما رضوا أن يعلمونا حرفاً واحداً , فمثل هذه البعثات دفع إليها , وكان سبباً من أسبابها :
* الرغبة في أن يكون تجانس وتطابق في التفكير بين المستعمرين وأبناء البلاد بين المسلمين .
وينشأ عن هذا بالضرورة ضعف سلطان الدين , وزحزحة مكانته عند كثير من هؤلاء المتعلمين من المبعوثين .
وستتضح هذه الأسباب عندما نبين نتائجه وآثاره .
وقد يقول قائل : هل هناك مانع من الارتحال لأخذ النافع من علوم القوم ؟
والجواب : لا ... بشروط .
والرحلة في طلب العلم مما درج عليه علماء سلفنا الأفاضل منذ الصدر الأول , امتثالاً لأمر الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122
قال حماد بن زيد : ( فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه , ورجع به إلى من وراءه يعلمهم إياه )(2)
وقال عبد الرزاق : (هم أصحاب الحديث)(3)
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الترمذي وابن ماجه والدارمي(4) , في كتبهم : أن رجلاً قدم من المدينة على أبي الدرداء - وهو بدمشق - فقال : ما أقدمك يا أخي ؟
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله غليه وسلم .
قال : أما جئت لحاجة ؟
قال : لا .
قال : أما قدمت لتجارة ؟
قال : لا .
قال : ما جئت إلا في طلب هذا الحديث .
قال : نعم .
قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب , وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة بدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (5)
وقال عبد لله بن مسعود : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته )(6) .
وهكذا فقد بدأت الرحلة في طلب العلم منذ أيام الصحابة رضوان الله عليهم , فرحل أبو أيوب , وجابر بن عبد الله إلى مصر (7), وكذلك التابعون وتابعوهم حتى عصرنا الحاضر .
إذن فنحن قوم نؤيد الرحلة في طلب العلم ونحثُ عليها ولعلنا نحن أول الأمم التي جعلت الرحلة في ذلك من مقدمات العلم ومقومات التعلم , ولكننا لا نترك أمر الرحلة سائباً يقوم على الفوضى ويؤدي إلى النتائج السيئة التي تؤدي إليها الفوضى بل نشترط فيها - كما أشرنا - شروطاً :
وأهم هذه الشروط هي :
1. أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .
2. أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .
فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .
3. أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .
4. أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .
5. أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر
وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث .
ويقتضينا البحث أن نتساءل عن حكم الإقامة في بلاد الكفار , لأن الابتعاث اليوم - مع الأسف -إنما هو في الأعم الأغلب إلى بلاد الكفار .
***
الإقامة في بلاد الكفار :
قرأت بحثاً قيماً كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع , وقد قال فيما قال رحمه الله :
(الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير - بحيث يكون (المسلم) أعلم بذلك وأقدر عليه , وأنشط له - أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله في طاعة الله ورسوله دون ذلك )(8)
وقال كلاماً مضمونه أن الحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلق بالشخص والظروف , فمثلا قد تكون إقامة الرجل في أرضٍ يسود بها الضلال ويستعلن فيها الكفر , أفضل إذا كان هذا الرجل مجاهداً في سبيل الله , أو داعياً إلى دينه القويم بلسانه وقلمه , وقد تكون إقامته هناك أحسن من إقامته في أرض الإيمان والطاعة .
ومن هنا كانت المرابطة في الثغور على حدود الكفار أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء .قال تعالى وهو أصدق القائلين - {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة:19| 21.
إذن فالجهاد مع الإيمان أعظم درجة عند الله , من عمارة المسجد الحرام , وسقاية الحجاج , وبركة البيت الحرام وفضل العبادة فيه أمر مسلّمٌ معروف بيِّن لا جدال فيه .
فأفضلية مقام المسلم في دار الكفر مجاهداً في سبيل الله - في تصوري - عائداً إلى أمرين 1- أحوال الشخص , وإمكانياته , ومواهبه , وطاقاته , وأوضاعه الخاصة به .
2- الظروف العامة التي تسود بقعة ما من بقاع الدنيا .(6/41)
فإذا كان إنسان من الناس متَّزن الشخصية قوياً , مسموع الكلمة موهوباً , يمتلك أداه من أدوات التأثير في الناس عملية كانت أو فكرية , كالكتابة والخطابة وإنشاء المدارس وفتح المستشفيات وما إلى ذلك , مما تقتضيه مصلحة الإسلام في ذلك البلد , وكان يستطيع أن يؤدي رسالته على وجه حسن , وكان يحتمل ما يصيبه من الأذى المتوقع , فلا شك في أن إقامته حيث يقوى على الدعوة , خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح . أما إذا كان هذا الإنسان شخصاً عادياً , يتأثر بالوسط الذي يحيا فيه , وليس لديه شيء من المواهب والطاقات , وكان تعرضه للأذى والفتنة أمراً محققاً , فلا شك في أن مثل هذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة وأن يقيم فيها , فذلك أروح قلباً وأسلم عاقبة .
وأود أن أقرر أيضاً :
إن وجود المرء مدة طويلة في مجتمع كافر منحرف , وتعايشه معه يجعله يتأثر بأعراف هذا المجتمع وقيمه شاء أم أبى ... ولا يمكن أن يشذ عن هذه السنة فرد , وإن كان التأثر يختلف قوة وضعفاً , سلباً وإيجاباً ... ولكنه موجود على أية حال . ونسبة الذين يسلمون من هذا التأثير نسبة قليلة , وهذا ما جعل الإقامة في بلاد الكفار , أمراً مقيتاً لا تستريح النفس إليه , ومحظوراً إن لم يكن له داعٍ , ولم تتوافر في المسلم المقيم الشروط الذي ذكرناها آنفاً .
ولقد دعت الآية الكريمة أولئك الذين يلتصقون بالأرض , ولا يهاجرون من ديار الكفر ظالمي أنفسهم[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ] النساء: 97|99.
والله تبارك وتعالى يفتح الآفاق أمام عباده ليختاروا الأرض التي يستطيعون فيها إقامة حكم الله . قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56
وقال : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ }النساء: 100
ولكن هل الابتعاث في أوضاعنا القائمة هو من هذا القبيل ؟
لماذا الابتعاث وماذا يدرس المبتعثون ؟
إن الابتعاث إلى الغرب (رأسمالية وشيوعية) أمر درجنا عليه , منذ أن بدأ الاحتكاك بأوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أي مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)كما سنبين ذلك في فصل خاص بتاريخ الابتعاث .
وكان أمراً له مسوغاته دون شك , فلقد ذهب أنصار الابتعاث إلى القول : بأنه لا بد منه , حتى نستطيع أن نواكب عصرنا ونشارك أهله العيش في قضاياه . وقال هؤلاء الأنصار المتحمسون :
إننا في ذهابنا إلى ديارهم نسترد ديناً سلف منا , فلقد كنا في يوم مضى أساتذة الدنيا , عنَّا يتلقى العلم كل راغب فيه , ومنهم أجداد هؤلاء الغربيين , ومن كُتُبِنا كانوا يستمدون المعرفة , حتى أضحت مصادرهم الوحيدة , وكان مثقفوهم ومفكروهم يتخرجون في جامعاتنا , قالوا : فنحن نسترد ما سلف منا إليهم , عندما نتتلمذ على أيديهم ونستمد من كتبهم المعرفة ، وهكذا الأيام يوم لك ويوم عليك , وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وإن صح كثير مما قاله هؤلاء الأنصار , فإن هناك شيئاً لا بد من إضافته إلى كلامهم وهو :
إن الرحلة في طلب العلم وسيلة , ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة , لاسيما بعد أن مضى على اتصالنا بحضارتهم وعلومهم الزمن الطويل . وحتى لو تعينت الر حلة وسيلة وحيدة , فقد كان يمكن أن تنضبط ويقضى على محذوراتها .
وسيتضح لنا من دراسة تاريخ الابتعاث وواقع المبتعثين هناك , مدى التفريط والمجازفة بنفر من أبنائنا , وستنكشف بعض الأسرار المهمة في هذا الموضوع .
ونودُّ أن نفرق بين نوعين من العلوم والمعارف :
أما أولهما فلا بد من أخذه وإتقانه بالرحلة أو غيرها , وكلما تفادينا الرحلة ضمنا واقعاً أفضل , خلافاً لما يدعيه الذين يتحمسون للابتعاث , وهذا النوع من المعارف هو ما يتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية : كالرياضيات , والكيمياء , والفيزياء , والهندسة , والطب , وما إلى ذلك . إنها علوم تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم , بل إن الإسلام ليجعل تحصيل هذا النوع وإجادته , فرض كفاية على المسلمين , إن لم يقوموا به أثموا(9) ولو نظرنا في واقعنا الحاضر لوجدنا أن من أسباب ضراوة الغزو الفكري وشراسته علينا ما قوبلت به حضارة أوربا في بادئ الأمر من سلبية من قبل أكثر أهل العلم والتوجيه في ديار المسلمين , ذلك لأنه إن لم يكن الاقتباس من هذه الحضارة يتم عن إرادة واختيار وبصيرة فإن هذه الحضارة تزحف علينا وعلى معتقداتنا وأخلاقنا لتزلزلها وتغتالها ... أجل إنها تزحف بقضها وقضيضها , وخيرها وشرها ، وصالحها وفاسدها ومثلنا عندئذ مثل قوم جياع أمامهم مائدة حافلة بصحاف مختلفة من الطعام , بعضها في السم القاتل وبعضها طيب جيد , وبعضها حلو , وبعضها حامض .... وقد زينت أتم زينة , ورتبت أفضل ترتيب .
فإن اختار العارفون الطيب النافع لهؤلاء الجياع المحتاجين , تجنبوا السُّم والأذى واستجابوا شاكرين .
وإلا فإن هؤلاء الجياع لا يستطيعون أن يصبروا على الجوع طويلاً لمجرد التحذير والخطر وسيقبلون على هاتيك المائدة المحظورة ثائرين متمردين , يأكلون طعامها النافع والضار . وإذن العلوم التجريبية والتطبيقية هي النوع الذي لا بد من أخذه .
وأما النوع الثاني من المعارف والعلوم فهو قسمان :
1. قسم يتضمن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها , فليس هناك فائدة ترجى من أخذه عن الغرب , والضرر ظاهر في الابتعاث من أجله , ولا يمكن لأمة تملك الغيرة على ذاتها وكيانها ومثلها العليا , أن ترضى بمثل هذا الوضع الزري .
أليس أمراً مخجلاً أن يذهب رجل من المسلمين إلى اليهود والنصارى , فيتعلم منهم أمور دينه , أو يذهب إلى الأعاجم فيتعلم لغته !!؟؟
وما ثقتنا بعلم رجل تلقى علومه على اليهود والنصارى الموتورين الحاقدين على دين الإسلام وأهله ؟
وما تقديرنا لمن يتخرج في اللغة والأدب على أيدي الأعاجم المستشرقين الذين لا يبينون ولا يتذوقون ؟
إن دراسة هذه العلوم يجب أن تمنع في ديار الكفار , ويجب أن تتم في بلاد المسلمين , وهذا أمر واضح .
2. وقسم يتضمن دراسة الفنون من رقص , ومسرح , وسينما , ونحت , وموسيقى , وما إلى ذلك .
فدراسة مثل هذه الأمور , ومحظور في أي مكان في بلادنا أو في بلاد أعدائنا , ودراستها هناك أشدُّ خطراً .
ويمكن أن يلحق بهذا كل دراسة تنتهي بالدارس إلى الشك والزيغ .
ومما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة , أن معظم الابتعاث , إنما كان في العلوم النظرية والآداب واللغات وما إلى ذلك , ولم يكن هناك عدد كاف من المبتعثين لدراسة العلوم التجريبية .(6/42)
ويذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية )(10) .
والذي كانت تتطلبه بلاد المسلمين هو العكس من ذلك , فتأخر المسلمين إنما نشأ عن أمور من أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية , وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري .
والابتعاث لدراسة العلوم الدينية واللغوية يتصل لدى التأمل بعمل المستشرقين . فما هو هذا العمل ؟
المستشرقون والدراسات الدينية واللغوية :
إن أي دراسة دينية أو لغوية في ديار الغرب , ترتبط ارتباطاً حتمياً بالمستشرقين , وموضوع الاستشراق جدير بأن يبحث بشكل موضوعي وفي بحث مفرد , وأن يدرس ماله وما عليه , ولكنني – هنا- أحب أن أقول : إن الذي لا ينقضي منه عجبي أن يبقى هذا الموضوع الخطير وهو من أكثر الأمور تأثيراً في تفكيرنا وثقافتنا في العصر الحاضر أن يبقى حتى الآن دون دراسة وافية من وجهة النظر الإسلامية , ذلك لأن الدراسات التي ظهرت فيه دون المطلوب بمراحل .
والذي نريد أن نشير إليه هو أن المستشرقين بلغوا من المكر والدس والحقد منزلة بعسر تصورها , والخطورة فيها أنهم غير مكشوفين , وأن تأثيرهم على تلامذتهم بطيء , فلا يكاد يشعر هذا المبعوث بالخطر العظيم الذي يواجهه في أستاذه .
إذن الابتعاث كان له أكثر من دافع , بعضها دعت إليه حاجة بلادنا , وبعضها كان عند أعدائنا الذين أرادوا أن يصوغوا قيادات فكرية لا تعطي الإسلام الأهمية الكبرى في الحياة , ثم وجهوا دراسة المبعوثين الوجهة التي تحقق لهم أهدافهم ولا تنتهي بنا إلى التطور التقني (التكنولوجي) المطلوب .
وكان للابتعاث أكثر من مظهر , وبعضها إيجابي بناء وهو مسايرة الحضارة الإنسانية والاكتساب من علومها , وبعضها سلبي هدام سنتحدث عنه عندما نتحدث عن آثار الابتعاث .
تلك جوانب من بحث (الابتعاث) تقودنا إلى موضوع حال المبتعثين :
واقع المبعوثين :
سأقدم فيما يأتي خلاصة ما توصلت إليه من دراسة واقعية (ميدانية) قمت بها مع عدد من المبتعثين الذين أقاموا في جهات مختلفة من ديار الغرب , وفي أوقات مختلفة , ونريد من وراء هذه الدراسة أن ننصف هؤلاء الشباب الذين هم فلذات أكبادنا ، وهم في معظم الأحيان الصفوة المنتقاة من شباب الإسلام . لقد تبين لي أن شبابنا المبتعثين يواجهون في الواقع مشكلات كثيرة جداً لا يتسع الوقت لعرضها كلها , أما أهم المشكلات التي يواجهونها فهي ما يلي :
1. الصعوبات التي يتعرض لها الطالب قبل سفره من ناحية الاتصال بالجامعات , وغالباً ما يترك أمر الاتصال بالجامعة للطالب ولجهوده الشخصية , ولذا تراه مستعداً للالتحاق بأية جامعة تقبله , وأسوأ الجامعات مستوى هي عادة أسرعها رداً على طلبات الطلاب وقبولهم
ويمكن تلافي هذه الصعوبات بأن تقوم الجهات الرسمية والجمعيات الإسلامية باختيار المكان الأصلح ومساعدة الطالب على القبول ليضمن المستوى الجيد والدراسة المثلى .
2. الصعوبات التي يلقاها المبعوث من ناحية السكنى ... إنه غريب لا يتكلم لغة البلد الذي يقصده بطلاقة ، والغريب _عادة_ لا يستطيع الحركة لعدم معرفته وكثيراً ما تعمد جهات تبشيرية أو استعمارية لتلقي الوافدين , لتفسد دينهم وأخلاقهم وتستخدمهم بالتالي في مآربها وغاياتها . وتعالج هذه الصعوبات بأن يقوم الصالحون الموجودون من قبل في تلك البلاد – ولاسيما اتحادات الطلاب المسلمين – بتهيئة الوضع المناسب للطالب المبتعث .
3. صعوبة اختيار البحث المناسب وصعوبة موافقة المشرف على الموضوع الذي يرى الدارس حاجة أمته ودينه وبلاده له , ومن ذلك ما جاء في كتاب أستاذنا السباعي رحمه الله "السنة" , قال عن دكتور محمد أمين المصري : "وما كاد يطلع على برامج الدراسة , وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها حتى هاله ما رآه من تحامل ودس في كتب المستشرقين وخاصة (شاخت) فقرر أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت . تقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها , فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت , وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك . فلما يئس من جامعة لندن ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فهي برغبته في أن يكون في موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرنا , فلم يبدوا رضاهم عن ذلك , وظن أن من الممكن موافقته أخيراً , ولكنهم قالوا له بصريح العبارة : إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت فإن الجامعة لن تسمح بذلك )(11)
4. عدم الإلمام الجيد باللغة الأجنبية , وقد مر ذكر هذه المشكلة الثانية . وكثيراً ما يتعرض الطالب للأخطار المحققة في خلقه ودينه وفكره من أجل التمكن من اللغة الأجنبية , إذ ينصحه بعضهم باتخاذ صديق أو أكثر من أبناء البلد الأجنبي الذي يقصده , وغالباً ما يفضلُ له – مع الأسف الشديد- أن يكون هذا الصديق من الجنس الآخر !! وهناك تكون الطامة التي قد تفسد على الطالب دراسته نفسها , بل دينه وخلقه وكيانه كله . وقد يزينون له أن يسكن مع أسرة من أهل تلك البلاد , وفي ذلك ما فيه .
وعلاج هذه المشكلة يكون في أن يستعد الطالب قبل سفره استعداداً لغوياً مناسباً وذلك بأن يدخل بعض الدورات التي تقويه في اللغة , وكذلك فإن عليه أن يدخل بعض المعاهد الخاصة في البلد الذي يسافر إليه , ويحسن أن يكون ذلك بالاتفاق والتشاور مع بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية القائمة في بلاد الغرب , والقائمون على هذه الجمعيات لهم تجارب سابقة في هذا المجال , فبإمكان الطالب أن يستفيد من ذلك الاستفادة التي تجنبه كثيراً من المزالق .
5. الوسط السيئ الذي يحل فيه , ذلك أن الصالحين في بلاد المسلمين قليلون , فما بالك هناك من ديار الكفار , وغالباً ما يكون أبناء بلدته الموجودون هناك من نوعية سيئة فكراً وتديناً وخلقاً .
إن بعض الطلاب لا تغريهم بالرحلة إلا سهولة دخولهم في جامعات أوربا ذات المستوى السيئ وصعوبة دخولهم في جامعات بلادهم لاشتراط معدل معين لم يستطيعوا إحرازه . فإذا كان هؤلاء من ذوي السلوك المنحرف ساعدهم هذا الواقع على السقوط الخلقي وسهل لهم أسبابه , ولذلك فأنت ترى عدداً ليس بالقليل من أبناء المسلمين هناك ساقطين منكبين على الملذات والشهوات ولا يكادون يلتفتون إلى دراستهم , إن أمثال هؤلاء الطلاب يضاف إليهم زملاء الطالب من الأجانب يشكلون وسطاً يغريه بالفساد .
وعلاج هذه المشكلة يكون بإعداد الوسط الإسلامي المناسب , واختيار الجامعة الجيدة التي يستطيع أن يجد فيها التجمع الإسلامي المنشود .
6. انقطاع الصلة بين المبعوث وبلده : وهذا يساعد كثيراً على التحول من الولاء لبلده ودينه وأمته إلى ولاء للمجتمع الجديد الذي يضمه , وقد نتج عن هذا الانقطاع تخلي عدد من النابغين عن جنسياتهم والاندماج في المجتمع الجديد لقاء إغراءات مادية كبيرة . إن هؤلاء النابغين يكونون بمنزلة الدم الجديد يزيد في قوة الأعداد ويمد من أجل حضارتهم .
ولو أن الصلة معقودة لما خسرت البلاد طاقات وإمكانيات كثيرة , هذا وقد كنت من سنوات سمعت إحصاء مذهلاً يتحدث عن فرار الطاقات والإمكانات والعقول من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار التي كانوا يدرسون فيها .(6/43)